جاء في «تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته» لابن القيم رحمه الله:
٢١ - باب المشي في الحذاء بين #القبور
عن بشير مولى رسول الله ﷺـ وكان اسمه في الجاهلية: زَحْم بن مَعْبد، فهاجر إلى رسول الله ﷺ فقال: «ما اسمك؟ » فقال: زحم، قال: «بل أنت بشير» ــ قال:
بينما أنا أُماشي رسولَ الله ﷺ مَرَّ بقبورِ المشركين، فقال: «لقد سَبَقَ هؤلاء خيرًا كثيرًا» ــ ثلاثًا ــ ثم مَرَّ بقبور المسلمين، فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا».
وحانت من رسول الله ﷺ نظرةٌ، فإذا رجلٌ يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: «يا صاحِبَ السِّبْتِيَّتَين، وَيحَك! أَلْقِ سِبْتِيَّتَيك»، فنظر الرجل، فلما عرف رسولَ الله ﷺ خلعهما فرمى بهما.
وأخرجه النسائي وابن ماجه.
وبشير هذا هو: ابن الخَصاصيَّة، وهي أمه.
وعن أنس، عن النبي ﷺ قال: «إنَّ العبد إذا وُضِعَ في قبره وتَوَلّى عنه أصحابُه إنَّه لَيَسْمَع قَرْعَ نِعالهم».
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
قال ابن القيم رحمه الله: وقد اختلف الناس في هذين الحديثين، فضعّفت طائفة حديث بشير.
قال البيهقي: رواه جماعة عن الأسود بن شيبان، ولا يُعرَف إلا بهذا الإسناد، وقد ثبت عن أنس عن النبي ﷺ: (فذكر هذا الحديث).
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: حديث بشير إسناده جيد أذهب إليه، إلا من علة.
قال المجوِّزون: يحتمل أن يكون النبي ﷺ رأى بنعليه قذرًا فأمره أن يخلعهما. ويحتمل أن يكون كره له المشي فيهما لِما فيه من الخيلاء، فإن النعال السِّبتية من زِيِّ أهل التنعُّم والرفاهية، كما قال عنترة:
بطَلٍ كأن ثيابه في سَرْحَة … يُحذى نعالَ السِّبْت ليس بتوأم.
وهذا ليس بشيء، ولا ذِكْر في الحديث لشيء من ذلك. ومن تدبر نهي النبي ﷺ عن الجلوس على القبر، والاتكاء إليه، والوطء عليه، علم أن النهي إنما كان احترامًا لسُكّانها أن يُوطأ بالنعال فوق رؤوسهم.
ولهذا يُنهى عن التغوط بين القبور. وأخبر النبي ﷺ أن الجلوس على الجمر حتى تُحرِق الثياب خير من الجلوس على القبر، ومعلوم: أن هذا أخف من المشي بين القبور بالنعال.
وبالجملة، فاحترام الميت في قبره بمنزلة احترامه في داره التي كان يسكنها في الدنيا، فإن القبر قد صار داره.
وقد تقدم قوله ﷺ: «كسرُ عظمِ الميت ككسره حيًّا»، فدل على أن احترامه في قبره كاحترامه في داره.
والقبور هي ديار الموتى ومنازلهم ومحل تزاوُرِهم، وعليها تنزل الرحمة من ربهم والفضل على محسنهم، فهي منازل المرحومين ومَهبِط الرحمة، ويَلقى بعضُهم بعضًا على أفنية قبورهم، يتجالسون ويتزاورون، كما تضافرت به الآثار.
ومن تأمل «كتاب القبور» لابن أبي الدنيا رأى فيه آثارًا كثيرة في ذلك.
فكيف يُستبعَد أن يكون من محاسن الشريعة إكرامُ هذه المنازل عن وطئها بالنعال واحترامها؟
بل هذا من تمام محاسنها، وشاهده ما ذكرناه من وطئها، والجلوس عليها والاتكاء عليها.
وأما تضعيف حديث بشير، فممّا لم نعلم أحدًا طعن فيه، بل قد قال الإمام أحمد: إسناده جيد. وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان عبد الله بن عثمان يقول فيه: حديث جيد ورجل ثقة.
وأما معارضته بقوله ﷺ: «إنه ليَسمع قرعَ نعالهم»، فمعارضةٌ فاسدة، فإن هذا إخبار من النبي ﷺ بالواقع وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا لا يدل على الإذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، إذ الإخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه ولا تحريمه ولا حُكْمه، فكيف يُعارَض النهيُ الصريح به؟
قال الخطابي: ثبت أن رسول الله ﷺ نهى أن توطأ القبور.
وقد روى ابن ماجه في «سننه».
عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: «لَأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسط القبر ــ كذا قال ــقضيتُ حاجتي، أو وسط الطريق».
وعلى هذا، فلا فرق بين النعل والجُمْجُم والمَداس والزَّرْبُول.
وقال القاضي أبو يعلى: ذلك مختص بالنعال لا يتعدّاها إلى غيرها، قال: لأن الحكم تعبُّد غيرُ معلَّل، فلا يتعدّى موردَ النص.
وفيما تقدم كفاية في رد هذا، وبالله التوفيق.
#ابن_القيم
#فقه
#الجنائز
٢١ - باب المشي في الحذاء بين #القبور
عن بشير مولى رسول الله ﷺـ وكان اسمه في الجاهلية: زَحْم بن مَعْبد، فهاجر إلى رسول الله ﷺ فقال: «ما اسمك؟ » فقال: زحم، قال: «بل أنت بشير» ــ قال:
بينما أنا أُماشي رسولَ الله ﷺ مَرَّ بقبورِ المشركين، فقال: «لقد سَبَقَ هؤلاء خيرًا كثيرًا» ــ ثلاثًا ــ ثم مَرَّ بقبور المسلمين، فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا».
وحانت من رسول الله ﷺ نظرةٌ، فإذا رجلٌ يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: «يا صاحِبَ السِّبْتِيَّتَين، وَيحَك! أَلْقِ سِبْتِيَّتَيك»، فنظر الرجل، فلما عرف رسولَ الله ﷺ خلعهما فرمى بهما.
وأخرجه النسائي وابن ماجه.
وبشير هذا هو: ابن الخَصاصيَّة، وهي أمه.
وعن أنس، عن النبي ﷺ قال: «إنَّ العبد إذا وُضِعَ في قبره وتَوَلّى عنه أصحابُه إنَّه لَيَسْمَع قَرْعَ نِعالهم».
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
قال ابن القيم رحمه الله: وقد اختلف الناس في هذين الحديثين، فضعّفت طائفة حديث بشير.
قال البيهقي: رواه جماعة عن الأسود بن شيبان، ولا يُعرَف إلا بهذا الإسناد، وقد ثبت عن أنس عن النبي ﷺ: (فذكر هذا الحديث).
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: حديث بشير إسناده جيد أذهب إليه، إلا من علة.
قال المجوِّزون: يحتمل أن يكون النبي ﷺ رأى بنعليه قذرًا فأمره أن يخلعهما. ويحتمل أن يكون كره له المشي فيهما لِما فيه من الخيلاء، فإن النعال السِّبتية من زِيِّ أهل التنعُّم والرفاهية، كما قال عنترة:
بطَلٍ كأن ثيابه في سَرْحَة … يُحذى نعالَ السِّبْت ليس بتوأم.
وهذا ليس بشيء، ولا ذِكْر في الحديث لشيء من ذلك. ومن تدبر نهي النبي ﷺ عن الجلوس على القبر، والاتكاء إليه، والوطء عليه، علم أن النهي إنما كان احترامًا لسُكّانها أن يُوطأ بالنعال فوق رؤوسهم.
ولهذا يُنهى عن التغوط بين القبور. وأخبر النبي ﷺ أن الجلوس على الجمر حتى تُحرِق الثياب خير من الجلوس على القبر، ومعلوم: أن هذا أخف من المشي بين القبور بالنعال.
وبالجملة، فاحترام الميت في قبره بمنزلة احترامه في داره التي كان يسكنها في الدنيا، فإن القبر قد صار داره.
وقد تقدم قوله ﷺ: «كسرُ عظمِ الميت ككسره حيًّا»، فدل على أن احترامه في قبره كاحترامه في داره.
والقبور هي ديار الموتى ومنازلهم ومحل تزاوُرِهم، وعليها تنزل الرحمة من ربهم والفضل على محسنهم، فهي منازل المرحومين ومَهبِط الرحمة، ويَلقى بعضُهم بعضًا على أفنية قبورهم، يتجالسون ويتزاورون، كما تضافرت به الآثار.
ومن تأمل «كتاب القبور» لابن أبي الدنيا رأى فيه آثارًا كثيرة في ذلك.
فكيف يُستبعَد أن يكون من محاسن الشريعة إكرامُ هذه المنازل عن وطئها بالنعال واحترامها؟
بل هذا من تمام محاسنها، وشاهده ما ذكرناه من وطئها، والجلوس عليها والاتكاء عليها.
وأما تضعيف حديث بشير، فممّا لم نعلم أحدًا طعن فيه، بل قد قال الإمام أحمد: إسناده جيد. وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان عبد الله بن عثمان يقول فيه: حديث جيد ورجل ثقة.
وأما معارضته بقوله ﷺ: «إنه ليَسمع قرعَ نعالهم»، فمعارضةٌ فاسدة، فإن هذا إخبار من النبي ﷺ بالواقع وهو سماع الميت قرع نعال الحي، وهذا لا يدل على الإذن في قرع القبور والمشي بينها بالنعال، إذ الإخبار عن وقوع الشيء لا يدل على جوازه ولا تحريمه ولا حُكْمه، فكيف يُعارَض النهيُ الصريح به؟
قال الخطابي: ثبت أن رسول الله ﷺ نهى أن توطأ القبور.
وقد روى ابن ماجه في «سننه».
عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: «لَأن أمشي على جمرة أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أَوَسط القبر ــ كذا قال ــقضيتُ حاجتي، أو وسط الطريق».
وعلى هذا، فلا فرق بين النعل والجُمْجُم والمَداس والزَّرْبُول.
وقال القاضي أبو يعلى: ذلك مختص بالنعال لا يتعدّاها إلى غيرها، قال: لأن الحكم تعبُّد غيرُ معلَّل، فلا يتعدّى موردَ النص.
وفيما تقدم كفاية في رد هذا، وبالله التوفيق.
#ابن_القيم
#فقه
#الجنائز
[لِمِثْلِ هَذَا اليَوْمِ فَأَعِدُّوا]
روى ابن أبي الدنيا بسنده عن عَبْدُ الواحِدِ بْنُ صَفْوانَ قالَ:
كُنّا مَعَ #الحسن_البصري فِي جِنازَةٍ، فَقالَ:
«رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَمِلَ لِمِثْلِ هَذا اليَوْمِ، إنَّكُمُ اليَوْمَ تَقْدِرُونَ عَلى ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إخْوانُكُمْ هَؤُلاءِ مِن أهْلِ القُبُورِ، فاغْتَنِمُوا الصِّحَّةَ والفَراغَ، قَبْلَ يَوْمِ الفَزْعَةِ والحِسابِ».
#موعظة
#القبر #القبور
روى ابن أبي الدنيا بسنده عن عَبْدُ الواحِدِ بْنُ صَفْوانَ قالَ:
كُنّا مَعَ #الحسن_البصري فِي جِنازَةٍ، فَقالَ:
«رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَمِلَ لِمِثْلِ هَذا اليَوْمِ، إنَّكُمُ اليَوْمَ تَقْدِرُونَ عَلى ما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إخْوانُكُمْ هَؤُلاءِ مِن أهْلِ القُبُورِ، فاغْتَنِمُوا الصِّحَّةَ والفَراغَ، قَبْلَ يَوْمِ الفَزْعَةِ والحِسابِ».
#موعظة
#القبر #القبور