شِرْعَة | محمد وفيق زين العابدين
11.2K subscribers
32 photos
2 videos
6 files
58 links
Download Telegram
"إن يَعلمِ اللهُ في قلوبكم خيرًا يُؤتِكم خيرًا"
من أعظم جماليات الدين، وأهم أسباب تغيير طِباع الإنسان وتهذيبه وتربيته وإصلاحه؛ "النية"، وقديمًا قيل: انْوِ الخير تجد الخير!

لا تكاد تجد منظومة في الدنيا تُقيم لها وزنًا أو اعتبارًا أو تعوّل عليها.. لكن الإسلام كما يُقيم وزنًا للظاهر؛ يُقيم للباطن، وكما يطلب من المسلم عمل البدن يطلب عمل القلب.. ويجعل من عمل القلب محركًا لعمل الجوارح ومعيارًا وميزانًا تُوزن به الأعمال، في الحديث: "إنما الأعمال بالنِّيات وإنَّما لكُلّ امرئٍ ما نوى"..

بل من أعجب ما يفعل الدين؛ أنه يرزق الإنسان ويزيد في رزقه ويفتح له ويُعافيه بنيته.. قال تعالى: "ومن يُردْ ثواب الآخِرةِ نُؤتِه منها".. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه يومًا: أوصني، فقال: "يا بُني انْوِ الخير، فإنكَ لا تزالُ بخير ما نوَيتَ الخير"!

اللهم أصلح نوايانا وجَمِّل قلوبنا واجعلها نقية تقية مؤمنة.
"ونُريدُ أن نمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهُم الوارثين"
وكيف يجتمع استضعافهم، مع إرادة الله عز وجل المنّة عليهم؟!
لأن منَّة الله تعالى عليهم بتمكينهم ممن استضعفهم قريبة الوقوع؛ فإرادة المنَّ عليهم ملازمة لاستضعافهم!
تضيق بهم الأرض، وأسباب توريثهم تُقدّر في السماء.
من ركائز هذا الدين؛ الغُربة .. شعور المؤمن بالغُربة أصل!
إدراك هذا الأصل والانسجام معه أكبر ما يعصم من تطويع دينه للواقع، وترقيعه برضا الناس وتحاشي سَخطهم..
كان ابن القيم يقول: "فالإسلامُ الحقيقيُّ غريبٌ جدًّا، وأهلهُ غرباءُ أشدُّ الغُربة بين الناس"!

والنبي صلى الله عليه وسلم أشدّ من عانى الغُربة وعاينها، في الحديث: "بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغُرباء"، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟
قال: "الذين يُصلحون إذا فسدَ الناس"، وفي رواية: "الذين يزيدون إذا فسدَ الناس"..
أي يزيدون ديانةً وخيرًا وطاعةً وإيمانًا وتُقى حين ينقص كل ذلك من الناس.
من أصول تربية المسلم لنفسه وأهله، وتزكية النفس في زمن الابتلاء خاصةً؛ ألا يستسهل سؤال: لمَ أمرَ ربُّنا؟.. فالمؤمن يوطِّن نفسه على سؤال: بمَ أمرَ ربُّنا؟

من الحصون التي يجب أن تحفظها داخل نفسك؛ شعور أنك عبد لله عز وجل.. الذي يُرسخ هذا الشعور، ويزيد الانقياد؛ سؤال "بمَ أمرَ ربُّنا؟"، لا "لمَ أمرَ ربُّنا؟"..
لذلك من عبقرية الفقهاء قديمًا أنهم عبروا عن المسلم حين يُخاطب بأحكام الشريعة بـ "المُكلَّف" وهو المأمور بما يَشُقُّ عليه!

فهذا هو جوهر فكرة "العبودية"؛ الإمعان في تعظيم الخالق بالإمعان في الخضوع له.. وهو سر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حُفَّتْ الجنة بالمكاره"، قال عُبادة بن الصامت رضي الله عنه: "بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره".. أي الشديد على النفس الذي لا تميل إليه بسهولة.
مشهد الأخت التي ذهبت تُحضر الطحين لتُطعم أولادها، ورجعت فوجدت البيت قد هُدِم فوق رءوسهم؛ مشهد مؤلم غاية الألم!
‏رغم أن كل مشاهد الظلم والإجرام في غزة مؤلمة، لكن هذا المشهد يعصر القلب والله..
‏انظر كيف أن الأرض على شدة اتساعها ضاقت على هؤلاء القوم، وسِعَت كل الناس لكنها لم تسعهم!

‏هذه المشاهد على قدر ما تُعَرينا وتُخبرنا عن سوءنا؛ تُذكّرنا بوضاعة هذه الدنيا، وبأن حياتنا فيها لحظات رخيصة، ومادياتها انحطاط خادع زائل، وأن كل الأماني أطماع فارغة، سراب كلما تعلقنا به لم نجده شيئًا!
‏اللهم تُب علينا وارض عنا وارزقنا شهادة في سبيلك.
أكثر العبرة من تكرار الاستعاذة من صراط "المغضوبِ عليهم" و "الضَّالين" في كل صلاة؛ إدراك أن معرفة الحق تقتضي تجنب الباطل، وإقرار الحق يستلزم بُغض الباطل، لأن تهوين الباطل يُفضي إلى ذهاب الحق..

هذه القاعدة تستطيع أن تُطبقها على كل باطل يهون في نظرك، سواء كان واضحًا كالمُلهيات، أو مشتبهًا كالتضليل في الدين والمعارف..
أقل ما تفعله مخالطة الباطل أنها تذهب بالحق من القلب والنفس، وقديمًا قيل: "كثرة النظر في الباطل تُذهب بمعرفة الحق من القلب"!

ومن فاته معرفة الحق؛ فاته من قوة إنفاذه في نفسه وفي غيره بقدر ما فاته من معرفة الحق.. قال ابن القيم: "والنفس إن لم تتصور الحق وتطلبه وتُريده؛ تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولا بُد".
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هلَكَ قومٌ حتى يُعذِروا من أنفُسِهِم"
أي أُقيمت الحُجة عليهم، ولم يبق لهم عذر في ترك العمل بالحق، حتى أن أحدهم لا يجد ما يعذر به نفسه التي بين جنبيه.. قال الطيبي: "فكأنهم أعذَرُوا من يُعاقبُهُم"!
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "ما أهوَن الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمرَه"..
اللهم نجِ المُستضعفين من المؤمنين، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا.
"وإن تتولَّوا يَستبدلْ قومًا غيرَكم ثم لا يكونوا أمثالَكُم"
إذا تأملت هذه الآية، تعلم حقيقة غريبة؛ أنه رغم مرارة سُنة "الاستبدال" وشدّتها على من بُدّلوا؛ إلا أنها رحمة بالمؤمنين!
فالاستبدال لم يُذْكر في القرآن إلا عند الكلام عن نُصرة الدين ونجدة المؤمنين.. وفي الموضعين الذين ذُكر فيهما الاستبدال اقترن مرةً بقوله تعالى: "ولا تَضروهُ شيئًا"، ومرةً بقوله: "ثم لا يكونوا أمثالَكُم"، أي أفضل منكم ينصرون دينه وينُجزون وعده.
في أيامنا هذه لعلنا أدركنا هذه الحقيقة التي ظاهرها العذاب وفي باطنها الرحمة.. قال الفخر الرازي: "لئلا يَتوهموا أن غلبةَ أعداء الدِّين وعِزَّ الإسلام لا يحصُلُ إلا بهم"!
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا.
من جوامع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، قوله إذا عاد مريضًا: "اللهم اشفِ عبدك؛ يشهدُ لك صلاةً وَيَنْكَأُ لك عدوًا"!
فجمع بين عمود الدين، وذروة سَنَامه.. ولخص كل وظائف المؤمن في الحياة؛ العبودية ورفع اسم الله في الأرض.
جمع بين الولاء والبراء في أبعد غايتهما؛ الطاعة مع أولياء الله عز وجل، والنكاية في أعدائه.
ولاحظوا لفظة "لك" أي طلبًا لرضاك وامتثالًا لأمرك.. فهذا الدعاء في الحقيقة سؤال بـ "الاستعمال"، أي أذهب الأذى عنه يارب واستعمله في أسمى ما يتعبدك به؛ طاعتك وغيظ عدوك.
عن توظيف المشاعر، والعجز والاستطاعة والخذلان والابتلاء، والنُفرة والتثاقل والاغتراب:
محاضرة "ساعة العُسرة" على:
يوتيوب
ساوندكلاود
الله يثبت إخواننا وينصرهم ويستعملنا في نُصرتهم.
شاهدت مقطع مُبكي من غزة الصامدة، لطفل يجر كرسي قعيد، حمل عليه عبوات مياه كبيرة، ومن ثِقل ما يجر؛ سقطت بعض العبوات فتعثر وسقط على وجهه.. حاول أن يُلملم نفسه الجريحة وابتسم للمصور ابتسامة من أحرجته الكاميرا؛ لكنه لم يتمالك نفسه فانفجر في البكاء وابتعد عن الكرسي!
بكى لا من ثِقل ما حَمل جسده الضعيف، لكن من ثِقل ما حملته نفسه الكبيرة!
كم الألم الذي في الفيديو فوق الخيال والله، أطفال وجدوا أنفسهم فجأة يحملون همومًا تفوق قدرات الكبار، وقلوبهم تحمل حزن وأسى أُمة بأسرها.. حتى العجز صاروا عاجزين عنه!
اللهم اغفر تقصيرنا.
من أجَلّ ما يُسأل الله تعالى به؛ سؤاله بالنعمة.. لذلك في حديث سيد الاستغفار الذي هو من أعظم الدعاء: "أبوءُ لك بنعمتِكَ عليَّ وأبوءُ بذنبي"، أي كما أنخلع من اغتراري بنفسي؛ أُقرُّ بعيوبي!

فالافتقار يوجب الانكسار، ومشاهدة المنّة تستجيش المَسْكَنة.. قال ابن القيم: "وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس"!

هذا من أخص ما تفعله العبودية في النفس، أن تنخلع من فردانيتها واغترارها بنفسها.. لذلك كانت أنفع المعارف للإنسان أن يعلم حقيقته، فمن أدرك حقيقة نفسه أدرك عظمة من يعبد.
بمناسبة الجدل حول زكاة الفطر وكيفية إخراجها.. من الأمور اللافتة للنظر في الشريعة، ومن محاسنها في قضية المال؛ تركيزها على مسألة "صرف" المال!
ستجد أن اهتمام الناس والنُظم غالبًا ما ينصب على مسألة "كسب" المال، والتشديد على أهمية أن يكون جائزًا ومشروعًا، وهذا أمر اهتمت به الشريعة أيضًا.. لكن الشريعة تُضيف بُعدًا آخرًا مهمًا وتُركز عليه، وهي مسألة أين يُصرف هذا المال؟!

لعلك في زماننا هذا تُدرك عظمة هذا البُعد، حين ترى أصحاب الملايين يضيعونها في التوافه وعلى غير من يستحقها باسم "مالي وأنا حُر فيه".. في حين أغلب مشروعات المُصلحين تنهار على صخرة التمويل، أو تتسند على إراقة ماء الوجه!
فشرعية كسب المال لا تُبيح التصرف فيه دون ضابط ولا رابط!

تأمل قول الله عز وجل: "إن اللهَ اشْتَرى من المؤمنين أنفُسَهم وأموالَهم"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ المالُ الصالح للرجُلِ الصالح".. وقوله: "لا حسدَ إلا فى اثنتين رجلٌ آتاه اللهُ القرآن فهو يقوم به آناءَ الليل والنهار، ورجلٌ آتاه الله مالًا فهو يُنفق منه آناءَ الليل والنهار "، قال ابن القيم: "فجعل الغنى مع الإنفاق بمنزلة القرآن مع القيام به"!

فسِرّ المدح في هذه النصوص هو التركيز على أهمية "صرف" المال، وأنه كما يجب أن يُؤخذ بحقه يجب أن يوضع في حقه، وكما يلزم ألا يُتجاوز في اكتسابه يلزم ألا يُتجاوز في إنفاقه!
لأن الإنسان إذا اكتسبه بحقه صار مستخلفًا في إنفاقه.. فيُسأل عن إنفاقه الذي لم يكن عليه أن يُنفقه، وما لم يُنفقه في الوقت الذي كان يجب عليه أن يُنفقه!

وحين نُدرك هذه المسئولية الجليلة، حينها فقط لن نحتاج أن نُناقش مسألة مثل: المقاطعة والتبرع ونحوها من المسائل.. قال أبو إسحاق السبيعي عن الصحابة: "كانوا يرون السِّعة عونًا على الدين".
من جماليات الشريعة، أن العبرة فيها بالخواتيم.. فهي تُراعي السبق في الخيرات لكنها ترهن الأجر بالخواتيم..
ومن إبداعات ابن تيمية في بيان السِّر في أن "الأعمال بالخَواتيم" قوله: "لأن جميع الحسنات تُحبَط بالرِّدَّة، وجميع السيئات تُغفر بالتوبة.. فتحسينُ خاتمة العمل أولى من تحسين فاتحته"!
لذلك كان أحب العمل إلى الله أدومه، وإن قلّ، لأن العبرة في الأعمال ليس بكثرتها إنما بحُسنها "ليبلُوَكم أيُّكم أحسنُ عملًا" وأحسن الأعمال ختامها!
اللهم أحسن لنا خاتمتنا في الأمور كلها، وأعنا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
نتقلب بين عِزة وألم، وفخر وأسى.. في شدة البلاء يأبى الله إلا أن يُطيب قلوبنا بهذه العِزة!
‏كم هي جليلة وعظيمة "الله أكبر، ولله الحمد".. لا تُرفع إلا فَجَّرت في النفس عِزة عظيمة.. "الله أكبر" غرس الجنة، ومفتاح الصلاة، وشعار المسلمين في انتصاراتهم وفي أعيادهم!
‏لنتذكر دائمًا أن الله أكبر من الهموم والأحزان، الله أكبر من الظلمة والجبابرة، الله أكبر من الأملاك والمناصب، الله أكبر من كل شيء وأي شيء.
كل عام وأنتم بخير.
من القواعد الجليلة في الدين أن الهَدي أعظم من الرزق والنصر، لأن الرزق والنصر منفعتهما في الدنيا أكبر، ومنفعة الهداية في الآخرة أكبر..
ولذلك كان من أقدار الله عز وجل أن يُضيق على بعض الناس في الرزق أو يُؤخر عنهم النصر؛ طلبًا للهداية، وهو يعلم أن هُداهم لا يكون إلا بذلك، فيحسبون أن ذلك من الابتلاء، وهو إنعام محض.. ولذلك استُحب التكبير في مواطن النصر والهداية، لكنه لم يرد في القرآن مقترنًا إلا بالهداية: "لتُكبِّروا اللهَ على ما هَداكُم"!
رغم أن مفهوم الشهيد موجود في غير الإسلام، لكن تصوره في الإسلام عجيب.. ولذلك لم تُشكّل الشهادة حافزًا في أي معتقد مثلما فعلت في دين الإسلام، حتى الوطنية العربية حين أرادت الاستفادة من هذا الحافز لم تصلح بنفسها، واستدعت الدين لهذه الغاية!

فالقرآن لم ينه عن تسمية الشهيد؛ ميِّتًا فقط "ولا تقولوا لِمن يُقتَل في سبيل الله أمواتٌ"، بل حتى عن اعتقاده ميِّتًا "ولا تَحسَبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء"، وتأكيدًا لذلك أخبر أنهم يُرزقون ويستبشرون ويفرحون ولا يَحْزَنون!

ولذلك من الاستدلالات البديعة لابن تيمية أنه قال إن قول الله تعالى: "ولا تُلْقوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة" لا يشمل الشهداء، لأن الشهيد لا يَهلك، ولا يجوز أن يُعتقد فيه ذلك!
ومنه كان الأمر بألا يُغَسَّل كما تُغَسَّل الأموات، ولا يُنزع عنه ثيابه بل يُدفن بها.. وكان الإخبار بأن الشهادة كالنصر في المنزلة في قوله تعالى "قُل هل ترَبَّصون بنا إلا أحدى الحُسنَيَين"، لأن الشهادة ارتقاء لا انهزام.
"إن الله يُؤَيّد هذا الدِّين بالرجل الفاجر وبأقوامٍ لا خَلاقَ لهم"
في هذا الحديث أربع حقائق إيمانية مهمة:

- خلق الله تعالى كلهم مأمور، البر والفاجر، السماء والأرض، كل خلق الله مأمور بأمره، غَلبت مشيئته المشيئات، وانكسرت لإرادته الإرادات، وأعجزَ قضاؤه الحيل!

- حقيقة أخرى مُرعبة.. من الناس من لا يُستنصر بهم ولا يُؤبه لهم؛ ربما نصروا دين الله عز وجل يحسبون أنهم من الأبرار وهم من المعدودين في اللئام والفُجار!

- تأييد الدين بالرجل الفاجر بقدر ما يُفيد المؤمنين ويُعزّهم؛ لا يُفيد الفاجر ولا يُعزّه، إلا بأن يكون برًّا، وذلك معنى قوله: "لا خَلاقَ لهم" إشارة إلى حرمانه من المنفعة ومن الإعزاز!

- "إن كيدَ الشيطانِ كان ضعيفًا"، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف، وبأوليائه ينصر الله عز وجل أولياءه!
"مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تقيمها الرياح تُقوِّمها تارة وتُميلُها أخرى، ومثل المنافق كمثل الأرْزِة لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافُها مرةً واحدةً"!

مثال ضربه النبي صلى الله عليه وسلم، لما يُصيب المؤمن من هموم وبلاء وضعف وفتور، وقديمًا قيل: "المؤمن لا يخلو من علةٍ أو قلةٍ أو زلة".. فالمؤمن مهما كافح لابد أن تَغلبه الهموم، لكنه كلما غَلبته عاد من جديد، "تُقيمه الرياح، كما تُميله تارة؛ تُقوِّمه تارة"!
فالمؤمن لا يسخط ولا ينكسر ولا ينقصف ولا ينعجف، بل كلما غلبته الهموم عاد إلى الله عز وجل.. ولو سَلِم حاله دائمًا؛ لم يحصل له افتقار ولا أوبة ولا توبة.
لن تجد أمرًا اعتقاديًا أكثر ذكرًا في القرآن بعد توحيد الله عز وجل؛ من الولاء والبراء!
هذا النظام الاعتقادي، الذي على قدر ما يبدو عليه من شدّة؛ يحمل معاني جمالية لا تجدها في أي نظام آخر.. فالمغزى من الولاء والبراء؛ تحرير المؤمنين وتوحيدهم!
فالشريعة حية مقصدها من تعبيد الناس لله عز وجل؛ تحريرهم.. ومن توحيدهم الله تعالى؛ توحيدهم.
وأول تحريرهم وأول توحيدهم يكون في الشعور والتصور!
عتبة الولاء والبراء؛ الوحدة الشعورية والاستعلاء الإيماني!

فلا يتصاغر لأعداء المؤمنين مهما بلغ حاله من ضعف، ولا يتكبر على المؤمنين مهما بلغ حالهم من الضعف.. بل كما قال الله تعالى: "أذلَّةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرين"، قال عطاء: "للمؤمنين كالولَد لوالدِه، وعلى الكافرين كالسَّبع على فريسته".

فالولاء والبراء وإن كان جوهره التوحيد والعبودية، لكنه يستلزم ما هو أعم من ذلك، فمنه نُصرة المؤمنين، وجهاد عدوهم، بل مشابهته مما يدخل في الولاء لغير المؤمنين، قال تعالى: "اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربِّكم ولا تتَّبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكَّرون"!
ومنه الركون للظالمين قال تعالى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون"!
ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، قال تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"!

فهذا نظامٌ مُحكمٌ عجيب يصب كله في تحرير الناس بتعبيدهم لله عز وجل وحده، وتوحيد صفهم أمام من قاتلهم وظلمهم.
من حيث الفقر والغنى.. فأفقر "خطاب" يُمكن أن تسمعه هو خطاب التنمية البشرية .. خطاب بائس لا يجد له أصل سوى في الأفكار المادية الغربية القديمة التي عفا عليها الزمن!
فتصوره عن "القيم" فقير، وفهمه لرُقي النفس قاصر، واستيعابه للنعم والأرزاق والسِّعة والغنى ضعيف للغاية!

معظم أفكار التنمية البشرية والخطاب التحفيزي الذي على شاكلتها؛ يعتمد على فكرة "الإنسان الخارق"، الخارق للظروف والأحوال والسُّنن الإلهية في النفس والحياة.. وفي أحسن الأحوال؛ تحسين صورة الإنسان عن نفسه والشعور بكفاءته الذاتية، وجبر هشاشته بنشوة قوة موهمة تُرضي مركبات النقص عنده!

فطبيعة هذا الخطاب التحفيزي تصطدم مع ضعف الإنسان، وأقداره في الابتلاء والصبر والرزق والسعي، وحقيقة من هو ومن يعبد، وأصل القناعة والرضا فيه!
ويعارض أصل تكليف الإنسان بالاستطاعة، وتكليفه الأساسي بالطاعة والعبودية، لا ما هو فوق قدراته!

فخطاب التنمية البشرية، لا هو فن في أصله الغربي ينسجم مع فطرة الإنسان، ولا مع الأصول التي يقوم عليها الدين.. وإن حاول البعض أسلمته وترقيعه دينيًا من خلال ما هو أقرب للوعظ، وأحيانًا ما لا صلة له بالتنمية البشرية إنما يتصل بالتربية.

تأمل أخلاق؛ الصدق والصبر والرضا والحلم والتواضع..، أو شعور؛ الحزن والفرح، الحب والكره، الانشراح والضيق.. إلخ، وكيف أن مردها للنفس لا للجسد، فلا تُقاس بالمادة ولا تُتملك بالمال.. وهو سر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الغنى غنى النفس"..
ولذلك في استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر؛ قال كثير من الشراح: "كان يستعيذ من الفقر الذي هو فقر النفس لا قلة المال"!

لأجل ذلك جُعل "الصبر" خير عطاء يُعطاه الإنسان وأوسع رزق.. في الحديث الصحيح: "ما أعطيَ أحدٌ عطاءً هو خيرٌ وأوسع من الصبر".. لذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "وجدنَا خير عيشنا الصبر"، لأن من لا يصبر على ما لا يقدر عليه؛ يتجرع مرارة ذلك ذلًا وتعاسةً وألمًا وشعورًا بالفقر والحرمان.