يوسف الدموكي
26.2K subscribers
328 photos
3 videos
17 links
لأن الكلمة مقاومة.
Download Telegram
من بحر الإسكندرية إلى بحر غزة..
فرقتنا الأمواج وجمعنا الطوفان!
لديّ فكرةٌ أجمل بكثير من التريند الهندي، ومرطبات البشرة ومعالجات الحبوب، وصور الطفولة والمراهقة، وقصص الارتباط الشيّقة؛ لديّ فكرةٌ ليست أجمل بالضبط، وإنما أقصد "أهم بكثير"، وهي أن غزة منذ ليلتين تعيش قيامةً جديدة، ومواكب من الأطفال تزفّ إلى الجنة بلا أوصال ولا أطراف، بعض الرؤوس لم يجدوا عليها دليلًا، وبعض الأجساد انسحقت بين الركام، وعشرات آلاف الأطفال صاروا غير مصحوبين بأي أحد من عائلاتهم التي أبيدت بالكامل، ومليونا إنسان يسألون في نفس واحد: "وين نروح؟" وقد لاحقوهم إلى أماكن النزوح، بينما البعض يبحث عن "تريند" يوفر له سلامه النفسيّ!

خسئت تفاهتكم، وبئست ضمائركم؛ إخوةٌ يحاصرون، وأطفالٌ يزلزلون، ونساء يرتعبن، ومقاتلون ينافحون، ونحن لا نكتفي بعدم نصرتهم، وخذلانهم، بل نتظاهر باللامبالاة تجاههم؛ توبوا وعودوا لغزة، فوالله لعلها المهلكة، والله لعلها المنجية!
الجمعة تذكير أبديّ بأنك صغير، وعلمك قليل، وإدراكك ضئيل، وبصرك قصير، وإحاطتك محدودة، وأسبابك مرئية، وأقدارك حتمية، وقضاء الله خير في ظاهره شر، وما يصرفه عنك بالبلاء وددت لو صرفته بالبلاء نفسه دون أن تدري، وأن ليس كل شيء كما يبدو، فرُب طوقٍ مهلك، ورب طوفانٍ فيه عين النجاة.
صحيحٌ أنّ الجميع تمر به لحظات للضحك، أوقات يتبسم فيها ولو من غير قلبه، أهل غزة أنفسهم على مرارة حلوقهم قد يضحكون حد البكاء أحيانًا، لكن، لا أتصور أحدًا منا ممن ليسوا في غزة، يضحك بهذه الكثافة أمام الكاميرا، ويمثّل مشاهد كوميدية عبثية أمام الكاميرا، ويصنع محتوى ساخرًا تجاريًّا أمام الكاميرا، ويمارس هواياته ونزواته في استقطاب ملايين المشاهدات المقهقهة أمام الكاميرا!


أمام الكاميرا نفسها، التي تعرض مشاهد الأطفال بلا أرجل، ومشاهد الرضّع بلا أجسام، ومشاهد الأمهات الذارفات بدلًا من الدموع دمًا، ومشاهد الآباء العاجزين الصارخين من القهر، ومشاهد المقاومين يخاصمون الحياة ويختصمونها منذ أشهر طويلة دون أن يروا الشمس إلا ليصيبوا هدفًا أو يغيظوا عدوًّا، ومشاهد المحرقة الكبرى، ومشاهد المذبحة العظمى، ومشاهد الفاجعة الأبشع!

أمام الكاميرا، كيف يستوي ذلك الوجه مع ذلك الوجه؟ وكيف يستوي خد ذاك مخضبًا وخد هذا متوردًا؟ وكيف يستوي محتوى فارغ برأس فارغ من محتواه؟ أي أموال تساوي ذلك؟ وأي "أكل عيش" يغمّس بالقيح والدم؟ وأي صناعة محتوى هذه التي أورثت الأمةَ جندًا مخصيّين، يخشون من انخفاض عدد المتابعين ولا يبالون بارتفاع عدد نفوس إخوتهم المبادين، ويحملون بدلًا من الكرامة جوالات، وبدلًا من الدروع صفحات، وبدلًا من الأسود في الميدان أرباحًا في إنستجرام وأسودًا على تيك توك؟
غزة تعيش قيامةً جديدة!
بعض الحمقى من المشاهير لا يبالون بعدّاد الشهداء في غزة بقدر ما يبالون بعدّاد المتابعين في صفحاتهم.
ماذا يجري في غزة الليلة؟
محاولة أخيرة للاحتلال، كرقصة الذبيح، بتفويض أمريكي كامل، لطفلها المدلل، الذي يريد شرب مئات الأمتار المكعبة الإضافية من الدماء، ومضغ أكبر قدر من أشلاء الفلسطينيين، بينما تُخرس واشنطن الألسنة، وتمنح مصاص الدماء المفضل لديها وقتًا بدلًا من الضائع، قبل إعلان الهزيمة، التي حُسمت بالفعل منذ شهور.

غزة اليوم تتعرض لحرب كونية، اجتمعت فيها شر أسلحة الإنس على مر تاريخه، وتدكّ دكًّا كأنها براكين وأعاصير وعواصف وزلازل وفيضانات وحرائق اجتمعت في كل ضربة على حدة، ثم تُضرب الضربة في مليار، وتقصف بها غزة في كل دقيقة مليار مرة أخرى!

غزة اليوم تستبسل، تخرج من تحت الركام، تلدُ رؤوسًا كثيرة، من رجوم وقذائف، تصنع من دمائها زيتًا للبارود، ومن لحمها حشوًا للقنابل، وتنفجر في عدوها، في معركتها الأسطورية للكرامة، وهي تدهس المجاز، وتركل اللغة، وتلعن الكلام، وتؤمن فقط بالفعل الشريف، ولو كانت ستقوم القيامة وفي يد أصغر فرسانها فتيلة، فسينزعها، ليكون آخر شهداء الكون، والتاريخ، والحياة.
كلما تأجّل استسلام المستعمر ارتفعت ضرائب غبائه، وكلما زاد صمود المتحرر عظمت مغانم بقائه.
كيف لا تثبُتُ أرضي وهذهِ جِبالِيَا؟!
تقول غزة:

إذا ما أحرقوا أرضي
فلن يهدُّوا جباليا!
سامعٌ صوتَ المعسكَر
‏هاتفًا "الله أكبر"!
‏يركل الغزو البغيَّ
‏"يفقع" الجُندَ المجنزَر!
‏يكتب العز البهيَّ..
‏يهزم الجيش المخنزَر!
الآن حائر؛ من الذي سمّوه على اسم الآخر: الجبال أم جباليا؟
حديثك عن غزة ليس لأنها تحتاج إليك، وإنما لأنك من يحتاج إلى أدنى الشرف سبيلا؛ فتخيل إذ سقط عنك أدنى شرفك هذا؟ صرت "ساقطًا"!
أوتادٌ لا أقدام، وجذورٌ لا سيقان، وحدوات أحصنة لا نعال أحذية، وجريد نخلٍ لا سواعد وأيدٍ، ومجامع شرفٍ لا أسلحة من حديد وبارود، وطريق مجد لا زقاق مخيم، وجند الله لا أفراد كتائب، وأهل الحق لا أطراف صراع، وجبال غزة لا سكان معسكر، وتاريخٌ كاملٌ لا لقطة واحدة!

‏تلك غزة؛ جذع السماء في كبد الأرض!
في وقت العار للمشهورين..
المجد كل المجد للمجهولين!
في غزة.. ليس كل ما يلمع ذهبًا؛ فقد تكون ميركافاه.
جباليا: اسم فاعل من الجبال حين تترجّل.
أي مشهد ذاك؟ ائتوني بأبلغ أهل الأرض ليصفه في كتاب، وبأشعر أهل اللغة لينظمه في ديوان، وبأمهر مخرجي السينما ليصوره في مسلسل، وبأعتق رسامي الدنيا ليرسمه في معرض، تختلف الفنون وتتفق الإجابة الواحدة: "لا شيء"! لن يستطيع أحدٌ في مجاله، مهما بلغت به العلا فيه، أن يملك كلمة أو ريشةً أو صورة في حرم تلك الأسطورة!

‏شابٌّ يحب الحياة والموت معًا، يخاف من الظلام وقد تربكه الأصوات المرتفعة، له جامعة يقصدها ومشروع يحلم به، يخرج فجأةً من عين نفق، وهو يعلم أنه سيكون وحده مكشوفًا في حظيرة دبابات من الأحدث في العالم، تلمح حتى ظل النملة، وحولها جنود متفرغون للسقطة واللقطة، ومراقبةٌ ومراقِبة بأحدث تقنيات الجيوش.

‏ثم مع ذلك كله، يخرج لك من ثقب تحتك، حرفيًّا، إنسانٌ من لحم ودم، لا يستطيع أن يحمل أوزانًا ثقيلة ولا أن يمتص جسمه الرصاص، ومع ذلك لا يخرج وحسب، وإنما يجري، يصل هدفه، يرقد على بعد أمتار من جنديّ مدجج، يزرع عبوةً للدبابة، شواظ من نار ونحاس، بلغمٍ لم يصنع تحت بير السلم حتى؛ وإنما حرفيا تحت سابع أرض، ثم يعود، برفقة صاحبه، داخلين ثلاثة من عين نفق تضيق بنصف أحدهم وحده، ثم يعودون "لقواعدهم" بسلام، بينما نسمع لعنة الحرب تشوي العدو في الخارج!

‏إن لم تلك أعظم لقطة بأشرس موقعة في أشرف معركة.. فما تكون؟
إذا كانت هذه هي عودة المقاومة وسط المعركة ذاتها بعد سبعة أشهر من الحديث عن "تفكيك قدراتها"؛ فكيف ستعود لهم -بعد أن تنتهي الحرب- في الجولة القادمة؟!
بعد ذلكم المشهد..
يبدو لي أن كل شيء ستراه عيني بعده غير صالح للمشاهدة.