أحمد سيف حاشد
342 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
ارشيف الذاكرة ..
من أحداث يناير 1986 ..
إعدامات وتصفيات خارج القانون
أصداء من الوتس:
لم أستطيع أن أتوقف عن القراءة، حتى توقفت أنت عن الإسترسال، تمنيت أن يكون ذلك كتابا بل موسوعة، شدني كل حرف، وجدت في الكلمات أعماقي و نفسي، الأماكن، الأحاسيس.
عزيزي أحمد : هناك أمور مشتركة تجمعني بما كتبت منها زواج الأم لثلاث مرات مع إختلاف أن الزواج في حالتكم كان قبل حضوركم، وزيجات أمي كانت في حضوري عدا زواجها من أبي بالطبع والذي كان الزواج الأول، وكانت أمي طفلة في الحادية عشرة من العمر، وكنت انا بكرها وهي طفلة في الثانية عشرة من العمر.

كلية الحقوق جامعة عدن، كنت ممن تم قبولي للدراسة فيها دفعة 1984م، وفي الوقت نفسه تحصلت على منحة خارجية في مجال الصحافة الى الإتحاد السوفيتي، إخترت السفر ولولا ذلك لكنا زملاء وأصدقاء كلية واحدة.

تحدثت أنت ولكن بلسان حالي .

توفيق رشدي و جورج حبش، وجعفر حسن، و سامي كمال، شوقية العطار، فرقة السنابل، فرقة الميادين، ثورة ثقافية أثرت في مفاهيم وحياة كل من عاش تلك الفترة.

واصل النشر عزيزي أحمد، إنها ليست مذكرات سردية، بل رؤية فلسفية محملة بصدق العواطف و حنين و شئ من الحسرة لما هو عليه الحال، و اللاأدرية بما تحمله قادم الأيام.

د. خالد عبد الكريم
رئيس قناة عدن الفضائية الأسبق
فرنسا/5مايو2020م
اصداء.. :

"ولمن لم يفهم أقول: ..."
مالك الصديق المحامي;

سيدي الفاضل أحمد سيف حاشد
أستسمحك عذراً لاقتباسي قولك؛

" ولمن لم يفهم أقول"

لأجعل منه عنواناً لإعتذاري هذا

فالآن فقط فهمت،

نعم الآن فقط
وبعد قراءتي لما تفضلت بتوضيحه في مقالك...
أدركت أخيراً نُبل ما ترمي إليه - من عظات وعبر - من وراء كتاباتك وكشفك للحقائق والتفاصيل التي عايشتها بنفسك أثناء فتن وصراعات الثمانينات الدامية
وانك لا تهدف من وراء ذلك مجرد نشر ذكرياتك و بطولاتك فحسب - كما كنت أتوهم - و إنما للإتعاظ مما تكتب وتنشر

فها انا الآن أعلن أسفي و اعتذاري لشخصكم الكريم عما بدر مني قبلاً من إنتقادات

............
طغيان لا يريدنا أن نكتب أو ننشر
احمد سيف حاشد،:

كثير مما كتبه غرامشي حجبه الحزب الذي ينتمي إليه..
كثير ممن كتبوا ليتم نشر ما كتبوه بعد وفاتهم لم يتم نشره إلى اليوم..
سعاد حسني أجلت كتابة مذكراتها وعندما شرعت في الحديث فقط عن مذكراتها تم تصفيتها من قبل المخابرات المصرية بالاشتراك مع المخابرات البريطانية..

وفي اليمن لنا أن نسأل: أين المذكرات الغير منشورة للبردوني وجار الله عمر؟!!

لست بصدد المقارنة هنا ولكن بصدد القول: كثير مما ينبغي أن يُنشر لم يُنشر، وربما لا يُنشر إلى الأبد.. وربما يُنشر موظفا لخدمة حزب أو جماعة، أو يُنشر على نحو يتم الاساءة إليه أكثر من طمره، وقد رأينا بعض من هذا بأم العين..

أنا أحاول أن اكتب وأنشر مذكراتي وتفاصيل حياتي المتواضعة واتناول ما أعرفه من حقائق وكشفها للناس..
ولكن هنا وهناك يقولون مش وقته..
ومتى وقته؟! هل بعد أن أموت؟!

إن راعيت حساسية كل طرف فيما تكتب لن تكتب أبدأ.. وما فائدة النشر وقد أهدرت الحاجة لما تكتب.. والاتعاظ مما تكتب!
دعوني أنشر مذكراتي وأنافح من أجل الحقيقة، فيما بقي لي من هامش حياة وحقوق..
ربما حتى هذا الهامش لن أجده في الغد، وربما أموت قبل أن يأتي هذا الغد أو قبل أن أصل إليه.
لماذا تخشون الحقيقة المرّة.؟!
يريدون أن يزورون التاريح أو ننتظر حتى يزورونه..

المجرمون فقط هم من يخشون انكشاف ماضيهم الإجرامي..
هل أنتم مجرمون؟!
إن كان هذا ليس وقته في تقديركم لحساسية الوضع..
هنا وهناك يقولون ذلك ويؤكدون عليه..
هنا يقولون أننا نخدم العدوان.. لأننا نكتب ونتناول ما لا يرغبوه..
وهناك يقولون نثير الإنقسام والفتن وهم لا زالوا يتقاتلوا إلى اليوم.. حدث يفترض أن يكون هذا الماضي قد صار تاريخا.. حدثا مروعا لا يريدون أن نكتبه أو ننشر عنه ولا يريدون الاتعاظ منه..

بعض المستبدون والطغاة يريدوا أن يحددوا متى نكتب ومتى علينا أن نمتنع!!
يريدون أن يكونون أوصياء حتى على تفاصيل حياتك وكتابتها ونشرها!!
هم يحددون لك ماذا تكتب وماذا لا تكتب!!
يحددون لك أولوياتك وأولويات ما تكتب؟!!
إن ماضيهم وحاضرهم هش.. يريدون أن لا تقربه
إنه حجر يريدون أن يفرضونه عليك..
بل هو أكثر من الوصاية..
هذا استبداد كامل الأركان.. بل هو الطغيان ذاته..

لا بأس أن أقول لكم الآن لا تقتلوا فيما بينكم يا جنوبيين.. عليكم أن لا تعيدوا ما فات من ماضي أليم .. كفاية اقتتال.. أريد أن أذكركم بماض لا أريد أن تكررونه.. حذاري أن تقتلوا مرة أخرى..
ولا بأس أن أقول لليمنيين جميعا .. يكفي حروب فيما بينكم.. الحروب مآسي وويلات كثار .. الحروب كارثة وطن..
أقول للجميع: ما أحوجكم للاتعاظ من ماضيكم وليس إهالة التراب عليه، أو قمع الحقيقة أيا كانت..

ولمن لم يفهم أقول: تفاصيل حياتي تخصني وحدي .. أنا فقط صاحب القرار..
لا زلت حرا.. وسأقاوم الاستبداد بأي صيغة وأي لباس كان..
ومن سقفه الموت لا يكترث..
الموت أكرم من الاستبداد..
سأتمرد على الجميع من أجل حريتي..
الحرية هي عشقي الأبدي.. دونها الموت أهون..
أصداء..
احمدعثمان الهاشمي:

أستاذي القدير احمد سيف حاشد
سلام الله عليك ورحمته وبركاته
وبعد.
من اعماق قلبي أشكرك وأشكر لك مقدرتك وهمتك العاليتين وصبرك العظيم وإرادتك الفولاذية في تحدي ظروف الحياة وتحدي صعابها ومقارعة فراعنة العصر وإنتصاراتك الأسطورية في كل جبهات الحياة وفي مختلف المحاور بالرغم من ملازمتك الدائمة لخطوط التماس وبالرغم من صعوبة الظرف وظروف الصعوبة التي لازمتك في جل مراحل حياتك إن لم تكن في كلها فكنت والوطن سيان لايفترقان تتقاسمان البسمة والدمعة وعشت والوطن ولازلتما في عناق طال أمده ليفوق عناق كل العشاق والمحبين

كما أشكر لك ذاكرتك الأصلية والأصيلة والواسعة التي إختزنت هذ الكم الهائل من الأحداث الجسام في تفاصيل حياتك ومنعطغات تاريخك الذي يتسع ليلخص تاريخ وطن في إنسان

ورغم ماتعرضت له ذاكرتك من فرمتات متعددة لإعادة الضبط المصنعي لقامتكم النظالية السامقة التي تعانق الجوزاء علوا من قبل أعداء الإنسانية والوطن أقزام الإرادة ومعدومي الضمائر لطمس هويتك وغريزتك وفطرتك النضالية وحرفك مسار النضال والبذل الذي كنت بحق فارسه الغظنفر وقائده المظفر

كماأشكر لك حسن عرض وتنظيم وتنسيق تاريخ أيامك العظيم الذي هوبحق تاريخ أمة ومأسآة وطن بأسلوب شيق وجذاب لايمل فقد كتبت فصولا" من المآسي وقصص وأحداث الكراسي الطافية على بحيرات من الدماء وبالرغم من فضاعة المشاهد إلا انك كنت كاتبا عملاقا متمرسا إستطعت مزج المشهد بنكهة كوميدية أحيانا" تخفف بها مرارة الجوانب المؤلمة على القارئ والمتابع

أستاذي العزيز : إن قرائتي لقصة أيامك وتاريخ حياتك ومشروعك النضالي العملاق الممتلئ بالأحداث والتحولات أغنتني بالفعل عن الحاجة لقراءة الألآف من كتب ومجلدات التاريخ التي كنت أشعر بالحاجة او الرغبة لمطالعتها فانت بالفعل تاريخ ناطق او تاريخ يمشي

أخيرا" أتمنى أن أجد الفرصة والفراغ الكافيين لألتقي بك وأجلس معك وأستمع إلى حديثك العذب وأستفسر عن عن بعض النقاط التي أوردتها مجملة وأود ان اسمعها مفصلة وبإسهاب ممل لأروي فضول حب الإطلاع لدي

.وفقكم الله وسدد على طريق الخير خطاكم

ولدكم البار د/أحمد عثمان الهاشمي
نائب مدير مكتب الصحة العامة والسكان م/التعزية تعز
وجمعنا وإياكم عن قريب
من أحداث 13 يناير
(11)
خراب على خراب
بعد تاريخ 20 يناير 1986على الأرجح، صعدت باصا للركاب من كريتر باتجاه خور مكسر، وعلى طريق ساحل أبين صعد إلى الباص ثلاثة من طلبة الكلية العسكرية، يبحثون عن بطائق الهوية، وعندما اتموا التحقق من الهويات، أعتذر أحدهم بالقول: “آسفين نحن نبحث عن أصحاب شبوة وأبين”..

كان للتعبئة المناطقية والجهوية دورا مهما في النتائج الكارثية لأحداث 13يناير.. كنت أسأل نفسي كيف لفضاء الأممية أن يصغر ويضيق إلى هذا الحد؟! لماذا تلك النخب أعدمت فضاء كان يمتد من أقصى الأرض إلى أدناها، واستبدلته بعصبيات تصغر وتضيق، حتى بات أكبرها أصغر من قُطر عقلة أصبع!..

لقد كانت التصفيات والاعتقالات في المقام الأول تتم بحسب بطاقة الهوية.. كانت الهوية هي المحور والأساس.. أيام عصيبة صار فيها الاعتقال والموت يختار ضحاياه بحسب البطاقة أو المحافظة والمنطقة..

تم تصفية كثير من رفاقي وزملائي في لواء الوحدة لاعتبارات الانتماء الجغرافي في المقام الأول.. تم استهداف من ينتمي جغرافيا إلى الشمال، ومناطق الضالع وردفان ويافع، وتم التنفيذ بطريقة مروعة.. وفي المقابل حدثت أفعال انتقامية من الطرف الآخر لا تقل مأساة وترويع عمّا أرتكبه الفريق الأول.. لقد أبكت تلك الأحداث السماء دما..

لماذا تم إعدام رفيقي محمد عبدالله العفريت، وجمال محمد عبدالله، وعبده مانع الصعدي، ومحمد عايض الحنشلي، وأحمد حسين الرباط و والريمي ومحمد صالح محمد "عبود"، وهذا الأخير لم يمضِ على توزيعه على قوة اللواء غير ليلة واحدة من 13 يناير؟!!

لماذا تم إعدام المساعد عبده علي، والمساعد حسن ابراهيم، والمساعد البرح وجميعهم من أبناء الشمال؟!! لماذا تم تصفية صديقي محمود سالم من يافع معربان، والملازم الطيب نصر من ردفان، والملازم النقي الحياني من إب، والأخ زيد، وأخاه الطيب النقي علوان الذبحاني، والعشرات من أمثالهم؟!!

لماذا قتلوا عثمان.. الفنان عثمان أرق من نسمة.. الفنان عثمان الصوت الطالع من أعماق الروح.. لماذا أعدموه؟! هذا الذي غنّى للشاعر السوري أيمن أبو الشعر بلحن وصوت شجي وعميق:
علمني بوح جدار السجن أن ارادة رجل حر أقوى من قفل السجان
علمني قبر فدائي أن ركوع شهيد فوق التربة أسمى آيات الايمان..

لماذا قتلتم الأحرار، والنقاء الذي لاذ إليكم، ليحتمي من جور الشمال، فوجد في الجنوب ما هو أبشع وأكثر ترويعا؟!

عثمان هذا لا تعرفوه.. عثمان ملاك لا تشبهه الملائكة.. إنه النقاء والحب كله.. عثمان الذي غنى لليمن
وللوحدة، وغنى لذلك الشاعر السوري القادم من بعيد، وهو مفتونا باليمن وينشد وحدته:
لمن تمشطين شعرك الجميل يا يمن
ضفيرة صنعاء ضفيرة عدن
فكي شريط الشعر كي تصحو الخصل
لمن فرقت شعرك الرطيب يا يمن؟
ضفيرة صنعاء
ضفيرة عدن

كلا الفريقين منتصر ومهزوم دفعا ثمناً باهضاً وفادحاً، وكانت خسارة الوطن أجل وأفدح، ولازلنا نعيش آثار هذه الأحداث إلى اليوم..

كل مساحيق التجميل التي جاءت باسم التسامح لم تنجح في ردم الشروخ العميقة التي تسببت بها هذه الأحداث المأساوية.. ثم جاء الخصم والعدو ليصنع منها حوامله، واضفاء شرعنه تدخله، وتنفيذ أجنداته وأهدافه، بكل خبث، في إطار مخطط يستهدف اليمن كلها أرضا وجغرافيا ووحدة وإنسان ومستقبل..

جرى إحياء الماضي وحزازاته، وضخ خطاب يستند إلى وعي مشوه، وبث وإثارة عصبيات ما قبل الدولة، وفتح وأنكأ الجروح العميقة في الروح، ووأدا ما بقي من جميل في النفوس.. جرى إحياء وتعميق آثار الماضي وانقساماته وتناقضاته، وأعاد انتاجها على نحو أقبح مما كانت عليه، وأضاف إليها انقسامات وتراكمات جديدة، وأعاد انتاج وتأسيس صراعات جهوية ومناطقية جديدة، بل وعنصرية أيضا، وتم إلى الفادح اضافة ما هو أفدح، وخراب على خرب..

أما اليوم فقد ضاق وطفح الكيل، وبات الواقع يتحدث عن نفسه، وعمّا يحدث، وباتت الكلفة وطن.. ولازال القادم أسوأ، وهذا لا يعني بحال أن الشمال أفضل.. وللحديث بقية..

***
.......
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
اصداء..
محمود محمد مرازح:
كلماقرأت لك ينتابني شعور لايوصف لن اشخصه بالصدمةمن غياب الكثير من الحقائق مالم يكن غياب الحقيقة
وفي نفس الوقت اكبارا لشخص مثلك ان يكون حيا مع مافي ذاكرته من براكين حبلى بماحملته الايام والاحداث من توحش

بربك ياقاضي... ان كنت تتابع سفاسف وسفاهات الدراما اليمنية اليس ماتكتب اولى بأن يقدم كأعمال تمكن القارئ والمستمع والمشاهدمن ذلك

فماأحوجنا لمعرفةولوبعض مماتكتنزه في ذاكرتك
كضرورةلمعرفةالحقيقة التي تؤهلنا للبناء من الماضي لمستقبل افضل

مالم فسنظل كالماءفي الرحاة لاماض ولاحاضر ومن ثم لامستقبل
اي ضياع في ضياع
وجماعات مارقةوتجار أزمات وحروب
وقطعان من قطيع تسير بغيرهدف
اصداء من الوتس:
رائع هذا السرد. ليس في لغته وأسلوبه. ولكنه في مضمونه.
كتوثيق لمرحلة ولفترة ولأحداث في تاريخ شعبنا ووطننا لكي يستفيد منها القادمون والآتون من الأجيال. ولتنضج تجاربنا وتكشف لنا بجلاء عن أخطائنا وخطيئاتنا لبلورة سلوك سياسي راشد بعيداً
عن الإقصاء والعنف والتطرف

ما ألمسه عند كثير من رفاقي في الاشتراكي تلقي هذه المذكرات وأخص بالذكر مايتعلق بأحداث يناير. بشيء كبير من القبول والرضا والاعتراف بالخطأ الذي وقع فيه الحزب. ويشعرون بأهمية تعزيز ثقافة الديمقراطية والقبول بالرأي الآخر لكي لا نقع في مثل تلك الكوارث

لك كل المحبة والإجلال
وعشت رمزا للحرية
وعاشقا للحرية
ولسان حق لا يساوم
أحمد أحمد علي _ شرعب الرونة
اصداء..
ابوبكر البروي
سردك لاحداث يناير تجعل من يحمل ضمير إنساني يأن من مأسي الماضي وهناك مشاهد كثيره عماحصل في المناطق الوسطى. تحت شعار بما يـسمـى بمحاربة الشيوعية وماحصل في صعدة بما يسـماء بمحاربة الرافضه والإثناعشرية..

وهناك جرائم لاتحصى تشمل الجغرافية اليمنية شمالية وجنوبية انـظروا إلى احداث اليوم منذ اكثر من خمس سنوات.. الموت والمجاعة والتشرد يشمل كل مواطن يمني من المستفيد من صراعات الماضي والحاضر لم يـستفد منها احد إلى قلة من تجار الحروب وجماعات إقليمية تحمل عقلية بدوية عنصرية جعلت من اليمن مقلب نفايات لقضاياها الداخلية ولاطماعهاء الفوضوية التي عبثت بكل يمني ويمنية..

هل. سنجعل من احداث الماضي دروس لنبني دولتنا المستقبلية؟؟ سؤال لكل مناضل يؤمن بالعدالة الإجتماعية وبالمبادئ الإنسانية: هل سنجرم من يتغناء بالقبلية والمذهبية واي شعارات عنصرية.. ما العمل ؟ هل يكفينا مأسي الصراعات القبلية والمذهبية والشعارات الدمغوجية هل سنناضل من اجل وضع حد لهاذة الافكار العنصرية ونـجرم من يتغناء بها
السلسلة الثانية.. محدثة 1 - 4
أنا ابن الدباغ..
أبي
(1)
• كان أبي عاملا.. مُفند للجلود.. هي مهنة محتقرة عند البعض باعتبارها امتدادا لدباغة الجلود.. مهنة محتقرة عند من يتملكهم الخواء "والعنطزه"، والذين يعيشون على السلب والنهب والفساد في الأرض، والغير قادرين على فهم إن العمل طالما كان مشروعا، هو شرف كبير؛ لأن صاحبه يأكل من كده وعرق الجبين، هو ومن يعيلهم..

• كان أبي يعمل في شركة (البس) بعدن، يفنِّد الجلود، وهي الحرفة التي أعطاها الجزء الأهم من زهرة عمره وريعان شبابه.. العمل بتفنيد الجلود له أضرار صحية، ولكن يبدو أن أبي وهو يلتحق بالعمل بهذه الشركة قد آثر فرصة العمل على البطالة، وأنفذ المثل القائل "غبار العمل ولا زعفران البطالة"

• بسبب الملح والجلود والمواد الكيمائية المستخدمة أصيب أبي بضيق النَفَس، وسعال ليلي، رافقه حتى آخر أيام حياته.. جزء من طفولتي الأولى التي أتذكر بعضها بصعوبة كان في عدن حال ما كان والدي يعمل بشركة "البس"..

• بعد سنين من عمله في شركة (البس) جاء بنا من القرية لنكون معه وإلى جواره.. وفر له العمل قدرا من الدخل المحدود، ليلم به شملنا، ويفي باستقرار معيشي متواضع، وإن كان قد جاء هذا على حساب صحته بالمقام الأول.. كان إيثارا منه لم نعلمه إلا بعد نوبات السعال التي كان يعاني منها لاحقا بعد حين..

• أقمنا في (دار سعد) إحدى ضواحي عدن، وكان عمري يومها سنتين وبضعة أشهر، ومعي أختين توأم (نور وسامية) وعمرهما أقل من عام.. وفي (دار سعد) كنّا قد سكنا منزلا صغيرا استأجره والدي، ويتكون من غرفه وحمام ومطبخ وصالة.

*
...................................

(2)
ناس يروننا دونهم
• خلال أكثر من خمسين عام من عمري، لم أكن أعرف أن هناك فئات سكانية أو مجتمعية في اليمن تحتقر مهنة دباغة الجلود والعاملين فيها، وتنظر إليهم بنظره دونية.. كانت الفكرة الراسخة في ذهني إننا ننتمي إلى طبقة الفقراء فحسب، ولم أعلم أن هناك فئات سكانية، وبيئات قبلية، وبدوية، ترانا دونها إلا في فترة متأخرة من حياتي.. ما كنت ألمسه في محيطي وغير محيطي الذي أعرفه أن مهنة دباغة الجلود وتفنيدها، لا تختلف عن غيرها من المهن من وجهة نظر الوعي السائد في اليمن كله.

• ما كنت أعلمه في العهد الاشتراكي القائم في عدن ثم فيما تلاه، هو أن أبي بدأ حياته عاملا في مهنة تفنيد الجلود، وهي مهنة ذات صلة وامتداد لعمل ومهنة الدباغة، وأعرف أن أبي ينتمي للطبقة العاملة، وإننا ننتمي لطبقات الفقراء، أو قل إن شئت من أسر ذوي الدخل المحدود.. وقد وُجدت في جنوب اليمن إبان العهد الاشتراكي حماية قانونية، ونصوص عقابية لمن يعيّر أو يحتقر أو يسيء إلى أحد المواطنين بسبب انتمائه المهني، أو حتى الطبقي المتدني..

• بل أذكر في بعض ما تعلمته، من قانون العقوبات وشروحاته في كلية الحقوق بعدن، أنه إذا وجه أحدهم إهانة صاعقة أو احتقار شديد أو إساءة بالغة إليه، وأرتكب من وُجهت إليه هذه الإساءة البالغة، جريمة فعل القتل ضده، تحت تأثير الهياج النفسي الشديد الناتجة عن تلك الإساءة البالغة، فلا يقاد القاتل به..

• وتفسر الشروحات هذا النص، وتعيد السبب إلى أن فعل القتل تم ارتكابه من قبل الجاني في لحظة الهياج النفسي الشديد جرّاء الإساءة البالغة الموجه له من المجني عليه، وعلى نحو أخرجت مرتكب الفعل عن حالته الطبيعية بشدة، فطار صوابه وعقله على نحو أفقده لحظتها الوعي بتقدير أفعاله، تحت تأثير الهياج النفسي الشديد الذي تسبب فيه المجني عليه.. والقانون النافذ في الجنوب أنذك ـ هو قانون جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الصادر في العام 1976 ـ والذي قيّد القاضي بالحد الأقصى للعقوبة وهي لا تزيد عن خمس سنوات سجن.

• هذه الحماية القانونية قد دعمتها أيضا وعززتها الثقافة السائدة، أو بالأحرى الوعي الاشتراكي السائد في الجنوب، والذي كان منحاز أيديولوجيا لصالح طبقات الفقراء، أو ما كان يسميهم طبقات العمال والفلاحين، وكذا الشرائح الفئات الأخرى مثل الحرفيين والصيادين، أو من كان يعتبرهم إجمالا بـ "أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة"..

• بل ووصل الأمر بهذا الوعي إلى الحد الذي جعلنا نعتز بهذا الانتماء، ونجل فقرنا باعتزاز، ولم نشعر بأي انتقاص يوما بسبب المهنة، أو تدني المستوى الاجتماعي لنا، وأكثر من هذا، كانت توجد إجراءات اقتصادية، واهتمام لافت وبحماس فياض، يتم بذله من قبل السلطات نحو شريحة المهمشين، والعمل على رفع مستواهم الاقتصادي والتعليمي والاجتماعي، وتم بذل محاولات كثيرة ومتتابعة لإعادة دمجهم في المجتمع، ولاسيما في عهد الرئيس سالم ربيع علي والمشهور بـ "سالمين"..

• وكانت من الهتافات الأخاذة والآسرة في ذلك الحين، والتي سمعتها من قبل المهمشين أثناء دراستي الإعدادية في طور الباحة في سبعينات القرن المنصرم هتاف "سالمين قدام قدام سالمين ماحناش أخدام سالمين عمال بلدية سالمين منشاش اذية " وتم منع وصف أي عامل بلدية بالخادم كما كان.

***
.........
..........................

(3)
كم أنت عظيما بهذا يا أبي

• بعد انقطاع طال بين أبي ومهنته السابقة، عاد أبي مرة أخرى إليها مضطرا، بعد أن ألجأته إليها مسيس الحاجة والعوز، وبعد أن نفذ ما يملك ويدخر من مال، وتشرد طال لسنوات، على إثر مقتل أخي علي سيف حاشد في القرية، ومُلاحقة والدي من قبل سلطة صنعاء في ذلك الحين، والتي كانت تسعى لاعتقاله دون أن يقترف أي جريمة أو ذنب غير حمله لحزن ثقيل أناخ على كاهله بمقتل ولده علي.

• استمر أبي بهذا العمل للمرة الثانية "تفنيد الجلود" قرابة السنتين أو أكثر، في بخار كائن في حي "الخساف" بـ"كريتر" وذلك في ثمانينات القرن المنصرم، لدى صديقه الودود عبد الحميد، رغم استمرار معاناة والدي من نوبات السعال الليلي، الناتجة عن عمله السابق بنفس المهنة في شركة "البس"..

• وعن مهنة والدي الذي عاد إليها مرة أخرى، يقول عامر علي سلام الذي زامن والدي لفترة في العمل: ((كان سيف حاشد رجلا عصاميا، ولي الشرف في العمل معه، في بخار عبد الحميد في "الخساف" .. حيث كان أبي علي سلام فوز يعمل سائقا عند عبد الحميد، فيما كنت أنا واخي في إجازة الصيف المدرسية نعمل أيضا في (تفنيد) الجلود.. كان يتم جلب كل أنواع الجلود المملحة والجافة من الشيخ عثمان والشيخ الدويل الى البخار، ونحن نستلمها في المستودع، حيث يقوم عمي سيف حاشد بتفنيدها (وهي عملية فرز مهمه جدا، وتحتاج لدراية وحنكة في تصنيف الجلود.. وليس أي كائن يستطيع أن يتعلمها، حيث تقسم الجلود الى نوعين، اولا جلود الماعز (التيوس) وجلود الخرفان ... وبالتالي يعتمد المفند على فحصه لكل جلد ان كان درجة أولى او ثانية او ثالثة او رابعه...!! ولكل درجة لها تسميتها... صافي درجة اولى.. كشر درجة ثانية.. واقل من ذلك ثالثة ورابعه..!! وبعد الفرز والعد أيضا نقوم بإضافة السم مع الملح المخلوط الى كل جلد، وعمل رصات خاصة لكل نوع في البخار الذي كان يتسع لكميات كبيرة من الجلود.. واثناء الطلب الخارجي نقوم بوزن الجلود على شكل بند كبيرة ندخلها في مكينة ضغط خاصة برزم الجلود، وربطها بأحكام، ونأتي بالجواني (تغليف كل بنده على حده) ووزنها ثانية للاطمئنان، ونكتب عليها بفرمات محددة أسم الدولة التي نصدّر الجلود لها، او اسم الميناء..!! ومن ثم تحمل الى الميناء ويشحن بالسفن الى أوربا (ايطاليا/ فرنسا/ وغيرها ) ويتم مراسلة الشركات عبر مكتب خاص، وكان التاجر عبد الحميد يتعامل معه.!!))

• كان عمل أبي في تفنيد الجلود هذه المرة مضطرا أكثر من المرة السابقة، وآثر والدي العمل في هذه المهنة التي يجيدها، أو كانت متأتية للعمل بها، رغم أثرها على مستوى صحته، أو بالأحرى على ما بقي لديه من صحة.. وبين العمل في بداية العمر وغاربة، عمر مديد وعمل كديد، وصحة تذوي، ولكنها تقاوم بعناد وصبر لا ينفذ..

• هكذا هم الفقراء يؤثرون العمل على الصحة، مهما كان الخطر عليها أو مهددا لها.. أنهم يؤثرون العمل على ما عداه، وإن كان فيه تراجع أو تلاشي أكبر أو محتمل للصحة.. يموتون وهم يعملون بمثابرة من أجل أن يعيلوا أسرهم بالرزق الحلال المندّى بعرق الجبين، ولو بما يفي بالحد الأدنى من كرامتهم، وكرامة أسرهم المحرومة من الكثير، ودون أن يخطر لهم بال، أو هاجس شيطان عابر، أو شيطان يجوس في الحمى، ليمارس النهب أو القتل، أو جلب "الفيد" والغنيمة من تحت ظلال السيوف، أو يجني المال الوفير من مصدر مشبوه، أو عمل غير مشروع.. إنني أعترف لأباءنا.. لقد كان آباءنا كبارا بحق وجدارة..

• عرفت أبي خلال مسيرة حياته أنه يقدس العمل، ويقدس مواعيده بدقة حد القلق، ويعمل بمثابرة دون تواني أو كسل، ويبذل جل اهتمامه وعنايته في العمل، ويسعى بمثابرة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإنجاز.. وينام مُرهقا ولكنه مستريح الضمير، ويقوم باكرا من فراشة، وبنشاط متجدد، ويقضه وجذوة، تستمر معه طوال ساعات العمل..

• في صنعاء خلال سنوات الحرب كتبت منشورا على صفحتي في "الفيسبوك" معتزا بمهنة والدي المتواضعة، ولأول مرة عرفت من صديقي ورفيقي القاضي عبدالوهاب قطران أن مهنة دباغة الجلود لدى بعص مناطق وقبائل الشمال مهنة محتقرة، ويعتبروا أصحابها ناقصين أصل، مثلهم مثل المزاينة والحلاقين والجزارين، ومن في مستواهم، أو دونهم.. وأزاد من الشعر بيت منتشر بين القبائل:
تجنب صحبة الأنذال تسلم
وتصحبك السلامة والمهالك
مزين ثم حجام وجزار
وقشام ودوشان ودباغ وحائك

ومهنة "تفنيد الجنود" هي امتداد لمهنة الدباغة، وذات صلة بها، كما تم إلحاق فئة الدبّاغين بفئة الجزارين استنادا إلى الصلة في المهنة، في إطار نظرة تراتبية اجتماعية تنضح بالعنصرية الفجة وعيا وممارسة..

• عرفت شيئا آخر أثناء حديثي مع زميلي ورفيقي في الكلية العسكرية "حسين" من الجوف، والذي ألتقيت به خلال فترة هذه الحرب الظالمة.. عرفت منه أن البيع والشراء إلى تاريخ غير بعيد، كانت لدى بعض قبائل الجوف معيبة على من يمتهنها، وإنها من وجهة نظر هؤلاء مهنة غير مرغوبة، وغير محترمة، ويلحق العيب بمن يما
رسها..

• هكذا يتم قلب المفاهيم والقيم رأسا على عقب، أو أن منتجي تلك القيم هم المقلوبين على رؤوسهم، وبالتالي ينتجون مفاهيما وقيما خاطئة، وبعضها مقلوبة كوضعهم المقلوب، معتقدين سويتها واستقامتها، ليتحول في نظرهم من يمارس العمل الشريف، ومن يأكل من عرق الجبين، مقذوفا بالعيب، ولعنات تلاحقه كقدر لا مفر منه، هو وبنيه ومن تناسل منهم.. تدركهم اللعنة لتدمغهم بالعيب والانتقاص والاحتقار والازدراء العنصري الناتج في حقيقته عن خواء عميق في الوعي، ومنطق سطحي رجعي ومتخلف..

• ويظل اعتزازي الكبير بعمل والدي، وبكل المهن الذي مارسها طيلة حياته، دون أن انتقص يوما من إنسانية أي فيئة اجتماعية، وأمقت التصنيف العنصري، وتراتبية الأصول التي تؤدي لحصر الأصول الناقصة واحتقارها، وأزدري الاصطفاء، وأرفض التفكير النمطي التقليدي القائم على تراتبية فيها احتقار الإنسان لأخيه الإنسان..

• زدت اعتزازا بمهن والدي، ونظرت لها ببعد آخر غير البعد الذي ينظر إليها بعض من يعانوا عقد النقص وخلل في الدماغ، وتشوّه في التربية والتنشئة الخاطئة.. في واقع كهذا، أميل إلى تقدير أكثر نحو من ينبت في الصخر كشجرة التين الشوكي أو الصبّار أو شجرة السدر، وقد تحّدت كل الظروف الطاردة للحياة، وعاشت رغم قسوة الطبيعة، وشمخت متحدية وباسقة، بل وزادت تزهر وتثمر، في أعز الفصول ضيقا، وكأن وجودها المعاند، فيه حكمة ومقاومة وتحدّي لوجع الطبيعة، وتشمخ برأسها علوا، وتزهر أطرافها بألوان زاهية، وتعطي النحل والناس رحيق العسل..

• أعتز أنني ابن هذا الأب المكافح، الذي أنتمي إليه، وصار ولده نائبا للشعب، ويمثله بما يليق به، وقد حرصت وأنا أختار أن أكون لا منتمي، أو أكون نائبا برلمانيا مستقلا بحق وحقيقة.. صاحب رأي وموقف حر ومستقل، وأن يكون "الشريم شعاري" وأن يتكثف إعلاني ووعدي الانتخابي بعبارة "انتخبوا من يمثلكم لا من يمثل بكم"

• أغلب الظن أو كما أتخيل نفسي أنني لازلت حريصا ووفيا لهذا الشعب المنكوب بمن قادوه وتسلطوا عليه من أعالي القوم وأشرافه.. لازلت وفيا للعهد والوعد الذي قطعته يوما للوطن، وقد خان أسياد القوم شعبهم، وسقطت المنازل الرفيعة في القيعان السحيقة، وسيكنس التاريخ يوما أصحاب المراتب العالية إلى مزابله المنتنة، وكل من جلبوا لهذا الشعب الكوارث العظام، ومارسوا بحقه الخيانات الكبار بتمادي بالغ، ومجاهرة فجة وصارخة، وأتوا بالعار الذي لا يُمحى ولا يزول إلى اليمن.. ليس حديث الأنا ولكن هو الاعتزاز، إن لم أعتز بهذا فما بقي للاعتزاز..

• والخلاصة أنني أمقت التفكير النمطي، في التراتبيات الاجتماعية المتخلفة، أو القائمة على الأصل، أو الحسب والنسب، أو التفكير العنصري بكل مسمياته، وأرفض العصبيات المنتنة، وضخ الكراهية التي تستهدف الوطن في عمقه ووحدته ومستقبله.. ولا بأس أن أقول هنا وفاء لأبي: كم أنت عظيما يا أبي

***
...................................

(4)
أنا ابن الدباغ .. الإنسان
• بعد ما قاله لي صديقي حسين، وما كشفه لي رفيقي عبدالوهاب قطران عن معنى انتمائي وأمثالي في المخيال الشعبي، لدى بعض قبائل ومناطق اليمن، أو بعض المجتمعات المحلية فيها، وما يلحق صاحبها من الانتقاص والنظرة الدونية، لم أخجل ولم أتخفِ ولم أحاول جبر ما بدا مكسورا، أو ستر ما أنكشف، بل على العكس، دافعت عما أعتقد باعتزاز يليق، ولم أخش من معايرة، ولم أتحرّج من عمل والدي، أو من المهن التي أرتادها خلال تاريخ حياته، بل اعتزيت بنفسي كثيرا، وبأبي الذي حفر بالصخر من أجلنا لنعيش بكرامة، واعتززت بانتمائي الذي استطاع أن يحجز له مكانا في الصخر الصلد، وبتحدي مضاعف، ليكون وأكون كما يجب..

• غير أن الأهم أنني لم أنجر إلى البحث عن عصبية صغيرة مقابلة، تقتل أو تشوّه الإنسان الكبير الذي يملاني، ويسكن وعيي، ويدأب إلى تحصيني من أي هشاشة تعتريني، ولم أتنازل عن الضابط الاخلاقي المنسجم مع هذا الإنسان الذي يسكنني، والإنسان الذي أبحث عنه خارجي، وخارج انتمائي..

• ولا يعني هذا أنني لا أقاوم، ولا أهاجم الاستصغار الذي يحيط بي، أو يحاول أن ينال منّا كشرائح وفئات مجتمعية، من حقها أن تحظى بحقوقها كاملة، وأولها حق المواطنة.. ولم ابحث يوما عن انتماء آخر لا يليق بي كإنسان أولا..

أنا لست ابن السماء .. أنا ابن الدباغ الذي يثور على واقعه كل يوم دون أن يكل أو يمل أو يستسلم لغلبة..

أنا ابن الدباغ الذي لا يستسلم لأقداره، ولا ينوخ، وإن كانت البلايا بثقل الجبال الثقال.. ابن الدباغ المجالد الذي يعترك مع ما يبتليه، ويقاوم حتى النزع الأخير..

ابن الدباغ الذي يتمرد على مجتمع لازال يقدس مستبديه.. ويقاوم نظام لا يستحي عندما يدّعي.. نظام يدعي العدل، وهو يتعالى على الوطن الكبير.. نظام يخصخص المواطنة، ويغيّب المساواة، وينشر الفقر كالظلام الكثيف، ويحبس الحرية في محبس من حديد..

أجرّم القتل ولا استسهله، ولا أشرب الدم ولا أسفكه، ولكنه متهما بشرب الكحول.. أنا ابن لأب لا يبيع الموت ولا يهديه، ولا
يجعله مقاسا للرجولة أو معبرا للبطولة..

أبي صانع الحلوى والبائع لها، يأكل من كده وعرق الجبين.. ينشر الفرح والطعم اللذيذ، ويرفض الحرب ونشر الخرائب.. أنا ابن أبي، لم ابنِ مجدا على جماجمها الكثيرة، ولم أحتفِ يوما أو أفاخر باتساع المقابر، أو بطوابير النعوش الطويلة، ولم أطرب لركام الضحايا، ولم أضخ الكراهية، وغلائل الحقد الدفين..

*
أبي أنا.. وأنا أبن أبي
لم أقِم الحزن يوما في مبيتٍ
لا أبيع الوهم والأفيون للمرضى
لا ادفع الناس أفواجا للمهالك
أنا لا أنشر الموت بين الناس وعدا
في حياة أخرى ودار ثانية..
وأداري تحت العمامة ألف جزار وجلاد وليل..
إن شربت الكيف خلسه، فإلى الله أسافر..
لا أنافق.. لا أزايد..
ولا آم القوم ثملا في صلاة كالوليد ابن عقبة
ولا أنام الليل فوق نهود العذارى
وحلمات الجواري
كالخليفة هارون الرشيد

*
• أنا لا أفاخر بهندِ ولا بمن تأكل الأكباد.. ولا أفاخر بنسب أو قبيلة أو بقاتل.. أنا بقابيل لا أكترث..

لا أتسول التاريخ زادي، ولا أدّعي فيه سلطان وميراث.. لا أدّعي أن لي حقا من قبل آدم وحواء، أو ما قبل الثريا..

أنا لست من ماء السماء، ولا سليل من علي و فاطمة.. أنا أبي الدباغ والفلاح وبائع الحلوى أنشر البهجة والفرح.. أبي الدبّاغ الذي كابد الدهر، وعانا العناء، وأقتات من عرق الجبين..

*

أنا ليست الأنا المثقلة بذاتها.. أنا الذي أقذف أنائي في وجه المستبد، غير نادم، وأناضل لإزاحة الظلم الكبير الذي يثقل كل كاهل.. الأنا التي تعتز وتفاخر إنها ليست من ماء السماء، وتقاوم من يراها إنها جاءت من روث الحمير..

أنا الحالم ابن الأحبة .. أنتمي للحلم الكبير كبر المجرة، بل كبر هذا الكون الفسيح الذي يكسر المحابس ويسافر للبعيد دون حدود أو منتهى..

*
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
اصداء من الوتس:
في الحقيقة إن من دواعي السرور والإبتهاج والشرف أن يتكرم الأستاذ أحمد سيف حاشد بإرسال رسالة لي.
وأنا أتشرف بمعرفتك أستاذي المناضل الكبير.
لكن مع ذلك لا أخفيك القول أن رسالتك أثارت في نفسي الإستغراب والتعجب إذ كيف يقوم بالتواصل معي أستاذ كبير ومناضل عملاق مثل الأستاد أحمد حاشد ومن أين يعرفني أصلا؟!
فلو حدث العكس وقمت أنا بالتواصل معك فلن يكون هناك إستغراب أو تعجب لأنك أشهر من نار على علم ولو تواصلت أنا معك فربما أكون بتواصلي معك حبيت أن أقتبس جذوة من نضالك أو ألتمس بعض نور ثقافتك.
لكن من أنا حتى تتواصل معي أنت يا أستاذي العظيم؟!.

أما مذكراتك فلم أكمل قراءتها لكن ما قرأته منها كان قمة في الإبداع وقد أخذت بلبي بسياغتك الأكثر من رائعة.
أصداء..

محمد اللوزي:
ياكتابا مفتوحا نتهجاه حبا وجمالا وصدقا ونبلا. هذا أنت تفتح نافذة معنى الإرتقاء الى حيث يجب ان يكون الإنسان خاليا من عقد التميز والادعاء. وجعل البساطة والتفاني في العمل مشعلا فخر واعتزاز لكل إنسان نبيل.

أنت تكتب عالما لطالما كان مغلقا علينا فبكثير منه وأنت في هذا تبداء بأنت كما هي دونما رتوش لنجلك اكثر وندرك الحقيقة في مصداقيتك وإن كره البعض ممن يريدون البقاء في الراكد واللامعقول. ولم يدركو أنك بهذه الروح المنتصر للحياة تفعل فينا بسخاء ما نرجوه ونأمله ونسعى من أجله الحب والتعايش والبساطة والمصداقية وروعة الانتماء الى ماهو إنساني خالص ..

وأنت كذلك شاهد عصر لايروق لكثير ولكنه توثيق حقيقي لسيناريوهات تمت كانت تحتاج الى كاتب متمكن مثلك ليتناولها بشفافية واستغراق ممتع. دمت في خير أيها الراقي
كلية الحقوق
أنا صاحب القراطيس
(1)
ها أنا أدلف باب مسار جديد في حياتي.. نقطة تحول جديدة، ستنتهي في أغلب الأحيان إلى مهنة المحاماة أو القضاء.. في الحالتين أنا أروم العدالة.. أبحث عنها.. أريد أن أرفع الظلم عن كاهل الناس.. العدالة رسالة إنسانية رفيعة المقام.. ألم يقل فولتير "إن أعظم عمل إنساني هو رد العدالة لمن فقدها".. العدالة نبوة سامية وراحة ضمير، تستحق العبادة أكثر من العبادة التي أعتدنا عليها من الفجر حتى الثلث الأخير من الليل.. أليس نبيا من قال: "عدل ساعة خيرا من عبادة ستين عام".. ما أحوجنا للعدالة في هذا العالم الغير عادل..

الظلم نذير شؤم لخراب عميم.. قالها يوما عالم الاجتماع أبن خلدون «الظلم مؤذن بخراب العمران».. كم كان جيفارا ثائرا وعظيما وهو يقول: "أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم" الضمير الحي يرفض أن ينام طالما هناك ظلم في مكان ما من العالم، وطالما بإمكاننا أن نفعل شيء في مقاومة الظلم فلماذا لا نفعل؟! وطالما نستطيع اعتراش منصة القضاء لإقامة العدالة، فلماذا نرجيها إلى يوم القيامة؟!! لا زال ذلك الصوت الذي يقول: “ يا ما في السجون مظاليم ” يتردد على مسامعي، وصوت الظلم على المسامع لحوح وثقيل.. المظالم تحز في النفوس، وتترك ندباتها في الوعي والوجدان..

لازال أمامي من السنوات أربع، يجب أن أعطيها ما استطعت من المثابرة والجهد.. ما كان قيد الحلم والتمني قبل أربعة أعوام صار اليوم واقعا وحقيقة.. كنت كرغبة أميل للمحاماة أكثر من ميلي للادعاء. وكان ميلي للقضاء أكثر؛ لأن تحقيق العدالة متعلقة به.. القاضي وهو يمارس القضاء يكون أسرع بتا في تحقيق وإقامة العدالة.. القاضي يجب أن يكون هو المعني الأكثر في تقرير الحق، وإنصاف المظلومين، ورفع الظلم عن الكواهل.. سلطة القاضي يمكن أن تكون طريقا إلى جنة الضمير، وعلى نحو أسرع وأوجز.

ربما بدا لي الحال هكذا في البداية. ساجلت صديق في هذه المسأله لعله عبده طه إن لم تخنِ الذاكرة، أنتهت إلى أن رأيت إن في الأمر ترابط وتكامل. يجب ألا انتقص من مهنة لصالح أخرى، فيما النتيجة الأفضل تقررها المهن الثلاث. فالقاضي والادعاء والمحامي جهود متكاملة تحقق في مجموعها العدالة المرتجاة، أو هذا ما يفترض أن يكون عليه الحال.

حدثت نفسي وقلت: إن من المهم أن أجدُّ واجتهد من الآن، ولازال أمامي لأختار أربع سنوات طوال.. لا زال الأمر بعيدا، إن كان للاختيار متسع.. ولكن بإمكاني الآن أن أحب أيضا، والتفوق في الدراسة مسؤولية كبيرة يجب أن أكون بمستواها، وقد بات تحملها في متناول الإمكان..

في أول يوم دخلت كلية الحقوق شعرت أن حياة جديدة تنتظرني. أحسست أنني أقبل على حياة أعيشها أول مرة. شعرت إن الاختلاط كان حلما بعيد المنال، وتمنيت أن يتم التظاهر من أجله في المرحلة الثانوية احتجاجا لغيابه في مدرسة البروليتاريا، وعندما ولجت السلك العسكري أدركني اليأس أن أجد يوما اختلاط مما حلمت به، ولكن ها أنا اليوم أقبل عليه لأول مرة. هنا سيتحقق الحلم، وأفوز بقلب فتاة أحبها وتحبني.

كم هو سعيد أن يفوز المرء في الجامعة بفتاة يحبها وتحبه. كم هو رائع أن تجد ما يدفعك لأن تذاكر وتتفوق لتلتفت إليك عيون فتاة.. كم تشعر بالرضاء وأنت تثابر من أجل أن ترى كل يوم جمال ورقة وحياة تنبض بالنور والأمل.

ولكن خبرتي في الحب وأسر القلوب تقول أنني فاشل مع مرتبة الشرف.. فبدلا من أن أشتري دفاتر أنيقة لتدوين الدروس والملاحظات اشتريت سجلات “دكاكين”. تميزت بهم، وفوق ذلك تميزت أنني كنت أضعها كل يوم في قرطاس “كاكي” جديد لأن القرطاس السابق يتلف من استخدام يوم واحد بسبب عدم الرفق به من قبلي ومن قبل السجلات التي تكتظ داخله..

كما كانت طريقة تعاملي مع السجلات وأكياس “الكاكي” تعامل عسكري يمارس الجلافة بعيدا عن الرقة والإتكيت. وكانت بعض الطالبات يسمينني في همساتهن الخاصة فيما بينهن بـ ”صاحب القراطيس”. وأحيانا كنت أضع قرطاس بداخل قرطاس بعد أن ينبعج الأول في أحد أركانه، أو يشتط بسبب جلافة إدخال السجلات إلى داخله.

كنتُ أحب أن أكون مميزا ومنفردا في أمور شتّى، ولكن بهذه السجلات وهذه القراطيس كان تميزي أشبه بتميز فطوطة ببنطاله وقميصه..

لقد فكرتُ بالتحرر من هذا الوضع في هذه الجزئية بشراء حقيبة جلدية ولكن كان طول السجلات أطول من طول الحقيبة، كما أن الحقيبة ضيقة ولا يمكن أن تستوعب أربعه سجلات أو أكثر.

فكرت بحقيبة دبلوماسية، ولكن لا أرى من الطلبة من يحمل كراساته في حقيبة دبلوماسية.. وكانت واقعة صديقنا محمد صالح “من يافع” والمنتدب من وزارة الداخلية للدراسة في كلية الحقوق تمنعنا من أن نكرر ما فعل.. في اليوم الأول، وقبل أن نتعرف على طاقم التدريس جاء محمد صالح، وكان عمره كبير نسبيا مقارنة بنا.. جاء في بدلة مهابة ونظارة بيضاء، ويحمل حقيبة دبلوماسية، وفيها كراريسه، وما أن دخل القاعة دخلنا بعده نتزاحم ونظن أنه الأستاذ، وإذ نجده يحجز كرسي في القاعة، وعند سؤاله اكتشفنا إنه طالب وليس دكتور. ف
فقشنا من الضحك..

يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي..
د. يوسف هبه:
أتابع ما تكتبه معالي النائب البرلماني الأستاذ/أحمد سيف حاشد على صفحتك في الفيس بوك.
أسلوبك في كتابة الأحداث جميل ورائع، وهي تحاكي مراحل هامة جدا في حياتكم الزاخرة بالنضال والكفاح.
ويعجبني تمردك على الظالمين والفاسدين والطغاة أيضا.
ما أجمل التشبيه والتصوير الذي تستخدمه في عرض تفاصيل القصص المؤلمة والمحزنة وربطها بواقعنا الأليم، والتحفيز والتشجيع الذي تدعو إليه بين ثنايا تلك القصص والأحداث نحو الثورة ضد الطغاة والظالمين وكذلك المناداة باحترام الدستور والقانون وعودة دولة القانون واستمراريتها.
دمت أيها الحر الرائع الثائر وأرجو منك تحويل كل تلك الكتابات والخواطر إلى كتاب،
لأنها باختصار تمثل الماضي بآلامه والحاضر بمآسيه والمستقبل بتطلعاته الواعدة بالخير لكل الشعب اليمني عامة والشرفاء منهم خاصة.

د/ يوسف حسن يوسف هبه
أستاذ القانون التجاري والبحري المساعد-جامعة الحديدة
السلسلة الثالثة 1 - 7
طفولتي في عدن
(1)
مغالبة “الحصبة”
أراد أبي أن يلم شملنا تحت سقف واحد في عدن.. أراد أن يلملم أشتات أسرتنا الصغيرة والبعيدة، بمسكن صغير في أطراف ضواحي المدينة بـ "دار سعد" يأوينا إليه، محاطين بقدر من السكينة والدعة التي نبحث عنها.. أسرتنا كانت خمستنا دون دخيل.. ولكن دخلت علينا الحصبة بدمامتها وقُبحها، وما تحمله من بشاعة وافتراس..

في عدن مرضتُ بالحصبة .. كان مرض الحصبة ينتشر ويفتك بالأطفال.. الحصبة فيروس انتقالي حاد ومعدي يصيب الأطفال، ويسبب لهم مضاعفات خطيرة في بعض الأحيان.

كان مرض الحصبة أكثر الأمراض انتشارا في سن الطفولة بصفه خاصة، ومن أعراضه ارتفاع في درجة الحرارة مصحوب برشح وسعال ورمد وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم.. ورغم اكتشاف لقاح الحصبة في ستينات القرن الماضي، إلا أنه لم يقوض هذا المرض ويصيره نادرا إلا في بداية التسعينات من القرن الماضي.

أول معركة ربما خضتها وأنا طفل في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال.. كان نذير موت يتهدد حياتي، ويتربص بي بإصرار واشتهاء.. كل يوم يمُرُّ وأنا لازلت على قيد الحياة كان يعني لأبي وأمي معجزة من الصمود العنيد في مواجهة الموت، وربما كان يعني مرور اليوم بالنسبة لي، اجتراح بطولة خارقة على مرض يتسع وينتشر.. يفتك بالطفولة دون أن يراعي أو يكترث.. فيروس موت لا يعود من بيت فقير إلا وقد نهب من أطفالها روح من يشتهي..

غالبتُ مرض الحصبة، وقويت على المقاومة والصمود، بفضل بعض النصائح التي أسدتها جارتنا لأمي التي كانت لاتزال قليلة التجربة، أو معدومة الخبرة والمعرفة في أمور كتلك.. استفادت أمي من نصائح جارتها التي كان لديها بعض الدراية بكيفية التعاطي مع هكذا حالة، ومعرفة بالوسائل التي باستطاعتها أن تخفف من وحشية وآثار هذا المرض، فالجهل يمكن أن يضاعف الحالة ويفاقمها، وهو المساند الأول للمرض، وربما يلعب دور السبب الأول للوفاة قبل المرض إن لم يحتاط له.. تضافرت أسباب الحياة وسندت بعضها، وانتصرت على فيروس الموت، وتعافيت منه، واكتسبت مناعة منه مدى الحياة.

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(2)
سقم وهزال

وبعد شهور مرضت بمرض لا أعرفه.. أصابني هزال وفقدان شهية.. هزل جسمي إلى درجة جعلني أشبه بأطفال مجاعة إفريقيا الذين نشاهدهم في الصور وشاشات التلفزة.. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراع مع الموت من أجل البقاء.. أمّا أن تغلب المرض أو يغلبك.. الموت يحوم عليك ويتربص بك كل يوم وساعة..

جارنا عبد الكريم فاضل كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول ودون مقدمات: “ابنك سيموت ولن يعيش”. جملة صغيرة ربما نزلت على رأس أبي مثل ضرب المطرقة.. أثارت مخاوفه واستنفرت اهتمامه.. ربما هذه الجملة الصغيرة والصادمة، كانت سببا لأن أتجاوز الموت وأعيش.. هذه الجملة المشبعة بالمخاوف، بدت صاعقة لأبي، وجعلته يهرع توا وعلى الفور إلى مشفى في عدن، غير أن الطبيب أخبره أن حالتي صعبة، والأمل في أن أعيش ضعيف.

شار جارنا لوالدي أن يذهب بي إلى طبيب ماهر في لحج، لربما هناك وجد بصيص أمل.. أبي الباحث عن أمل يذوي ويخفت في سواد كثيف ووخيم من اليأس، ينتابه هلع شديد.. أستطيع أن أتخيل هلع أبي وأنا في حضنه أو مسنودا بيده إلى ضلعه الحنون.. اسمع خافقه.. قلبه يدق كالطبل، صعود وهبوط أنفاسه ككير حداد.. ودمدمة هلعه تهز وجدانه وكيانه..

هذا ما شعرت به يوما أنا أيضا، عندما كنت أسابق الموت، وأحاول إنقاذ أبني فادي، عندما كان أيضا بسني تقريبا أو أكبر قليلا.. كان والدي يحاول إنقاذي، وهو مصحوبا بالهلع.. الشعور إنك تسابق الموت وتمنعه عن انتزاع طفلك من بين يديك، شعور كثيف الحضور، ولا يمكن نسيانه مهما طال بك العمر.. لقد عشت مثل هذه اللحظة الكثيفة طفلا كما عشتها أبا.. سارع والدي لإنقاذي من موت محقق بات يثقل جفوني المسبلة..

و في لحج قال الطبيب لوالدي بأن حالتي سيئة جداً، وأنني لم أعد أحتمل الإبر، ولن استطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، ولكن “لعل وعسى” قرر لي وصفة علاج دون إبر..

استجاب جسمي للعلاج وأخذت حالتي تتحسن ببطء، بدأت أقبل على الطعام بنهم يزداد كل يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطل من اللحم في اليوم أتناوله كله لوحدي، ولا أترك لأهلي شيئا منه يأكلونه. هذا ما كانت تحكيه لي أمي.. كانوا إذا أعطوني قطعة منه، ما ألبث أن أعود أطلب أخرى، حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي.. استطيع أن أتخيل سعادة أبي وأمي.. أستطيع أن أتخيل لحظتها قلب أمي صرة فرح، يكاد أن يطير من بين جوانحها.. أتخيل أبي والسعادة تغمره، وتتفتح أسارير وجهه كزنابق على شرفات عريس.. يا له من شعور أخاذ وآسر..

نجوت وتعافيت، بل وصرت مشاغباً وشقياً.. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها.. أكسر زير الماء.. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء.. اكسر الزجاج .. أرمي بأواني الطعام.. ارتكب كل الحماقات وأرمي كل ما تطاله يدي على ما تقع عليه عيني.. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، وتغضب أحيانا أخرى، وتعاقبني بقسوة في
معظم الأحيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملأ البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي.. كنت مزعجا لأهلي وللجيران والمؤجر .. لم أكف عن الشقاوة والبكاء والضجيج والصراخ.

*
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(3)
بؤس وشقاوة

كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات في العمل المضنى والجهيد، من أجل إبقاءنا على قيد الحياة، وسد لقمة عيشنا المتواضعة، وكذا عيش أسرته الأخرى التي يعيلها في القرية، والتي تنتظر بفارغ الصبر ما يأتيها من والدي المثقل بمسؤولية إعاشتنا جميعا..

كانت الحياة صعبة، وصراعنا كان هو من أجل البقاء، فالستر واستمرارنا بالحياة هي أقصى ما نحلم به ونريد.

كانت أمي تطلب من أبي أن يغلق علينا الباب من الخارج، خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها، ويغلق الباب علينا من الخارج حتى يعود من العمل آخر النهار.

كانت أمي شديدة الحياء والمحافظة والتوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران.. لا تفتح نافذة ولا باب.. أبي هو وحده من يفتح الباب ومن يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف، وغسل الملابس والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت..

ولكن لماذا أنا أيضا يتم حبسي ولا يُسمح لي أن أخرج للشارع لألعب مع الاطفال أو أطل عليهم من نافذة.. أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت.. أريد أرى الوجوه والناس والحركة وصخب الحياة..

كل ساعات النهار والليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شق في نافذة ولا خرم مفتاح في باب..

أسمع بعض ما يحدث خارج البيت ولكنني لا أراه.. فضولي مقموعا بجدران من اسمنت، وخشب من ساج، ولا مجال ولا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه..

أريد أن اعرف العالم خارج حيطان بيتنا.. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، والمحوطة بالصرر والقراطيس والأشياء الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..

أريد أن أرى كل التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره.. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. كل شيء ضيق في البيت كصدري الضيق، وجمجمتي الصغيرة.. أشعر أنني أقضي أيامي في قمقم صغير مغلق بالحديد، يحصرني ويحاصرني ويكتم أنفاسي.. فكان طبيعيا أن أكون شقيا، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي والمتمرد بين جدران البيت وسقفه وحصاره.

*
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(4)
الموت يداهمنا.. تساؤل ..

لماذا الموت يا إلهي؟! أعلم أنك حكيم، ولكن السؤال أيضا يبحث عن الحكمة والبيان؟! نحن شغوفون بالمعرفة، وربما جُبلنا على هذا، وربما في المعرفة تحدي وجودي للإنسان.. إننا نحاول فهم ما لا يتأتى فهمه، وإماطة اللثام عنه، وكشف ألغازه ومجاهله، ومعرفة ما لا نعرفه، حتى وإن كان عصيا عن الفهم والمعرفة منذ البداية، أو تحتاج الإجابة على الأسئلة إلى مداها الزمني المستحق، إلا أن شرف المحاولة فيه ممارسة وجودية، تجعلنا نستحق هذا الوجود الذي نعيشه..

المعرفة ربما لا تأتي بالتسليم، أو بتجاهل مالا ينبغي تجاهله، ولكنها تأتي من اعتمال العقل والتجربة، واثارت الأسئلة، ومناقشة الفرضيات والنظريات، أو استبدالها أو تصحيحها.. فالخواء لا يقدم علم أو معرفة أو فهم.. ينبغي للأسئلة لتفعل فعلها، أن تنفذ إلى الدخل وتغوص في العمق، ويجري البحث عن الإجابة عليها، وبذل ما في الوسع والاستطاعة من الجهد؛ لاكتشاف ما هو مجهول وغامض، وإزالة كل لبس أو غبش.. سلطان العلم هو ما نحتاجه لننفذ به إلى أقطار السموات العُلا، والأشياء الكبيرة كما قالوا تبدأ بسؤال صغير".. وقيل "إنما شفاء العي السؤال".

الأسئلة هي بوابات المعرفة، وهي السبيل إلى ما نسعى إليه من يقين، أو هي وسيلة تدلنا من أجل الوصول إليه.. نحن هنا نسأل أو نتسأل لنبدد حيرة، تجلي شيئا من معرفة، أو ناصية من علم، أو دليل أو وسيلة، في خدمة الإنسان ومستقبله..

ما كان في دروب الأمس عصيا على الفهم والعلم، أو مستحيلا عليه، صار اليوم معلوما أو واقعا مفهوما وماثلا أمام العيون، ويغدو المستحيل ممكنا، وما كان اليوم عصيا على الفهم والعلم، ربما يصير غدا بديهية معرفية، وما لا نطول جوابه اليوم، سنطوله غدا، وغدا لا ينفذ ولا ينتهي في درب الزمن الطويل أو السرمدي..

المستقبل الذي نروم ونعمل لأجله، سيفكك كثير من أسرار الكون وغموضه.. فالكون مكنوز بالأسرار الهائلة التي لا تنتهي، وربما تفوق كل تصور وخيال.. والمعرفة لا حدود لها.. وطالما بقي إنسان في وجوده، سيظل يحتار ويسأل ويتسأل حتى يصل ويطمئن إلى ما يمكن الوصول إليه، أو يظل يعدل فيما كان يظنه يقين، حتى يصل إليه، أو الحد الأدنى منه، ويستمر تراكم العلم لاكتشاف المزيد، ويستمر الإنسان في حصاد المعرفة، وفي مدى ربما لا ينتهي..

يتسأل البعض: إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة فأنت يا الله على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات، ولم يخلق
وانا اكتب وانشر تفاصيل حياتي اخوض ايضا معركة مع المستبدين وقطعانهم الذين يريدون تحديد ماذا نكتب وعما نكتب
ومتى وماذا ايضا نتنفس