اليمن_تاريخ_وثقافة
10.5K subscribers
141K photos
348 videos
2.17K files
24.5K links
#اليمن_تاريخ_وثقافة ننشر ملخصات عن تاريخ وثقافة اليمن الواحد الموحد @taye5
@mao777 للتواصل
Download Telegram
أن يشمل ذلك اللحم. فاللحم لا يتيسر أكله إلا في بعض المناسبات الخاصة. و من المناسبات الاجتماعية, فترة النفاس للمرأة. فهنا تتوالى على النفاس جفان الزاد (جمع جفنة و هي الإناء المملوء طعاما المسمى زاد) من جيرانها و أهل قريتها أو ساكنها إن كانوا بدوا, فتشبع جوعها و حرمانها, مما يساعدها على مهمة إرضاع طفلها. كما كان طعام الأغلبية من الناس هو المسيبلي و الذرة و ربما الطهف. أما البر فكان طعام الموسرين إلى جانب الحبوب التي ذكرناها. و في ذلك الزمان كان لكل من البر و الطهف و المسيبلي و الذرة رائحته النفاذة التي تميزه عندما يكون خبزا طازجا ساخنا. و كانوا يغمسون لقم الخبز المختلفة بالسليط (زيت السمسم ) قبل أكلها. كما أن أطايب الطعام عند الناس في ذلك الزمان أربعة, بر ميسان ( الميساني) و كباش بيحان, و عسل جردان, و سمن الكيران (جمع كور و منها كور العوالق). و أما المواشي التي يربونها فكانوا يستفيدون من ألبانها و لحومها أو بيعها حسب ما يتيسر الحال. و من جلودها كانوا يصنعون قرب الماء و السمن و السليط, و الوسائد, و الأحذية المسماة الرمش, و أشياء أخرى, و أما صوفها ( ماعزا أو ضانا) فيصنعون منه البسط المعروفة بالفريق و الشقاق و أكياس جمع السبول, و غير ذلك. عادات و آداب الطعام: أمام شح الطعام هذا, فقد كان لأكله عندهم عادات و آداب. ففي الولائم و الصيد يوزع اللحم بالقطعة فيحصل كل فرد على قطعة, تصغر أو تكبر على حسب طبقته الاجتماعية. كما كان الفرد يقبض على لحمته و يأكلها قطعا صغيرة مستخدما سكينه الخاص به, و يمضغها في غير تسرّع. كما أن التحيّز ضد الإناث داخل الأسرة الواحدة, يتجلى في ترك سؤر الطعام لهن(ما نسميه السور) بعد أن يشبع منه الضيوف و ذكور الأسرة بعدهم. و تنكسر تلك القاعدة عندما تكون الذبيحة للأسرة فقط. كما كانت الناس لا ترمي من طعامها أية بقايا إلا فقية للكلب (كسرة صغيرة للكلب) يرمونها له بعد أن يبدأ في النباح عندما يشم رائحة الخبز الطازج. ففي ذلك الزمان كان لكل بيت كلبا, خوفا و تحسبا من الأعداء و من الذئاب و الضباع. كما أن إظهارهم للحمد و الشكر لله على الطعام الذي حظوا به , يتجلى في تلك العادة المسماة بـ كدّاد الصحفة . و الصحفة هي الوعاء الخشبي الذي يهرس فيه الخبز باللبن (الحليب) أو الحقين, أما الـ كدّاد فهو استخدام أصبع السبابة أو أصبع الإبهام في لعق ما تبقى من الطعام على جدران الصحفة, و تنتهي الوجبة و الصحفة لا تحتاج إلا للقليل من الماء لتنظيفها. و من علامات الحرمان من الطعام فإن من رأوه سمينا لا يعيرونه بسمنته بل يسمونه بسطي و لتأكيد ذلك ينطقها الفرد مع شد قبضة اليد و وضع الذراع بشكل أفقي, لتأكيد إن ما يرونه, إنما هو مظهر للصحة و القوة و لبسطة الرزق. التأثيرات الصحية لشح الطعام: كان لشح الطعام تأثيرا كبيرا على صحة و لياقة الرجال و النساء على حد سواء. فمعظم الرجال كانوا رشيقي الأجسام, مستويي الصدور و أثدائهم لا تتدلى, فليس بها من شحم, و بطونهم غائرة كأنها ملتصقة بظهورهم. و كانت ربلة سيقانهم صلبة كالحجر من كثرة المشي و طلوع الجبال. و لا يشبههم في هذا الوصف اليوم إلا الرياضيون الذين يتبعون حمية قاسية و تمارين شديدة. و كانت أمراض سؤ التغذية منتشرة بين النساء و الأطفال أكثر من الرجال البالغين. كما أن مرض الجذام كان منتشرا( مرض جلدي غير معد.), و كان أحد الأسباب الهامة لانتشاره, قلة الدهون الحيوانية, أي ندرة اللحم في غذاء المصابين به. و قد ذكر الضابط السياسي هملتن أنه عندما مر بالمصينعة في طريقه إلى وادي يشبم في عام 1934 أنه و حراسته اشتروا رأسين من الأغنام من أحد الطواسل, الذي ذكر لهم انه رغم أنه يملك أغناما, فإنه لم يأكل اللحم منذ أربعة شهور. المجاعات: تعرضت المنطقة مع غيرها من مناطق الجنوب إلى عدد من المجاعات التي سببها أما الجدب أو انتشار الأمراض الحيوانية التي أماتت المواشي بأعداد كبيرة. و كان تأثر المنطقة يتفاوت. فأحد المجاعات التي شملت معظم الجنوب الغربي للجزيرة العربية كانت في عام 1865, و تبعتها مجاعات و سنوات قحط شديدة في أعوام 1871, 1881, 1905, 1939, 1941, و 1949. و قد دفعت الأخيرة بما يزيد على 200 فرد من النسيين, و همام و آل إسحاق و عوالق آخرين, و القراميش و الكرب , إلى التوجه إلى بيحان للعمل كأجراء في إصلاح سواقي السيول مقابل أن يشتروا بأجورهم حبوبا. و كانت بريطانيا و إمام اليمن يجدان في المجاعات و سنوات القحط فرصة للحصول على مكاسب سياسية, مثل تقديم كميات زهيدة من الحبوب كهدايا للمناطق المتضررة(و كمثال, فقد قدمت بريطانيا لقبيلة همام كمية منها عام 1941), أو منع تصدير الحبوب من اليمن للضغط على بريطانيا. أما مجاعة حضرموت التي حصلت في عام 1949 بسبب الحرب العالمية الثانية في الملايو التي أوقفت تدفق التحويلات المالية من حضارمة المهجر إلى حضارمة الداخل, إلى جانب الجدب, فكما أشارت المصادر البريطانية إلى أن الناس كانت تموت بمعدل مائتين فردا
في الأسبوع. و بحكم أهمية حضرموت للسياسة البريطانية فقد نظمت بريطانيا جسرا جويا لنقل المؤن من عدن إلى وادي حضرموت. و كانت همام و المرادعه و آل بريك يبيعون الحبوب إلى الحضارمة في الوادي, و يستلمون أثمانها فضة بعد أن كملت نقودهم ولم تترك المجاعة شيئا منها بأيديهم. وكان باعة الحبوب هؤلاء يأتون بتلك الفضة و يبيعونها إلى صالح بن بسارة بواسطة الشيبه لغجل في عتق, فكانت الفضة تتكدس لديهم في المخازن من كثرتها. و قد علم أحد رجال همام ( و بكل أسف لا يحضرني أسمه) بأن الفضة التي أحضرها أبناءه من شبام حضرموت كانت مقابل الحبوب التي باعوها للناس هناك بمقايضتها بالفضة, فأمرهم أن يعيدوها إلى أهلها معتبرا ذلك صدقة, ففعلوا. التغيرات و التبدل في الطعام: أرى أن أسمي الفترة منذ عام 1839 و حتى عام 1950فترة شح الطعام, أمّا الفترة منذ عام 1951 و فما فوق فهي فترة التغييرات و التبدل في النمط الغذائي للناس و هي فترة الوفرة في الطعام. و من المفيد أن نذكر أنه في أوائل القرن العشرين كانت أهم السلع الوافدة من الخارج إلى المنطقة, هي السكر و القاز(الكيروسين للإضاءة) و البهارات فقط. و أما الشاي فدخل ببطء في حوالي عام 1940 مع أبناء المنطقة اللذين التحقوا بالخدمة العسكرية في جيش الليوي أو حرس الحكومة اللائي أنشأتهن بريطانيا في حوالي عام و1928 و 1938 على التوالي. نعود إلى فترة الوفرة, ففي عام 1951 تم فتح طريق النقبة ما بين المنطقة و عدن عبر المحفد و مودية و أنشئت المطارات ( مهابط ترابية) لطائرات الركاب في قوبان (1951-1954) , ثم تحول إلى عتق (1955 إلى اليوم) و في نصاب (1955). و أدى هذا التواصل البري و الجوي مع عدن إلى تدفق الرز و الدقيق الأبيض (الطابونة) و الزيوت النباتية من غير الجلجل, و المعلبات مثل صلصة الطماطم و البطاطا و الأسماك... كما دخلت معها الألبسة الملونة ( و هذا موضوع آخر ليس مكانه هنا). كما دخلت أيضا, مضخات الآبار و توسعت المساحة الزراعية المروية و توسع إنتاج البر و غيره من المحاصيل. كما أن الصلح الذي فرض ما بين القبائل في مشيخة العوالق و خليفة ( مديريتي عتق و الصعيد اليوم) عند تأسيس أول إدارة مدنية فيها في عام 1951 أوقف الحروب القبلية فيما بين قبائلها, فتوجهوا للتجارة و الوظيفة العسكرية و المدنية و لتعليم أبنائهم, مما بدأ في خلق نوى لمجتمعات مدنية نسبيا. و هكذا بدأت النقود تجري في أيدي الناس, بسبب الوظيفة العسكرية و المدنية و فتح الأسواق ونمو التجارة. كما بدأ المسافرون العائدون من عدن و هم قد تعودوا على نظام الوجبات الثلاث بدلا من الاثنتين, فأدخلوه شيئا فشيئا إلى نمط معيشتهم و أهلهم كمعنى لبسطة الرزق. و مع ذلك استمرت الناس في أكل النباتات و الطيور و الحيوانات البرية التي سبق أن ذكرناها في البداية, على حسب ظروف توفرها, لكن لدوافع غير الجوع.

المراجع: 


1. Aden under British Rule (1839-1967), 1975, by R. J. Gavin.,


2. Political Diaries of The Arab World: Aden 1899–1967,


3. Kingdom of Melchior, 1949 by R. A. Hamilton ( Lord Belhaven), 


4. عادات و تقاليد حضرموت الغربية, 2002, تأليف ميخائيل روديونوف, ترجمة د. على صالح الخلاقي 


5. قلائد الحسان و فرائد اللسان, ديوان الحبيب علي بن حسن بن عبدالله العطاس, الجزء الأول


6. الشيبة أحمد عوض لغجل

7. قراءات و أحاديث متفرقة
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
15-10-2017م
حكايات يمنية

نشر في صحيفة (لا) الأحد ،الموافق ١٥-١٠-٢٠١٧م.

الإمام أحمد وحكايات العمراني
لقد كان الإمام أحمد يحيى حميد الدين يحب الفكاهة والظرافة والمفارقات الضاحكة ،أكانت مشهدا أو حكاية أو موقفا مسرحيا .فلقد تميز منذ كان في حجة ثم في صنعاء وتعز بروحه المرحة ،ولديه قدرة على ابتكار المشاهد والعبارات الضاحكة ،وسرعة بديهة وتمكن في فهم المواقف وخلفياتها ،والاستفادة منها في الخروج من المآزق .وتميز بقدرة فذة في معرفة الرجال ،ونفسياتهم وتقييمهم .
يروي القاضي محمد بن إسماعيل العمراني في كتابه "قصص وحكايات من اليمن "والتي دونها أحد تلاميذه ،ونشرها في كتاب عن دار الإيمان في الاسكندرية عام ٢٠٠٣م – لتلامذته حكاية رجل شرب الخمر فسكر ،وذهب إلى أحد الشيوخ ليعقد له على ولد،ومعه الطبنجة موجهة نحو الشيخ ،فما كان من الشيخ إلاّ أن تمتم بكلام ،موهما له بأنه قد عقد له .وحين خرج السكران قال للناس :قد عقد لي الشيخ على هذا الولد . فسأل الناس الشيخ :على أي مذهب عقدت له ؟ أجابهم "على مذهب الطبنجة " وهكذا كانت كتابة التاريخ القديم والحديث في اليمن "على مذهب الطبنجة " المنتصرة ،التي تكتب التاريخ كفيما شاءت رغباتها .
لقد تأسس التاريخ الحديث لليمن في مرحلة مجايلة لمصر .ففي مصر كان عام 1919م تاريخا فارقا وحيويا بالنسبة للشعب المصري الذي أنجز ثورة الدستور بانتفاضة شعب جعل الانجليز في مخنق حقيقي .وفي الجزيرة العربية والعراق وسوريا كان هذا التاريخ نهاية للاستعمار العثماني ،وإذا كان الاستعمار الانجليزي والفرنسي قد ورث "الرجل المريض "هناك ،فإن اليمن كمقبرة للغزاة ،كان استقلالها برحيل آخر جندي من اليمن أواخر عام 1918م ،ومع عام 1919 م كان الإمام يحيى يؤسس الكيان اليمني المستقل باسم المملكة المتوكلية اليمنية ...
من هنا فإن التاريخ اليمني الفاعل والحيوي يبدأ من عام 1918م لينتهي في عام 1994م كقرن حدث فيه من التحولات ما يجعل قراءة الفكر السياسي ملزم بالتعامل مع هذه العقود ككتلة واحدة .
لم تكتف جمهورية 5نوفمبر 1967م بسحل المعارضين لها أكانوا سبتمبريين أو إماميين أو ملكيين ،لكنها استولت أيضا على الذاكرة ،وزيفت التاريخ ،فجمعت بين تفيد السلطة والتاريخ ،ووارت بالرصاص والإخفاء القسري ،والسحل ،كل مناويء لها .ولسان حالها ماقاله أبو العلا المعري :
حكوا باطلا وانتضوا صارما
وقالوا :صدقنا ،فقلنا نعم .
لهذا ليس غريبا أن يستعين النوفمبريون في تفيدهم للتاريخ والذاكرة ،ودحر الآخرين إلى عالم النسيان –بكُتَّاب من اليسار واليمين كي يضعوا الأكاذيب وسحر البيان وبسالة الادعاء على ألسنة النوفمبريين .
فمذكرات الشيخين (سنان أبو لحوم وعبد الله بن حسين الأحمر )صاغها حذفا وإضافة وتقديما وتأخيرا ،وإرجاء ومحوا ، الدكتور عبد الكريم قاسم ونصر طه مصطفى .حتى أن القاريء ليقف متعجبا ومتألما حين يجد عبارة شكسبيرية ترد على لسان سنان أبو لحوم في خمسينيات القرن العشرين ،كما ورد في مذكراته ،في تقمص لدور الجمهوري الذي لا يلين ،بقوله تعبيرا عن صراعهم مع الإمام أحمد "نكون أو لا نكون "متناسيا أنه من أبرز مشايخ "القوى الثالثة "التي ذهبت إلى السعودية عام1964م،وأعلنت بيان الطائف الذي تخلت فيه عن النظام الجمهوري ،ليحل بدلا عنه في بيانهم تسمية لنظام بلا ملامح هي "الدولة الإسلامية ".في طعنة للأهداف السبتمبرية ،وللدور القومي لمصر عبد الناصر.

عودة إلى حكايات القاضي محمد بن إسماعيل العمراني والإمام أحمد ،يروي العمراني أنه دخل على الإمام أحمد قبل الثورة في "تعز "فلما دخل إلى المجلس ،قال له الإمام أحمد :أهلا بأخ الأب أبصرني ؛أي "العم راني "فقال له العمراني هو بين يديكم .فأعجب الإمام أحمد من سرعة فهم القاضي .لكن الحاضرين في المجلس قالوا :كان المفروض أن يجيب عليك بأحجية مثل استقبالك له بأحجية ؟فالتفت إليه الإمام أحمد وقال :صحيح مالك لا تجيب بأحجية ؟فقال العمراني كنت سأجيب بقولي "المش سارق " لكني وجدتها غير مناسبة لمقامكم ،فضحك الإمام وأعجبه القاضي .فكلمة (مش ) بلغة صنعاء (المخ )والسارق (لص)ومجموعهما (مخلص )"مش سارق".
ويحكي العمراني في كتابه هذا شغف الإمام أحمد بجمع الثعابين منذ أن كان وليا للعهد .ففي يوم خرج فيه للنزهة ،فوجد ثعبانا كبيرا فأمسك به ،ونادى الحرسي (الحارس )وطلب منه أن يبقيه معه .وحين اجتمع مجلسه بعد العصر بالعلماء والكتاب نادى الإمام أحمد على "الحرسي "وقال :هات الوديعة (أي الثعبان ) وحين أخرجه الإمام من الشال وأطلقه في المجلس ،تقافز الحاضرون وهرب من هرب ،فوجه الإمام أحمد الثعبان ناحية القاضي حسن تقي (حسن بن أحمد بن حسن تقي )وقد كان أديبا وكاتبا وملازما للإمام أحمد منذ كان في حجه وصنعاء ثم تعز –وكان القاضي حسن تقي يخاف كثيرا من الثعابين ،فأخرج الجنبية وقال :يا مولانا والله أشرع بك قبل الجنش ما يقتلني ! فضحك الإمام أحمد وأمسك بالحنش .
وحكاية القاضي عبد الله بن عبد الوهاب الشماحي ،الذي طل
ب منه الإمام يحيى منه أن يقوم بتدريس ابنه سيف الاسلام أحمد في حجة ،فكان يذهب إلى مقام ولي العهد فيدرسه ،ثم يعود .وكان مع سيف الاسلام أحمد أسد له سايس يسوسه،وذات يوم جاء الشماحي ،ودخل المقام وجلس ،وكان يرتدي زيّا يشبه ما يلبسه ولي العهد ،فأراد ولي العهد أحمد مداعبة الشماحي ،وطلب من السايس أن يفتح للأسد باب القفص ،وتحرك الأسد فجلس في حجر الشماحي ظنا منه أنه ولي العهد أحمد ،فارتعش الشماحي وتصبب عرقا ،ولم يستطع حراكا ونطقا .وحين أعاد السايس الأسد إلى قفصه انتفض الشماحي وقام من مكانه غاضبا أشد الغضب ،وصاح :أنا جيت أُعلم ولد الإمام ،أم جئت أُعلم سرسري (سرسري بلغة صنعاء الحقير:الحقير التافه )؟من أراد أن يتعلم يأتي عندي ،وانا بعد الآن لن أحضر عند أحد ،وانطلق لا يلوي على شيء ،وسيف الإسلام أحمد يضحك.
ويبدو أن سرعة البديهة قد ورثها الإمام أحمد عن أبيه الإمام يحيى .
يروي القاضي العمراني حكاية اليهودي الذي جاء يتقاضى دينا من النبي ،ولم يكن اليوم الذي فيه موعد سداد الدين قد انتهى ،فقال له النبي (ص) "لنا بقية يومنا يا يهودي" ومن ذلك أن الإمام يحيى قد حدد يوم الخميس كي يأخذ بيت ملقاط أوراقهم من العلامة القاضي زيد علي الديلمي ،وكان الإمام يحيى يشد من أزر الديلمي الذي كان يميل إلى مذهب السنة ،وأخذ عن علماء ذمار وعلماء مدينة جبلة...وحين أرسل الإمام يحيى ببيت ملقاط إلى القاضي الديلمي بحسب الموعد ،وذهب العسكري بورقة الإمام إليه ،وهو خارج من الحمام ،كتب الديلمي على ظهرها :لنا بقية يومنا يا مولانا. فلما وصلت إلى الإمام فهم ما فيها من من تلميح ،وغضب ،وأخذ يقول "حمار ..حمار ..من أهل ذمار ".
لقد تم توظيف شغف الامام أحمد بالمواقف والعبارات والمشاهد الضاحكة ،واعتبروها دليلا على غرابة أطواره ،ونسبوا له من الجرائم ما ليس له بها علاقة ،ومن ذلك أنه قتل مضحكه "علوس "في" بئر " و"علوس" هو مضحك الإمام ،وقد اعتاد عند خروج الإمام للنزهة ،أن يمثل دور الغريق،ويختفي داخل البئر لوقت طويل ثم يخرج فيضحك الجمع،وذات يوم كررها عدة مرات لكنه في الأخيرة لم يخرج من البئر سوى ميتا ،فقالوابأن الإمام أحمد تركه يغرق انتقاما من سخريته به !
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
#أحمد_السقاف
الاديب والشاعر الكبير
يروي حكاية رحلاته ومقابلاته للملوك والرؤساء العرب


كنت قد انتقلت من العمل في وزارة الإعلام، وعينت عضواً منتدباً للهيئة العامة للجنوب والخليج العربي، هذه الهيئة التي ارتبطت بوزير الخارجية، ولم يكن العمل مع رئيس الهيئة العامة ووزير الخارجية بالجديد علي، فلقد عملت معه بضع سنوات في دائرة المطبوعات والنشر قبل الاستقلال ونشوء الوزارات، وعملت معه بضع سنوات وكيلاً لوزارة الإرشاد والأنباء - وزارة الإعلام اليوم- بعد الاستقلال. إن كثيراً من الناس يتهيبون الانتقال من عمل إلى آخر، لأنهم يتهيبون المجهول ويخشون الانتقال من وظيفة إلى وظيفة أخرى، وقد استغرب الكثيرون حين وضعت نهاية لوجودي في وزارة الإعلام لاعتقادي أن العمل الإعلامي يستهلك طاقة المشرفين عليه أكثر من أي عمل آخر، فلا بد والحال هذه من التجديد. وما كدت أستقر في الهيئة العامة حتى قمت بأول رحلة إلى صنعاء، والطريق إلى صنعاء في ذلك الوقت ليس طريقاً سهلاً فلا بد من السفر إلى القاهرة، ومنها إلى أسمرة عاصمة ارتيريا البطلة المكافحة في سبيل الحرية والاستقلال، ومن هناك لا بد من المجازفة فالسفر يجب أن يكون بطائرة صغيرة حبشية كانت أو يمنية، والفراغات الهوائية على جبال ارتيريا وعلى الجبال القريبة من تعز، ولا سيما جبل صبر المنيف المخيف، تلعب بالطائرة الصغيرة ذات المحركين كما يلعب الأطفال بالطائرات الورقية في أيام الرياح وكان السفر في فصل الصيف وفي هذا الفصل تنزل الأمطار بغرازة في الحبشة واليمن الشمالي.

أود أن أورد ما شاهدت لدى ركوبي الطائرة الصغيرة ذات المحركين من أسمرة إلى تعز، فلقد ركب معي اثنان كانا يتحدثان العبرية ودهشت، وقلت لنفسي كيف يحدث هذا؟ وأين هي الحكومة اليمنية؟ وأين يقظة القوات المصرية؟ وصممت على إبلاغ المسؤولين بمطار تعز ما ساورني من شك في أمر الرجلين، وما كنت أدري أن هذه الطائرة الصغيرة ستنزل في مطار ترابي في ميناء مصوع وأن الرجلين سينزلان في هذا الميناء فهما كما أعتقد ممن يعملون في جزر البحر الأحمر وقد حدث وصدق كلام صديقي حين قال إن هيلا سيلاسي يعمل مع جميع الجهات المعادية للشعب العربي، وإن علاقته بإسرائيل والصهيونية العالمية علاقة قوية جداً، وإن تظاهر أحياناً بالتقرب من بعض القادة الافريقيين المخلصين.

ولما هبطت الطائرة في مطار تعز الرهيب شغلت بالمستقبلين الذين عبروا باستقبالهم لي عما يكنه المسؤولون اليمنيون من حب وتقدير للكويت. إن مطار تعز القديم يقع على رأس جبل صغير يطل على واديين عميقين ومساحة المطار تقل عن مساحة ملعب كرة القدم، والهبوط في المطار كان ضرباً من المجازفة، وقد ألغي هذا المطار بعد عام 1970م بعد أن اختبرت شجاعتي فيه أكثر من خمس عشرة مرة. ونزلت في تعز في فندق جديد وشاهدت العمران ينتشر في أنحاء كثيرة من المدينة وقد قال لي الكثيرون إن المدينة لم تعرف الفنادق إلا بعد الثورة وإن المباني الحديثة فيها لم تنتشر إلا بعد زوال حكم الإمام.

بقيت في تعز بضعة أيام قبل الصعود إلى صنعاء، وكان يلازمني مدير مكتب دولة الكويت في ذلك الحين المهندس أحمد قايد بركات، وكان عبدالله السلال رئيس الجمهورية في القاهرة بحجة الاستجمام والعلاج، وقد سبقه في الإقامة بالقاهرة نائبه الدكتور عبدالرحمن البيضاني، ولم يبق في الصدارة سوى رئيس الوزراء حسن العمري، وقد زرت الرجل وتعرفت عليه في دار الرئاسة بتعز وكان قد قصد تعز ليثبت للناس أنه رئيس الجمهورية المقبل، ولم يخف عني ما سمعه ممن هتفوا له فقد قال إنهم هتفوا بحياته وقالوا لا رئيس إلا العمري، وقد أحسست أن صراعاً سيحدث لا محالة بينه وبين السلال إن عاد هذا الأخير من القاهرة، وقد حدث ذلك بعد مغادرتي اليمن بأيام. لقد تفقدت في تعز بناء مدرستين ومستوصف ومسجد وغادرتها إلى صنعاء سالكاً طريقاً معبداً غير مرصوف بين الجبال المرعبة، وكانت الرؤية يحجبها أحياناً الغبار الكثيف الذي تثيره السيارات العسكرية المصرية، فالجيش المصري كان له وجود قوي في تعز في تلك السنة التي اشتدت فيها المعارك بين الثوار من أبناء اليمن الجنوبي وبين القوات البريطانية، ومركز قيادة ثورة الجنوب في تعز لقربها من حدود الجنوب الثائر على وجود البريطانيين، وبعد مضي أكثر من خمس ساعات وصلت صنعاء، ونزلت فندق الحرية، وقد ترددت قبل دخول الفندق المزعوم فكل ما في هذا البناء الحجري الشامخ يرفض التسمية التي أُطلقت عليه، ولكن أين ينزل المرء في صنعاء؟ فهي مدينة محرومة من أشياء كثيرة لا يستغنى الإنسان عنها في هذا العصر ومنها الفنادق، وقد كان الناس ينزلون المقاهي أيام الأئمة، وقد أكد لي المهندس أحمد بركات أنه استعمل نفوذه الشخصي حتى استطاع أن يحجز لي غرفة الإمام البدر الواقعة في أعلى الفندق، لأن الأجانب من صينيين وروس وألمان شرقيين ويوغسلافيين يحتلون جميع غرف هذا القصر الحجري الكئيب، وكان الصعود إلى الغرفة لا يقل صعوبة عن الصعود إلى قمة الهرم الأكبر في الجيزة، وفوجئت ب
عد هذا التعب الذي أشرت إليه بسرير متهالك في غرفة زال ربع سقفها بقنبلة دبابة ليلة قيام الثورة ونظرت إلى المهندس مدير مكتب دولة الكويت في صنعاء ففهم ما يجول في خاطري وأخذ يشجعني على قبول الغرفة الملكية ولسان حاله يقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان. ونزلت لتناول طعام الغداء في حديقة القصر ذات الشجيرات المعدودات فتقدم مني الندل وقال أنصحك أن تأكل رزاً مع الخضار والبلدي، فقلت له بل هات لي خبزاً مع الخضار والبلدي بعد أن فهمت منه أن البلدي يطلق على لحم الخراف اليمنية، وطلبت الحساب فكان نصف ريال وعجبت لهذا الرخص الذي لا مثيل له في العالم، واحتجت إلى الراحة بعد الغداء غير أني عدلت فالصعود إلى الغرفة ضرب من الأعمال الشاقة، فقصدت المكتب للاطلاع على مناقصات مشاريع المدارس والمستشفيات في صنعاء ومناخة وعمران والحديدة وبيت الفقيه وزبيد وغيرها من المدن اليمنية، وفي المساء زارني وزير الاقتصاد محسن سري- رحمه الله رحمة واسعة - وخرجنا نمشي في أزقة صنعاء المظلمة، وكان معنا المهندسان أحمد بركات وعبدالله الكرشمي، وهما وزيران في الوقت الذي أكتب فيه هذه الحكايات وهو صيف عام 1978م وقد كان المهندس بركات مديرا لمكتب دولة الكويت في صنعاء والكرشمي نائباً للمدير، وعملهما فني في المقام الأول فهما اللذان كانا يطرحان المناقصات ويشرفان على تنفيذ العمل، وقد انضم إليهما في ذلك الصيف مهندسان لامعان هما محمد الخطري ومحمد عبدالله عبدالغني، وحينما تجاوزت الساعة الثامنة قال لي محسن سري سنعود بك إلى فندق الحرية، وكنت قد نسيت أن علي أن أعود إليه وحاولت أن أتأخر عن العودة، ولكنني علمت أن التجوال ممنوع بعد الثامنة مساء فالبلاد في حالة حرب، والألغام تتفجر في كل مكان، ومشيت مع الأصدقاء الثلاثة واقتربنا من فندق العذاب، وسألت محسن سري عن الحكمة في تحويل هذا البناء المزعج إلى فندق، فالناس ولا سيما الأجانب منهم سيعلمون أن الإمام البدر كان يعيش عيشة الشقاء شأنه شأن شعبه الفقير، فلقد كان من الواجب الإعلامي أن لا يعرف الناس ذلك، فقال إنها الضرورة فنحن محتاجون إلى فنادق في العاصمة وأرباب المال بنوا عدة فنادق في تعز والحديدة ولم يقتربوا من صنعاء لأن المال جبان، قلت ولكن لماذا سمي فندق الحرية؟ فهل الحرية رخيصة إلى هذا الحد؟ إن التصحيف جدير بهذه الكلمة فضحك الجميع طويلاً للنكتة. دخلت الفندق مكرهاً وأخذت أصعد الدرج وكلما قطعت عدداً من الدرجات توقفت للاستراحة، فقد ازدادت دقات القلب، فصنعاء مرتفعة عن سطح البحر ارتفاعاً كبيراً، والقصر مرتفع فوق ذلك، والغرفة الملكية فوق السطوح ووصلت بعد جهد جهيد وأنا ألهث كأني من المشتركين في سباق الجري للمسافات الطويلة وبحثت عن صابون لأغسل وجهي ويدي فلم أجد صابونا في الحمام الملكي الملحق بالغرفة المشوهة، ولم يكن في الغرفة جرس، لأن جلالة الإمام البدر لم يسمع في عهده الميمون بالجرس الكهربائي، وكان يكفيه صوته الأجش حين يطلب شيئاً من الخدم المكدسين في الدرج لتلقي الأوامر الملكية. وسألت نفسي ماذا عسى أن أصنع؟ إن النزول هين ولكن العودة عذاب فاستلقيت على السرير مجهداً أشد الجهد، وكنت كلما غزا النوم أجفاني جلست مذعورا فقد كان النفس ينقطع فجأة، وبقي الحال على هذا المنوال حتى الصباح، فارتديت ملابسي ونزلت لتناول الفطور، فجاءني الندل يعتذر بسبب تأخر وصول الخبز وانتظرت، وطال الانتظار، فصرفت النظر عن الخبز وأكلت البيض مسلوقاً وشربت كوباً من الشاي ثم توجهت إلى المكتب لمواصلة العمل، وأرسلت من يحمل حقيبتي من فندق الحرية، فقد صممت على النزول في إحدى غرف المكتب فهي أرحم ألف مرة ومرة من الغرفة الملكية فلا درج يقطع الأنفاس ولا ارتفاع يمنع الأوكسجين، والمطبخ الصغير يستطيع أن يلبي طلباتي المتواضعة، وجاءني محسن سري وأنا أستعد لركوب السيارة فقد قررت زيارة مدرسة تبنى في مناخة وكان معي المهندسان أحمد بركات وعبدالله الكرشمي، وكلاهما موظف بمكتب دولة الكويت في صنعاء، وصمم سري رحمه الله على مشاركتي الرحلة، وانطلقت بنا السيارة في جبال شاهقة على طريق مرصوف أحسن رصف يطلق عليه اليمنيون الطريق الصيني، فقد قام الصينيون بشقه وتعبيده ورصفه أيام الإمام أحمد ولولا هذا الطريق الذي ربط الحديدة على ساحل البحر الأحمر بصنعاء لما نجحت الثورة، ويقال إن كبير المهندسين الصينيين الذي أشرف على إنجاز الطريق قد توفي بعد إنجازه في اليمن فأقامت له الحكومة الصينية تمثالا عند مدخل صنعاء، وبعد ثلاث ساعات وصلنا مناخة فقد كان سير السيارة حذراً لكثرة السيارات الضخمة المحملة بالجنود المصريين وبالمؤن والذخائر القادمة من ميناء الحديدة. ومناخة تقع على جبل عظيم الارتفاع وقد حسبته جبل مسار، ذلك الجبل الذي انطلقت منه الدعوة للمذهب الفاطمي سنة 439هـ.

لقد كان الأخوة محسن سري وعبدالله الكرشمي وأحمد بركات يصغون باهتمام لحديثي عن الدولة الصليحية وقد كانوا يظنون أن الأدباء والشعراء لا يهتمون بالتاريخ. والحقيقة أن الاطلاع ع
لى تاريخ الأمة العربية واجب قومي ومن الخطأ أن نتصدر للحديث عن القضايا العربية عن غير علم بتاريخ كل جزء من أجزاء وطننا الكبير.

كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد الظهر بعد الانتهاء من زيارة سير العمل في المدرسة وكان الجوع قد بدأ يدغدغ البطون وسألت الرفاق رأيهم في مواصلة السير نحو الحديدة فليس من الحكمة العودة إلى صنعاء ثم ننطلق منها مرة أخرى لزيارة الحديدة. وقد استحسنوا الرأي على عدم الاستعداد، وفكرنا في الغداء فليس في البلدة مطعم يمكن أن نلجأ إليه، وقر الرأي على شراء خروف صغير من راعي غنم كان يرعى بجوار المدرسة قام هو نفسه بذبحه وتنظيفه واشترينا حزمة حطب وبضعة أقراص خبز وتركنا البلدة وواصلنا السير نحو الحديدة وبعد مسيرة نصف ساعة أقبلنا على شجرة ضخمة يصب قريباً منها شلال من أعلى الجبل مكوناً بركة واسعة، وبدت لي الشجرة من بعد كأنها تحمل أثمارا تشبه البرتقال وبعد الاقتراب منها رأيت العجب العجاب، فجميع أطراف أغصان الشجرة ثبتت فيها أعشاش محكمة الصنع لطيور صغيرة صفراء جميلة فحططنا تحت الشجرة وأشعلنا الحطب ونزل الرفاق الثلاثة يسبحون في البركة تحت الشلال، بعد أن تم وضع الخروف على الجمر مرفوعاً على صخرتين كبيرتين، وبقيت مشدوهاً بمنظر واحد من هذه العصافير النشطة الذكية، فقد شاهدته يجلب الطعام لصغاره الثلاثة بعزيمة لا تكل، كان يختفي بضع دقائق ثم يعود وفي منقاره الغذاء فتمتد إليه أفواه الصغار الثلاثة فيعطي واحداً منها ثم يذهب ويعود ويعطي الثاني ويذهب ويعود ويعطي الثالث، وكلها تصيح فاغرة أفواهها تطلب الأكل وهو لا يخطئ، وكان الجو جميلاً والرذاذ ينعش النفس، والجبال والسهول خضراء تأسر القلوب، وفكرت طويلاً في ذكاء هذا العصفور وفي اختياره آخر الأغصان لربط عشه فيها، فهو لم يفعل كما تفعل الحمامة حين تبيض على عش مفكك مبعثر، سرعان ما تقذف به الرياح إلى الأرض، أو يكون عرضة لغزو الزواحف والطيور الكبيرة وإنما اختار آخر الأغصان ليمنع وصول الأذى إلى بيضه وصغاره، فلا الطيور الكبيرة تستطيع الوقوف على آخر الأغصان، ولا الزواحف تستطيع أن تزحف إلى طرف الغصن، والرياح مهما اشتدت فلن تستطيع أن تجلب الأذى إلى العش وما فيه، فقد أحكم صنعه على نحو يثير الإعجاب، وفي لحظة التأمل سمعت حمامة تنوح على جذع شجرة يابسة فقلت لنفسي قد تكون تندب صغارها، فهي ليست ذكية كهذا العصفور الذي احتاط لجميع الأخطار.. وبصورة عفوية أخرجت القلم وبدأت أناجي العصفور الأصفر والرفاق مشغولون بالسباحة في بركة الشلال. وقد نشرت القصيدة في مجلة العربي، وأقيمت لها ندوة أدبية في تلفزيون صنعاء في شتاء 1977 وهي مقررة على طلاب المدارس هنا، ومطلعها:

يا طير يا عصفور يا أصفر مالي إلى غيرك لا أنظر؟!

يهنيك ما يسبي وما يسحر
ومنظر يزرى به منظر

يا طير يا عصفور يا أصفر 

لم تكتمل القصيدة في الوقت الذي شويت فيه الخروف، فسهرت على تشذيبها في فندق الأخوة بالحديدة، وكانت الحديدة كعادتها شديدة الحرارة والرطوبة، وقد وصلناها مع الغروب، وفي الحديدة ماء نقي صالح للشرب، قيل لي إن الروس يشرفون عليه، وكذلك الحال في تعز، فقد قدم الأمريكيون عوناً للمدينة حين اهتموا بتنقية المياه وإسالتها إلى المنازل، أما صنعاء فقد حرمت من الماء النقي، لذلك كنت ألجأ إلى شرب المياه الغازية خوفاً من الأمراض، فالمنازل في صنعاء تشرب من آبار حفرتها لهذا الغرض، وهذه الآبار عرضة للتلوث برشح البواليع، وقد علمت أن مشروع مياه صنعاء يتم تنفيذه اليوم بسرعة، بعد أن كبرت المدينة واتسعت وارتفعت فيها العمارات والفنادق الجيدة، وازداد استهلاك الناس من الماء. إن الحديدة حين زرتها في ذلك التاريخ كانت بلدة صغيرة كئيبة، أكثر بيوتها من الزرائب المقامة من القصب أو أغصان الأشجار اليابسة، وهي اليوم مدينة مزدهرة، مبانيها حديثة ومتاجرها كثيرة والحركة فيها لا تنقطع حتى الفجر، إن مقارنة حالة مدن اليمن الثلاث صنعاء والحديدة وتعز بما كانت عليه عند اندلاع الثورة تبين مدى الانتصار الذي حققه هذا الشعب في شتى المجالات، إنني لن أنسى أولئك الشيوخ والنساء والأطفال الذين خرجوا للسلام علينا في مناخة، وهم فرحون ببناء مدرسة في بلدتهم، فلقد شاهدوا لأول مرة في حياتهم بناء المدرسة التي كانت حلما من الأحلام، إن الخطة التي نفذتها الكويت منذ بداية الثورة في مجال تشييد المدارس والمستشفيات خطة حكيمة تدل على وعي الكويت القومي وإيمانها بالمصير العربي المشترك، فلقد تدرج مكتب الكويت في صنعاء في تنفيذ بناء المدارس فبدأ بالمدارس الابتدائية ثم المتوسطة ثم الثانوية، وفي السنوات الأخيرة انصب الاهتمام على مباني الجامعة بعد أن وصل تلاميذ الثورة إلى أبواب الجامعة، وجامعة صنعاء اليوم من الجامعات المشهورة في الوطن العربي. إن التغيير لم يقتصر على المدن الثلاث وإنما شمل المدن والقرى والأرياف بصورة عامة، فالتعليم منتشر والحركة العمرانية في كل مكان، والازدهار واضح أشد الوضوح. وفي صباح اليوم التالي زرت
مدرستين ومستوصفاً ومسجداً ينفذ بناءها مكتب الكويت، ثم عدت مع الرفاق الثلاثة إلى صنعاء، واجتمعت في المساء في مكتب الكويت بوزير القبائل محمد الرعيني، وبوزير التربية، وبغيرهما من المسؤولين، وبعد العودة من هذه الرحلة الشاقة الممتعة علمت بعودة عبدالله السلال إلى صنعاء فجأة، واضطراب الوزارة برئاسة حسن العمري، ثم سفر العمري والنعمان والإرياني والوزراء إلى القاهرة للاحتكام إلى الرئيس عبدالناصر واحتجاز الجميع هناك سنة كاملة وكان للعاملين بمكتب الكويت نصيب من هذه الهزة، فقد اتهم المهندسان أحمد بركات وعبدالله الكرشمي بالوقوف إلى جانب حسن العمري، فهربا إلى عدن سراً ثم قدما إلى الكويت فعمل الكرشمي مهندساً في وزارة الأشغال الكويتية، وعمل بركات مهندساً في مكتب الكويت في دبي، فتوقف العمل في مشاريع المدارس والمستشفيات، وتوترت العلاقات بين حكومة السلال ودولة الكويت بسبب إغلاق المكتب ومصادرة السيارات، وفي مطلع يناير 1967 تدارسنا الوضع، وقر الرأي على الوقوف على ما لدى المسؤولين في صنعاء فأما أن يستأنف المكتب أعماله خدمة للشعب اليمني الشقيق، وأما أن يصفى حساب المقاولين وينتهي المكتب. وسافرت في أوائل شهر فبراير عن طريق أسمرة، فتعز، لعدم وجود طريق آخر ذلك الحين، ولما وصلت صنعاء طلبت مقابلة عبدالله السلال، فقيل لي إنه في الحديدة يستجم من عناء العمل، وكان علي أن أزور وزير الداخلية المقدم الاهنومي، فالرجل مسؤول عن إغلاق المكتب ومصادرة السيارات، ولقد فوجئت باتهامات باطلة يسوقها الاهنومي للمهندسين الكرشمي وبركات. فزعم أن لديه وثائق تدين نشاطهما المعادي للثورة في اليمن، ولم أستطع السكوت فطلبت منه إطلاعي على هذه الوثائق لتقديمها للمسؤولين في الكويت، فنحن نرفض قبول من يسيء إلى ثورة الشعب اليمني الشقيق، وكان المجلس حافلاً، فارتبك ولم يجد ما يقوله، وقد بدا عليه الإحراج حين قلت: أليس السلال نفسه قد رشح المهندسين بركات والكرشمي لإدارة العمل بمكتب دولة الكويت قبل ثلاث سنوات وقال إنهما من خيرة شباب اليمن النظيف المخلص؟ فكيف يتحول النظيف المخلص فجأة إلى معاد للثورة والوطن؟ وغادرت مكتب الوزير وركبت السيارة واتجهت نحو الحديدة، ولم يكن معي أحد من موظفي المكتب فقد عُين المهندس محمد عبدالله عبدالغني رئيساً لمجلس إدارة مصنع النسيج، وعين المهندس محمد الخطري في وزارة الأشغال بعد هرب الكرشمي وبركات إلى الكويت، ووصلت الحديدة مع الغروب واتصلت من الفندق بالقصر الذي نزل فيه السلال وطلبت المقابلة، فجاءني الرد بأنه في انتظاري، وحين أقبلت عليه وكان جالساً في باحة القصر هب واقفاً وتقدم نحوي مرحباً كأنه يعرفني من زمن طويل، وبعد المقدمات المألوفة طرقت الموضوع بكل صراحة، وكان مصغياً أشد الإصغاء، وما كدت أنتهي حتى قال: سلم على الاخوان في الكويت وقل لهم:«عاد حنا خارجين من العزلة لا نعرف الأصول ولا الدبلوماسية فلا يعتبون علينا»، وأمر بعودة المهندسين الخطري وعبدالغني إلى عملهما بالمكتب وبإعادة السيارات المصادرة، وسمح بسفر عائلتي بركات والكرشمي إلى الكويت. لقد حاول في تلك المقابلة أن يقنعني بصرف النظر عن السيارات المصادرة لتبقى في حوزة الرئاسة، غير أني رأيت أن عودة السيارات ستزيل كل أثر من النفوس، فاقتنع وأصدر توجيهاته بأن يعود المكتب إلى نشاطه من أجل الشعب اليمني المحتاج إلى عون الأشقاء المخلصين.

بقيت في صنعاء بضعة أيام أشرفت فيها على عودة المكتب إلى العمل، واجتمعت بالمقاولين وحثثتهم على مضاعفة النشاط، فأطفال اليمن محتاجون أشد الحاجة إلى المدارس فعهد الأئمة عهد الجهل والفقر والمرض، ولولا الثورة لبقي هذا الشعب سائراً نحو الفناء. لقد كان الإمام أحمد يقول لجلسائه من المقربين «جوع شعبك يتبعك» وأحيانا يقول إن كان الحديث عن التعليم «جهّل شعبك يتبعك» والجوع والجهل يقودان إلى الأمراض فالفناء، ولقد صدقت تلك الطبيبة الفرنسية مؤلفة كتاب (كنت طبيبة في اليمن) حين قالت: إن هذا الشعب سينقرض بعد مائة سنة إن بقي حكم الأئمة. وقد كانت تلك الطبيبة تعمل في قصور أسرة الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين.

عدت إلى زيارة صنعاء في أواخر أغسطس سنة 1967 لتفقد سير العمل، وبعد وصولي ببضعة أيام عاد الرئيس عبدالله السلال من مؤتمر الرؤساء في الخرطوم صيف 1967 فذهبت للسلام عليه، فوجدته مجتمعاً بفريق من كبار الضباط الروس، فترك الاجتماع وجاءني هاشاً باشاً، وأخبرني بأن السوفييت قد أرسلوا إليه بعثة عسكرية لدراسة حاجة اليمن من السلاح، فالجيش المصري بعد نكسة حزيران يستعد للعودة إلى بلاده، وعلى اليمنيين أن يحموا ثورتهم، وحاولت الإيجاز في الحديث غير أنه أخذ يحدثني عما ستكون عليه الحال بعد رحيل المصريين وتنبأ بنهاية عهده، غير أنه أكد أن اليمن قد انطلقت إلى الأمام، ولن تعود إلى الوراء، ولن يعود إليها بيت حميد الدين. ولم تمض بضعة أسابيع حتى حدث ما حدث من تغيير.

لم تكن بيني وبين القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري معرفة
سابقة. وأول زيارة قابلته فيها كانت في مدينة تعز في أواخر أكتوبر عام 1968، فقد انتقل إليها للراحة والاستجمام بعد اشتداد المعارك حول العاصمة، فالقبائل اغتنمت فرصة انسحاب الجيش المصري فشنت هجوماً ضخماً على العاصمة لإسقاط النظام الجمهوري بتأييد من قوى دولية كثيرة، غير أن الجيش اليمني استطاع أن يصد الهجمات وببسالة منقطعة النظير، وهب الصنعانيون يدافعون عن مدينتهم جنباً إلى جنب مع الجيش، وقد هربت البعثات الدبلوماسية من العاصمة وانتقلت إلى تعز. لم أستطع دخول قصر الإرياني بتعز إلا بصعوبة، فقد كان محاصراً بجماهير غفيرة من الأهالي الذين قدموا إليه في تظاهرة كبيرة مطالبين بافتتاح المدارس بعد أن مضى أكثر من شهر على بداية العام الدراسي، وما كدت أسلم عليه حتى شكا من وزراء التربية العرب الذين قابلهم وزير التربية اليمنية وطلب منهم مساعدة بلاده بالمدرسين فوعدوا بإرسالهم في بداية سبتمبر ثم مضى الوقت ولم يرسل هؤلاء القادة أحداً، وقد أشرت عليه بإرسال ثلاث برقيات إلى قادة القاهرة ودمشق وبغداد يناشدهم فيها أن يرسلوا المدرسين الذين تم الاتفاق بصددهم فاستصعب الأمر، ولكنني أكدت له أن عملاً كهذا يدخل في صميم أعمال هؤلاء القادة فاستدعى الأستاذ محمد أنعم وطلب منه كتابة البرقيات الثلاث، وقد جاء الرد من الرؤساء الثلاثة بأنهم قد أصدروا الأمر إلى وزاراتهم بسفر المدرسين في الحال. بقيت بتعز بضعة أيام تفقدت خلالها المدارس التي يشرف على بنائها مكتب دولة الكويت في صنعاء، وقصدت مدينة زبيد والحديدة للغاية نفسها، ولكني لم أستطع الوصول إلى صنعاء، فالمعارك حولها تجعل الوصول إليها متعذراً، وفي تعز قابلت الآنسة دعرة بطلة ردفان، والآنسة دعرة لم تلبس ملابس الفتيات منذ الصغر وأصرت على ارتداء ملابس رجال القبائل، وتعودت حمل السلاح والمشاركة في المعارك مع أفراد قبيلتها. وحين ثارت قبائل ردفان على الإنجليز كانت دعرة من أنشط الثوار. وفي إحدى الغارات الجوية البريطانية على قرية ردفان أصيبت دعرة بشظية قنبلة فنقلت إلى تعز مقر ثورة الجنوب، فأرسلها المصريون مع من أرسلوا من الجرحى بطائرة عسكرية إلى القاهرة، وقرر الأطباء إجراء جراحة للآنسة دعرة وطلبوا نزع ملابسها فأبت بشدة لأنها لا تريد أن يطلع أحد على حقيقتها، ولكن كل شيء قد تم بعد التخدير، وليس في دعرة ما يوحي بأنها من الجنس اللطيف، فلقد استطاعت أن تتحول في الشكل إلى الجنس الخشن، وكان لها ما أرادت، أما الاسم فقد جاء متفقاً مع الشكل، فأبناء اليمن يسمون أنثى الضبع دعرة، والآنسة دعرة لم تتجاوز الحد حين قبلت هذا الاسم.

وفي صيف 1971 بلغ الاقتتال بين الشمال والجنوب ذروته وحينما قصدت الشطرين لتفقد مشاريع الكويت زرت تعز وقصدت رئيس مجلس الرئاسة القاضي عبدالرحمن الإرياني للسلام عليه وقد رجوته أن يوقف القتال، فليس من المعقول ولا المقبول أن تستمر تلك الحرب، فأقرني على ذلك وطلب مني طرح الموضوع على رئيس مجلس الوزراء محسن العيني حين أجتمع به في صنعاء وقصدت صنعاء وقلت لصديقي الأستاذ محسن العيني إن الأستاذ محسن العيني لا يصلح لهذه المهمة فأطرق ثم قال وماذا ترى؟ قلت تصدر أمرك بوقف القتال. وأصدر أمره وتوقف القتال، وانتشر الخبر وقابلني بعض رؤساء القبائل بغضب شديد.

بقي الحمدي في الحكم أكثر من ثلاث سنوات كان خلالها متفهماً لرسالة الكويت القومية، شأنه شأن غيره من المسؤولين اليمنيين الذين يقدرون إخلاص الكويت في ما تعمل، وكان يحاول أن يذلل أية صعوبة تعترض عمل مكتب دولة الكويت في صنعاء، ولقد حدثت بعض الصعوبات في إدارة جامعة صنعاء حين كانت الإدارة غير يمنية. ولما كنت أمثل الهيئة العامة التي تمد الجامعة بأعداد من الأساتذة والفنيين والإداريين وتزودها بالمختبرات والكتب فقد اقترحت على الرئيس الحمدي أن يعين مديراً يمنياً للجامعة، لتهدأ الأمور ويستتب النظام وتمضي الجامعة قدماً نحو الأمام، فوافق رحمه الله على الاقتراح، وعين الدكتور حسن مكي من رؤساء الوزارات السابقين رئيساً للجامعة، ثم اختلف معه وعين الدكتور عبدالكريم الإرياني وزيراً للتربية ورئيساً للجامعة، دون أن أعرف الأسباب التي دعته إلى ذلك وقد استقرت أمور الجامعة وانتظمت فيها الدراسة غير أن الإرياني ترك الوزارة والجامعة في أواخر ربيع 1978م لأسباب لا أعرفها. لقد فعلت مثل هذا في مستشفى دولة الكويت بصنعاء فعينت طبيباً يمنيا لإدارة المستشفى، ليكون حكماً عدلاً بين الأطباء وهيئة التمريض وأكثرهم من المصريين، ومستشفى الكويت في صنعاء مفخرة للتعاون الأخوي بين دولة الكويت وبين الجمهورية العربية اليمنية وله فرع في مدينة باجل في سهل تهامة، وبعد رحيل الحمدي زرت صنعاء شتاء 1978م وقابلت المرحوم المقدم أحمد حسين الغشمي، رئيس مجلس الرئاسة، وكان الحديث عن المباني الجديدة لجامعة صنعاء وعن المستشفى، وما زالت أذكر قوله: إني أريد نصيحتك فانصحني بما تعتقد أنه الصواب، وكان ردي: إنك ابن اليمن والمثل يقول أهل مكة أدرى بشعابها، فأنت
أعلم بمشاكل هذا الشعب وأدرى بما يريده منك المخلصون من أبنائه، وبهذا الرد تجنبت الخوض فيما لا يعنيني، وأديت النصيحة كما يجب أن تؤدى في الوقت نفسه، ولقد مضى الرجل إلى سبيل ربه، ومضى معه في الدرب نفسه من قيل إنه دبر الاغتيال، وإني لأكتب هذه الأسطر في صيف سنة 1978 وأنا بلندن والصحف العربية تحمل إلي أنباء محزنة عن توتر شديد في العلاقات بين شطري اليمن، ولا أملك إلا الابتهال إلى الله أن يجنب العرب المآسي والويلات، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً. إن اليمن بشطريه محتاج أشد الحاجة إلى الهدوء والاستقرار، ليمضي قدماً في البناء ويتلافى ما فات، فليس من العدل أن تتصارع الدول الأجنبية في اليمن، وليس من العدل أن تتصارع الدول العربية فيه أيضا، إن اليمن بشطريه يجب أن يمد يده إلى الجميع، فلا يجوز أن ينحاز إلى الشرق ولا يجوز أن ينحاز إلى الغرب، وعلى اليمن بشطريه أيضاً أن يبتعد عن التكتلات العربية فهو محتاج إلى عون جميع الأشقاء ولا سيما عون المملكة العربية السعودية.

وفي يناير من عام 1979 زارني المقدم عبدالله الراعي، سفير الجمهورية العربية اليمنية، في مكتبي بالهيئة العامة، ونقل إلي دعوة رسمية لزيارة اليمن، ودهشت لهذه الدعوة، فأنا مكلف بتفقد سير العمل في المشاريع التي تنفذها الكويت في القطر الشقيق، وسفري إلى اليمن جزء من واجب الوظيفة، فلم الدعوة الرسمية؟ وبقيت أفكر وأخذني التفكير إلى الاعتقاد بأن المسؤولين يودون إطلاعي على الخلاف المشتد بينهم وبين إخوانهم في جنوب اليمن، وقررت السفر إلى صنعاء في مطلع شهر شباط (فبراير) 1979م وكان الاستقبال حاراً، والحفاوة تجاوزت ما ألفت في الزيارات السابقة وازداد رسوخاً في ذهني موضوع الصراع بينهم وبين إخوانهم الجنوبيين وفي هذه الزيارة تعرفت على زمرة كريمة في دعوات الغداء الرسمية من الشعراء والأدباء وكانت تمتد الجلسة - جلسة القات التي تعقب الغداء - حتى الساعة الثامنة مساء وكان للغناء والعود والرقص اليمني نصيب في هذه الجلسات الأدبية الفريدة. ولا أستطيع حصر أسماء أولئك الأعلام، وهم من هم في الأدب والشعر والسياسة والاقتصاد والعلوم.

وفي يوم العودة وقبيل إقلاع الطائرة بساعتين رن جرس الهاتف، وتحدث مدير المراسم بالقصر الجمهوري مع مدير مكتب دولة الكويت بصنعاء، وطلب منه إبلاغي رغبة رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح في المقابلة، فقمت مسرعاً إلى السيارة وانطلقت إلى القصر الجمهوري لمقابلة هذا الشاب الذي قفز إلى الصدارة دون أن يحظى بالأضواء قبل ذلك، وقادني مدير التشريفات إلى مكتب الرئيس، فاستقبلني استقبالاً كريماً، وكان في المكتب وزير الخارجية الأستاذ عبدالله الأصنج والأستاذ أحمد المقدمي وزير التربية والتعليم، وتحدثنا في مواضيع شتى وكان قد ابتدأ الحديث عما قدمت الكويت من واجب أخوي نحو ثورة اليمن فقال: لئن كانت الشقيقة الكبرى مصر قد قدمت الرجال لنصرة ثورة اليمن عام 1962 ووصل عدد جيشها العامل إلى سبعين ألف مقاتل مع ما قدمت من خبراء لتنظيم الإدارات والوزارات، فإن الكويت قد هبت في ذلك التاريخ لبناء المدارس والمستشفيات، ووقفت إلى جانب الثورة، ونهضت بواجبها القومي وسارت في بناء المدارس من القاعدة إلى القمة، وها هي جامعة صنعاء بكلياتها وأساتذتها ومكتباتها ومعاملها تنطق بما تقدم الكويت لشعب اليمن من عون أخوي نزيه، يضاف إلى هذا مستشفى الكويت في صنعاء، وهو من أرقى المستشفيات في اليمن، تتولى الكويت إدارته والإنفاق عليه، وأشياء كثيرة لا يأتي عليها الحصر، وقد حذا الأشقاء الآخرون حذو الكويت في المساعدة، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية. وقد عقبت على هذه التحية بقولي إن الكويت ما زالت تعتقد أنها مقصرة.

ثم انتقل الحديث إلى الاحتكاك المستمر على الحدود بين اليمنين وقلت ما يجب أن يقال ولا داعي إلى إثباته في هذه الخواطر، محذراً مما يحيكه الاستعمار من دسائس لليمن شماله وجنوبه، وحين هممت بالانصراف قدم إلي الرئيس وسام مأرب، وكانت مفاجأة غير محسوبة، فأنا لا أضع مثل هذه الرموز نصب عيني حين أعمل في أي ميدان من ميادين الخدمة القومية، وأحس الرجل بالحرج الذي أصابني فقال: يجب أن تعلم أني لا أعرفك من قبل فقد كنت أسمع عنك من الكثيرين، فأنا رجل عسكري قضيت السنوات في الوحدات العسكرية، غير أني باسم الشعب اليمني قررت تكريمك بهذا الوسام تقديراً لما قدمت لشعبنا من خدمات، وأرجو أن تقبل التكريم، ولم أجد بداً من قبول تكريم الشعب الذي اعتبرته تكريماً للكويت الحبيبة الغالية، وعدت إلى الوطن وطلبت من المسؤولين أن يتدخلوا قبل أن يتفاقم الخطب، وتدخلت الكويت، واجتمع الرئيسان علي عبدالله صالح وعبدالفتاح إسماعيل في الكويت، ليتفقا على وقف الحملات الإعلامية وتسلل المخربين.

ويجول في ذاكرتي وأنا أكتب هذه الخواطر ذلك المساء الذي أعلن فيه الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت التبرع ببناء كلية طب عقب المباحثات في صنعاء مطلع عام 1981 وفي اليوم التالي حين كنا في جمهورية
اليمن الديمقراطية قال للرئيس علي ناصر محمد لماذا الدوران هكذا حتى نصل من عدن القديمة إلى الساحل المسمى جولدمور أليس بوسعنا أن نشق طريقاً بين الجبال للوصول بسرعة، ففرح الجميع بذلك وأمر الشيخ جابر بتنفيذ المشروع وقد كان.

بعد الانتهاء من اجتماع لدراسة المشاريع التي تنفذها حكومة الكويت في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية قال السيد حيدر العطاس وزير الإنشاءات وأنا في مكتبه بالوزارة القريبة من المطار في خورمكسر: إلى متى تتهيب زيارة حضرموت؟ إن الطريق مبلط إلى المكلا والسفر بالسيارة مريح والطائرات القديمة خرجت من الخدمة، فلدينا اليوم طائرات كندية جديدة ذات أربعة محركات، فأنت تستطيع أن تختار الوسيلة التي تريد. قلت إن شوقي إلى زيارة حضرموت بقسميها الساحلي والداخلي شوق عظيم غير أن حادث الطائرة الذي أودى بحياة خمسة وعشرين دبلوماسيا من بينهم وزير الخارجية قبل سنوات وهم في طريقهم إليها من عدن قد جعلني أؤجل الزيارة، ولا أجد ما يحول دون القيام بها اليوم إن كان الأمر كما وصفت، فتفضل السيد مشكوراً وطلب من كبار موظفي الوزارة أن يتصلوا بمحافظ حضرموت في المكلا ليخبروه بمقدمنا إليه مساء يوم 1982/12/20م عن طريق البر. 

وقي الثامنة من صباح الاثنين غادرنا مكتب دولة الكويت في خور مكسر فكنت مع السيد حيدر العطاس في سيارة مرسيدس جيدة، وكان مدير المكتب ورئيس المهندسين في سيارة «جيب» حملت الغداء والماء وعدة الشاي، وبعد أقل من ساعة دخلنا بلدة زنجبار فهي لا تبعد أكثر من ثمانين كيلو مترا إلى الشرق من عدن ذات بساتين ومياه عذبة كثيرة، وبعدها شقرة وهي لا تختلف عن زنجبار في شيء فالأرض خصبة والمياه والأشجار كثيرة، ولا تبعد عن زنجبار بأكثر من أربعين كيلومتراً. وهاتان البلدتان مشهورتان في محافظة أبين ولقد تحدثت وكالات الأنباء كثيراً عن محافظة أبين المحافظة الثالثة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أثناء المعارك المفجعة التي وقعت بين الأشقاء في شهر يناير 1986، وبعد شقرة أطلت علينا بلدة مودية وهي على بعد مائتي كيلو متر من عدن، وبعد مودية المحفد ثم النقبة فحبان، وحبان بلدة ذات قصور منيفة متناثرة مبنية من اللبن، وتبعد عن عدن زهاء ثلاثمائة وخمسين كيلو مترا وهي مركز مهم في المحافظة الرابعة، فيها واد كبير فيه زروع وأشجار ضخمة أكثرها من شجرالسدر أو العلب كما يسمى هناك والسمر والعشر متناثر حول تلك القصور وحين رأيت السمر تذكرت قول امرئ القيس في معلقته:

كأني غداة البين يوم ترحلوا 

لدى سمرات الحي ناقف حنظل 

أما العشر فقد تذكرت الفنطاس في السنين الخوالي ولمع في خاطري قول الحسن بن هانئ.

دع الأطلال تسفيها الجنوب 

وتبكي عهد جدتها الخطوب 

ولا تأخذ عن الأعراب لهوا 

ولا عيشا فعيشهمو جديب 

بأرض نبتها عشر وطلح 

وأكثر صيدها ضبع وذيب 

إلى آخر ما جادت به قريحته من مزح عذب رقيق

ولقد بلغنا حبان في الواحدة والنصف ظهرا فشعرنا بالجوع والتعب والرغبة في الاستراحة، فاخترنا شجرة ضخمة من أشجار العلب، فحططنا طعامنا تحتها وأكلنا هنيئاً وشربنا الشاي بعد ذلك مريئاً، وما كدنا نستعد لمواصلة السير حتى أقبل علينا بدوي شد الخنجر في وسط على إزار ولف على رأسه عمامة ذات ألوان تدلى خلف رقبته أكثرها ونصف جسمه عار لا يستره شيء فسلم علينا وسأل بلهجته البدوية وعباراته العربية الصحيحة من الأخوان؟ فرد عليه السيد حيدر العطاس نحن من هنا من أبناء الجمهورية فضحك البدوي وقال: لستم من هنا أنا وأمثالي من هنا، انظر إلى يدي إنها يد كادح، أما أنتم فلا يظهر عليكم التعب ولا الشقاء، فدهشنا من كلامه واضطر السيد العطاس أن يقول له: أنا حيدر أبوبكر العطاس وزير الإنشاءات وهذا أحمد السقاف المسؤول عن المساعدات المقدمة من حكومة الكويت لبلادنا، وهذا مدير مكتب دولة الكويت في عدن وهذا مساعده رئيس المهندسين في المكتب فرفع يده إلى رأسه وهو يقول الكويت على رأسي هي الدولة الحبيبة لقد وقفت إلى جانبنا من أول يوم رحل فيه الإنجليز بنية صادقة صافية، فتملكنا العجب من ذكاء هذا البدوي ووعيه وهو في مكان ناء عن المدن كهذا المكان.

ثم طلب منا بإلحاح أن نكون ضيوفه على الغداء، فلديه شاة يستطيع أن يذبحها ويشويها في ساعة واحدة، فلن يطول بنا الانتظار، ولن نتأخر كثيراً إذا ما قبلنا الدعوة، فشكرناه وأطلعناه على بقايا الأكل فأسف كثيراً على ضياع فرصة الضيافة فودعناه شاكرين، وانطلقنا نحو قرية ابن سعد ثم قرية الغرير وفيها واد مزحوم بمراعي الإبل وأشجار النخيل ثم إلى عزان وميفعة وكلها في المحافظة الرابعة إلى الشرق من عدن بمحاذاة البحر العربي ذي الساحل الرملي النظيف الجميل الخلاب ومررنا بعين بامعبد وهي قرية ذات مياه حلوة ونخيل وزروع وإن كانت الرمال قد زحفت إلى أكثر البيوت ومنها إلى قرية بلحف وكانت في الماضي عاصمة السلطان الواحدي، وهي تقع إلى يمين المسافر إلى المكلا، حولها جبال بركانية سوداء ثم بلغنا حصن الغراب وهو جبل بركاني داخل البحر قرب نهاية الم
حافظة الرابعة فيه بيوت قديمة منحوتة يتصل طرفه بالبر والمنطقة كلها أحجار سوداء لا نبت فيها.

وكانت بئر علي على الحدود الوهمية الفاصلة بين المحافظتين الرابعة والخامسة، وبئر علي قرية صيادين تنتهي عندها المحافظة الرابعة وتبدأ بعدها المحافظة الخامسة حضرموت ذات التاريخ العربي الضخم!

وعلى بعد ستين كيلو متراً من المكلا قابلتنا بلدة ميفع حجر وهي تشرح الصدر بأشجارها ومراعيها وكثرة البطيخ فيها ووادي حجر الشهير يمر في هذه البلدة وفيه أكثر من نصف مليون نخلة والبلدة عامرة تدب فيها الحياة وقد اشترينا من سوقها ثلاث بطيخات ومشينا على الأقدام قليلا بين بائعي الفواكه في ذلك الوادي الجميل لنريح أجسامنا بعد عناء ركوب السيارة وإن كان ذلك العناء قد مر دون أن نشعر به بفضل محاضرة عن الإسلام والدولة، فلقد دارت الأحاديث حول المحاضرة بيني وبين السيد العطاس بعد أن انتهى شريط التسجيل، وبعد ميفع حجر وصلنا وادي فوة، وفيه مستشفى كبير نهضت ببنائه وتجهيزه دولة الكويت وهو من مشاريع الهيئة العامة للجنوب والخليج العربي يعرف بمستشفى المكلا العام، وبقرب المستشفى معهد تجاري وكلية للمعلمين يبنيهما البنك الدولي، ولم نتوقف لمشاهدة المستشفى فقد كان متعبين فأجلنا زيارته إلى صباح اليوم التالي ونزلنا دار الضيافة في الرابعة والنصف مساء، وتقع الدار على قمة ربوة عالية وقد بنيت حديثاً، وهي تطل على البحر العربي وتبعد عن مدينة المكلا بضعة كيلومترات وفيها خدمة جيدة وطعام جيد، وكان في استقبالنا محافظ حضرموت الأخ محمد علي باشماخ وهو شاب مهذب لاقى الكثير من الشدائد أيام حكم سالم ربيع علي وكان معه أيضاً الأخ صالج بازنبور مدير الخدمات الصحية في حضرموت وقد تخرج في جامعة بغداد ودرس في بريطانيا بعد ذلك وهو مرح خفيف الظل يجيد الرقص الشعبي إذا ما رن العود بأنغامه الشجية، وبعد قليل من الاستراحة في مبنى الاستراحة خرجت مع الأخ المحافظ في سيارته لمشاهدة مدينة المكلا في الليل، والمكلا محصورة بين جانبي خور صغير تحول دون اتساعها وامتدادها الجبال من الجانبين، وفي التاسعة عدنا إلى الاستراحة للعشاء وبعدها قصد كل واحد منا حجرته للنوم فقد تعبنا كثيراً أثناء النهار
https://t.me/taye5
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
هدف اللاعب اليمني على محسن المريسي في شباك ريال مدريد

https://www.facebook.com/groups/269252359873109/permalink/1436530786478588/
شهداء اليمن الذي استشهدوا في مكه ذهبوا لقتل الملك عبدالعزيز انتقام لقتل الحجاج اليمنيين الذي قتلهم نظام ال سعود من اليمين:
مبخوت الحاضري
النقيب علي صالح الحاضري
علي الحاضري
ورجعوا سالمين
صالح الحاضري وعلي الحاضري
(الحاضري .....
والحاضر الله )