(8)
مخالفات وعراك..
احمد سيف حاشد
كنت في الكلية العسكرية طالب منضبط وملتزم حد القلق.. لا أستسهل المخالفات ولا أرغب في إتيانها.. لا ارتكبها إلا بنسيان أو ارباك أو بدافع يستحق.. كانت مخالفاتي بسيطة وطفيفة وقليلة جدا، إن لم تكن في حكم النادر أو تكاد، وهي تتراوح بين خروج رأس "الجزمة" عن خط البلاط.. تراب خفيف على الدولاب.. خطاء طفيف في الحركة النظامية.. تأخري عن الطابور، باجمال لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة خلال العامين.. أما الغياب فلم أغب يوما واحدا، ولا حصة واحدة خلال فترة الدراسة كلها..
مخالفة أخيرة لا أنساها، وهي نسيان أزرار البنطلون مفتوحة من الأمام، والذي وبخني عليها وهو ينفعل، بكلام لا أفهمه مدرّس مادة الاستطلاع، الخبير الروسي قصير القامة، ولكن كانت إشارة يده ورأسه وحركاته المنفعلة أبلغ من كل عقوبة وكلام، وقد أثارت معها عاصفة من الضحك..
أكبر مخالفة ارتكبتها طيلة السنتين لم يتم معاقبتي عليها.. فعندما كانت الفصيلة تركض في تدريبها، كان "حبيش" وهو طالب كثير المخالفة والفوضى ويلازمه العقاب كتوأمه، ولم أعلم يوما إنه فارقه، أساء في فلتة لسان تضمنت منّا، إلى زميل لنا في نفس الفصيلة، اسمه الحركي "عمر"، خريج جامعي، وهو من الطلاب المنتمين للحزب الشيوعي العراقي..
كان زملائنا المبتعثين من الحزب الشيوعي العراقي جميعهم خريجين جامعة، وأعضاء في الحزب الشوعي العراقي، والمحسوبين على المقاعد المخصصة لحركة التحرر.. كانوا غاية في النبل والامتلاء الثقافي والسلوك الراقي والقدوة الحسنة.. كان "عمر" أحدهم، بل وأكثرهم امتلاء، ومحل اقتداء..
ليس سهلا أن يجمع المرء بين الوعي العالي، والامتلاء الثقافي، والسلوك القويم، والتعامل الراقي، والتواضع الجم، ولكن الشيوعي "عمر" كان يجمع كل ذلك.. كان "عمر" ينتزع دوما دهشتي واعجابي، حتى صار يستحق محاولاتي في الاقتداء به..
لو كان الشيوعيون مثل "عمرنا" لاستحقوا الاقتداء بهم.. إنهم تلاميذ الشيوعي المعلم الفذ العراقي "فهد" الذي أطلق مأثرة، وهو يستعد لتنفيذ حكم الإعدام عليه شنقا : "الشيوعيون أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق".. وفي "عمر" كنت أرى قبس من نبوة، وزهد صوفي، وقائد يأسر الألباب..
ما أبداه زميلي الفوضوي نحو "عمر" من "المن" استفزني، وأثار حميتي الاخلاقية قبل أي حمية أخرى، فاندفعت نحوه بقوة وجنون، حتى بدا الأمر مفاجئ للجميع، بما فيهم المسيء نفسه، والذي يبدو أنه كان لا يتوقع ما حدث.. اشتجرت معه بعنف، وتدخل الزملاء لفض العراك، وتحولت الفصيلة التي كانت تركض بانتظام إلى كومة تحاول فض العراك.. وبعد أن فض العراك بيننا جرى احتواء الأمر، وتم حله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة..
وفي مخالفة أخرى طالني العقاب المضاعف.. كنت ما أن أسمع صفارة الطابور حتى أهرع كثور أسباني إلى ساحة الطابور.. كان لا يدركني قطع الطابور من قبل الضابط المناوب.. كنت دهشانا وسريع العدو وأزيح المتباطئ أمامي بركضه أو دفعه جانبا..
وفي مزحة ثقيلة، وحالما كنت استريح جوار السرير منتظرا صفارة الطابور من قبل الضابط المناوب، تمت المخاتلة من قبل بعض رفقتي في الغرفة، وجرى ربط عمود السرير إلى عروة حزامي العريض دون علمي، وما أن سمعت صفارة الطابور، حتى هرعت بقوة سبعين حصان، فأطحت بالسرير الذي خر صريعا وسط الغرفة، وتتطاير ما كان عليه أو في جواره على أرضيتها، فعدت محاولا اصلاح ما يمكن، ولكن لم يسعفنِ الوقت، وكان الارباك سيد الموقف..
يومها تم عقابي مرتين، الأول لتأخري عن الطابور، والثاني بسبب ما طال سريري وفراشي وما تتطاير من أدواتي في الجوار على أرض الغرفة، وبسبب ذلك طال العقاب أيضا زميلي صاحب الطابق الثاني في السرير، ولكن العقاب مع زميلي هذا لم يعد يفرق معه.. كان مشهورا إن لم تخن الذاكرة برقم (71444)؛ وقد حفظنا اسمه بسبب مخالفاته اليومية، فلا يفوته يوما دون أن يطوله عقاب، أو يكاد لا ينجو يوما من مخالفة وعقاب.. رقمه يصدح كل يوم في الطابور، بعقوبة جزاء، أو طابور اضافي..
***
تابع
بعض من تفاصيل حياتي
مخالفات وعراك..
احمد سيف حاشد
كنت في الكلية العسكرية طالب منضبط وملتزم حد القلق.. لا أستسهل المخالفات ولا أرغب في إتيانها.. لا ارتكبها إلا بنسيان أو ارباك أو بدافع يستحق.. كانت مخالفاتي بسيطة وطفيفة وقليلة جدا، إن لم تكن في حكم النادر أو تكاد، وهي تتراوح بين خروج رأس "الجزمة" عن خط البلاط.. تراب خفيف على الدولاب.. خطاء طفيف في الحركة النظامية.. تأخري عن الطابور، باجمال لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة خلال العامين.. أما الغياب فلم أغب يوما واحدا، ولا حصة واحدة خلال فترة الدراسة كلها..
مخالفة أخيرة لا أنساها، وهي نسيان أزرار البنطلون مفتوحة من الأمام، والذي وبخني عليها وهو ينفعل، بكلام لا أفهمه مدرّس مادة الاستطلاع، الخبير الروسي قصير القامة، ولكن كانت إشارة يده ورأسه وحركاته المنفعلة أبلغ من كل عقوبة وكلام، وقد أثارت معها عاصفة من الضحك..
أكبر مخالفة ارتكبتها طيلة السنتين لم يتم معاقبتي عليها.. فعندما كانت الفصيلة تركض في تدريبها، كان "حبيش" وهو طالب كثير المخالفة والفوضى ويلازمه العقاب كتوأمه، ولم أعلم يوما إنه فارقه، أساء في فلتة لسان تضمنت منّا، إلى زميل لنا في نفس الفصيلة، اسمه الحركي "عمر"، خريج جامعي، وهو من الطلاب المنتمين للحزب الشيوعي العراقي..
كان زملائنا المبتعثين من الحزب الشيوعي العراقي جميعهم خريجين جامعة، وأعضاء في الحزب الشوعي العراقي، والمحسوبين على المقاعد المخصصة لحركة التحرر.. كانوا غاية في النبل والامتلاء الثقافي والسلوك الراقي والقدوة الحسنة.. كان "عمر" أحدهم، بل وأكثرهم امتلاء، ومحل اقتداء..
ليس سهلا أن يجمع المرء بين الوعي العالي، والامتلاء الثقافي، والسلوك القويم، والتعامل الراقي، والتواضع الجم، ولكن الشيوعي "عمر" كان يجمع كل ذلك.. كان "عمر" ينتزع دوما دهشتي واعجابي، حتى صار يستحق محاولاتي في الاقتداء به..
لو كان الشيوعيون مثل "عمرنا" لاستحقوا الاقتداء بهم.. إنهم تلاميذ الشيوعي المعلم الفذ العراقي "فهد" الذي أطلق مأثرة، وهو يستعد لتنفيذ حكم الإعدام عليه شنقا : "الشيوعيون أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق".. وفي "عمر" كنت أرى قبس من نبوة، وزهد صوفي، وقائد يأسر الألباب..
ما أبداه زميلي الفوضوي نحو "عمر" من "المن" استفزني، وأثار حميتي الاخلاقية قبل أي حمية أخرى، فاندفعت نحوه بقوة وجنون، حتى بدا الأمر مفاجئ للجميع، بما فيهم المسيء نفسه، والذي يبدو أنه كان لا يتوقع ما حدث.. اشتجرت معه بعنف، وتدخل الزملاء لفض العراك، وتحولت الفصيلة التي كانت تركض بانتظام إلى كومة تحاول فض العراك.. وبعد أن فض العراك بيننا جرى احتواء الأمر، وتم حله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة..
وفي مخالفة أخرى طالني العقاب المضاعف.. كنت ما أن أسمع صفارة الطابور حتى أهرع كثور أسباني إلى ساحة الطابور.. كان لا يدركني قطع الطابور من قبل الضابط المناوب.. كنت دهشانا وسريع العدو وأزيح المتباطئ أمامي بركضه أو دفعه جانبا..
وفي مزحة ثقيلة، وحالما كنت استريح جوار السرير منتظرا صفارة الطابور من قبل الضابط المناوب، تمت المخاتلة من قبل بعض رفقتي في الغرفة، وجرى ربط عمود السرير إلى عروة حزامي العريض دون علمي، وما أن سمعت صفارة الطابور، حتى هرعت بقوة سبعين حصان، فأطحت بالسرير الذي خر صريعا وسط الغرفة، وتتطاير ما كان عليه أو في جواره على أرضيتها، فعدت محاولا اصلاح ما يمكن، ولكن لم يسعفنِ الوقت، وكان الارباك سيد الموقف..
يومها تم عقابي مرتين، الأول لتأخري عن الطابور، والثاني بسبب ما طال سريري وفراشي وما تتطاير من أدواتي في الجوار على أرض الغرفة، وبسبب ذلك طال العقاب أيضا زميلي صاحب الطابق الثاني في السرير، ولكن العقاب مع زميلي هذا لم يعد يفرق معه.. كان مشهورا إن لم تخن الذاكرة برقم (71444)؛ وقد حفظنا اسمه بسبب مخالفاته اليومية، فلا يفوته يوما دون أن يطوله عقاب، أو يكاد لا ينجو يوما من مخالفة وعقاب.. رقمه يصدح كل يوم في الطابور، بعقوبة جزاء، أو طابور اضافي..
***
تابع
بعض من تفاصيل حياتي
أحمد سيف حاشد:
الحرب علينا اشد واكثر وطأة من كرونا.. خمس سنوات تسحقنا دمار وخراب وقتل وفساد ونهب واستبداد.. لم يتحدثوا عن وقفها الا من قبيل ذر الرماد على العيون.. جميعهم مستفيدين الا نحن.. السلام لازال يعنينا ايضا..
الحرب علينا اشد واكثر وطأة من كرونا.. خمس سنوات تسحقنا دمار وخراب وقتل وفساد ونهب واستبداد.. لم يتحدثوا عن وقفها الا من قبيل ذر الرماد على العيون.. جميعهم مستفيدين الا نحن.. السلام لازال يعنينا ايضا..
احمد سيف حاشد::
• ممارسة السياسية في بلاد مثل اليمن مكلف جدا، ولاسيما إن كان هذا الذي يمارسها حالم، وأحلامه تتصادم مع واقعه، في ظل غياب واسع للوعي، ومال سياسي متدفق، وفساد مهول، وعوز وفقر عارم في المجتمع.
• وزائد على هذا، وجود نخب هشة، ومثقف سهل الاستقطاب، بل والتماهي مع من يدفع أي كان.. مثقف بدون مشروع، مستعد أن يبيع من أول عرض، أو يفعل أي شيء، طالما هذا الشيء يعيد عليه بمردود ما، كان ماليا أو وظيفيا أو مزايا أخرى..
• وفي مجملها تلك المزايا والعطايا والرشاوى، تهين المثقف وتستبيح ضميره وكينونته، وتحوله إلى منافق دجال، وتسقط دور الطليعي الذي كان ينبغي أن يضطلع به، وتحوله إلى خائن للقضايا الوطنية الكبرى التي كان يفترض أن ينهض بها، أو يدافع عنها، وعن الشعب الذي يفترض أن يكون طليعيا له.. والأكثر من هذا أنه يعمد بمثابرة إلى تزييف وعي الشعب، ويتوطأ مع مرتكبي الجرائم، والبشاعات بحق شعبه، إلى الحد الذي تجعله شريك فاعل فيها..
• ممارسة السياسية في بلاد مثل اليمن مكلف جدا، ولاسيما إن كان هذا الذي يمارسها حالم، وأحلامه تتصادم مع واقعه، في ظل غياب واسع للوعي، ومال سياسي متدفق، وفساد مهول، وعوز وفقر عارم في المجتمع.
• وزائد على هذا، وجود نخب هشة، ومثقف سهل الاستقطاب، بل والتماهي مع من يدفع أي كان.. مثقف بدون مشروع، مستعد أن يبيع من أول عرض، أو يفعل أي شيء، طالما هذا الشيء يعيد عليه بمردود ما، كان ماليا أو وظيفيا أو مزايا أخرى..
• وفي مجملها تلك المزايا والعطايا والرشاوى، تهين المثقف وتستبيح ضميره وكينونته، وتحوله إلى منافق دجال، وتسقط دور الطليعي الذي كان ينبغي أن يضطلع به، وتحوله إلى خائن للقضايا الوطنية الكبرى التي كان يفترض أن ينهض بها، أو يدافع عنها، وعن الشعب الذي يفترض أن يكون طليعيا له.. والأكثر من هذا أنه يعمد بمثابرة إلى تزييف وعي الشعب، ويتوطأ مع مرتكبي الجرائم، والبشاعات بحق شعبه، إلى الحد الذي تجعله شريك فاعل فيها..
. تتمنى أن تهبط إليها، وتطويها بقدميك خطوة خطوة.. كنت أحدث نفسي وأنا في سماءها: هنا الاهرامات والمباني الشاهقة والعظمة كلها.. هنا كان فرعون وكانت حضارة.. مصر الأبية، ومصر أم الدنيا، وشعب يقول "إلا مصر".. أين هي "بور سعيد" التي قرأت عن بطولة أبناءها وأنا في الصف الثالث أو الرابع ابتدائي؟! هنا مصر التي هزمت العدوان الثلاثي وأممت القناة، وانتصرت في حرب اكتوبر 1973 هنا كان للعروبة زعيم اسمه جمال عبد الناصر، وكانت هناك خيانات وخونة وأنذال صغار..
• تتداعى أفكاري من كبيرها إلى أصغر التفاصيل وأنا أحدث نفسي: هنا كل الكبار أحياء وأموات.. هنا نشأ الوطن المنفي سعد زغلول، والأمل الذي لا يتلاشى مصطفى كامل الذي علّمنا أن "لا يأس مع الحياة".. هناعميد الأدب العربي القامة طه حسين، والروائي الفذ نجيب محفوظ، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وفقيه القانون الموسوعة السنهوري.. هنا كوكب الشرق أم كلثوم.. هنا ثقافة وحضارة وعمالقة..
هنا اليسار المصري أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم والأبنودي والفنان الشيخ إمام.. هنا خفة الدم، والروح المصرية الجميلة.. مدرسة المشاغبين وأبطالها الكبار.. المسرحية التي لا تُمل مشاهدتها للمرة الألف.. هنا العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، والفنان فريد الأطرش.. وشادية وفريد شوقي واسماعيل ياسين ومدبولي والمليجي وفؤاد المهندس وأحمد زكي ونور الشريف..
• وهنا أقام أخي مدة في حدود نصف العام يدرس في سلاح الإشارة بعد تخرجه من الكلية الحربية في صنعاء في الستينات عندما كانت مصر تدعم النظام الجمهوري في اليمن.. مصر العروبة وزعيمها الذي أراد أن يلملم أشتاتنا المبعثرة وأوطاننا المفتتة ويستعيد احلامنا الكبار؛ فخذله الاوغاد، وتكالب عليه خونة الأوطان ومتعفني التاريخ والساسة المرتهنين..
• هنا تقيم الفنانة وردة الجزائرية، والممثلات يسرى وشمس البارودي وفاتن حمامة وسعاد حسني اللآتي لطالما هُمنا بعشقهن واطلقنا العنان لخيالنا الشارد منّا، عندما كنّا نعيش شبقنا الأول في سنوات الكبت بالمرحلة الثانوية.. هنا تهبط الآن الطائرة التي تقلّنا..
• تهبط الطائرة في مطار القاهرة الدولي، وبقينا بحدود الساعة ننتظر فيها، لأنه غير مسموح لنا بالخروج إلى صالة المطار أو حتى إلى "الترنزيت" بسب قطع العلاقات مع النظام المصري من قبل دول الصمود والتصدي، ومنها اليمن الديمقراطية التي قدمنا منها، وذلك بعد توقيع رئيسها أنور السادات معاهدة "كمب ديفيد".. وبعد ساعة انتظار في جوف الطائرة، جاءت الطائرة الأخرى التي ستنقلنا إلى مطار "كييف" في أوكرانيا، ثم إلى موسكو.. فأنتقلنا إليها..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
• تتداعى أفكاري من كبيرها إلى أصغر التفاصيل وأنا أحدث نفسي: هنا كل الكبار أحياء وأموات.. هنا نشأ الوطن المنفي سعد زغلول، والأمل الذي لا يتلاشى مصطفى كامل الذي علّمنا أن "لا يأس مع الحياة".. هناعميد الأدب العربي القامة طه حسين، والروائي الفذ نجيب محفوظ، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وفقيه القانون الموسوعة السنهوري.. هنا كوكب الشرق أم كلثوم.. هنا ثقافة وحضارة وعمالقة..
هنا اليسار المصري أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم والأبنودي والفنان الشيخ إمام.. هنا خفة الدم، والروح المصرية الجميلة.. مدرسة المشاغبين وأبطالها الكبار.. المسرحية التي لا تُمل مشاهدتها للمرة الألف.. هنا العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، والفنان فريد الأطرش.. وشادية وفريد شوقي واسماعيل ياسين ومدبولي والمليجي وفؤاد المهندس وأحمد زكي ونور الشريف..
• وهنا أقام أخي مدة في حدود نصف العام يدرس في سلاح الإشارة بعد تخرجه من الكلية الحربية في صنعاء في الستينات عندما كانت مصر تدعم النظام الجمهوري في اليمن.. مصر العروبة وزعيمها الذي أراد أن يلملم أشتاتنا المبعثرة وأوطاننا المفتتة ويستعيد احلامنا الكبار؛ فخذله الاوغاد، وتكالب عليه خونة الأوطان ومتعفني التاريخ والساسة المرتهنين..
• هنا تقيم الفنانة وردة الجزائرية، والممثلات يسرى وشمس البارودي وفاتن حمامة وسعاد حسني اللآتي لطالما هُمنا بعشقهن واطلقنا العنان لخيالنا الشارد منّا، عندما كنّا نعيش شبقنا الأول في سنوات الكبت بالمرحلة الثانوية.. هنا تهبط الآن الطائرة التي تقلّنا..
• تهبط الطائرة في مطار القاهرة الدولي، وبقينا بحدود الساعة ننتظر فيها، لأنه غير مسموح لنا بالخروج إلى صالة المطار أو حتى إلى "الترنزيت" بسب قطع العلاقات مع النظام المصري من قبل دول الصمود والتصدي، ومنها اليمن الديمقراطية التي قدمنا منها، وذلك بعد توقيع رئيسها أنور السادات معاهدة "كمب ديفيد".. وبعد ساعة انتظار في جوف الطائرة، جاءت الطائرة الأخرى التي ستنقلنا إلى مطار "كييف" في أوكرانيا، ثم إلى موسكو.. فأنتقلنا إليها..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
إحرازي للمرتبة الأولى..
احمد سيف حاشد
ما بذلته من صبر وجهد ومثابرة وتراكم تعليمي كان موعده مع النتيجة.. لابد للجهد المبذول أن يأتي ثماره وجناه.. كنت استفيد من أي إجازة أو فسحة أو وقت متاح.. ابدأ بالوجب ثم ما عده .. لم يفتني عدد من أعداد المجلة العسكرية السوفيتية.. أقرأ فيها أهم المواضيع الذي أراها مهمة، أو تفيد دراستي او ترسخ او تظيف الى معارفي العسكرية..
كنت أقرأ كلما تقع عليه عيني من كتب ذات علاقة، دون أن أهمل غيرها فيما يخص الثقافة العامة.. أذكر أن ملحمة "جلجامش" قرأتها وانا في الكلية العسكرية، وهي عبارة عن ملحمة أسطورية مشبعة بالإثارة والخيال، بالاضافة الى انها اقدم عمل أدبي للبشرية..
كانت المثابرة وقلة النوم يهدان قواي في بعض الأحيان.. أذكر في مادة "تدريب السيارات" وحالما كان استاذ المادة منهمكا بشرح قطعة من ماكينة سيارة وفيما كنا واقفون حوله ونستمع إليه، طحت أرضا من قوامي.. سقطت سقطة قوية، بدأ سقوطي وكأن نوبة مفاجئة داهمتني بغته وأنا واقف. وعندما أراد الطلاب يعرفون ماذا حدث! تفاجئوا بنهوضي السريع.. وقلت لهم: "ما فيش حاجة، فقط نمت وأنا واقف"؛ فازدادوا دهشة، وضحك الجميع..
كنت ملتزما في نوبات الحراسة الليلية رغم أنني لا أطيقها وأتململ منها، إلا إذا كانت حراسة إحدى القواعد الرادارية على ساحل عمران.. وفي أحدى نوبات الحراسة في الكلية، وفيما كنت قاعدا على الكرسي وبيدي البندقية، سقط رأسي وعنقي إلى الأسفل وهويت، فكادت نصلة السكين المثبتة في رأس البندقية أن تصيبني في عيني.. كانت درسا أيقضني طوال نوبات حراستي اللاحقة..
بإمكانك أن تخطأ ولكن لا تكرر الخطأ.. ابذل ما في الوسع من جهدك ومجهودك، وستجني الثمار بقدر ما هو مبذول.. ارفع سقف تمنياتك وابذل الجهد الموازي الذي تستحقه، وستجني ما تطيب له نفسك.. لا تترك ضعفك في مقام أن يُسلب تفوقك في مقام آخر.. بل حافظ على الجيد، وقوي مكمن قوتك لتعوض ما أهدرته نقطة ضعفك.. اسعى لأعلى درجة من التفوق وستتفوق.. لن يخذلك القدر.. روم أكثر ستجد نفسك في المقدمة..
كانت تعجني مواد علم النفس، والهندسة، وأسلحة التدمير الشامل، والتكتيك، والتدريب الناري، وغيرها من المواد، فيما كانت الرماية تتراوح بين الجيد والجيد جدا.. وفي نهاية امتحان العامين كنت قلقا أو غير واثق من قدرتي في أصابة الهدف في المنتصف، وعلى نحو يحقق لي درجة الامتياز..
إن للحظ عثرته، ولا يكون الحظ دوما حليف معك.. الحظ يبقى حظا.. أبسط هزة ليديك أو لكتفك يمكنه أن يفسد فرحتك.. أصبعك ربما تخذلك إن لم يكن ضغطها للزناد في لحظة الضبط.. عينك التي تسدد بها ربما تنحرف قدر شعرة عن الهدف؛ فتخونك بانحراف لا تتوقعه.. جهازك العصبي ربما هو الآخر يفسد عليك كل شيء.. ولكن كان لابد أن أكمل ما بدأت، وكانت النتيجة في الرماية جيد جدا، أو 4 من 5 فيما بقية المواد كانت امتياز؛ فتمت المفاضلة، وكنت الأول..
حصلت على المرتبة الأولى في الدفعة، ولمعت في ذهني عبارة “ من جد وجد ومن زرع حصد” وهي التي تعلمت فيها الخط ولطالما كررت كتابتها حالما كنت صغيرا في عهد تعليمي الاول.. واليوم حصدت ما أروم بعد كد عامين..
طعم التفوق لذيذا، ولاسيما عندما يأتيك بعد عناء وجهد ومشقة.. كنز تجده في عمق المكان أو آخر النفق الذي شققته بأظافرك وتجاوزت به يأسك.. كان جني الحصاد، وكان شعوري بالفرح عارما، وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول.
لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي أستلذ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح..
حضر حفل تخرج الدفعة وترقيتها إلى ملازم ثاني، الرئيس على ناصر محمد، وكان هذا تاريخ 1/9/1983 تمت المنادة باسمي وترتيبي الأول، وسلمني جائزة كانت عبارة عن إذاعة ومسجلة كبيرة "توشيبا" أدهشتني كثيراً وكان شكلها وحجمها يدعو للإنبهار، وتم تكريمي بزيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشر أيام، بمعية التسعة الأوائل الآخرين في الدفعة، ومنح كل منّا 300 دولار مصروف جيب لتلك الرحلة..
لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو شاهقا جدا!
المرة الاولى التي اشاهد فيها السِرك والمترو والساحة الحمراء و لينين المسجى في الكرملين وطابور طويل ينتظر فيه كل واحد دوره ليلقي عليه نظرة يتمني صاحبها أن تتمهل وتطول! والأهم أنني أول مرة أشاهد بأم عيني رجلاً يقبل حبيبته بالشارع..!
أول مرة أشاهد عالماً كل شيء فيه جديداً ومثيراً للدهشة بذلك القدر الذي يستحق مني الاستغراق والذهول!
***
يتبع.. الطيران إلى موسكو
بعض من تفاصيل حياتي
احمد سيف حاشد
ما بذلته من صبر وجهد ومثابرة وتراكم تعليمي كان موعده مع النتيجة.. لابد للجهد المبذول أن يأتي ثماره وجناه.. كنت استفيد من أي إجازة أو فسحة أو وقت متاح.. ابدأ بالوجب ثم ما عده .. لم يفتني عدد من أعداد المجلة العسكرية السوفيتية.. أقرأ فيها أهم المواضيع الذي أراها مهمة، أو تفيد دراستي او ترسخ او تظيف الى معارفي العسكرية..
كنت أقرأ كلما تقع عليه عيني من كتب ذات علاقة، دون أن أهمل غيرها فيما يخص الثقافة العامة.. أذكر أن ملحمة "جلجامش" قرأتها وانا في الكلية العسكرية، وهي عبارة عن ملحمة أسطورية مشبعة بالإثارة والخيال، بالاضافة الى انها اقدم عمل أدبي للبشرية..
كانت المثابرة وقلة النوم يهدان قواي في بعض الأحيان.. أذكر في مادة "تدريب السيارات" وحالما كان استاذ المادة منهمكا بشرح قطعة من ماكينة سيارة وفيما كنا واقفون حوله ونستمع إليه، طحت أرضا من قوامي.. سقطت سقطة قوية، بدأ سقوطي وكأن نوبة مفاجئة داهمتني بغته وأنا واقف. وعندما أراد الطلاب يعرفون ماذا حدث! تفاجئوا بنهوضي السريع.. وقلت لهم: "ما فيش حاجة، فقط نمت وأنا واقف"؛ فازدادوا دهشة، وضحك الجميع..
كنت ملتزما في نوبات الحراسة الليلية رغم أنني لا أطيقها وأتململ منها، إلا إذا كانت حراسة إحدى القواعد الرادارية على ساحل عمران.. وفي أحدى نوبات الحراسة في الكلية، وفيما كنت قاعدا على الكرسي وبيدي البندقية، سقط رأسي وعنقي إلى الأسفل وهويت، فكادت نصلة السكين المثبتة في رأس البندقية أن تصيبني في عيني.. كانت درسا أيقضني طوال نوبات حراستي اللاحقة..
بإمكانك أن تخطأ ولكن لا تكرر الخطأ.. ابذل ما في الوسع من جهدك ومجهودك، وستجني الثمار بقدر ما هو مبذول.. ارفع سقف تمنياتك وابذل الجهد الموازي الذي تستحقه، وستجني ما تطيب له نفسك.. لا تترك ضعفك في مقام أن يُسلب تفوقك في مقام آخر.. بل حافظ على الجيد، وقوي مكمن قوتك لتعوض ما أهدرته نقطة ضعفك.. اسعى لأعلى درجة من التفوق وستتفوق.. لن يخذلك القدر.. روم أكثر ستجد نفسك في المقدمة..
كانت تعجني مواد علم النفس، والهندسة، وأسلحة التدمير الشامل، والتكتيك، والتدريب الناري، وغيرها من المواد، فيما كانت الرماية تتراوح بين الجيد والجيد جدا.. وفي نهاية امتحان العامين كنت قلقا أو غير واثق من قدرتي في أصابة الهدف في المنتصف، وعلى نحو يحقق لي درجة الامتياز..
إن للحظ عثرته، ولا يكون الحظ دوما حليف معك.. الحظ يبقى حظا.. أبسط هزة ليديك أو لكتفك يمكنه أن يفسد فرحتك.. أصبعك ربما تخذلك إن لم يكن ضغطها للزناد في لحظة الضبط.. عينك التي تسدد بها ربما تنحرف قدر شعرة عن الهدف؛ فتخونك بانحراف لا تتوقعه.. جهازك العصبي ربما هو الآخر يفسد عليك كل شيء.. ولكن كان لابد أن أكمل ما بدأت، وكانت النتيجة في الرماية جيد جدا، أو 4 من 5 فيما بقية المواد كانت امتياز؛ فتمت المفاضلة، وكنت الأول..
حصلت على المرتبة الأولى في الدفعة، ولمعت في ذهني عبارة “ من جد وجد ومن زرع حصد” وهي التي تعلمت فيها الخط ولطالما كررت كتابتها حالما كنت صغيرا في عهد تعليمي الاول.. واليوم حصدت ما أروم بعد كد عامين..
طعم التفوق لذيذا، ولاسيما عندما يأتيك بعد عناء وجهد ومشقة.. كنز تجده في عمق المكان أو آخر النفق الذي شققته بأظافرك وتجاوزت به يأسك.. كان جني الحصاد، وكان شعوري بالفرح عارما، وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول.
لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي أستلذ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح..
حضر حفل تخرج الدفعة وترقيتها إلى ملازم ثاني، الرئيس على ناصر محمد، وكان هذا تاريخ 1/9/1983 تمت المنادة باسمي وترتيبي الأول، وسلمني جائزة كانت عبارة عن إذاعة ومسجلة كبيرة "توشيبا" أدهشتني كثيراً وكان شكلها وحجمها يدعو للإنبهار، وتم تكريمي بزيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشر أيام، بمعية التسعة الأوائل الآخرين في الدفعة، ومنح كل منّا 300 دولار مصروف جيب لتلك الرحلة..
لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو شاهقا جدا!
المرة الاولى التي اشاهد فيها السِرك والمترو والساحة الحمراء و لينين المسجى في الكرملين وطابور طويل ينتظر فيه كل واحد دوره ليلقي عليه نظرة يتمني صاحبها أن تتمهل وتطول! والأهم أنني أول مرة أشاهد بأم عيني رجلاً يقبل حبيبته بالشارع..!
أول مرة أشاهد عالماً كل شيء فيه جديداً ومثيراً للدهشة بذلك القدر الذي يستحق مني الاستغراق والذهول!
***
يتبع.. الطيران إلى موسكو
بعض من تفاصيل حياتي
احمد سيف حاشد:
• أشعر أحيانا أن حياتي تعبت مني، ولكنني أظل ممعنا في إثقالها بالمزيد.. أتعبت معي أسرتي، وأتعبت أيضا أخريين ممن يحبونني من الأقرباء والرفاق والأصدقاء المقربين.. ولكنه قدري، وربما هي أقدارهم أيضا..
• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
• أشعر أحيانا أن حياتي تعبت مني، ولكنني أظل ممعنا في إثقالها بالمزيد.. أتعبت معي أسرتي، وأتعبت أيضا أخريين ممن يحبونني من الأقرباء والرفاق والأصدقاء المقربين.. ولكنه قدري، وربما هي أقدارهم أيضا..
• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
احمد سيف حاشد:
• أشعر أحيانا أن حياتي تعبت مني، ولكنني أظل ممعنا في إثقالها بالمزيد.. أتعبت معي أسرتي، وأتعبت أيضا أخريين ممن يحبونني من الأقرباء والرفاق والأصدقاء المقربين.. ولكنه قدري، وربما هي أقدارهم أيضا..
• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
• أشعر أحيانا أن حياتي تعبت مني، ولكنني أظل ممعنا في إثقالها بالمزيد.. أتعبت معي أسرتي، وأتعبت أيضا أخريين ممن يحبونني من الأقرباء والرفاق والأصدقاء المقربين.. ولكنه قدري، وربما هي أقدارهم أيضا..
• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
(10)
في الطائرة.. وكان للعروبة زعيم
احمد سيف حاشد
• أول مرة أرى طائرة عن قرب، وأصعد إليها عبر سلّم لم أكن أعلم هل هو مستقل عنها أو هو بعض منها، قعدت على المقعد المخصص لي، ولحسن حظي كان مقعدي جوار النافذة.. الطائرة تتحرك ببطيء على أرض المطار، والتعليمات تصدر بربط الأحزمة.. المضيفة تمر للتأكد أن الركاب نفذوا التعليمات، فيما كنت قد تجاوزت تعثري في ربط الحزام.. تبدأ سرعة الطائرة على الأرض تزداد أكثر وأكثر، فيما كنت كطفل اتابع من النافذة بعض التفاصيل في محيطها.. ثم تقلع الطائرة من مطار عدن الدولي..
• وفيما الطائرة تصعد شعرت بالرهاب.. أحسست بفجوات كبيرة تتخلل صدري.. إنها فجوات أكبر من صدري، بل هي بسعة الفضاء الذي تخترقه الطائرة في صعودها.. قلبي يكاد ينخلع من مكانه.. حالة من التوتر تسودني..
• لا شيء يمسك بك الآن وأنت تصعد بالطائرة في الفضاء.. تشعر أن روحك صارت بقبضة القدر وحده.. تبادر إلى ذهني مصير السبعين كادر الذين سقطت بهم الطائرة في مطلع السبعينات في عدن، أو بالأحرى التي تم تفجيرها بفعل فاعل.. عمل إجرامي بكل المقاييس.. تخيلت مصيرهم المرعب، وهم يتطايرون في الهواء كشظايا قنبلة.. يا له من حظ سيء ومرعب..
• رغم رهابي الذي ينتشر في أوصالي ويستولي على كياني إلا أنني أحاول أجمع شجاعتي، فيما كان فضولي أقوى مني ومن رهابي.. صرت أحدث نفسي: يجب أن أقمع مخاوفي.. يجب أن أتغلب على رهابي.. أنا صرت اليوم ضابطا؛ فكيف لي أن أحث جنودي في المستقبل أن يكونوا شجعان أفذاذ؟!! كيف أدعوهم إلى عدم الخوف وكل هذا الهلع ينتابني؟؟! أليس جيفارا الذي أعجبت به هو القائل: الثائر أو القائد هو "آخر من ينام وأول من يستيقظ وآخر من يأكل، وأول من يموت" القائد يجب أن لا يتهيب الموت، فما البال والحال يتعلق بالرهاب..
• واحاول شحذ عزيمتي وتقوية ارادتي في مواجهة عقدة الرهاب التي تعبث داخلي، بالحديث مع نفسي: "أخي علي سيف حاشد كان مضلي يقفز من الطائرة، فكيف لي أن أكون دونه؟! أريد أن أكون شجاعا مثله.." ثم استحضرت ذاكرتي ما سمعت منه يوما، عن قصة ذلك الذي رفض القفز المظلي من الطائرة، إلا بركلة قوية من قدم الضابط المصري.." واستطرد في الحديث مع نفسي: "لا أريد أن أكون جبانا ولا أحتاج إلى الركل لأتعلم الشجاعة.. الجبان عار أكثر ممن تركله كل الأقدام.. يجب أن أكون شجاعا بما يكفي للتغلب على هذه العقدة .. يجب أن أسحق ما ينتابني من رهاب.. علي أن أطلق العنان لفضولي الذي يتحدّى، ويستحق التقدير.. يجب أن استمتع ما استطعت برؤية هذا العالم الخرافي، من هذا العلو الشاهق..
• ألصق صدغي وجانبا من وجهي في زجاج النافذة التي بجواري في الطائرة، وأنا أقول لنفسي: يجب أن أرى العالم السفلي من هذا العلو المرتفع.. أريد أن أعرف كيف يبدو ما في الأرض للعيان من السماء!! لابد أن أعرف كيف تبدو عدن من هذا الارتفاع!! أول مرة أرى مدينة عدن من هذا العلو !! شوارعها وأبنيتها وسفنها وبحرها وشواطئها وشكلها الجغرافي العام.. ثم تصغر عدن وتتلاشى خلفنا، والطائرة تلتهم المسافات، فيما أنا لا أشعر بتلك السرعة التي تقطعها الطائرة، إلا رويدا رويدا، عندما أجد ما كان في الأمام قد صار يتلاشى خلفنا..
• أول مرة أجد نفسي فوق السحاب.. أن تكون أعلى من السحاب، أو تكون السحاب دونك وأنت ترمقها من الأعلى تشعر بعجب ودهشة.. يشد انتباهك بما لا تألفه أو تراه من قبل.. يا له من سحر وأنت ترى السحب تحتك مفروشة كالقطن المبثوث بطبقات كثيفة، ومساحات واسعة وخرافية.. رؤية السحب من الأعلى يختلف عن مشاهدتها من الاسفل.. تشعر وكأنك تكتشف عالمك لأول مرة أو من جديد..
• انني الآن اكتشف الفرق.. أشطح في الخيال والتمني وتجاوز المعقول أحيانا.. تمنيت أن تكون السحب بالفعل مصنوعة من القطن تحفظنا إذا ما هوت الطائرة لأي سبب.. كان شكلها مغر وجاذب، ثم ما ألبث أن أقول: "يا له من منظر مخادع.." تبدو السحب كطبقات القطن الوثير، ولكن الحقيقة صاعقة.. ثم تتبادر إلى ذهني ما سمعته من خرافة في الصغر عن ذلك الجد الذي يحكون عنه، عندما أراد أن يركب الخنان أو يمتطيها، ثم وقع من علوه، وعلق بشجرة العريَب، ثم أختصر للناس محنته وتجربته في موجز القول: "لولا شجرة العريب.. أمّا ربّي فقد كان سيّب".
• رفض فضولي أن ينام أو يستريح، ولم يدركه كلل أو ملل، بل كان يزيد شغفا وأسئلة.. أتفرس من نافذة الطائرة، الجبال والوهاد والبحر والنيل وكل شيء تمر عليه الطائرة.. حب الاستطلاع والمعرفة يزيد في تحفيز فضولي، وكثير من الاسئلة التي يطرحها عقلي الشغوف للمعرفة، ولابأس من أن أشعر ببعض الخيبة عندما لا أجد من يسعفني بالإجابة عليها، وليس هناك مرشد في الأمر بإمكانه أن يجيبني الآن.. ومع ذلك وفيه العزاء، أن تلك الأسئلة تظل حية وترفض أن تموت، وتظل تطرق باب عقلي ووعيي تبحث عن جواب على الدوام، ولا يطفئ اشتعالها غير غيث المعرفة.
• وصلت بنا الطائرة سماء القاهرة.. رؤية القاهرة من الجو يمنحك شجن معرفي كبير.
في الطائرة.. وكان للعروبة زعيم
احمد سيف حاشد
• أول مرة أرى طائرة عن قرب، وأصعد إليها عبر سلّم لم أكن أعلم هل هو مستقل عنها أو هو بعض منها، قعدت على المقعد المخصص لي، ولحسن حظي كان مقعدي جوار النافذة.. الطائرة تتحرك ببطيء على أرض المطار، والتعليمات تصدر بربط الأحزمة.. المضيفة تمر للتأكد أن الركاب نفذوا التعليمات، فيما كنت قد تجاوزت تعثري في ربط الحزام.. تبدأ سرعة الطائرة على الأرض تزداد أكثر وأكثر، فيما كنت كطفل اتابع من النافذة بعض التفاصيل في محيطها.. ثم تقلع الطائرة من مطار عدن الدولي..
• وفيما الطائرة تصعد شعرت بالرهاب.. أحسست بفجوات كبيرة تتخلل صدري.. إنها فجوات أكبر من صدري، بل هي بسعة الفضاء الذي تخترقه الطائرة في صعودها.. قلبي يكاد ينخلع من مكانه.. حالة من التوتر تسودني..
• لا شيء يمسك بك الآن وأنت تصعد بالطائرة في الفضاء.. تشعر أن روحك صارت بقبضة القدر وحده.. تبادر إلى ذهني مصير السبعين كادر الذين سقطت بهم الطائرة في مطلع السبعينات في عدن، أو بالأحرى التي تم تفجيرها بفعل فاعل.. عمل إجرامي بكل المقاييس.. تخيلت مصيرهم المرعب، وهم يتطايرون في الهواء كشظايا قنبلة.. يا له من حظ سيء ومرعب..
• رغم رهابي الذي ينتشر في أوصالي ويستولي على كياني إلا أنني أحاول أجمع شجاعتي، فيما كان فضولي أقوى مني ومن رهابي.. صرت أحدث نفسي: يجب أن أقمع مخاوفي.. يجب أن أتغلب على رهابي.. أنا صرت اليوم ضابطا؛ فكيف لي أن أحث جنودي في المستقبل أن يكونوا شجعان أفذاذ؟!! كيف أدعوهم إلى عدم الخوف وكل هذا الهلع ينتابني؟؟! أليس جيفارا الذي أعجبت به هو القائل: الثائر أو القائد هو "آخر من ينام وأول من يستيقظ وآخر من يأكل، وأول من يموت" القائد يجب أن لا يتهيب الموت، فما البال والحال يتعلق بالرهاب..
• واحاول شحذ عزيمتي وتقوية ارادتي في مواجهة عقدة الرهاب التي تعبث داخلي، بالحديث مع نفسي: "أخي علي سيف حاشد كان مضلي يقفز من الطائرة، فكيف لي أن أكون دونه؟! أريد أن أكون شجاعا مثله.." ثم استحضرت ذاكرتي ما سمعت منه يوما، عن قصة ذلك الذي رفض القفز المظلي من الطائرة، إلا بركلة قوية من قدم الضابط المصري.." واستطرد في الحديث مع نفسي: "لا أريد أن أكون جبانا ولا أحتاج إلى الركل لأتعلم الشجاعة.. الجبان عار أكثر ممن تركله كل الأقدام.. يجب أن أكون شجاعا بما يكفي للتغلب على هذه العقدة .. يجب أن أسحق ما ينتابني من رهاب.. علي أن أطلق العنان لفضولي الذي يتحدّى، ويستحق التقدير.. يجب أن استمتع ما استطعت برؤية هذا العالم الخرافي، من هذا العلو الشاهق..
• ألصق صدغي وجانبا من وجهي في زجاج النافذة التي بجواري في الطائرة، وأنا أقول لنفسي: يجب أن أرى العالم السفلي من هذا العلو المرتفع.. أريد أن أعرف كيف يبدو ما في الأرض للعيان من السماء!! لابد أن أعرف كيف تبدو عدن من هذا الارتفاع!! أول مرة أرى مدينة عدن من هذا العلو !! شوارعها وأبنيتها وسفنها وبحرها وشواطئها وشكلها الجغرافي العام.. ثم تصغر عدن وتتلاشى خلفنا، والطائرة تلتهم المسافات، فيما أنا لا أشعر بتلك السرعة التي تقطعها الطائرة، إلا رويدا رويدا، عندما أجد ما كان في الأمام قد صار يتلاشى خلفنا..
• أول مرة أجد نفسي فوق السحاب.. أن تكون أعلى من السحاب، أو تكون السحاب دونك وأنت ترمقها من الأعلى تشعر بعجب ودهشة.. يشد انتباهك بما لا تألفه أو تراه من قبل.. يا له من سحر وأنت ترى السحب تحتك مفروشة كالقطن المبثوث بطبقات كثيفة، ومساحات واسعة وخرافية.. رؤية السحب من الأعلى يختلف عن مشاهدتها من الاسفل.. تشعر وكأنك تكتشف عالمك لأول مرة أو من جديد..
• انني الآن اكتشف الفرق.. أشطح في الخيال والتمني وتجاوز المعقول أحيانا.. تمنيت أن تكون السحب بالفعل مصنوعة من القطن تحفظنا إذا ما هوت الطائرة لأي سبب.. كان شكلها مغر وجاذب، ثم ما ألبث أن أقول: "يا له من منظر مخادع.." تبدو السحب كطبقات القطن الوثير، ولكن الحقيقة صاعقة.. ثم تتبادر إلى ذهني ما سمعته من خرافة في الصغر عن ذلك الجد الذي يحكون عنه، عندما أراد أن يركب الخنان أو يمتطيها، ثم وقع من علوه، وعلق بشجرة العريَب، ثم أختصر للناس محنته وتجربته في موجز القول: "لولا شجرة العريب.. أمّا ربّي فقد كان سيّب".
• رفض فضولي أن ينام أو يستريح، ولم يدركه كلل أو ملل، بل كان يزيد شغفا وأسئلة.. أتفرس من نافذة الطائرة، الجبال والوهاد والبحر والنيل وكل شيء تمر عليه الطائرة.. حب الاستطلاع والمعرفة يزيد في تحفيز فضولي، وكثير من الاسئلة التي يطرحها عقلي الشغوف للمعرفة، ولابأس من أن أشعر ببعض الخيبة عندما لا أجد من يسعفني بالإجابة عليها، وليس هناك مرشد في الأمر بإمكانه أن يجيبني الآن.. ومع ذلك وفيه العزاء، أن تلك الأسئلة تظل حية وترفض أن تموت، وتظل تطرق باب عقلي ووعيي تبحث عن جواب على الدوام، ولا يطفئ اشتعالها غير غيث المعرفة.
• وصلت بنا الطائرة سماء القاهرة.. رؤية القاهرة من الجو يمنحك شجن معرفي كبير.
• أشعر أحيانا أن حياتي تعبت مني، ولكنني أظل ممعنا في إثقالها بالمزيد.. أتعبت معي أسرتي، وأتعبت أيضا أخريين ممن يحبونني من الأقرباء والرفاق والأصدقاء المقربين.. ولكنه قدري، وربما هي أقدارهم أيضا..
• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
ماهي القصة؟؟
تصوروا ان العالم كله مستنفر من فيروس كرونا وفي صنعاء يتم وقف التعليم والقضاء واجتماعات الحكومة ومجلس الشورى فيما هيئة رئاسة مجلس النواب تدعو اعضاء المجلس للاجتماع يوم السبت القادم .. وليس هذا فقط بل ويجري حجز رواتب الاعضاء بخزانة المجلس من ايام ولا يتم صرفها حتى يتم حضورهم يوم السبت..
ياترى ما ما هي القصة؟؟؟
تصوروا ان العالم كله مستنفر من فيروس كرونا وفي صنعاء يتم وقف التعليم والقضاء واجتماعات الحكومة ومجلس الشورى فيما هيئة رئاسة مجلس النواب تدعو اعضاء المجلس للاجتماع يوم السبت القادم .. وليس هذا فقط بل ويجري حجز رواتب الاعضاء بخزانة المجلس من ايام ولا يتم صرفها حتى يتم حضورهم يوم السبت..
ياترى ما ما هي القصة؟؟؟
(11)
في الطائرة.. إلى موسكو
• أقلعت طائرة الخطوط الجوية الروسية "إيروفلوت" لتنقلنا من مطار القاهرة إلى موسكو.. أول دهشة أربكتني في الطائرة كانت في المضيفات الجميلات.. قوامهن الفارع، وبياضهن الأخاذ، ورشاقتهن الآسرة لخيالك الشارد.. عيونهن زجاجية بمسحة لون السماء، أو زرقة بحر عميق، وسحر في العيون يغلبك..
كريستال العيون والتماعاتها تغامزك، حتى تسلب لبابك، وتغوي عفتك، وكل التقوى والقداسة والرهبنة التي تسكنك.. لآليء تخطف منك النظر.. محوطات ببياض السحاب، وتعاويذ السماء التي تسحق لاءاتك، وتهزم حيلتك.. جفون نجاة، وحواجب تحتضن الكنوز، وأنوف قيصرية لا تقبل الا التحدّي والنزال، فيما أنت حاسر القوى، وعفتك عزلاء لا تقوى على مقاومة هذا الجمال الفارط حد العبث والجنون..
• كل شيء يخطف قلبك من بين الضلوع.. ينتزعك كالقدر.. ومهما كانت ثقتك بعفتك، فإن قواها تخور من أول نظرة، فتستسلم كل جيوشك، وتنهار أبراجك وقلاعك، وترفع راياتك البيضاء أمام هذا القدر الذي يتملكك.. جمال آسر يستحوذ على اهتمامك وفضولك، ويستولي عليك من ألفك إلى ياءك، فتحول عينيك من زجاج النافذة وما وراءها من عجب، إلى عيون تبرق بالفرح، وعجب ما بعده عجب، وتتوالى المعجزات وأنت تمعن في خلق أتقن الخالق صنعه..
• مررنا عبر أجواء تركيا، وطن المناضل ناظم حكمت، الكاتب المسرحي والروائي والشاعر العظيم الذي سُجن قرابة 17 عام، ونفي من وطنه حتى الموت بسبب نضاله وشعره الإنساني الجميل وانحيازه للفقراء والمقهورين من أبناء شعبه.. الشاعر الذي مات سجانوه، وعاشت أشعاره وقصائده وأناشيده.. ناظم حكمت الذي مات ولم يمت أمله، وهو القائل: "أجمل الأيام، تلك التي لم نعشها بعد.. أجمل الأطفال، هم الذين لم يولدوا بعد.. أجمل القصائد، تلك التي لم أكتبها بعد." ناظم حكمت الذي تمرد على بؤس منفاه، كما ثار وتمرد على ظلم وبؤس وطنه..
• في رحلتنا بدت لنا تركيا من الجو وكأنها عروسة استحمت لتوها.. صحو مع الضلال، وغمام ومطر، وتنوع وتفاصيل، وجمال تحب أن تمكث وتقيم فيه شتاء ومصيف.. لأول مرة أشاهد أرض مثلها، وكأنها قطعة من الجنة.. أسرتني تركيا من الجو.. يا لها من أرض عجيبة.. يا له من اخضرار باذخ بمساحات شاسعة.. طبيعة خلابة بجمال لا يخرمه عيب ولا عور، ولا يخونك فيها النظر.. طول رحلتنا في سماها نستمتع برؤيتها حتى هبط الغروب، وظننا إنها كل المدى..
• دخل الليل، ودخلنا حدود الاتحاد السوفيتي الذي كان.. الاتحاد السوفيتي الكبير والمهاب.. عبرنا أجواء البحر الأسود والظلام يحيط بالطائرة.. شاهدنا من بعيد أضواء مدينة "أوديسا" التابعة لأكرانيا، والواقعة على ساحل البحر الأسود والتي يفصلها عن "كييف" العاصمة أكثر من 400 كليو متر.
• وصلنا إلى "كييف" عاصمة أوكرانيا السوفيتية.. هبطت الطائرة في مطارها.. أحسست وأنا أخرج من الطائرة أنني أدخل "فريزر" ثلاجة.. كانت درجة الحرارة بحدود 7 درجات.. وهي درجة حرارة لم يسبق لي أن تواجدت فيها من قبل.. لقد قلت لنفسي: إن هذا ليس مطارا، بل هو "فريزر ثلاجة، وكان طقس أوكرانيا كله كذلك أو على نحو مقارب.. إنها المرة الأولى في حياتي التي أتواجد فيها على أرض بدرجة حرارة كتلك..
• بعد حدود الساعة استأنفنا رحلتنا صوب موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي.. وصلنا إلى مطارها.. كان في استقبالنا هناك عدد من كبار الضباط يرأسهم جنرال مكلف باستقبالنا ومرافقتنا خلال الزيارة، ومترجم قمة في النبل والتهذيب والرقي.. فاجئونا باستقبالنا كوفد محاطا بكثير من الحفاوة والعناية والتقدير..
• استقبلونا بعدد من السيارات الفخمة والخاصة بنقل الوفود، والتي كانت في انتظارنا.. كل اثنين في سيارة.. حتى إشارة المرور الحمراء تجاوزناها رغم صرامة تنفيذ القوانين، والالتزام بقواعد المرور هناك، ربما لأن الساعة كانت في وقت متأخر من الليل.. يا له من احتفاء واستقبال وتقدير كبير لم نألفه في أوطاننا، ولم نكن نتصوره حتى في الخيال..
***
يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي
في الطائرة.. إلى موسكو
• أقلعت طائرة الخطوط الجوية الروسية "إيروفلوت" لتنقلنا من مطار القاهرة إلى موسكو.. أول دهشة أربكتني في الطائرة كانت في المضيفات الجميلات.. قوامهن الفارع، وبياضهن الأخاذ، ورشاقتهن الآسرة لخيالك الشارد.. عيونهن زجاجية بمسحة لون السماء، أو زرقة بحر عميق، وسحر في العيون يغلبك..
كريستال العيون والتماعاتها تغامزك، حتى تسلب لبابك، وتغوي عفتك، وكل التقوى والقداسة والرهبنة التي تسكنك.. لآليء تخطف منك النظر.. محوطات ببياض السحاب، وتعاويذ السماء التي تسحق لاءاتك، وتهزم حيلتك.. جفون نجاة، وحواجب تحتضن الكنوز، وأنوف قيصرية لا تقبل الا التحدّي والنزال، فيما أنت حاسر القوى، وعفتك عزلاء لا تقوى على مقاومة هذا الجمال الفارط حد العبث والجنون..
• كل شيء يخطف قلبك من بين الضلوع.. ينتزعك كالقدر.. ومهما كانت ثقتك بعفتك، فإن قواها تخور من أول نظرة، فتستسلم كل جيوشك، وتنهار أبراجك وقلاعك، وترفع راياتك البيضاء أمام هذا القدر الذي يتملكك.. جمال آسر يستحوذ على اهتمامك وفضولك، ويستولي عليك من ألفك إلى ياءك، فتحول عينيك من زجاج النافذة وما وراءها من عجب، إلى عيون تبرق بالفرح، وعجب ما بعده عجب، وتتوالى المعجزات وأنت تمعن في خلق أتقن الخالق صنعه..
• مررنا عبر أجواء تركيا، وطن المناضل ناظم حكمت، الكاتب المسرحي والروائي والشاعر العظيم الذي سُجن قرابة 17 عام، ونفي من وطنه حتى الموت بسبب نضاله وشعره الإنساني الجميل وانحيازه للفقراء والمقهورين من أبناء شعبه.. الشاعر الذي مات سجانوه، وعاشت أشعاره وقصائده وأناشيده.. ناظم حكمت الذي مات ولم يمت أمله، وهو القائل: "أجمل الأيام، تلك التي لم نعشها بعد.. أجمل الأطفال، هم الذين لم يولدوا بعد.. أجمل القصائد، تلك التي لم أكتبها بعد." ناظم حكمت الذي تمرد على بؤس منفاه، كما ثار وتمرد على ظلم وبؤس وطنه..
• في رحلتنا بدت لنا تركيا من الجو وكأنها عروسة استحمت لتوها.. صحو مع الضلال، وغمام ومطر، وتنوع وتفاصيل، وجمال تحب أن تمكث وتقيم فيه شتاء ومصيف.. لأول مرة أشاهد أرض مثلها، وكأنها قطعة من الجنة.. أسرتني تركيا من الجو.. يا لها من أرض عجيبة.. يا له من اخضرار باذخ بمساحات شاسعة.. طبيعة خلابة بجمال لا يخرمه عيب ولا عور، ولا يخونك فيها النظر.. طول رحلتنا في سماها نستمتع برؤيتها حتى هبط الغروب، وظننا إنها كل المدى..
• دخل الليل، ودخلنا حدود الاتحاد السوفيتي الذي كان.. الاتحاد السوفيتي الكبير والمهاب.. عبرنا أجواء البحر الأسود والظلام يحيط بالطائرة.. شاهدنا من بعيد أضواء مدينة "أوديسا" التابعة لأكرانيا، والواقعة على ساحل البحر الأسود والتي يفصلها عن "كييف" العاصمة أكثر من 400 كليو متر.
• وصلنا إلى "كييف" عاصمة أوكرانيا السوفيتية.. هبطت الطائرة في مطارها.. أحسست وأنا أخرج من الطائرة أنني أدخل "فريزر" ثلاجة.. كانت درجة الحرارة بحدود 7 درجات.. وهي درجة حرارة لم يسبق لي أن تواجدت فيها من قبل.. لقد قلت لنفسي: إن هذا ليس مطارا، بل هو "فريزر ثلاجة، وكان طقس أوكرانيا كله كذلك أو على نحو مقارب.. إنها المرة الأولى في حياتي التي أتواجد فيها على أرض بدرجة حرارة كتلك..
• بعد حدود الساعة استأنفنا رحلتنا صوب موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي.. وصلنا إلى مطارها.. كان في استقبالنا هناك عدد من كبار الضباط يرأسهم جنرال مكلف باستقبالنا ومرافقتنا خلال الزيارة، ومترجم قمة في النبل والتهذيب والرقي.. فاجئونا باستقبالنا كوفد محاطا بكثير من الحفاوة والعناية والتقدير..
• استقبلونا بعدد من السيارات الفخمة والخاصة بنقل الوفود، والتي كانت في انتظارنا.. كل اثنين في سيارة.. حتى إشارة المرور الحمراء تجاوزناها رغم صرامة تنفيذ القوانين، والالتزام بقواعد المرور هناك، ربما لأن الساعة كانت في وقت متأخر من الليل.. يا له من احتفاء واستقبال وتقدير كبير لم نألفه في أوطاننا، ولم نكن نتصوره حتى في الخيال..
***
يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي
لابتسامة ترسمها الشفاه: من أي دولة أنتم؟!
فأجبناها: من اليمن..
- قالت أخرى: أنتم في مقتبل العمر، وتحملون رتبا كبيرة..
أستغربنا أكثر؛ ثم قلنا: هذه النجمة لدينا هي رتبة ملازم ثاني تمنح بعد التخرج من الكلية العسكرية..
وقبل أن يترجم لهن المترجم جوابنا، كان فضول الفتاة الثالثة يسأل:
- هل أنتم أبناء أمراء؟!
فتبدت حيرتنا أكثر واستعجبنا من السؤال! فيما جميعهن يضحكن، فتولى المترجم الايضاح.. وعرفنا السبب..
النجمة التي بحجم النجمة التي في رتبنا ونحملها على أكتافنا، هي لديهم وفي جيشهم رتبة رائد.. تلاشى ضحكهن، فيما انطلقت قهقهتنا بعد أن عرفنا السبب، وتبددت حيرتنا التي كادت تخنقنا..
• أما اليوم وأنا أكتب هذا؛ فقد صار ضحكنا كالبكاء.. تندرنا بعد الوحدة من واقع ساد، حتى أسمينا اليمن "بلاد المليون عقيد" سخرنا وتهكمنا من كثرة منح الرتب كهدايا وهبات، وعطايا مناصرة ومولاة، وشراء للذمم، خارج القانون والنظام.. أما اليوم فصارت الرتب العسكرية توزع كالفاكهة.. كل سلطات الأمر الواقع في اليمن صارت تتنافس في منحها على أتباعها وأنصارها.. تستطيع أن تجد عدد غير قليل من لم يكملوا المرحلة الإعدادية أو الثانوية، قد صاروا يحملوا رتب عميد ولواء.. وتستطيع أيضا أن تجد عددا لا يقل عن هذا ممن لم يبلغوا سن البلوغ قد صار يحملوا رتبة مقدم وعقيد.. "يابلاشاه يا حراجاه" والأكثر سوءا أن تجد عند بعضهم بين الترقية والأخرى أيام أو أسابيع أو شهور..
• من حق العالم اليوم في هذا العهد المملشن.. عهد الغلبة وأمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع، وتحلل ما بقي لنا من دولة، أن يضحك علينا ألف سنة، وهو يرى الجهل في اليمن يحمل رتبا عسكرية كبيرة ومتوسطة، ويشاهد أطفالنا الغر، يُمنحون ويحملون الرتب العسكرية الكبيرة والثقيلة..
• وقفنا على الشعلة، وضريح الجندي المجهول، ومشاهدتنا للحراسات وتغييرها الذي يجري على رأس كل ساعة.. خلصنا إلى أن كل شيء هنا يتم بدقة متناهية.. إنها الصورة الرمزية ذات الدلالة والتي تعكس صورة الدولة بمراسيمها المنضبطة والعالية الدقة.. ترى الجندي في وقفته وثباته، وكأنه مصنوعا من الشمع، لا يتحرك له رمشا ولا جفن خلال ساعة وقوفه.. تجد فضولك يتحفز إلى لمسه للتحقق عمّا إذا كان الذي أمامك جنديا حقيقيا أم مصنوعا من مادة أخرى، ولكن عقلك يمنعك من أن تفعل.
زرنا المتحف وشاهدنا تماثيل ومجسمات متنوعة، ومنها مجسم نصفي صغير للينين قالت زوجته "كربسكايا" إنه أكثر ضبطا ومطابقة للينين كما تراه وكأنه هو بالفعل.. إليانوف أيلتش لينين الذي كنت أحد معجبيه، ولكن بمأخذ، ولا أخلو من تحفظات.. ولا قداسة لأحد..
انتظرنا دورنا في طابور طويل حتى أطلينا على لينين المسجى في صندوق من زجاج وهو يرتدي ملابسه الأنيقة.. تمر وهو على بعد عدة أمتار منك، وأنت تحاول أن تدقق في تفاصيله، لا تجد ما يخرم شكله وهيئته قيد شعرة..
بعد يوم حافل بألف ليلة وليلة عدنا إلى الفندق..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
فأجبناها: من اليمن..
- قالت أخرى: أنتم في مقتبل العمر، وتحملون رتبا كبيرة..
أستغربنا أكثر؛ ثم قلنا: هذه النجمة لدينا هي رتبة ملازم ثاني تمنح بعد التخرج من الكلية العسكرية..
وقبل أن يترجم لهن المترجم جوابنا، كان فضول الفتاة الثالثة يسأل:
- هل أنتم أبناء أمراء؟!
فتبدت حيرتنا أكثر واستعجبنا من السؤال! فيما جميعهن يضحكن، فتولى المترجم الايضاح.. وعرفنا السبب..
النجمة التي بحجم النجمة التي في رتبنا ونحملها على أكتافنا، هي لديهم وفي جيشهم رتبة رائد.. تلاشى ضحكهن، فيما انطلقت قهقهتنا بعد أن عرفنا السبب، وتبددت حيرتنا التي كادت تخنقنا..
• أما اليوم وأنا أكتب هذا؛ فقد صار ضحكنا كالبكاء.. تندرنا بعد الوحدة من واقع ساد، حتى أسمينا اليمن "بلاد المليون عقيد" سخرنا وتهكمنا من كثرة منح الرتب كهدايا وهبات، وعطايا مناصرة ومولاة، وشراء للذمم، خارج القانون والنظام.. أما اليوم فصارت الرتب العسكرية توزع كالفاكهة.. كل سلطات الأمر الواقع في اليمن صارت تتنافس في منحها على أتباعها وأنصارها.. تستطيع أن تجد عدد غير قليل من لم يكملوا المرحلة الإعدادية أو الثانوية، قد صاروا يحملوا رتب عميد ولواء.. وتستطيع أيضا أن تجد عددا لا يقل عن هذا ممن لم يبلغوا سن البلوغ قد صار يحملوا رتبة مقدم وعقيد.. "يابلاشاه يا حراجاه" والأكثر سوءا أن تجد عند بعضهم بين الترقية والأخرى أيام أو أسابيع أو شهور..
• من حق العالم اليوم في هذا العهد المملشن.. عهد الغلبة وأمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع، وتحلل ما بقي لنا من دولة، أن يضحك علينا ألف سنة، وهو يرى الجهل في اليمن يحمل رتبا عسكرية كبيرة ومتوسطة، ويشاهد أطفالنا الغر، يُمنحون ويحملون الرتب العسكرية الكبيرة والثقيلة..
• وقفنا على الشعلة، وضريح الجندي المجهول، ومشاهدتنا للحراسات وتغييرها الذي يجري على رأس كل ساعة.. خلصنا إلى أن كل شيء هنا يتم بدقة متناهية.. إنها الصورة الرمزية ذات الدلالة والتي تعكس صورة الدولة بمراسيمها المنضبطة والعالية الدقة.. ترى الجندي في وقفته وثباته، وكأنه مصنوعا من الشمع، لا يتحرك له رمشا ولا جفن خلال ساعة وقوفه.. تجد فضولك يتحفز إلى لمسه للتحقق عمّا إذا كان الذي أمامك جنديا حقيقيا أم مصنوعا من مادة أخرى، ولكن عقلك يمنعك من أن تفعل.
زرنا المتحف وشاهدنا تماثيل ومجسمات متنوعة، ومنها مجسم نصفي صغير للينين قالت زوجته "كربسكايا" إنه أكثر ضبطا ومطابقة للينين كما تراه وكأنه هو بالفعل.. إليانوف أيلتش لينين الذي كنت أحد معجبيه، ولكن بمأخذ، ولا أخلو من تحفظات.. ولا قداسة لأحد..
انتظرنا دورنا في طابور طويل حتى أطلينا على لينين المسجى في صندوق من زجاج وهو يرتدي ملابسه الأنيقة.. تمر وهو على بعد عدة أمتار منك، وأنت تحاول أن تدقق في تفاصيله، لا تجد ما يخرم شكله وهيئته قيد شعرة..
بعد يوم حافل بألف ليلة وليلة عدنا إلى الفندق..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
إلى زعيم جماعة أنصار الله عبد الملك الحوثي
للعلم والإحاطة والسؤال..
إنه أسوأ نائب عام عرفته في حياتي هو هذا الذي في عهدكم.
إنه النائب العام نبيل ناصر العزاني..
السؤال: لماذا تولوه؟!!
والسؤال الأكبر: لماذا تبقوه؟!!
للعلم والإحاطة والسؤال..
إنه أسوأ نائب عام عرفته في حياتي هو هذا الذي في عهدكم.
إنه النائب العام نبيل ناصر العزاني..
السؤال: لماذا تولوه؟!!
والسؤال الأكبر: لماذا تبقوه؟!!
(12)
في الساحة الحمراء.. قلب موسكو
• وسط الساحة الحمراء في قلب موسكو، تجد نفسك محاطا بعالم خرافي ساحر، يحكي العجب الذي فاق خيالك المتواضع رغم صدقيته.. خيالك الذي لم يكن بوسعه أن يتخيل المشهد الذي تقف عليه الآن بقدميك وتراه بأم عينيك، وأنت متردد في تصديقه، ومستغرق في الذهول، رغم أنه واقع وأكيد..
• بديت أمام نفسي كمن فقد عقله تحت تأثير الصدمة، ولم يعد يفرّق بين واقع اللحظة التي يعيشها واللاوجود.. أسأل نفسي وأنا فاغر فاه، ومدهوشا مما أرى: هل يا ترى أنا موجود، أم غير موجود؟! هل هذا العالم الذي أمامي الآن، ويحيط بي من كل اتجاه، بالفعل واقع ملموس كما أراه ويتبدّى لي الآن، أم هو محض وهم لا أساس له من الصحة، ولا وجود له؟!! إنه مشهد لم أكن أتخيله من قبل، ولازلت مترددا في تصديقه..
• إنه عالم آخر يختلف حد الصدمة عن ذلك العالم الذي جئت منه أو اعتدت عليه.. أن تتخيل نفسك فجأة تنتقل من قريتك النائية البعيدة، التي لازالت تطلب الغيث من صراف المطر، مقابل أن تدفع المال العزيز الذي تحصل عليه بالكد والكديد، وبين حضارة صارت تنزل المطر في الوقت والمكان الذي تريد.. إنها الصدمة الحضارية، والمفارقة الشاسعة بين قريتك الموجودة في أقاصي الأرض المنسية، وقلب موسكو عاصمة الدولة العظمى الثانية.. إنها مفارقة بحجم الدهشة كلها..
• وأنا أجول في الساحة الحمراء مشدوها، أنقل نظري في زحمة ما يبهر ويسحر كنت أحدث نفسي : بوسعي أن أتخيل الإسراء والمعراج، أو بساط الريح، أو حكايات ألف ليلة وليلة، أو مردة الجن، وقد نقلوني من عالمي المعتاد والبسيط، إلى هذا العالم الباذخ بالعجب..
• بإمكاني أن أتخيل أنني فركت الخاتم أو مصباح علاء الدين؛ وأستدعيت ذلك المارد، الذي خرج عملاقا، وعلى عنقه القوي، وزنديه المفتولتين والمشدودتين بالقوة، تمائم وقلائد وأشياء أخرى.. بوسعي أن أتخيله أيضا أصلعا إلا من خصلة كثيفة من الشعر في قمة رأسه، مربوطة ومسدوله على ظهره العريض..
• بوسعي أن أتخيل أيضا المارد قد فرد ذراعيه الواسعتين، وطأطئ رأسه، وهو يقول كعبد مطيع لي: "شبيك لبيك.. نحن بين يديك.. اطلب وأتمنى".. فأتمنى أن يذهب بي إلى هذا العالم الخرافي الساحر الذي أقف عليه الآن بأقدامي، وأحملق فيه بعيني الواسعتين.. هكذا صرت أتخيل ما حدث، وما صرت عليه الأن.. من فرط الصدمة الفارقة بدا لي الواقع خيال.. هكذا تنقلب الأشياء أحيانا عندما لا نصدقها، من فرط الدهشة والذهول..
• هنا الضخامة والفخامة التي تجعلك تشعر وكأنك تعيش حياة أسطورية حافلة بالعجب.. كل شيء هنا يسحر عيونك، ويختطف منك ذاكرتك، ثم يعيدها إليك، وقد خزن فيها كل مشاهداتك وذهولك، وما رأيته من العجب، الذي لن تنساه، ولن تغادره ذاكرتك حتى تُفنى أو تموت..
• القبب الملونة، والهندسة المعمارية، والجداران العالية والمهابة، والأبراج بكل مسمياتها، والكنيسة ذات القبّة التساعية، والكرملين، وضريح لينين، وضريح الجندي المجهول، والشعلة التي لا تنطفي، والمتجر الرئيسي للمدينة، والأرض المرصوفة بالحجر الأسود العريق، والقلاع العتيده، والقصور الملكية، ومتحف الدولة، وكل ما يقول: من هنا مر التاريخ.
• الساحة الحمراء قلب العاصمة النابض والأكثر شهرة.. ملتقى ثقافات شعوب العالم.. كرنفالات واستعراضات وحب وأعراس وأجواء احتفالية خاصة.. وحجيج إلى ضريح لينين من كل بلدان وبقاع العالم..
• هنا مقر الكرملين، والمقر الرسمي للحكومة السوفييتية.. هنا عاصمة دولة عظمى بيدها مصير العالم، وتتقاسم نفوذه، ولديها ما يفنيه عشر مرات.. هنا يمكن أن تتفهم ما قاله الطالب السوداني المنتحر من الطابق العاشر في موسكو وما كتبه على قنينة "الفوتكا" الشهيرة قبل انتحاره: "صافية كالدموع.. قوية كالسلطة السوفيتية" ولم ينتقص من قوة تلك السلطة وهيبتها، إلا السوق السوداء والاقتصاد الغير معافى، وهو ما كشفه لنا صرف الدولار.. حيث الدولار بسعر بنك الدولة 75 كبيك، فيما صرفنا الدولار في السوق السوداء، من خلال صديق، بثلاثة روبل إن لم تخنّي الذاكرة.. لقد أحسست يومها أن تلك السلطة ليست بتلك القوة، وأن اقتصادها يعاني الكثير، والصحة ليست على ما يرام.
• أتينا إلي الساحة الحمراء ببزاتنا العسكرية الخضراء التي تبدو مراسميه وربما لافتة للنظر.. كثير من نظرات المارين والواقفين في الساحة كانت تصوّب علينا.. اعتقدنا في أول الأمر أن زيّنا الفخيم هو السبب اللافت لتلك النظرات.. ظننا أن تميزه اللافت هو ما يشد النظرات ويلفت إليه الانتباه.. شاهدنا بعضهم ينظرون إلينا، ثم يتحدثون بشأننا ولا نعلم ماذا كانوا يقولون!! ولكن ابتسامتهم لبعض كان توحي أن هناك أمر فينا يثير ابتساماتهم، وربما ضحكاتهم في بعض الأحيان!! صارت الحيرة تلبسنا والاستغراب يستفز فضولنا..
• أخذنا موقعنا في الطابور الطويل المؤدي إلى ضريح لينين.. عدد من الفتيات في الطابور على مقربة منّا يتهامسن وهن ينظرن إلينا، ثم يقهقهن، فيما كان يستغرقنا شعور الاستغراب..
- سألتنا أحداهن وا
في الساحة الحمراء.. قلب موسكو
• وسط الساحة الحمراء في قلب موسكو، تجد نفسك محاطا بعالم خرافي ساحر، يحكي العجب الذي فاق خيالك المتواضع رغم صدقيته.. خيالك الذي لم يكن بوسعه أن يتخيل المشهد الذي تقف عليه الآن بقدميك وتراه بأم عينيك، وأنت متردد في تصديقه، ومستغرق في الذهول، رغم أنه واقع وأكيد..
• بديت أمام نفسي كمن فقد عقله تحت تأثير الصدمة، ولم يعد يفرّق بين واقع اللحظة التي يعيشها واللاوجود.. أسأل نفسي وأنا فاغر فاه، ومدهوشا مما أرى: هل يا ترى أنا موجود، أم غير موجود؟! هل هذا العالم الذي أمامي الآن، ويحيط بي من كل اتجاه، بالفعل واقع ملموس كما أراه ويتبدّى لي الآن، أم هو محض وهم لا أساس له من الصحة، ولا وجود له؟!! إنه مشهد لم أكن أتخيله من قبل، ولازلت مترددا في تصديقه..
• إنه عالم آخر يختلف حد الصدمة عن ذلك العالم الذي جئت منه أو اعتدت عليه.. أن تتخيل نفسك فجأة تنتقل من قريتك النائية البعيدة، التي لازالت تطلب الغيث من صراف المطر، مقابل أن تدفع المال العزيز الذي تحصل عليه بالكد والكديد، وبين حضارة صارت تنزل المطر في الوقت والمكان الذي تريد.. إنها الصدمة الحضارية، والمفارقة الشاسعة بين قريتك الموجودة في أقاصي الأرض المنسية، وقلب موسكو عاصمة الدولة العظمى الثانية.. إنها مفارقة بحجم الدهشة كلها..
• وأنا أجول في الساحة الحمراء مشدوها، أنقل نظري في زحمة ما يبهر ويسحر كنت أحدث نفسي : بوسعي أن أتخيل الإسراء والمعراج، أو بساط الريح، أو حكايات ألف ليلة وليلة، أو مردة الجن، وقد نقلوني من عالمي المعتاد والبسيط، إلى هذا العالم الباذخ بالعجب..
• بإمكاني أن أتخيل أنني فركت الخاتم أو مصباح علاء الدين؛ وأستدعيت ذلك المارد، الذي خرج عملاقا، وعلى عنقه القوي، وزنديه المفتولتين والمشدودتين بالقوة، تمائم وقلائد وأشياء أخرى.. بوسعي أن أتخيله أيضا أصلعا إلا من خصلة كثيفة من الشعر في قمة رأسه، مربوطة ومسدوله على ظهره العريض..
• بوسعي أن أتخيل أيضا المارد قد فرد ذراعيه الواسعتين، وطأطئ رأسه، وهو يقول كعبد مطيع لي: "شبيك لبيك.. نحن بين يديك.. اطلب وأتمنى".. فأتمنى أن يذهب بي إلى هذا العالم الخرافي الساحر الذي أقف عليه الآن بأقدامي، وأحملق فيه بعيني الواسعتين.. هكذا صرت أتخيل ما حدث، وما صرت عليه الأن.. من فرط الصدمة الفارقة بدا لي الواقع خيال.. هكذا تنقلب الأشياء أحيانا عندما لا نصدقها، من فرط الدهشة والذهول..
• هنا الضخامة والفخامة التي تجعلك تشعر وكأنك تعيش حياة أسطورية حافلة بالعجب.. كل شيء هنا يسحر عيونك، ويختطف منك ذاكرتك، ثم يعيدها إليك، وقد خزن فيها كل مشاهداتك وذهولك، وما رأيته من العجب، الذي لن تنساه، ولن تغادره ذاكرتك حتى تُفنى أو تموت..
• القبب الملونة، والهندسة المعمارية، والجداران العالية والمهابة، والأبراج بكل مسمياتها، والكنيسة ذات القبّة التساعية، والكرملين، وضريح لينين، وضريح الجندي المجهول، والشعلة التي لا تنطفي، والمتجر الرئيسي للمدينة، والأرض المرصوفة بالحجر الأسود العريق، والقلاع العتيده، والقصور الملكية، ومتحف الدولة، وكل ما يقول: من هنا مر التاريخ.
• الساحة الحمراء قلب العاصمة النابض والأكثر شهرة.. ملتقى ثقافات شعوب العالم.. كرنفالات واستعراضات وحب وأعراس وأجواء احتفالية خاصة.. وحجيج إلى ضريح لينين من كل بلدان وبقاع العالم..
• هنا مقر الكرملين، والمقر الرسمي للحكومة السوفييتية.. هنا عاصمة دولة عظمى بيدها مصير العالم، وتتقاسم نفوذه، ولديها ما يفنيه عشر مرات.. هنا يمكن أن تتفهم ما قاله الطالب السوداني المنتحر من الطابق العاشر في موسكو وما كتبه على قنينة "الفوتكا" الشهيرة قبل انتحاره: "صافية كالدموع.. قوية كالسلطة السوفيتية" ولم ينتقص من قوة تلك السلطة وهيبتها، إلا السوق السوداء والاقتصاد الغير معافى، وهو ما كشفه لنا صرف الدولار.. حيث الدولار بسعر بنك الدولة 75 كبيك، فيما صرفنا الدولار في السوق السوداء، من خلال صديق، بثلاثة روبل إن لم تخنّي الذاكرة.. لقد أحسست يومها أن تلك السلطة ليست بتلك القوة، وأن اقتصادها يعاني الكثير، والصحة ليست على ما يرام.
• أتينا إلي الساحة الحمراء ببزاتنا العسكرية الخضراء التي تبدو مراسميه وربما لافتة للنظر.. كثير من نظرات المارين والواقفين في الساحة كانت تصوّب علينا.. اعتقدنا في أول الأمر أن زيّنا الفخيم هو السبب اللافت لتلك النظرات.. ظننا أن تميزه اللافت هو ما يشد النظرات ويلفت إليه الانتباه.. شاهدنا بعضهم ينظرون إلينا، ثم يتحدثون بشأننا ولا نعلم ماذا كانوا يقولون!! ولكن ابتسامتهم لبعض كان توحي أن هناك أمر فينا يثير ابتساماتهم، وربما ضحكاتهم في بعض الأحيان!! صارت الحيرة تلبسنا والاستغراب يستفز فضولنا..
• أخذنا موقعنا في الطابور الطويل المؤدي إلى ضريح لينين.. عدد من الفتيات في الطابور على مقربة منّا يتهامسن وهن ينظرن إلينا، ثم يقهقهن، فيما كان يستغرقنا شعور الاستغراب..
- سألتنا أحداهن وا
عدد التوجيهات لرئيس النيابة 45 كلها قضت بسرعة التصرف في القضية رقمها 36 لسنة 2018 م
محمد يغنم:
توجيهات النائب العام لا تهش ولاتنش ويتم تجاهلها من الجميع
وهذا مثال على ذلك:
توجيه من قبله موجه لمحامي عام نيابات الاموال العامة ومنه لرئيس نيابة الاموال العامة احمد احمد ابو منصر لتصويب اجراءات النيابة المخالفة للقانون وهي قضية منظورة لدى النيابة منذ عامين كاملين... وللعلم فان عدد التوجيهات لرئيس النيابة 45 كلها قضت بسرعة التصرف في القضية رقمها 36 لسنة 2018 م
ومع ذلك قام رئيس النيابة بطرد صاحب القضية من مكتبه صارخا في وجهه اطلع برع.
لا لشي الا انه جاء بتوجيهات النائب العام ومحامي عام نيابات الاموال العامة.
..
فكيف نائب عام لا يتم احترام توجيهاته ممن هم ادنا منه منصبا
الاصل فيها ان يتم احالة رئيس النيابة ووكيلها والعضو الى التحقيق ومن ثم مخاكمتهم وفقا لنص المادة 165 من قانون الجرائم والعقوبات
محمد يغنم:
توجيهات النائب العام لا تهش ولاتنش ويتم تجاهلها من الجميع
وهذا مثال على ذلك:
توجيه من قبله موجه لمحامي عام نيابات الاموال العامة ومنه لرئيس نيابة الاموال العامة احمد احمد ابو منصر لتصويب اجراءات النيابة المخالفة للقانون وهي قضية منظورة لدى النيابة منذ عامين كاملين... وللعلم فان عدد التوجيهات لرئيس النيابة 45 كلها قضت بسرعة التصرف في القضية رقمها 36 لسنة 2018 م
ومع ذلك قام رئيس النيابة بطرد صاحب القضية من مكتبه صارخا في وجهه اطلع برع.
لا لشي الا انه جاء بتوجيهات النائب العام ومحامي عام نيابات الاموال العامة.
..
فكيف نائب عام لا يتم احترام توجيهاته ممن هم ادنا منه منصبا
الاصل فيها ان يتم احالة رئيس النيابة ووكيلها والعضو الى التحقيق ومن ثم مخاكمتهم وفقا لنص المادة 165 من قانون الجرائم والعقوبات
أصداء (11)
محمد اللوزي:
شدني كثيرا هذا التألق هذه الروعة والقدرة على رسم مايختلج في النفس ويجيش بها من اعتمالات بين جمال باذخ وقيم تحاصر القلب من أن ينفطر دهشة. تصيغ عالما يأخذنا بروعته لوحات في غاية التفنن وصور متلاحقة تجعلنا نقف مشدوهين ونسأل أي تداعيات جاء اليها هذا الرجل البارع في تشكيل الروح ومايعتريها من خفوق؟ تزداد حضورا بوعيك المستلهم ثقافة النضال قوة الصمود حضور الشعري لديك كبيرا. ناظم حكمت تجسيد جميل لما تكتنزه ذاكرتك من ثقافة اليسار الخلاق الإنساني الذي كافح لتحيا الحياة. باختصار انت حاذق ماهر مبدع
..........
(11)
في الطائرة.. إلى موسكو
أحمد سيف حاشد
• أقلعت طائرة الخطوط الجوية الروسية "إيروفلوت" لتنقلنا من مطار القاهرة إلى موسكو.. أول دهشة أربكتني في الطائرة كانت في المضيفات الجميلات.. قوامهن الفارع، وبياضهن الأخاذ، ورشاقتهن الآسرة لخيالك الشارد.. عيونهن زجاجية بمسحة لون السماء، أو زرقة بحر عميق، وسحر في العيون يغلبك..
كريستال العيون والتماعاتها تغامزك، حتى تسلب لبابك، وتغوي عفتك، وكل التقوى والقداسة والرهبنة التي تسكنك.. لآليء تخطف منك النظر.. محوطات ببياض السحاب، وتعاويذ السماء التي تسحق لاءاتك، وتهزم حيلتك.. جفون نجاة، وحواجب تحتضن الكنوز، وأنوف قيصرية لا تقبل الا التحدّي والنزال، فيما أنت حاسر القوى، وعفتك عزلاء لا تقوى على مقاومة هذا الجمال الفارط حد العبث والجنون..
• كل شيء يخطف قلبك من بين الضلوع.. ينتزعك كالقدر.. ومهما كانت ثقتك بعفتك، فإن قواها تخور من أول نظرة، فتستسلم كل جيوشك، وتنهار أبراجك وقلاعك، وترفع راياتك البيضاء أمام هذا القدر الذي يتملكك.. جمال آسر يستحوذ على اهتمامك وفضولك، ويستولي عليك من ألفك إلى ياءك، فتحول عينيك من زجاج النافذة وما وراءها من عجب، إلى عيون تبرق بالفرح، وعجب ما بعده عجب، وتتوالى المعجزات وأنت تمعن في خلق أتقن الخالق صنعه..
• مررنا عبر أجواء تركيا، وطن المناضل ناظم حكمت، الكاتب المسرحي والروائي والشاعر العظيم الذي سُجن قرابة 17 عام، ونفي من وطنه حتى الموت بسبب نضاله وشعره الإنساني الجميل وانحيازه للفقراء والمقهورين من أبناء شعبه.. الشاعر الذي مات سجانوه، وعاشت أشعاره وقصائده وأناشيده.. ناظم حكمت الذي مات ولم يمت أمله، وهو القائل: "أجمل الأيام، تلك التي لم نعشها بعد.. أجمل الأطفال، هم الذين لم يولدوا بعد.. أجمل القصائد، تلك التي لم أكتبها بعد." ناظم حكمت الذي تمرد على بؤس منفاه، كما ثار وتمرد على ظلم وبؤس وطنه..
• في رحلتنا بدت لنا تركيا من الجو وكأنها عروسة استحمت لتوها.. صحو مع الضلال، وغمام ومطر، وتنوع وتفاصيل، وجمال تحب أن تمكث وتقيم فيه شتاء ومصيف.. لأول مرة أشاهد أرض مثلها، وكأنها قطعة من الجنة.. أسرتني تركيا من الجو.. يا لها من أرض عجيبة.. يا له من اخضرار باذخ بمساحات شاسعة.. طبيعة خلابة بجمال لا يخرمه عيب ولا عور، ولا يخونك فيها النظر.. طول رحلتنا في سماها نستمتع برؤيتها حتى هبط الغروب، وظننا إنها كل المدى..
• دخل الليل، ودخلنا حدود الاتحاد السوفيتي الذي كان.. الاتحاد السوفيتي الكبير والمهاب.. عبرنا أجواء البحر الأسود والظلام يحيط بالطائرة.. شاهدنا من بعيد أضواء مدينة "أوديسا" التابعة لأكرانيا، والواقعة على ساحل البحر الأسود والتي يفصلها عن "كييف" العاصمة أكثر من 400 كليو متر.
• وصلنا إلى "كييف" عاصمة أوكرانيا السوفيتية.. هبطت الطائرة في مطارها.. أحسست وأنا أخرج من الطائرة أنني أدخل "فريزر" ثلاجة.. كانت درجة الحرارة بحدود 7 درجات.. وهي درجة حرارة لم يسبق لي أن تواجدت فيها من قبل.. لقد قلت لنفسي: إن هذا ليس مطارا، بل هو "فريزر ثلاجة، وكان طقس أوكرانيا كله كذلك أو على نحو مقارب.. إنها المرة الأولى في حياتي التي أتواجد فيها على أرض بدرجة حرارة كتلك..
• بعد حدود الساعة استأنفنا رحلتنا صوب موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي.. وصلنا إلى مطارها.. كان في استقبالنا هناك عدد من كبار الضباط يرأسهم جنرال مكلف باستقبالنا ومرافقتنا خلال الزيارة، ومترجم قمة في النبل والتهذيب والرقي.. فاجئونا باستقبالنا كوفد محاطا بكثير من الحفاوة والعناية والتقدير..
• استقبلونا بعدد من السيارات الفخمة والخاصة بنقل الوفود، والتي كانت في انتظارنا.. كل اثنين في سيارة.. حتى إشارة المرور الحمراء تجاوزناها رغم صرامة تنفيذ القوانين، والالتزام بقواعد المرور هناك، ربما لأن الساعة كانت في وقت متأخر من الليل.. يا له من احتفاء واستقبال وتقدير كبير لم نألفه في أوطاننا، ولم نكن نتصوره حتى في الخيال..
***
يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي
محمد اللوزي:
شدني كثيرا هذا التألق هذه الروعة والقدرة على رسم مايختلج في النفس ويجيش بها من اعتمالات بين جمال باذخ وقيم تحاصر القلب من أن ينفطر دهشة. تصيغ عالما يأخذنا بروعته لوحات في غاية التفنن وصور متلاحقة تجعلنا نقف مشدوهين ونسأل أي تداعيات جاء اليها هذا الرجل البارع في تشكيل الروح ومايعتريها من خفوق؟ تزداد حضورا بوعيك المستلهم ثقافة النضال قوة الصمود حضور الشعري لديك كبيرا. ناظم حكمت تجسيد جميل لما تكتنزه ذاكرتك من ثقافة اليسار الخلاق الإنساني الذي كافح لتحيا الحياة. باختصار انت حاذق ماهر مبدع
..........
(11)
في الطائرة.. إلى موسكو
أحمد سيف حاشد
• أقلعت طائرة الخطوط الجوية الروسية "إيروفلوت" لتنقلنا من مطار القاهرة إلى موسكو.. أول دهشة أربكتني في الطائرة كانت في المضيفات الجميلات.. قوامهن الفارع، وبياضهن الأخاذ، ورشاقتهن الآسرة لخيالك الشارد.. عيونهن زجاجية بمسحة لون السماء، أو زرقة بحر عميق، وسحر في العيون يغلبك..
كريستال العيون والتماعاتها تغامزك، حتى تسلب لبابك، وتغوي عفتك، وكل التقوى والقداسة والرهبنة التي تسكنك.. لآليء تخطف منك النظر.. محوطات ببياض السحاب، وتعاويذ السماء التي تسحق لاءاتك، وتهزم حيلتك.. جفون نجاة، وحواجب تحتضن الكنوز، وأنوف قيصرية لا تقبل الا التحدّي والنزال، فيما أنت حاسر القوى، وعفتك عزلاء لا تقوى على مقاومة هذا الجمال الفارط حد العبث والجنون..
• كل شيء يخطف قلبك من بين الضلوع.. ينتزعك كالقدر.. ومهما كانت ثقتك بعفتك، فإن قواها تخور من أول نظرة، فتستسلم كل جيوشك، وتنهار أبراجك وقلاعك، وترفع راياتك البيضاء أمام هذا القدر الذي يتملكك.. جمال آسر يستحوذ على اهتمامك وفضولك، ويستولي عليك من ألفك إلى ياءك، فتحول عينيك من زجاج النافذة وما وراءها من عجب، إلى عيون تبرق بالفرح، وعجب ما بعده عجب، وتتوالى المعجزات وأنت تمعن في خلق أتقن الخالق صنعه..
• مررنا عبر أجواء تركيا، وطن المناضل ناظم حكمت، الكاتب المسرحي والروائي والشاعر العظيم الذي سُجن قرابة 17 عام، ونفي من وطنه حتى الموت بسبب نضاله وشعره الإنساني الجميل وانحيازه للفقراء والمقهورين من أبناء شعبه.. الشاعر الذي مات سجانوه، وعاشت أشعاره وقصائده وأناشيده.. ناظم حكمت الذي مات ولم يمت أمله، وهو القائل: "أجمل الأيام، تلك التي لم نعشها بعد.. أجمل الأطفال، هم الذين لم يولدوا بعد.. أجمل القصائد، تلك التي لم أكتبها بعد." ناظم حكمت الذي تمرد على بؤس منفاه، كما ثار وتمرد على ظلم وبؤس وطنه..
• في رحلتنا بدت لنا تركيا من الجو وكأنها عروسة استحمت لتوها.. صحو مع الضلال، وغمام ومطر، وتنوع وتفاصيل، وجمال تحب أن تمكث وتقيم فيه شتاء ومصيف.. لأول مرة أشاهد أرض مثلها، وكأنها قطعة من الجنة.. أسرتني تركيا من الجو.. يا لها من أرض عجيبة.. يا له من اخضرار باذخ بمساحات شاسعة.. طبيعة خلابة بجمال لا يخرمه عيب ولا عور، ولا يخونك فيها النظر.. طول رحلتنا في سماها نستمتع برؤيتها حتى هبط الغروب، وظننا إنها كل المدى..
• دخل الليل، ودخلنا حدود الاتحاد السوفيتي الذي كان.. الاتحاد السوفيتي الكبير والمهاب.. عبرنا أجواء البحر الأسود والظلام يحيط بالطائرة.. شاهدنا من بعيد أضواء مدينة "أوديسا" التابعة لأكرانيا، والواقعة على ساحل البحر الأسود والتي يفصلها عن "كييف" العاصمة أكثر من 400 كليو متر.
• وصلنا إلى "كييف" عاصمة أوكرانيا السوفيتية.. هبطت الطائرة في مطارها.. أحسست وأنا أخرج من الطائرة أنني أدخل "فريزر" ثلاجة.. كانت درجة الحرارة بحدود 7 درجات.. وهي درجة حرارة لم يسبق لي أن تواجدت فيها من قبل.. لقد قلت لنفسي: إن هذا ليس مطارا، بل هو "فريزر ثلاجة، وكان طقس أوكرانيا كله كذلك أو على نحو مقارب.. إنها المرة الأولى في حياتي التي أتواجد فيها على أرض بدرجة حرارة كتلك..
• بعد حدود الساعة استأنفنا رحلتنا صوب موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي.. وصلنا إلى مطارها.. كان في استقبالنا هناك عدد من كبار الضباط يرأسهم جنرال مكلف باستقبالنا ومرافقتنا خلال الزيارة، ومترجم قمة في النبل والتهذيب والرقي.. فاجئونا باستقبالنا كوفد محاطا بكثير من الحفاوة والعناية والتقدير..
• استقبلونا بعدد من السيارات الفخمة والخاصة بنقل الوفود، والتي كانت في انتظارنا.. كل اثنين في سيارة.. حتى إشارة المرور الحمراء تجاوزناها رغم صرامة تنفيذ القوانين، والالتزام بقواعد المرور هناك، ربما لأن الساعة كانت في وقت متأخر من الليل.. يا له من احتفاء واستقبال وتقدير كبير لم نألفه في أوطاننا، ولم نكن نتصوره حتى في الخيال..
***
يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي
اصداء (١٢)
محمد اللوزي :
بديع هذا الذي القيته لقد وضعتنا تماما أمام مرآة عالم آخر بذلك الجو الاسطوري الذي يتزاحم فيه الجمال والإنسان والأيديولوجيا لترينا أجواءا كأنا فيها تماما لقد كنا في ذات الدهشة من تداعياتك المرهفة ونمنمة الحرف ليبدو أنيقا في ذات المكان وبذات الانعكاس على واقع فينا مؤلم لامعنى له في التراتبية والرتب والاقدمية والهيبة التي هي من أصول الجندية ثمة مفارقة مفزعة ومع هذا تنسل الى مايشبه الحلم لنرى مانريد هلى وقع حرف وتنضيد معنى وسبك قول. يالها من منظر فسيح رهيب جميل تشغل حيز القلب. كله. لا أستطيع أن أقول سوى ما أروعك بهذه التجليات. شكرا يفيض لقلبك وذاكرتك المرهفان
...............
(12)
في الساحة الحمراء.. قلب موسكو
احمد سيف حاشد
• وسط الساحة الحمراء في قلب موسكو، تجد نفسك محاطا بعالم خرافي ساحر، يحكي العجب الذي فاق خيالك المتواضع رغم صدقيته.. خيالك الذي لم يكن بوسعه أن يتخيل المشهد الذي تقف عليه الآن بقدميك وتراه بأم عينيك، وأنت متردد في تصديقه، ومستغرق في الذهول، رغم أنه واقع وأكيد..
• بديت أمام نفسي كمن فقد عقله تحت تأثير الصدمة، ولم يعد يفرّق بين واقع اللحظة التي يعيشها واللاوجود.. أسأل نفسي وأنا فاغر فاه، ومدهوشا مما أرى: هل يا ترى أنا موجود، أم غير موجود؟! هل هذا العالم الذي أمامي الآن، ويحيط بي من كل اتجاه، بالفعل واقع ملموس كما أراه ويتبدّى لي الآن، أم هو محض وهم لا أساس له من الصحة، ولا وجود له؟!! إنه مشهد لم أكن أتخيله من قبل، ولازلت مترددا في تصديقه..
• إنه عالم آخر يختلف حد الصدمة عن ذلك العالم الذي جئت منه أو اعتدت عليه.. أن تتخيل نفسك فجأة تنتقل من قريتك النائية البعيدة، التي لازالت تطلب الغيث من صراف المطر، مقابل أن تدفع المال العزيز الذي تحصل عليه بالكد والكديد، وبين حضارة صارت تنزل المطر في الوقت والمكان الذي تريد.. إنها الصدمة الحضارية، والمفارقة الشاسعة بين قريتك الموجودة في أقاصي الأرض المنسية، وقلب موسكو عاصمة الدولة العظمى الثانية.. إنها مفارقة بحجم الدهشة كلها..
• وأنا أجول في الساحة الحمراء مشدوها، أنقل نظري في زحمة ما يبهر ويسحر كنت أحدث نفسي : بوسعي أن أتخيل الإسراء والمعراج، أو بساط الريح، أو حكايات ألف ليلة وليلة، أو مردة الجن، وقد نقلوني من عالمي المعتاد والبسيط، إلى هذا العالم الباذخ بالعجب..
• بإمكاني أن أتخيل أنني فركت الخاتم أو مصباح علاء الدين؛ وأستدعيت ذلك المارد، الذي خرج عملاقا، وعلى عنقه القوي، وزنديه المفتولتين والمشدودتين بالقوة، تمائم وقلائد وأشياء أخرى.. بوسعي أن أتخيله أيضا أصلعا إلا من خصلة كثيفة من الشعر في قمة رأسه، مربوطة ومسدوله على ظهره العريض..
• بوسعي أن أتخيل أيضا المارد قد فرد ذراعيه الواسعتين، وطأطئ رأسه، وهو يقول كعبد مطيع لي: "شبيك لبيك.. نحن بين يديك.. اطلب وأتمنى".. فأتمنى أن يذهب بي إلى هذا العالم الخرافي الساحر الذي أقف عليه الآن بأقدامي، وأحملق فيه بعيني الواسعتين.. هكذا صرت أتخيل ما حدث، وما صرت عليه الأن.. من فرط الصدمة الفارقة بدا لي الواقع خيال.. هكذا تنقلب الأشياء أحيانا عندما لا نصدقها، من فرط الدهشة والذهول..
• هنا الضخامة والفخامة التي تجعلك تشعر وكأنك تعيش حياة أسطورية حافلة بالعجب.. كل شيء هنا يسحر عيونك، ويختطف منك ذاكرتك، ثم يعيدها إليك، وقد خزن فيها كل مشاهداتك وذهولك، وما رأيته من العجب، الذي لن تنساه، ولن تغادره ذاكرتك حتى تُفنى أو تموت..
• القبب الملونة، والهندسة المعمارية، والجداران العالية والمهابة، والأبراج بكل مسمياتها، والكنيسة ذات القبّة التساعية، والكرملين، وضريح لينين، وضريح الجندي المجهول، والشعلة التي لا تنطفي، والمتجر الرئيسي للمدينة، والأرض المرصوفة بالحجر الأسود العريق، والقلاع العتيده، والقصور الملكية، ومتحف الدولة، وكل ما يقول: من هنا مر التاريخ.
• الساحة الحمراء قلب العاصمة النابض والأكثر شهرة.. ملتقى ثقافات شعوب العالم.. كرنفالات واستعراضات وحب وأعراس وأجواء احتفالية خاصة.. وحجيج إلى ضريح لينين من كل بلدان وبقاع العالم..
• هنا مقر الكرملين، والمقر الرسمي للحكومة السوفييتية.. هنا عاصمة دولة عظمى بيدها مصير العالم، وتتقاسم نفوذه، ولديها ما يفنيه عشر مرات.. هنا يمكن أن تتفهم ما قاله الطالب السوداني المنتحر من الطابق العاشر في موسكو وما كتبه على قنينة "الفوتكا" الشهيرة قبل انتحاره: "صافية كالدموع.. قوية كالسلطة السوفيتية" ولم ينتقص من قوة تلك السلطة وهيبتها، إلا السوق السوداء والاقتصاد الغير معافى، وهو ما كشفه لنا صرف الدولار.. حيث الدولار بسعر بنك الدولة 75 كبيك، فيما صرفنا الدولار في السوق السوداء، من خلال صديق، بثلاثة روبل إن لم تخنّي الذاكرة.. لقد أحسست يومها أن تلك السلطة ليست بتلك القوة، وأن اقتصادها يعاني الكثير، والصحة ليست على ما يرام.
• أتينا إلي الساحة الحمراء ببزاتنا العسكرية الخضراء التي تبدو مر
محمد اللوزي :
بديع هذا الذي القيته لقد وضعتنا تماما أمام مرآة عالم آخر بذلك الجو الاسطوري الذي يتزاحم فيه الجمال والإنسان والأيديولوجيا لترينا أجواءا كأنا فيها تماما لقد كنا في ذات الدهشة من تداعياتك المرهفة ونمنمة الحرف ليبدو أنيقا في ذات المكان وبذات الانعكاس على واقع فينا مؤلم لامعنى له في التراتبية والرتب والاقدمية والهيبة التي هي من أصول الجندية ثمة مفارقة مفزعة ومع هذا تنسل الى مايشبه الحلم لنرى مانريد هلى وقع حرف وتنضيد معنى وسبك قول. يالها من منظر فسيح رهيب جميل تشغل حيز القلب. كله. لا أستطيع أن أقول سوى ما أروعك بهذه التجليات. شكرا يفيض لقلبك وذاكرتك المرهفان
...............
(12)
في الساحة الحمراء.. قلب موسكو
احمد سيف حاشد
• وسط الساحة الحمراء في قلب موسكو، تجد نفسك محاطا بعالم خرافي ساحر، يحكي العجب الذي فاق خيالك المتواضع رغم صدقيته.. خيالك الذي لم يكن بوسعه أن يتخيل المشهد الذي تقف عليه الآن بقدميك وتراه بأم عينيك، وأنت متردد في تصديقه، ومستغرق في الذهول، رغم أنه واقع وأكيد..
• بديت أمام نفسي كمن فقد عقله تحت تأثير الصدمة، ولم يعد يفرّق بين واقع اللحظة التي يعيشها واللاوجود.. أسأل نفسي وأنا فاغر فاه، ومدهوشا مما أرى: هل يا ترى أنا موجود، أم غير موجود؟! هل هذا العالم الذي أمامي الآن، ويحيط بي من كل اتجاه، بالفعل واقع ملموس كما أراه ويتبدّى لي الآن، أم هو محض وهم لا أساس له من الصحة، ولا وجود له؟!! إنه مشهد لم أكن أتخيله من قبل، ولازلت مترددا في تصديقه..
• إنه عالم آخر يختلف حد الصدمة عن ذلك العالم الذي جئت منه أو اعتدت عليه.. أن تتخيل نفسك فجأة تنتقل من قريتك النائية البعيدة، التي لازالت تطلب الغيث من صراف المطر، مقابل أن تدفع المال العزيز الذي تحصل عليه بالكد والكديد، وبين حضارة صارت تنزل المطر في الوقت والمكان الذي تريد.. إنها الصدمة الحضارية، والمفارقة الشاسعة بين قريتك الموجودة في أقاصي الأرض المنسية، وقلب موسكو عاصمة الدولة العظمى الثانية.. إنها مفارقة بحجم الدهشة كلها..
• وأنا أجول في الساحة الحمراء مشدوها، أنقل نظري في زحمة ما يبهر ويسحر كنت أحدث نفسي : بوسعي أن أتخيل الإسراء والمعراج، أو بساط الريح، أو حكايات ألف ليلة وليلة، أو مردة الجن، وقد نقلوني من عالمي المعتاد والبسيط، إلى هذا العالم الباذخ بالعجب..
• بإمكاني أن أتخيل أنني فركت الخاتم أو مصباح علاء الدين؛ وأستدعيت ذلك المارد، الذي خرج عملاقا، وعلى عنقه القوي، وزنديه المفتولتين والمشدودتين بالقوة، تمائم وقلائد وأشياء أخرى.. بوسعي أن أتخيله أيضا أصلعا إلا من خصلة كثيفة من الشعر في قمة رأسه، مربوطة ومسدوله على ظهره العريض..
• بوسعي أن أتخيل أيضا المارد قد فرد ذراعيه الواسعتين، وطأطئ رأسه، وهو يقول كعبد مطيع لي: "شبيك لبيك.. نحن بين يديك.. اطلب وأتمنى".. فأتمنى أن يذهب بي إلى هذا العالم الخرافي الساحر الذي أقف عليه الآن بأقدامي، وأحملق فيه بعيني الواسعتين.. هكذا صرت أتخيل ما حدث، وما صرت عليه الأن.. من فرط الصدمة الفارقة بدا لي الواقع خيال.. هكذا تنقلب الأشياء أحيانا عندما لا نصدقها، من فرط الدهشة والذهول..
• هنا الضخامة والفخامة التي تجعلك تشعر وكأنك تعيش حياة أسطورية حافلة بالعجب.. كل شيء هنا يسحر عيونك، ويختطف منك ذاكرتك، ثم يعيدها إليك، وقد خزن فيها كل مشاهداتك وذهولك، وما رأيته من العجب، الذي لن تنساه، ولن تغادره ذاكرتك حتى تُفنى أو تموت..
• القبب الملونة، والهندسة المعمارية، والجداران العالية والمهابة، والأبراج بكل مسمياتها، والكنيسة ذات القبّة التساعية، والكرملين، وضريح لينين، وضريح الجندي المجهول، والشعلة التي لا تنطفي، والمتجر الرئيسي للمدينة، والأرض المرصوفة بالحجر الأسود العريق، والقلاع العتيده، والقصور الملكية، ومتحف الدولة، وكل ما يقول: من هنا مر التاريخ.
• الساحة الحمراء قلب العاصمة النابض والأكثر شهرة.. ملتقى ثقافات شعوب العالم.. كرنفالات واستعراضات وحب وأعراس وأجواء احتفالية خاصة.. وحجيج إلى ضريح لينين من كل بلدان وبقاع العالم..
• هنا مقر الكرملين، والمقر الرسمي للحكومة السوفييتية.. هنا عاصمة دولة عظمى بيدها مصير العالم، وتتقاسم نفوذه، ولديها ما يفنيه عشر مرات.. هنا يمكن أن تتفهم ما قاله الطالب السوداني المنتحر من الطابق العاشر في موسكو وما كتبه على قنينة "الفوتكا" الشهيرة قبل انتحاره: "صافية كالدموع.. قوية كالسلطة السوفيتية" ولم ينتقص من قوة تلك السلطة وهيبتها، إلا السوق السوداء والاقتصاد الغير معافى، وهو ما كشفه لنا صرف الدولار.. حيث الدولار بسعر بنك الدولة 75 كبيك، فيما صرفنا الدولار في السوق السوداء، من خلال صديق، بثلاثة روبل إن لم تخنّي الذاكرة.. لقد أحسست يومها أن تلك السلطة ليست بتلك القوة، وأن اقتصادها يعاني الكثير، والصحة ليست على ما يرام.
• أتينا إلي الساحة الحمراء ببزاتنا العسكرية الخضراء التي تبدو مر
اسميه وربما لافتة للنظر.. كثير من نظرات المارين والواقفين في الساحة كانت تصوّب علينا.. اعتقدنا في أول الأمر أن زيّنا الفخيم هو السبب اللافت لتلك النظرات.. ظننا أن تميزه اللافت هو ما يشد النظرات ويلفت إليه الانتباه.. شاهدنا بعضهم ينظرون إلينا، ثم يتحدثون بشأننا ولا نعلم ماذا كانوا يقولون!! ولكن ابتسامتهم لبعض كان توحي أن هناك أمر فينا يثير ابتساماتهم، وربما ضحكاتهم في بعض الأحيان!! صارت الحيرة تلبسنا والاستغراب يستفز فضولنا..
• أخذنا موقعنا في الطابور الطويل المؤدي إلى ضريح لينين.. عدد من الفتيات في الطابور على مقربة منّا يتهامسن وهن ينظرن إلينا، ثم يقهقهن، فيما كان يستغرقنا شعور الاستغراب..
- سألتنا أحداهن والابتسامة ترسمها الشفاه: من أي دولة أنتم؟!
فأجبناها: من اليمن..
- قالت أخرى: أنتم في مقتبل العمر، وتحملون رتبا كبيرة..
أستغربنا أكثر؛ ثم قلنا: هذه النجمة لدينا هي رتبة ملازم ثاني تمنح بعد التخرج من الكلية العسكرية..
وقبل أن يترجم لهن المترجم جوابنا، كان فضول الفتاة الثالثة يسأل:
- هل أنتم أبناء أمراء؟!
فتبدت حيرتنا أكثر واستعجبنا من السؤال! فيما جميعهن يضحكن، فتولى المترجم الايضاح.. وعرفنا السبب..
النجمة التي بحجم النجمة التي في رتبنا ونحملها على أكتافنا، هي لديهم وفي جيشهم رتبة رائد.. تلاشى ضحكهن، فيما انطلقت قهقهتنا بعد أن عرفنا السبب، وتبددت حيرتنا التي كادت تخنقنا..
• أما اليوم وأنا أكتب هذا؛ فقد صار ضحكنا كالبكاء.. تندرنا بعد الوحدة من واقع ساد، حتى أسمينا اليمن "بلاد المليون عقيد" سخرنا وتهكمنا من كثرة منح الرتب كهدايا وهبات، وعطايا مناصرة ومولاة، وشراء للذمم، خارج القانون والنظام.. أما اليوم فصارت الرتب العسكرية توزع كالفاكهة.. كل سلطات الأمر الواقع في اليمن صارت تتنافس في منحها على أتباعها وأنصارها.. تستطيع أن تجد عدد غير قليل من لم يكملوا المرحلة الإعدادية أو الثانوية، قد صاروا يحملوا رتب عميد ولواء.. وتستطيع أيضا أن تجد عددا لا يقل عن هذا ممن لم يبلغوا سن البلوغ قد صار يحملوا رتبة مقدم وعقيد.. "يابلاشاه يا حراجاه" والأكثر سوءا أن تجد عند بعضهم بين الترقية والأخرى أيام أو أسابيع أو شهور..
• من حق العالم اليوم في هذا العهد المملشن.. عهد الغلبة وأمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع، وتحلل ما بقي لنا من دولة، أن يضحك علينا ألف سنة، وهو يرى الجهل في اليمن يحمل رتبا عسكرية كبيرة ومتوسطة، ويشاهد أطفالنا الغر، يُمنحون ويحملون الرتب العسكرية الكبيرة والثقيلة..
• وقفنا على الشعلة، وضريح الجندي المجهول، ومشاهدتنا للحراسات وتغييرها الذي يجري على رأس كل ساعة.. خلصنا إلى أن كل شيء هنا يتم بدقة متناهية.. إنها الصورة الرمزية ذات الدلالة والتي تعكس صورة الدولة بمراسيمها المنضبطة والعالية الدقة.. ترى الجندي في وقفته وثباته، وكأنه مصنوعا من الشمع، لا يتحرك له رمشا ولا جفن خلال ساعة وقوفه.. تجد فضولك يتحفز إلى لمسه للتحقق عمّا إذا كان الذي أمامك جنديا حقيقيا أم مصنوعا من مادة أخرى، ولكن عقلك يمنعك من أن تفعل.
زرنا المتحف وشاهدنا تماثيل ومجسمات متنوعة، ومنها مجسم نصفي صغير للينين قالت زوجته "كربسكايا" إنه أكثر ضبطا ومطابقة للينين كما تراه وكأنه هو بالفعل.. إليانوف أيلتش لينين الذي كنت أحد معجبيه، ولكن بمأخذ، ولا أخلو من تحفظات.. ولا قداسة لأحد..
انتظرنا دورنا في طابور طويل حتى أطلينا على لينين المسجى في صندوق من زجاج وهو يرتدي ملابسه الأنيقة.. تمر وهو على بعد عدة أمتار منك، وأنت تحاول أن تدقق في تفاصيله، لا تجد ما يخرم شكله وهيئته قيد شعرة..
بعد يوم حافل بألف ليلة وليلة عدنا إلى الفندق..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
• أخذنا موقعنا في الطابور الطويل المؤدي إلى ضريح لينين.. عدد من الفتيات في الطابور على مقربة منّا يتهامسن وهن ينظرن إلينا، ثم يقهقهن، فيما كان يستغرقنا شعور الاستغراب..
- سألتنا أحداهن والابتسامة ترسمها الشفاه: من أي دولة أنتم؟!
فأجبناها: من اليمن..
- قالت أخرى: أنتم في مقتبل العمر، وتحملون رتبا كبيرة..
أستغربنا أكثر؛ ثم قلنا: هذه النجمة لدينا هي رتبة ملازم ثاني تمنح بعد التخرج من الكلية العسكرية..
وقبل أن يترجم لهن المترجم جوابنا، كان فضول الفتاة الثالثة يسأل:
- هل أنتم أبناء أمراء؟!
فتبدت حيرتنا أكثر واستعجبنا من السؤال! فيما جميعهن يضحكن، فتولى المترجم الايضاح.. وعرفنا السبب..
النجمة التي بحجم النجمة التي في رتبنا ونحملها على أكتافنا، هي لديهم وفي جيشهم رتبة رائد.. تلاشى ضحكهن، فيما انطلقت قهقهتنا بعد أن عرفنا السبب، وتبددت حيرتنا التي كادت تخنقنا..
• أما اليوم وأنا أكتب هذا؛ فقد صار ضحكنا كالبكاء.. تندرنا بعد الوحدة من واقع ساد، حتى أسمينا اليمن "بلاد المليون عقيد" سخرنا وتهكمنا من كثرة منح الرتب كهدايا وهبات، وعطايا مناصرة ومولاة، وشراء للذمم، خارج القانون والنظام.. أما اليوم فصارت الرتب العسكرية توزع كالفاكهة.. كل سلطات الأمر الواقع في اليمن صارت تتنافس في منحها على أتباعها وأنصارها.. تستطيع أن تجد عدد غير قليل من لم يكملوا المرحلة الإعدادية أو الثانوية، قد صاروا يحملوا رتب عميد ولواء.. وتستطيع أيضا أن تجد عددا لا يقل عن هذا ممن لم يبلغوا سن البلوغ قد صار يحملوا رتبة مقدم وعقيد.. "يابلاشاه يا حراجاه" والأكثر سوءا أن تجد عند بعضهم بين الترقية والأخرى أيام أو أسابيع أو شهور..
• من حق العالم اليوم في هذا العهد المملشن.. عهد الغلبة وأمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع، وتحلل ما بقي لنا من دولة، أن يضحك علينا ألف سنة، وهو يرى الجهل في اليمن يحمل رتبا عسكرية كبيرة ومتوسطة، ويشاهد أطفالنا الغر، يُمنحون ويحملون الرتب العسكرية الكبيرة والثقيلة..
• وقفنا على الشعلة، وضريح الجندي المجهول، ومشاهدتنا للحراسات وتغييرها الذي يجري على رأس كل ساعة.. خلصنا إلى أن كل شيء هنا يتم بدقة متناهية.. إنها الصورة الرمزية ذات الدلالة والتي تعكس صورة الدولة بمراسيمها المنضبطة والعالية الدقة.. ترى الجندي في وقفته وثباته، وكأنه مصنوعا من الشمع، لا يتحرك له رمشا ولا جفن خلال ساعة وقوفه.. تجد فضولك يتحفز إلى لمسه للتحقق عمّا إذا كان الذي أمامك جنديا حقيقيا أم مصنوعا من مادة أخرى، ولكن عقلك يمنعك من أن تفعل.
زرنا المتحف وشاهدنا تماثيل ومجسمات متنوعة، ومنها مجسم نصفي صغير للينين قالت زوجته "كربسكايا" إنه أكثر ضبطا ومطابقة للينين كما تراه وكأنه هو بالفعل.. إليانوف أيلتش لينين الذي كنت أحد معجبيه، ولكن بمأخذ، ولا أخلو من تحفظات.. ولا قداسة لأحد..
انتظرنا دورنا في طابور طويل حتى أطلينا على لينين المسجى في صندوق من زجاج وهو يرتدي ملابسه الأنيقة.. تمر وهو على بعد عدة أمتار منك، وأنت تحاول أن تدقق في تفاصيله، لا تجد ما يخرم شكله وهيئته قيد شعرة..
بعد يوم حافل بألف ليلة وليلة عدنا إلى الفندق..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
(14)
أول مرة.. رجل يقبّل حبيبته
• فيما كانت السيارة السوداء الفخمة التي تقلّني، تمضي بسرعة في شارع متسع نحو "السرك" في العاصمة موسكو، شاهدت في إحدى جنباته رجل وحبيبته مخمورين في حب عميق، وهو يلثم فمها كعاشق محترف، ثم يميل على عنقها بحنين.. برهة زمن سكنت عمق الذاكرة، ولا تغادرها مهما مضى من عمر أو تقادمت بها السنين.. تحت شجرة وارفة، وسماء تبارك اللحظة المتفجرة بالعشق المرتعش، وحياة تموج بالوجود اللذيذ، وروح توحدت وتكثفت كسحابة مطر، بشهد لهفة اجتاحت الروح والجسد بالأبعاد الأربعة، وألق الوصل الحميم، والفرح المتوج ببهجة الحب المؤيد بالسماء، والمكتوب في الغيب منذ الأزل..
• تجاوزنا المكان، والسيارة المارقة تدير ظهرها للعاشقين، وعيوني مشنوقة في المدى الذي بات فيه المكان خلفنا يتلاشى ويغيب في البعيد.. سحقت دواليب السيارة المسرعة فسحة لم تُتاح، ومهلة رجوتها، فتبددت تحت الإطار، وغرق الحال في أسوئه، وصرتُ في السيارة التي تحملني أحمل نعشي المثقل بالحرمان والحزن العميق..
• في اغوار سري كتمت جام غضبي، على سائق السيارة الذي لم يمهلنِ فسحة أمعان النظر، في مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي التي لطالما خنقها العيب، وأعطبها الخجل، واصطلتُ بنار الحب المعذب، والمغلول بقيود المجتمع الضارب عمقه في الماضي الدميم.. حياتي التي كان حلمها الأول وصلا بمن أحب، أو لقاء حبيب..
• أنا القادم من جحور العيب، ومن بلاد ترى الحب أنه أول أعداءها، وتنزل فيه حُكمها الصارم، صلبا وشنقا على المآذن وبوابات المدائن.. حب تُجرّمه البلاد بالعار الوخيم، وتتعقب ورثته بحمية الشرف الرفيع، فيما الشرف كله مُنتعل، ومستباح كل يوم أمام العيون والجرائد ونشرة الأخبار.. شرف مستباح من أقصى الخليج إلى المحيط.. بلاد تقمع الحب بقسوة الوأد، والحمية المتجذرة في الوعي الجلف بالبداوة المجدبة.. وعينا المحروس بعفن القبيلة والتقاليد وما بلى.. أعراف تقطع عن وعينا الماء، وتمنع عنه الهواء.. وعينا المثقل بعصبية الحمية التي تصلب العشق أينما ثقفت به، وتقتل المحبين بألف تهمة..
• أحسست وأنا أرحل عن مشهد الحب كزهرة عباد شمس تذوي ذابلة في تعس الغروب، وعنقي المقصوف بأحمال القرون الضاربة في الزمن البعيد.. زمن الوأد والعار والنخاسة.. وذاكرتي التي تركتني أذهب، وبقيت هي حية في نفس المكان، وآويت أنا إلى بلادي التي لازالت محكومة بشيوخ الفتاوى والقبيلة، وطغاة القمع، وطغيان الظلام الكثيف..
• شعرت أن العمر يفوت كالريح، ويمضي مسرعا نحو التبدد والضياع.. مضى العمر أسرع من سيارة ركبتها ذات يوم.. واليوم ألفية ثالثة تضرب العشرين بعدها، وما كنت أخالها تمضي على عكس حلم أروم، وجاءت الأقدار بغير ما أريد.. بت كالحصان العجوز الذي لم يعد يقوى حتى على جر خيبته..
• أقطر اليوم عمري الذي ضاع، وأيامي التي فاتت وباتت فارغة كالعدم، وندم كبير يثقل كاهلي.. وعيناي شاخصتان في وجهي المغضن بالزمن.. عيناي باتت مشنوقتين بحبل من مسد، وحسرة تطويني من قمة الرأس إلى قاع القدم كقرطاس أبلاه الزمن، ولعناتي على سائق مربوط بحزام لا يتمهل ولا يلتفت..
• تلك كانت بعض من قصتي مع مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي المعذبة.. رجل يقبل حبيبته دون أن تناله سلطة أو عيون أو فضول، غير أنا الآتي من الجحيم، والمثقل بوطأة الحرمان الأشد، وهذا الزمن الذي لازال علينا بأحمال ثقال، ثقل الجبال الراسيات..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
أول مرة.. رجل يقبّل حبيبته
• فيما كانت السيارة السوداء الفخمة التي تقلّني، تمضي بسرعة في شارع متسع نحو "السرك" في العاصمة موسكو، شاهدت في إحدى جنباته رجل وحبيبته مخمورين في حب عميق، وهو يلثم فمها كعاشق محترف، ثم يميل على عنقها بحنين.. برهة زمن سكنت عمق الذاكرة، ولا تغادرها مهما مضى من عمر أو تقادمت بها السنين.. تحت شجرة وارفة، وسماء تبارك اللحظة المتفجرة بالعشق المرتعش، وحياة تموج بالوجود اللذيذ، وروح توحدت وتكثفت كسحابة مطر، بشهد لهفة اجتاحت الروح والجسد بالأبعاد الأربعة، وألق الوصل الحميم، والفرح المتوج ببهجة الحب المؤيد بالسماء، والمكتوب في الغيب منذ الأزل..
• تجاوزنا المكان، والسيارة المارقة تدير ظهرها للعاشقين، وعيوني مشنوقة في المدى الذي بات فيه المكان خلفنا يتلاشى ويغيب في البعيد.. سحقت دواليب السيارة المسرعة فسحة لم تُتاح، ومهلة رجوتها، فتبددت تحت الإطار، وغرق الحال في أسوئه، وصرتُ في السيارة التي تحملني أحمل نعشي المثقل بالحرمان والحزن العميق..
• في اغوار سري كتمت جام غضبي، على سائق السيارة الذي لم يمهلنِ فسحة أمعان النظر، في مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي التي لطالما خنقها العيب، وأعطبها الخجل، واصطلتُ بنار الحب المعذب، والمغلول بقيود المجتمع الضارب عمقه في الماضي الدميم.. حياتي التي كان حلمها الأول وصلا بمن أحب، أو لقاء حبيب..
• أنا القادم من جحور العيب، ومن بلاد ترى الحب أنه أول أعداءها، وتنزل فيه حُكمها الصارم، صلبا وشنقا على المآذن وبوابات المدائن.. حب تُجرّمه البلاد بالعار الوخيم، وتتعقب ورثته بحمية الشرف الرفيع، فيما الشرف كله مُنتعل، ومستباح كل يوم أمام العيون والجرائد ونشرة الأخبار.. شرف مستباح من أقصى الخليج إلى المحيط.. بلاد تقمع الحب بقسوة الوأد، والحمية المتجذرة في الوعي الجلف بالبداوة المجدبة.. وعينا المحروس بعفن القبيلة والتقاليد وما بلى.. أعراف تقطع عن وعينا الماء، وتمنع عنه الهواء.. وعينا المثقل بعصبية الحمية التي تصلب العشق أينما ثقفت به، وتقتل المحبين بألف تهمة..
• أحسست وأنا أرحل عن مشهد الحب كزهرة عباد شمس تذوي ذابلة في تعس الغروب، وعنقي المقصوف بأحمال القرون الضاربة في الزمن البعيد.. زمن الوأد والعار والنخاسة.. وذاكرتي التي تركتني أذهب، وبقيت هي حية في نفس المكان، وآويت أنا إلى بلادي التي لازالت محكومة بشيوخ الفتاوى والقبيلة، وطغاة القمع، وطغيان الظلام الكثيف..
• شعرت أن العمر يفوت كالريح، ويمضي مسرعا نحو التبدد والضياع.. مضى العمر أسرع من سيارة ركبتها ذات يوم.. واليوم ألفية ثالثة تضرب العشرين بعدها، وما كنت أخالها تمضي على عكس حلم أروم، وجاءت الأقدار بغير ما أريد.. بت كالحصان العجوز الذي لم يعد يقوى حتى على جر خيبته..
• أقطر اليوم عمري الذي ضاع، وأيامي التي فاتت وباتت فارغة كالعدم، وندم كبير يثقل كاهلي.. وعيناي شاخصتان في وجهي المغضن بالزمن.. عيناي باتت مشنوقتين بحبل من مسد، وحسرة تطويني من قمة الرأس إلى قاع القدم كقرطاس أبلاه الزمن، ولعناتي على سائق مربوط بحزام لا يتمهل ولا يلتفت..
• تلك كانت بعض من قصتي مع مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي المعذبة.. رجل يقبل حبيبته دون أن تناله سلطة أو عيون أو فضول، غير أنا الآتي من الجحيم، والمثقل بوطأة الحرمان الأشد، وهذا الزمن الذي لازال علينا بأحمال ثقال، ثقل الجبال الراسيات..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
(13)
أصداء
محمد اللوزي:
وقفة اكثر من رائعة على مائدة طعام. اخذتنا معها الى مواقع فيها الخجل والاحراج ومالابد منه في تناول الطعام. كأنك تتحدث عن قطاع عريض من مجتمع لم تغزوه الشوكة والملعقة أو لنقل مايرمز الى الحضارة. مجتمع اعاقه التخلف ختى عن معرفة ابسط الأشياء ومع ذلك يقرر ان يعيش ان يتداخل مع الآخر وان يقيم علاقة انسجام الى حد ما مع نفسه قبل ان يكون مع الآخرين.
لقد قدمت وجبة شهية من الانسيابية الجميلة الممتعة الاكثر من رائعة. وضعت الانسان البسيط البريء في مستواه وهو يرى في تناول وجبة أشبه بمغامرة ولكنه هنا فارق حضاري ثقافي حقوقي أيضا. فالانسان اليمني مهدرة حقوقه حتى في العيش الكريم في فهم العصر واستيعابه. الوجبة هنا رمز عميق لما هو أبعد في البناء الحضاري الثقافي والسلوك المجتمعي والنظام والدقة وماقد يقع عليه المرء أمام هذا من تكلف واحراج لفارق عصري. سلمت اناملك النابضة بالحياة وبنا
.......................................
(13)
مواقف محرجة في تناول وجبة الطعام
أحمد سيف حاشد
• طاولة طعامنا في الفندق كانت تتسع لنا، وللمكلفين من الجانب الروسي واليمني بمرافقتنا وتنفيذ برنامج الزيارة المرسوم لنا.. الطاولة مكتظة بكل شيء تقريبا.. الطعام متنوع وأكثره لا أعرفه، والمشروبات لا أدري ما هي! لم استطع أن أميز بين ما يشرب وما يُحتسى، ولا بين الشربة وأخواتها، ولا حتى بين الماء والماء!! أباريق وكاسات أنيقة تجلب لك الإحساس بالفخامة، ويدفعك فضولك إلى تجريبها كلّها، واحدة واحدة.. مناديل ورقية، وبعضها من القماش تشعرك بالخسارة وأنت تمسح بها فمك.. أدوات أكل لا أجيد استخدامها، ولم يسبق أن تعاملت معها!.. قواعد ولوازم "الإتكت" احسست إنها الغربة كلها، ووجدت نفسي معها للمرة الأولى في تحد وجها لوجه..
• شعرت ابتداء أن هناك عقبات شتى أمامي، ومواقف محرجة تنتظرني.. أحسست أنني على طاولة امتحان لا على طاولة طعام.. والأسوأ أنني أقدم على هذا الامتحان دون تعليم، أو دروس أعطيت لي من قبل في هذا المجال.. فقلت لنفسي: لا تفوق هنا.. أنني فاشل لا محالة.. كل شيء هنا أو أغلبه بالنسبة لي كان جديدا.. جله أتعامل معه للمرة الأولى.. ليس لدي تجربة من قبل، وكانت هذه هي الزيارة الأولى التي أخرج فيها من اليمن، بل وأيضا المرة الأولى التي أنزل فيها في فندق..
• كانت الأسئلة تزدحم في رأسي وأنا أستهل قعودي خلف طاولة الطعام: من أين أبدأ؟! وماذا أصنع بكل هذا الذي أمامي؟! وكيف اتعامل معه؟! وما هذا الذي سآكله؟! كل ما هو موجود أمامي في أغلبه ليس لدي فيه سابقة أو جهاد.. لم يسبق لي أن أكلت مثله من قبل!
• قطعة من القماش أمامي مبرومة على نحو أنيق لا أدري ما هو الداعي لها، وأخرى كانت أكبر ومرتبة بعطفات أمامي لا أعلم ما لزومها.. كان عليّ أن أنتظر وأرى ماذا يصنعون بهما، وعندما شاهدت الجنرال الروسي يضع إحداها على صدره، والأخرى على نصفه الأسفل.. لم أستوعب ماذا يفعل، ولماذا يفعل هذا!! ومع ذلك قمت بتقليده كطفل يقلّد أباه، بل شعرت أنني أمارس الغش، حالما كنت أختلس النظر إلى ما يفعل، وأفعل مثله.. ثم قلتُ لنفسي: لابأس سأعتبره طقس من الطقوس الذي يمارسونه قبل تناول وجبة الطعام، والتقليد هنا جائز شرعا.. حاولت أن أحبس ضحكة في جوفي، وابتسمت بحذر تعويضا عن القهقهة التي قمعتها بشدة، وكان اندلاعها قد بات وشيكا..
• وما أن شرعت بالأكل، حتى وجدت قطعة القماش التي على صدري، قد أرخت سدولها وانسابت إلى الأسفل، بسبب حركات جسمي أثناء تناولي للطعام، فيما كانت قطعة القماش السفلى قد تدحرجت إلى الأرض دون أن أعلم، ولم أنتبه لأمرها إلا بعد الانتهاء من الطعام، وقد أشبعتها رفسا ودعسا.. دمدمت في نفسي وأنا أصب سخطي عليها قائلا: أيش نزّلها؟!! لقد نالت ما تستحق!!
• أول مرة أستخدم الشوكة والسكين معا في تزامن واحد.. في الطائرة استغنيت عنهما، وأكلت وجباتها بطريقتي، وكذلك فعل زميلي الآخر الذي كان جواري في المقعد.. أما الآن وأنا في حضرة الجميع أستصعب عليّ الأمر.. وعندما كنت أحاول ضبط الشوكة والسكين بين اليدين والأنامل لم أستطع أن أقلّد الجنرال. شعرت أنني أحتاج إلى درس خاص لأتعلم الأمر، ولا يوجد هنا متسع لأتعلم وأحفظ الدرس.. كان أدائي ضعيفا في التعامل مع السكين والشوكة معا. وجدت هذا الفعل مستصعبا؛ وزائد على هذا لو استطعت أن أستخدم يدي اليمين بكفاءة، فلن أستطيع استخدام يدي اليسرى بنفس كفاءة اليد اليمين؛ وهروبا من هذا وذاك اخترت التعامل معهما بالطريقة التي تروقني، وكانت أكثر فاعلية، ولكنني شعرت أنني أخرج أحيانا عن النص كثيرا، بل وكنت أقع في أحايين بمواقف محرجة..
• ظننتها فاكهة صغيرة دون أن أدري ما هي بالضبط.. كان لونها أسود.. يا لسوء الظن!! الحقيقة لم أكن أعرف كيف يمكن التفاهم معها!! وضعت السكين في وسطها، وشرعت في الضغط عليها من أجل قطعها، فيما يدي الأخرى الماسكة بالشوكة كانت تحاول اسنادها من الجانب حتى لا تنزلق، ولما كانت نواته
أصداء
محمد اللوزي:
وقفة اكثر من رائعة على مائدة طعام. اخذتنا معها الى مواقع فيها الخجل والاحراج ومالابد منه في تناول الطعام. كأنك تتحدث عن قطاع عريض من مجتمع لم تغزوه الشوكة والملعقة أو لنقل مايرمز الى الحضارة. مجتمع اعاقه التخلف ختى عن معرفة ابسط الأشياء ومع ذلك يقرر ان يعيش ان يتداخل مع الآخر وان يقيم علاقة انسجام الى حد ما مع نفسه قبل ان يكون مع الآخرين.
لقد قدمت وجبة شهية من الانسيابية الجميلة الممتعة الاكثر من رائعة. وضعت الانسان البسيط البريء في مستواه وهو يرى في تناول وجبة أشبه بمغامرة ولكنه هنا فارق حضاري ثقافي حقوقي أيضا. فالانسان اليمني مهدرة حقوقه حتى في العيش الكريم في فهم العصر واستيعابه. الوجبة هنا رمز عميق لما هو أبعد في البناء الحضاري الثقافي والسلوك المجتمعي والنظام والدقة وماقد يقع عليه المرء أمام هذا من تكلف واحراج لفارق عصري. سلمت اناملك النابضة بالحياة وبنا
.......................................
(13)
مواقف محرجة في تناول وجبة الطعام
أحمد سيف حاشد
• طاولة طعامنا في الفندق كانت تتسع لنا، وللمكلفين من الجانب الروسي واليمني بمرافقتنا وتنفيذ برنامج الزيارة المرسوم لنا.. الطاولة مكتظة بكل شيء تقريبا.. الطعام متنوع وأكثره لا أعرفه، والمشروبات لا أدري ما هي! لم استطع أن أميز بين ما يشرب وما يُحتسى، ولا بين الشربة وأخواتها، ولا حتى بين الماء والماء!! أباريق وكاسات أنيقة تجلب لك الإحساس بالفخامة، ويدفعك فضولك إلى تجريبها كلّها، واحدة واحدة.. مناديل ورقية، وبعضها من القماش تشعرك بالخسارة وأنت تمسح بها فمك.. أدوات أكل لا أجيد استخدامها، ولم يسبق أن تعاملت معها!.. قواعد ولوازم "الإتكت" احسست إنها الغربة كلها، ووجدت نفسي معها للمرة الأولى في تحد وجها لوجه..
• شعرت ابتداء أن هناك عقبات شتى أمامي، ومواقف محرجة تنتظرني.. أحسست أنني على طاولة امتحان لا على طاولة طعام.. والأسوأ أنني أقدم على هذا الامتحان دون تعليم، أو دروس أعطيت لي من قبل في هذا المجال.. فقلت لنفسي: لا تفوق هنا.. أنني فاشل لا محالة.. كل شيء هنا أو أغلبه بالنسبة لي كان جديدا.. جله أتعامل معه للمرة الأولى.. ليس لدي تجربة من قبل، وكانت هذه هي الزيارة الأولى التي أخرج فيها من اليمن، بل وأيضا المرة الأولى التي أنزل فيها في فندق..
• كانت الأسئلة تزدحم في رأسي وأنا أستهل قعودي خلف طاولة الطعام: من أين أبدأ؟! وماذا أصنع بكل هذا الذي أمامي؟! وكيف اتعامل معه؟! وما هذا الذي سآكله؟! كل ما هو موجود أمامي في أغلبه ليس لدي فيه سابقة أو جهاد.. لم يسبق لي أن أكلت مثله من قبل!
• قطعة من القماش أمامي مبرومة على نحو أنيق لا أدري ما هو الداعي لها، وأخرى كانت أكبر ومرتبة بعطفات أمامي لا أعلم ما لزومها.. كان عليّ أن أنتظر وأرى ماذا يصنعون بهما، وعندما شاهدت الجنرال الروسي يضع إحداها على صدره، والأخرى على نصفه الأسفل.. لم أستوعب ماذا يفعل، ولماذا يفعل هذا!! ومع ذلك قمت بتقليده كطفل يقلّد أباه، بل شعرت أنني أمارس الغش، حالما كنت أختلس النظر إلى ما يفعل، وأفعل مثله.. ثم قلتُ لنفسي: لابأس سأعتبره طقس من الطقوس الذي يمارسونه قبل تناول وجبة الطعام، والتقليد هنا جائز شرعا.. حاولت أن أحبس ضحكة في جوفي، وابتسمت بحذر تعويضا عن القهقهة التي قمعتها بشدة، وكان اندلاعها قد بات وشيكا..
• وما أن شرعت بالأكل، حتى وجدت قطعة القماش التي على صدري، قد أرخت سدولها وانسابت إلى الأسفل، بسبب حركات جسمي أثناء تناولي للطعام، فيما كانت قطعة القماش السفلى قد تدحرجت إلى الأرض دون أن أعلم، ولم أنتبه لأمرها إلا بعد الانتهاء من الطعام، وقد أشبعتها رفسا ودعسا.. دمدمت في نفسي وأنا أصب سخطي عليها قائلا: أيش نزّلها؟!! لقد نالت ما تستحق!!
• أول مرة أستخدم الشوكة والسكين معا في تزامن واحد.. في الطائرة استغنيت عنهما، وأكلت وجباتها بطريقتي، وكذلك فعل زميلي الآخر الذي كان جواري في المقعد.. أما الآن وأنا في حضرة الجميع أستصعب عليّ الأمر.. وعندما كنت أحاول ضبط الشوكة والسكين بين اليدين والأنامل لم أستطع أن أقلّد الجنرال. شعرت أنني أحتاج إلى درس خاص لأتعلم الأمر، ولا يوجد هنا متسع لأتعلم وأحفظ الدرس.. كان أدائي ضعيفا في التعامل مع السكين والشوكة معا. وجدت هذا الفعل مستصعبا؛ وزائد على هذا لو استطعت أن أستخدم يدي اليمين بكفاءة، فلن أستطيع استخدام يدي اليسرى بنفس كفاءة اليد اليمين؛ وهروبا من هذا وذاك اخترت التعامل معهما بالطريقة التي تروقني، وكانت أكثر فاعلية، ولكنني شعرت أنني أخرج أحيانا عن النص كثيرا، بل وكنت أقع في أحايين بمواقف محرجة..
• ظننتها فاكهة صغيرة دون أن أدري ما هي بالضبط.. كان لونها أسود.. يا لسوء الظن!! الحقيقة لم أكن أعرف كيف يمكن التفاهم معها!! وضعت السكين في وسطها، وشرعت في الضغط عليها من أجل قطعها، فيما يدي الأخرى الماسكة بالشوكة كانت تحاول اسنادها من الجانب حتى لا تنزلق، ولما كانت نواته