فذلكة سعيد فودة في نصرة التجهم
استمعت لبعض مكالمة الشيخ محمد شمس الدين مع شيخ الأشعرية سعيد فودة حول مسألة القرآن، والتي اعترف فيها الأخير بحقيقة عقيدة القوم في القرآن الذي بين أيدينا، وأنه مخلوق كعقيدة الجهمية الأولى.
وهذا ليس مستغرباً فقد صرح بذلك كثيرون ممن تقدم منهم أو تأخر.
غير أن المستغرب فذلكة الرجل في نفيه أن القرآن الذي بين أيدينا كلام الله خلافاً لظاهر النصوص وعقيدة عامة المسلمين، مستدلاً بذلك بأغلوطة سخيفة وهي قوله أن الله عز وجل لا يكلف العباد أن يأتوا بشيء كصفته لأنه من المحالات، وإنما يكلفهم بالممكنات!
يعني إتيان الخلق بكتاب ككلام الله ممكن عنده عقلاً! وهذه بلية عظمى.
ورب العالمين ما كلف الناس أن يأتوا بكتاب كالقرآن على جهة طلب الحصول، وإنما أمر بذلك من كذب بالقرآن ليبين لهم عجزهم، ثم التكليف بالإيمان بهذا الكتاب واتباع ما فيه.
فهم لما كابروا ألزموا بهذا لبيان عجزهم. ولهذا نظائر، ففي السنة من حديث أبي هريرة: قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة.
قال الله عز وجل : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
وهذا لبيان العجز وهو عند سعيد فودة مستبعد! وتكليف بالمحال، مع أن العباد عنده لا قدرة لهم أصالة وإنما الله هو الفاعل حقيقة.
وقال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون}
ومن أركان إعجاز القرآن إخباره بالغيبيات المستقبلية والماضية، مما لا يطلع عليه مخلوق أو لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مطلعاً وعليه، ويكشف لاحقاً، فتكون الآية، وكان السلف يستدلون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق بأنه من علم الله تكلم به سبحانه.
وعلى طريقة سعيد فودة هذا تكليف بالمحال، لأن العلم صفة الله، فكيف يكلف الخلق بأن يأتوا بشيء من صفته. وكذلك الأمر مع المعجزات فهي من آثار قدرة الله عز وجل، وفي مذهب الأشعرية الله هو الفاعل حقيقة.
وهو مع كثرة كلامه في العقليات لا يفرق بين المحال لذاته والمحال لغيره.
وقد صرح بعض متقدمي الأشعرية بأن القرآن الذي بين أيدينا ليس معجزاً.
قال الآمدي في غاية المرام ص107: "وأما ما قيل من أَن القرآن معجزة الرسول فَيمْتَنع أَن يكون قَدِيما فتهويل لَا حَاصِل لَهُ فَإنَّا مجمعون على أَن الْقُرْآن الحقيقى لَيْسَ بمعجزة الرَّسُول".
وقد تناقض الآمدي حين أراد إثبات النبوة.
قال ابن حزم في الفصل معلقاً على هذه الدعوى: "أينتظر كفر بعد هَذَا الْكفْر فِي تصريحه أَن الْعباد وَالْعرب لَا يجوز أَن يعْجزُوا عَن مثل الْقُرْآن".
قال عبد الله بن أحمد في السنة 179 - حَدَّثَنِي ابْنُ شَبُّوَيْهِ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: «مَنْ قَالَ شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَخْلُوقٌ عِلْمُهُ أَوْ كَلَامُهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ وَيُجْعَلُ مَالُهُ كَمَالِ الْمُرْتَدِّ وَيُذْهَبُ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ إِلَى مَذْهِبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ» سَأَلْتُ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْتُ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: " هُمْ جَهْمِيَّةٌ وَهُمْ أَشَرُّ مِمَّنْ يَقِفُ, هَذَا قَوْلُ جَهْمٍ، وَعَظَّمَ الْأَمْرَ عِنْدَهُ فِي هَذَا، وَقَالَ: هَذَا كَلَامُ جَهْمٍ"، وَسَأَلْتُهُ عَمَّنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ».
أقول: وأصل كل بلائهم نفيهم أن يفعل الله ما شاء متى شاء، فنفوا كلامه ثم اضطروا إلى هذا البلاء.
وهو لو فهم أمر القدر المشترك وأن الله يتكلم والعباد يتكلمون ولكن الكلام ليس كالكلام مع وجود قدر مشترك لا يقتضي التشبيه لفهم وجه التحدي فالمعارضة ممكنة ولكنها ستكون فاسدة فهو انطلق لنفي الكلام بكلام مبني على أصله في نفي القدر المشترك فظهر أنه يستدل لمقالته بنفسها وهذا دور وسفسطة .
استمعت لبعض مكالمة الشيخ محمد شمس الدين مع شيخ الأشعرية سعيد فودة حول مسألة القرآن، والتي اعترف فيها الأخير بحقيقة عقيدة القوم في القرآن الذي بين أيدينا، وأنه مخلوق كعقيدة الجهمية الأولى.
وهذا ليس مستغرباً فقد صرح بذلك كثيرون ممن تقدم منهم أو تأخر.
غير أن المستغرب فذلكة الرجل في نفيه أن القرآن الذي بين أيدينا كلام الله خلافاً لظاهر النصوص وعقيدة عامة المسلمين، مستدلاً بذلك بأغلوطة سخيفة وهي قوله أن الله عز وجل لا يكلف العباد أن يأتوا بشيء كصفته لأنه من المحالات، وإنما يكلفهم بالممكنات!
يعني إتيان الخلق بكتاب ككلام الله ممكن عنده عقلاً! وهذه بلية عظمى.
ورب العالمين ما كلف الناس أن يأتوا بكتاب كالقرآن على جهة طلب الحصول، وإنما أمر بذلك من كذب بالقرآن ليبين لهم عجزهم، ثم التكليف بالإيمان بهذا الكتاب واتباع ما فيه.
فهم لما كابروا ألزموا بهذا لبيان عجزهم. ولهذا نظائر، ففي السنة من حديث أبي هريرة: قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة.
قال الله عز وجل : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
وهذا لبيان العجز وهو عند سعيد فودة مستبعد! وتكليف بالمحال، مع أن العباد عنده لا قدرة لهم أصالة وإنما الله هو الفاعل حقيقة.
وقال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون}
ومن أركان إعجاز القرآن إخباره بالغيبيات المستقبلية والماضية، مما لا يطلع عليه مخلوق أو لا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مطلعاً وعليه، ويكشف لاحقاً، فتكون الآية، وكان السلف يستدلون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق بأنه من علم الله تكلم به سبحانه.
وعلى طريقة سعيد فودة هذا تكليف بالمحال، لأن العلم صفة الله، فكيف يكلف الخلق بأن يأتوا بشيء من صفته. وكذلك الأمر مع المعجزات فهي من آثار قدرة الله عز وجل، وفي مذهب الأشعرية الله هو الفاعل حقيقة.
وهو مع كثرة كلامه في العقليات لا يفرق بين المحال لذاته والمحال لغيره.
وقد صرح بعض متقدمي الأشعرية بأن القرآن الذي بين أيدينا ليس معجزاً.
قال الآمدي في غاية المرام ص107: "وأما ما قيل من أَن القرآن معجزة الرسول فَيمْتَنع أَن يكون قَدِيما فتهويل لَا حَاصِل لَهُ فَإنَّا مجمعون على أَن الْقُرْآن الحقيقى لَيْسَ بمعجزة الرَّسُول".
وقد تناقض الآمدي حين أراد إثبات النبوة.
قال ابن حزم في الفصل معلقاً على هذه الدعوى: "أينتظر كفر بعد هَذَا الْكفْر فِي تصريحه أَن الْعباد وَالْعرب لَا يجوز أَن يعْجزُوا عَن مثل الْقُرْآن".
قال عبد الله بن أحمد في السنة 179 - حَدَّثَنِي ابْنُ شَبُّوَيْهِ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: «مَنْ قَالَ شَيْءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَخْلُوقٌ عِلْمُهُ أَوْ كَلَامُهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ وَيُجْعَلُ مَالُهُ كَمَالِ الْمُرْتَدِّ وَيُذْهَبُ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ إِلَى مَذْهِبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ» سَأَلْتُ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْتُ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: " هُمْ جَهْمِيَّةٌ وَهُمْ أَشَرُّ مِمَّنْ يَقِفُ, هَذَا قَوْلُ جَهْمٍ، وَعَظَّمَ الْأَمْرَ عِنْدَهُ فِي هَذَا، وَقَالَ: هَذَا كَلَامُ جَهْمٍ"، وَسَأَلْتُهُ عَمَّنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةُ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ».
أقول: وأصل كل بلائهم نفيهم أن يفعل الله ما شاء متى شاء، فنفوا كلامه ثم اضطروا إلى هذا البلاء.
وهو لو فهم أمر القدر المشترك وأن الله يتكلم والعباد يتكلمون ولكن الكلام ليس كالكلام مع وجود قدر مشترك لا يقتضي التشبيه لفهم وجه التحدي فالمعارضة ممكنة ولكنها ستكون فاسدة فهو انطلق لنفي الكلام بكلام مبني على أصله في نفي القدر المشترك فظهر أنه يستدل لمقالته بنفسها وهذا دور وسفسطة .
التداخل بين البحث العقدي والبحث الفقهي (جولة جديدة مع المذهبية بصورتها المتأخرة)
كنت قد تكلمت آنفا عن الترويج للمذهبية عن طريق فكرة (تكافؤ الأدلة) ودعوى أن المذهبية تعني أنه لا إنكار في مسائل الخلاف.
واليوم سأتكلم عن إشكال أكبر، وهو ادعاء انفصال البحث الفقهي عن البحث العقدي بالكلية، وهذه دعوى فاشية بين المتأخرين، وتعتبر شبه مسلمة بين عامة المعاصرين.
ويبنون عليها دعوى تلقي المذاهب المشهورة المتبوعة بالقبول، بخلاف أمر العقيدة فلا يوجد سوى فرقة ناجية واحدة. وكنت قد نبهت على أن القائلين بتكافؤ الأدلة من المتشرعين يحصرونه في الفقهيات.
ولكن هل عامة مسائل الفقه لا مدخل فيها للعقيدة؟
من تعمق في العقيدة وتعمق في الفقه وجد أن هناك تداخلا، ودعني أضرب لك مثالا بعدة مسائل موجودة في مذهب أهل الرأي (الحنفية) والذين يدور حولهم الجدل، وكان الخلاف عظيما بين متقدميهم ومتقدمي أهل الحديث.
المسألة الأولى: انعقاد اليمين بالحلف بالقرآن.
من أدلة أهل السنة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق الأثر المروي عن ابن مسعود (من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين) استدل به المروذي في رسالته التي رواها الخلال لأحد الواقفة، وقد أقره أحمد على هذا الاستدلال، وتابعه المصنفون في العقيدة على هذا الاستدلال (وهو يبين عدم ثبوت تجويز الحلف بالنبي عن أحمد وقد شرحته في مقال مستقل)
ووجه الدلالة أن اليمين لا ينعقد بمخلوق، وقد ذهب الشافعية والمالكية لهذا أيضا.
غير أن الحنفية وقع بينهم نزاع في المسألة، وعدد منهم علل عدم انعقاد اليمين بالقرآن بتعليلات مبنية على عقيدة القول بخلق القرآن الذي بين أيدينا، وذلك لانتشار مقالة الماتردية فيهم.
جاء في درر الحكام لملا خسرو (2/40): "كذا في الفتح (قوله: فما تعارف الناس الحلف به من صفاته تعالى يكون يمينا) أي سواء كان من صفات الفعل أو الذات وهو قول مشايخ ما وراء النهر وهو الأصح؛ لأن الأيمان مبنية على العرف وكل مؤمن يعتقد تعظيم الله تعالى وتعظيم صفاته.
وقال مشايخ العراق صفات الذات مطلقا يمين كعزة الله لا صفات الفعل كالرضى، والغضب؛ لأن صفات الذات كذكر الذات وصفات الفعل ليس كذكر الذات، والحلف بالله تعالى مشروع دون غيره، كما في البرهان".
قولهم (صفات الفعل) ليست من الذات هو الأصل الذي بنى عليه الجهمية قولهم بخلق القرآن، وكانوا يقولون لأحمد (هل القرآن هو الله هو أو غير الله) ولم يعقلوا إلا شيئا منفصلا عن الله من كل وجه أو مساويا لله من كل وجه، ولم يعقلوا أن يكون صفة لله عز وجل قائما بذاته سبحانه ويكون اختياريا لهذا جعلوا الفعل هو المفعول وقالوا ما ثمة إلا ذات وصفة ذات وأما الأفعال فأنكروها.
يوضح المسألة أكثر وأكثر قول ابن أبي العز شارح الطحاوية في كتابه التنبيه على مشكلات الهداية (4/86): "ينبغي أن يكون الحلف بالقرآن يمينا لأنه قد صار متعارفا في هذا الزمان، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم، ولا يلتفت إلى من علل كونه ليس يمينا بأنه غير الله على طريقة المعتزلة وقولهم بخلقه فإن ذلك لازمه الكفر على ما عرف أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق".
فهنا ينبه على أن الصحيح أن اليمين ينعقد بالقرآن، وأن من أصحابهم من علل بتعليلات المعتزلة (وهذا غير مستبعد فمذهب الماتردية ومذهب المعتزلة في القرآن متقارب)
وقال عبد الوهاب البغدادي المالكي في الإشراف على نكت مسائل الخلاف: "[1746] مسألة: إذا حلف بالمصحف ثم حنث فعليه الكفارة، خلافا لأصحاب أبي حنيفة والشافعي، أما أصحاب أبي حنيفة فبنوه على أصله، في القول على أصلهم، بخلق القرآن من قال ذلك منهم".
وهناك من قرر أن اليمين ينعقد بالقرآن، ولكنه مع ذلك قرر عقيدة الجهمية في القرآن، وأرجع انعقاد اليمين إلى مسايرة العوام.
قال ابن الهمام في فتح القدير: "ثم لا يخفى أن الحلف بالقرآن الآن متعارف فيكون يمينا كما هو قول الأئمة الثلاثة وتعليل عدم كونه يمينا بأنه غيره تعالى؛ لأنه مخلوق لأنه حروف، وغير المخلوق هو الكلام النفسي منع بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ولا يخفى أن المنزل في الحقيقة ليس إلا الحروف المنقضية المنعدمة وما ثبت قدمه استحال عدمه غير أنهم أوجبوا ذلك لأن العوام إذا قيل لهم: إن القرآن مخلوق تعدوا إلى الكلام مطلقا".
وهذا الموجود في متون الحنفية المتأخرين خطير جدا على الناشيء الذي ما درس العقيدة ولا حققها أن يتمذهب بهذا الكلام، فإنه من خلاله تدخل عليه عقائد الجهمية الذين اتفق السلف على ذمهم بأشد الذم.
=
كنت قد تكلمت آنفا عن الترويج للمذهبية عن طريق فكرة (تكافؤ الأدلة) ودعوى أن المذهبية تعني أنه لا إنكار في مسائل الخلاف.
واليوم سأتكلم عن إشكال أكبر، وهو ادعاء انفصال البحث الفقهي عن البحث العقدي بالكلية، وهذه دعوى فاشية بين المتأخرين، وتعتبر شبه مسلمة بين عامة المعاصرين.
ويبنون عليها دعوى تلقي المذاهب المشهورة المتبوعة بالقبول، بخلاف أمر العقيدة فلا يوجد سوى فرقة ناجية واحدة. وكنت قد نبهت على أن القائلين بتكافؤ الأدلة من المتشرعين يحصرونه في الفقهيات.
ولكن هل عامة مسائل الفقه لا مدخل فيها للعقيدة؟
من تعمق في العقيدة وتعمق في الفقه وجد أن هناك تداخلا، ودعني أضرب لك مثالا بعدة مسائل موجودة في مذهب أهل الرأي (الحنفية) والذين يدور حولهم الجدل، وكان الخلاف عظيما بين متقدميهم ومتقدمي أهل الحديث.
المسألة الأولى: انعقاد اليمين بالحلف بالقرآن.
من أدلة أهل السنة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق الأثر المروي عن ابن مسعود (من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين) استدل به المروذي في رسالته التي رواها الخلال لأحد الواقفة، وقد أقره أحمد على هذا الاستدلال، وتابعه المصنفون في العقيدة على هذا الاستدلال (وهو يبين عدم ثبوت تجويز الحلف بالنبي عن أحمد وقد شرحته في مقال مستقل)
ووجه الدلالة أن اليمين لا ينعقد بمخلوق، وقد ذهب الشافعية والمالكية لهذا أيضا.
غير أن الحنفية وقع بينهم نزاع في المسألة، وعدد منهم علل عدم انعقاد اليمين بالقرآن بتعليلات مبنية على عقيدة القول بخلق القرآن الذي بين أيدينا، وذلك لانتشار مقالة الماتردية فيهم.
جاء في درر الحكام لملا خسرو (2/40): "كذا في الفتح (قوله: فما تعارف الناس الحلف به من صفاته تعالى يكون يمينا) أي سواء كان من صفات الفعل أو الذات وهو قول مشايخ ما وراء النهر وهو الأصح؛ لأن الأيمان مبنية على العرف وكل مؤمن يعتقد تعظيم الله تعالى وتعظيم صفاته.
وقال مشايخ العراق صفات الذات مطلقا يمين كعزة الله لا صفات الفعل كالرضى، والغضب؛ لأن صفات الذات كذكر الذات وصفات الفعل ليس كذكر الذات، والحلف بالله تعالى مشروع دون غيره، كما في البرهان".
قولهم (صفات الفعل) ليست من الذات هو الأصل الذي بنى عليه الجهمية قولهم بخلق القرآن، وكانوا يقولون لأحمد (هل القرآن هو الله هو أو غير الله) ولم يعقلوا إلا شيئا منفصلا عن الله من كل وجه أو مساويا لله من كل وجه، ولم يعقلوا أن يكون صفة لله عز وجل قائما بذاته سبحانه ويكون اختياريا لهذا جعلوا الفعل هو المفعول وقالوا ما ثمة إلا ذات وصفة ذات وأما الأفعال فأنكروها.
يوضح المسألة أكثر وأكثر قول ابن أبي العز شارح الطحاوية في كتابه التنبيه على مشكلات الهداية (4/86): "ينبغي أن يكون الحلف بالقرآن يمينا لأنه قد صار متعارفا في هذا الزمان، كما هو مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم، ولا يلتفت إلى من علل كونه ليس يمينا بأنه غير الله على طريقة المعتزلة وقولهم بخلقه فإن ذلك لازمه الكفر على ما عرف أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق".
فهنا ينبه على أن الصحيح أن اليمين ينعقد بالقرآن، وأن من أصحابهم من علل بتعليلات المعتزلة (وهذا غير مستبعد فمذهب الماتردية ومذهب المعتزلة في القرآن متقارب)
وقال عبد الوهاب البغدادي المالكي في الإشراف على نكت مسائل الخلاف: "[1746] مسألة: إذا حلف بالمصحف ثم حنث فعليه الكفارة، خلافا لأصحاب أبي حنيفة والشافعي، أما أصحاب أبي حنيفة فبنوه على أصله، في القول على أصلهم، بخلق القرآن من قال ذلك منهم".
وهناك من قرر أن اليمين ينعقد بالقرآن، ولكنه مع ذلك قرر عقيدة الجهمية في القرآن، وأرجع انعقاد اليمين إلى مسايرة العوام.
قال ابن الهمام في فتح القدير: "ثم لا يخفى أن الحلف بالقرآن الآن متعارف فيكون يمينا كما هو قول الأئمة الثلاثة وتعليل عدم كونه يمينا بأنه غيره تعالى؛ لأنه مخلوق لأنه حروف، وغير المخلوق هو الكلام النفسي منع بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ولا يخفى أن المنزل في الحقيقة ليس إلا الحروف المنقضية المنعدمة وما ثبت قدمه استحال عدمه غير أنهم أوجبوا ذلك لأن العوام إذا قيل لهم: إن القرآن مخلوق تعدوا إلى الكلام مطلقا".
وهذا الموجود في متون الحنفية المتأخرين خطير جدا على الناشيء الذي ما درس العقيدة ولا حققها أن يتمذهب بهذا الكلام، فإنه من خلاله تدخل عليه عقائد الجهمية الذين اتفق السلف على ذمهم بأشد الذم.
=
=
المسألة الثانية: حكم من يقول (أنا مؤمن إن شاء الله)
أهل السنة القائلون بأن الإيمان قول وعمل يستثنون في الإيمان ويقولون (أنا مؤمن إن شاء الله) لأن الإيمان عندهم حقيقة مركبة والاستثناء على العمل، فالشك في بعضه لا يقتضي الشك في كله.
وأما المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان، ويرون الإيمان شيئاً واحداً، فهم يرفضون الاستثناء، ويسمون المستثني شاكاً؛ ولهذا كتب العقيدة القديمة تعنى بهذه المسألة أثناء الرد على المرجئة.
ولما كان عامة الحنفية مرجئة فإنهم في عامة كتبهم الفقهية يتكلمون عن الخلاف في تكفير من يقول (أنا مؤمن إن شاء الله) (يعني تكفير عامة أهل السنة ومعهم الأشعرية)
جاء في المحيط البرهاني في الفقه النعماني: " وعن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله إنه يكفر في الحال، فعلى هذا القياس لا يجوز المناكحة بيننا وبينهم أصلاً".
وقد رد أحناف كثير على هذا الغلو، غير أن المشكلة أنهم في دفاعهم يعللون بأن المستثني في الإيمان يستثني على الموافاة (يعني بمعنى أنه لا يدرى بماذا يختم له) وهذا مأخذ الأشاعرة الذين شركوا الماتردية بالإرجاء وخالفوهم في الاستنثاء، وأما أهل السنة فلهم مأخذ آخر.
وفي البحر الرائق لابن نجيم الحنفي (وهو كتاب متأخر): "فحاصله أن صاحب الهداية جوز الاقتداء بالشافعي بشرط أن لا يعلم المقتدي منه ما يمنع صحة صلاته في رأي المقتدي كالفصد ونحوه، وعدد مواضع عدم صحة الاقتداء به في العناية وغاية البيان بقوله كما إذا لم يتوضأ من الفصد والخارج من غير السبيلين وكما إذا كان شاكا في إيمانه بقوله أنا مؤمن إن شاء الله أو متوضئا من القلتين".
ولهم في ذلك فروع كثيرة مبنية على اعتقاد أن من يقول (أنا مؤمن إن شاء الله) إما يكون كافراً أو مبتدعاً (وهذا الأخير هو قول أكثر المتأخرين لا يكفرون وإنما يبدعون فقط)
وخطير جدا أن يكون قول أهل السنة محل بحث هل يكفر أهله أم يبدعون، ويظهر على أنه خلافي بين كبار الفقهاء.
فإذا أضفت لهذا قول السرخسي المعروف في حديث أبي هريرة إذا خالف القياس (وله أصل في كلام متقدميهم وقد رد عليهم الإمام الشافعي كثيراً وبين تناقضهم) مع ردود أالعلائي عليهم في منيف الرتبة ورد نظراء له أيضا .
وما يذكر في كتب الردة -من كتب الفقه الحنفي المتأخرة- من التوسع بالتكفير، وما ذكره في المقال الآنف في أمر النبيذ، وموقف المذاهب الأخرى من المرجئة، وكلام الناس في الحيل. هنا تعرف بعض أسباب كلام المتقدمين في مذهب أهل الرأي.
وكثيرون ممن يتكلمون عن المذهبية يتكلمون كلاماً حالماً ليس ناشئاً عن دراسة مدققة، فتجد تسطيحاً شديداً في أمر الخلاف، وحتى مع فرض عدم وجود هذا كله فالميل لمذهب الحديث فيه شحيح مع وجود مذاهب أكثر عناية بالحديث والدليل صفقة غبن، ومن يسلي نفسه بأن المذاهب كلها لها مميزات وسيئات فذلك فرع عن تكافؤ الأدلة، وأمر لا يستقيم. فحقاً البعض أقرب للحق من بعض، وأما من يسلي نفسه بأن المرء يأخذ بكلامهم ثم بعد ذلك يدرس الأدلة ولا يتعصب فلماذا يطيل الطريق على نفسه ويعرض نفسه للخطر في بدايات الطلب؟
المسألة الثانية: حكم من يقول (أنا مؤمن إن شاء الله)
أهل السنة القائلون بأن الإيمان قول وعمل يستثنون في الإيمان ويقولون (أنا مؤمن إن شاء الله) لأن الإيمان عندهم حقيقة مركبة والاستثناء على العمل، فالشك في بعضه لا يقتضي الشك في كله.
وأما المرجئة الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان، ويرون الإيمان شيئاً واحداً، فهم يرفضون الاستثناء، ويسمون المستثني شاكاً؛ ولهذا كتب العقيدة القديمة تعنى بهذه المسألة أثناء الرد على المرجئة.
ولما كان عامة الحنفية مرجئة فإنهم في عامة كتبهم الفقهية يتكلمون عن الخلاف في تكفير من يقول (أنا مؤمن إن شاء الله) (يعني تكفير عامة أهل السنة ومعهم الأشعرية)
جاء في المحيط البرهاني في الفقه النعماني: " وعن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله إنه يكفر في الحال، فعلى هذا القياس لا يجوز المناكحة بيننا وبينهم أصلاً".
وقد رد أحناف كثير على هذا الغلو، غير أن المشكلة أنهم في دفاعهم يعللون بأن المستثني في الإيمان يستثني على الموافاة (يعني بمعنى أنه لا يدرى بماذا يختم له) وهذا مأخذ الأشاعرة الذين شركوا الماتردية بالإرجاء وخالفوهم في الاستنثاء، وأما أهل السنة فلهم مأخذ آخر.
وفي البحر الرائق لابن نجيم الحنفي (وهو كتاب متأخر): "فحاصله أن صاحب الهداية جوز الاقتداء بالشافعي بشرط أن لا يعلم المقتدي منه ما يمنع صحة صلاته في رأي المقتدي كالفصد ونحوه، وعدد مواضع عدم صحة الاقتداء به في العناية وغاية البيان بقوله كما إذا لم يتوضأ من الفصد والخارج من غير السبيلين وكما إذا كان شاكا في إيمانه بقوله أنا مؤمن إن شاء الله أو متوضئا من القلتين".
ولهم في ذلك فروع كثيرة مبنية على اعتقاد أن من يقول (أنا مؤمن إن شاء الله) إما يكون كافراً أو مبتدعاً (وهذا الأخير هو قول أكثر المتأخرين لا يكفرون وإنما يبدعون فقط)
وخطير جدا أن يكون قول أهل السنة محل بحث هل يكفر أهله أم يبدعون، ويظهر على أنه خلافي بين كبار الفقهاء.
فإذا أضفت لهذا قول السرخسي المعروف في حديث أبي هريرة إذا خالف القياس (وله أصل في كلام متقدميهم وقد رد عليهم الإمام الشافعي كثيراً وبين تناقضهم) مع ردود أالعلائي عليهم في منيف الرتبة ورد نظراء له أيضا .
وما يذكر في كتب الردة -من كتب الفقه الحنفي المتأخرة- من التوسع بالتكفير، وما ذكره في المقال الآنف في أمر النبيذ، وموقف المذاهب الأخرى من المرجئة، وكلام الناس في الحيل. هنا تعرف بعض أسباب كلام المتقدمين في مذهب أهل الرأي.
وكثيرون ممن يتكلمون عن المذهبية يتكلمون كلاماً حالماً ليس ناشئاً عن دراسة مدققة، فتجد تسطيحاً شديداً في أمر الخلاف، وحتى مع فرض عدم وجود هذا كله فالميل لمذهب الحديث فيه شحيح مع وجود مذاهب أكثر عناية بالحديث والدليل صفقة غبن، ومن يسلي نفسه بأن المذاهب كلها لها مميزات وسيئات فذلك فرع عن تكافؤ الأدلة، وأمر لا يستقيم. فحقاً البعض أقرب للحق من بعض، وأما من يسلي نفسه بأن المرء يأخذ بكلامهم ثم بعد ذلك يدرس الأدلة ولا يتعصب فلماذا يطيل الطريق على نفسه ويعرض نفسه للخطر في بدايات الطلب؟
ولاية كاليفورنيا الأمريكية (ولاية ديمقراطية) قررت تقديم مكافئات شهرية لأفراد العصابات الإجرامية حتى لا يطلقوا النار على الناس، المكافئة قدرها 300$ (1125ريال) مخصصة لعصابات مدينة "سان فرانسيسكو" وذلك بعد فشلهم في احتوائهم، فقرروا تكريمهم بالأموال لتقليل العنف.
-
سيبدأ صرف المال يوم 1 أكتوبر القادم.
لا شك أن هناك معارضات كبيرة لهذا القانون، لكن الذي ينبغي أن نفهمه من هذا أمران
الأول: فشل نظام العقوبات العالماني الليبرالي.
الثاني: فشل المنظومة الرأسمالية في توفير العمل الشريف، والتعليم الذي يضبط الأخلاق.
وإذا كان هذا الحال في معقل الرأسمالية في العالم فلماذا يراد لنا استيراد الأمر، ويقاس تقدمنا وتأخرنا على القوم، وترمى الشبهات على الشريعة بمجرد مخالفة طريقتهم!
-
سيبدأ صرف المال يوم 1 أكتوبر القادم.
لا شك أن هناك معارضات كبيرة لهذا القانون، لكن الذي ينبغي أن نفهمه من هذا أمران
الأول: فشل نظام العقوبات العالماني الليبرالي.
الثاني: فشل المنظومة الرأسمالية في توفير العمل الشريف، والتعليم الذي يضبط الأخلاق.
وإذا كان هذا الحال في معقل الرأسمالية في العالم فلماذا يراد لنا استيراد الأمر، ويقاس تقدمنا وتأخرنا على القوم، وترمى الشبهات على الشريعة بمجرد مخالفة طريقتهم!
أما إن الفتنة قد تضاعفت اليوم!
محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، أبو الحسين (المتوفى: 614هـ) رحالة أندلسي، رحل إلى المشرق، ودوّن رحلة لطيفة، وكانت له عاطفة دينية جياشة مع قلة علم.
كان مما ورد في رحلته قوله: "ورحلنا من تبنين، دمرها الله، سحر يوم الاثنين، وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة، سكانها كلها مسلمون، وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة، وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ولا يعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها ايضا. ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم. وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل، رساتيقهم كلها للمسلمين، وهي القرى والضياع، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم، لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين: أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج، ويأنس بعدله، فإلى الله المشتكى من هذه الحال، وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز: «إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء»".
أقول: رأى ابن جبير أن وجود المسلم تحت حكم الكافر الإفرنجي ومدحه لعدله باب فتنة، وأهل زماننا ينبغي أن يكونوا أكثر الناس استشعاراً لهذا المعنى.
فالأمر تجاوز أن تأنس بعدله إلى أن تعرف العدل بحسب مقاييسه ومعاييره، وتغير عقائدك وأخلاقك بحسب ذوقه، وتضعف أمام استنكاره لأي عادة من عاداتك، ولا تجرؤ على استنكار شيء من أحواله، هذا حال الكثير والله المستعان.
ومن الأمور الحسنة التي ذكرها ابن جبير في رحلته قوله: "وأهل اليسار والثراء إنما ينفقون أموالهم في هذه السبيل. وقد كان نور الدين، رحمه الله، نذر في مرضة أصابته تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة، فلما استبل من مرضه أرسل في فدائهم، فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة، وكانوا من حماة من جملة عمالته، فأمر بصرفهم وأخرج عوض عنهم من المغاربة، وقال: هؤلاء يفتكّهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم. فانظر إلى لطيف صنع الله تعالى لهذا الصنف المغربي.
وقيض الله لهم بدمشق رجلين من مياسر التجار وكبرائهم وأغنيائهم المنغمسين في الثراء: أحدهما يعرف بنصر بن قوام، والثاني بأبي الدّر ياقوت مولى العطافي، وتجارتهما كلها بهذا الساحل الإفرنجي، ولا ذكر فيه لسواهما، ولهما الأمناء من المقارضين، فالقوافل صادرة وواردة ببضائعهما، وشأنهما في الغنى كبير، وقدرهما عند أمراء المسلمين والإفرنجيين خطير، وقد نصبهما الله عز وجل لافتكاك الأسرى المغربيين بأموالهما وأموال ذوي الوصايا، لأنهما المقصودان بها لما قد اشتهر من أمانتهما وثقتهما وبذلهما أموالهما في هذه السبيل، فلا يكاد مغربي يخلص من الأسر إلا على أيديهما، فهما طول الدهر بهذه السبيل ينفقان أموالهما ويبذلان اجتهادهما في تخليص عباد الله المسلمين من أيدي أعداء الله الكافرين، والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين".
وأقول جمعاً بين الفائدتين: أما إن كثيراً ممن يعيش في ديار الغرب صار في حكم الأسير هناك، فهو مقيد مكبل بمنظومة قانونية تستهدف ثوابته وذريته.
وأهل اليسار من أهل الإسلام إن سعوا بمشاريع تهدف لتحسين أحوال الشباب وصدهم عن التفكير بالذهاب إلى بلاد الكفر لتحصيل الرزق فذلك اليوم أنجع وأنفع من كثير من أبواب البر، ولو سعى أهل اليسار لإحياء منظومة المضاربة وتوفير القروض الحسنة لئلا يذهب الناس إلى البنوك الربوية فذلك سيكون نفعه عظيماً جداً على أهل الإسلام.
محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي، أبو الحسين (المتوفى: 614هـ) رحالة أندلسي، رحل إلى المشرق، ودوّن رحلة لطيفة، وكانت له عاطفة دينية جياشة مع قلة علم.
كان مما ورد في رحلته قوله: "ورحلنا من تبنين، دمرها الله، سحر يوم الاثنين، وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منتظمة، سكانها كلها مسلمون، وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة، وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط ولا يعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها ايضا. ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم. وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل، رساتيقهم كلها للمسلمين، وهي القرى والضياع، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم، لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين: أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج، ويأنس بعدله، فإلى الله المشتكى من هذه الحال، وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز: «إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء»".
أقول: رأى ابن جبير أن وجود المسلم تحت حكم الكافر الإفرنجي ومدحه لعدله باب فتنة، وأهل زماننا ينبغي أن يكونوا أكثر الناس استشعاراً لهذا المعنى.
فالأمر تجاوز أن تأنس بعدله إلى أن تعرف العدل بحسب مقاييسه ومعاييره، وتغير عقائدك وأخلاقك بحسب ذوقه، وتضعف أمام استنكاره لأي عادة من عاداتك، ولا تجرؤ على استنكار شيء من أحواله، هذا حال الكثير والله المستعان.
ومن الأمور الحسنة التي ذكرها ابن جبير في رحلته قوله: "وأهل اليسار والثراء إنما ينفقون أموالهم في هذه السبيل. وقد كان نور الدين، رحمه الله، نذر في مرضة أصابته تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة، فلما استبل من مرضه أرسل في فدائهم، فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة، وكانوا من حماة من جملة عمالته، فأمر بصرفهم وأخرج عوض عنهم من المغاربة، وقال: هؤلاء يفتكّهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم. فانظر إلى لطيف صنع الله تعالى لهذا الصنف المغربي.
وقيض الله لهم بدمشق رجلين من مياسر التجار وكبرائهم وأغنيائهم المنغمسين في الثراء: أحدهما يعرف بنصر بن قوام، والثاني بأبي الدّر ياقوت مولى العطافي، وتجارتهما كلها بهذا الساحل الإفرنجي، ولا ذكر فيه لسواهما، ولهما الأمناء من المقارضين، فالقوافل صادرة وواردة ببضائعهما، وشأنهما في الغنى كبير، وقدرهما عند أمراء المسلمين والإفرنجيين خطير، وقد نصبهما الله عز وجل لافتكاك الأسرى المغربيين بأموالهما وأموال ذوي الوصايا، لأنهما المقصودان بها لما قد اشتهر من أمانتهما وثقتهما وبذلهما أموالهما في هذه السبيل، فلا يكاد مغربي يخلص من الأسر إلا على أيديهما، فهما طول الدهر بهذه السبيل ينفقان أموالهما ويبذلان اجتهادهما في تخليص عباد الله المسلمين من أيدي أعداء الله الكافرين، والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين".
وأقول جمعاً بين الفائدتين: أما إن كثيراً ممن يعيش في ديار الغرب صار في حكم الأسير هناك، فهو مقيد مكبل بمنظومة قانونية تستهدف ثوابته وذريته.
وأهل اليسار من أهل الإسلام إن سعوا بمشاريع تهدف لتحسين أحوال الشباب وصدهم عن التفكير بالذهاب إلى بلاد الكفر لتحصيل الرزق فذلك اليوم أنجع وأنفع من كثير من أبواب البر، ولو سعى أهل اليسار لإحياء منظومة المضاربة وتوفير القروض الحسنة لئلا يذهب الناس إلى البنوك الربوية فذلك سيكون نفعه عظيماً جداً على أهل الإسلام.
ما أنعزل حتى يتحقق علي الفسق
قال ابن كثير في طبقات الشافعيين: "محمد بن محمد بن المظفر بن بكران بن عبد الصمد قاضي القضاة أبو بكر الشامي الحموي، ولد بها سنة أربع مائة، ورحل إلى بغداد شابا سنة نيف وعشرين وأربع مائة، فسمع بها الحديث من عثمان بن ذؤيب العلاف والجوهري، وروى عنه إسماعيل ابن السمرقندي، وعبد الوهاب بن الأنماطي ببغداد، والحسين بن نصر بن خميس بالموصل، وغيرهم وأبي القاسم بن بشران، وأبي طالب بن غيلان، وأبي محمد الخلال، وأبي الحسن العتيقي وجماعة، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وبرع في المذهب حتى صار علامة فيه، وذكر غير واحد أنه كان يحفظ تعليقة القاضي أبي الطيب حتى كأنها بين عينيه، قال السمعاني: هو أحد المتقنين لمذهب الشافعي، وله اطلاع على أسرار الفقه، وكان ورعًا زاهدًا متقنًا
جرت أحكامه على السداد، وذكر غير واحد أنه لما شغر منصب القضاء ببغداد بموت أبي عبد الله الدامغاني الحنفي رحمه الله سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، طلب من صاحبنا هذا أن يتولى المنصب فامتنع، فألحوا عليه، فاشترط عليهم ألا يأخذ عليه معلومًا، وألا يقبل من أحد شفاعة، وألا يغير ملبسه، فأجابوه إلى ذلك، وكان يقول: ما دخلت في القضاء إلا وقد وجب علي، فباشر الحكم مباشرة جيدة عفيفة بصيانة وديانة ووفاء، وكان ينكر عليه تعبيسه في مجلس الحكم، وبعضهم يعد ذلك من محاسنه بحيث قيل: إنه لم يبتسم قط في المجلس، وقال السمعاني: سمعت الفقيه أحمد بن عبد الله بن الأبنوسي، يقول: جاء أمير إلى قاضي القضاة الشامي فادعى شيئًا، وقال: بينتي فلان والمشطب الفرغاني الفقيه، فقال: لا أقبل شهادة المشطب لأنه يلبس الحرير، فقال: السلطان ملكشاه ووزير نظام الملك يلبسانه، فقال: وإن شهدا عندي ما قبلت شهادتهما أيضًا، وذكر السمعاني أن أمير المؤمنين المقتدي بالله تغير عليه ومنع الشهود من حضور مجلسه مدة، فكان يقول: ما أنعزل ما لم يتحققوا على الفسق، ثم إن الخليفة خلع عليه واستقام أمره، وذكر ابن النجار أنه كان يسوي بين الشريف والوضيع في الحكم، ويقيم جاه الشرع، فكان هذا سبب انقلاب الأكابر عنه، فألصقوا به ما كان مدبرا من أحاديث ملفقة، ومعايب مزورة قال: وصنف كتاب البيان عن أصول الدين، وكان على طريقة السلف ورعًا نزهًا، وقال أبو علي بن سكرة: وكان ورعًا زاهدًا وإمامًا في العلم، فكان يقال: لو رفع مذهب الشافعي لأمكنه أن يمليه من صدره".
أقول تأمل حال هذا القاضي العادل وصلابته في الحق، وتلك الكلمة الشديدة حين قال في الخليفة ووزيره لو شهدا عندي ما قبلت شهادتهما.
وفي ذلك الوقت الخليفة قائم بأعمال كبيرة ووزيره هذا نظام الملك مشهور ببناء المدارس والرباطات والعناية بالعلماء، ومع ذلك قال فيهم ما قال، واليوم يجتهد بعض المنتسبين في الفقه لإثبات عدالة متتبعي الرخص والمتشبهين بالكفار ولا ينال منهم شيئاً سوى بعض التعليقات الإيجابية واللايكات أو الرتويت، هذا بدلاً من النصح والبيان.
ثم تأمل قوله (ما أنعزل حَتَّى يتَحَقَّق علي الْفسق)
وفيه سر لطيف علق السبكي عليه بقوله: " قلت لعله كان يرى ذلك والمذهب أنه ينعزل وإن لم يفسق"
وأصل المسألة من الفروع الفقهية العجيبة التي يجهلها كثيرون.
وهو: إذا عزل الإمام (الحاكم) القاضي المصلح هل ينعزل أم لا؟
قال المرداوي في الإنصاف (11/171): "وَأَمَّا إذَا عَزَلَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ الْقَاضِيَ الْمُوَلَّى مَعَ صَلَاحِيَتِهِ فَهَلْ يَنْعَزِلُ، وَتَبْطُلُ وِلَايَتُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الشَّرْحِ، وَشَرْحِ ابْنِ مُنَجَّا.
أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ. وَلَا يَنْعَزِلُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. جَزَمَ بِهِ الْأَدَمِيُّ فِي مُنْتَخَبِهِ. وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَالْفُرُوعِ، وَالْمُحَرَّرِ. وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -_ يعني ابن تيمية _.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ وَيَنْعَزِلُ. صَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ، وَالنَّظْمِ. وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْمُصَنِّفِ، وَالشَّارِحِ، وَابْنِ مُنَجَّا فِي شَرْحِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمُنَوِّرِ. وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُغْنِي: كَالْوَلِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَعَقْدِ وَصِيٍّ وَنَاظِرٍ عَقْدًا جَائِزًا، كَوَكَالَةٍ وَشَرِكَةٍ، وَمُضَارَبَةٍ. انْتَهَى. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ: أَنَّ الْقُضَاةَ هَلْ هُمْ نُوَّابُ الْإِمَامِ، أَوَالْمُسْلِمِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، وَغَيْرِهِ".
=
قال ابن كثير في طبقات الشافعيين: "محمد بن محمد بن المظفر بن بكران بن عبد الصمد قاضي القضاة أبو بكر الشامي الحموي، ولد بها سنة أربع مائة، ورحل إلى بغداد شابا سنة نيف وعشرين وأربع مائة، فسمع بها الحديث من عثمان بن ذؤيب العلاف والجوهري، وروى عنه إسماعيل ابن السمرقندي، وعبد الوهاب بن الأنماطي ببغداد، والحسين بن نصر بن خميس بالموصل، وغيرهم وأبي القاسم بن بشران، وأبي طالب بن غيلان، وأبي محمد الخلال، وأبي الحسن العتيقي وجماعة، وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، وبرع في المذهب حتى صار علامة فيه، وذكر غير واحد أنه كان يحفظ تعليقة القاضي أبي الطيب حتى كأنها بين عينيه، قال السمعاني: هو أحد المتقنين لمذهب الشافعي، وله اطلاع على أسرار الفقه، وكان ورعًا زاهدًا متقنًا
جرت أحكامه على السداد، وذكر غير واحد أنه لما شغر منصب القضاء ببغداد بموت أبي عبد الله الدامغاني الحنفي رحمه الله سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، طلب من صاحبنا هذا أن يتولى المنصب فامتنع، فألحوا عليه، فاشترط عليهم ألا يأخذ عليه معلومًا، وألا يقبل من أحد شفاعة، وألا يغير ملبسه، فأجابوه إلى ذلك، وكان يقول: ما دخلت في القضاء إلا وقد وجب علي، فباشر الحكم مباشرة جيدة عفيفة بصيانة وديانة ووفاء، وكان ينكر عليه تعبيسه في مجلس الحكم، وبعضهم يعد ذلك من محاسنه بحيث قيل: إنه لم يبتسم قط في المجلس، وقال السمعاني: سمعت الفقيه أحمد بن عبد الله بن الأبنوسي، يقول: جاء أمير إلى قاضي القضاة الشامي فادعى شيئًا، وقال: بينتي فلان والمشطب الفرغاني الفقيه، فقال: لا أقبل شهادة المشطب لأنه يلبس الحرير، فقال: السلطان ملكشاه ووزير نظام الملك يلبسانه، فقال: وإن شهدا عندي ما قبلت شهادتهما أيضًا، وذكر السمعاني أن أمير المؤمنين المقتدي بالله تغير عليه ومنع الشهود من حضور مجلسه مدة، فكان يقول: ما أنعزل ما لم يتحققوا على الفسق، ثم إن الخليفة خلع عليه واستقام أمره، وذكر ابن النجار أنه كان يسوي بين الشريف والوضيع في الحكم، ويقيم جاه الشرع، فكان هذا سبب انقلاب الأكابر عنه، فألصقوا به ما كان مدبرا من أحاديث ملفقة، ومعايب مزورة قال: وصنف كتاب البيان عن أصول الدين، وكان على طريقة السلف ورعًا نزهًا، وقال أبو علي بن سكرة: وكان ورعًا زاهدًا وإمامًا في العلم، فكان يقال: لو رفع مذهب الشافعي لأمكنه أن يمليه من صدره".
أقول تأمل حال هذا القاضي العادل وصلابته في الحق، وتلك الكلمة الشديدة حين قال في الخليفة ووزيره لو شهدا عندي ما قبلت شهادتهما.
وفي ذلك الوقت الخليفة قائم بأعمال كبيرة ووزيره هذا نظام الملك مشهور ببناء المدارس والرباطات والعناية بالعلماء، ومع ذلك قال فيهم ما قال، واليوم يجتهد بعض المنتسبين في الفقه لإثبات عدالة متتبعي الرخص والمتشبهين بالكفار ولا ينال منهم شيئاً سوى بعض التعليقات الإيجابية واللايكات أو الرتويت، هذا بدلاً من النصح والبيان.
ثم تأمل قوله (ما أنعزل حَتَّى يتَحَقَّق علي الْفسق)
وفيه سر لطيف علق السبكي عليه بقوله: " قلت لعله كان يرى ذلك والمذهب أنه ينعزل وإن لم يفسق"
وأصل المسألة من الفروع الفقهية العجيبة التي يجهلها كثيرون.
وهو: إذا عزل الإمام (الحاكم) القاضي المصلح هل ينعزل أم لا؟
قال المرداوي في الإنصاف (11/171): "وَأَمَّا إذَا عَزَلَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ الْقَاضِيَ الْمُوَلَّى مَعَ صَلَاحِيَتِهِ فَهَلْ يَنْعَزِلُ، وَتَبْطُلُ وِلَايَتُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَأَطْلَقَهُمَا فِي الشَّرْحِ، وَشَرْحِ ابْنِ مُنَجَّا.
أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ. وَلَا يَنْعَزِلُ. وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ. جَزَمَ بِهِ الْأَدَمِيُّ فِي مُنْتَخَبِهِ. وَقَدَّمَهُ فِي الرِّعَايَتَيْنِ، وَالْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَالْفُرُوعِ، وَالْمُحَرَّرِ. وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -_ يعني ابن تيمية _.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَبْطُلُ وِلَايَتُهُ وَيَنْعَزِلُ. صَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ، وَالنَّظْمِ. وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْمُصَنِّفِ، وَالشَّارِحِ، وَابْنِ مُنَجَّا فِي شَرْحِهِ. وَهُوَ ظَاهِرُ مَا جَزَمَ بِهِ فِي الْمُنَوِّرِ. وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ. قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُغْنِي: كَالْوَلِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كَعَقْدِ وَصِيٍّ وَنَاظِرٍ عَقْدًا جَائِزًا، كَوَكَالَةٍ وَشَرِكَةٍ، وَمُضَارَبَةٍ. انْتَهَى. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ: أَنَّ الْقُضَاةَ هَلْ هُمْ نُوَّابُ الْإِمَامِ، أَوَالْمُسْلِمِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، وَغَيْرِهِ".
=
..
=
وقول السبكي أن المذهب خلاف فعل هذا القاضي يدل على أنه مال إلى مذهب الحنابلة في المسألة وهو على شافعيته الشديدة كان صاحب اجتهاد، على أن كثيراً من المصنفين في الفقه ذكروا أن مذهب الشافعي مثل مذهب أحمد، وهذا أيضاً يستفاد منه أن ليس كل ما يدعيه المتأخرون مذهباً يسلم لهم.
وانظر هذا الفرع العجيب وقارنه بمذهب أهل الرأي في أن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً وباطناً، حتى لو أن رجلاً شهد شهادة زور أن زيداً طلق امرأته فحكم القاضي بشهادته فهذا الشاهد له الزواج بهذه المرأة مع علمه أن الأمر زور!
وقد عني أهل الحديث بالرد على هذا الكلام السوء، منهم ابن أبي شيبة في المصنف في كتاب الرد على أبي حنيفة وكذلك البخاري في كتاب النكاح حيث قال: 6968 - حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر» فقيل: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: «إذا سكتت».
وقال بعض الناس: إن لم تستأذن البكر ولم تزوج فاحتال رجل فأقام شاهدى زور أنه تزوجها برضاها، فأثبت القاضى نكاحها والزوج يعلم أن الشهادة باطلة فلا بأس أن يطأها، وهو تزويج صحيح. (وأبان عامة الشراح من يقصد البخاري بقوله بعض الناس)
وقد قال الشيخ ابن باز في تعليقاته على صحيح البخاري كما في كتاب الحلل الإبريزية: "هذا من أشنع المقالات، والأصل في هذا ما وقع في مذهب الأحناف لأنهم ليسوا بأهل عناية بالحديث وغلب عليهم الجهل في السنة والأصول، فوقع في مذهبهم من المخالفة والخطأ الشيء الكثير".
وقد أشرت إلى هذا لبيان بركة التمسك بالحديث والأثر على أحوال المسلمين عامة، فلما ذكرني حال هذا القاضي بفرع جليل في مذهب أحمد ذكرت ضداً في مذهب أهل الرأي، على أن الصاحبين في مذهب أهل الرأي خالفا إمام المذهب، ومال لقولهما كثير من مال من القوم وتمسك عديدون بذلك الغلط.
=
وقول السبكي أن المذهب خلاف فعل هذا القاضي يدل على أنه مال إلى مذهب الحنابلة في المسألة وهو على شافعيته الشديدة كان صاحب اجتهاد، على أن كثيراً من المصنفين في الفقه ذكروا أن مذهب الشافعي مثل مذهب أحمد، وهذا أيضاً يستفاد منه أن ليس كل ما يدعيه المتأخرون مذهباً يسلم لهم.
وانظر هذا الفرع العجيب وقارنه بمذهب أهل الرأي في أن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً وباطناً، حتى لو أن رجلاً شهد شهادة زور أن زيداً طلق امرأته فحكم القاضي بشهادته فهذا الشاهد له الزواج بهذه المرأة مع علمه أن الأمر زور!
وقد عني أهل الحديث بالرد على هذا الكلام السوء، منهم ابن أبي شيبة في المصنف في كتاب الرد على أبي حنيفة وكذلك البخاري في كتاب النكاح حيث قال: 6968 - حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، حدثنا يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر» فقيل: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: «إذا سكتت».
وقال بعض الناس: إن لم تستأذن البكر ولم تزوج فاحتال رجل فأقام شاهدى زور أنه تزوجها برضاها، فأثبت القاضى نكاحها والزوج يعلم أن الشهادة باطلة فلا بأس أن يطأها، وهو تزويج صحيح. (وأبان عامة الشراح من يقصد البخاري بقوله بعض الناس)
وقد قال الشيخ ابن باز في تعليقاته على صحيح البخاري كما في كتاب الحلل الإبريزية: "هذا من أشنع المقالات، والأصل في هذا ما وقع في مذهب الأحناف لأنهم ليسوا بأهل عناية بالحديث وغلب عليهم الجهل في السنة والأصول، فوقع في مذهبهم من المخالفة والخطأ الشيء الكثير".
وقد أشرت إلى هذا لبيان بركة التمسك بالحديث والأثر على أحوال المسلمين عامة، فلما ذكرني حال هذا القاضي بفرع جليل في مذهب أحمد ذكرت ضداً في مذهب أهل الرأي، على أن الصاحبين في مذهب أهل الرأي خالفا إمام المذهب، ومال لقولهما كثير من مال من القوم وتمسك عديدون بذلك الغلط.
السبي الناعم!
سمعت مرارًا عن حوادث سحب الأطفال من عائلاتهم خصوصًا في الدول الإسكندنافية، بالأمس أرسل لي أحد تقريرًا مصوَّرًا لتظاهرات لمهاجرين عامتهم عرب هناك بعنوان: عائلات في السويد تتظاهر ضد دائرة الخدمات الاجتماعية "السوسيال"
تفريغ التقرير المصور:
ولادنا مش للتجارة وين حقوق الإنسان وين الأمم المتحدة وين المنظمات العالمية وين منظمات حقوق الأطفال!
عائلات في السويد تتظاهر ضد دائرة الخدمات الاجتماعية (السوسيال) وقراراتها المتعلقة بسحب القاصرين من ذويهم، تحت شعار "أوقفوا استغلال السلطة والفساد والاتجار القانوني بالأطفال".
طالب المحتجون بمساعدة الأهالي بدلًا من حرمانهم من أطفالهم ومعاقبة الموظفين الذين يتخذون قرارات خاطئة.
أقول: هذه الممارسة الجائرة لها سبب، كنت قد شرحت مرارًا مشكلة شيخوخة الفرد في الدول الإسكندنافية وأن الإنجاب قليل هناك، ولهذا سيأتي وقت يكون فيه كبار السن أكثر المجتمع، وهذا يعطل المجتمع، ولهذا السبب قبلوا بالهجرات.
ولكن الأحزاب اليمينية متوجسة من كون الهجرات ستشكل تغييرًا ديمغرافيًّا في المجتمع فيصير غالبيته من ثقافات غير ثقافة أهل البلد الأصلي.
ولهذا تسعى الأحزاب اليمينية واليسارية كلها لتثقيف أولاد المهاجرين بثقافة البلد الأصل، وأحسن طريقة للأمر السعي لسحبهم من آبائهم لأتفه الأسباب وتنشئتهم بأماكن تحت إشراف الحكومة يلقَّنون ثقافة البلد الأصلية بدون أي مكدرات.
سمعت مرارًا عن حوادث سحب الأطفال من عائلاتهم خصوصًا في الدول الإسكندنافية، بالأمس أرسل لي أحد تقريرًا مصوَّرًا لتظاهرات لمهاجرين عامتهم عرب هناك بعنوان: عائلات في السويد تتظاهر ضد دائرة الخدمات الاجتماعية "السوسيال"
تفريغ التقرير المصور:
ولادنا مش للتجارة وين حقوق الإنسان وين الأمم المتحدة وين المنظمات العالمية وين منظمات حقوق الأطفال!
عائلات في السويد تتظاهر ضد دائرة الخدمات الاجتماعية (السوسيال) وقراراتها المتعلقة بسحب القاصرين من ذويهم، تحت شعار "أوقفوا استغلال السلطة والفساد والاتجار القانوني بالأطفال".
طالب المحتجون بمساعدة الأهالي بدلًا من حرمانهم من أطفالهم ومعاقبة الموظفين الذين يتخذون قرارات خاطئة.
أقول: هذه الممارسة الجائرة لها سبب، كنت قد شرحت مرارًا مشكلة شيخوخة الفرد في الدول الإسكندنافية وأن الإنجاب قليل هناك، ولهذا سيأتي وقت يكون فيه كبار السن أكثر المجتمع، وهذا يعطل المجتمع، ولهذا السبب قبلوا بالهجرات.
ولكن الأحزاب اليمينية متوجسة من كون الهجرات ستشكل تغييرًا ديمغرافيًّا في المجتمع فيصير غالبيته من ثقافات غير ثقافة أهل البلد الأصلي.
ولهذا تسعى الأحزاب اليمينية واليسارية كلها لتثقيف أولاد المهاجرين بثقافة البلد الأصل، وأحسن طريقة للأمر السعي لسحبهم من آبائهم لأتفه الأسباب وتنشئتهم بأماكن تحت إشراف الحكومة يلقَّنون ثقافة البلد الأصلية بدون أي مكدرات.
ستر الكبر بادعاء الحيرة..
قال تعالى: {وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}
تأمل وصفهم في الآية الأولى بالكبر ثم ما ذكر عنهم في الآية الثانية من دعواهم التحير وقولهم {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستقينين}
وحال هؤلاء أشبه ما يكون بحال الكثير من أهل زماننا ممن يسترون كبرهم بادعاء الحيرة، ويسبون أهل الحق بأنهم ثبوتيون ويدعون احتكار الحقيقة!
وصار الأمر ممنهجاً في زماننا، فصار من علامات البحث الأكاديمي الجاد البعد عن التكلم بألفاظ ثبوتية، واستخدام التمريض في الألفاظ مهما كان البحث واضحاً وعائداً إلى ثوابت، والباحث إن لم يفعل هذا فليس محايداً.
وصار كثير من المتشرعين يقلدون أصحاب هذه النبرة، وربما خصصوها بالبحث الفروعي فحسب، وبعضهم يطردها في البحث العقدي.
ومعلوم أن هناك خلافيات حقاً يتحير فيها الباحث أو لا يجزم بها بنتيجة قوية، ولكن ليس هذا هو الأصل ولا يشمل كل باب ومسألة.
وتفرع على كل هذا عبارات من جنس (البحث أهم من نتيجة البحث) وعبارة (لا يوهم أن يقودنا النقاش إلى نتيجة المهم أن يتم النقاش بطريقة حضارية)
وهكذا صارت الوسيلة أهم من الغاية، بل الغاية اختفت وصارت تتمثل في إظهار أنك متحير أو لست جازماً، ليقال عنك (أكاديمي) أو (محايد) أو (منصف) ولا تنسب للتعصب والدوغمائية.
والحق أن المباحث الكبرى عامتها يعود إلى أصل فطري ظاهر في النصوص تمام الظهور، ولكن الحيرة تدخل على الناس من نقاشهم في التفاصيل والفروع دون العود إلى الأصول.
ومن الناس من يقول بقول ولا يفهم الأصل الفلسفي الذي بني عليه هذا القول، لهذا تجد في كلامه من التناقض الشيء العظيم، ومن الناس من يعالج الأصول ولكن لا يبين ارتباطها بالفروع طلباً للدعة.
فإن كثيراً من الناس لا يدري أن شعارات التعددية وقبول الآخر هكذا بشكل مطلق مبني على سفسطة اسمها تكافؤ الأدلة، تستبطن أنه لا يوجد حق ولا باطل، ولا يوجد كبر ولا عناد، ولا تقصير في طلب الحق، لهذا تُعامل كل الأقوال بدرجة واحدة.
ومن يريد إلغاء التكفير والتبديع العقائدي غالباً ما يكون منطلقاً من مداهنة أصحاب هذا الطرح، فيمكن لكثيرين أن ينقدوا سفسطة تكافؤ الأدلة، ولكن نتائجها لا يتكلمون فيها بشكل تفصيلي لغلبتها على نفوس كثيرين ونشأتهم عليها، بل ربما نقدها إجمالاً وقبل بعض نتائجها ليقال عنه وسطي.
وكثير من الناس لا يدرون أن الفلسفة النسوية قائمة على أن الفروق بين الرجال والنساء ليست فطرية، وإنما مجتمعية فحسب، وبمجرد تغيير ثقافة المجتمع يمكن للمرأة أن تكون في مكان الرجل والرجل في مكان المرأة، دون أن يتضرر المجتمع. وهذا ما دفعهم لقبول الشذوذ، لأن رفضه يعني التسليم بالفطرة.
وكثير من الشبهات التي تقول (لماذا الرجال كذا وكذا والنساء كذا وكذا) مبنية على أصل إنكار وجود فطرة ذكورية وفطرة أنثوية، فقد يتحمس البعض للنقد الإجمالي لأطروحة الشذوذ دون أن يفهم أصلها الفلسفي، ثم تجده يضعف أمام فروع هذا الأصل في جهة شبهات الأنثى ويحاول استرضاء المتأثرين بهذا الأصل.
وهذا كله بلاء وكبر؛ وكثير من الناس إذا وجد هواه خلاف الأدلة ادعى التحير وقال لا أدري أين الحق، وإن نظن إلا ظناً. والواقع أن ما هو فيه من الاضطراب ليس سببه خفاء الأدلة، وإنما جعله لهوى نفسه مكافئاً للأدلة، وبالنهاية هو يمشي وراء هوى نفسه.
قال تعالى: {وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}
تأمل وصفهم في الآية الأولى بالكبر ثم ما ذكر عنهم في الآية الثانية من دعواهم التحير وقولهم {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستقينين}
وحال هؤلاء أشبه ما يكون بحال الكثير من أهل زماننا ممن يسترون كبرهم بادعاء الحيرة، ويسبون أهل الحق بأنهم ثبوتيون ويدعون احتكار الحقيقة!
وصار الأمر ممنهجاً في زماننا، فصار من علامات البحث الأكاديمي الجاد البعد عن التكلم بألفاظ ثبوتية، واستخدام التمريض في الألفاظ مهما كان البحث واضحاً وعائداً إلى ثوابت، والباحث إن لم يفعل هذا فليس محايداً.
وصار كثير من المتشرعين يقلدون أصحاب هذه النبرة، وربما خصصوها بالبحث الفروعي فحسب، وبعضهم يطردها في البحث العقدي.
ومعلوم أن هناك خلافيات حقاً يتحير فيها الباحث أو لا يجزم بها بنتيجة قوية، ولكن ليس هذا هو الأصل ولا يشمل كل باب ومسألة.
وتفرع على كل هذا عبارات من جنس (البحث أهم من نتيجة البحث) وعبارة (لا يوهم أن يقودنا النقاش إلى نتيجة المهم أن يتم النقاش بطريقة حضارية)
وهكذا صارت الوسيلة أهم من الغاية، بل الغاية اختفت وصارت تتمثل في إظهار أنك متحير أو لست جازماً، ليقال عنك (أكاديمي) أو (محايد) أو (منصف) ولا تنسب للتعصب والدوغمائية.
والحق أن المباحث الكبرى عامتها يعود إلى أصل فطري ظاهر في النصوص تمام الظهور، ولكن الحيرة تدخل على الناس من نقاشهم في التفاصيل والفروع دون العود إلى الأصول.
ومن الناس من يقول بقول ولا يفهم الأصل الفلسفي الذي بني عليه هذا القول، لهذا تجد في كلامه من التناقض الشيء العظيم، ومن الناس من يعالج الأصول ولكن لا يبين ارتباطها بالفروع طلباً للدعة.
فإن كثيراً من الناس لا يدري أن شعارات التعددية وقبول الآخر هكذا بشكل مطلق مبني على سفسطة اسمها تكافؤ الأدلة، تستبطن أنه لا يوجد حق ولا باطل، ولا يوجد كبر ولا عناد، ولا تقصير في طلب الحق، لهذا تُعامل كل الأقوال بدرجة واحدة.
ومن يريد إلغاء التكفير والتبديع العقائدي غالباً ما يكون منطلقاً من مداهنة أصحاب هذا الطرح، فيمكن لكثيرين أن ينقدوا سفسطة تكافؤ الأدلة، ولكن نتائجها لا يتكلمون فيها بشكل تفصيلي لغلبتها على نفوس كثيرين ونشأتهم عليها، بل ربما نقدها إجمالاً وقبل بعض نتائجها ليقال عنه وسطي.
وكثير من الناس لا يدرون أن الفلسفة النسوية قائمة على أن الفروق بين الرجال والنساء ليست فطرية، وإنما مجتمعية فحسب، وبمجرد تغيير ثقافة المجتمع يمكن للمرأة أن تكون في مكان الرجل والرجل في مكان المرأة، دون أن يتضرر المجتمع. وهذا ما دفعهم لقبول الشذوذ، لأن رفضه يعني التسليم بالفطرة.
وكثير من الشبهات التي تقول (لماذا الرجال كذا وكذا والنساء كذا وكذا) مبنية على أصل إنكار وجود فطرة ذكورية وفطرة أنثوية، فقد يتحمس البعض للنقد الإجمالي لأطروحة الشذوذ دون أن يفهم أصلها الفلسفي، ثم تجده يضعف أمام فروع هذا الأصل في جهة شبهات الأنثى ويحاول استرضاء المتأثرين بهذا الأصل.
وهذا كله بلاء وكبر؛ وكثير من الناس إذا وجد هواه خلاف الأدلة ادعى التحير وقال لا أدري أين الحق، وإن نظن إلا ظناً. والواقع أن ما هو فيه من الاضطراب ليس سببه خفاء الأدلة، وإنما جعله لهوى نفسه مكافئاً للأدلة، وبالنهاية هو يمشي وراء هوى نفسه.