قناة | أبي جعفر عبدالله الخليفي
48.9K subscribers
642 photos
24 videos
151 files
614 links
القناة الرئيسية:
t.me/alkulife
قناة الدروس العلمية:
t.me/doros_alkulify

أسئلة عامة مع عبد الله الخليفي:
t.me/swteat_k
صوتيات الخليفي:
t.me/swteat_alkulife

تعزيز القناة : https://t.me/alkulife?boost
Download Telegram
هل تثبت قصة ابن حجر مع اليهودي؟

قال المناوي في فيض القدير (3/546): "ذكروا أن الحافظ ابن حجر لما كان قاضي القضاة مر يوما بالسوق في موكب عظيم وهيئة جميلة، فهجم عليه يهودي يبيع الزيت الحار وأثوابه ملطخة بالزيت وهو في غاية الرثاثة والشناعة فقبض على لجام بغلته وقال: يا شيخ الإسلام تزعم أن نبيكم قال الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر،د فأي سجن أنت فيه وأي جنة أنا فيها، فقال: أنا بالنسبة لما أعد الله لي في الآخرة من النعيم كأني الآن في السجن، وأنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة من العذاب الأليم كأنك في جنة فأسلم اليهودي".

أقول: المناوي متوفى عام 1031 وابن حجر متوفى عام 852 فبينهما فارق زمني كبير، ولم أجد أحداً نسب القصة لابن حجر قبل المناوي، وفشا ذلك في المعاصرين جداً.

ثم إنني وجدت من يذكرها ممن مات قبل ابن حجر عن غير ابن حجر، مما يدل على أنها نسبتها له وهم.

قال زكريا بن محمد بن محمود القزويني (المتوفى: 682هـ) في كتابه آثار البلاد وأخبار العباد: "ينسب إليها القاضي أبو يوسف، ذكر أنه كان رآه رجل يهودي وقت الظهيرة يمشي راكباً على بغلة، واليهودي يمشي راجلاً جائعاً ضعيفاً، فقال للقاضي: أليس نبيكم يقول الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟ قال: نعم. قال: فأنت في السجن وأنا في الجنة والحالة هذه! فقال القاضي: نعم يا عدو الله، بالنسبة إلى ما أعد الله لي من الكرامة في الآخرة في السجن، وأنت بالنسبة إلى ما أعد الله لك في الآخرة من العذاب في الجنة".

فهذا رجل مات قبل ولادة ابن حجر بزمن طويل يذكر القصة وينسبها لأبي يوسف القاضي ولكن بلا إسناد، فعلم أن القصة معروفة قبل ولادة ابن حجر تنسب لبعض القضاة في الزمن الأول بلا إسناد.

فتوهم بعض الناس، وركبها على بعض المتأخرين.

وقال عبد القادر بن محمد بن نصر الله القرشي، أبو محمد، محيي الدين الحنفي (المتوفى: 775هـ) في الجواهر المضية في طبقات الحنفية: "سهل الصعلوكي الفقيه الخراساني الحنفي ممن جمع رياسة الدين والدنيا خرج عليه يوما وهو فى موكبه من سجن همام يهودي فى إطمار سحم من دخانه قال ألستم تروون عن نبيكم أن الدينا سجن المؤمن وجنة الكافر وأنا عبد كافر وترى حالي وأنت مؤمن ونرى حالك فقال له الحمد لله إذا صرت غدا إلى عذاب كانت هذه جنتك وإذا صرت أنا إلى نعم الله ورضوانه كان هذا سجني فعجب الخلق من فهمه وبداهته ذكر هذه الترجمة هكذا القرطبي فى كتاب قمع الحرص".

والقرشي أيضاً متقدم على ابن حجر والمناوي، غير أن القزويني متقدم عليه، فالقصة إما تنسب للصعلوكي أو لأبي يوسف بلا إسناد، وأما نسبتها لمن تأخر عنه فيبدو أنه وهم من المناوي أو ممن أخذ عنه المناوي، فيبعد تكرر القصة بنفس التفاصيل بل القصة أصلها المذكور في الكتب القديمة، وتوهم بعض من تأخر وركبها على بعض القضاة المتأخرين.
مسانيد أبي حنيفة تلك الأغلوطة!

من الأمور المؤسفة أننا نجد كثيراً من الباحثين يستغلون شهرة مذهب أهل الرأي في الأزمنة المتأخرة لتمرير أغلوطات علمية.

اشتهر بين العام والخاص أن أبا حنيفة إمام مذهب أهل الرأي ضعفه جماهير المحدثين بالحديث، وأبى ذلك الكثير من المتعصبين لمذهبه، وقلدهم كثيرون من أصحاب الفكر التوافقي.

وعلى عادتهم لا يكتفون بالدفاع حتى يتضمن دفاعهم سباً للمحدثين الذين بهم عرفت السنن وصححت وضعفت، وآخر ما وقفت عليه قول بعضهم أن من ينسب أبي حنيفة لعدم معرفة الحديث فهو جاهل متعصب.

وبعيداً عن كون عبارة (كان جاهلاً بالحديث) محفوظة عن الإمام الشافعي في حق إمام أهل الرأي في آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم، وأن أبا حنيفة نفسه اعترف بضعفه في الحديث، قال الترمذي في العلل سمعت محمود بن غيلان، يقول: سمعت المقري، يقول: سمعت أبا حنيفة، يقول: عامة ما أحدثكم خطأ. قال محمود: وسمعت وكيعا يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: سمعت عطاء قال: وكيع إن كان سمعه.

ولكن ما داعي هذا التشنج وقد صح عن بعض الأئمة قوله في أبي حنيفة (كان زمنا في الحديث) والزمن المصاب بعاهة، ونحن نرى بعض المعاصرين ممن لا يتكلم في إمام أهل الرأي لعقيدته وفقهه، ولكن يتكلم فيه لأمر الحديث لأنه لا يسع السكوت في هذا، فيقفز عليه بعض المتعصبين ويقولون من أنت حتى تطعن في الإمام الأعظم.

واجتهد بعضهم لبيان مكانة الرجل فقالوا أن لهم 17 مسنداً جمعها الخوارزمي في كتاب مسانيد أبي حنيفة، وهذا يدل على سعة معرفته بالحديث، وبعضهم يربط بين تضعيف أبي حنيفة ومسالك الحداثيين في الطعن في التراث. ولكي يزول عنك التشنج في هذا البحث عليك أن تعلم عدة أمور:

أولها: أن أبا حنيفة وصاحبيه ليس لهم أي حديث في الكتب التسعة، وعليه فتضعيفه في الحديث لا يفيد منكري السنة في شيء ولا الحداثيين، بل الذي ينفعهم أشد النفع اتهام أئمة المحدثين بالتحامل على إمام أهل الرأي وتتابعهم على تضعيفه، وهو ليس كذلك.

ولتفهم الأمر أكثر، لو ذهبت إلى كتب التفسير المتقدمة مثل تفسير الطبري؛ وتفسير ابن أبي حاتم؛ وتفسير ابن المنذر وغيرها كثير، فلن تجد رواية لأبي حنيفة وصاحبيه لا في تفسير آية ولا في الإسناد لمفسر هذا الغالب.

وكذلك إن ذهبت لكتب الزهد والرقائق، كالزهد لابن المبارك؛ والزهد لأحمد؛ والزهد لابن أبي عاصم؛ والزهد لأبي داود؛ وكتب ابن أبي الدنيا بأسرها، فلن تجد لأبي حنيفة ذكراً لا في المتحدثين ولا في رجال الإسناد.

وأيضاً كتب الجرح والتعديل، إنما نقلوا عنه كلمة في ذم جابر الجعفي من باب المعرفة، وإلزام الحنفية الذين يحتجون بخبر جابر في بعض المواطن الفقهية.

ثانيها: أن الفقه في الكوفة ما بدأ مع أبي حنيفة، ولا هو منفرد بالفقه في الكوفة، ففي طبقته يوجد سفيان الثوري، ولو قرأت جامع الترمذي لوجدته دائماً يذكر مذاهب سفيان وأدلتها. وهذا موجود في عامة المدونات الفقهية الموسعة، مثل الإشراف لابن المنذر؛ والتمهيد لابن عبد البر؛ والمغني لابن قدامة، وغيرها.

وهناك الحسن بن صالح؛ وشريك؛ وابن أبي ليلى، وفي الطبقة التي فوقهم يوجد حماد بن أبي سليمان؛ والحكم بن عتيبة؛ وحبيب أبي ثابت، وفي الطبقة التي فوقهم يوجد إبراهيم النخعي؛ والشعبي، وفي الطبقة التي فوقهم يوجد الأسود؛ وعلقمة؛ ومسروق؛ وعبيدة السلماني، وبقية تلاميذ علي وابن مسعود، ثم طبقة الفقهاء من الصحابة.

هذا في الكوفة فقط فلم يكن أبو حنيفة (الفقيه الأقدم) كما يقول بعضهم ولا (الإمام الأعظم) وعامة هؤلاء أحسن حالاً من أبي حنيفة في الحديث، وفي الأمور الأخرى أيضاً، وهو منتفع بهم. ومذاهبهم ما انقرضت كليا كما يدعي البعض، بل هي محفوظة في كتب الحديث والفقه والتفسير.

ثالثها: أن كل من كتب في الضعفاء من القدامى ذكر أبو حنيفة فيهم، بل فيهم من اتهمه، فممن ذكره في الضعفاء البرذعي في سؤالاته لأبي رزعة؛ والبخاري في الضعفاء؛ والنسائي كذلك؛ وأبو نعيم؛ وابن الجوزي؛ وقبلهم العقيلي؛ وابن حبان؛ وابن عدي؛ وقبلهم الجوزجاني، وغيرهم كثير.

فإن كان فيك حمية للمشاهير من المتكلمين في الفقه، ولا تفرق بين فقه أهل الرأي، وفقه أهل الحديث، فينبغي أن تكون فيك حمية لأئمة الجرح والتعديل، فحاجتك إليهم أعظم من حاجتك لأهل الرأي.

فلا يوجد أحد وإلا يحتاج لأئمة الجرح والتعديل -بما فيهم الحنفية أنفسهم- لمعرفة صحة الحديث من ضعفه، وأما مذهب أهل الرأي فقد يتدين الرجل بالحديث، أو التمذهب لمالك؛ أو الشافعي؛ أو أحمد، فلا يحتاج إليهم بشيء.

رابعها: اتهام المحدثين في حكم تتابعوا عليه بالحسد أمر فيه مكابرة ومخالفة للبداهة، فهم معروفون بإنصافهم للمخالفين، وتوثيقهم للشيعة والقدرية والمرجئة الثقات، وتضعيفهم لبعض الأئمة الأجلة عندهم، وهؤلاء الأحناف دائماً يذكرون تضعيف نعيم بن حماد، وهو من أئمة أهل السنة، وقتل في سجون الجهمية.
=
=
وقال المعاطي النوري ورفاقه في جمعهم في الجرح والتعديل: "فمن ناحية الحقد والحسد فقد يقع الحسد بين عالم وعالم، بين رجل له مائة ألف حديث مثلاً وآخر له نفس العدد أو يقاربه، ولكن هل يتصور إنسان أكرمه الله بعقل سليم أن يحقد محمد بن إسماعيل البخاري الرجل الذي جمع صحيحه من 600 ألف حديث كان يحفظها البخاري صاحب التاريخ الكبير والأوسط والصغير، هل يحقد ويحسد أبا حنيفة الذي كل بضاعته في الحديث كما قال ابن حبان رحمة الله عليه: حدث بمائة وثلاثين حديثاً مسانيد ماله في الدنيا غيرها أخطأ في مائة وعشرين منها إما أن يكون قلب إسناده أو غير متنه من حيث لا يعلم، فلما غلب خطؤه على صوابه استحق ترك الاحتجاج به في الأخبار ...."
فهل يحسد أحمد ابن حنبل وسفيان بن عيينة وأيوب وجميع أهل الحديث أبا حنيفة على الأحاديث الثلاثين ومائة التي لم يحسن إسنادها ولا متنها ثم أين كتبه وأين علمه حتى يحسده عليها أئمة أهل الحديث وهل هذا موقف يحسد عليه كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث يعرف عللها ومرفوعها موقوفها كما يحفظ أحدنا اسمه فهل يحقد ويحسد أحمد ابن حنبل
أبا حنيفة على عشرة أحاديث كان يعرفها بالكاد؟".

جاء في أشرطة فتاوى جدة للألباني الشريط (الشريط رقم 20 الوجه الأول ): "[أحد الحاضرين]
ما هو الضابط في طعن الرواة بعضهم في بعض؟
[الشيخ]
في أيش؟
[أحد الحاضرين]
طعن الأقران بعضهم في بعض.
[الشيخ]
أيه هذا كثر السؤال عنه.
الضابط أن ينظر هل هذا الطاعن يحتمل أن يكون طعنه في معاصره بوازع عداوة شخصية أم لا، فإذا كان الاحتمال الأول لم يُقْبَل، وإذا كان الاحتمال الآخر قُبِل، وكلٌ من الاحتمالين ينبغي أن يدرس دراسة خاصة، أي لا بد من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر بوجود دليل مرجح.
مثلاً: عالمين متعاصرين بلديين احتمال أن يكون بينهما شيء من التنافس، أكثر مما لو كان المتعاصرين في بلدين بعيدين نأى أحدهما عن الآخر، هذا مما يلفت النظر أن المسألة تحتاج إلى اجتهاد كذلك، إذا جاء إمام بعد ذلك التعاصر و أيضاً طعن فيمن طعن فيه قرينه ومعاصره، فذلك مما يرجح أن الطعن ليس بسبب المعاصرة بل بسبب أن المطعون فيه يستحق الطعن، ثم يتأكد الأمر فيما إذا تتابع علماء الحديث على تأييد ذلك الطعن على مر العصور، فهناك نتأكد أن رد هذه المطاعن المتوجهة للشخص الواحد إنما سببه المعاصرة لأن هذه المعاصرة لم تتحقق للذين جاءوا من بعد المتعاصرين.
وهذا مثاله واضح جداً في اتفاق جماهير علماء الحديث على تضعيف الإمام أبي حنيفة رحمه الله سواء من كان منهم معاصراً له أو كان ممن جاء بعده، فاتفاقهم على تضعيف أبي حنيفة يبعد إعلال الطعن فيه بالمعاصرة، لأنه لم يستقل بالطعن فيه بالتضعيف المعاصر له كسفيان الثوري وغيره".

ومن علل الأمر بالعداوة يقال إذن منهج أهل الرأي غير منهج أهل الحديث وحصلت بينهم عداوة لذلك، فما دعواك أن الخلاف بينهم يسير، ثم إن الإمام أحمد على شدته على أهل الرأي اعترف أن أبا يوسف كان صدوقاً، وهذا يدلك على أن المحدثين مع نفرتهم من أهل الرأي ينصفونهم.

والطعن في أئمة الجرح والتعديل يتضرر منه حتى الحنفي الذي يحتاج إليهم، ونفي الحسد عنهم في كلامهم عنه في الحديث ينفي الحسد عنهم في كلامهم عنه في العقيدة والفقه.

بل العجب من إنسان سلفي يعتقد إرجاء إمام أهل الرأي وضعفه في الحديث ثم يزعم أن أهل الورع والتدين كأيوب؛ وسفيان؛ والأوزاعي؛ وابن المبارك؛ وأحمد؛ والبخاري، حسدوا رجلاً هم أجل منه في الحديث والعقيدة.

خامسها: أما مسانيد الخوارزمي فهذه لو كانت صحيحة فأين الناس عنها قبل القرن السابع، وجامع المسانيد نفسه لا يوجد فيه توثيق معتبر.

وقد قال المعلمي في التنكيل: "ففيه نظر ظاهر لأن غالب الجامعين لتلك المسانيد متأخرون، وجماعة منهم متهمون بالكذب، ومن لم يكن منهم متهما يكثر أن يكون في أسانيده إلى أبي حنيفة من لا يعتد بروايته، ومع ذلك فقد تصحفت (جامع المسانيد) فلم أجد فيه عن أبي حنيفة عن عطاء إلا نحو ثلاثين رواية، لعله لا يصح منها عن أبي حنيفة خمس أو ست فأين الكثرة؟ فضلا عن الإكثار جدا".

وكلام المعلمي سليم، وهذه المسانيد معظمها اختلاق. وإنني لأتعجب من منتسب للسلفية لا يقبل الأخبار المتواترة في ذم الرجل عن السلف ثم يصدق كتاب جامع المسانيد للخوارزمي.

علماً أنه لو صح مضامين هذا الكتاب بالجملة فهذا لا يدل على عدم الضعف في الحديث، فالحنفية أنفسهم يضعفون نعيم بن حماد مع أنه كثير الرواية جداً.

سادسها: أن أبا حنيفة لم يكن مضعفاً في الحديث فحسب مع اشتغاله بالفقه، فهذا ابن أبي ليلى ضعفوه في الحديث، ولكنهم أثنوا على فقهه لما كان ملتزماً لحدوده، غير إن إمام أهل الرأي كان صاحب منهج أصولي اطرح بسببه الكثير من الأحاديث الثابتة ثم احتج بواهيات، فكان هذا سبب نقمة الناس عليه.
=
=
قال الطوفي في شرح مختصر الروضة: "وأما بحسب العلمية، فهو في عرف السلف علم على أهل العراق، وهم أهل الكوفة، أبو حنيفة ومن تابعه منهم، وإنما سمي هؤلاء أهل الرأي، لأنهم تركوا كثيرا من الأحاديث إلى الرأي والقياس؛ إما لعدم بلوغهم إياه، أو لكونه على خلاف الكتاب، أو لكونه رواية غير فقيه، أو قد أنكره راوي الأصل، أو لكونه خبر واحد فيما تعم به البلوى، أو لكونه واردا في الحدود والكفارات على أصلهم في ذلك، وبمقتضى هذه القواعد لزمهم ترك العمل بأحاديث كثيرة حتى خرج أحمد - رحمه الله تعالى - فيما ذكره الخلال في «جامعه» نحو مائة أو خمسمائة حديث صحاح خالفها أبو حنيفة، وبالغ بعضهم في التشنيع عليه حتى صنف كتابا في الخلاف بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي حنيفة، وكثر عليه الطعن من أئمة السلف حتى بلغوا فيه مبلغا ولا تطيب النفس بذكره، وأبى الله إلا عصمته مما قالوه، وتنزيهه عما إليه نسبوه".

بل أبى الله إلا أن يبقى كلامهم فيه مع تعاقب دول العجم المتعصبة له، وما استطاعوا أن يطمسوا كلامهم ودلائله.

وقد لاحظ الناس قديماً الضعف في مذهب أهل الرأي بسبب قلة الحديث، فقال أبو حيان التوحيدي في البصائر والذخائر: "وكان أبو حامد يقول: لو ذهب الناس كلّهم مذهب أبي حنيفة لم يكن للشريعة نورٌ ولا للسّنة ظهور؛ قال: وذلك أنّ الحديث في مذهبه قليل، كما أنّ القياس والرأي والاستحسان كثير، والفقه قاعدته معرفة سنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستنباط الأحكام من قوله وفعله في جميع أوقاته.
وكان أبو حامد يقول: لولا محمد بن الحسن وأبو يوسف وجانباهما من السلطان، لذهب هذا المذهب وبطل، وكان يقول: لولا أنّ الشافعيّ أتى بالواضحة والجليّة وبما ليس عليه غبار، كيف كان يشيع ويقبل وينصر - وقد استقّر الفقه بمالكٍ وأبي حنيفة وأصحابهما - على قصر عمره وبعده من السلطان وزهده في الدنيا؛ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".

وقال ابن تيمية في الاستقامة: "الوجه الثالث أن النصوص دالة على عامة الفروع الواقعة كما يعرفه من يتحرى ذلك ويقصد الإفتاء بموجب الكتاب والسنة ودلالتها، وهذا يعرفه من يتأمل كمن يفتى في اليوم بمائة فتيا أو مائتين أو ثلاثمائة وأكثر أو أقل، وأنا قد جربت ذلك، ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائما أقدر على الإفتاء وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأى المحدث، فإن الذى رأيناه دائما أن أهل رأى الكوفة من أقل الناس علما بالفتيا وأقلهم منفعة للمسلمين مع كثرة عددهم وما لهم من سلطان وكثرة بما يتناولونه من الأموال الوقفية والسلطانية وغير ذلك، ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة قل أن يجيبوا فيها وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شاف، وأما كونهم يجيبون بحجة فهم من أبعد الناس عن ذلك".

فابن تيمية يقول أن من اشتغل بالحديث لم يحتج لكثير من القياس وأن أهل الرأي (الحنفية) مع أن الدولة معهم هم من أقل الناس منفعة في الفتيا.

وقال كما في مجموع الفتاوى: "فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة: احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة".

فهنا يحلل ابن تيمية تأثر المسلمين بسياسات العجم، أن فقهاء أهل الرأي الذين كانوا ممكنين في دولة العباسيين لم يكن عندهم (العلم الكافي) لسياسة الناس بالعدل والحق، ويقصد بالعلم الكافي علم الحديث والأثر.

ومن عجائب المعتذرين أنهم تارة يقولون الرجل كان في الكوفة والحديث فيها قليل لهذا احتاج للقياس (فما بال سفيان الثوري إذن؟ لم يكن مثله) وتارة يقولون بل هو عارف بالحديث له 17 مسنداً، فما الحاجة إلى التوسع في الرأي والحال هذه؟
قناة | أبي جعفر عبدالله الخليفي
Photo
قال أبو عبيدة القاسم بن سلام المتوفى عام ٢٢٤ في الناسخ والمنسوخ  138 - أخبرنا علي قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج، عن المسعودي، عن الحكم بن عتيبة قال: قلت لإبراهيم: هل تعلم شيئا من نساء أهل الكتاب يحرم، فقال: لا. فقال الحكم: وقد كنت سمعت من أبي عياض أن نساء أهل الكتاب يحرم نكاحهن في بلادهن قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فصدق به وأعجبه قال أبو عبيد: وهذا هو المعمول به عند العلماء، لا أعلم بينهم في كراهته اختلافا.

هنا أبو عبيد ينقل الاتفاق على كراهة الزواج بالكتابية في بلدها، ويقصد بالكراهة هنا التحريمية والله أعلم، لأن آثار التابعين التي يعلق عليها فيها تنصيص على لفظ الحرمة.

وقد نبه ابن القيم في إعلام الموقعين على أن المتقدمين كثيرا ما يطلقون الكراهة ويريدون التحريمية، ويدل على ذلك سياق كلامهم، ويأتي متأخرون ويزعمون أنه يريد الكراهة التنزيهية.

لو رجعت إلى كتب الفقهاء في تعليل هذا الحكم لوجدت أنهم ينصون على أن الزواج من الكتابية في بلدها يعرض الإبن لخطر أن يكون على دين أمه عند الفراق وانتصار قوم المرأة لها.

ومن الحوادث التاريخية التي تشبه من وجه ما نحن بصدده:

ما ذكره زكريا القزويني في آثار البلاد عن طرسوس: "قال محمد بن أحمد الهمذاني: لم تزل طرسوس موطن الزهاد والصالحين لأنها كانت بين ثغور المسلمين، إلى أن قصدها فغفور ملك الروم سنة أربع وخمسين وثلاثمائة في عسكر عظيم، وكان فيها رجل من قبل سيف الدولة يقال له ابن الزيات عجز عن مقاومة الروم، سلم إليهم على الأمان على شرط أن من خرج منها متاعه لم يتعرض، ومن أراد المقام مع اداء الجزية فعل. فلما دخل الكفار المدينة خربوا مساجدها، وأخذوا من السلاح والأموال ما كان جمع فيها من أيام بني أمية، وأخذ كل واحد من النصارى دار رجل من المسلمين، ولم يطلق لصاحبها إلا حمل الخف، واحتوى على جميع ما فيها، وتقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم. فمنهن من منعت الرجل ولده واتصلت بأهلها فيأتي الرجل إلى معسكر الروم ويودع ولده باكياً".

ومما حصل في وقتنا ما رأيته في اليوتيوب لرجل سوري يعيش في السويد سجل فيديو يهدد فيه بالانتحار لأن زوجته السويدية حرمته من ولده الذي أسماه (روبرت)!

وكان يتكلم بحرقة، والعجيب أنني سمعت عدنان إبراهيم يسخر منه على المنبر! ويبدو أنه تحسس أن حادثة هذا الرجل ستشكك بعدالة الغربيين فرأى أن يبطلها بالسخرية!
باب في حذق المفتي..

أرسل لي أحد الأخوة هذا الكلام الحسن:

«وقول السائل وغيره: هل هو [أي السماع] حلال؟ أو حرام؟ لفظ مجمل فيه تلبيس يشتبه الحكم فيه حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه؛ وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين:
أحدهما أنه هل هو محرم؟ أو غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله.
والنوع الثاني أن يفعل على وجه الديانة والعبادة وصلاح القلوب وتجريد حب العباد لربهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم وأن تحرك من القلوب الخشية والإنابة والحب ورقة القلوب وغير ذلك مما هو من جنس العبادات والطاعات لا من جنس اللعب والملهيات. فيجب الفرق بين سماع المتقربين وسماع المتلعبين وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس والأفراح ونحو ذلك من العادات وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب والتقرب إلى رب السموات فإن هذا يسأل عنه: هل هو قربة وطاعة؟ وهل هو طريق إلى الله؟ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم وتحريك وجدهم لمحبوبهم وتزكية نفوسهم وإزالة القسوة عن قلوبهم ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع؟ كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة لا على وجه اللهو واللعب».

[مجموع الفتاوى: ٦٣٠/١١]


وهذا من جنس كلام كثير من الناس اليوم عن "عمل المرأة" أهو حلال أم حرام، مع أن مرادهم الأساسي ليس مطلق الإباحة بل معاملته "كحق طبيعي" للمرأة، بحيث تُمدح من تقوم به وتذم أو تلام من تتركه، أو يعتبر هذا منها تفضلاً.

أقول: قد أحسن صاحبي فيها تعليقاً على كلام شيخ الإسلام.

ومثل ما ذكر كلامهم على موضوع (اللحية) فيأتي السؤال (حل حلقها حرام أم حلال)

وواقع البحث أن كثيراً من الناس يعتبر حلقها (نظافة) وكثيرون يعتبرون إيجاب إطلاقها تشدداً، مع أنه قول عامة العلماء، وادعي عليه الإجماع، وخالف جماعة من الشافعية، ولكنهم لا ينازعون في أن تركها هو الأفضل.

حتى كتب بعض الأزهريين يقول أن اللحية ليست شرطاً في الإسلام! ومن قال أن حالق اللحية كافرا، وإنما البحث في وجوب التربية من عدمه، وقال أن تربية العقل أهم من تربية الذقن! ومن الذي فرض المفاضلة أصلاً؟ الحالق هو الذي يفعل أمراً زائداً ويلزم نفسه به، وأما التارك فهو يدع لحيته ويكون أكثر فراغاً ممن يتحرى الحلق، وماذا لو ترك حلق شعر عانته أو نتف الإبط وقال الأهم حلق الجهل ونتف التخلف!

العجيب أن هذا ومثله يفرضون أنفسهم على الناس على أنهم حماة المذهبية والتراث أمام السلفيين (ويعنون بذلك تراث جماعة من المتأخرين حصراً) ثم يقولون كلاماً إنما يتسق مع المزاج الليبرالي لا علاقة لمتشرع به من أي مدرسة علمية كانت.

ثم تجده يبحث بسطحية دون النظر لكون الناس يتحرون التشبه بالكفار، ويتحرون أن يكونوا على هيئة محايدة لا تظهر عقيدتهم، وأن الإعلام يحترم هيئة الكاهن النصراني مع لحيته الكثة، ويسعى بشكل مستمر للربط بين هيئة المسلم الملتحي والجهل وسوء الأخلاق.

ومثل هذا يقال في أمر النقاب والسخرية منه، ثم تركيز بعض المفتين على حرب تشدد القائلين بالوجوب دون النظر للواقع، وأن كثيرين ينظرون له نظرة احتقار أو إساءة، وأن كثيراً ممن ينزعن النقاب يفعلن ذلك تحت ضغط نظرات القوم وأساليبهم في السخرية والإهانة، ثم تذهب تبرر ضعفها برخصة من هنا أو هناك، ثم ما تلبث أن تبحث عن رخص جديدة تتعلق بأمر الزينة!

والأمر نفسه يقال مع موضوع (خدمة الزوجة لزوجها) فبحث الفقهاء هل هو مستحب أو واجب، بمعنى أنه حال فاضلة على الدوام، ولكن الكثير ممن يبحث عن الفتيا بعدم الوجوب هو متأثر بنفس احتقاني واستحقاقية ونفس مساواتي، واعتقاد أن الرجل ليس له حقوق على زوجته، وأن مجرد وجود حقوق له عليها يعني ظلمها وهضمها! وكأنه ما دفع مهراً ولا ألزم بنفقة، وكأن في الخدمة ضرراً ظاهراً عليها!
هل نفى ابن تيمية الجسمية عن الله عز وجل أم أثبتها؟

من عادة أهل الباطل أنهم إذا أرادوا إنكار حق ظاهر أن يخترعوا مصطلحاً مجملاً تحير به العامة ثم يشبعون هذا المصطلح هذا ذماً وهم يستبطنون ذم الحق، حتى إذا جاءهم الحق لاحقاً ألحقوه بهذا المصطلح وبرروا دفعهم له.

لهذا نظير في زماننا تجد النسويات والليبراليين يذمون (النظام الأبوي) أو ما يسمونه (ذكورية) وهم يستبطنون ذم القوامة ووجود فروق فطرية بين الجنسين، وأشبعوا الجو بذم هذا النظام الذي ربطوه بالتسلط.

ثم بعد ذلك إذا جاءتهم أحكام شرعية تخالف هواهم طلبوا تأويلها أو أنكروها أو أنكروا الدين لأجلها، لأنها بدعواهم (أبوية) أو (ذكورية)

هكذا صنع الجهمية قديماً ملأوا الجو بذم (التجسيم) والتجسيم عندهم ما دلت عليه النصوص بل والفطر من أن الله عز وجل له وجود حقيقي في الخارج، بمعنى أنه يرى ويسمع ويشار إليه.

فصاروا إذا جاءتهم نصوص تخالف عقيدتهم قالوا هذه واجبة التأويل لأنها (تجسيم) وإذا كانت أحاديث دفعوها أو حرفوها بحجة دفع التجسيم المقتضي للتشبيه عندهم.

لا يفهم المعطل من كلمة (جسم) أكثر مما يفهم الموحد من كلمة (شخص) الوارد في حديث (لا شخص أغير من الله) أو (لا شخص أحب إليه المدحة من الله)

- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْن أَحْمَدَ في زوائد المسند: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ سَوَاءً قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْقَوَارِيرِيُّ: "ليْسَ حَدِيثٌ أَشَدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلِهِ: لَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِدْحَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".

ولهذا بوب البخاري باباً في كتاب التوحيد والرد على الجهمية باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا شخص أغير من الله» وقال عبيد الله بن عمرو، عن عبد الملك: «لا شخص أغير من الله».

لفظ التشبيه لفظ مذموم، مثل لفظ البخل والجبن والعجز، ومثله لفظ التعطيل.

والألفاظ الممدوحة مثل التنزيه والتوحيد، ومثلها الكرم والعدل والقدرة، ومثله الإثبات.

وأما لفظ التجسيم فهو لفظ مجمل يطلقه المعطل ويستبطن الوارد في النصوص، وربما أطلق ذمه بعض أهل الإثبات وأراد نفي التشبيه أو الفناء عن الله عز وجل، وربما أثبته بعض الناس وأراد معنى القائم بنفسه المقيم لغيره، فالمعنى سليم ولكن إطلاقه نفياً أو إثباتاً خطأ.

ولهذا المعطل لا يرضى من بعض المثبتة بقولهم بنفي التجسيم مع كونهم يثبتون الصفات، وينسبهم للتناقض، وقد كان متقدمي الأشعرية يثبتون الصفات الذاتية وينفون الجسمية فأبى عليهم متأخرون، ورأوا ذلك تناقضاً، وأنه لا بد من النفي.

والمشكلة اليوم أن السني يتأثر بإرهاب المعطل إذا قال له (هذا تجسيم)! حتى أن بعض المنتسبين للسنة إذا أنكر ثبوت صفة عنده يصف مثبتها بأنه وقع في التجسيم، وهذا غلط فلفظ الجسمية مجمل، وتعليل النفي بأنه يقتضي الجسمية طريقة المعطلة. وأنت إذا ثبت عندك الخبر ستثبته، بل أنت تثبت نظيره مما يعتقده المعطل جسمية.

ولتقريب المسألة أكثر ركز في هذا المثال:

كتبت قديماً ردا على علوي السقاف في نفيه وجود حديث صحيح في إثبات صفة الساعد (وبلغني أنه تراجع)

الآن أنا موقفي الإثبات لأن الحديث صح عندي.

علوي موقفه عدم الإثبات لأن الحديث لم يصح عنده، ولو صح لأثبت.

الأشعري حتى لو صح الحديث عنده سيقوم بتأويله، كما أول النصوص القرآنية والحديثية الكثيرة في الفوقية والوجه واليدين.

هذه كلها مواقف متسقة مع نفسها، ولكن الموقف المتناقض أن يأتي شخص على مذهبي أو مذهب علوي في الإثبات ويقول: إثبات الساعد تجسيم لأنه لم يصح به حديث! كما يفعل البعض في صفة الجلوس (مع أنه ثبت فيها أخبار)

فيقال له: موقفك هذا متناقض، فتعليل دفع الصفات بالجسمية هذه طريقة الجهمية، وأنت أصلاً تثبت اليد والأصابع مما لا يختلف في المعنى عن أمر الساعد لا عندنا ولا عند الجهمي، فإن كان هذا تشبيهاً أو تجسيماً فما تثبت أنت كذلك، وإن لم يكن ما تثبت تجسيماً فليس كذلك.

وتنبه هنا لحيلة يقوم بها بعض الجهمية، يأتي لصفات غير مشتهرة عند الناس، أو وردت في آثار عن السلف، مثل أن الله يمس بيده بعض الخلق فتجده يقول (الآن كشف تجسيمكم) إذا وجد سنياً يتكلم بها، مع أنه يعتقد أن ظواهر النصوص القطعية يقتضي هذا المعنى، فخلق الله لآدم بيده وطيه للسماوات بيمينه ظاهرها في مذهبهم لا يختلف عن ظاهر أثر (لم يمس الله بيده إلا ثلاثة) ولهذا يحرفونها بما يسمونه تأويلاً.

إذا فهمت ما مضى تفهم موقف ابن تيمية وتحرزه، فهو ينبه دائماً على أن لفظ الجسم مجمل والسلف ما أطلقوا إثباته ولا نفيه (وقد ورد عن السلف عبارات بتحقيق الوارد في النصوص كتسمية بعضهم للصفات الفعلية حركة، ولكن هذا لا يحتمل معنى زائداً على الوارد في النصوص)
=
=
قال ابن تيمية في الجواب الصحيح (4/ 432): "وأما الشرع، فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر، ولا إنه ليس بجوهر.
لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء، هو مما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء.
والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم، ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال، وأنه ليس كمثله شيء، فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين، مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، ولا يدخل في صفاته ما ليس منها، ويخرج منها ما هو داخل فيها".

وقال ابن تيمية في الرسالة الأكملية: "ومنهم: من يمتنع من الإثبات والنفي، كما قالوا في لفظ الغير، وكما امتنعوا عن مثل ذلك في لفظ الجسم ونحوه، فإن قول القائل: العلم عرض بدعة، وقوله: ليس بعرض بدعة، كما أن قوله: الرب جسم بدعة، وقوله: ليس بجسم بدعة.
وكذلك أيضًا لفظ [الجسم] ، يراد به في اللغة: البدن والجسد، كما ذكر ذلك الأصمعي وأبو زيد، وغيرهما من أهل اللغة.
وأما أهل الكلام، فمنهم من يريد به المركب، ويطلقه على الجوهر الفرد بشرط التركيب، أو على الجوهرين، أو على أربعة جواهر، أو ستة، أو ثمانية، أو ستة عشر، أو اثنين وثلاثين، أو المركب من المادة والصورة".

يريد الشيخ أن هناك من امتنع في لفظ الجسم امتناعهم عن سؤال (هل صفات الله هي الله أم غيره)؟ فهذه أغلوطة، فإن أريد بالغيرية أنها منفصلة عنه بالكلية فهذا معنى باطل، وإن أريد بالغيرية أن لكل صفة معنى وخصائص، فالعلم غير القدرة غير الكلام، وكلها صفات لله تقوم به فهذا معنى سليم.

وقال بيان تلبيس الجهمية ( 1/373): "وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، أنه ليس بجسم، وأن صفاته ليست أجسامًا وأعراضًا؟ فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل؛ بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل، جهل وضلال".

قال ابن تيمية في آخر درء تعارض العقل والنقل (10/ 306): "فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شيء من أصول دينهم.
ولهذا لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا قال: إن الله ليس بجسم، بل أنكروا النفي لما ابتدعته الجهمية، من المعتزلة وغيرهم، وأنكروا ما نفته الجهمية من الصفات، مع إنكارهم على من شبه صفاته بصفات خلقه، مع أن إنكارهم كان على الجهمية المعطلة أعظم منه على المشبهة، لأن مرض التعطيل أعظم من مرض التشبيه.
كما قيل: المعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً.
ومن يعبد إلهاً موجوداً موصوفاً بما يعتقده هو من صفات الكمال، وإن كان مخطئاً في ذلك، خير ممن لا يعبد شيئاً، أو يعبد من لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات.
ونفاة الصفات، وإن كانوا لا يعتقدون أن ذلك متضمن لنفي الذات، لكنه لازم لهم لا محالة، لكنهم متناقضون.
ولهذا لا يوجد فيهم إلا من فيه نوع من الشرك، ولا بد من ذلك لنقص توحيدهم الذي به يتخلصون من الشرك.
والمقصود أن يقال: جواب هذا السؤال في الشريعة.
وذلك أن يقال: إن الله قد بين ما هو ثابت له من الصفات وما هو منزه عنه، وأثبت لنفسه صفات الكمال، ونفى عنه صفات النقص.
فيقال لمن سأل بلفظ الجسم: ما تعني بقولك؟ أتعني بذلك أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ فإن عنيت ذلك فالله تعالى قد بين في كتابه أنه لا مثل له، ولا كفو له، ولا ند له، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النحل: 17].
فالقرآن يدل على أن الله لا يماثله شيء: لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله: فإن كنت تريد بلفظ الجسم ما يتضمن مماثلة الله لشيء من المخلوقات، فالله منزه عن ذلك، وجوابك في القرآن والسنة.
وإذا كان الله ليس من جنس الماء والهواء، ولا الروح المنفوخة فينا، ولا من جنس الملائكة، ولا الأفلاك، فلأن لا يكون من جنس بدن الإنسان ولحمه وعصبه وعظامه، ويده ورجله ووجهه، وغير ذلك من أعضائه وأبعاضه، أولى وأحرى.
فهذا الضرب ونحوه، مما قد يسمى تشبيهاً وتجسيماً، كله منتف في كتاب الله، وليس في كتاب الله آية واحد تدل، لا نصاً ولا ظاهراً، على إثبات شيء من ذلك لله، فإن الله إنما أثبت له صفات مضافةً إليه.
كقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] و: {إن الله هو الرزاق ذو القوة} [الذاريات: 58] .
و: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75] ، {ويبقى وجه ربك} [الرحمن: 27] ، {والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] ، كما قال: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116".
=
=
إلى أن قال: "وإن عنيت بلفظ الجسم الموصوف بالصفات، القائم بنفسه، المباين لغيره، الذي يمكن أن يشار إليه، وترفع إليه الأيدي -فلا ريب أن القرآن قد أخبر أن الله له العلم والقوة والرحمة، والوجه واليدان، وغير ذلك، وأخبر أنه إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، وأنه: {خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش} [الفرقان: 59] ، وأنه: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4] .
فالقرآن مملوء من بيان علوه على خلقه، والصعود إليه، والنزول منه، ومن عنده، وإثبات علمه ورحمته، وغير ذلك من صفاته.
وإذا سميت ما هو كذلك جسماً، وسئلت: هل هم جسم؟ كان الجواب أن المعنى الذي سئلت عنه وأردته بهذا اللفظ قد بينه الله وأثبته في كتابه".

وقال أيضاً: "فإذا قال القائل بعد هذا: الجسم هو المؤلف أو المركب، فلا يكون جسماً، ونحو ذلك.
قيل له: لا ريب أن الله سبحانه غني عن كل ما سواه، لا يجوز أن يقال: إنه مفتقر إلى غيره في شيء فضلاً عن أن يقال: ركبه مركب، أو ألفه مؤلف.
والله قد أخبر في القرآن بمعناه.
وكذلك لا يجوز أن نظن أنه كان مفرقاً فاجتمع، أو أنه يتفرق، أو نحو ذلك مما ينافي صمديته وكماله في وقت من الأوقات.
وإذا قال قائل: الجسم هو القائم بنفسه، أو المشار إليه، فيكون جسماً.
قيل له: لا ريب أن الله قائم بنفسه، وأنه ترفع الأيدي إليه، ويشار إليه.
كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة بإصبعه إليه وجعل يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد.
وقال: إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً.
وقال: إشارة الرجل بإصبعه في الصلاة مقمعة للشيطان.
وهو إشارة إلى التوحيد.
ويقال لذلك:
أنت تقول: الجسم هو المركب، وهذا يقول: هو القائم بنفسه، وأنتما متفقان على أن الله تعالى لا يتفرق ولا يركبه أحد".

وهذه خلاصة بحث الشيخ، وهذا كلامه في عامة كتبه. وأما من يأتي برواية تاريخية يزعم فيها أن الشيخ قال بأن الله ليس بجسم ولا عرض في أبيات له، فما آفة الأخبار إلا رواتها، ومخالفة الخبر للمتواتر في كتب الرجل يجعل الاعتماد على مثل هذا الخبر الشاذ نوعاً من السذاجة البحثية، وعدم الجدية، ومحاولة تبرير زلات بعض الناس فحسب.

وكلام الشيخ يبين لك خطورة أن يستخدم السني لفظ الجسمية كما يستخدمه الجهمية، وهذا يقع من عدد من المنتسبين للسنة اليوم، تجده يدفع بعض الأخبار التي لها نظير أو يتحسس منها جداً بحجة أنها تقتضي التجسيم! وهذا مثل تحسسك من حكم شرعي لأنه (رجعية) ثم تحسب نفسك لست متأثراً بالحداثة.

فهناك فرق بين إنكار المتوقف وإنكار الذي له موقف، فعلى سبيل المثال في الخلاف في التفضيل بين علي وعثمان كان هناك من يتوقف فلا يتكلم في هذا الأمر، فلو جاء إنسان وفضل عثمان على علي، فسينكر عليه المتوقف، وسينكر عليه من يفضل علياً، ولكن من يفضل علياً فقط هو من سيصفه بأنه ناصبي، فإذا وصفه المتوقف بأنه ناصبي علمنا أنه إما تأثر بالشيعي، أو أنه ليس متوقفاً في الحقيقة، بل هو يبطن موقف الشيعي، أو لا يفهم حقيقة توقفه. هذا يقال فيمن يتحسس من إثبات بعض الأمور مراعاة للمزاج الجهمي، ويصف من يثبت بأنه وقع في التجسيم، وهذا الضرب -مع ما عنده من خلل- لا يجوز أن يجعل مثل الجهمي من كل وجه، فهو يثبت النصوص على ظاهرها، بل كثير منهم لا يمانع من الإشارة الحسية، وإنما حصل تشوش بسبب اختلاف مصادر التلقي، ودخول المزاج التوافقي على البحث العلمي.
صناعة الاحتقان 👇