أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
أحمد سيف حاشد:
(4)
أكل التراب
كان يشاركني أكل التراب في صغري ابن عمي سالم أحمد محمد هاشم، والذي كان يكبرني بعشرة أشهر، وصار التراب بيننا أكثر من عيش وملح.. شهيتنا لأكل التراب ربما يعود إلى سوء التغذية، ونقص مادة الحديد في الجسم، أو هذا ما قرأته بعد خمسين عام.

تأكل التراب بسبب سوء التغذية، ونقص عنصر الحديد الذي يحتاج له بدنك، وتعاقب بالضرب لسبب خارج عن إرادتك، وربما تضرب بالحديد لأن جسمك ينقصه عنصر الحديد، ويلحقك مزيدا من العذاب، وتسكنك العُقد، وتظل تكبر داخلك، وبأعماق نفسك في الوعي وفي اللاوعي، وتشهد اضطرابات وانحرافات سلوكية تضر بك وبغيرك، وتغيب عدالة الأرض عنك، وربما تتأخر عدالة السماء أيضا إلى يوم الحساب.

لقد أكلتُ التراب وأنا حديث سن في عمر الطفولة الأولى، وكنت أعاني من سوء التغذية، فضلا عن نقص عنصر الحديد في الجسم.. لقد كنت ضحية من نعومة اظافري، للسلطة، والجهل، والقمع، والتنشئة الخاطئة، وضحية هذا الواقع الذي تشارك الجميع في انتاجه وصناعته..

ولازال هناك من يريد، بل ويصر أن يبقيك تأكل التراب، ويريدك ضحية إلى آخر العمر، مهموما بنفسك، وغارقا في تفاصيل حياتك اليومية، مثقلا بمعاناتك، ومشغولا عن فساد السلطة وانتهاكاتها، والحيلولة دون أن تدافع عن حقوق وحريات الناس، بل وأيضا إن أستطاع تقليم أظافرك الدامية التي تحاول أن تحفر بها في الصخر، واكثر من هذا يتمنى أن لا تستطيع حتى التنفس، الذي يحسدك وينفسك عليه.

كانت أمي في الوقت الذي تضربني لأكلي التراب، أجد في مناسبة أخرى أمِّي تدعيني وعلى نحو لحوح لأكل التراب.. عجب ومفارقة ربما لا تخطر على بال.. وبين هذا وذاك طفولة معذبة وبائسة، ومثقلة بالجهل والحرمان الشديد..

كانت أمي تصحبني معها في بعض الأيام، وهي تزور قبر جدها “الشيخ حيى”، وكان يشمل المكان مقامه وغرفته وقبته وبعض الملاحق.. كانت أمي تحمل الشمع الذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجدها، وتسرِّج بها ظلمته، فيما تضع بعض رزم الشمع الغير مستخدم في كوة الغرفة أو على حافة القبر؛ لمن يأتي في يوم آخر ليضيء ظلمة جدنا "الشيخ حي" وتفعل أمي مثل هذا أيضا، مع قبر ومقام جدنا الشيخ أحمد القريب منه..

كانت أمي عندما تسرج المكان بالشمع والضوء تشعر بفرحة غامرة، وسعادة كبيرة لا تتسع لها.. ثم تمد يدها في كوة موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتخرج بعض فتات أو فراتيت التراب، وتأكل منه قليلا، وتعطيني قليلا منه لآكله..

كانت أمي تحثني وتشجعني على التهام التراب الذي تخرجه من كوة القبر، لأنه كما تعتقد مكنوز بسر جدها الذي جاء من حضرموت ليحط به الرحال هنا فقيها وعالما وصاحب كرامات..

لازلت أذكر عندما كانت أمي تشجعني على التهام قدرا من تراب قبر جدها.. كانت تحثني، وتبدأ هي بالتهام بعضه، وتلح بإصرار أن التهم التراب.. لقد كانت تحاكيني وهي تفعل لأفعل مثلها.. تحاكيني كما تحاكي الأم طفلها أو رضيعها، وتشعرني أنني سأخرج من المكان وقد تزودتُ شيئا لم يكن موجودا حال الدخول إليه..

ورغم فقداني للذة التراب الذي كنت معتادا عليه، وأعاني من عقوبة التهامه، ورغم فقدان هذا التراب لنعومته، إلا أن روحانية المكان، وهيبته وجلال المقام، وكرامات صاحبه بحسب روايات أمي، وما تفييده من محامد جدها، وما يحمله من سر جدير بالاهتمام، أو هذا ما كانت أمي تلقّني إياه، وترويه لي بثقة عالية ويقين.. وكنت إذا تعرضت لمرض أو مكروه تدعو جدها "الشيخ حي" وجدتها "جنوب" أن يشفيني ويحييني ويجنبني كل شر، ويزيل عني كل مكروه يصيبني..

الحقيقة كنت أظن وأنا طفل أن هذا التراب الذي ألتهمه هو من بقايا عظام ورفات جد أمي، ولكن في مرحلة متأخرة أدركت أنه من فوق القبر، لا من جوفه، وأن رفاة جد أمي وبقاياه لازال مدفونا بعمق القبر والمكان..

كانت أمي تعتقد أن أكل قليلا من التراب من قبر جدها يفيد في كل شيء، ويحميني من كل شر.. ولكنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدته وتعودت عليه، وكنت ألتهمه سرا أو خفية عن أعين أمي..

كانت أمي تحثني بإلحاح على أكل التراب التي تستخرجه من كوة قبر جدها، وهو حال يشبه تماما وضعها وهي تحثني على شرب لبن البقرة الدافئ من جحف اللبن، بعد أن تنتهي توا من حلب البقرة، وأنا واقفا جوارها مساء كل ليل..

كنت ما أن أنتهي من شرب كمية من اللبن، ترجوني وتلح بصوت خفيت ولحوح على أن أزيد " اشرب.. زيد اشرب.. زيد اشرب.. اشرب مليح .. اشرب".. وصوتها الخفيض كان كمن لا تريد أن يسمع أحد ما بيننا، وتظل تحاول وتحاول أن أشرب المزيد حتى تيأس من أن أعيد.. كانت تحبني أكثر من أبي، وتأثرن عليه في كل شيء، حتى في الحليب الذي كان يتناوله أبي كل مساء..

عندما كانت أمي تمارس إلحاحها، وتحملني على شرب المزيد من حليب البقرة، أشعر أنها تريدني أكبر وأقوى بسرعة، بل أشعر وهي تلح إنها تريدني أكبر في الحال.. أما عن أكل التراب، فكانت تعتقد أنها تودعني سر جدها، وتقيني من كل مرض وشر ومكروه..

الحقيقة لم ي
كن يغريني حليب البقرة، بل كان حليب "النيدو" هو الذي أروقه ويروقني؛ ربما لأنه كان بعض مني، وكان يسد حاجتي، عندما كان لا يكفيني ضرع أمي التي تعاني، وأنا لازلت دون عمر السنتين.. ولازلت إلى اليوم أشتهي أن أكرعه في فمي بكميات كبيرة، كما كنت أفعل هذا في سن الطفولة وسن المدرسة، بل والمراهقة أيضا، حتى أبدو أمام نفسي شخص غير طبيعي، وأنا العط فيه بنهم شره..


عندما كنت طفلا في السنة الأولى مدرسة على الأرجح، رأيت رؤيا، وفيها أنني أممت الناس بالصلاة في المقام، ورأيت "الشيخ حي" وأشياء أخرى نسيت تفاصيها بعد خمسين عام، رغم أن الرؤيا كانت يومها كفلق الصبح من حيث الوضوح والتفاصيل، بل كأنها كانت حقيقة لا رؤيا..

كانت أمي وأبي مهتمان على غير العادة بهذه الرؤيا، ويطلبان أن أعيد روايتها على مسامعهما، وأشاهد سرور دافق واهتمام لافت منهما بما أرويه.. ربما فهموا الرؤيا إنها تتعلق بمستقبلي البعيد، غير مدركين إن المستقبل في اليمن سيكون للفساد والقتلة والمستبدين.. والأهم أنني طيلة هذا العمر المديد ظللت متماسكا أحذر السقوط، وأحذر من السقوط المريع مرتين وألف..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع
احمد سيف حاشد
(5)
غموض واعتقادات..
علاقة أمي بجدودها الأولياء وطيدة، واعتقادها بهم راسخا وصارما، فهي تدعو الله، وتستنجد به، دون أن تنسى جدودها الذين خبرتهم مرارا، وصارت تثق بهم، وتعتقد بيقين إنهم يساعدونها.. عندما تريد شيئاً منهم تنذر، وتنطع الشمع، وتذبح لهم الذبائح وتطعم الفقراء، إن كان الأمر يسمح، أو هنالك خطب جلل يستحق الذبيحة.. وأستمر هذا الاعتقاد لديها حتى وفاتها عام 2017 وربما أرجع بعضنا السبب إلى ما يسمى "قانون الجذب"، أو شيئا منه أو مثله..

وفي الأحلام كانت أمي تقول إنها ترى جدودها يأتونها في المنام، ويخبرونها بأشياء تتحقق، أو تقع في قادم الأيام، سواء كانت مفرحة أو فاجعة.. أذكر أنها قالت لي في إحدى المرات إن جدتها "جنوب " جاءت تخبرها في المنام، إنه سيحدث (أمر جلل) وتحقق ما قالته خلال أيام قليلة، وكما وصفته بالمعنى المليء دون غموض أو التباس.. لقد كان حلم أشبه بالحقيقة، أو برصاصة اصابت الهدف في الرأس والمنتصف، دون أن تنحرف عنه مليمترا واحدا..

عندما كنت معتصما، ومضربا عن الطعام مع الجرحى في محاذة سور مجلس الوزراء، في مطلع العام 2013 كانت أمي تدعو الله أن يساندني، ويقف معي، ويقف مع من يقف معي.. كانت تدعو جدودها الأولياء أن يكونوا إلى جانبي في المحاذير، وينجوني من المخاطر، ويحضروا معي في كل ملمة ونائبة، وكانت تأخذ بعض الأوراق النقدية فئة ألف ريال، وتسبعها في الماء، وتقرأ عليها القرآن، وتنذرها للمساكين والمحتاجين، وهي مطمئنة إلى ما تعتقد، وتدّعي أن ما تفعله كفيل بان يحفظني من شرور البشر، والتي تعتقد إن شرورهم، تفوق شرور الشياطين.

أمي وبحسب ما ترويه هي أيضا، عندما تضيق بها الدنيا وتشتد، أو يكون هنالك أمر جلل، أو فعل أو قول يؤذي مشاعرها على نحو حاد، أو ما شابه ذلك مما قد يحدث، فتشعر بشيء يبدأ يتكور في داخلها، ثم يكبر كالكرة، ويظل يكبر حد الامتلاء والفيض، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها، ويرتعش جسدها كـ "طبيلة" المجاذيب، أو كأن شيئا يلبسها وبما يخرجها عن طورها، ولا تهدأ ولا تستكين إلا بعد أن تقوم بإفراغ ما في رأسها وصدرها من طاقة بنطح الجدار.. نطح قوي ومتتابع ومثير للدهشة.. وتجعل من يشاهدها يبدو مشدوها وغارقا في الذهول.. ما تفعله كان أكبر من الانتحار والجنون، وكأنها تأخذ حقها من الجدار مرتين وثلاث أو بضعفين وأكثر.

في إحدى المرات تدخلتُ بجُرأة، ومسكتها بقوة، وأبعدتها عن الجدار، للحيلولة دون مواصلتها لنطحه، بدوافع مخاوفي، وبعد أن ظننت أنني سأشهد حطام رأسها متناثرا على الأرض، أو مهشوما كالزجاج، فيما كانت هي تعيش غمرة ما تفعله، وفي لحظة ذروته..

كان الجدار من حجر الجبل الصلد، والشديد في صلابته وتحديه، وعلى نحو راعني، حتى خشيت على رأس أمي، ولم أكن أعلم أن منعها من استمرار فعلها، يؤذيها على نحو لم أكن أتخيله.. انفجرت أمي بالبكاء الشديد، وبحرقة لاسعة، وعتاب مملوء بالخيبة لم أعهده في حياتها من قبل وهي تقول لي: (عثرتني.. عثرتني.. عثرتني) .. ثم مرضت عدة أيام.. ومن بعدها كنت أتركها تؤدي طقسها مع الجدار، وعلى راحتها، والنحو الذي يروق لها، حتى تنتهي منه، وتهدأ كبالونه فُتح ما يسد بابها..

وظل نطح الجدار يحدث مع أمي حتى آخر شهر في حياتها، وقد قارب عمرها على الأرجح الثمانين عام.. وفي السنوات الأخيرة من عمرها حالما كان يحدث معها مثل هكذا فعل، صرنا نتوقع قدوم ما هو سيء.. نقرأه كإحساس منها، لا تستطيع أن تعبّر عنه، إلا بتلك الطريقة الغريبة..

لقد أحاطني يوما الخطر، وأصيبت أمي بنوبة هلع، وردعت الجدار أكثر من مرة، ولم تنته مما هي فيه إلا باتصالي التلفوني العاجل، الذي هدّاء من روعها، وأوقف نوبتها الجنونية.. شعرت يومها أن حميميتنا أكبر منّا، وأن هناك صلة روحية قوية بيننا، أو شيء استثنائي مختلف، وربما هو إحساس غريزي قوي من الأم بما يتهدد ابنها من خطر، والذي تحبه كثيرا، بل أكثر من نفسها، وأكثر من إخوته أيضا..

كانت تقول لي: أسأل الله أن يأخذ ما بقي من سنين عمري، ويطيل بها عمرك.. فطال عمر كلانا.. فقاربت هي من عمر الثمانين، وأنا أقارب الستين.. وقبل أن تموت لم تكن تسمع غيري، ولا تنفذ إلا طلباتي وإن كانت كرها عليها.. عندما أشتد عليها مرض الموت، كانت تأثر الموت على أن تأكل أي شيء.. فإذا طلبتُ منها أن تأكل، استجابت وغصبت نفسها عليه، وعلى نحو أشعر أن ما تفعله، لتنفيذ ما أطلبه، هو بقسوة الموت وطعمه، ثم أتفاجأ بعودة ما أكلته بعد ساعة، وكأنه كان مختبئا في مكان ما بفمها أو شدقها أو بلعومها.. يعود ويخرج من فمها كما دخل، دون تغيير، بعد أن كنت أظن أنه قد أستقر في معدتها، أو ذهب إلى ما بعدها..

لقد تعلقت كطفل بأمي حتى آخر حياتها، وقد قاربتُ الخطى نحو الستين أو أقل منها بقليل.. كنت آثرها على جميع من يعيشون معي، وكنت أنحاز للانتصار لها، غير مكترث لما يصيب غيرها..

كانت أمي هي الخيار الأول دوما، والذي آثره وأفضّله على كل الخيارات.. فإن انفعلت حيالها في لحظة توتر
قصوى ونادرة، ما ألبث أن اعتذر لها بندم شديد، وقد أشعرتني إن فسحة قلبها جنة ليس مثيلا لها في وسعها، وغفرانها لا ينتهي..

كانت أمي ما أن تفرغ من نطح الجدار، حتى تهدأ وتستريح.. فإن لم تهدأ، تعاود الأمر مرة أخرى، فتهدأ وتستريح.. فقط عندما أحاطني الخطر، كان الأمر معها أشبه بنوبة لم تهدأ منها أو من روعها إلا باتصال مني والتحدث معها.. لقد كانت تجزم وتلح أنني في لحظة خطر محدق وأكيد، وكان الحال كذلك، وقد أوشك الخطر على الوقوع، ولم تنقذنِ منه غير دقائق قليلة.

مشاهد متفرقة وكثيرة، لا عد لها ولا حصر، شاهدتها وهي تنطح الجدار.. كانت تستعد وتهرول وتنطحه ثلاثا وأربعا وعشراً .. هذا الأمر لم أجد له تفسير علمي إلى اليوم، ولم أفهمه إلا بأنه خارقا للعادة، وبكل تأكيد.. فهي لا تجيد الكذب والخديعة وخفة الحركة، ولم يسبق لها أن عملت في مسرح عرض ولا سرك..

هنالك كثير من الاعتقادات الغامضة لا زلت أذكرها إلى اليوم.. كان أبي إذا خرج ليلا وأصابته شوكة يعود من الطريق معتقدا إن شر سوف يصيبه إذا تجاهله أو تغافل عنه.. يبدو أنه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة..

أنا وخالتي سعيدة زوجة أبي كنّا إذا حدث أن أنملت أو بالأحرى "سيّرت" قاع او بطن قدم أحد منّا، يصل أخي علي من صنعاء، أو يهل علينا ضيف نحبه، وإذا "حفّت" يد إحدانا نستلم نقودا، أو شيئا يفرحنا، أو نصافح كريما، أو ضيف يبهجنا.. ولازال هذا يحدث معي إلى اليوم..

لقد كان لنا حدسا وحواسا يقظة، ولم يعد منها اليوم غير أطلال، أو بقايا أقل من القليل.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
اصداء..
محمد علي اللوزي ..ناقد وكاتب واديب:

لغتك مدهشة وحياتك حافلة بمعنى الوجود والتواجد.. اتمنى ياقاضي لو يصدر كتاب يتضمن هذه السيرة الذاتية بمافيها من تحولات في حياتك من فرح وحزن وحب وألم وأمل وتبدلات احوال. أنت متمكن فعلا من اللغة بمجازاتها. ومرهف المشاعر تجيد اقتناص اللحظة بفنية عالية. اتابعك باستمرار..

ثري انت في لغتك في مشاعرك في قدرتك على صياغة المعنى وحرارة العطفة لقد أتقنت عدن ورسمتها في ضلوعنا وجعلتنا نشاركك كل تضاريس مرت عليها لكأننا في المشاهد ذاتها. شكرا لهذا الفيض الجميل لروحك المترعة بالحب وماهو نبيل.

شكرا لما تجود به علينا وبسخاء الحرف عن سنوات مليئة بكثير من التحولات والتبدلات . التي مرت على عدن وأنت. سلام ياصاحبي المشرق جمالا. انت تثرينا حقيقة. وتضيء جوانحنا بما نبحث عنه في زمن الجدب والفقر الروحي

أنت الإنسان في أرقى تجلياته ومواقفه المتجذرة بالقيم نبيلة والفعل الخلاق والكلمة التي نراها فينا حضورا مؤثرا. أنت ياقاضي تفتح عوالم من الدهشة وقوة الضمير حين لاتعير معنى لكل تنابلتهم وتمضي في إتجاه المشرق في الإنسان كماهو مكرم من عندالله كخليقة وليس شيئا آخر. أنت تفتح نوافذ نطل منها على مانريد.

شكرا لفيض حرفك الجميل لطلعه النضيد لروحك السامقة في كل كلمة نقراءها ونجلها ونفهم بعدها الحضاري
.............................

اصداء..
حسن الدوله .. كاتب ومهتم:
ما تكتبه ستكون افضل روايات السير التي قرأتها.. فأنت تتمتع باسلوب سرد جميل ولغة سهلة وسلسلة وانسيابية تأخذ بشغاف

القارئ وما أن يبدأ بقراءة الجملة الأولي حتى يتشوق للتي يليها حتى أخر الحلقة ..
سلمت اناملك ولا كسر قلمك مودتي ومحبتي لك أستاذنا المناضل الجليل
....................................

اصداء..
نجيب الحاج .. محامي:
سرد وخيال ودهشه ووصف بديع.. فيها تفاصيل دقيقة.. تشبه ما كتبه غاندي في تجاربه مع الحقيقة ..
لا تقلق انت اديب متمكن وروووعه..
لا يشبه ما تكتب سوى تقرير الى غريكيوا لكنتزاكيس بشهادة العدو قبل الصديق..
...............................

اصداء
عبده العبدلي .. كاتب وناشط:
جميل ماتكتب استاذي ..اسلوبك في الكتابة متفرد تماما. ..تروي قصة طفولة تسوقنا الى قرانا المتعبة ردحا من الزمن بين اقصاء وإهمال متعمد

فيك خصال تجبر خصومك على احترامك طوعا او كرها وجعلتنا نحبك كثيرا وان لم نفصح عن ذلك الحب. .. يكفي انه مكنون بقلوبنا أيها المناضل الشريف في زمن قل فيه حمال الوية النضال من اجل الحرية والعيش بكرامة
.................................
اصداء
عامر علي سلام:
الله يرحمه عمي / سيف حاشد ... رجلا عصاميا كان لي شرف العمل معه في بخار عبد الحميد في الخساف ..حيث كان أبي علي سلام فوز يعمل سائقا عند عبد الحميد ..كنت أنا واخي في إجازة الصيف المدرسية نعمل أيضا في ( تفنيد ) الجلود ... فقط ..

حيث كان يجلب كل أنواع الجلود المملحة والجافة من الشيخ عثمان والشيخ الدويل الى البخار ونستلمها نحن في المستودع حيث يقوم سابقا عمي ناصر ... وبعده جاء عمي سيف حاشد بتفنيد الجلود ( وهي عملية فرز مهمه جدا وتحتاج لدراية وحنكة في تصنيف الجلود ..وليس أيا كائن يستطيع أن يتعلمها حيث تقسم الجلود الى نوعين اولا جلود الماعز ( التيوس ) وجلود الخرفان ...وبالتالي يعتمد المفند على فحصه لكل جلد ان كان درجة أولى او ثانية او ثالثة او رابعه ...!!ولكل درجة لها تسميتها ... صافي درجة اولى ...كشر درجة ثانية ..واقل من ذلك ثالثة ورابعه ..!!

بعد الفرز والعد أيضا نقوم بأضافة السم مع الملح المخلوط الى كل جلد و وعمل رصات خاصة لكل نوع في البخار الذي كان يتسع لكميات كبيرة من الجلود ...واثناء الطلب الخارجي نقوم بوزن الجلود على شكل بند كبيرة ندخلها في مكينة ضغط خاصة برزم الجلود وربطها بأحكام وناتي بالجواني ( تغليف كل بنده على حده )* .. ووزنها ثانية للاطمئنان ونكتب عليها بفرمات محددة أسم الدولة التي نصدر الجلود لها ...او اسم الميناء ...!!

ومن ثم تحمل الى الميناء ويشحن بالسفن الى اوربا ( ايطاليا / فرنسا / وغيرها )
ويتم مراسلة الشركات عبر مكتب خاص كان التاجر عبد الحميد يتعامل معه .!!
الله يرحم والدينا جميعا ..

كانوا مدرسة في الاخلاص والتفاني والعمل ...ورغم سنهم الا انهم كانوا اكثر شبابا منا ...ونحن حينها شباب في مقتبل العمر ...!!
.................................

اصداء
د. علي قائد:
لقد خطر السؤال على بال الكثيرين في موضوع اصول القبيطه
لقد مارست عمل التجاره في الصغر في الراهده وكان لدي دكان ابيع فيه الجمله والتفاريد وكان موقعه بين ادره الامن والقياده ومن خلال الموقع ووجود زاويه فيه للجلوس
احمد سيف حاشد:
(6)
رعي الغنم
رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا حالما يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية قل مثيلها.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة من الزهور، تملؤوا عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل لا تُنسى، بل أثبتت خمسون سنة مضت، إنها عصية على التلاشي، ولا يدركها غروب أو نسيان..

ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لم أنسها إلى اليوم، رغم مرور نصف قرن من عمر حافل ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لن أنساها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، أو صعدتُ علوا منها إلى سطح القمر..

ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..

لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن.. لازلت أذكر أشكالهن وحكايتهن وكثير من التفاصيل.. لازلت أذكر "حجب" و"بيرق" و"خرص" و"عنب" و"شمار" و"غبراء" و"خضاب" و"فرح" و"مرش" و"سواد" و"حلق" و"حنّا" و"حمراء" و"نشم" و"بحرية" و"قدرية"..

كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!! لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها، وعدم بعدها عن اليوم بمرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد لازال غير بعيد..

في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في "الأنترفيو"عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ وأفتُّ فيها وأذكرها مرتين..

وفشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت حينها أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين ونحوهم..

لازلت أذكر العنزة "حجب" اللبون، وجسمها الضخم والممتلئ، والمنحدر من سلالة هندية عريقة.. "حجب" التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم عين وماتت، أو هكذا قيل..

لازلت أذكر "خرص" أم "بيرق"، وتمرد "عنب" و"حنا" اللاتي ينطبق عليهن مثل "أينما غلّست باتت"، ونشم "الذكية"، وسواد الطيبة، و"مرش" النافرة، و"قدرية" و"بحرية" أغنام أمي المساكين..

لازلت أذكر العنزة "خرص" التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن "خرص" "بيرق" قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي، ولم يكن لدي حينها أملاكا غيرها، ولم يكن يومها قد خُلق آخر عنقود العماد، ولم يكن له يومها هوية، ولم يكن للهوية قناة، ولا للفساد ذراع ومخالب، بل كان الجميع عدم على عدم، إلى أن جاءت المسيرة والهوية، فصار للفساد ملك ومملكة..

قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا " أما أنا فعشقت "بيرق" قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..

عشقت "بيرق" وهي لازالت ببطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر موسم البذار، أو كطفل يرقب طلوع الفجر عشية يوم عيده، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..

خرجت "بيرق" من بطن أمها إلى فسحة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الكون والوجود.. شبت "بيرق" الجرعاء من دون قرون.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بيضاء كندف القطن، أو بياضا كالجليد.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كثوب حداد..

ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما على يوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان..

كل يوم كانت "بيرق" تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصور، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..

ربما "بيرق" لا تصلي ولا تنافق، ولكن لها من العفة ما تسقي بلاد وأهلها بالماء الطهور.. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا والشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم والعقاقير.. تنمو بمهل، وليس بسرعة شبكة اله
وية.. تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش وحرير، ولا تصنع الفن من نقيق الضفادع.. وللقصة هوية وبقية..

***
يتبع..
أحمد سيف حاشد:
بعض من تفاصيل حياتي
قسوة وطفولة بطعم التمرد
(1)
كان الحمل ثقيلا.. كنت أقوم بما لا يقوم به أقراني من الأطفال الذكور.. لطالما كنست الدار، ونظفت كل ملاحقه ومرافقه، ورعيت الغنم، وحملت على رأسي روث البقر.. ساعدتُ أمي فيما لا تقوى عليه خصوصا عند الحمل والولادة.. وبسبب الكنس، والدخان، وتجريب الشقاوة، أنقطع النَفَس، وأصبتُ بالربو، وكدت أفارق الحياة مرتين.

في الصف الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم أكثر من عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة وعشرة مثلها عند الإياب.. كما عشتُ لاحقا وانا أدرس في القسم الداخلي، معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية..

لازلت أذكر قسوة والدي في مرحلة من حياته، والتي تجاوزت الضرب إلى التعليق والطعن والشروع بإطلاق الرصاص..

تمردت على أبي، وسلطته المفرطة.. قاومت أكثر من ظلم أثقل كاهلي.. كنت أشعر أن الظلم العنيف يفترسني ويهرس عظامي.. رأيت الموت أكثر من مرة، وتحديت الأقدار، وثرت في وجهها بألف سؤال.. فكرت باقتحام الموت واستيفاء الأجل، ولم أعب بجهنم وبأقوال أمي إن المنتحر يذهب إلى النار.

رفضت الانتقام، وبلغ شعوري بالظلم حد أرى فيها الحياة والموت سيان.. حاولت الانتحار احتجاجا على واقع مُر، وكرامة بدت لي مهدرة، غير أن العدول عن هذه الحماقة كان فيه انتصار للحياة والحب والإنسان.

كان لدى أبي سياسة خاطئة في التربية، تختلف عمّا هي موجودة لدى الناس، أو متعارف عليها بينهم.. كانت سياسته تستند إلى الشدة والقسوة والعنف، بل وأعتبرها مجرّبة ونتائجها أكيدة، وغير قابلة للنقاش أو الملاحظة، فضلا عن إعادة النظر، ولاسيما إنه طبق بعض منها على أخي علي ، وكانت النتيجة كما راءها قد أتت على ما أراد وأشتهى، فتشرف به، واعتز باسمه وبأنه ابنه..

كان أبي يضربني كثيرا.. ضرب يومي لا عد له ولا حصر.. ضرب يومي يبدأ مع الفجر ولا ينتهي في العاشرة من الليالي الداجنات.. أن يتم ضربي كثيرا بات أمرا طبيعيا ولا يثير عجب أو سؤال.. ولكن الغير طبيعي أن يضربني أقل من ثلاث مرات في يومه الواحد.. إن حدث مثل هذا فهو بالنسبة لي يوم مائز ومختلف.. لو حصل وضربني أقل من ثلاث مرات، فيعني لي إنه يوم عيد، لربما لا يعاد إلا في العام الذي يليه.. يوم كهذا يستحق مني الاحتفال.

كان هذا الضرب يحدث غالبا أمام مشهد من الناس، وكنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني.. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي وما جرى من أبي.. كنت حديثهم اليومي الذي يقتاتون عليه، أو هذا ما أخاله.. كنت أشعر أن الإهانة تسحق عظامي.. كنت أبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصاب.

ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر، وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين، ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً، وهي الانتصار للمقموعين والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح، والدفاع عن الضحايا ولو كلفني هذا حياتي مرتين، أو هذا ما أخاله وأظنه..


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع
هذه تعز.. وهذه أسرة اقبال الحكيمي .. إنها مظلومية اليمن

أم إقبال محبوسة بتهمة قتل بنتها قبل عشر سنوات، فيما تقرير المشفى يؤكد إنها توفت في تعز وأسباب الوفاة طبيعية ..
ولم يكتفوا بهذا بل وبنت بنتها أزهار الذين يدعون إن أمها قُتلت تم الزج بها هي الأخرى في السجن لماذا..؟! هل هي أيضا قتلت أمها..
ولماذا أختها فادية زجيتم بها في السجن.. هل لأنها قتلت أختها الأولى أو الثانية
والاغتصاب والاختطاف ماذا ستقولون عليه ؟!
وعقد الزواج الذي أردتم أن تغطون به على جريمة الاغتصاب والاختطاف ماذا ستقولون عليه..؟!
والطفل ابن الخمسة الأشهر ماذا ستقولون عنه؟!
العقد المزور الثاني الذي أردتم أن تغطون بهم جريمة الاغتصاب والاختطاف ماذا ستقولون عليه؟!
ونهب منزل أم إقبال وأسرتها من قبل مشرفيكم ماذا ستقولون عليه؟!
وتهجير أسرة اقبال الحكيمي من منزلها ماذا ستقولون عليه؟!
ولماذا النائب العام لم يحقق في جرائم مشرفيكم ورجالكم بما هو منسوب إليهم في دعوى إقبال المرفوعة للنائب العام.. بل لماذا رفض سحب القضية إلى صنعاء بدلا من العبث فيها في تعز ودمنة خدير من قبل المحسوبين عليكم؟!
ولماذا رفض النائب العام حتى التأشير على دعوى أسرة إقبال والمرفوعة من محاميهم؟!
على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها "الفاتحة" أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..

خالتي "سعيدة" كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..
..................................
يتبع..
احمد سيف حاشد:
(2)
فاتحة وصلاة وسفينة
أريد "سفينة النجاة".. سفينة الرب إلى ما يريد ويرضى ويطيب.. أريد أن أصلي.. أريد أن أدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد.. لا حزن هناك ولا موت.. ولا جوع فيها ولا عوز.. أريد الجنة وما فيها من تعويض لحرمان، ضاق معه العيش، وأشتد فيه النكد.. أريد الجنة بما فيها من حياة أبدية لا مثيل لها ولا نظير.. كنت اطيل استفسار أمي، وهي تحكي عن الجنة وتطيل، وتشرح ما يجذب ويغري ويفيض..

أريد "سفينة النجاة" التي تعلّمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة.. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، وتشوقت له كثيرا، ومرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بواحد منها.. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، ويُرجئها من شهر إلى آخر، وبعد انتظار طال، ووعود كثيرة خابت، أوفى والدي بآخر وعد، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله..

عندما ناولني أبي "سفينة النجاة" كانت دهشتي أكبر من عالمي، وكانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي.. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب..

كان قلبي عامر بالفرح.. يرقص ويغني ويطير كفراشة.. وأنا أعيش الدهشة بكل المعاني، وأردد محفوظاتي الطرية:
“أنا طفل بطل شاطر وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر وأدعو الله يهديني”

ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وأنكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..

“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث الذي لا أدري ما مدى صحته وموثوقيته، أشقاني، ونال مني الكثير، حتى أنني وقد قاربت الستين، لم أحسن ما ضُربت لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير..

خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة.. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي وحذائه، فطيّر عقلي وطار صوابه، ووجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها الضباع والسباع.. تهدج صوتي، وأضطرب تفكيري كبحر وعاصفة.. أتشتت روحي كنثار رمل في الريح، وتطايرتُ كشرر نار الحديد تحت مطرقة الحداد..

أنساني التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون مواسم، وتتساقط بعض الكلمات من فمي، فألمّ بعضها ويتساقط أخرى أكثر منها.. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..

يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، وتتداخل الألوان ببعضها، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا يعرف، ولا يعرف سامعه ماذا أقول..

ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة الجحيم، في روحي المهشمة وأجنحتي المتكسرة..

أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت ألتّها وأفتّها إلى يوم القيامة.. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي في قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في "كريتر" عدن.

أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة أيضا مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، وتعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبي، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن..

ثم ترك أخي عدن، وولّى هاربا من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح .. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: "سجل 16 سنة".. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عام..

غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..

فيما قصتي مع "سفينة النجاة" يشابه ما حدث لسفينة "تيتانيك".. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، والرب خير حامي وحارس..

"سفينة النجاة"، وجدتها، ولكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدت خيبتي التي تبتلع المحيط.. وسفينة "تيتانيك" التي ساد الاعتقاد يومها إنها ضد الغرق، غرقت في قاع المحيط..
"تيتانيك" بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق للمحيط ، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم..

فيما خالتي "سعيدة" أم علي، كانت حريصة
اصداء..
محمد عباس الضالعي.. كاتب:
الاستاذ احمد سيف المحترم

انا تابعت حلقاتك التي كتبتها عن حياة اسرتك وحياتك الخاصة ..فيها من الصراحة والشجاعة ما يذهل القارئ .. فيها من الغموض ما يحيره.. فيها من الاستخدام اللغوي ما يظهر عجزه عن معرفة بعض الكلمات.. فيها ما قد يجعله يصفك أنك راوي عظيم .. فيها ما يجعله يصفك بالسياسي الغامض الذي يدمج بين الحقيقة والخيال.. يدمج بين الماضي والحاضر.. فيها ما يجعله يطرئ عليك أنك صاحب قلم متميز.. فيها مايجعله يجهل حقيقة افكارك وتوجهاتك ومقاصدك من كتابة كل ذلك ولا سيما في ظل وضع مزري ومتخلف يعيشه شعب ووطن يدعي أنه بنى حضارة في الماضي وهو فاقد لابسط مقومات النهضة الحضارية اليوم.. وضع تنعدم فيه مقومات الابداع الانساني الحر والتي تمكنه من التعبير عن خياله دون وجل أو خوف ليظهر لنا عطاء جديد لم نألفه وان كان غيرنا في بلدان العالم يعده أمر طبيعي.. تتم مقابلته من قبل القارئ برؤية نقدية فاحصة وغير متعصبة سلباً أو ايجابياً ..رؤية نقدية ليست تكفيرية كما هو حال واقعنا.. ولانني معجب بما كتبته ولا أرغب أن يكون رأيي مشيداً بك دون ناقداً لك.. فانني أرى أن ما تكتبه لكي يتحول إلى عمل متكامل يمكن نشره مستقبلاً في كتاب أو يصبح عملاً درامياً يفتقد إلى بعض المقومات الضرورية ومنها: التسلسل الزماني الضروري والتقريبي إلى حد ما والتحديد المكاني واظهار نقلات التوقف والانطلاق .
قد اكون مخطئ في رؤيتي هذه ولكن أحببت أن أبوح بها لك. لان لدي قناعة راسخة أنه لا تطور ابداعي دون وجود مدرسة نقدية متطورة وهذا ما نفتقد اليه في مجتمعنا واعترف انني لا امتلك مقومات النقد الادبي .. سلام.
المواطن/ محمد عباس الضالعي.
اصداء..
محمد سعيد الشوافي:

ما تكتبه جميل، ورائع جدا، فانت تمتاز بدقة في سرد التفاصيل، وثراء اللغة، وماتكتبه يصلح لئن يجمع في كتاب، ويصلح أن يكون رواية جميلة، تحتوى على السرد التاريخي،

فما تكتبه يمثل مرحلة زمنية، وحقبة تاريخية مر بها الكثير منا، وكذلك مناطقنا التي، تقع مابين الشمال والجنوب سابقا، وشهدت الكثير من الاحداث، التاريخة المهمة، والتي مرت بها البلاد، وعانى منها الكثير، سواء كانت حلوة او مرة، فكل ماتكتبه، يمثل جزء من تاريخ المنطقة، والتي كانت، سريع التأثر بالاحداث، جنوبا، وشمالا....
محمد سعيد الشوافي
أصداء
ا.د خليل ناشر:

هو تاريخ اختزل فيها مئات الصور،تجسدت في شخصية واحدة .. وانا اعتبرها من حسن الطالع أنها تجسدت وتلبست في شخصية فذة وليست في غيرها واستطاع هذا الكائن الصغير،أن يصور مرحلة مفقودة ويرسم خطوطها وأشكالها ويعطي لها لون ورائحة
انها عبقرية الراوي الذي صاغ حياته ثلاثبة الابعاد و التي جسدت في فترة من الزمن المعانات نفسها التي أصيب بها الغالب من الرموز والاعلام وشكلتهم الحياة وعصرتهم وانجزوا لهذا الوطن عطاء لايضاهيه عطاء.. حملوا نعوشهم على اكفهم.. هو آخر المحترمين في هذا الزمن.انه القاضي حاشد.
على خلفية نشاطي الحقوقي..
وزير الداخلية عبدالكريم الحوثي يطالب من مجلس الوزراء باتخاذ الاجراءات ضدي وضد رئيس لجنة الحريات في مجلس النواب خالد الصعدي:

وزير الداخلية عبدالكريم الحوثي وفي بلاغ كاذب وكيدي يطلب من دولة رئيس الوزراء مخاطبة رئيس مجلس النواب لاتخاذ ما يلزم من اجراءات قانونية ضدي وضد رئيس لجنة الحريات خالد الصعدي وهذا يعني ضمن يعنية المطالبة برفع الحصانة واحالتنا للتحقيق ..

فيما وزير الداخلية يحبس في السجن الجنائي اشخاص من ثلاث سنوات خارج القانون ويرفض احالتهم للنيابة..

وزير الداخلية الذي تعج سجونه بكثير من المساجين خارج نطاق القانون بل وبعضهم محبوسين لمدد طويلة ومقيدين بتهمة الحرب الناعمة وهي تهمة ليس لها صلة بالقانون والدستور ..

الوزير الذي يجري التعذيب في سجونه بسبب ضعف اشرافه على السجون التابعة لوزارته ان لم يكن اكثر من ذلك..

وزير الداخلية الذي تملاء سجونه السجناء المصابين بالجرب والامراض المعدية وتتفاقم الحالة سوء.. بالاضافة للحالة السيئةلاوضاع السجون التابعة لوزارته والذي يعاني نزلائها من الجوع ورداءة الفراش..


وزير الداخليه الذي لا يعزل امراض الاديز عن غيرهم من المساجين.. بل وتتعمد اجهزته وهي تعلم بالمريض والاصابه وتسوقهم للسجون الاحتياطة دون ان تعلم ادارة تلك السجون ويجري اختلاط المساجين الاصحاء بالمصابين بامراض الايدز ..

وزير الداخلية التي تملاء سجونه مساجين باكثر من ضعف عدد الحد الاعلى للعدد المقرر لتلك السجون .. ويريد اتخاذ الاجراءات ضدنا لاننا اخرجنا سجين بسلطة النيابة التي كانت معنا والذي يبدو ان الاخ الوزير لا يعرف انها معنية بالافراج عن المساجين وانها مشرفه على عمله القانوني وعمل وزارته باعتبارهم ماموري ضبط ومشرفه فيما يخص السجون التابعة لوزارته ومعنية بتفتيشها واخرج من هو موقوف او محتجز خارج القانون..

ونعتقد ان مطالبة وزير الداخلية لاتخاذ الاجراءات القانونية ضدنا والتوجيه بإحالة نائب مركز شرطة 22 مايو الى الإدارة العامة للرقابة والتفتيش للتحقيق معه وإتخاذ الإجراءات التأديبية بحقه ونسخ صورة من مذكرته الى المجلس السياسي ومجلس النواب والمفتش العام ووكيل قطاع الامن والشرطة ومدير عام الشؤون القانونية ومدير عام شرطة امامة العاصمة وادارة الهيئات الحكومية انما يهدف الى التشهير بنا واعاقة عملنا الرقابي وارهابنا من ممارسة مهامنا في لجنة الحريات في مجلس نواب صنعاء بعد ان حاولت اللجنة استعادة دورها المختطف من قبل السلطة والقائمين على الاجهزة الامنية..
وهو ايضا يهدف الى تهديد كل من يتعاون مع اللجنة في انفاذ القانون من افراد الشرطة في مديريات ومراكز الشرطة.

كما يهدف الى استهداف ما تبقى من دورنا الرقابي المحدود والذي بات مضيقا عليه ولا يزيد مساحته عن مساحة رأس الدبوس. واستهداف ما بقي من مجلس ولجان ولي شخصيا بسبب نشاطي الحقوقي الذي لا يروق للسلطة ولرجال الامن وللمنتهكين لحقوق الانسان وحرياته في صنعاء..
قسوة وطفولة بطعم التمرد
(3)
ممنوع اللعب..
احمد سيف حاشد
كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته.. تكسّر أجنحتي، وتطيح بجمجمتي.. تُهشّم أضلاعي حتى تختلط ببعض؛ فتبدو البشاعة مرعبة في وجه طفولتي المتعبة، ويتجهم الواقع في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه، في أن ألعب وألهو وأفرح، مثل غيري من الاطفال..

تبتلع الحسرة وجودي الحقيقي الذي أحبه، وكلما يشعرني إن الحياة لا تزال رائعة، وأنها تستحق أن نعيشها، فيما تترك بقاياي كعصف مأكول.. ومعها كثير من الحزن والألم والغصص..

كنت أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون ويعيشون حياة لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو، مقموع بالأوامر الصارمة، وبسلطة تشبه القدر الذي لا رد له..

كنت استغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرد عنه، وأنغمس في اللعب حتى الاذنين، ولكنه كان انغماسا لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلا قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي.. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصرخ في مناداتي، فما أن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل ودفعة واحدة، لا قسط ولا تأخير فيه، على تمردي القليل عن طاعته، والشارد عن سلطته وولايته..

كنت استغل أحيانا ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، وألهو وألعب دون أن أمل أو أتعب، فيما كانت جدتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها، حبيسة بيتها رأس الجبل ومفرجها المطل على الوادي، وما أن ترى أبي في بداية الوادي عائدا إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولا إلى بيتنا، وأبدوا في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والدة في عدم الخروج واللعب في غيابه.. هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب والتخفي والتمرد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحملتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم..

كنت أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بالمحبة والرجاء، فيما كنت أنا أمضغ جروحي، وأختنق بالعبر، وأُذبح بغصص كالسكاكين.

كنت أسأل ربي: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقنِ هذا الرب في مكان آخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمي معي، فلا قدرة لي على فراقها..

كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ولين، بل وتقدير أيضا وكأنهم كبار في عمر آباؤهم؟!.

كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي سببه” وكانت الفكرة لدى أبي في التربية "الضرب يشحط” ويجعل الرجال أفذاذا.. كان أبي يعتقد أنها تربية مجربة، وقد أتت أُكلها من قبل، وبما رام وأرتجى..

أنا وأبي – ربما – كل منا كان يقرأ الأمور بطريقته، وكل منّا يرى الحق معه.. ورغم تمردي لم أفكر يوما أن أسجل بطولة عليه، بل ربما التمس له العذر أيضا، أو بالأحرى أحيانا.

إن الواقع مر، والاستلاب فاحش، والتنشئة مشوَّهة، والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.

ربما من أسباب التضييق على حياتي من قبل أبي، ترجع في بعضها إلى كونه يعيش زحمة مشاغل وتوتر ومسؤوليات تفوق طاقته وطاقة أمي.. كانت المشقات والمسؤوليات كثار.. دكان، وبيع وشراء على مدار النهار وحتى مدخل الليل بحين، ورعاية أخواني الصغار تحتاج أيضا لكثير من الاهتمام، وصناعة الحلاوة وبيعها، وفلاحة الأرض، وتعدد الأعمال بها بحسب المواسم، من الذري إلى الحصاد، وكذا لا أنسي وجود مواشي لنا، بقرة وحمار وثور وأغنام، ومسؤوليات وتفاصيل كثيرة، تثقل كاهل أبي وأمي المتعبين..

كانا يغرقان في العمل كثيرا، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلا.. كنت أعلم أنهم مثقلين بالكثير من المهام وتفاصيل الحياة اليومية تلك، وكنت أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليل، أو غير متاح، وأحايين كثيرة أجد فرمانا عثمانيا من بابه العالي فعالا يقول "ممنوع اللعب" فيكون مني الالتزام، ويكون مني التمرد أيضا، مهما كانت كلفته..

ورغم كل شيء، كنت أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموت بسبب.. هو أيضا كان يحبني، وربما يرى ما يفعله هو لصالحي وبدافع الحب أيضا.. وربما خرج كلانا في ذروة الغضب قليلا عن هذا وذاك..

كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا لازلت صغيرا لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار.

***
...........................................

يتبع..
داخلية حكومة صنعاء تتهم نائبين بالإفراج عن متهمين من مركز شرطة متناسية سلطة النيابة العامة والنائب حاشد يعتبره استهداف شخصي


يمنات – خاص

أتهم وزير الداخلية في حكومة الانقاذ، عبد الكريم أمير الدين الحوثي، النائبان أحمد سيف حاشد و خالد الصعدي، بالافراج عن “9” متهمين من مركز شرطة 22 مايو بأمانة العاصمة صنعاء. زاعما أن من تم الافراج عنهم كانوا مضبوطين على ذمة التحري، كونهم من أرباب السوابق.

و زارت اللجنة البرلمانية المكونة من حاشد و الصعدي، اضافة إلى ممثلين عن النيابة العاصمة عدد من مراكز الاحتجاز في أقسام الشرطة بأمانة العاصمة، ضمن برنامج نزول ميداني للتفتيش على السجون.

و خاطب وزير داخلية حكومة الانقاذ، رئيس مجلس الوزراء بصنعاء، لمخاطبة مجلس النواب، بشأن ما سماها تجاوزات اللجنة البرلمانية و اتخاذ ما يلزم بشأنها وفقا للقانون، حسب المذكرة المؤرخة في 14 يناير/كانون ثان 2020.


و فيما لم تحدد مذكرة الحوثي طبيعة التهم الموجة للمفرج عنهم، أتهم النائبان حاشد و الصعدي بالافراج عن المتهمين، في حين أن عملية الافراج تمت بموجب سلطة النيابة العامة، و التي كانت ترافق اللجنة البرلمانية في عملية التفتيش على مراكز الحجز و السجون.

و كان مدير مكتب وزير الداخلية، علي حسين الحوثي، قد وجه مدير شرطة أمانة العاصمة بإحالة نائب مدير مركز شرطة 22 مايو إلى الادارة العامة للرقابة و التفتيش للتحقيق معه و اتخاذ الاجراءات القانونية. ما يعني أن الوزارة ترى في افراج النيابة العامة عن المذكورين مخالفة قانونية، متناسية أن مراكز الشرطة مأمور يضبط قضائي تحت ولاية النيابة العامة.


من جانبه أعتبر النائب أحمد سيف حاشد، ما ورد من قبل وزير الداخلية بأنه بلاغ كاذب و كيدي، هدفه رفع الحصانة و احالته و زميله الصعدي للتحقيق.

و أكد النائب حاشد أن عبد الكريم الحوثي يوجه لهما هذه التهمة، فيما يوجد في السجن الجنائي أشخاص مسجونين منذ ثلاث سنوات خارج القانون و رفض احالتهم للنيابة العامة. مشيرا إلى أن السجون التابعة لوزارة الداخلية تعج بكثير من المساجين خارج نطاق القانون بل أن بعضهم محبوسين لمدد طويلة و مقيدين بتهمة “الحرب الناعمة”. مشيرا إلى أن هذه التهمة “ليس لها صلة بالقانون و الدستور”.

و كشف النائب حاشد وجود سجناء مصابين بالجرب و الامراض المعدية و تتفاقم حالتهم سوء، عوضا عن الحالة السيئة لأوضاع السجون، و التي يعاني نزلائها من الجوع و رداءة الفراش. منوها إلى عدم عزل مرضى الايدز عن غيرهم من المساجين.

كما أشار النائب حاشد إلى أن هناك بعض السجون مكتضة بسجناء بأكثر من ضعف الحد الاعلى للعدد المقرر لها.

و أكد النائب حاشد أن عملية الافراج تمت بسلطة النيابة التي كانت ترافقهم في عملية التفتيش على السجون. مشيرا إلى أن الوزير يبدو و كأنه لا يعرف ان النيابة هي المعنية بالإفراج عن المساجين و أنها مشرفة على عمل الوزير و عمل وزارته باعتبارهم مأموري ضبط، فضلا عن كون النيابة مشرفة على السجون و معنية بتفتيشها و اخرج من هو موقوف أو محتجز خارج القانون.

و قال النائب حاشد: نعتقد ان مطالبة وزير الداخلية باتخاذ الاجراءات القانونية ضدنا و التوجيه بإحالة نائب مدير مركز شرطة 22 مايو إلى الإدارة العامة للرقابة و التفتيش للتحقيق معه و اتخاذ الإجراءات التأديبية بحقه و نسخ صورة من مذكرته إلى المجلس السياسي الأعلى و مجلس النواب و المفتش العام و وكيل قطاع الامن و الشرطة و مدير عام الشؤون القانونية و مدير عام شرطة امامة العاصمة و ادارة الهيئات الحكومية، انما هدفها التشهير  و اعاقة العمل الرقابي لمجلس النواب و ارهابهم من ممارسة مهامهم في لجنة الحريات بمجلس نواب صنعاء، بعد محاولة اللجنة استعادة دورها المختطف من قبل السلطة و القائمين على الاجهزة الامنية.

كما أعتبر حاشد ذلك بأنه يهدف إلى تهديد كل من يتعاون مع اللجنة في انفاذ القانون من افراد الشرطة في مديريات و مراكز الشرطة، و استهداف ما تبقى من الدور الرقابي المحدود  و الذي بات مضيقا عليه و لا يزيد مساحته عن مساحة رأس الدبوس، و استهداف ما بقي من مجلس النواب و لجانه.

كما أعتبر حاشد بأن ما أقدم عليه الوزير عبد الكريم الحوثي، يعد استهداف له شخصيا بسبب نشاطه الحقوقي الذي قال انه لا يروق للسلطة و لرجال الامن و للمنتهكين لحقوق الانسان و حرياته في صنعاء.
احمد سيف حاشد:
بعض من تفاصيل حياتي
طفولة بطعم التمرد
(4)
أسئلة تتناسل كالضوء
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في الغموض الشديد، ومُستصعب فهم أبجدياته، بل وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول ملامسة أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.

اسئلة صارت الإجابة عليها، محفزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة والمتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي أغرق في بحر من الحيرة التي لا تهدأ ولا تستكين، بسبب عدم رضائي واقتناعي بإجابات تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة..

كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..

لقد كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى ومبرر العيب؟! كنت أسأل عن وجودي، وكيف خرجت من بطنها إلى واجهة الكون، ومن أي منفذ خرجت بالتحديد؟! وعندما تولد أمي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته.. فيما كانت أمي في البداية تجيبيني وهي تضحك أننا خرجنا من ركبتها.. ثم تثير فضولي أكثر وأسألها كيف؟! والمولود أكبر من ركبتها؛ فأحتار وأتسأل أكثر!!

بدت لي إجابة أمي على السؤال غير مقنعة ولم تمنحنِ الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، وظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدت أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..

ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رض أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. فركبتها سليمة ومعافاة، ولا أثر لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!

كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني كحمار وحشي، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..

كانت أمي تصر على إجابتها ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي الخاطئة، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..

كنت أستمع لولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي أكثر من المكان الذي أقف فيه، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، وأُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!

كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..

وبعد حين من الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى، حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بما أجابت.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..

وبعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، وشعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا وإخوتي من فمها.. ولكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج منه، مولود أكبر منه!! ولماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!

لطالما أتعبتني تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة، والمتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عني، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالضحك، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..

عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري
باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام.. واكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، وبحد يجب أن لا نستسهله..

كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..

***

وأنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب وفرح واستراحة وسعادة.. وهو يراني في كل حال.. وأتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، ولا يتركاني حتى عند الدخول للحمام..

كنت أسأل عن الله، وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وهو مستريح عليها ينظر إلينا ويتابع أفعالنا، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي.. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي وأنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.

كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.. كنت أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، ولا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، ولكنني أتشكك بصحته، ويميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..

كانت تبدو الأسئلة بسيطة، ولكنها تشبه السهل الممتنع.. وكانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف والهلع .

كانت الأسئلة كبيرة، وربما صغيرة، ولكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار، وكانت بعض الأسئلة تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف الهلوع، وتسارع بتحذيري الشديد، وبما هو مرعب ومهول، وتقمع سؤالي بشدة وصرامة..

طبعا تلك الأسئلة لم تكن بهذه الصيغة التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا وأكتبه.

أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر، وتتناسل كالضوء، يواجهها قمع وتعنيف وغياب جواب أو جواب خطاء أو مغلوط لا استسيغه ولا أبلعه، أو أبلعه بصعوبة إلى حين.

كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وظالم ومحتال وشرير؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..

كنت أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد.. ولماذا أصلا نذبحه ونسفك دمه؟!
فتحكي لي قصة اسماعيل ووالده إبراهيم عليه السلام..

كنت أسأل: لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..

وتسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من دومها في لجة الليل البهيم.. كانت تصرخ وتستغيث بصوت مفجوع يفطر القلب.. صوت لم أسمع مثله من قبل.. كان أوجع من الموت وأكبر من مكبر الصوت، ولا مغيث ولا مجير.. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، وكأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها؟!

ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة المعادل للصوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، وأخمد صوتها وأنفاسها إلى الأبد.. كدت يومها أن أحتج على الرب، وعلى هذه الحياة الكاسرة.. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد خمسين عام خلت.. لقد مزق صوتها سكون الليل، وقدح صوتها الصارخ بالشرر..

كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال.. وهكذا وجدت إن جواب أمي بات يفوق حتّى خيالي..

كنت أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس شرار، وسمي ذلك السيل باسمه.. كنت أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة المعرفة بثوجان مشيا على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، والذي قيل أن السيل سحب حميد منه.. كنت أتخيل المشهد وأتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، ودفر السيل العنيف العرمرم..

كنت أسأل: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، ومن هم أصغر مني.. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، ويرغمون بالموت على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنة.. والجنة فيها كل ما يطيب ويتمناه