حين زار زيلينسكي البيت الأبيض زاره ببذلة غير رسمية، وقال بأنَّه سيلبسها بعد انتهاء الحرب، كان متجهِّمَ الوجه كأنه في مجلس عزاء، وعاتب حليفه الأهم بل تحوَّل الأمر إلى شجار يذاع، مؤكدًا على أنَّه يريد (ضمانات) لا أن تفتح أمريكا خطًا تفاوضيًا مع روسيا وتترك أوكرانيا في العراء وحدَها دون أن تكون على جدول أعمال الإدارة الأمريكية التفاوضية، لم يأتِ بابتسامة بلهاء يلتقط بعض الصور ويقول لحليفه أنت أبونا الروحي جئتك أشاركك الإنجازات العظيمة وحليفه يقول له سأفاوض روسيا بشأني فقط لا علاقة لي بغيري!
Forwarded from يوسف سمرين
"الجملة الثورية، إنما هي تكرار الشعارات الثورية، دون حسبان حساب الظروف الموضوعية الناشئة عند انعطاف معنيّ في الأحداث... الشعارات الممتازة، الجذابة، المسكِرة، التي لا ترى تربة تحتها، ذلك هو كنه الجملة الثورية"، "تنبغي محاربة الجملة الثورية، لكي لا يقولوا عنّا ذات يوم الحقيقة المرّة: إنّ الجملة الثورية بصدد الحرب الثورية، قد أهلكت الثورة"، "ليس من العقلاني على الدوام القيام بانتفاضة، فالانتفاضة بدون مقدّمات جماهيرية معينة إنما هي مغامرة، وأحيانًا كثيرة جدًا شجبنا أشكال المقاومة الفردية باعتبارها ضارة، وغير عقلانية، من وجهة نظر الثورة".
"نحن الفصيلة المتقدّمة بمعنى المبادرة الثورية، وهذا أمر لا جدال فيه، أما أن نكون الفصيلة المتقدمة بمعنى الاشتباك الحربي مع قوى الإمبريالية المتقدمة فإنّ هذا!"، "لا يجوز لنا من وجهة نظر الدفاع عن الوطن، الانسياق إلى اشتباك حربي، حين لا نملك جيشًا، ويكون العدو مسلحًا من الرأس إلى أخمص القدمين، ومستعدًا استعدادًا رائعًا"، "بدون جيش، وبدون استعداد اقتصادي في غاية الشدّة، يستحيل على فلاحي خرب خوض غمار حرب عصرية، ضد إمبريالية متقدّمة…من باب الكلام الفارغ المطالبة بمقاومة عن طريق الانتفاضة المسلحة… بينما من الواضح أنَّ هذه المقاومة بلا أمل بالنسبة إلينا".
"لأننا على وجه الضبط نؤيد الدفاع عن الوطن نطالب بموقف جدّي من قدرة البلاد الدفاعية، ومن استعدادها القتالي، وإننا لنعلنها حربًا لا هوادة فيها على الجملة الثورية الجوفاء"، "إنَّ إطلاق الجمل الطنّانة هو من خصائص المثقفين البرجاوزيين الصغار، المتفسخين طبقيًا، ويقينًا أنَّ البروليتاريين المنظمين سيعاقبون هذه الطريقة، بالسخرية منها، وطرد أنصارها من كل منصب مسؤول"، "بين جملة طنانة وطنانة أخرى، فيا لها من صلة عضوية حقيرة"، "وجهة النظر هذه، تميز المثقف النموذجي، البرجوازي الصغير، المتفسخ طبقيًا، وله مزاج الأفندي، أو النبيل، والتي تنعت نفسية السِّلم بالسَّلبية، وتعتبر التلويح بسيف من الكرتون نشاطًا"!
(بصدد الجملة الثورية، لينين).
"نحن الفصيلة المتقدّمة بمعنى المبادرة الثورية، وهذا أمر لا جدال فيه، أما أن نكون الفصيلة المتقدمة بمعنى الاشتباك الحربي مع قوى الإمبريالية المتقدمة فإنّ هذا!"، "لا يجوز لنا من وجهة نظر الدفاع عن الوطن، الانسياق إلى اشتباك حربي، حين لا نملك جيشًا، ويكون العدو مسلحًا من الرأس إلى أخمص القدمين، ومستعدًا استعدادًا رائعًا"، "بدون جيش، وبدون استعداد اقتصادي في غاية الشدّة، يستحيل على فلاحي خرب خوض غمار حرب عصرية، ضد إمبريالية متقدّمة…من باب الكلام الفارغ المطالبة بمقاومة عن طريق الانتفاضة المسلحة… بينما من الواضح أنَّ هذه المقاومة بلا أمل بالنسبة إلينا".
"لأننا على وجه الضبط نؤيد الدفاع عن الوطن نطالب بموقف جدّي من قدرة البلاد الدفاعية، ومن استعدادها القتالي، وإننا لنعلنها حربًا لا هوادة فيها على الجملة الثورية الجوفاء"، "إنَّ إطلاق الجمل الطنّانة هو من خصائص المثقفين البرجاوزيين الصغار، المتفسخين طبقيًا، ويقينًا أنَّ البروليتاريين المنظمين سيعاقبون هذه الطريقة، بالسخرية منها، وطرد أنصارها من كل منصب مسؤول"، "بين جملة طنانة وطنانة أخرى، فيا لها من صلة عضوية حقيرة"، "وجهة النظر هذه، تميز المثقف النموذجي، البرجوازي الصغير، المتفسخ طبقيًا، وله مزاج الأفندي، أو النبيل، والتي تنعت نفسية السِّلم بالسَّلبية، وتعتبر التلويح بسيف من الكرتون نشاطًا"!
(بصدد الجملة الثورية، لينين).
تعرض حازم صاغية في كتابه الموسوم (هجاء السِّلاح) لتشريح الواقع اللبناني وتوازناته الطائفية، الطبقية، مع اعتماد عناصر فيه على شعار (المقاومة) عبر التعرُّض لعدة تجارب منها الجزائرية، والفرنسية، الكوبية، ومما ذكره فيه سبب المعنى "المتعالي" الذي يمنح للشِّعار، فذكر لذلك سببين:
أولًا: رفض الاستعمار وحق تقرير المصير وهو ما يزدهر بين النخب.
الثاني: معاني الرُّجولة والشَّرَف والكرامة وهو ما ينتشر بين الزَّعامات التقليدية المدنية/والريفية.
ويحذُّر من تبسيط المسألة فهو ما يمسخ النظرة الأوسع من العلاقات، فبما يسميه "العنف يعاند السياسية"، يستشهد بأنَّ "القائد الكوبي [كاسترو] خلال سنتين من القتال لم يعقد أيَّ لقاء سياسي" ويرى أنه "كلَّما زاد الضُّمور الفكري والسِّياسي تنقلب ثقافة المقاومة إلى سلسلة أفعال انتهازية تجيز أحيانًا التعاون مع العدو الأصلي الغازي الذي يفترض أنه علَّة وجود المقاومة، لإنزال القهر بالطرف الدَّاخلي الآخر".
إذ ما ينشأ هو "تسييس مسلَّح" مبني على العاطفة لا الأفكار، "فالعنصر الأيدلوجي والفكري يكاد يكون معدومًا في العمل" إذ ليس "مؤسسيًا يمتصُّ النزاعات والأفكار" إنه يؤسس لشرعية جديدة، بما يسميه منطق التهليل، إذ "من قتل مغتصبه لا يصوِّر فعلته عملًا مجيدًا تعدُّ له الأجيال جيلًا بعد جيل، بل يصوَّر كاضطرار بشع أملاه سلوك بشع".
لكن في حالة (الشَّرعية الجديدة) فإنَّ "المقاوم لا يقتصد في طلب التمجيد إذ ليس جنديًا مجهولًا يكتفي بالتكريم الرَّمزي" بل يتحوَّل إلى رغبة "طامحة إلى حكم بلد بأسره" هذه الشرعية الجديدة تعتمد على عناصر : "أشدُّ تعطُّشًا للسُّلطة بسبب صدورهم عن بيئات مقصاة تاريخيًا عنها" ولذا يرى أنَّهم يضعون مجتمعاتهم بين خيارين حينها: الخضوع وبذلك ينشأ الاستبداد والحكم العسكري ويمثل على هذا بالحالة الجزائرية، أو الدخول في حرب أهلية كما حدث في تاريخ لبنان.
أولًا: رفض الاستعمار وحق تقرير المصير وهو ما يزدهر بين النخب.
الثاني: معاني الرُّجولة والشَّرَف والكرامة وهو ما ينتشر بين الزَّعامات التقليدية المدنية/والريفية.
ويحذُّر من تبسيط المسألة فهو ما يمسخ النظرة الأوسع من العلاقات، فبما يسميه "العنف يعاند السياسية"، يستشهد بأنَّ "القائد الكوبي [كاسترو] خلال سنتين من القتال لم يعقد أيَّ لقاء سياسي" ويرى أنه "كلَّما زاد الضُّمور الفكري والسِّياسي تنقلب ثقافة المقاومة إلى سلسلة أفعال انتهازية تجيز أحيانًا التعاون مع العدو الأصلي الغازي الذي يفترض أنه علَّة وجود المقاومة، لإنزال القهر بالطرف الدَّاخلي الآخر".
إذ ما ينشأ هو "تسييس مسلَّح" مبني على العاطفة لا الأفكار، "فالعنصر الأيدلوجي والفكري يكاد يكون معدومًا في العمل" إذ ليس "مؤسسيًا يمتصُّ النزاعات والأفكار" إنه يؤسس لشرعية جديدة، بما يسميه منطق التهليل، إذ "من قتل مغتصبه لا يصوِّر فعلته عملًا مجيدًا تعدُّ له الأجيال جيلًا بعد جيل، بل يصوَّر كاضطرار بشع أملاه سلوك بشع".
لكن في حالة (الشَّرعية الجديدة) فإنَّ "المقاوم لا يقتصد في طلب التمجيد إذ ليس جنديًا مجهولًا يكتفي بالتكريم الرَّمزي" بل يتحوَّل إلى رغبة "طامحة إلى حكم بلد بأسره" هذه الشرعية الجديدة تعتمد على عناصر : "أشدُّ تعطُّشًا للسُّلطة بسبب صدورهم عن بيئات مقصاة تاريخيًا عنها" ولذا يرى أنَّهم يضعون مجتمعاتهم بين خيارين حينها: الخضوع وبذلك ينشأ الاستبداد والحكم العسكري ويمثل على هذا بالحالة الجزائرية، أو الدخول في حرب أهلية كما حدث في تاريخ لبنان.
ما الذي يجعل قطاعات هادئة، روتينية، تمضي عقودًا في الوظيفة، أو هم عمال، فلاحون، أو إنهم عاطلون عن العمل يعتاشون على مساعدات الحكومة، أو صدقات جمعيات مدنية، لمَ يصبحون الجمهور الأعظم لأفلام الجريمة المنظمة، وحكايات التمرد الثوري، والمغامرات؟
إنها شريحة تنتشر بينها عوامل مثل التعويض النفسي لعجزها وضعفها الواقعي، لا يستطيع أن يقول لا لرب عمله، لكنه يتابع فيلمًا عن اغتيال الرئيس! إنهم يخوضون متابعة آمنة، كأنهم مع البطل في سيارته وسط زخات الرَّصاص، بعض الشركات تمنحك سماع أزير تلك الطلقات وهي تمر من جانبك، قد تعرضها ثلاثية الأبعاد والمتابعون في أسرَّتهم، يعلمون أنهم ليسوا طرفًا فيما يشاهدونه حتى لو التفت البطل إلى الجمهور من محبِّيه وقال: هيا بربِّك، قم وافعلها مع رب عملك سيضحك! لقد كان نصًا مشاكسًا مليئًا بالتمرد، لكنه لا يدفعه سوى للمزيد من الفُشار في سهرته.
ومهما كانت النهاية لا يوجد ما يصنعه، فقد تلقينا جرعة هائلة من الإثارة، والتعويض النفسي، وكسر الروتين اليومي، كيف لا وقد أضحى خارجًا عن القانون في بلده لساعتين أو ثلاثة وهو يذخِّر حلمه قبل النوم، ولعله أضحى زعيمًا للمافيا لعدة ساعات وهو يتخيل نفسه مكان كورليوني، أو ميكا، ولن يزعجه مقتل جون ديلينجر، فقد منحه قصة جيدة يتحدث بها إلى زملائه عن صموده الأسطوري، فلم تستطع FBI إمساكه.
وعلى هذه الصِّفة تتحول قضايا سياسية إلى منتج إعلامي في زمن وسائل التواصل، بما فيه من تعويض نفسي بأن تتابع أخبار منظمة سرية، لكنه يعلم بأنه لن يشترك في واحدة منها في حياته، بل هو مواطن صالح تمامًا! حتى لو سمع عشرات البيانات التي تخاطبه، إنه نصٌّ جيد، يمكن وصفه بالمشاكسة كنص من فيلم جوكر! لكنه لا يتعامل مع ما يتابعه ويؤيده بمنطق سياسي يأخذ فيه ويرد، بل هو منتج إعلامي، أي شي يناقشه بلغة سياسية تدَخُّل لمقاطعة استمرار العرض! إنه قد يحرق مجريات الفيلم، هو ليس طرفًا فيها وليس لديه أي تخوف من نهاية الفيلم فلنتابع بصمت أيها البغيض! ثم مهما كانت النهاية قد يصدر موسم آخر في وقت آخر أو بلد آخر.
هو ما يدفع إلى تحويل القضايا السياسية إلى نزعة إعلامية فقط، تجلب المشاهدات متى زاد المعلِّق من إثارة الجمهور، فهو حينها جزء من صناعة الدراما مثلما يصنعه المعلق الرِّياضي في جمهور منتخب وهو يصرخ كلما اقترب المهاجم من مرمى الفريق المقابل، ما بين دموع وحماسة وفرحة عارمة قد تصل إلى الحلويات، لا علاقة لهذا بالعقل السِّياسي، فلم قد يهتم بصياغة تصوُّر، بدل التركيز على المشاعر ركيزة الدراما؟ بين وصف لقطات فجرت فيه الأدرينالين، أو بعثت على الاشمئزاز أو الرُّعب في أخرى، ثم مواصلة يومه كالمعتاد خارج المسلسل الذي فاق الإنتاج التركي في عدد حلقاته.
إنها شريحة تنتشر بينها عوامل مثل التعويض النفسي لعجزها وضعفها الواقعي، لا يستطيع أن يقول لا لرب عمله، لكنه يتابع فيلمًا عن اغتيال الرئيس! إنهم يخوضون متابعة آمنة، كأنهم مع البطل في سيارته وسط زخات الرَّصاص، بعض الشركات تمنحك سماع أزير تلك الطلقات وهي تمر من جانبك، قد تعرضها ثلاثية الأبعاد والمتابعون في أسرَّتهم، يعلمون أنهم ليسوا طرفًا فيما يشاهدونه حتى لو التفت البطل إلى الجمهور من محبِّيه وقال: هيا بربِّك، قم وافعلها مع رب عملك سيضحك! لقد كان نصًا مشاكسًا مليئًا بالتمرد، لكنه لا يدفعه سوى للمزيد من الفُشار في سهرته.
ومهما كانت النهاية لا يوجد ما يصنعه، فقد تلقينا جرعة هائلة من الإثارة، والتعويض النفسي، وكسر الروتين اليومي، كيف لا وقد أضحى خارجًا عن القانون في بلده لساعتين أو ثلاثة وهو يذخِّر حلمه قبل النوم، ولعله أضحى زعيمًا للمافيا لعدة ساعات وهو يتخيل نفسه مكان كورليوني، أو ميكا، ولن يزعجه مقتل جون ديلينجر، فقد منحه قصة جيدة يتحدث بها إلى زملائه عن صموده الأسطوري، فلم تستطع FBI إمساكه.
وعلى هذه الصِّفة تتحول قضايا سياسية إلى منتج إعلامي في زمن وسائل التواصل، بما فيه من تعويض نفسي بأن تتابع أخبار منظمة سرية، لكنه يعلم بأنه لن يشترك في واحدة منها في حياته، بل هو مواطن صالح تمامًا! حتى لو سمع عشرات البيانات التي تخاطبه، إنه نصٌّ جيد، يمكن وصفه بالمشاكسة كنص من فيلم جوكر! لكنه لا يتعامل مع ما يتابعه ويؤيده بمنطق سياسي يأخذ فيه ويرد، بل هو منتج إعلامي، أي شي يناقشه بلغة سياسية تدَخُّل لمقاطعة استمرار العرض! إنه قد يحرق مجريات الفيلم، هو ليس طرفًا فيها وليس لديه أي تخوف من نهاية الفيلم فلنتابع بصمت أيها البغيض! ثم مهما كانت النهاية قد يصدر موسم آخر في وقت آخر أو بلد آخر.
هو ما يدفع إلى تحويل القضايا السياسية إلى نزعة إعلامية فقط، تجلب المشاهدات متى زاد المعلِّق من إثارة الجمهور، فهو حينها جزء من صناعة الدراما مثلما يصنعه المعلق الرِّياضي في جمهور منتخب وهو يصرخ كلما اقترب المهاجم من مرمى الفريق المقابل، ما بين دموع وحماسة وفرحة عارمة قد تصل إلى الحلويات، لا علاقة لهذا بالعقل السِّياسي، فلم قد يهتم بصياغة تصوُّر، بدل التركيز على المشاعر ركيزة الدراما؟ بين وصف لقطات فجرت فيه الأدرينالين، أو بعثت على الاشمئزاز أو الرُّعب في أخرى، ثم مواصلة يومه كالمعتاد خارج المسلسل الذي فاق الإنتاج التركي في عدد حلقاته.
كل التيارات تحوي على أعداد لا بأس بها من الانتهازيين والمطبلين والجهلة، هي ضريبة لازمة للعمل الحزبي والسِّياسي، لكن الأخطر دومًا هو جعل المواقف البشرية دينًا واجبًا على البشر جميعًا، وتربية العناصر على الطاعة العمياء بما يعطل أي قدرة على النقد حتى إنَّ كلَّ الكلمات السَّابقة عن "الزَّعيم الخالد" و"القائد المفدى" و"والد الشَّعب" تفقد بريقها أمام قولك "رجُل الرَّب"! لقد غرق الشُّيوعيون من قبل في التَّسويغ المفرط للسِّياسات الدَّاخلية تحت مصطلحات مثل "لولبية الديالكتيك"، و"الحتمية التاريخية" حتى تحوَّل قتل الآلاف إلى عبارات مثل: "التكلفة البشرية لتغيير أدوات الإنتاج"، لكنها لا شيء أمام الحديث عن "الإدارة الإلهية" وإحياء الجبرية، والصُّوفية في شق السِّياسة، فلا يملك هذا النموذج أي إمكانية للتقييم، ففي الوقت الذي يسهل فيه عليه تسجيل اعتراضاته على كل العالَم لأي موقف أو خطوة، يقف عاجزًا أمام الأداء السِّياسي لمن يسميهم (رجال الله) بجعله تابعًا للحكمة الإلهية!
الحوار مع الذكاء الصناعي لا يمكن أن يتفوق على الذكاء الطبيعي، لكنه بديل ممتاز عن الغباء الطبيعي.
حرقته الشمس
فيلم روسي لسنة 1994 حاز على أوسكار، مليء بالرمزيات الدلالية، يدور حول ضابط في الجيش الأحمر، كان بطلًا في الثورة، ويحترمه الجميع في الجيش ومثلهم الفلاحون الذين يحيا بينهم، ويعميه وهج تاريخه النضالي عن إبصار الواقع، فيُستدعى بلطفٍ إلى موسكو، ويحسب أنَّ تاريخه الحافل يجعله في موضع الثناء والمدح دومًا، وتطلب ابنته البريئة أن تجرب الجلوس خلف المقود لتقود أبيها، وكما يقال: الطريق إلى الجحيم مليء بالنوايا الحسنة، والبراءة الطفولية قادته إلى حتفه، فبعد أن تنزل من السيارة وهي تودعهم بالقبلات، يقودونه إلى مصيره ويعرف ما ينتظره بعد أن فات الأوان، في مرحلة المحاكمات الصورية التي عقدها ستالين للتصفيات الداخلية أواخر الثلاثينات.
فيلم روسي لسنة 1994 حاز على أوسكار، مليء بالرمزيات الدلالية، يدور حول ضابط في الجيش الأحمر، كان بطلًا في الثورة، ويحترمه الجميع في الجيش ومثلهم الفلاحون الذين يحيا بينهم، ويعميه وهج تاريخه النضالي عن إبصار الواقع، فيُستدعى بلطفٍ إلى موسكو، ويحسب أنَّ تاريخه الحافل يجعله في موضع الثناء والمدح دومًا، وتطلب ابنته البريئة أن تجرب الجلوس خلف المقود لتقود أبيها، وكما يقال: الطريق إلى الجحيم مليء بالنوايا الحسنة، والبراءة الطفولية قادته إلى حتفه، فبعد أن تنزل من السيارة وهي تودعهم بالقبلات، يقودونه إلى مصيره ويعرف ما ينتظره بعد أن فات الأوان، في مرحلة المحاكمات الصورية التي عقدها ستالين للتصفيات الداخلية أواخر الثلاثينات.
الاستعلاء الثقافي العلماني العربي
لا يزال العديد ممن ينتسبون إلى العلمانية في المنطقة العربية يمارسون الاستعلاء الثقافي، بمعنى أنَّهم مع كلِّ كارثة يسعون إلى جعلها حكرًا ومخصصة لغيرهم على اعتبار أنها نتاج (أبناء التراث)، أما هم فأبناء لأوروبا وهذا الاستعلاء هو جزء أساسي من عدم المساهمة الفعالة لهم في المنطقة فكريًا وثقافيًا بل المساهمة في انحدار الأمر.
فقد اعتقدوا أنَّ رسالة (التنوير) تكون بالاكتفاء بإظهار التقزز من فلاحي المنطقة وطرقهم في التفكير، ومن بينها ذلك التفكير الذي علَّبوه بخانة (الغيبي)، فما الدراسات الحقيقية التي قدموها داخل النسق العربي الثقافي لا تكاد تجد شيئًا ذا بال، وإن قدَّموا شيئًا ففي إطار الترجمة وما دار في فلكها، وما ذلك إلا لاعتقادهم بأنَّ الحل يكمن في عمليات نسخ ولصق لا نهائية عن غيرهم، دون اعتبار منهم إلى كونهم ظلَّوا أبناء المنطقة حتى بطرق تفكيرهم.
لقد فقدوا حتى مفاتيح فهم تاريخهم وتراثهم وسبقهم إلى مجالات التراث مستشرقون، فما الفائدة في أن تضيف بحثًا عن هايدغر وهو ليس داخل النسق الفكري العربي على جانب التأثير الفكري في المنطقة، لا على صعيد التنظير الإنساني المجرد وبالأخص في السياق الأوروبي، ويمكن الاستفادة لكن الواعية لا العمياء والمنسلخة.
إنَّ هذا الاستعلاء جعلهم لا يكتشفون مقدار التراثية اللا مفكر فيها داخل خطاباتهم، فحين تخالف أمرًا بلا وعي كافٍ لا تفطن إلى الاحتكام بلا وعي إلى كثير مما ترفضه، وقد اضطروا مرارًا إلى كتابة في تاريخ المنطقة ثم لم يكونوا سوى أسرى لما تلقوه من خطابات تقليدية، فالشيوعي العربي مثلًا الذي كان من أصل شيعي وجد أمثلته في الحسين وقراءته التاريخية لم تكن تختلف عن معمم في (قم) قبله بقرنين، سوى في حذف روايات الكليني والطوسي.
ومنذ السَّبعينات فضحت الحرب الأهلية اللبنانية الحالة العلمانية في المنطقة إذ توزعت كما لا تزال إلى اليوم العلمانيات بناء على الطائفة الدينية والمذهبية، وحين يتم الحديث عن التراث فهو معنى أوسع من معتقد شخصي، إنه تعريف للهوية القومية، وقراءة للتاريخ، والأسباب التي أوصلت الناس من أمس إلى اليوم، طريقة تفكير متوارثة لم يتم فرز ما فيها بل الادعاء بأنَّه تحول إلى غيره بكلمات لا تحوي كبير معنى.
لا يزال العديد ممن ينتسبون إلى العلمانية في المنطقة العربية يمارسون الاستعلاء الثقافي، بمعنى أنَّهم مع كلِّ كارثة يسعون إلى جعلها حكرًا ومخصصة لغيرهم على اعتبار أنها نتاج (أبناء التراث)، أما هم فأبناء لأوروبا وهذا الاستعلاء هو جزء أساسي من عدم المساهمة الفعالة لهم في المنطقة فكريًا وثقافيًا بل المساهمة في انحدار الأمر.
فقد اعتقدوا أنَّ رسالة (التنوير) تكون بالاكتفاء بإظهار التقزز من فلاحي المنطقة وطرقهم في التفكير، ومن بينها ذلك التفكير الذي علَّبوه بخانة (الغيبي)، فما الدراسات الحقيقية التي قدموها داخل النسق العربي الثقافي لا تكاد تجد شيئًا ذا بال، وإن قدَّموا شيئًا ففي إطار الترجمة وما دار في فلكها، وما ذلك إلا لاعتقادهم بأنَّ الحل يكمن في عمليات نسخ ولصق لا نهائية عن غيرهم، دون اعتبار منهم إلى كونهم ظلَّوا أبناء المنطقة حتى بطرق تفكيرهم.
لقد فقدوا حتى مفاتيح فهم تاريخهم وتراثهم وسبقهم إلى مجالات التراث مستشرقون، فما الفائدة في أن تضيف بحثًا عن هايدغر وهو ليس داخل النسق الفكري العربي على جانب التأثير الفكري في المنطقة، لا على صعيد التنظير الإنساني المجرد وبالأخص في السياق الأوروبي، ويمكن الاستفادة لكن الواعية لا العمياء والمنسلخة.
إنَّ هذا الاستعلاء جعلهم لا يكتشفون مقدار التراثية اللا مفكر فيها داخل خطاباتهم، فحين تخالف أمرًا بلا وعي كافٍ لا تفطن إلى الاحتكام بلا وعي إلى كثير مما ترفضه، وقد اضطروا مرارًا إلى كتابة في تاريخ المنطقة ثم لم يكونوا سوى أسرى لما تلقوه من خطابات تقليدية، فالشيوعي العربي مثلًا الذي كان من أصل شيعي وجد أمثلته في الحسين وقراءته التاريخية لم تكن تختلف عن معمم في (قم) قبله بقرنين، سوى في حذف روايات الكليني والطوسي.
ومنذ السَّبعينات فضحت الحرب الأهلية اللبنانية الحالة العلمانية في المنطقة إذ توزعت كما لا تزال إلى اليوم العلمانيات بناء على الطائفة الدينية والمذهبية، وحين يتم الحديث عن التراث فهو معنى أوسع من معتقد شخصي، إنه تعريف للهوية القومية، وقراءة للتاريخ، والأسباب التي أوصلت الناس من أمس إلى اليوم، طريقة تفكير متوارثة لم يتم فرز ما فيها بل الادعاء بأنَّه تحول إلى غيره بكلمات لا تحوي كبير معنى.
القذافي وجمال عبد الناصر
في تسريب صوتي بتاريخ ٣-٨-١٩٧٠ دار نقاش بين معمر القذافي الذي كان له سنة في الحكم وجمال عبد الناصر الذي خرج من حرب ١٩٦٧ مثقلًا بالتجربة، وفي منصة DeepfakeTotal التي طورها معهد فراونهوفر للتحقق من الصوتيات المولدة، أكد بنسبة ساحقة أنَّ التسجيل ليس مولدًا بالذكاء الصناعي، وقد كتبت عن التسجيل جريدة الدستور.
المهم أنَّ القذافي يناقش ناصر ويقول له الاستنزاف والحشد وإلا الخيانة، ويطرح فكرته عن صراع البقاء بما يذكِّر بقول سيد قطب:
فإما إلى النَّصر فوق الأنام***وإما إلى الله في الخالدين
ويجيبه عبد الناصر بأنَّ الاستنزاف يكون من طرفين، لا من طرف واحد وأنه مستعد لتحمل نسبة ١٠ مقابل واحد لا أكثر من ذلك ومن يقدم مثلنا حينها؟ ويسأله عن ضمان بقاء مليون فلسطيني في الضفة حينها لو اندلع ما يقوله القذافي، ويزايد القذافي طيلة التسجيل ويضحك، وهذا مقطع منه يمكن متابعة التسجيل على يوتيوب.
كان هذا في ١٩٧٠ بما يشبه باقي الحوارات العربية لمدة ٥٠ سنة بعدها، وبالمناسبة فإنَّ القذافي بشعاراته تلك سجل موقفًا للتاريخ عند التجربة، وذلك في ١٩٨٢، قال محمد الناطور:
"علمت من أبي عمَّار [ياسر عرفات] أنَّ معمر القذافي وعده أن يقدِّم أسلحة جديدة للثورة، وكان من هذه الأسلحة صواريخ (فروغ) بعيدة المدى، وصدَّق الأخ أبو عمار وعد القذافي وأخذ الأمر على محمل الجد، بدأ بإجراء الترتيبات اللازمة لمفاجأة العدو ...وكان الأخ أبو عمار يبرق يوميًا لممثل الحركة في ليبيا لمراجعة القذافي صاحب الوعد، بأن يرسل ما وعد به، ولكنه لم يرسل شيئًا، وبقيت الناقلة تدفن في قلبها سرًا على عدم مصداقية القذافي، الذي طالبنا بالموت والانتحار دون أن يحرِّك ساكنًا"
(حركة فتح بين المقاومة والاغتيالات، محمد الناطور، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان-الأردن، الطبعة الأولى: ٢٠١٤، ج١، ص٥٩٦.)
ثم دعم القذافي جماعة أبي نضال (المجلس الثوري) الذين تخصصوا باغتيال مخالفيهم السياسيين، وأعطاهم مراكز في ليبيا لتصفية معارضي القذافي كما كتب عنهم باتريك سيل، وكلما يقول ناصر للقذافي تفضل في التسجيل يضحك، وحين يقول له ماذا ستعمل؟ يقول له لهذا اجتمعنا لنناقش الأمر، كأنه يقول له: قل ما شئت، سأبقى أزايد دون عمل!
في تسريب صوتي بتاريخ ٣-٨-١٩٧٠ دار نقاش بين معمر القذافي الذي كان له سنة في الحكم وجمال عبد الناصر الذي خرج من حرب ١٩٦٧ مثقلًا بالتجربة، وفي منصة DeepfakeTotal التي طورها معهد فراونهوفر للتحقق من الصوتيات المولدة، أكد بنسبة ساحقة أنَّ التسجيل ليس مولدًا بالذكاء الصناعي، وقد كتبت عن التسجيل جريدة الدستور.
المهم أنَّ القذافي يناقش ناصر ويقول له الاستنزاف والحشد وإلا الخيانة، ويطرح فكرته عن صراع البقاء بما يذكِّر بقول سيد قطب:
فإما إلى النَّصر فوق الأنام***وإما إلى الله في الخالدين
ويجيبه عبد الناصر بأنَّ الاستنزاف يكون من طرفين، لا من طرف واحد وأنه مستعد لتحمل نسبة ١٠ مقابل واحد لا أكثر من ذلك ومن يقدم مثلنا حينها؟ ويسأله عن ضمان بقاء مليون فلسطيني في الضفة حينها لو اندلع ما يقوله القذافي، ويزايد القذافي طيلة التسجيل ويضحك، وهذا مقطع منه يمكن متابعة التسجيل على يوتيوب.
كان هذا في ١٩٧٠ بما يشبه باقي الحوارات العربية لمدة ٥٠ سنة بعدها، وبالمناسبة فإنَّ القذافي بشعاراته تلك سجل موقفًا للتاريخ عند التجربة، وذلك في ١٩٨٢، قال محمد الناطور:
"علمت من أبي عمَّار [ياسر عرفات] أنَّ معمر القذافي وعده أن يقدِّم أسلحة جديدة للثورة، وكان من هذه الأسلحة صواريخ (فروغ) بعيدة المدى، وصدَّق الأخ أبو عمار وعد القذافي وأخذ الأمر على محمل الجد، بدأ بإجراء الترتيبات اللازمة لمفاجأة العدو ...وكان الأخ أبو عمار يبرق يوميًا لممثل الحركة في ليبيا لمراجعة القذافي صاحب الوعد، بأن يرسل ما وعد به، ولكنه لم يرسل شيئًا، وبقيت الناقلة تدفن في قلبها سرًا على عدم مصداقية القذافي، الذي طالبنا بالموت والانتحار دون أن يحرِّك ساكنًا"
(حركة فتح بين المقاومة والاغتيالات، محمد الناطور، الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان-الأردن، الطبعة الأولى: ٢٠١٤، ج١، ص٥٩٦.)
ثم دعم القذافي جماعة أبي نضال (المجلس الثوري) الذين تخصصوا باغتيال مخالفيهم السياسيين، وأعطاهم مراكز في ليبيا لتصفية معارضي القذافي كما كتب عنهم باتريك سيل، وكلما يقول ناصر للقذافي تفضل في التسجيل يضحك، وحين يقول له ماذا ستعمل؟ يقول له لهذا اجتمعنا لنناقش الأمر، كأنه يقول له: قل ما شئت، سأبقى أزايد دون عمل!
لماذا لم يقل عبد النَّاصر ما تحدَّثَ به في السِّر علنًا؟
تكرَّر هذا السؤال كثيرًا في منشورات تعلِّق على التَّسجيل الصَّوتي للحوار الذي دار بينه وبين القذافي، كيفَ ضحك على الجماهير طويلًا فأسمعهم ما يحبُّون، ولا يكادون يذكرونه إلا بشعارات معاداة الإمبريالية، والمطالبة بالتَّحرر والكفاح، لكنه في حوار خاص مع زعيم آخر يقول غير ما قاله للجماهير، إنَّ من يُلقي هذا التعليق يُلمحُ إلى أنَّه قد أضحى ناضجًا كفاية ومنفتحًا على النقاشات السِّياسية، إنه (مواطن) يراه حقًا للمواطنين فهو في مصير مشترك في البلاد، لهم أن يعرفوا إلى أين يذهبون في الحرب والسِّلم والاتفاقات، ذلك زمن سحيق! واللوم في وجهة نظر هذا المعلِّق يتوجه إلى سياسي حصرًا فهو منفرد احتكر الفضاء السِّياسي! فالنخبة-لله درُّها-رفعت من مستواها بل من مستوى الجماهير التي تستمع إليها، فتطوَّرت وأضحت ترى غرابة الدبلوماسية السِّرية القديمة تلك! وتنفِرُ عن احتكار الحديث في الشَّأن العام وصناعته والقرار فيه، فالجماهير لا مشكلة لديها البتة في سماع ما يدور حولها، بل لديها حق اسمه: حق الوصول إلى المعلومات والعياذ بالله!
رغم أنَّ السُّؤال الأوجه: ما الذي تغيَّر؟ أليس الطَّرب العام الذي ساهمت فيه (النخبة) يكمن في أنها لا تريد سماع سوى أنَّ الأمور تمام، ونحن في تقدُّم، والأعداء في ترنُّح وانخذال؟ أليستَ (النخبة) هي مَن تضفي كلَّ حين قدسيَّة على الصُّراخ وبحِّ الحناجر في الخطاب السياسي؟ حتى لو كان بجوار المتحدِّث ألف مايكروفون؟ لتعلِّق الأشعار والنثر والأهازيج والغناء متى ذُكر للهيجاء وصف؟ رغم أنَّه خيار سياسي لا غير ذلك، يجب تقييمه، وإخضاعه للمعلومات الدقيقة، والتحليل العلمي السَّليم، مع إمكان النقد والمساءلة، لو قدِّر أنَّ ما أذيع عما كانَ قبلَ خمسين عامًا قد أذيع اليوم في أوكرانيا لتسجيل حديث لرئيسهم يقول فيه ما لا يقوله في العلَن، لأمكن أن تستمع مثل هذا الاعتراض، إذ لا مشكلة في الإعلام الغربي أن تصارح الأوكرانيين في كلِّ دقيقة: إنَّ هجومكم المضاد فشل، هناك أزمة في التجنيد، هناك أزمة على المدى البعيد، والحلفاء يصارحون بشكل سافر: زيلنسكي عزيزي لن يدخل أحدٌ معك في حرب مع روسيا النووية، لكنَّ من يوصفون بالنُّخبة-والمقصود بهذا اجتماعيًا لا معرفيًا على التحقيق-هم من يعزِّزون جعل السِّياسي في مصارحة مكشوفة مخصصةً مع الإعلام الغربي، أما في الإعلام العربي الدَّاخلي فيدفعونه دفعًا إلى القول بأنه لِرَيبِ الدَّهرِ لا يتضعضعُ، حتى يملأوا القاعة بالتصفيق ووسائل التواصل بالغزل، وإن كان يخطب فيهم من خرابة!
تكرَّر هذا السؤال كثيرًا في منشورات تعلِّق على التَّسجيل الصَّوتي للحوار الذي دار بينه وبين القذافي، كيفَ ضحك على الجماهير طويلًا فأسمعهم ما يحبُّون، ولا يكادون يذكرونه إلا بشعارات معاداة الإمبريالية، والمطالبة بالتَّحرر والكفاح، لكنه في حوار خاص مع زعيم آخر يقول غير ما قاله للجماهير، إنَّ من يُلقي هذا التعليق يُلمحُ إلى أنَّه قد أضحى ناضجًا كفاية ومنفتحًا على النقاشات السِّياسية، إنه (مواطن) يراه حقًا للمواطنين فهو في مصير مشترك في البلاد، لهم أن يعرفوا إلى أين يذهبون في الحرب والسِّلم والاتفاقات، ذلك زمن سحيق! واللوم في وجهة نظر هذا المعلِّق يتوجه إلى سياسي حصرًا فهو منفرد احتكر الفضاء السِّياسي! فالنخبة-لله درُّها-رفعت من مستواها بل من مستوى الجماهير التي تستمع إليها، فتطوَّرت وأضحت ترى غرابة الدبلوماسية السِّرية القديمة تلك! وتنفِرُ عن احتكار الحديث في الشَّأن العام وصناعته والقرار فيه، فالجماهير لا مشكلة لديها البتة في سماع ما يدور حولها، بل لديها حق اسمه: حق الوصول إلى المعلومات والعياذ بالله!
رغم أنَّ السُّؤال الأوجه: ما الذي تغيَّر؟ أليس الطَّرب العام الذي ساهمت فيه (النخبة) يكمن في أنها لا تريد سماع سوى أنَّ الأمور تمام، ونحن في تقدُّم، والأعداء في ترنُّح وانخذال؟ أليستَ (النخبة) هي مَن تضفي كلَّ حين قدسيَّة على الصُّراخ وبحِّ الحناجر في الخطاب السياسي؟ حتى لو كان بجوار المتحدِّث ألف مايكروفون؟ لتعلِّق الأشعار والنثر والأهازيج والغناء متى ذُكر للهيجاء وصف؟ رغم أنَّه خيار سياسي لا غير ذلك، يجب تقييمه، وإخضاعه للمعلومات الدقيقة، والتحليل العلمي السَّليم، مع إمكان النقد والمساءلة، لو قدِّر أنَّ ما أذيع عما كانَ قبلَ خمسين عامًا قد أذيع اليوم في أوكرانيا لتسجيل حديث لرئيسهم يقول فيه ما لا يقوله في العلَن، لأمكن أن تستمع مثل هذا الاعتراض، إذ لا مشكلة في الإعلام الغربي أن تصارح الأوكرانيين في كلِّ دقيقة: إنَّ هجومكم المضاد فشل، هناك أزمة في التجنيد، هناك أزمة على المدى البعيد، والحلفاء يصارحون بشكل سافر: زيلنسكي عزيزي لن يدخل أحدٌ معك في حرب مع روسيا النووية، لكنَّ من يوصفون بالنُّخبة-والمقصود بهذا اجتماعيًا لا معرفيًا على التحقيق-هم من يعزِّزون جعل السِّياسي في مصارحة مكشوفة مخصصةً مع الإعلام الغربي، أما في الإعلام العربي الدَّاخلي فيدفعونه دفعًا إلى القول بأنه لِرَيبِ الدَّهرِ لا يتضعضعُ، حتى يملأوا القاعة بالتصفيق ووسائل التواصل بالغزل، وإن كان يخطب فيهم من خرابة!
تذاع دعاية تجميلية بين الحين والآخر عن حال العرب تحت حكم الأتراك قديمًا بأنهم كانوا يحظون بحقوقهم، لولا ظهور الحركات العلمانية في تركيا، على أنَّ التاريخ يسجِّل غير هذا، ففي منتصف القرن ١٢ الهجري كتب أحد المغاربة شهادته عن تبادل للأسرى بين الإسبانيين والأتراك، فقال:
"فدى عامل الجزائر [كان حينها تابعًا للأتراك] الترك وامتنع من فداء العرب، وفدى مَن بقي عنده من النَّصارى بالمال، وردَّ المسلمين إلى الأسر ببلاد الكفرة، فانظر إلى هذا الفعل الشنيع والأمر الفظيع"، "وكيف يحلُّ له أن يفرق بين المسلمين وكلهم أخذوا تحت علمه، فيفتدي إخوانه الترك ويترك أولاد العرب على أنَّه بيده من أسارى النَّصارى ما يفتدي به أسارى المسلمين كلهم ويفضل بيده نصارى كثيرون، فآثر الدنيا وفدى النَّصارى بالمال وردَّ المسلمين إلى الأسر"
(الإكسير في فكاك الأسير، محمد بن عثمان المكناسي، ص١٦٥.)
"فدى عامل الجزائر [كان حينها تابعًا للأتراك] الترك وامتنع من فداء العرب، وفدى مَن بقي عنده من النَّصارى بالمال، وردَّ المسلمين إلى الأسر ببلاد الكفرة، فانظر إلى هذا الفعل الشنيع والأمر الفظيع"، "وكيف يحلُّ له أن يفرق بين المسلمين وكلهم أخذوا تحت علمه، فيفتدي إخوانه الترك ويترك أولاد العرب على أنَّه بيده من أسارى النَّصارى ما يفتدي به أسارى المسلمين كلهم ويفضل بيده نصارى كثيرون، فآثر الدنيا وفدى النَّصارى بالمال وردَّ المسلمين إلى الأسر"
(الإكسير في فكاك الأسير، محمد بن عثمان المكناسي، ص١٦٥.)