اليمن_تاريخ_وثقافة
10.7K subscribers
142K photos
348 videos
2.17K files
24.6K links
#اليمن_تاريخ_وثقافة ننشر ملخصات عن تاريخ وثقافة اليمن الواحد الموحد @taye5
@mao777 للتواصل
Download Telegram
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
#اليمن_تاريخ_وثقافة
بلقيس التاريخ والأساطير


الزمن الذي ادُّعي فيه أن العرب لم تعرف أي حضارة قبل الإسلام مضى بعد أن أثبتت التنقيبات الأثرية عن قيام عدة ممالك، بمعنى دول بالتعبير المعاصر، جنوب غربي شبه جزيرة العرب وجنوبيها، إضافة إلى مجتمعات مماثلة في غربيها، أي في بلاد الحجاز.
العرب أنفسهم لم يعرفوا أنفسهم باسم إثني جامع [يرادفه في اللغة الإنجليزية الحديثة مصطلح (panethnicity) المستحدث في أوائل تسعينيات القرن الماضي، والأفضل، في ظننا، من المصطلح (جنس/‌‏ race).
أما موقع بلاد العرب وجنوبيها الذي عُرف لدى الإغريق والرومان، بما يعني بالعربية «بلاد العرب السعيدة» المتميز في العصور القديمة، فمن الأمور المعروفة الآن ولا جدال في هذا، ذلك كله كان بسبب تحكمها في طرق التجارة بين الشرق والغرب واحتكار أهلها إنتاج وتجارة اللبان والبخور، الذي كان يعرف بأنه «طعام الآلهة ambrosia»، إضافة إلى تجارة التوابل، وغيرها من المنتوجات الثمينة الغرائبية من منظور الغرب، مع آسية في تلك العصور، وإطلالتها على كل من البحر الأحمر والتحكم في مضيق باب المندب، وكذلك على بحر العرب، 
إضافة إلى العلاقات مع مختلف أقاليم البلاد وممالكها، بما منحها 
تحكم في طرق المواصلات البحرية. 


«بلاد العرب السعيدة» شهدت ولادة ممالك 
عديدة قوية تركت آثارها إلى الآن، منها حِمير وعاصمتها شبوة، وقتبان وعاصمتها تمنة، ومعن وعاصمتها قرناو، وغيرها، لكن ما يهمنا لهذا المقال هو سبأ وعاصمتها مأرب.
وعرف الإقليم قيام ممالك تحكمها نساء حيث تضع النقوش العائدة للملك الآشوري سرجون الثاني (716 ق ت س) وخليفته سنحاريب، كرب إيل ملك سبأ جنباً إلى جنب مع ملك مصر وملكة العرب.
ما يهمنا أيضاً في هذا المدخل هو آلهة العرب الجنوبيين الرئيسة، التي عُثر على آثارها في كل أنحاء بلاد جنوب المتوسط وشرقه، إضافة إلى جزيرة ديلوس اليونانية، وتم ربطها ببلقيس.
فها هو الهمداني يقول: «اسمها يَلمَقَة، على وزن يعملة، وتفسيره: زُهرَة؛ لأن اسم الزُّهرة في لغة حِمْيَر: يَلمَقَة وألمَق، واسم القَمَر: هَيْس»، لكنه أخطأ في هذا، إذ إن الحفريات ذات العلاقة تفيد بأن القمر وليس كوكب الزُّهرة عرف في السبئية باسم (ألمَقَة).
لكنَّ الإخباريين العَرَب عرفوا بَلْقيس- مَلِكَة سَبأ، بعدة أسماء أخرى هي بلقمه، بلقمة، بلقه، يلقمة، يلمقة، ألقمة، وألمقه... إلخ.
الرواة اختلفوا أيضاً في وطن بلقيس فهو أيرم، وسبأ وصِرواح، وسلحون، وغيرها.
واختلفوا أيضاً في تحديد مكان دفنها، حيث نجد أن بعضهم، مثل ابن الأثير (توفي عام 1232 التاريخ السائد - ت س)، يقول: إن ذلك كان في تَدْمر، بينما يشدِّد الهمداني صاحب ‹الإكليل› على أنها دُفنت بمَأْرِب.
ومن الأمور البديهية لي، أن الإخباريين العرب عرفوا أكثر من «بلقيس» وأكثر من نسب، بل هناك من الرواة من نفى صحة الاسم بلقيس، ومنهم من رفض رفضاً قاطعاً الادعاء بأنها من الجن، وما إلى ذلك من الأساطير والميثولوجيا، وهناك منهم من رفض حتى القول: إن اسمها يلمقه... إلخ.

روايات عن بلقيس
المساحة المتوافرة لنا لا تسمح بمزيد من الإسهاب في هذا المدخل، لذا ننتقل الآن إلى بعض الروايات عن بلقيس، مع التركيز على المقاطع التي تساعدنا في فهم التناقضات والاختلافات آنفة الذكر، وتمييز الرواية من القصة، ومن التاريخ، ومن الأسطورة والميثولوجيا. روايات عن بلقيس تقول:
لما ولي عمرو ذو الأذعار، أمه العيوف بنت الرابع الجِنيّة المُلك في حِمْيَر قهر الناس وذعرهم بالجور، فلا رفق لقريب ولا بعيد، وأسرف على العَرَب بالسلطان، وشرَّد الناس ووسم من سخط عليه بالنار من أبناء المُلُوك، وبدّل على الناس السيرة التي كانوا عليها يُعْرَفون، ذُعِرَ الناس منه ذعراً شديداً، وبه سُمِّي عَمْراً ذا الأذعار. وكان يزني ببنات المُلُوك من حِمْيَر، فَيُؤتْى بهن أَبكاراً وغيرَ أبكار، فكن يَشْربنَ معه الخَمْر وكان ينادمهن، ثم يُصيبُ منهن حاجته. فلما فعل ذلك بحِمْيَر كرهوا أيامه وأبغضوا دولته...
.. ثم رجع عمرو ذو الأذعار إلى غمدان ورجع شرحبيل بن عمرو إلى بينون، وأقام هناك في الُملْك عاماً، ثم مات. وولي ابنه الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو، وهو الهدهاد أبو بَلْقيس المَلِكَة باليمن، وكان الهدهاد بن شرَحبيل رجلاً شجاعاً حازماً. وقيل: هو الهدهاد (هَدَاد أو هدَّاد) بن شرح بن شرحبيل بن الحارث بن الرايش. وقيل: هو شرحبيل بن عمرو... بن يعفر بن سكسك. وقيل: هو الهدهاد بن ذي شرح بن ذي جدن.. بن يعرب بن قحطان... 
[لنقطع السرد هنا ونتذكر قول ابن حزم الأندلسي: «وفي أنسابهم اختلاف وتخليط، وتقديم وتأخير، ونقصان وزيادة. ولا يصح من كتب أخبار التبابعة وأنسابهم إلا طرف يسير، لاضطراب رواتهم وبُعدِ العهد» - ز م]. 
واختلفوا في سبب وصوله إلى الجِن حتى خطب إليهم، فقيل: إنه خرج للصيد فنظر إلى شجاع أسود عظيم هارب، وفي طلبه شجاع رقيق أبيض فأدركه فاقتتلا حتى لغبا [أي: تعبا] ثم افترقا، ثم أقبل الشجاع الأبيض إلى ال
هدهاد فتشبث بذراع ناقته حتى بلغ رأسه إلى كتفها ففتح فمه كالمستغيث، فرد الهدهاد يده إلى سقائه. فصب الماء في فيه حتى روي، ثم عطف في طلب الأسود فأدركه فاقتتلا طويلاً فلغبا فافترقا، وأقبل الشجاع الأبيض إلى الهدهاد كما فعل أولاً كالمستغيث فصب الهدهاد الماء في فيه حتى روي، ثم أقبل على الأسود وأخذه، فلم يزل الأبيض حتى قتل الأسود، ثم مضى على وجهه حتى غاب عنه. 
ومضى الهدهاد إلى شِعْب عظيم فاختفى فيه، فبينما هو مستتر بشجر أراك، إذ سمع كلاماً فراعه ذلك فسلَّ سيفه، فأقبل إليه نفر من الجان حسان الوجوه عليهم زيٌّ حسن فدنوا منه فقالوا: عِمْ صباحاً يا هدهاد. لا بأس عليك، وجلسوا وجلس. فقالوا له: أتدري من نحن؟. قال: لا. قالوا: نحن من الجِن ولك عندنا يد عظيمة. قال: وما هي؟ قالوا له: هذا الفتى أخونا من أبناء ملوكنا هرب له غلام أسود فطلبه فأدركه بين يديك فكان ما رأيت وفعلت، فنظر الهدهاد إلى شاب أبيض أكحل في وجهه أثر خدش. قال له: أنت هو؟ قال: نعم، قالوا له: ما جزاؤك عندنا يا هدهاد إلا أخته نزوِّجها منك.
وفي رواية أخرى أنه كان لهجاً بالصيد فربما اصطاد الجِن على صورة الظباء، وأنه رأى أن يخلي عنهن، فظهر له ملك الجِن وشكره على ذلك، واتخذه صديقاً فخطب ابنته فأنكحه على أن يعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن، وهي رواحة بنت سكن. وقال كثير من الرواة: إن أمها جنّيّة ابنة ملك الجِن، واسمها رواحة بنت السكر. وقيل: اسم أمها بلقمة بنت عمرو بن عمير الجِني، وقيل أيضاً: اسمها ريحانة بنت الشكر، وقيل: هي من الجِن، ويقال لها يلغمة بنت شيصبان. 
.. ثم جمعت الجيوش العظيمة وسارت إلى مكة فاعتمرت، ثم توجهت إلى أرض بابل فغلبت على من كان بها من الناس، وبلغت أرض نهاوند وأذربيجان والصين، ثم قفلت إلى اليمن.
ومن الأعمال العمرانية التي قامت بها بَلْقيس ورفعت مجدها إلى أبعد صيت، ترميمها سد مَأْرب الذي كان الزمان قد أضره وخلخل أوصاله. وينسب إليها أيضاً قصر بَلْقيس الذي بمَأْرِب، وكان سُليمان ينزل عليها حين تزوجها فيه إذا جاءها. قالوا: فلما ملكت بَلْقيس اتخذته قصراً وعَرْشاً.
في نص واحد
الآن، وقد عرضنا بعض الروايات العَرَبية ودمجناها في نص واحد، يتبيَّن، بلا شك، أننا إزاء مزج بين عدة قصص وشخصيات رُبط كل منها ببَلْقيس. 
المهم الآن تأكيد الآتي: ثمة من الرواة من يرفض أصول بَلْقيس الجِنية رفضاً قاطعاً، بينما نجد من يتمسك بذلك. ونحن نظن أنه وجد في بلاد العَرَب حكاية تناقلها العَرَب تقول: إن بَلْقيس مَلِكَة سَبأ، كانت من الجِن، وهذه هي بَلْقيس الأُسْطُورة والخُرَافة أي الميثولوجيا. وثمة اختلاف في اسمها ونسبها ووضعها الاجتماعي سببه المزج بين أُسْطُورة بَلْقيس وقصة مَلِكَة سَبأ، وهذه بَلْقيس القصة والرواية والتَّاريخ، وهناك من ربطها ببابل ونهاوند وأذربيجان والصين... إلخ، وهناك من يتجاهل هذه المسألة، وهذه بَلْقيس[!] الفاتحة. وأخيراً من الرواة من ربط بناء الصروح والقصور في غمدان وسلحين... إلخ، بسُليمان وبَلْقيس، بينما يقول آخرون غير ذلك، وهذه بَلْقيس المعمرة، وهذا الجانب مرتبط بالنقطة السابقة، علماً بأننا نوظِّف بلقيس هنا كاسم جامع ليس غير.
التباينات الجوهرية بين الروايات التي أشرنا إليها، وسردنا قسماً منها تفرض فرز الأُسْطُورة/‌‏ الخُرَافة من مَلِكَة حكمت في سَبأ وأُطْلِقَ عليها اسم أو صفة بَلْقيس، عن قصة أو قصص مَلِكَة أو ملكات أخريات على سَبأ، عُرِفن أيضاً بأن اسمهن بَلْقيس، ثم دُمِجْنَ في شخصيةٍ واحدة عُرِفَتْ بأنها مَلِكَة سَبأ التي أسلمت، وربطت بما جاء في سورة النمل. 
نعود لنذكِّر القراء بحقيقة أن روايات بَلْقيس تحوي أربعة مكونات هي القصة والتَّاريخ والأُسْطُورة والخُرَافة، وهي تحكي عن أكثر من «بلقيس» واحدة.
نبدأ بتقصي أُسْطُورة وخُرَافة بَلْقيس بفرز ما نرى أنه نص أُسْطُوري وخرافي في الرِّواية المسردة آنفاً عن باقي المكونات، ثم نقوم بتحليلها اعتماداً على معارفنا اللغوية وربطها باللُّقَى الأثرية في اليمن، وسنرى إن كانت هذه المنهجية ستدعم فهمنا وتقييمنا لمجمل الرِّوايات.
في ظننا أن رواية بَلْقيس: الأُسْطُورة والخُرَافة التي سجّلها نَشْوان الحِمْيَري في مؤلفه ‹ملوك حِمْيَر وأقيال اليمن› عن لِقَاء أبي بَلْقيس بأمها تشبه الرواية السابقة، لكن هنا نرى الظبي والغزال والذئب بدلاً من الثعبان، كما نرى فيها إضافة تتعلق بانتشار مُلك أبي بلقيس إلى يبرين وعدن.
لكن فهم المغزى التراثي لهذه الأساطير والخرافات يستدعي معرفة بعض جوانب الحياة الدينية في الإقليم، ومعرفة أسرار بعض الأسماء الواردة فيها، أي: الهدهاد، الغزالة، الحرورى، اليلب (التالب؟) والصعب.
اللُّقَى الأثرية في اليمن تثبت أن العَرَب الجَنوبيين عرفوا التعبّد لكثيرٍ من الآلهة، يهمنا منها هنا الثالوث: القَمَر والشَّمس والزُّهرة. أما الأول فهو (ألمقه) أي: القَمَر، بعربيتنا، والذي كان الاسمَ الرسمي لمملكة الآلهة في سَبأ. وقد ارتبط هذا الإله أحي
اناً بمواقع محددة مثل نَجْران ومدر وناعط وجبل ألو وأوام وصرواح، حيث وجدت أمكنة عبادة في المناطق المرتبطة به. ولا تزال هناك آثار معبد بيضاوي الشكل قائمة آثاره حتى يومنا هذا في منطقة أوام قرب مَدينَة مَأْرِب التَّاريخية. كما وجد نقش يشير إلى ألمقه بصفته إلهَ الأرض البعلية، وثورها إذ عدَّ ذلك الحيوان رمزاً للخصوبة، وهو يذكرنا بالإله (بعل هدد) الذي حَمَل الصفة نفسها. 
كما تعبَّد العَرَب الجَنوبيون للشَّمس (شمس) التي اكتَسَبت، وعلى عكس ما كان سائداً في مناطق أخرى من المشرق العَرَبي، صفة التأنيث. 
أما الإلهُ الثالثُ الذي سَادَت عبادته في جنوبي بلاد العَرَب ومرتبط بالرِّواية، فكان الزُّهرة الذي عُرِفَ هناك إلهاً ذكراً تحت اسم (عثتر) الذي تبوّأ المكانة الأولى في المعبد الوثني العَرَبي الجَنوبي قبل القَمَر (المقه) والشَّمس (شمس). كما ارتبطت به مهام كثيرة منها رعاية السلام، والحرب، والقوة، وكان عباده يُقدّمون له الأضاحي لكسب رضاه حتى يستمر في رعاية الأراضي وسقايتها في فصلي الرّبيع والخريف. وهناك رأي بأن من مهامه الأخرى رعاية الأراضي المروية اصطناعياً، أي عبْر السدود والقنوات. 
وقد عرف الإله عثتر بالعديد من الألقاب منها راعي السهول (الجوف) والتلال المحيطة، وراعي المياه المنحدرة (الوديان؟). أما الحيوان المقدس المرتبط بعثتر فقد كان الوعل، أي التَّيْس الجبلي، والذي كان يُعْرَفُ في بعض الأحيان بالعلاقة مع الظبي/‌‏ الظبية، أو الغزال/‌‏ الغزالة، وورد اسمه أيضاً مرتبطاً مع الإله عثتر. 
بقايا تقديس الوعل لا تزال سائدة في بعض مناطق اليمن وحَضْرَمَوت حتى يومنا هذا؛ إذ تقضي عادةٌ متبعة بوضع قَرْني وعل على أبواب المباني وشواهد المقابر. وكان الحيوان المقدَّس الآخر المرتبط بالتعبد للقمر عند بعض العَرَب الجَنوبيين وخصوصاً في منطقة صرواح، هو الثعبان، ربما بسبب التواء جسده ليأخذ شكلاً دائرياً (القَمَر) أو نصف دائري (الهلال).
الأخبار عن هذا التعبد ترد أيضاً في كتابات من خارج الإقليم، حيث سجل أريان مؤرخ حملة الإسكندر المقدوني، التالي: «.. كما أُبلغ الإسكندر [المقدوني - ز م] عن مدينتين في البحر قرب مصب نهر الفرات. ولم تبعد الأولى عن المصب، حيث وقعت على بعد خمسين ومئة (ستادٍ) من الشاطئ وكانت مغطاة بغابات كثيفة. كما وُجِدَ فيها معبد لأرتيمِس تَعبَّد له السكان على نحو يومي. كما وجد فيها ماعزاً برياً والشمواة التي عُدت مُقدّسة لأرتميس؛ إذ إنه لم يسمح لأحد بصيدها، هذا باستثناء أولئك الراغبين في تقديمها قرابينَ للآلهة، وذلك كان العذر الوحيد لصيدها الذي كان ممنوعاً. ووَفق ما ذكره أرسطبول، أمر الإسكندر بأن يُطْلَق عليها اسم إكاروس (Ikarus) وهو اسم جزيرة في بحر إيجة».
ومن الجدير بالذكر أنه عُثِرَ في منطقة الخليج العربي، وفي جزيرة فيلكة تحديداً، على نقوش تُظْهِر الغزال أو الظبي، وهذا يقدِّم دليلاً أثرياً لا شك فيه عن صحة ما كتبه أريان.
الآن، وقد أوضحنا باختصار شديد دور تلك الآلهة في الهيكل الوثني العَرَبي الجَنوبي وعلاقاتها ببعضها، وكذلك علاقاتها مع بعض الحيوانات المُقدّسة، يمكننا الانتقال إلى تحليل وتعريف العناصر المشاركة في تركيب الخُرَافة/‌‏ الخرافات المشار إليها آنفاً، بما يمكّننا، على ما نظن، من فهم الرِّواية وأبعادها.
العنصر الأول الذي نتناوله بالحديث في مكونات الأساطير والخرافات آنفة الذكر هو اسم والد بَلْقيس، أي الهدهاد/‌‏ الهدهد، عِلماً بأن بعض الإخباريين، عدّوه لقباً. ولا شك في أن ذلك سهل على بعض الإخباريين والمؤوِّلين دمج أُسْطُورة وخُرَافة بَلْقيس التي استعرضناها آنفاً، بمَلِكَة سَبأ التي عرفت بأنها هي المذكورة في سورة النمل؛ إذ يؤدي الهُدْهُد دوراً في القصة القُرآنية.
أما الهُدْهُد فهو وفق صاحب ‹لسان العرب›، في باب هُدَد: والهدَهَد أصوات الجِن ولا واحد له. ولأن أُسْطُورة بَلْقيس تربط والدها بالجِن عبر القول: إن هدف تصيُّده كان البحثَ عن زوجةٍ من الجِن، فما لا شك فيه أن هذا تحديداً ما أعطاه اللقب (الهدهاد) وهو ليس الهُدْهُد الطائر. 
وعندما التبس الموضوع على بعض الرواة في مرحلة لاحقة وجرى مزج بين بَلْقيس الأُسْطُورة والخُرَافة من جهة، وقصص ملكات حكمن في اليمن دُمِجن في شخصية واحدة، عُرِفَتْ بأنها هي ملكة سبأ الوارد ذكرها في القُرآن، كما حدث اختلاط في الرِّواية؛ إذ جرى تعريف والدها باسم الهدهاد، وهو الشيء ذاته الذي حدث مع اسم ابنته.
إذاً نقول هنا: إنه لا علاقة بين الهدهاد، والد بَلْقيس، والهُدْهُد الطائر. فالهدهاد صفة أو لقب أُلحِق بوالد بَلْقيس بسبب ارتباط اسمه بالجِن، بل إنه نفسه ينتمي إلى عالم الجِن، وهذا تحديداً ما يجعل الرِّواية خُرَافة أو ميثولوجيا. ونجد دعماً لرأينا هذا في حقيقة أن اللُّقَى الأثرية التي عُثر عليها حتى الآن في اليمن لا تشير إطلاقاً إلى الهُدْهُد، لا كطائر ولا كاسم علم.
العنصر الثاني في رواية بَلْقيس الأُسْطُورة والخُرَافة هو الغ
زال، عِلماً بأنّ روايات أخرى تقول: إن أم بَلْقيس ظهرت لأبيها الهدهاد على هيئة ظبية، وهو ما نراه إثراءً لمختلف الروايات. وما يشرح هذا التناقض الظاهري والثانوي، قول الدميري صاحب كتاب ‹حياة الحيوان الكبرى›: إن الغزالة «.. الظبي الغزال، والأنثى ظبية.. (التعبير) الظبي في المنام امرأة حسناء عربية، فمن رأى أنه يملك ظبية بصيد فإنه يملك جارية بمكر وخديعة أو يتزوج امرأة..». 
أما الالتباس بخصوص طبيعة أُم بَلْقيس كما ظهرت لأبيها الهُدْهُد، فكتاب الدميري يساعدنا مرة أخرى في الشرح والفهم بقوله: «.. الظباء ذكور الغزلان، والأنثى الغزال، قال الإمام: وهذا وهم فإن الغزال ولد الظبية إلى أن يشتد ويطلع قرناه». هذا يوضح في رأينا خلفية الالتباس بخصوص طبيعة أم بَلْقيس.
أما القول: إن اسم أم بَلْقيس (الحرورى)، فيعني في ظننا (الجِنية)؛ لأن المعاجم العَرَبية تقول: إن الحرة هي: الجان من الثعبان. وهنا نذكر أن الرِّواية الأخرى عن كيفية لِقَاء والد بَلْقيس بأمها، حيث ظهر له أخوها على هيئة ثُعْبان.
ما يخص اسم والد أم بَلْقيس، المسمى اليالب بن صعب، ففي ظننا أنه حدث تَصْحيف عند كتابة الاسم، ووجب أن يكون التلب أو التالب، وإذ ثبت تخميننا، نرى أننا عثرنا على إثراء جديد للأُسْطُورة حيثُ عُرِّفَ التالب، أي: الظبي، في النقوش العَرَبية الجَنوبية بأنه (سيّد الحيوانات). أما العَرَب فقالت: إن التالب هو الوعل، أي التيس الجبلي الذي يسكن شعاب الجبال، والأنثى تالبة. ورُوي أن مأوى الوعول الجبال فلا يكاد الناس يرونها سائحة ولا بارحة إلا في الدهر مرة. وفي حالة عدم حدوث تَصْحيف، وهو شيء لا يمكن كشفه الآن، يبقى الاسم اليالب (اليلب) وثيق العلاقة بالرِّواية الخرافية؛ لأن المعاجم العَرَبية تعرِّف الأخير بأنه (درع من جلود الحيوانات).
وقد وردت إشارات في بعض النقوش اليمنية تلقب التالب بالظبي. وإذا تذكرنا حقيقة أن صيد تلك الحيوانات كان عملاً قدسياً مرتبطاً بنمط من التعبّد الوثني، فإن هذا يشرح ربطها بآلهة محددة. ومن الجدير بالذكر أن تالب، سيد الحيوانات، قد ارتبط في بعض مناطق اليمن بالإله القَمَر، أي ألمقه، وهو يَشْرَح، في رأينا، رَبْط الإخباريين العَرَب بَلْقيس بالمقه، وتعريفها به.
لكنه عُثر على نقوش عربية جنوبية لا تصف (تالب/‌‏ تألب) هذا بأنه سيد حيوان معين، وإنما تعطيه لقباً آخرَ مرتبطاً بالمروج، وفي نقوشٍ غيرها بأنه: سيد قطعان المواشي قرب المدن، وأيضاً: سيد المروج الخضراء، وهذا ربما يشرح أن والد أم بَلْقيس، وفق الرِّواية الثانية، كان ملكاً على مَدينَة مَأْرِب، غير المرئية، التي ظهرت لوالد بَلْقيس، علماً بأن الراوي أسهب في وصف خيراتها، ونحن نعثر بالقول: إنها كانت مَدينَة غير مرئية، على ذاكرة شَعْبية وحنين إلى أيام كانت فيها مَأْرِب بلاد الخير. أما اختفاؤها في الرِّواية فمرتبط على ما يبدو بكارثة طبيعية من زلازل أو جفاف أو فيضانات أو انهيار سدٍّ ما، وتدمير المنطقة المحيطة به وهجر سكانها، وهذه ظواهر طبيعية حقيقية تاريخية معروفة ومثبتة أثرياً في الإقليم.
وتُعرِّف كِتَابات الإخباريين العَرَب الصعَب بأنه طائرٌ صغيرٌ، والجمع صعاب. ونقرأ أيضاً أن الحر هو اسم ولد الظبية وولد الحية أيضاً. وباستشارة اللُّقَى الأثرية في اليمن نجد أن الوعل الملقب بالغزال، كان من الحيوانات المُقدّسة في سَبأ. كما نلاحظ أن الإله العَرَبي الجَنوبي (ألمقه) أطلق عليه في النقوش التي عثر عليها في صرواح اسم (سيد الجدي).
هذا جعلنا نرى أن هذه خُرَافة تشير إلى العلاقة بين تلك الآلهة من جهة، والحيوانات المُقدّسة المرتبطة بها من جهة أخرى. ويبدو أن النص يشير إلى مرحلة جرى فيها التخلي عن التعبّد للشَّمس، الإلهة الأولى، لمصلحة القَمَر، وهو يشرح مسألة أن أم بَلْقيس ظهرت للهدهاد على شكل غزالة أو ظبية. وبصرف النظر عن الرسالة التي أراد الرواة نقلها، وهي مسألة ثانوية، نرى أن هؤلاء العَرَب الجَنوبيين عرفوا جوانب من تاريخهم الأول وبعضاً من تراث أجدادهم، لكنهم لم يكونوا قادرين على التعبير عنه بسرد واضح، ربما بسبب إشكالات التواتر الشفهي لذلك التَّاريخ وبعده. وهذا بالضبط ما أطلق مخيلتهم الشَّعْبية ليحافظوا على بعض جوانب ذلك التراث في هذه الميثولوجيات الرائعة.
ونلاحظ أن النص يقول: إن أم بَلْقيس، أي جدتها لأمها، كانت شمس التي كانت مع ياسر ينعم بوادي الرمل الذي تُنْسَب إليه فتوحات عظيمة؛ إذ قيل: إنه وصل إلى آخر الأرض. وبكلمات أخرى، تقول الرِّواية الأُسْطُورية الخرافية: إن الأخير كان يتعبد للشَّمس والذي انتشر «إلى آخر الأرض»، وهو في رأينا سبب الإشارة إلى جَدة بَلْقيس من أمها، وهو شيء غير معروف في نصوص أخرى. لذا نرى أن هذه الرِّواية تتحدث، بالرموز، عن عملية انتقال من التعبّد للشَّمس إلى التعبّد للقمر، وهو ما يعبِّر عنه قيام والد بَلْقيس بمحاولة صيد ظبية، أو غزالة التي عرفنا أنها كانت من حيوانات ألمقه، أي القَمَر، المُقدّسة. وعند الانتقال إلى
التعبّد للقمر، ظهرت مَدينَة مَأْرِب الخضراء والثرية. وقد سجل نَشْوان الحِمْيَري في كتاب ‹شمس العلوم› أن الهدهاد، والد بَلْقيس، أوصى بالُملْك من بعده إلى ياسر ينعم، صاحب شمس، لكن بَلْقيس هي التي تسلّمت السلطة بعد وفاة أبيها، وهذا يعني في رأينا أن التعبّد للقمر هو الذي انتصر في نهاية الأمر.
أما القول، في نصوص أخرى، أن ياسر ينعم، كائناً من كان، ردّ المُلك إلى حِمْيَر بعد وفاة سُليمان، فمعناه أنه أعاد التعبّد للشَّمس في قومه.
وهناك نص آخر يقول: إن بَلْقيس تمكنت من قتل عمرو ذي الأذعار أبي ياسر ينعم الذي وُصِفَ بأنّه: الرجس الجائر، أي الذي كان يتعبد للشَّمس ويفرضها على قومه، ما استدعى وصفه بأنه جائر، وهو أيضاً سَرْد بالرموز عن انتصار التعبّد للقمر بدلاً من الشَّمس، طوعياً كان ذلك أو قسرياً.

من الجفاف إلى الخصوبة
لكن وجود نصوص أخرى تتحدث عن زواج بَلْقيس بملك همدان يعني، في رأينا، انتقال التعبّد للقمر إلى منطقة همدان، وهو الشيء ذاته الذي تعبِّر عنه المطالبة بالمنطقة الواقعة بين يبرين وعدن، والمنسوبة إلى اليلب (التالب) بن الصعب والد بَلْقيس.
أما الاختلافات في مسألة هُويَّة زوج بَلْقيس ومصيرها فيعود، في رأينا، إلى أنه كان لكل إقليم باليمن تاريخه القبلي الخاص وتعبّده المختلف أحياناً عن نظيره عند جيرانه.
إن رسالة هذه الأُسْطُورة/‌‏ الخُرَافة، أي خُرَافة بَلْقيس وشمس وياسر ينعم، التعبير عن حنين إلى أيام الخصوبة والثراء، وهو ما يعبِّر عنه أن مَدينَة الجِن التي ظهرت للهدهاد كان اسمها مَأْرِب؛ إذ أُسْهِب في الحديث عن خيراتها. ومن غير المستبعد أبداً أن المَعنيَّ هنا عكس ما أوردناه آنفاً، أي أن سكن الهدهاد في تلك المدينَة الخصبة هو رمز للانتقال من الجفاف إلى الخصوبة، أي إشارة رمزية إلى بناء، أو ضرورة بناء سد لري الأراضي الجافة. 
وهنا نظن بأن هذا المضمون للأُسْطُورة أو الخُرَافة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأحداث تاريخية في اليمن، ونعني بذلك بناء سد مَأْرِب أو شق قنوات سقاية، وما إلى ذلك.
هذه الأُسْطُورة ترِد على نحوٍ آخر، وتقول: إن من ظهر للهدهاد كان أخاً لبَلْقيس وعلى هيئة ثعبان أو ثعبان كبير، أي: شُجاع. كما يطلق هذا النص على أمّ بَلْقيس اسم رواحة بنت سكن، ولا توجد أي إشارة إلى أبيها أو إلى يبرين... إلخ. ونحن نرى في هذا النص إثراءً آخر للأُسْطُورة، ويبدو أنه مرتبط بمنطقة أخرى من اليمن، متذكِّرين في الوقت نفسه أن الثعبان كان أحد الحيوانات المُقدّسة المرتبطة بالقَمَر.


بلاد العرب السعيدة
«بلاد العرب السعيدة» شهدت ولادة ممالك عديدة قوية تركت آثارها إلى الآن، منها حِمير وعاصمتها شبوة، وقتبان وعاصمتها تمنة، ومعن وعاصمتها قرناو، وغيرها، لكن ما يهمنا لهذا المقال هو سبأ وعاصمتها مأرب. وعرف الإقليم قيام ممالك تحكمها نساء، حيث تضع النقوش العائدة للملك الآشوري سرغون الثاني (716 ق ت س) وخليفته سنحاريب، كرب إيل ملك سبأ جنباً إلى جنب مع ملك مصر وملكة العرب.

أعمال بلقيس العمرانية
من الأعمال العمرانية التي قامت بها بَلْقيس ورفعت مجدها إلى أبعد صيت، ترميمها سد مَأْرِب الذي كان الزمان قد أضره وخلخل أوصاله. وينسب إليها أيضاً قصر بَلْقيس الذي بمَأْرِب، وكان سُليمان ينزل عليها حين تزوجها فيه إذا جاءها. قالوا: فلما ملكت بَلْقيس اتخذته قصراً وعَرْشاً
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
بلقيس ملكة سبأ
هل بلقيس يمنية ؟! وكم هناك بلاقيس ملكات ولماذا الغموض والتضارب في الروايات عنها ؟!

بلقيس اسم اشتهرت به ملكة سبئية كانت معاصرةً للنبي سليمان عليه السلام الذي يرجح أنه عاش في القرن العاشر قبل الميلاد( 935-970م ق.م(. غير أن المصادر العربية لا تورد اشتقاقاً مقنعاً لهذا الاسم، ويدخله بعضهم مثل ابن دريد ضمن الأسماء الحميرية التي لا نقف لها على اشتقاق؛ لأن لغتها قد بعدت وقدم العهد بمن كان يعرفها. ويتفرد في ذلك نشوان بن سعيد الحميري الذي حاول أن يقدم اشتقاقاً للاسم فقال في معجمه(شمس العلوم) : "وبلقيس اسمان جعلا اسماً واحداً مثل حضرموت وبعلبك؛ وذلك أن بلقيس لَمَّا ملكت الملك بعد أبيها الهدهاد قال بعض حمير لبعض: ما سيرة هذه الملكة من سيرة أبيها ؟ فقالوا : بلقيس. أي بالقياس فسميت بلقيس ".
ورغم بعض المحاولات، فإن المصادر الأجنبية لم تفلح أيضاً في تقديم تفسير مفيد للاسم، ولعل أشهر تلك المحاولات ما جاء به (روش roesch ) في مقالٍ نشره عام( 1880م/ 1297هـ) وهو أن بلقيس كلمةٌ يونانية تعني جارية (pallakis )، ربما كان لها علاقة بالكلمة العربية (pilaeges ( وبالمعنى نفسه. على أن مثل هذا التفسير يُوحي بأن صاحبة الاسم كانت امرأةً ضعيفةً وتابعة، وهو أمرٌ لا يتفق مع أوصاف تلك الملكة عند الإخباريين؛ فقد ذكر ابن هشام في روايته لكتاب( التيجان) لوهب بن منبه أنه لَمَّا حضرت أباها الوفاة جمع وجوه مملكته وأهل المشورة، وكان من جملة ما قاله له لِيُسَوِّغ استخلاف بلقيس عليهم: " إني رأيتُ الرجالَ، وعَجَمْتُ أهلَ الفضل وسبرتهم، وشهدتُ من أدركتُ من ملوكها فلا والذي أحلفُ به ما رأيت مثلَ بلقيسَ رأياً وعلماً وحلماً ". أو ما ذكره على لسان (هدهد مارب)، وهو يصف الملكة لهدهد سليمان بقوله: " ملكتنا امرأةٌ لم يرَ الناسُ مثلها في حسنها وفضلها وحسن تدبيرها وكثرة جنودها والخير الذي أعطيته في بلدها ".
ومِمَّا يمكن اجتهاده في هذا الشأن أن تكون التسميةُ كنيةً في الأصل منحوتةً من كلمتين إحداهما الاسم(قيس). ويذكر ابن الكلبي في ( جمهرته ) قيساً ضمن شجرة نسبها؛ فهي (بنت القيس)كقولهم (ابن القيس) أو( أبو القيس)، فتصبح الكلمتان بعد النحت ودَرْج الكلام بلقيس، ثم جرى كسر القاف بعد ذلك قياساً على ما هو مشهور في مثل هذه الكُنى كما تنتهي كلمتا (أبو الفقيه) أو (ابن الفقيه) إلى بلفقيه و(أبو القاسم) إلى بلقاسم .
غير أن التواتر المشهور عند نشوان أن أباها هو الهدهاد بن شرحبيل، وينتمي إلى ذِي سحر من المثامنة وهي الأبيات الثمانية من حمير، أو هو الهدهاد بن شرح بن شرحبيل بن الحارث الرائش كما يذكر الهمداني.
والقرآن والتوراة- وهما المصدران الأساسيان لقصة ملكة سبأ -لم يوردا لها اسماً؛ فالتوراة تنعتها بـ(ملكة سبأ) أو (ملكة تيمنا) أي (ملكة الجنوب)، وتذكر أنها زارت النبي سليمان، وقدمت له هدايا ثمينة، والقرآن الكريم لا يذكر اسماً لها. قال الله تعالى: " وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين إني وجدت امرأةً تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرشٌ عظيم " (النمل:22-23).
أما المصادر العربية الأساسية في قصة هذه الملكة فتذكرها بالاسم بلقيس خاصة كتاب( التيجان) لابن هشام وكتاب( الإكليل) للهمداني و(القصيدة الحميرية) لنشوان الحميري يقول نشوان:
أم أينَ بلقيسُ المعظَّمُ عرشُهُا أوصرحُهُا العالي على الأضراحِ
زارتْ سليمانَ النبيَّ بتدمرٍ مِنْ ماربٍ ديناً بلا استنكـاحِ
وقصة الملكة بلقيس ذائعة منذ القدم، وقد تجاوزت شهرتها مسرح أحداثها، وتناقلتها شعوبٌ أخرى بصيغ مختلفة وروايات متعددة، وتناولتها شروحات التوراة وكتب تفسير القرآن، ودخلت في قصص الأنبياء ونصوص القديسين المسيحيين، وعُنِيَتْ بتفاصيلها كتبُ الأخبار والتاريخ خاصةً اليمنية منها، واستلهمتها روائع الفنانين الأوروبيين في عصر النهضة مثل رافائيل ورويموندي وجبرتي. واتُخِذَ موضوع القصة أساساً لكتاب الحبشة المعروف( كُبْر أنجست) أي كتاب (مجد الملوك) .
وقد كان لانتشار القصبة أثر في تنازع الناس حول الملكة، واختلافهم في اسمها وأصلها وموطنها؛ مِمَّا أضفى عليها أخباراً مصطنعةً وألواناً متعددةً كادت تَغلِب نواة القصة التاريخية، وتحولها إلى حكاية شعبية تُروى في أزمنة متفاوتة ومواطن متباعدة.
على أنَّ أشهر حادثة في حياة تلك الملكة هي زيارتها للنبي سليمان عليه السلام والقرآن الكريم قد نص على هذه الحادثة، وما كان من كلام الهدهد وكلام بلقيس وكلام سليمان وإسلامها مع سليمان لله رب العالمين .
وفي مصادر القصة الأخرى تفاصيل كثيرة تختلف وتتفق على غرار ما يعتري مثل تلك الحكايات من زيادة ونقصان بحكم تقادم الزمن وولع الرواة بالتلوين والمبالغة بقصد الإمتاع. ومن أخبار الزيارة أنَّ بلقيس عندما اتخذت قرار الزيارة كتبت إلى النبي سليمان:" إني قادمة إليك بملوك قومي؛ حتى أنظر ما أمْرُكَ وما تدعوني إليه من دينك، ولتسأله مسائل عدة تمتحن نبوته وحكمته، ثم حملت معها هدايا كثيرة ودخلت بيت المقدس (أورشليم)
بجمال تحملُ اللبان والطيوب والذهب والأحجار الكريمة، فاستقبلها سليمان بالترحاب، وأحسن وفادتها، وبهرتها حكمتُهُ وقوتُهُ وعجائبُ ما تصنع الجن له وهم في خدمته. ثم قال لها: ادخلي الصرح، وكان قد عُمِل من زجاج أبيض كأنه الماء في صفاءِ لونهِ، وأرسل الماء من تحته، ووضع له سريراً فيه فجلس عليه، فلَمَّا رأته حسبته لجةً، وكشفت عن ساقيها ظناً منها أنه ماء لتخوض فيه، ثم استدركت وقالت: إنه صرحٌ ممردٌ من قواريرَ، وليست لجةً، وأُسْقِطَ في يدها حين رأت عجيب ما صنع سليمان؛ فأقرت بحكمته ونبوته، وأسلمت وحسُنَ إسلامُها. وقيل إنه تزوجها وولدت له ولداً اسمه (رحبعم)، وقيل إنه زَوَّجَها( ذو بَتَع) من همدان، وردهما إلى اليمن وأمر الجن فبنوا لها قصر سَلْحين في مارب .
ويرى بعضهم أن قصة ملكة سبأ من القصص الجميل الذي يطغى نَفَسُه على الأصل، ولم يُعثر على اسم الملكة في الكتابات القديمة، ولم تدل عليها اللُّقَى الأثرية المكتشفة، بل يذهب بعضهم إلى أن سبأ لم تكن في اليمن، وإنما في مكان ما إلى الجنوب من فلسطين أو في منطقة شمال غرب جزيرة العرب. والموروث الحبشي يرى أن بلقيس ملكة حبشية زارت سليمان من أرض الحبشة وتزوجت به وأنجبت له ولداً .
على أنه ليس لدى علماء الآثار والتاريخ أي دلائل قاطعة على نسبة هذه القصة في أصلها إلى الحبشة أو إلى شمال غرب جزيرة العرب. ويرى جمهور العلماء أن الآثار الكشفية في اليمن تثبت أرض سبأ وحضارة سبأ في مشرق اليمن، وأن منطقة مارب شهدت حضارة سبئية راقية في القرن العاشر قبل الميلاد، وهو القرن الذي عاش فيه النبي سليمان عليه السلام، بل إن أحدث الدلائل الأثرية تشير إلى حياة مدنية تقوم على نظام الري منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وحينما يولي المرء وجهه في منطقة مارب اليوم يجد أثراً ما لسبأ أو نقشاً يذكر اسم سبأ أو قبيلة سبأ أو ملك سبأ. بينما لم يُعْثر- فيما نعلم- على أي أثر في شمال غرب الجزيرة من مطلع الألف الأول قبل بالميلاد يمكن أن يُومِئ إلى حضارة راقية أو إلى مملكة سبئية أخرى. وإن كان قد عثر على آثار معينية ولحيانية وغيرها في تلك المناطق خاصةً في العلا (ددان القديمة)كما أن الجهود الأثرية في الحبشة لم تسفر عن اكتشاف حضارة راقية هناك يعود تاريخها إلى القرن العاشر قبل الميلاد. وتفيد المعلومات الأثرية أن أقدم النقوش التي عثر عليها في الحبشة هي سبئية ومكتوبة بخط المسند؛ مما يرجح القول إن أصحابها كانوا يقتفون آثار حاضرة سبأ في اليمن، وأنَّ منشأ حضارة أكسوم الحبشة هو وجود سبئي هناك بسبب الغزو أو التجارة أو الهجرة أو بسببها مجتمعة. وقد نقل السبئيون معهم الكثير من عناصر حضارتهم كاللغة والخط والدين والفن وغيرها. كما نقلوا أيضاً ملاحمهم وأخبارهم وقصصهم في الوطن الأم، ومن ذلك قصة المرأة السبئية التي كانت تملك سبأ وطريق اللبان التجاري الذي يمتد من ميناء قنا على البحر العربي غبر العاصمة مارب إلى غزة ميناء فلسطين على البحر المتوسط. ونقلوا كذلك قصة زيارتها للنبي سليمان في بيت المقدس وإسلامها على يده. وأصبحت هذه القصة تراثا مشتركاً بين الناس في جزيرة العرب وخارجها، ولكنها بقيت حية في موروث أهل اليمن أكثر من غيرهم ورمزاً تاريخياً لحضارتهم القديمة. كما ينسبون إلى تلك الملكة واسمها بلقيس عدداً من آثار مارب الرائعة فيقولون (عرش بلقيس) و(محرم بلقيس) وهكذا، ويتخذون من اسمها اسماً لبناتهم ومنشآتهم، بل ويزينون به إبداعاتهم الفنية والأدبية .
المصدر : (الموسوعة اليمنية، مؤسسة العفيف الثقافية
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
#اليمن_تاريخ_وثقافة

الروايات التاريخية عن #بلقيس
في سياق الحديث عن الملكة الأسطورة بلقيس وما بلغته من مجد وشهرة جعلتها محط اهتمام الكثير من الكتاب والباحثين والمؤرخين منذ فترات زمنية بعيدة.. هناك العديد من الروايات والاخبار والكتب التاريخية الى جانب تلك التي سبق الاشارة اليها والتي كرست للحديث عن مملكة سبأ بأمجادها وتاريخ حضارتها العظيمة.. إضافة الى الحديث عن ملوك السبأ وقصص سيرهم ومآثرهم التاريخية ومن بينهم الملكة "بلقيس" وفي هذا الاطار نجد انه وبالاضافة الى سد مأرب التاريخي وتلك المعابد والقصور السبئية وغيرها من المواقع والآثار والمعالم المختلفة التي ماتزال قائمة حتى اليوم.. هناك العديد من الاشياء الأخرى التي يستدل بها للتأكيد على أن اليمن هي الموطن الأصلي للحضارة السبئية وللملكة "بلقيس" وقد جاء في كتاب التوراة الذي تحدث عن أرض سبأ وملوكها في ثمانية أسفار تضم 16 إصحاحاً بأن أرض سبأ هي في اليمن.
ومن ذلك ما ورد في سفر أشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد.. والذى قال (إن العديد من الجمال ستقطع مسافات شاسعة.. ستأتي جميعها من سبأ وستجلب الذهب والبخور).
ولعل ما تجدر الاشارة اليه هنا هو أن بلاد جنوب الجزيرة العربية هي وحدها التي كانت قد اشتهرت دون سواها في العالم القديم فيما يتعلق بالبخور والطيوب والذهب والفضة والاحجار الكريمة وغيرها.. وكان يجري تصدير هذه السلع من أرض سبأ في اليمن الى اسواق الشام والعراق ومناطق اخرى مختلفة.
ومن أسفار التوراة التي تحدثت عن بلاد سبأ هناك أيضاً سفر أيوب الذي أشار إلى ان السبئيين هم اصحاب قوافل وتجارة وبأنهم أغاروا على بقر لأيوب كانت تحرث ارضه فاستاقوها.. أما سفر يوئيل فقد أورد ما جاء من تهديد على لسان يهوه لأهالي صور وصيدا والذين كانوا قد نهبوا الهيكل بعد أسر بني يهوذا ومن ثم بيعهم لبي ياون - اليونان -، حيث قال (ها أنذا انهضتهم من الموضع الذي بعتموهم اليه وارد عملكم على رؤوسكم، وابيع بنيكم وبناتكم بيد بين يهوذا، ليبيعوهم للسبئيين ، لأمة بعيدة،

في كتاب أضواء على تاريخ اليمن البحري للمؤرخ حسن صالح شهاب جاء بأن النقوش الآشورية التي جاء فيها ذكر بعض ملكات اريبي مع سبأ وقبائل أخرى، تشير الى سبأ اليمن تحديدا وفي احد النقوش المسمارية ذكر سرجون الثاني 724 - 75 قبل الميلاد انه تسلم إتاوة من ملكة اريبي وكذا من بتع امر السبئي .. 
فيما ذكر سخاريب 705 - 681) قبل الميلاد أنه عندما شرع في بناء بيت اكيتو تسلم هدية من كرب ايل ملك سبأ، من بينها أحجار كريمة وانواع من الطيوب الفاخرة وذهب وفضة. وهي السلع التي كان السبئيون يجلبونها من بلادهم في الجنوب الى فلسطين وسوريا وطور سيناء كما تذكر التوراة والكتب الكلاسيكية.. ويضيف بأن بتع آمر وكرب ايل هما من مكربي سبأ اليمنية كما ورد في عدد من النقوش التي تم العثور عليها.
وبحسب العديد من المراجع التاريخية فإن مأرب كانت تشكل مركز حضارة وثقافة راقية وانها وصلت الى اوج ازدهارها الحضاري في القرن العاشر قبل الميلاد.
وقد اورد جرجي زيدان في كتابه تاريخ التمدن الاسلامي وصف للرحالة اليوناني استرايون تحدث فيه عن مدينة مأرب في القرن الاول قبل الميلاد بقوله: (إنها مدينة عجيبة، سطوح ابنيتها مصفحة بالذهب والعاج ، الحجار الكريمة، وفيها الآلية المزخرفة مما يبهر العقول)، وذلك يهون علينا سماع ما ذكره العرب عن إرم ذات العماد.

من اثار حضارة أكسوم بالحبشة
وفيما يتعلق بـ الحبشة التي كان البعض قد اجتهد وحاول ينسب الملكة بلقيس اليها.. فإن جميع المراجع والمصادر التي سبق الاشارة اليها وغيرها من أبرز كتب التاريخ تفيد أنه لم يتم العثور على ما يمكن أن يدل على أن ثمة مملكة سبئية اخرى وجدت في الحبشة يعود تاريخها الى القرن العاشر قبل الميلاد.. وأن ما تم العثور عليه من نقوش مكتوبة بخط المسند هناك هي سبئية يمنية نقلها اليمنيون خلال هجراتهم.
وبحسب المصادر المتوافرة فإن قيام مملكة اكسوم في الحبشة في القرن الاول الميلادي يقود الى وجود سبئي اما بسبب الغزو او التجارة والهجرة.. حيث نقل السبئيون من اليمن معهم بعض عناصر حضارتهم كاللغة والخط والدين والفنون، اضافة الى ملاحمهم وقصص ملوكهم، ومن ذلك قصة الملكة بلقيس مع النبي سليمان عليه السلام.
وفي هذا السياق وردت في الصفحة 230 من كتاب التيجان لوهب بن منبه عبارة تتحدث عن ياسر يهنعم احد ملوك سبأ تقول : (فعبرنا شر النعم البحر وسار على ساحله يريد ارض الحبشة فأخذها). 

كما تقول بعض المصادر التاريخية ان اليمن كانت على اتصال بالحبشة منذ ما يزيد عن 600 سنة قبل الميلاد وان هذا الاتصال استمر الى مراحل ما بعد الميلاد.. ومن ثم ووفقاً لهذه المصادر فإن ثقافة أكسوم حضارتها جاءت كامتداد للحضارة اليمنية القديمة. والى جانب ذلك فان النقوش المسندية التي تم العثور عليها في بعض مناطق الحبشة تذكر وبصورة متكررة اسماء لأماكن ومناطق ومدن يمنية إضافة الى ما يتعلق بالطراز المعماري للمعابد والقصور
الذي يعد نسخة من الطراز اليمني.. ومن ذلك مبان الكنائس ومنها مذبح كنيسة اكسوم الذي يعد نسخة من مذابح المعابد اليمنية القديمة مثل تلك الموجودة في مأرب والتي تتفرد برؤوس الوعول وقرونها المنحوتة وهي اقدم من حضارة اكسوم بمئات السنين.

وفي اطار ماتناولته الكتب والمراجع التاريخية المختلفة عن ملكة سبأ بلقيس وعن قصتها مع النبي سليمان وذهابها الى بيت المقدس. فقد ورد في سفر الملوك: (وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب فأتت لتمتحنه بمسائل جاءت الى بيت المقدس بموكب عظيم جداً .. بجملا حاملة أطياباً وذهباً كثيراً جداً وحجارة كريمة.. واتت الى سليمان وكلته بكل ما كان في قلبها).
وأضاف (وعندما شاهدت البيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم وسقائه ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب لم يبق فيها روح بعد.. فقالت للملك: صحيح كان الخبر الذي سمعته في ارضي عن امورك وعن حكمتك، لم أصدق الاخبار حتي جذت وابصرت عيناى).
وحسب المصادر فإن بلقيس عندما قررت الذهاب الى سليمان كتبت اليه رسالة اخبرته انها قادمة بملوك قومها لتنظر ما أمره، وما يدعوها اليه من دينه، وتسأله مسائل عدة تمتحن نبوته وكلمته ولعل ما تجدر الاشارة اليه هنا هو ان القرآن الكريم قد أوضح ما فيه الكفاية بالنسبة لقصة ملكة سبأ مع النبي سليمان.. بحيث تحدثت الآيات 20-44 من سورة النمل عن هذه القصة بتفاصيلها الواقعية وبأسلوب بالغ الروعة والجمال والتأثير..وحول ما دار بين ملكة سبأ وقومها في موضوع الملك سليمان .. يقول الامام الشوكاني: (واخرج ابن ابي حاتم عن عباس في قوله افتوني في أمري.. قال: جمعت رؤوس مملكتها فشاورتهم في رأيها فاجمع رأيهم ورأيها على ان يغزوه فسارت حتى اذا كانت قريبة قالت: ارسل اليه بهدية فإن قبلها فهو ملك أقاتله وإن ردها تبعته فهو نبي


وجاء في كتاب الكشاف للزمخشري بأن الملك سليمان رد الهدية وعندها قالت الملكة بلقيس هو نبي وما لنا به طاقة فشخصت اليه في 12 الف قيل تحت كل فيل آلاف من الجند . ويقال هنا والعمدة على الرواة بأن كل فيل من افيال ملكة سبأ كان تحته مائة الف مقاتل.
أما اليعقوبي فيقول في كتابه دراسات يمنية ان بلقيس ملكت 120 سنة ثم كان من امرها مع سليمان ما كان..فصار ملك اليمن لسليمان بن داوود عشرين وثلاثمائة سنة، ثم ملك رحبعم بن سليمان بن داوود عشر سنين، ثم رجع الامر الى حمير حيث يروي ان الملك سليمان تزوج بالملكة بلقيس وانجبت له ولداً سمي رحبعم.
وهناك رواية اخرى تقول انه زوجها ذا بتع من همدان اليمن وامر الجن فبنوا لها قصر قصر شلحين في مارب


الى ذلك يؤكد الباحثون والمهتمون ان ثمة الكثير من الحقائق والاسرار ما تزال غامضة فيما يتعلق بموضوع الملكة بلقيس وحضارة مملكة سبأ عموماً .. بإعتبار ان معظم الآثار السبئية لاتزال مطمورة تحت رمال مأرب وان ماتم اكتشافه حتى الان لا يعد سوى جزء يسيراً مما هو موجود