#القاضي_احمد_سيف_حاشد
كتاب "الأمير" لـ "مكيافيلي"
يتضمن نصائح لـلحاكم ومنها عدم محاربة الفساد بل وينصح الحاكم برعايته
هل هذا بعض ما يحدث؟!
كتاب "الأمير" لـ "مكيافيلي"
يتضمن نصائح لـلحاكم ومنها عدم محاربة الفساد بل وينصح الحاكم برعايته
هل هذا بعض ما يحدث؟!
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(2)
فاتحة وصلاة وعقاب
أحمد سيف حاشد
أريد "سفينة النجاة".. سفينة الرب إلى ما يريد ويرضى.. أريد أن أصلّي.. أريد أن أدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد.. لا حزن هناك ولا موت.. لا جوع فيها ولا عوز.. في الجنة تفاح وأعناب وفواكه.. كل ما أشتهيه سيكون موجود وحاضر.. أريد الجنة وما فيها من تعويض لحرمان ضاق معه العيش وأشتد فيه النكد.. أريد الجنة بما فيها من حياة أبدية لا مثيل لها ولا نظير.. كنت اطيل استفسار أمي، وهي تحكي عن الجنة وتطيل.. تشرح ما يجذب الروح ويغري الخيال ويسحر المسامع.. في هذا الإطار والخيال لطالما حدثت نفسي ولكن ببساطة دون تقعير..
أريد "سفينة النجاة" التي تنجيني من النار، وتعلّمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة.. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، وتشوقت له كثيرا، ومرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بها.. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، ويُرجئها من شهر إلى آخر، وبعد انتظار طال، ووعود خاب رجاءها، أوفى والدي بآخر وعد له كان وثيقا وجازما، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله..
عندما ناولني أبي كُتيّب "سفينة النجاة" كانت دهشتي أكبر من عالمي، وكانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي.. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب.. قلبي عامر بالفرح.. يرقص ويغني ويطير كفراشة.. وأنا أعيش الدهشة بكل المعاني، وأردد محفوظاتي الطريّة:
“أنا طفل بطل شاطر*** وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر*** وأدعو الله يهديني”
ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وأنكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..
“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث الذي لا أدري مدى صحته وموثوقيته، أشقاني، ونال مني الكثير، حتى أنني وقد قاربت الستين، لم أحسن ما ضُربت لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير..
*
خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة.. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي وحذائه، فطيّر عقلي وطار صوابه، ووجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها الضباع والسباع.. تهدج صوتي، وأضطرب تفكيري كبحر وعاصفة.. أتشتت روحي كنثار رمل في الريح، وتطايرتُ كشرر نار الحديد تحت مطرقة الحداد..
أنساني التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون مواسم، وتساقطت بعض الكلمات من فمي، فألملم بعضها، وتسقط أخرى أكثر منها.. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..
يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، ويتداخل كل شيء ببعضه، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أحفظ ولا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا أعرف ولا يعرف من يسمعني ماذا أقول!!
ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس لا يقوى على المقاومة، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة من الجحيم، في روحي المهشمة وأجنحتي المتكسرة..
أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت ألتّها وأفتّها إلى يوم القيامة.. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي في قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في "كريتر" عدن.
*
أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، وقد تعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبيه، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن فجرا..
ثم ترك أخي عدن، وولّى هاربا من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح.. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: "سجل 16 سنة".. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عام..
غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..
***
فيما قصتي مع "سفينة النجاة" يشابه ما حدث لسفينة "تيتانيك".. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، و"الرب خير حامي وحارس"..
(2)
فاتحة وصلاة وعقاب
أحمد سيف حاشد
أريد "سفينة النجاة".. سفينة الرب إلى ما يريد ويرضى.. أريد أن أصلّي.. أريد أن أدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد.. لا حزن هناك ولا موت.. لا جوع فيها ولا عوز.. في الجنة تفاح وأعناب وفواكه.. كل ما أشتهيه سيكون موجود وحاضر.. أريد الجنة وما فيها من تعويض لحرمان ضاق معه العيش وأشتد فيه النكد.. أريد الجنة بما فيها من حياة أبدية لا مثيل لها ولا نظير.. كنت اطيل استفسار أمي، وهي تحكي عن الجنة وتطيل.. تشرح ما يجذب الروح ويغري الخيال ويسحر المسامع.. في هذا الإطار والخيال لطالما حدثت نفسي ولكن ببساطة دون تقعير..
أريد "سفينة النجاة" التي تنجيني من النار، وتعلّمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة.. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، وتشوقت له كثيرا، ومرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بها.. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، ويُرجئها من شهر إلى آخر، وبعد انتظار طال، ووعود خاب رجاءها، أوفى والدي بآخر وعد له كان وثيقا وجازما، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله..
عندما ناولني أبي كُتيّب "سفينة النجاة" كانت دهشتي أكبر من عالمي، وكانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي.. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب.. قلبي عامر بالفرح.. يرقص ويغني ويطير كفراشة.. وأنا أعيش الدهشة بكل المعاني، وأردد محفوظاتي الطريّة:
“أنا طفل بطل شاطر*** وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر*** وأدعو الله يهديني”
ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وأنكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..
“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث الذي لا أدري مدى صحته وموثوقيته، أشقاني، ونال مني الكثير، حتى أنني وقد قاربت الستين، لم أحسن ما ضُربت لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير..
*
خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة.. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي وحذائه، فطيّر عقلي وطار صوابه، ووجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها الضباع والسباع.. تهدج صوتي، وأضطرب تفكيري كبحر وعاصفة.. أتشتت روحي كنثار رمل في الريح، وتطايرتُ كشرر نار الحديد تحت مطرقة الحداد..
أنساني التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون مواسم، وتساقطت بعض الكلمات من فمي، فألملم بعضها، وتسقط أخرى أكثر منها.. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..
يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، ويتداخل كل شيء ببعضه، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أحفظ ولا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا أعرف ولا يعرف من يسمعني ماذا أقول!!
ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس لا يقوى على المقاومة، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة من الجحيم، في روحي المهشمة وأجنحتي المتكسرة..
أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت ألتّها وأفتّها إلى يوم القيامة.. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي في قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في "كريتر" عدن.
*
أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، وقد تعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبيه، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن فجرا..
ثم ترك أخي عدن، وولّى هاربا من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح.. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: "سجل 16 سنة".. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عام..
غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..
***
فيما قصتي مع "سفينة النجاة" يشابه ما حدث لسفينة "تيتانيك".. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، و"الرب خير حامي وحارس"..
"سفينة النجاة"، وجدتها، ولكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدت خيبتي التي تبتلع المحيط.. وسفينة "تيتانيك" التي ساد الاعتقاد يومها إنها ضد الغرق، غرقت عميقاً في قاع المحيط..
"تيتانيك" بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم..
*
فيما خالتي "سعيدة" أم علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها "الفاتحة" أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..
خالتي "سعيدة" كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..
*
يتبع..
الصورة لي ولأخي علي في سبعينات القرن الماضي.
"تيتانيك" بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم..
*
فيما خالتي "سعيدة" أم علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها "الفاتحة" أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..
خالتي "سعيدة" كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..
*
يتبع..
الصورة لي ولأخي علي في سبعينات القرن الماضي.
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
الأخ النائب العام..
لكم أتمنى أن يتعامل هذا القاضي العادل والشجاع والقوي ياسر العمدي مع وكيل نيابة دمنة خدير يونس الشرعبي فيما يخص قضية أسرة إقبال الحكيمي..
أنه قاضي يحكم بمبادئ العدالة وروح الدستور والقانون ومقاصد الشريعة وتقديم مصالح المجتمع والناس وينحاز للإنسان..
نريد قضاء وقضاة كهذا
Naif Almusharea:
القاضي ياسر العمدي رئيس المحكمة الجزائية بمحافظة ذمار يستمر بالانتصار للنظام والقانون وتحقيق العدالة..
حيث أصدر اليوم الحكم الرابع من نوعه قضى منطوق الحكم ببراءة المتهم ورد أعتباره وسرعة الأفراج عنه كما قضى منطوق الحكم بإلزام النيابة العامة بدفع تعويض 5.000 ريال عن كل يوم قضاه السجين في السجن لمدة أربع سنوات..
وهكذا يتم الإنتصار للعدالة..
لرؤوساء المحاكم في اليمن القاضي ياسر العمدي خلال أشهر يصدر أربعة أحكام نوعيه وينتصر لكل مظلوم خلف القضبان من قبل النيابة
العامة...
كم حكم أصدر من هذا النوع في بقية المحاكم؟
هل القانون هو القانون أو أن العمدي وحده من يفقه القانون ويلتزم بتطبيقه؟
لماذا احكام العمدي دون غيره تنفذ واحكام غيره لا تنفذ؟
هناك قضاة اصدروا احكام براءة وأفراج وبدون تعويضات لكن لا تنفذ احكامهم من قبل النيابة العامة لماذا؟
كل الشكر للقاضي ياسر العمدي لجهودة المستمرة في تطبيق النظام والقانون وإنصافه للمظلومين خلف القضبان..
وندعوا جميع منتسبي السلطة القضائية للأقتداء بهذه القاضي العادل وإنصاف المظلومين وبشكل خاص قضاة محاكم محافظة ذمار الإبتدائية والاستئنافية..
هناك العشرات من السجناء الابرياء ظلموا باحكام ظالمة وهناك من لا زال ينتظر تحقيق العدالة !!
نايف المشرع
الأخ النائب العام..
لكم أتمنى أن يتعامل هذا القاضي العادل والشجاع والقوي ياسر العمدي مع وكيل نيابة دمنة خدير يونس الشرعبي فيما يخص قضية أسرة إقبال الحكيمي..
أنه قاضي يحكم بمبادئ العدالة وروح الدستور والقانون ومقاصد الشريعة وتقديم مصالح المجتمع والناس وينحاز للإنسان..
نريد قضاء وقضاة كهذا
Naif Almusharea:
القاضي ياسر العمدي رئيس المحكمة الجزائية بمحافظة ذمار يستمر بالانتصار للنظام والقانون وتحقيق العدالة..
حيث أصدر اليوم الحكم الرابع من نوعه قضى منطوق الحكم ببراءة المتهم ورد أعتباره وسرعة الأفراج عنه كما قضى منطوق الحكم بإلزام النيابة العامة بدفع تعويض 5.000 ريال عن كل يوم قضاه السجين في السجن لمدة أربع سنوات..
وهكذا يتم الإنتصار للعدالة..
لرؤوساء المحاكم في اليمن القاضي ياسر العمدي خلال أشهر يصدر أربعة أحكام نوعيه وينتصر لكل مظلوم خلف القضبان من قبل النيابة
العامة...
كم حكم أصدر من هذا النوع في بقية المحاكم؟
هل القانون هو القانون أو أن العمدي وحده من يفقه القانون ويلتزم بتطبيقه؟
لماذا احكام العمدي دون غيره تنفذ واحكام غيره لا تنفذ؟
هناك قضاة اصدروا احكام براءة وأفراج وبدون تعويضات لكن لا تنفذ احكامهم من قبل النيابة العامة لماذا؟
كل الشكر للقاضي ياسر العمدي لجهودة المستمرة في تطبيق النظام والقانون وإنصافه للمظلومين خلف القضبان..
وندعوا جميع منتسبي السلطة القضائية للأقتداء بهذه القاضي العادل وإنصاف المظلومين وبشكل خاص قضاة محاكم محافظة ذمار الإبتدائية والاستئنافية..
هناك العشرات من السجناء الابرياء ظلموا باحكام ظالمة وهناك من لا زال ينتظر تحقيق العدالة !!
نايف المشرع
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
القاضي ياسر العمدي الذي يحكم على النيابة بتعويض للمساجين التي أجحفت النيابة وأجهزة الضبط بحقهم والمحكوم لهم بالبراءة ينال إرتياح واسع من المواطنين..
إنه قاضي شجاع ومنصف ومِقدام مملوء بالجرأة في الحق.
أنه يحكم بمبادئ العدالة وروح الدستور والقانون ومقاصد الشريعة وتقديم مصالح المجتمع والناس والمنحاز للإنسان..
نريد قضاء عادل ومحترم وغير ملوث
نريد قضاة كهذا..
إنه الاستثناء في واقع شديد البؤس..
إنه القليل الكثير الذي يحاول أن يعيد للعدالة اعتبارها في محيط موبوء ومتعفن..
الأمل المُحاصر بالظلمات وركام الواقع المثقل بالظلم والطغيان..
القاضي ياسر العمدي الذي يحكم على النيابة بتعويض للمساجين التي أجحفت النيابة وأجهزة الضبط بحقهم والمحكوم لهم بالبراءة ينال إرتياح واسع من المواطنين..
إنه قاضي شجاع ومنصف ومِقدام مملوء بالجرأة في الحق.
أنه يحكم بمبادئ العدالة وروح الدستور والقانون ومقاصد الشريعة وتقديم مصالح المجتمع والناس والمنحاز للإنسان..
نريد قضاء عادل ومحترم وغير ملوث
نريد قضاة كهذا..
إنه الاستثناء في واقع شديد البؤس..
إنه القليل الكثير الذي يحاول أن يعيد للعدالة اعتبارها في محيط موبوء ومتعفن..
الأمل المُحاصر بالظلمات وركام الواقع المثقل بالظلم والطغيان..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(3)
عنزتي لا تقتل ولا تصلِّي
أحمد سيف حاشد
غنمنا كانت قليلة، ثم تنامى عددها حلالا زلالا.. رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة تملأ عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل أثبتت أكثر من خمسين سنة مضت، إنها عصية على التلاشي والزوال، لم يمحها غروب أو نسيان..
ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لازالت حاضرة في الوجدان والذاكرة رغم مرور نصف قرن من عمر حافل وصاخب ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لم أنسها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، ، أو أنا صعدتُ عنها علوا إلى القمر..
ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..
لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أذكر أشكالهن وحكايتهن وكثير من التفاصيل.. أذكر "حجب" و"بيرق" و"خرص" و"عنب" و"غبراء" و"مرش" و"سواد" و"حنّا" و"حمراء" و"نشم" و"بحرية" و"قدرية"..
كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!!
لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها رغم أن بعدها عن اليوم لا يزيد عن مرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد قريب أو لازال غير بعيد..
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في المقابلة "الأنترفيو" عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ فيها وأذكرها مرتين..
فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسلهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني الأصل كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منّا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين وغيرهم..
***
لازلت أذكر العنزة "حجب" اللبون، وجسمها الأكبر مما هو مألوف ومعتاد، والمنحدر أصلها من سلالة هندية عريقة أو هكذا قيل.. "حجب" التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم "عين" وماتت، أو بالأحرى هكذا زعموا..!
لازلت أذكر "خرص" أم "بيرق"، وتمرد "عنب" و"حِنّا" اللاتي ينطبق عليهن مثل "أينما غلّسه باته"، ونشم "الذكية"، وسواد الطيبة، و"مرش" النافرة، و"قدرية" و"بحرية" أغنام أمي المساكين.. لقد كان هذا بعض من عالمي الصغير الذي أعيشه وأنتمي إليه.
أذكر العنزة "خرص" التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن "خرص" "بيرق" قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي..
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا " وأنا عشقت "بيرق" قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..
عشقت "بيرق" وهي لازالت في بطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر الحصاد، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة يوم العيد، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..
خرجت "بيرق" من بطن أمها إلى واجهة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الوجود كله.. شبت "بيرق" الجرعاء من دون قرون.. "بيرق" لا تحب الحروب.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بياضها كبياض الثلج.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد..
ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما بيوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت "بيرق" تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصورات، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..
(3)
عنزتي لا تقتل ولا تصلِّي
أحمد سيف حاشد
غنمنا كانت قليلة، ثم تنامى عددها حلالا زلالا.. رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة تملأ عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل أثبتت أكثر من خمسين سنة مضت، إنها عصية على التلاشي والزوال، لم يمحها غروب أو نسيان..
ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لازالت حاضرة في الوجدان والذاكرة رغم مرور نصف قرن من عمر حافل وصاخب ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لم أنسها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، ، أو أنا صعدتُ عنها علوا إلى القمر..
ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..
لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أذكر أشكالهن وحكايتهن وكثير من التفاصيل.. أذكر "حجب" و"بيرق" و"خرص" و"عنب" و"غبراء" و"مرش" و"سواد" و"حنّا" و"حمراء" و"نشم" و"بحرية" و"قدرية"..
كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!!
لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها رغم أن بعدها عن اليوم لا يزيد عن مرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد قريب أو لازال غير بعيد..
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في المقابلة "الأنترفيو" عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ فيها وأذكرها مرتين..
فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسلهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني الأصل كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منّا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين وغيرهم..
***
لازلت أذكر العنزة "حجب" اللبون، وجسمها الأكبر مما هو مألوف ومعتاد، والمنحدر أصلها من سلالة هندية عريقة أو هكذا قيل.. "حجب" التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم "عين" وماتت، أو بالأحرى هكذا زعموا..!
لازلت أذكر "خرص" أم "بيرق"، وتمرد "عنب" و"حِنّا" اللاتي ينطبق عليهن مثل "أينما غلّسه باته"، ونشم "الذكية"، وسواد الطيبة، و"مرش" النافرة، و"قدرية" و"بحرية" أغنام أمي المساكين.. لقد كان هذا بعض من عالمي الصغير الذي أعيشه وأنتمي إليه.
أذكر العنزة "خرص" التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن "خرص" "بيرق" قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي..
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا " وأنا عشقت "بيرق" قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..
عشقت "بيرق" وهي لازالت في بطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر الحصاد، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة يوم العيد، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..
خرجت "بيرق" من بطن أمها إلى واجهة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الوجود كله.. شبت "بيرق" الجرعاء من دون قرون.. "بيرق" لا تحب الحروب.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بياضها كبياض الثلج.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد..
ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما بيوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت "بيرق" تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصورات، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..
ربما "بيرق" لا تصلي ولا تنافق، ولكن لها من العفة ما تسقي بلاد وأهلها بالماء الطهور.. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا والشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم والعقاقير.. تنمو بمهل، وليس بسرعة الفساد في دويلات ومقاطعات مليشيات أمراء الحروب.. تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش حمام وحرير، ولا تصنع الفن من نقيق الضفادع..
***
يتبع..
من تفاصيل حياتي..
***
يتبع..
من تفاصيل حياتي..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(3)
عنزتي لا تقتل ولا تصلِّي
أحمد سيف حاشد
غنمنا كانت قليلة، ثم تنامى عددها حلالا زلالا.. رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة تملأ عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل أثبتت أكثر من خمسين سنة مضت، إنها عصية على التلاشي والزوال، لم يمحها غروب أو نسيان..
ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لازالت حاضرة في الوجدان والذاكرة رغم مرور نصف قرن من عمر حافل وصاخب ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لم أنسها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، ، أو أنا صعدتُ عنها علوا إلى القمر..
ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..
لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أذكر أشكالهن وحكايتهن وكثير من التفاصيل.. أذكر "حجب" و"بيرق" و"خرص" و"عنب" و"غبراء" و"مرش" و"سواد" و"حنّا" و"حمراء" و"نشم" و"بحرية" و"قدرية"..
كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!!
لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها رغم أن بعدها عن اليوم لا يزيد عن مرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد قريب أو لازال غير بعيد..
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في المقابلة "الأنترفيو" عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ فيها وأذكرها مرتين..
فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسلهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني الأصل كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منّا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين وغيرهم..
***
لازلت أذكر العنزة "حجب" اللبون، وجسمها الأكبر مما هو مألوف ومعتاد، والمنحدر أصلها من سلالة هندية عريقة أو هكذا قيل.. "حجب" التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم "عين" وماتت، أو بالأحرى هكذا زعموا..!
لازلت أذكر "خرص" أم "بيرق"، وتمرد "عنب" و"حِنّا" اللاتي ينطبق عليهن مثل "أينما غلّسه باته"، ونشم "الذكية"، وسواد الطيبة، و"مرش" النافرة، و"قدرية" و"بحرية" أغنام أمي المساكين.. لقد كان هذا بعض من عالمي الصغير الذي أعيشه وأنتمي إليه.
أذكر العنزة "خرص" التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن "خرص" "بيرق" قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي..
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا " وأنا عشقت "بيرق" قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..
عشقت "بيرق" وهي لازالت في بطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر الحصاد، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة يوم العيد، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..
خرجت "بيرق" من بطن أمها إلى واجهة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الوجود كله.. شبت "بيرق" الجرعاء من دون قرون.. "بيرق" لا تحب الحروب.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بياضها كبياض الثلج.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد..
ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما بيوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت "بيرق" تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصورات، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..
(3)
عنزتي لا تقتل ولا تصلِّي
أحمد سيف حاشد
غنمنا كانت قليلة، ثم تنامى عددها حلالا زلالا.. رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة تملأ عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل أثبتت أكثر من خمسين سنة مضت، إنها عصية على التلاشي والزوال، لم يمحها غروب أو نسيان..
ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لازالت حاضرة في الوجدان والذاكرة رغم مرور نصف قرن من عمر حافل وصاخب ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لم أنسها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، ، أو أنا صعدتُ عنها علوا إلى القمر..
ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..
لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أذكر أشكالهن وحكايتهن وكثير من التفاصيل.. أذكر "حجب" و"بيرق" و"خرص" و"عنب" و"غبراء" و"مرش" و"سواد" و"حنّا" و"حمراء" و"نشم" و"بحرية" و"قدرية"..
كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!!
لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها رغم أن بعدها عن اليوم لا يزيد عن مرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد قريب أو لازال غير بعيد..
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في المقابلة "الأنترفيو" عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ فيها وأذكرها مرتين..
فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسلهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني الأصل كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منّا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين وغيرهم..
***
لازلت أذكر العنزة "حجب" اللبون، وجسمها الأكبر مما هو مألوف ومعتاد، والمنحدر أصلها من سلالة هندية عريقة أو هكذا قيل.. "حجب" التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم "عين" وماتت، أو بالأحرى هكذا زعموا..!
لازلت أذكر "خرص" أم "بيرق"، وتمرد "عنب" و"حِنّا" اللاتي ينطبق عليهن مثل "أينما غلّسه باته"، ونشم "الذكية"، وسواد الطيبة، و"مرش" النافرة، و"قدرية" و"بحرية" أغنام أمي المساكين.. لقد كان هذا بعض من عالمي الصغير الذي أعيشه وأنتمي إليه.
أذكر العنزة "خرص" التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن "خرص" "بيرق" قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي..
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا " وأنا عشقت "بيرق" قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..
عشقت "بيرق" وهي لازالت في بطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر الحصاد، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة يوم العيد، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..
خرجت "بيرق" من بطن أمها إلى واجهة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الوجود كله.. شبت "بيرق" الجرعاء من دون قرون.. "بيرق" لا تحب الحروب.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بياضها كبياض الثلج.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد..
ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما بيوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت "بيرق" تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصورات، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..
ربما "بيرق" لا تصلي ولا تنافق، ولكن لها من العفة ما تسقي بلاد وأهلها بالماء الطهور.. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا والشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم والعقاقير.. تنمو بمهل، وليس بسرعة الفساد في دويلات ومقاطعات مليشيات أمراء الحروب.. تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش حمام وحرير، ولا تصنع الفن من نقيق الضفادع..
***
يتبع..
من تفاصيل حياتي..
***
يتبع..
من تفاصيل حياتي..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(4)
حرمان وممنوعات !
أحمد سيف حاشد
كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته.. المنع يكشر أنيابه في وجه طفولتي المتعبة.. الواقع يتجهم في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه في أن ألعب وألهو وأفرح كغيري من الاطفال.. تبتلع الحسرة وجودي كلما أشعرني الوجود إن الحياة لا يزال فيها ما يسر، أو تخبرنا الحياة أنها تستحق أن نعيشها.. يحوطني كثير من الحزن ويثقلني كثير من الألم..
كنت أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون ويعيشون حياة طبيعية لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو إلا بالحد القليل المسور بالمنع والوقت الذي يظلم صاحبه، مقموع بالأوامر وبسلطة تشبه القدر الذي لا رد له..
كان أقراني بعد المطر أو في الأيام التي تليه يذهبون للسباحة فيما يسمى "القلت" في "معينة شرار" فيما أنا الممنوع أن أذهب إليه بأمر لا يقبل الجدل ولا النقاش.. ربما استطعت أن أرتاده مرتين بما يشبه المعجزة، وكدت أن أغرق، وشربت منه ماء وطحلب.. ضربوني على الصلاة ولم يعلموني السباحة.. مفارقة عشتها في طفولة مكرسة بالمنع والحرمان..
أقراني يذهبون إلى حفلات الزفاف.. يرقصون على الطبل والغناء والمزمار الشجي.. الأطفال ينتشون ويستمتعون فيما أنا أسمع بحسرة من بعيد دق الطبول وغناء الغانيات، وكم تمنيت أن أكون فنانا أو راقصا أو نافخ مزمار..
أمنيات حضوري حفلات الزفاف مصلوبة بالمنع والمحاذير.. أنا الممنوع من الذهاب إلى حفلات الزفاف إلإ بقدر نادر وقليل في زواج قريب أحضره وأنا مثقلا بحيائي الكبير.. لطالما شعرت بحرماني من اللهو والفرح وسعادة أحتجتها وبخلت الأيام أن تعطني منها إلا أقل من القليل..
حتى حضور زفاف القريب لم تخلوا من تنغيص وتكدير.. أذكر حضوري الزفاف الأول لإبن عمي عبده فريد عندما فضحني أحدهم وكان قليل الحياء وسليط اللسان وكشف أمري أمام الحضور أنني لا أذهب إلى المدرسة بل أذهب إلى أسفل "موجران" أمورب؛ ويقصد نشرب سجائر "مارب" الرخيصة ثم نعود وكأننا عدنا من المدرسة، فيما نحن لا نصل إليها.. كنّا نسمي ما نفعله يومها أنا وزملائي بـ "الهفسنة".. وعندما علم أبي بالأمر طالني ضرب وعقاب.
أقراني يلعبون ألعاب الكرة من القدم إلى "البصيعية" وألعاب أخرى مثل "أمان وحبس" و"الدويس" و"الغماية" و "الوجره" وغيرها من الألعاب الرائجة في أيامنا تلك، فيما أنا يتم التضييق عليّ وتبدو مساحة حريتي في اللعب بمساحة زنزانة صغيرة أحاول التنفس من كوة صغيرة فيها..
كنت استغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرد عنه، وأنغمس في اللعب حتى الاذنين، ولكنه كان انغماسا لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلا قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي.. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصرخ في مناداتي، فما أن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل ودفعة واحدة، لا تقسيط فيه ولا تأخير، عقابا على تمردي القليل عن طاعته، والشارد عن سلطته وولايته..
كنت استغل أحيانا ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، وألهو وألعب دون أن أتعب أو أمِل، فيما كانت جدتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها، حبيسة بيتها رأس الجبل، ومفرجها المطل على الوادي، وما أن ترى أبي في أول الوادي عائدا إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولا إلى بيتنا، وأبدوا في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والده في عدم الخروج واللعب في غيابه..
هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب والتخفي والتمرد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحملتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبّر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم لسلطة أبوية بدت لي طاغية..
كنت أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بالمحبة، فيما كنت أنا أمضغ جروحي، وأختنق بالعبر، وأُذبح بغصص كالسكاكين.
كنت أسأل ربي: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقنِ هذا الرب في مكان آخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمي معي، فلا قدرة لي على فراقها..
كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ورق ولين، بل وتقدير وعلو شأن أيضا، وكأنهم كبار في عمر آباؤهم !
كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي أجله” وكانت الفكرة لدى أبي في التربية بما مضمونه "الضرب يشحط” ويجعل الرجال أفذاذا.. كان أبي يعتقد أنها تربية مجربة، وقد أتت أُكلها من قبل، وبما رام وأرتجى..
أنا وأبي – ربما – كل منا كان يقرأ الأمور بطريقته، وكل منّا يرى الحق معه.. ورغم تمردي لم أفكر يوما أن أسجل بطولة عليه، بل ربما التمس له العذر أيضا.. إن الواقع مر، والاستلاب فاحش، والتنشئة مشوَّهة، والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.
(4)
حرمان وممنوعات !
أحمد سيف حاشد
كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته.. المنع يكشر أنيابه في وجه طفولتي المتعبة.. الواقع يتجهم في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه في أن ألعب وألهو وأفرح كغيري من الاطفال.. تبتلع الحسرة وجودي كلما أشعرني الوجود إن الحياة لا يزال فيها ما يسر، أو تخبرنا الحياة أنها تستحق أن نعيشها.. يحوطني كثير من الحزن ويثقلني كثير من الألم..
كنت أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون ويعيشون حياة طبيعية لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو إلا بالحد القليل المسور بالمنع والوقت الذي يظلم صاحبه، مقموع بالأوامر وبسلطة تشبه القدر الذي لا رد له..
كان أقراني بعد المطر أو في الأيام التي تليه يذهبون للسباحة فيما يسمى "القلت" في "معينة شرار" فيما أنا الممنوع أن أذهب إليه بأمر لا يقبل الجدل ولا النقاش.. ربما استطعت أن أرتاده مرتين بما يشبه المعجزة، وكدت أن أغرق، وشربت منه ماء وطحلب.. ضربوني على الصلاة ولم يعلموني السباحة.. مفارقة عشتها في طفولة مكرسة بالمنع والحرمان..
أقراني يذهبون إلى حفلات الزفاف.. يرقصون على الطبل والغناء والمزمار الشجي.. الأطفال ينتشون ويستمتعون فيما أنا أسمع بحسرة من بعيد دق الطبول وغناء الغانيات، وكم تمنيت أن أكون فنانا أو راقصا أو نافخ مزمار..
أمنيات حضوري حفلات الزفاف مصلوبة بالمنع والمحاذير.. أنا الممنوع من الذهاب إلى حفلات الزفاف إلإ بقدر نادر وقليل في زواج قريب أحضره وأنا مثقلا بحيائي الكبير.. لطالما شعرت بحرماني من اللهو والفرح وسعادة أحتجتها وبخلت الأيام أن تعطني منها إلا أقل من القليل..
حتى حضور زفاف القريب لم تخلوا من تنغيص وتكدير.. أذكر حضوري الزفاف الأول لإبن عمي عبده فريد عندما فضحني أحدهم وكان قليل الحياء وسليط اللسان وكشف أمري أمام الحضور أنني لا أذهب إلى المدرسة بل أذهب إلى أسفل "موجران" أمورب؛ ويقصد نشرب سجائر "مارب" الرخيصة ثم نعود وكأننا عدنا من المدرسة، فيما نحن لا نصل إليها.. كنّا نسمي ما نفعله يومها أنا وزملائي بـ "الهفسنة".. وعندما علم أبي بالأمر طالني ضرب وعقاب.
أقراني يلعبون ألعاب الكرة من القدم إلى "البصيعية" وألعاب أخرى مثل "أمان وحبس" و"الدويس" و"الغماية" و "الوجره" وغيرها من الألعاب الرائجة في أيامنا تلك، فيما أنا يتم التضييق عليّ وتبدو مساحة حريتي في اللعب بمساحة زنزانة صغيرة أحاول التنفس من كوة صغيرة فيها..
كنت استغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرد عنه، وأنغمس في اللعب حتى الاذنين، ولكنه كان انغماسا لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلا قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي.. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصرخ في مناداتي، فما أن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل ودفعة واحدة، لا تقسيط فيه ولا تأخير، عقابا على تمردي القليل عن طاعته، والشارد عن سلطته وولايته..
كنت استغل أحيانا ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، وألهو وألعب دون أن أتعب أو أمِل، فيما كانت جدتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها، حبيسة بيتها رأس الجبل، ومفرجها المطل على الوادي، وما أن ترى أبي في أول الوادي عائدا إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولا إلى بيتنا، وأبدوا في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والده في عدم الخروج واللعب في غيابه..
هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب والتخفي والتمرد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحملتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبّر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم لسلطة أبوية بدت لي طاغية..
كنت أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بالمحبة، فيما كنت أنا أمضغ جروحي، وأختنق بالعبر، وأُذبح بغصص كالسكاكين.
كنت أسأل ربي: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقنِ هذا الرب في مكان آخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمي معي، فلا قدرة لي على فراقها..
كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ورق ولين، بل وتقدير وعلو شأن أيضا، وكأنهم كبار في عمر آباؤهم !
كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي أجله” وكانت الفكرة لدى أبي في التربية بما مضمونه "الضرب يشحط” ويجعل الرجال أفذاذا.. كان أبي يعتقد أنها تربية مجربة، وقد أتت أُكلها من قبل، وبما رام وأرتجى..
أنا وأبي – ربما – كل منا كان يقرأ الأمور بطريقته، وكل منّا يرى الحق معه.. ورغم تمردي لم أفكر يوما أن أسجل بطولة عليه، بل ربما التمس له العذر أيضا.. إن الواقع مر، والاستلاب فاحش، والتنشئة مشوَّهة، والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.
ربما من أسباب التضييق على حياتي من قبل أبي، ترجع في بعضها إلى مخاوف وبعضها كونه يعيش زحمة مشاغل وتوتر ومسؤوليات تفوق طاقته وطاقة أمي.. كانت المشقات والمسؤوليات كثار.. دكان، وبيع وشراء على مدار النهار وحتى مدخل الليل بحين، ورعاية أخواني الصغار تحتاج أيضا لكثير من الاهتمام، وصناعة الحلاوة وبيعها، وفلاحة الأرض، وتعدد الأعمال بها بحسب المواسم، من الذري إلى الحصاد، وكذا لا أنسي أنه صار لنا بقرة وحمار وثور وأغنام، ومسؤوليات وتفاصيل كثيرة، تثقل كاهل أبي وأمي المتعبين..
كانا يغرقان في العمل كثيرا، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلا وبعدها أحيانا.. كنت أعلم أنهم مثقلين بالكثير من المهام وتفاصيل الحياة اليومية تلك، وكنت أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليل، أو غير متاح، وأحايين كثيرة أجد فرمانا عثمانيا من بابه العالي فعالا يقول "ممنوع اللعب" فيكون مني الالتزام، ويكون مني التمرد أيضا، مهما كانت كلفته..
ورغم كل شيء، كنت أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموت بسبب.. هو أيضا كان يحبني، وربما يرى ما يفعله هو لصالحي وبدافع الحب والمخاوف أيضا.. وربما خرج كلانا في ذروة الغضب قليلا عن هذا وذاك..
كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا لازلت صغيرا لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار.
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي..
الصورة ترجع إلى النصف الأول من ثمانينات القرن المنصرم في أبين وأنا أحاول تعويض حرمان ممنوع اللعب الذي شاب طفولتي..
كانا يغرقان في العمل كثيرا، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلا وبعدها أحيانا.. كنت أعلم أنهم مثقلين بالكثير من المهام وتفاصيل الحياة اليومية تلك، وكنت أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليل، أو غير متاح، وأحايين كثيرة أجد فرمانا عثمانيا من بابه العالي فعالا يقول "ممنوع اللعب" فيكون مني الالتزام، ويكون مني التمرد أيضا، مهما كانت كلفته..
ورغم كل شيء، كنت أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموت بسبب.. هو أيضا كان يحبني، وربما يرى ما يفعله هو لصالحي وبدافع الحب والمخاوف أيضا.. وربما خرج كلانا في ذروة الغضب قليلا عن هذا وذاك..
كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا لازلت صغيرا لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار.
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي..
الصورة ترجع إلى النصف الأول من ثمانينات القرن المنصرم في أبين وأنا أحاول تعويض حرمان ممنوع اللعب الذي شاب طفولتي..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(5)
من أين ولدتّ يا ماما؟!!
أحمد سيف حاشد
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في غموض شديد، ومُستصعب فهم أبجدياته وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول تلمّس أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، مُحفّزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة أو المتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي غارقا في حيرة ربما تنام أو تستكين لحين ثم تعاود طرح نفسها من جديد في أول حدث أو مناسبة مشابهة، بسبب عدم رضائي واقتناعي بالإجابات التي تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة أو كاذبة..
ربما تتذاكى أمي وابدو مقتنعا بعض الوقت بالإجابة، ولكن ما أن تتكرر الواقعة حتى يعود السؤال اكثر إلحاحا من سابقة، وتبدو الاجابة السابقة قد باتت في وعيي هشة أو اكثر واهنا مما كانت عليه..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى ومبرر العيب؟! كنت أسأل أمّي عن وجودي، وكيف خرجت من بطنها إلى واجهة الدنيا، ومن أي منفذ خرجت بالتحديد؟! وعندما تولد أمي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته.. فيما كانت أمي في البداية تجيبني وهي تضحك أو تبتسم أننا خرجنا من ركبتها.. ثم تثير فضولي أكثر وأسألها كيف؟! والمولود أكبر من ركبتها؛ فربما أحتار وأتسأل أكثر!!
ربما تبدو إجابة أمي على السؤال غير مقنعة أو لم تمنحني الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، ويظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدتُ إلتماع أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رضّ أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. لا أثر في ركبة أمي المتعافية لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط أو متعمدة الكذب فيها، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني بين حين وأخر، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها، ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..
كنت أسمع ولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي قسرا من المكان القريب ويخالط هذا الإبعاد استرجاء وتفدّي من قبل بعض النسوة الحضور، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، وأُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
وتتكرر الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي ربما لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى وإن كان بعد حين.. حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة ربما رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بالجواب.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..
(5)
من أين ولدتّ يا ماما؟!!
أحمد سيف حاشد
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في غموض شديد، ومُستصعب فهم أبجدياته وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول تلمّس أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، مُحفّزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة أو المتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي غارقا في حيرة ربما تنام أو تستكين لحين ثم تعاود طرح نفسها من جديد في أول حدث أو مناسبة مشابهة، بسبب عدم رضائي واقتناعي بالإجابات التي تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة أو كاذبة..
ربما تتذاكى أمي وابدو مقتنعا بعض الوقت بالإجابة، ولكن ما أن تتكرر الواقعة حتى يعود السؤال اكثر إلحاحا من سابقة، وتبدو الاجابة السابقة قد باتت في وعيي هشة أو اكثر واهنا مما كانت عليه..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى ومبرر العيب؟! كنت أسأل أمّي عن وجودي، وكيف خرجت من بطنها إلى واجهة الدنيا، ومن أي منفذ خرجت بالتحديد؟! وعندما تولد أمي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته.. فيما كانت أمي في البداية تجيبني وهي تضحك أو تبتسم أننا خرجنا من ركبتها.. ثم تثير فضولي أكثر وأسألها كيف؟! والمولود أكبر من ركبتها؛ فربما أحتار وأتسأل أكثر!!
ربما تبدو إجابة أمي على السؤال غير مقنعة أو لم تمنحني الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، ويظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدتُ إلتماع أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رضّ أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. لا أثر في ركبة أمي المتعافية لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط أو متعمدة الكذب فيها، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني بين حين وأخر، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها، ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..
كنت أسمع ولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي قسرا من المكان القريب ويخالط هذا الإبعاد استرجاء وتفدّي من قبل بعض النسوة الحضور، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، وأُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
وتتكرر الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي ربما لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى وإن كان بعد حين.. حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة ربما رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بالجواب.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..
وبعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، وشعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا وإخوتي من فمها.. ولكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج مولود أكبر منه!! لماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!
ربما أثقلت رأسي تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة المتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عنّي، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالابتسام أحيانا، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..
عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام.. واكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، وبحد يجب أن لا نستسهله..
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وفساد وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..
***
يتبع..
ربما أثقلت رأسي تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة المتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عنّي، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالابتسام أحيانا، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..
عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام.. واكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، وبحد يجب أن لا نستسهله..
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وفساد وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..
***
يتبع..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(6)
احتجاج وأسئلة تتناسل كالضوء
وأنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب وفرح واستراحة ومسرّة.. وهو يراني في كل حال.. وأتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، ولا يتركاني حتى عند الذهاب لقضاء الحاجة..
كنت أسأل عن الله، وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه ضخمة، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وهو مستريح عليها ينظر إلينا ويتابع أفعالنا من مكانه، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي.. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي وأنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.
كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.. أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، ولا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، ولكنني أتشكك بصحته، ويميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..
لأول وهلة تبدو بعض الأسئلة بسيطة، ولكنها تشبه السهل الممتنع.. كانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف والهلع.
كانت بعض الأسئلة كبيرة، وربما صغيرة، ولكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار.. بعض الأسئلة كانت تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف والهلع، وتسارع بتحذيري الشديد، وبما هو مرعب ومهول، وتقمع سؤالي بشدة وصرامة..
طبعا تلك الأسئلة وما قبلها لم تكن بهذه الصيغ التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا وأكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل تتناسل وتتكاثر، تواجه بقمع وتعنيف وغياب جواب، أو جواب خطاء أو مغلوط أو كاذب لا استسيغ بلعه، أو أبلعه بصعوبة على غير اقتناع إلى حين.
*
لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..
كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس.. وكنت أستمع إلى شرحه، وتتكرر كلمة "البراز" في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا "البراز"!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة ولا أعرف ماذا تعني!! بالتأكيد زملائي مثلي، ولكنهم ربما لم يتجرؤون على السؤال.. سألت الأستاذ: أيش هو هذا "البراز"؟!
فأجاب بضيق، وبحركة عصبية من يده وقدمه محاولا أن يشعرني بغبائي وإحراجه من الجواب بقوله: "الخر".. فضحك من في الفصل.. وهو ما جعلني أصاب بإحراج شديد.. ولو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجزوا عن جوابه.. أغرقني الخجل في الصف، وتحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب، وكنت الشهيد.
*
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير؛ وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وهو ظالم ومحتال وشرير بحسب ما أخبرتني به أمي؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..
أسأل: لماذا نذبح كبش “العيد” ونسفك دمه؟!
فتحكي لي أمي قصة اسماعيل ووالده إبراهيم عليه السلام..
أسأل: لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟! إنه فعل يترك لدي حزن وحسرة، وغصة كبيرة في الحلق..!!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..
*
تسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من قنّها جوار دارنا في لجة الليل البهيم.. كانت تصرخ وتستغيث بصوت مفجوع يفطر قلبي.. صوت لم أسمع مثله من قبل.. كان أوجع من الموت وأكبر من مكبر الصوت.. لا مغيث لها ولا مجير.. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، وكأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها؟!
ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة الذي ربما يعادل صوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، وأخمد صوت دجاجتنا وأنفاسها إلى الأبد.. كدت يومها أن أحتج على الرب، وعلى هذه الحياة الكاسرة.. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد أكثر من خمسين عام خلت.. لقد مزق صوتها سكون الليل، وقدح صوتها الصارخ بالشرر.. صوت لا أريد أن أتذكره؛ لأن استعادة صوتها في ذاكرتي يجلب لي كثير من الألم، ويذكرني بالاختلال المريع للعدالة، وكم هي هذه الحياة قاسية..!
*
في إحدى الأيام حدث زلزال بعيد أو هزة أرضية خفيفة أستمرت لثواني قليلة أخافتني بعد أن عرفت أنه كان من الممكن أن يقع دارنا على بعضه، ويسقط السقف على رؤوسنا.. كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال وحلّت الكارثة.. وحالما أسألها على ماذا يقف هذا الثور التي تقف الأرض على قرنه!! لا تجيب، وإن ألححت بالسؤال تجيب إنها لا تعلم ولا تدري.. فجوة في وعي طفل تظل تكبر وتتسع طالما لم يجد جوابا مقنعا أو مستساغا أو ما ينطلي عليه..
(6)
احتجاج وأسئلة تتناسل كالضوء
وأنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب وفرح واستراحة ومسرّة.. وهو يراني في كل حال.. وأتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، ولا يتركاني حتى عند الذهاب لقضاء الحاجة..
كنت أسأل عن الله، وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه ضخمة، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وهو مستريح عليها ينظر إلينا ويتابع أفعالنا من مكانه، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي.. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي وأنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.
كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.. أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، ولا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، ولكنني أتشكك بصحته، ويميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..
لأول وهلة تبدو بعض الأسئلة بسيطة، ولكنها تشبه السهل الممتنع.. كانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف والهلع.
كانت بعض الأسئلة كبيرة، وربما صغيرة، ولكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار.. بعض الأسئلة كانت تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف والهلع، وتسارع بتحذيري الشديد، وبما هو مرعب ومهول، وتقمع سؤالي بشدة وصرامة..
طبعا تلك الأسئلة وما قبلها لم تكن بهذه الصيغ التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا وأكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل تتناسل وتتكاثر، تواجه بقمع وتعنيف وغياب جواب، أو جواب خطاء أو مغلوط أو كاذب لا استسيغ بلعه، أو أبلعه بصعوبة على غير اقتناع إلى حين.
*
لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..
كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس.. وكنت أستمع إلى شرحه، وتتكرر كلمة "البراز" في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا "البراز"!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة ولا أعرف ماذا تعني!! بالتأكيد زملائي مثلي، ولكنهم ربما لم يتجرؤون على السؤال.. سألت الأستاذ: أيش هو هذا "البراز"؟!
فأجاب بضيق، وبحركة عصبية من يده وقدمه محاولا أن يشعرني بغبائي وإحراجه من الجواب بقوله: "الخر".. فضحك من في الفصل.. وهو ما جعلني أصاب بإحراج شديد.. ولو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجزوا عن جوابه.. أغرقني الخجل في الصف، وتحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب، وكنت الشهيد.
*
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير؛ وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وهو ظالم ومحتال وشرير بحسب ما أخبرتني به أمي؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..
أسأل: لماذا نذبح كبش “العيد” ونسفك دمه؟!
فتحكي لي أمي قصة اسماعيل ووالده إبراهيم عليه السلام..
أسأل: لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟! إنه فعل يترك لدي حزن وحسرة، وغصة كبيرة في الحلق..!!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..
*
تسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من قنّها جوار دارنا في لجة الليل البهيم.. كانت تصرخ وتستغيث بصوت مفجوع يفطر قلبي.. صوت لم أسمع مثله من قبل.. كان أوجع من الموت وأكبر من مكبر الصوت.. لا مغيث لها ولا مجير.. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، وكأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها؟!
ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة الذي ربما يعادل صوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، وأخمد صوت دجاجتنا وأنفاسها إلى الأبد.. كدت يومها أن أحتج على الرب، وعلى هذه الحياة الكاسرة.. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد أكثر من خمسين عام خلت.. لقد مزق صوتها سكون الليل، وقدح صوتها الصارخ بالشرر.. صوت لا أريد أن أتذكره؛ لأن استعادة صوتها في ذاكرتي يجلب لي كثير من الألم، ويذكرني بالاختلال المريع للعدالة، وكم هي هذه الحياة قاسية..!
*
في إحدى الأيام حدث زلزال بعيد أو هزة أرضية خفيفة أستمرت لثواني قليلة أخافتني بعد أن عرفت أنه كان من الممكن أن يقع دارنا على بعضه، ويسقط السقف على رؤوسنا.. كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال وحلّت الكارثة.. وحالما أسألها على ماذا يقف هذا الثور التي تقف الأرض على قرنه!! لا تجيب، وإن ألححت بالسؤال تجيب إنها لا تعلم ولا تدري.. فجوة في وعي طفل تظل تكبر وتتسع طالما لم يجد جوابا مقنعا أو مستساغا أو ما ينطلي عليه..
أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس وادي "شرار"، وسمي ذلك السيل باسمه، وربّما البعض أرّخ لبعض الوقائع والأحداث من يوم سيل حميد، كأن يقول: فلان ولد قبل سيل حميد..
كنت أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة "المعرفة" بـ "ثوجان" مشيا على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، والذي قيل أن السيل جرف حميد منه.. كنت أتخيل المشهد وأتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، ودفر السيل العنيف العرمرم..
اليوم بات الفساد والاستلاب أشد من طوفان نوح.. جارفا أكثر من "توسنامي".. ترحم البعض على فساد زمان.. لازلنا نحاول النجاة بقارب أو سفينة لعل وعسى أن ننجو من كارثة نعيشها من سبع سنين.. لا شجرة ولا جبل يعصمنا مما نحن فيه.. نحاول النجاة بسفينة نوح وبوعي حكيم ألف الصبر وخبر الصمود.. نحن أمام طغيان يعتاش على الموت والدم.. يجرف من يجد في طريقة..
نصمد ونقاوم الكارثة.. ننتظر أن ينحسر هولها لنتمكن من النجاة والعبور ببقايا وطن إلى مأمن أو ملاذ.. هذه الحرب الكارثة تعتاش على القتل والفساد والدمار والخراب الكبير، ولا تريد أن تنتهي أو تشهد زوال غير زوالنا نحن، أو تلاشي وعينا..
*
أسأل أمي: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، ومن هم أصغر مني.. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، ويرغمون بالموت على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنة.. والجنة فيها كل ما يطيب ويتمناه الإنسان، وإن أختي نور وسامية مع بنات الحور في الجنة، وإنهن سيشفعان لنا يوم القيامة، وندخل الجنة بهما، أو سوف تستقبلاننا على بابها..
كانت أمي تخبرني أن الموت يأتي في صورة رجل أعور فيقبض روح الإنسان.. وكنت أسأل لماذا الموت أعور؟!
فتجيب أمي: لأن نبي الله موسى فقع أحدى عيناه قبل أن يقبض روحه.. لطالما تمنيت أن يكون موسى قد قتله وأراحنا من حزن فراق من نحب.
*
وتخبرني أمي أيضا أن "الحلابين" عمياء، فأسأل أمي لماذا هي عمياء؟!
فتجيبني: أن الثعبان زاد على "الحلبان" ومكر به؛ فأخذ "الحلبان" أرجل الثعبان في صفقة تبادل ماكره، وأخذ الثعبان عيني "الحلبان" وسرعته..
أحسست بالحسرة أن تكون "الحلابين" عمياء لا ترى، وفوق هذا صارت مُعاقة الحركة بالأرجل الكثيرة، فيما الثعابين أخذت من الحلابين نظرها وسرعة حركتها.. إنه المكر الذي أنتصر وأستمر وسوف يستمر إلى آخر الزمان..
بدت لي الصفقة مجحفة بحق "الحلبان" المسكين والطيب، وقد خسر الصفقة على نحو فادح، وبات معاق النظر والسير، في صفقة لم تكن عادلة..
ولهذا كنت وأنا أرعي الأغنام في الجبل أتعاطف مع "الحلابين" عندما أجدها بعد المطر تسير ببطيء ومشقة، فأنقلها من مكان إلى مكان آخر أفضل، وأختصر لها الطريق بحملها إلى ذلك المكان الذي خمنته إنه الأفضل، وما كانت لتهتدي إليه دوني. ثم أجد بعض غنمي قد شردت بعيدا عنّي حالما كنت منهمكا في نقل "الحلابين".
*
كانت أمي أحيانا تحاول الإجابة، فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه.. كانت أمي أقرب إلى وجداني من أبي.
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، ولم أجد لها جوابا كاف وشاف.. كنت أسخط على من يستسهل الموت، ويهدر الحياة، وينتج العنف والقسوة، ويسوّغ الظلم ويبرره.
أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه وكلامه؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو؟! وكيف أوجد نفسه؟! وكيف كان الحال قبله؟! فلا ألاقي جوبا، بل أجد صدّا وغضبا يشتد، وزجر يمنعني من السؤال ثانية.. ولكن تظل الاسئلة تجوس داخلي لا تهدأ ولا تتعب ولم ينجح القمع في القضاء عليها..
*
قبل أن أعرف معنى الزواج، كنت أعرب عن رغبتي في الزواج من جارتنا التي تكبرني بأربعة أضعاف عمري؟! وفي إحدى الأيام حاولت أن أتشبث بها وأمنعها من الرواح إلى بيتها من دارنا، لأنني أريد أن أتزوجها، دون أن أعلم شيئا عن حقيقة الزواج وماهيته، أكثر من مكوثها معنا في دارنا..
وعندما كبرتُ بدأت أعرف شيئا عن الزواج، وكنت أشاهد وجهي في المرآة وأرى قبحي في جحوظ عيناي، وأكثر منه كنت أجد بعض من هم في عمري يلفت أنظارهم جحوظ عيني.. وأحيانا أجدهم يعايروني بها، فتترك في أعماقي ندوب ربما تدوم سنين..
يوما سألت أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساويني بأقراني؟! فأجابت أنها سمعت من أبي "انني أشبه جدي هاشم في عيونه".. إنها جينات توارثت وتعدت أبي لأكون ورثيا لما لا أريد.. ومرة قالت لي إنها توحمت على طفل كان جميلا، وعيناه الواسعتين كانت أكثر جمالا..
كنت أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة "المعرفة" بـ "ثوجان" مشيا على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، والذي قيل أن السيل جرف حميد منه.. كنت أتخيل المشهد وأتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، ودفر السيل العنيف العرمرم..
اليوم بات الفساد والاستلاب أشد من طوفان نوح.. جارفا أكثر من "توسنامي".. ترحم البعض على فساد زمان.. لازلنا نحاول النجاة بقارب أو سفينة لعل وعسى أن ننجو من كارثة نعيشها من سبع سنين.. لا شجرة ولا جبل يعصمنا مما نحن فيه.. نحاول النجاة بسفينة نوح وبوعي حكيم ألف الصبر وخبر الصمود.. نحن أمام طغيان يعتاش على الموت والدم.. يجرف من يجد في طريقة..
نصمد ونقاوم الكارثة.. ننتظر أن ينحسر هولها لنتمكن من النجاة والعبور ببقايا وطن إلى مأمن أو ملاذ.. هذه الحرب الكارثة تعتاش على القتل والفساد والدمار والخراب الكبير، ولا تريد أن تنتهي أو تشهد زوال غير زوالنا نحن، أو تلاشي وعينا..
*
أسأل أمي: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، ومن هم أصغر مني.. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، ويرغمون بالموت على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنة.. والجنة فيها كل ما يطيب ويتمناه الإنسان، وإن أختي نور وسامية مع بنات الحور في الجنة، وإنهن سيشفعان لنا يوم القيامة، وندخل الجنة بهما، أو سوف تستقبلاننا على بابها..
كانت أمي تخبرني أن الموت يأتي في صورة رجل أعور فيقبض روح الإنسان.. وكنت أسأل لماذا الموت أعور؟!
فتجيب أمي: لأن نبي الله موسى فقع أحدى عيناه قبل أن يقبض روحه.. لطالما تمنيت أن يكون موسى قد قتله وأراحنا من حزن فراق من نحب.
*
وتخبرني أمي أيضا أن "الحلابين" عمياء، فأسأل أمي لماذا هي عمياء؟!
فتجيبني: أن الثعبان زاد على "الحلبان" ومكر به؛ فأخذ "الحلبان" أرجل الثعبان في صفقة تبادل ماكره، وأخذ الثعبان عيني "الحلبان" وسرعته..
أحسست بالحسرة أن تكون "الحلابين" عمياء لا ترى، وفوق هذا صارت مُعاقة الحركة بالأرجل الكثيرة، فيما الثعابين أخذت من الحلابين نظرها وسرعة حركتها.. إنه المكر الذي أنتصر وأستمر وسوف يستمر إلى آخر الزمان..
بدت لي الصفقة مجحفة بحق "الحلبان" المسكين والطيب، وقد خسر الصفقة على نحو فادح، وبات معاق النظر والسير، في صفقة لم تكن عادلة..
ولهذا كنت وأنا أرعي الأغنام في الجبل أتعاطف مع "الحلابين" عندما أجدها بعد المطر تسير ببطيء ومشقة، فأنقلها من مكان إلى مكان آخر أفضل، وأختصر لها الطريق بحملها إلى ذلك المكان الذي خمنته إنه الأفضل، وما كانت لتهتدي إليه دوني. ثم أجد بعض غنمي قد شردت بعيدا عنّي حالما كنت منهمكا في نقل "الحلابين".
*
كانت أمي أحيانا تحاول الإجابة، فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه.. كانت أمي أقرب إلى وجداني من أبي.
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، ولم أجد لها جوابا كاف وشاف.. كنت أسخط على من يستسهل الموت، ويهدر الحياة، وينتج العنف والقسوة، ويسوّغ الظلم ويبرره.
أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه وكلامه؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو؟! وكيف أوجد نفسه؟! وكيف كان الحال قبله؟! فلا ألاقي جوبا، بل أجد صدّا وغضبا يشتد، وزجر يمنعني من السؤال ثانية.. ولكن تظل الاسئلة تجوس داخلي لا تهدأ ولا تتعب ولم ينجح القمع في القضاء عليها..
*
قبل أن أعرف معنى الزواج، كنت أعرب عن رغبتي في الزواج من جارتنا التي تكبرني بأربعة أضعاف عمري؟! وفي إحدى الأيام حاولت أن أتشبث بها وأمنعها من الرواح إلى بيتها من دارنا، لأنني أريد أن أتزوجها، دون أن أعلم شيئا عن حقيقة الزواج وماهيته، أكثر من مكوثها معنا في دارنا..
وعندما كبرتُ بدأت أعرف شيئا عن الزواج، وكنت أشاهد وجهي في المرآة وأرى قبحي في جحوظ عيناي، وأكثر منه كنت أجد بعض من هم في عمري يلفت أنظارهم جحوظ عيني.. وأحيانا أجدهم يعايروني بها، فتترك في أعماقي ندوب ربما تدوم سنين..
يوما سألت أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساويني بأقراني؟! فأجابت أنها سمعت من أبي "انني أشبه جدي هاشم في عيونه".. إنها جينات توارثت وتعدت أبي لأكون ورثيا لما لا أريد.. ومرة قالت لي إنها توحمت على طفل كان جميلا، وعيناه الواسعتين كانت أكثر جمالا..