دراسات في التراث الشعبي اليمني (الأدب الشعبي)
أحـلام أبـو زيد
كاتبة من مصر
سعيت منذ فترة لجمع مجموعة من الدراسات الشعبية الحديثة نسبيًا التي تعرض للفولكلور اليمني.. حتى استطعت الحصول على مجموعة من الدراسات العلمية التي يمكن أن تكون ملفين لعددين حول فولكلور اليمن.. إذ أن باب جديد النشر لم يتمكن من الحصول على ما يصدر حديثًا في اليمن ربما لما تمر به البلاد من أحداث نعلمها جميعُا.. وسنعرض في هذا الملف الأول مجموعة متنوعة من الدراسات التي تناولت فنون الأدب الشعبي اليمني لمجموعة من المؤلفين المتخصصين.. اعتمدت كتاباتهم على العمل الميداني والدراية الواعية بتحليل النصوص الشعبية.
فى الأدب الشعبي فنون ونماذج يمنية:
في مصر صدر عام 2019 كتاب ابراهيم أبو طالب بعنوان «في الأدب الشعبي فنون ونماذج يمنية» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة الثقافة الشعبية رقم (43)، والكتاب يقع في 278 صفحة من الحجم المتوسط . ويعرض المؤلف تجربته في وضع الكتاب بقوله: بعد خبرة سنوات من تدريس مقرر الأدب الشعبي في كلية التربية بجامعة صنعاء، والعودة إلى مضان الأدب الشعبي العالمي والعربي، واليمني ومصادره، ومعايشة الكثير من نصوصه، والولع به لفترات طويلة، وتأمله مرات عدة، وقراءته قراءة استمتاع تارة، وقراءة بحث تارة أخرى، أردت أن أضع خلاصة التجربة في هذا الكتاب الذي حرصت على أن يتضمن حدود المادة العلمية، ومفرداتها التي نصت عليها الأدلة الأكاديمية لكليات الجامعة.
يبدأ الكتاب بفصل حمل عنوان «الفولكلور والأدب الشعبي» يحتوى على تعريف أهم مصطلحات الفولكلور والأدب الشعبي وعوامل نشأته والاهتمام به وتوثيق مادته، كما وقفت على تحديد مفاهيم التراث الشعبي والأدب الشعبي وسماته ووظائفه. مشيرًا إلى الوظائف الاجتماعية والنفسية والنقدية التربوية والأيديولوجية والتواصلية والإمتاعية للأدب الشعبي عامة.
أما الفصل الثاني من الكتاب فقد حمل عنوان «من الفنون الشعبية النثرية» تناول فيها مفهوم الأسطورة وخصائصها ووظائفها وأنواعها: الأساطير التعليلية- الأساطير التاريخية- الأساطير الحضارية. أما الحكايات الشعبية فقد تعددت أنواعها واختلفت البنى المميزة لكل نوع منها ، وثمة روابط تجمعها وأخرى تميز كل نوع عن الآخر، ومنها: الحكاية الخرافية التي لا تمت بصلة للواقع ولا تخضع حوادثها لما يتوقع عقلاً من الأحداث، وتقوم بعدة وظائف منها أنها تحقق للإنسان حياة العدالة والحب التي يحلم بها. أما الحكاية الشعبية فيعرض المؤلف للتصنيف الذي قسم الحكاية إلى ثلاثة أنواع: حكايات الحيوان- الحكايات السحرية الخرافية- الحكايات الحياتية أو حكايات الواقع. كما استعرض تصنيف فوزي العنتيل الذي صنف الحكايات إلى: حكاية الجنيات- الحكاية الرومانسية- الحكاية المرحة- حكاية الحيوان- حكاية الألغاز. وعلى هذا النحو يستعرض المؤلف موضوعات الأدب الشعبي ليقدم لنا تعريفًا وتصنيفًا للملاحم الغربية كالإلياذة والأوديسا والإنيادة والشاهنامة والسير الشعبية العربية وأنواعها مثل: الهلالية- عنترة بن شداد- الملك سيف بن ذي يزن- الأميرة ذات الهمة- الصياد جودر- السلطان الظاهر بيبرس- الأمير حمزة البهلوان- فيروز شاه، ويعرض لطريقة أداء السيرة مشيرًا إلى أن السيرة الشعبية ليست قصة تقرأ على انفراد، وإنما هي عمل يؤدى في مجلس أو محفل. وهذا الأداء له تقاليده التي تتوافق مع التقاليد الفنية للجماعة الشعبية، ولهذا تتنوع صور الأداء وفق تباين أحوال المجتمعات الشعبية العربية. ومن ثم، نجد صورًا من الأداء ترتكز على الإلقاء المسرحي، بينما تضيف أخرى العزف على الربابة والغناء المنفرد، وتتوسع ثالثة في العزف والغناء مكونة فرقا متعددة الآلات والأدوار. وينتهي هذا الفصل بعرض المؤلف لموضوع الأمثال الشعبية مع تعريف كل نوع منها وبيانه والوقوف عند أهم خصائصه وأنواعه وصفاته والإشارة إلى نماذج منه: أخس البقر تِمحر الماء- صاحب المهرتين كداب- عِرسين ولا ولاد.. إلخ. كما رصد المؤلف في ملاحق الكتاب بعض الأمثال اليمنية المشروحة منها: راحة البدو شهرين ولا استراحوا ثلاثة.. أي أن البدو لا يعرفون الراحة والاستقرار غير شهرين في السنة أو ثلاثة على الأكثر، وهي المدة التي تنزل فيها الأمطار على أراضيهم، وفيما عدا ذلك فإنهم يقضون بقية أيام السنة في أسفار متواصلة.
وفي الفصل الثالث والأخير يعرض أبو طالب لموضوع «الفنون الشعبية الشعرية» حيث رصد فيه أنواع الفنون المعروفة على المستوى العربى وأشهرها القوما والموالي والكان كان والزجل، ثم رصد الفنون المعروفة في اليمن وهي فن الحميني بكل أنواعه، وهو فن شعري تتنوع أوزان البحور فيه، وللشاعر الحرية المطلقة في تنويع هذه الأوزان، ويميل الشعراء غالبًا إلى مجزوءات البحور مع إضافة تفعيلات خاصة تخرج بالبحر عن نمطه الخليلي المعروف، وفي الغالب فإن الحميني يستخدم المحسنات البديعية، والصور الشعرية من التشبيهات والاستعارات والمجازات مما يستخدم في الشعر العربي
folkculturebh.org
الحرف التقليدية.. أهمية الدراسة الميدانية ومنهجية دراستها(2)
لقد أحرزت الدراسات الإنسانية تقدماً بارزاً، ودفعاً أدى إلى تخليصها من الاحتكام إلى المنطق الصوري وحده في الاستدلال والحكم. وأخذت بمنهج العمل الميداني في رصد الظواهر التي ترتبط بحياة الانسان ككائن فرد أو في تجمعه وانتشاره في الزمان والمكان. وقد استفادت العلوم…
الفصيح:
يا غصن مايس يا قمر مصور
في حندس الفينان
جل الذي أنشاك كدا وصور
يا فاتني سبحان
أما فنون الشعر الشعبى اليمني الأخرى فيعرض المؤلف إلى أكثر الأنواع الشعرية شهرة وتداولاً، مثل «فن الزامل» وهو فن شعري قديم من فنون اليمن وقبائلها ولا يزال يعيش في وجدان اليمنيين، وشعر الزامل إنشادي من الرجز غالبًا، يؤدى بأصوات مرتفعة ومختلطة، يؤديه الرجال في صفوف متماسكة متحركة، ومن شروطه معنى الأخذ والرد أي أن هناك من يبدأ بالشعر، ويرد عليه آخر. وقد اشتهرت مناطق كثيرة في اليمن بالزامل، حيث يعد فنها الأول ولسان حالها في جميع مناسباتها، ويكثر في المناطق الشرقية والشمالية من اليمن، وما يقارب صنعاء، وفي مناطق الزراعة والصحراء عمومًا، ومن أمثلته الكثيرة مجهولة المؤلف هذا الزامل الشائع:
ياللي تمنّا حربنا
من حربنا ما تستفيد
ما حربنا إلا ثايبي
ورصاص من بطن الحديد
ومن قول البداع:
سلام منا ألف يا الجمهورية
بانفتديها بالجماجم والدما
اليوم جيناكم نريد التضحية
باننزل الطاغي من اعنان السما
ثم ينتقل المؤلف لفنون الأغنية الشعبية وهي نوع من الشعر المنغم بأوزان مخصوصة، تؤدى بطريقة معينة في مناسبة محددة، منها أغاني الأفراح والأعراس، وأغاني الأطفال، والأغاني العاطفية والغزلية، أغاني الزراعة والعمل في الفصول المختلفة. ومن الأغاني العاطفية يسجل المؤلف بعض هذه النصوص:
حلفت لاغني واشل بالصوت
واسلي على قلبي لوما يجي الموت
شاجي معاك لو ما تزل باجل
وابكي عليك لا ما املي المواجل
بالله عليك يا طير يا مسيقن
قم شِل لي مكتوب لا»مريكن»
أما النوع الثالث من فنون الشعر الشعبى اليمني فيعرض المؤلف لفن «القصيد» وهو نوع من الشعر الشعبي له أوزانه المتعددة وهيكله الشعري المتوارث حيث يلتزم بقافيتين في صدر البيت قافية وفي عجزه قافية أخرى، ويمتد من حيث عدد الأبيات إلى ما يشبه القصيدة العمودية في الشعر الفصيح، ويرتبط بكبار الشعراء الشعبيين. أما النوع الأخير فهو «الدان الحضرمي» وهو لون تراثي موغل في القدم، والدان كلمة مأخوذة من الدندنة- أي الأصوات الموقعة بالغناء- التي هي من الفعل الرباعي يدندن، ومن معانيها أن تسمع من الرجل نغمة أو صوتًا ولا تفهم ما يقول.. ويصنف الدان إلى ثلاثة أنواع: دان الجمالة- الدان البدوي- الدان الحضري، وله أغراض متعددة منها: الغزل والمدح والفخر، والرثاء، والوصف، والهجاء، والحماسة، والحكمة، وغيرها.
ويحوي الكتاب قسمًا للملاحق سجل فيها أبو طالب تجربته الميدانية لكافة أنواع الأدب الشعبي التي عرض لها في الفصول الثلاثة، وأسلوب البحث العلمي لهذه الأنواع، ثم نماذج متعددة للحكايات والسير والأشعار والأساطير وغيرها مما قدم له نظريًا خلال فصول الكتاب.
حكايات من التراث اليمني:
صدر هذا العام 2020 كتاب حكايات من التراث الشعبي اليمني لمؤلفه محمد سبأ، بصنعاء عن دار الكتب اليمنية للطباعة والنشر والتوزيع، والكتاب يقع في 272 صفحة من الحجم المتوسط.
قدم للكتاب نجيبة حداد التي أشارت إلى أن المؤلف اجتهد من خلال البحث والقراءة والمقابلات الشخصية مع الإخباريين من الرواة وكبار السن في جمع وتدوين هذا النوع من الأدب وهو الحكايات الشعبية اليمنية الأصيلة، إبتداء من الحكايات التاريخية المرتبطة بماضي وحضارة اليمن. ثم الحكايات التي ترتبط بالأرض والزراعة والحكمة. وكذلك الحكايات التي تمتاز بالفكاهة والدعابة، وهي ميزة من مميزات الشعب اليمني، كما سعى إلى توثيق الحكايات التي ترتبط بالمعتقدات والمعارف الشعبية كحكايات الجن والمخلوقات الغريبة والكواكب، وكذلك حكايات حكيم اليمن علي ولد زايد وحكايات أيام الغمام وغيرها من الحكايات التي بلغت مائة وخمسين حكاية. وقد كانت العائلات قديماً لا تستغني عن حكايات الجدة التي ترويها للأبناء كل مساء، ولهذا أصبح هذا النوع من الأدب يقدم الولاء والإنتماء للوطن ويرتبط بالقيم والمعتقدات والصراع بين الخير والشر والحق والباطل والضعيف والقوي والخائن والوفي الخ.
وأضافت حداد أن محمد سبأ قد اجتهد في هذا الكتاب وقدم شيئاً جديداً للمكتبة اليمنية والعربية بل لكل الباحثين في حضارة اليمن وتراثها حول العالم وهو من الشباب المتميزين الذين سبق لهم الفوز في مسابقات إبداعية في القاهرة، وقد حضرت ذات مرة لفعاليات حفل تكريمه بالفوز بجائزة لوتس للقصة القصيرة عام 2018 لدى مؤسسة لوتس للتنمية الثقافية وهو كذلك فنان تشكيلي أقام عددا من المعارض الشخصية التي حضرتها له في القاهرة ولاقت نجاحاً كبيراً وله لوحات تعبر عن محتوى هذا الكتاب القيم.
ثم بدأ المؤلف كتابه بمقدمة علمية أشار فيها إلى أن ظهور وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل المرئية والمسموعة قد أدى إلى نسيان الكثير من حكاياتنا الشعبية، وكان بداية فقدان هذا التراث عندما احتل الراديو ثم التلفزيون مكان الحكواتى أو السامر أو كبار السن، الذين كانوا يحفظون الحكايات المتوارَثة عبر أجيال طويلة، فلم يعد الناس يتجمعون فى السامر وقت فراغهم،
يا غصن مايس يا قمر مصور
في حندس الفينان
جل الذي أنشاك كدا وصور
يا فاتني سبحان
أما فنون الشعر الشعبى اليمني الأخرى فيعرض المؤلف إلى أكثر الأنواع الشعرية شهرة وتداولاً، مثل «فن الزامل» وهو فن شعري قديم من فنون اليمن وقبائلها ولا يزال يعيش في وجدان اليمنيين، وشعر الزامل إنشادي من الرجز غالبًا، يؤدى بأصوات مرتفعة ومختلطة، يؤديه الرجال في صفوف متماسكة متحركة، ومن شروطه معنى الأخذ والرد أي أن هناك من يبدأ بالشعر، ويرد عليه آخر. وقد اشتهرت مناطق كثيرة في اليمن بالزامل، حيث يعد فنها الأول ولسان حالها في جميع مناسباتها، ويكثر في المناطق الشرقية والشمالية من اليمن، وما يقارب صنعاء، وفي مناطق الزراعة والصحراء عمومًا، ومن أمثلته الكثيرة مجهولة المؤلف هذا الزامل الشائع:
ياللي تمنّا حربنا
من حربنا ما تستفيد
ما حربنا إلا ثايبي
ورصاص من بطن الحديد
ومن قول البداع:
سلام منا ألف يا الجمهورية
بانفتديها بالجماجم والدما
اليوم جيناكم نريد التضحية
باننزل الطاغي من اعنان السما
ثم ينتقل المؤلف لفنون الأغنية الشعبية وهي نوع من الشعر المنغم بأوزان مخصوصة، تؤدى بطريقة معينة في مناسبة محددة، منها أغاني الأفراح والأعراس، وأغاني الأطفال، والأغاني العاطفية والغزلية، أغاني الزراعة والعمل في الفصول المختلفة. ومن الأغاني العاطفية يسجل المؤلف بعض هذه النصوص:
حلفت لاغني واشل بالصوت
واسلي على قلبي لوما يجي الموت
شاجي معاك لو ما تزل باجل
وابكي عليك لا ما املي المواجل
بالله عليك يا طير يا مسيقن
قم شِل لي مكتوب لا»مريكن»
أما النوع الثالث من فنون الشعر الشعبى اليمني فيعرض المؤلف لفن «القصيد» وهو نوع من الشعر الشعبي له أوزانه المتعددة وهيكله الشعري المتوارث حيث يلتزم بقافيتين في صدر البيت قافية وفي عجزه قافية أخرى، ويمتد من حيث عدد الأبيات إلى ما يشبه القصيدة العمودية في الشعر الفصيح، ويرتبط بكبار الشعراء الشعبيين. أما النوع الأخير فهو «الدان الحضرمي» وهو لون تراثي موغل في القدم، والدان كلمة مأخوذة من الدندنة- أي الأصوات الموقعة بالغناء- التي هي من الفعل الرباعي يدندن، ومن معانيها أن تسمع من الرجل نغمة أو صوتًا ولا تفهم ما يقول.. ويصنف الدان إلى ثلاثة أنواع: دان الجمالة- الدان البدوي- الدان الحضري، وله أغراض متعددة منها: الغزل والمدح والفخر، والرثاء، والوصف، والهجاء، والحماسة، والحكمة، وغيرها.
ويحوي الكتاب قسمًا للملاحق سجل فيها أبو طالب تجربته الميدانية لكافة أنواع الأدب الشعبي التي عرض لها في الفصول الثلاثة، وأسلوب البحث العلمي لهذه الأنواع، ثم نماذج متعددة للحكايات والسير والأشعار والأساطير وغيرها مما قدم له نظريًا خلال فصول الكتاب.
حكايات من التراث اليمني:
صدر هذا العام 2020 كتاب حكايات من التراث الشعبي اليمني لمؤلفه محمد سبأ، بصنعاء عن دار الكتب اليمنية للطباعة والنشر والتوزيع، والكتاب يقع في 272 صفحة من الحجم المتوسط.
قدم للكتاب نجيبة حداد التي أشارت إلى أن المؤلف اجتهد من خلال البحث والقراءة والمقابلات الشخصية مع الإخباريين من الرواة وكبار السن في جمع وتدوين هذا النوع من الأدب وهو الحكايات الشعبية اليمنية الأصيلة، إبتداء من الحكايات التاريخية المرتبطة بماضي وحضارة اليمن. ثم الحكايات التي ترتبط بالأرض والزراعة والحكمة. وكذلك الحكايات التي تمتاز بالفكاهة والدعابة، وهي ميزة من مميزات الشعب اليمني، كما سعى إلى توثيق الحكايات التي ترتبط بالمعتقدات والمعارف الشعبية كحكايات الجن والمخلوقات الغريبة والكواكب، وكذلك حكايات حكيم اليمن علي ولد زايد وحكايات أيام الغمام وغيرها من الحكايات التي بلغت مائة وخمسين حكاية. وقد كانت العائلات قديماً لا تستغني عن حكايات الجدة التي ترويها للأبناء كل مساء، ولهذا أصبح هذا النوع من الأدب يقدم الولاء والإنتماء للوطن ويرتبط بالقيم والمعتقدات والصراع بين الخير والشر والحق والباطل والضعيف والقوي والخائن والوفي الخ.
وأضافت حداد أن محمد سبأ قد اجتهد في هذا الكتاب وقدم شيئاً جديداً للمكتبة اليمنية والعربية بل لكل الباحثين في حضارة اليمن وتراثها حول العالم وهو من الشباب المتميزين الذين سبق لهم الفوز في مسابقات إبداعية في القاهرة، وقد حضرت ذات مرة لفعاليات حفل تكريمه بالفوز بجائزة لوتس للقصة القصيرة عام 2018 لدى مؤسسة لوتس للتنمية الثقافية وهو كذلك فنان تشكيلي أقام عددا من المعارض الشخصية التي حضرتها له في القاهرة ولاقت نجاحاً كبيراً وله لوحات تعبر عن محتوى هذا الكتاب القيم.
ثم بدأ المؤلف كتابه بمقدمة علمية أشار فيها إلى أن ظهور وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل المرئية والمسموعة قد أدى إلى نسيان الكثير من حكاياتنا الشعبية، وكان بداية فقدان هذا التراث عندما احتل الراديو ثم التلفزيون مكان الحكواتى أو السامر أو كبار السن، الذين كانوا يحفظون الحكايات المتوارَثة عبر أجيال طويلة، فلم يعد الناس يتجمعون فى السامر وقت فراغهم،
ولم يعد الحكواتى يحيي السهرات الليلية بالحكايات والسير، فقد كانت الأجيال الصاعدة تتعلم من خلالها الكثير من القيم النبيلة، وتزرع فى نفوس أولادنا حب الخير والكرم والتعاون والشجاعة، فتحفز الهمم وتوجه الشباب والمجتمعات لعمل الخير وترك الشر.
ويستطرد سبأ بقوله: حاولت جاهدًا في هذا الكتاب أن أجمع ما استطعت من هذه الحكايات الشعبية النابعة من حكمة الشعب اليمني الأصيل، وقد اعتمدت في جمعها على عدة مصادر، فاعتمدت بالدرجة الأولى على الرواة والأخباريين، ممن قابلتهم وعايشتهم، ومنها ما جمع من الكتب والمراجع التي هي في الأساس كتب تاريخية أو كتب رحلات، أو كتب لا يظهر من عنواناتها أن في طيها حكايات شعبية، وحرصت على قراءة الكثير من الكتب للبحث عنها والتأكد من مصداقيتها من عدة مصادر، ومن ثم تدوينها وجمعها في هذا الكتاب حتى تخرج للعيان ويفيد منها القراء؛ لما لها من أهمية كبيرة في حياتنا وخشيةً عليها من النسيان والضياع، واستشعارًا لأهميتها.. وقد حرصت على أن لا أكرر ما قد جمع منها في كتب الحكايات الشعبية اليمنية في كتابات سابقة، مثل ما جمعه علي محمد عبده فى كتابه «حكايات وأساطير يمنية»، ولم أكرر ما جاء فى كتاب «أساطير من تاريخ اليمن» لحمزة علي لقمان، أو ما جاء في كتب أروى عثمان «حزاوي وريقة الحناء» بأجزائها الثلاثة، إلا ما كان منها مختلفاً في صياغة النص، ورأيت فيه اختلافات كثيرة عما دوَّنه من سبقني، فأحببت أن أدونها كما سمعتها بصيغتها في البيئة التي ولدت ونشأت فيها وقد حظيت محافظة إب وسط اليمن وما يجاورها بالنصيب الأكبر منها كونها منطقة عيش وحياة جامع هذه الحكايات .
وهذه الحكايات لم تأت من فراغ فهي نتاج تجربة وخبرات طويلة صقلتها التجربة الشعبية عبر العصور، وتحمل في طيها العديد من المفاهيم والأهداف التعليمية والتربوية.. فهى خلاصة خبرات طويلة لأجيال سابقة، فنجدها تارة تعلم الأبناء حب الأرض وحب الخير، وتنفرهم من الشر، مثلا حكاية «وريقة الحناء» التي أوردها علي محمد عبده في كتابه «أساطير وحكايات يمنية»، فقد صور فيها الخيال الشعبي الفتاة «كرام» وهي تذهب لتغتسل في البركة فتخرج مغطاة بالحيات والثعابين والعقارب، فتعود إلى منزلها على تلك الحالة والحيات على جسمها، وتنادي على والدها لكي يقوم بإحضار أداة القطع «الشريم» لإزالتها عنها، قد يجدها البعض قصة أبعد ما يكون عن أن تقبلها عقولُ أهل هذا الزمان، لكن الحقيقة أن الخيال الشعبي كان يهدف من وراء هذه الرعب والمبالغة إلى صقل وتهذيب عقول الأطفال، فيزرع في نفوسهم كراهية الشر في المراحل الأولى من عمرهم، فهو يدرك من خلال الحكمة التي تعلمها عبر العصور أن هذه المرحلة ما زالت بحاجة إلى تهذيب الطفل، فالفتاة كرام يكون مصيرها موحشًا، وكذلك حالُ كل طفل لا يساعد الناس، وعلى العكس من ذلك، من يفعل الخير سيكون مصيره سعيدًا مثل وريقة الحناء التي كانت تعمل على مساعدة العجوز وتمدها بالطعام وتفلي شعرها، فكانت مكافأتها أن تحولت هذه العجوز إلى جنيةً تحقق لها أحلامها. فالخيال الشعبي يغرس في نفوس الصغار أن فعل الخير لا يقف أمامه حاجز مهما يكن.
ويتساءل: هل ننسى هذه الحكمة ونطمس تراثنا، مستعيضين عنه بالإنترنت والتلفاز لتعليم أجيالنا! أم نوثق حكاياتنا الشعبية ونجعل منها وسائل تعليمية، ونحولها إلى ما شئنا من مسرحيات أو تمثيليات وغيرها، بحيث نعلّم أبناءنا الحكمة التي توارثناها من بيئتنا الأصلية؟!
من هنا كان الهدف الرئيس من تجميع هذه الحكايات وقد حرص المؤلف أثناء جمع هذه الحكايات على تدوينها كما هي في بيئتها دون زيادة أو نقصان مع استخدام لغة سلسة تحافظ على مضمون الحكاية ولا تفقدها فكرتها وروحها، كما حرص على أن تكون اللغة عربية تفهمها كل الشعوب العربية أو الأجنبية في حال ترجمت، فهذه الحكايات رويت بعدة لهجات، وتختلف طرق سردها من مكان إلى آخر.
قسم سبأ مجموعات الحكايات بالكتاب إلى عدة فصول يتناول كل منها نوعا من هذه الحكايات، بدأها بفصل خصصه حول (الحكايات الشعبية التاريخية في اليمن)، وتضم هذه المجموعة حكايات تعود جذورها إلى عصور ضاربة في القدم، فمنها ما تدور تفاصيله حول حوادث تاريخية مر بها اليمن، كان لها أثرها على تكوين الخيال الشعبي، ومنها ما يدور حول شخصيات تاريخية حكمت اليمن في فترات مختلفة، ومنها ما يدور حول أماكن أو قصور لها شهرة كبيرة، وتضمنت هذه المجموعة ثلاث وعشرين حكاية، منها: هابيل وقابيل وشجرة دم الأخوين- عود بن عنق- بلقيس ملكة اليمن- حكاية سبأ الأول- سيف بن ذي يزن- الملكة أروى- مدينة عدن الغارقة..إلخ. أما المجموعة الثانية فجاءت بعنوان (حكايات الأرض بعد حكم علي ولد زايد)، ويقصد بها الحكايات المرتبطة بالفلاحة والزراعة وتربية الحيوانات التي تساعد الفلاح على حراثة الأرض، وقد عكست عناوين هذه الحكايات سمات هذه المجموعة التي تألفت من عشرين حكاية منها: حبة الذرة العملاقة- بنت البيضة- الثور والحمار الكسول- الفلاح والخضر، كما ضمت
ويستطرد سبأ بقوله: حاولت جاهدًا في هذا الكتاب أن أجمع ما استطعت من هذه الحكايات الشعبية النابعة من حكمة الشعب اليمني الأصيل، وقد اعتمدت في جمعها على عدة مصادر، فاعتمدت بالدرجة الأولى على الرواة والأخباريين، ممن قابلتهم وعايشتهم، ومنها ما جمع من الكتب والمراجع التي هي في الأساس كتب تاريخية أو كتب رحلات، أو كتب لا يظهر من عنواناتها أن في طيها حكايات شعبية، وحرصت على قراءة الكثير من الكتب للبحث عنها والتأكد من مصداقيتها من عدة مصادر، ومن ثم تدوينها وجمعها في هذا الكتاب حتى تخرج للعيان ويفيد منها القراء؛ لما لها من أهمية كبيرة في حياتنا وخشيةً عليها من النسيان والضياع، واستشعارًا لأهميتها.. وقد حرصت على أن لا أكرر ما قد جمع منها في كتب الحكايات الشعبية اليمنية في كتابات سابقة، مثل ما جمعه علي محمد عبده فى كتابه «حكايات وأساطير يمنية»، ولم أكرر ما جاء فى كتاب «أساطير من تاريخ اليمن» لحمزة علي لقمان، أو ما جاء في كتب أروى عثمان «حزاوي وريقة الحناء» بأجزائها الثلاثة، إلا ما كان منها مختلفاً في صياغة النص، ورأيت فيه اختلافات كثيرة عما دوَّنه من سبقني، فأحببت أن أدونها كما سمعتها بصيغتها في البيئة التي ولدت ونشأت فيها وقد حظيت محافظة إب وسط اليمن وما يجاورها بالنصيب الأكبر منها كونها منطقة عيش وحياة جامع هذه الحكايات .
وهذه الحكايات لم تأت من فراغ فهي نتاج تجربة وخبرات طويلة صقلتها التجربة الشعبية عبر العصور، وتحمل في طيها العديد من المفاهيم والأهداف التعليمية والتربوية.. فهى خلاصة خبرات طويلة لأجيال سابقة، فنجدها تارة تعلم الأبناء حب الأرض وحب الخير، وتنفرهم من الشر، مثلا حكاية «وريقة الحناء» التي أوردها علي محمد عبده في كتابه «أساطير وحكايات يمنية»، فقد صور فيها الخيال الشعبي الفتاة «كرام» وهي تذهب لتغتسل في البركة فتخرج مغطاة بالحيات والثعابين والعقارب، فتعود إلى منزلها على تلك الحالة والحيات على جسمها، وتنادي على والدها لكي يقوم بإحضار أداة القطع «الشريم» لإزالتها عنها، قد يجدها البعض قصة أبعد ما يكون عن أن تقبلها عقولُ أهل هذا الزمان، لكن الحقيقة أن الخيال الشعبي كان يهدف من وراء هذه الرعب والمبالغة إلى صقل وتهذيب عقول الأطفال، فيزرع في نفوسهم كراهية الشر في المراحل الأولى من عمرهم، فهو يدرك من خلال الحكمة التي تعلمها عبر العصور أن هذه المرحلة ما زالت بحاجة إلى تهذيب الطفل، فالفتاة كرام يكون مصيرها موحشًا، وكذلك حالُ كل طفل لا يساعد الناس، وعلى العكس من ذلك، من يفعل الخير سيكون مصيره سعيدًا مثل وريقة الحناء التي كانت تعمل على مساعدة العجوز وتمدها بالطعام وتفلي شعرها، فكانت مكافأتها أن تحولت هذه العجوز إلى جنيةً تحقق لها أحلامها. فالخيال الشعبي يغرس في نفوس الصغار أن فعل الخير لا يقف أمامه حاجز مهما يكن.
ويتساءل: هل ننسى هذه الحكمة ونطمس تراثنا، مستعيضين عنه بالإنترنت والتلفاز لتعليم أجيالنا! أم نوثق حكاياتنا الشعبية ونجعل منها وسائل تعليمية، ونحولها إلى ما شئنا من مسرحيات أو تمثيليات وغيرها، بحيث نعلّم أبناءنا الحكمة التي توارثناها من بيئتنا الأصلية؟!
من هنا كان الهدف الرئيس من تجميع هذه الحكايات وقد حرص المؤلف أثناء جمع هذه الحكايات على تدوينها كما هي في بيئتها دون زيادة أو نقصان مع استخدام لغة سلسة تحافظ على مضمون الحكاية ولا تفقدها فكرتها وروحها، كما حرص على أن تكون اللغة عربية تفهمها كل الشعوب العربية أو الأجنبية في حال ترجمت، فهذه الحكايات رويت بعدة لهجات، وتختلف طرق سردها من مكان إلى آخر.
قسم سبأ مجموعات الحكايات بالكتاب إلى عدة فصول يتناول كل منها نوعا من هذه الحكايات، بدأها بفصل خصصه حول (الحكايات الشعبية التاريخية في اليمن)، وتضم هذه المجموعة حكايات تعود جذورها إلى عصور ضاربة في القدم، فمنها ما تدور تفاصيله حول حوادث تاريخية مر بها اليمن، كان لها أثرها على تكوين الخيال الشعبي، ومنها ما يدور حول شخصيات تاريخية حكمت اليمن في فترات مختلفة، ومنها ما يدور حول أماكن أو قصور لها شهرة كبيرة، وتضمنت هذه المجموعة ثلاث وعشرين حكاية، منها: هابيل وقابيل وشجرة دم الأخوين- عود بن عنق- بلقيس ملكة اليمن- حكاية سبأ الأول- سيف بن ذي يزن- الملكة أروى- مدينة عدن الغارقة..إلخ. أما المجموعة الثانية فجاءت بعنوان (حكايات الأرض بعد حكم علي ولد زايد)، ويقصد بها الحكايات المرتبطة بالفلاحة والزراعة وتربية الحيوانات التي تساعد الفلاح على حراثة الأرض، وقد عكست عناوين هذه الحكايات سمات هذه المجموعة التي تألفت من عشرين حكاية منها: حبة الذرة العملاقة- بنت البيضة- الثور والحمار الكسول- الفلاح والخضر، كما ضمت
هذه المجموعة حكايات علي ولد زايد وبعض الحكماء، منها: زوجات علي ولد زايد- اليهودي وخال علي ولد زايد..إلخ. أما المجموعة الثالثة فقد جاءت تحت عنوان (حكايات التهذيب والحكمة)، وهي حكايات تدعو إلى حسن التعامل مع الأرض والبيئة والحيوان ومع النفس، وتعد جزءًا من خلاصة خبرات الشعب اليمني العريق، وجاءت هذه المجموعة في عشرين حكاية أيضًا، منها حكايات: قيمتها كيس بصل- الملك والعراف- الحل بالزواج- نصائح الوالد- النصيحة بجمب- سارقة البن..إلخ.
كما خصص سبأ في تصنيفه لهذه الحكايات فصلا مستقلا لـ (حكايات الحب والعشق) وهو نوع من الحكايات التي يرويها اليمنيون بأداء لا يخلو من مداعبة وفكاهة ومتعة، ويحفظها الكبار ويقصونها على الشباب فيتسلون بها في مسامرهم وفي جلسات القات التي لا تخلو من دعابة، وتضمن هذه المجموعة أربعة عشر حكاية، ومن هذه الحكايات: حكاية وضاح اليمن وروضته- عاشق ظبية النميرية- الفتاة التي تخاف من الزواج- زينة العاشقة..إلخ. أما المجموعة الخامسة من الحكايات فقد حملت عنوان (حكايات الكواكب والجن والوحوش)، وتمثل هذه المجموعة الكثير من عناصر المعتقدات الشعبية اليمنية المرتبطة بالنجوم والسماء والكائنات الخرافية، وأغلب الحكايات الشعبية في اليمن نُسجت حول حياة البشر مع الجن، منها الحكايات التي كانت تروي زواج سبأ الأول بالجنية التي كانت في صورة غزالة مرورًا بالملكة بلقيس وحكايات استعانتها في بناء العرش بالجن، ثم سيرة سيف بن ذي يزن الملك اليمني الذي تدور حول عالم الجن والإنس، واستمر هذا الخيال إلى وقتنا الحاضر، ويحوي ثمانية عشر حكاية، منها حكايات: العدار- طاهش الحوبان- جارة البيت- العضروط- الثعبان يحرس الكنز- الداهية..إلخ. وجاءت المجموعة قبل الأخيرة تحت عنوان (حكايات من أيام الإمام) والمقصود به الحكايات المرتبطة بفترة حكم الإمامة وأسرة بيت حميد الدين، وتعبر عن مدى التخلف والجهل الذي تم غرسه في أذهان الناس آنذاك، واشتملت هذه المجموعة ثلاثة عشر حكاية، منها: ثورة سعيد الفقي- طير أبابيل- زواج الإمام يحيى- لعبة الألغام- حرب الفوانيس...إلخ. أما المجوعة السادسة والأخيرة فقد صنفها سبأ تحت عنوان (حكايات شعبية فكاهية)، حيث يزخر التراث الشفهي اليمني بالحكايات الفكاهية التي يتسامر بها الناس في مجالس القات، ويتسلون بها أثناء العمل في الحقول والمزارع، وضمت هذه المجموعة اثنتين وعشرين حكاية، منها: الفقيه والطالب- عبده عفشو والتاجر البخيل- شربة هنية- ياشيخ ثوبك حرق- المغترب وزوجته..إلخ.
الحكايات الشعبية في بلاد يافع
صدر عام 2019 كتاب جديد بعنوان «من الحكايات والقصص الشعبية في بلاد يافع» لمؤلفه ناصر سالم الكلدي عن دار الوفاق بالرياض، ويقع في 391 صفحة من الحجم المتوسط ضمن سلسلة «إصدارات الموسوعة اليافعية»، وهو ما يشير إلى مشروع خاص بتوثيق التراث اليافعي،
ومنطقة «يافع» تقع جنوب اليمن في محافظة لحج شمال شرق عدن.. ويشير نادر العمري في مقدمته للكتاب بسعادته عندما أخبره المؤلف قبل سنوات أنه يحفظ كثيرًا من الحكايات الشعبية التي كانت متداولة في بلاد يافع، وأنه ينوي تدوينها، وألح عليه حينها أن يكمل مشروعه حتى انتهى من جمع ما أمكنه جمعه من الحكايات، وأنه عازم على طبع الكتاب، وشرّفني بأن طلب مني كتابة تقديم لكتابه الرائع.. ويعرض المؤلف في مقدمة كتابه لمفهوم الأسطورة وعلاقتها بالقصة الخرافية والحكاية الشعبية، مشيرًا إلى أن مجموعة الحكايات التي سجلها في كتابه قد تجنح إلى اللون الخرافي وبعضها أشبه ما تكون بالأسطورة.
ويستمر المؤلف في مقدمته بحثًا عن جذور الحكاية الشعبية وتصنيفاتها إلى أن يصل إلى هوية الحكاية اليافعية محل الدراسة، وقد وقفت القصة اليافعية من المرأة في موقف التوسط، فهي تتحامل عليها في مواقف معينة، بينما تشيد بدورها في قصص أخرى.. لكن ذلك التبجيل والذم لا يعني المرأة ولا يحددها من حيث الجنس، لكن ذلك التبجيل والزم يتوازى مع السلوك الذي قد يرتكبه الرجل أو المرأة، حيث تنتقد القصة اليافعية «الخالة» وهي الزوجة الأخرى التي يتزوجها الرجل على امرأته الأولى، وكيف أنها تسيء معاملة أولاد الزوجة السابقة وبناتها. كما انتقدت الحكاية الشعبية اليافعية، بأسلوب مبطن، أهل الترف والقصور المنغلقة، وحرصت على ضرورة الإشادة بالتعلم من الحكماء، والتمسك بالأمانة، وذم السلوك السيء فضلاً عن تبجيل الأولياء واحترام كبار السن والوالدين، وقيمة الصبر..
إن الحكاية اليافعية تحفل بعناصر الإسقاط والسفر عبر الأزمان الذي ينقلك من زمن إلى آخر، والتي انتشرت في الزمن القديم.. والملفت في الحكاية اليافعية تحاملها على القضاة، وقد يعود السبب إلى أن القضاة ينفذون أمر الولاة والسلاطين، ولا يهمهم أن كان الشخص ظالمًا أو مظلومًا.. كما يعرض المؤلف لمبحث حول أهمية معرفتنا للحكاية الشعبية القديمة، وعلاقتها بالمعتقد الشعبي..
كما خصص سبأ في تصنيفه لهذه الحكايات فصلا مستقلا لـ (حكايات الحب والعشق) وهو نوع من الحكايات التي يرويها اليمنيون بأداء لا يخلو من مداعبة وفكاهة ومتعة، ويحفظها الكبار ويقصونها على الشباب فيتسلون بها في مسامرهم وفي جلسات القات التي لا تخلو من دعابة، وتضمن هذه المجموعة أربعة عشر حكاية، ومن هذه الحكايات: حكاية وضاح اليمن وروضته- عاشق ظبية النميرية- الفتاة التي تخاف من الزواج- زينة العاشقة..إلخ. أما المجموعة الخامسة من الحكايات فقد حملت عنوان (حكايات الكواكب والجن والوحوش)، وتمثل هذه المجموعة الكثير من عناصر المعتقدات الشعبية اليمنية المرتبطة بالنجوم والسماء والكائنات الخرافية، وأغلب الحكايات الشعبية في اليمن نُسجت حول حياة البشر مع الجن، منها الحكايات التي كانت تروي زواج سبأ الأول بالجنية التي كانت في صورة غزالة مرورًا بالملكة بلقيس وحكايات استعانتها في بناء العرش بالجن، ثم سيرة سيف بن ذي يزن الملك اليمني الذي تدور حول عالم الجن والإنس، واستمر هذا الخيال إلى وقتنا الحاضر، ويحوي ثمانية عشر حكاية، منها حكايات: العدار- طاهش الحوبان- جارة البيت- العضروط- الثعبان يحرس الكنز- الداهية..إلخ. وجاءت المجموعة قبل الأخيرة تحت عنوان (حكايات من أيام الإمام) والمقصود به الحكايات المرتبطة بفترة حكم الإمامة وأسرة بيت حميد الدين، وتعبر عن مدى التخلف والجهل الذي تم غرسه في أذهان الناس آنذاك، واشتملت هذه المجموعة ثلاثة عشر حكاية، منها: ثورة سعيد الفقي- طير أبابيل- زواج الإمام يحيى- لعبة الألغام- حرب الفوانيس...إلخ. أما المجوعة السادسة والأخيرة فقد صنفها سبأ تحت عنوان (حكايات شعبية فكاهية)، حيث يزخر التراث الشفهي اليمني بالحكايات الفكاهية التي يتسامر بها الناس في مجالس القات، ويتسلون بها أثناء العمل في الحقول والمزارع، وضمت هذه المجموعة اثنتين وعشرين حكاية، منها: الفقيه والطالب- عبده عفشو والتاجر البخيل- شربة هنية- ياشيخ ثوبك حرق- المغترب وزوجته..إلخ.
الحكايات الشعبية في بلاد يافع
صدر عام 2019 كتاب جديد بعنوان «من الحكايات والقصص الشعبية في بلاد يافع» لمؤلفه ناصر سالم الكلدي عن دار الوفاق بالرياض، ويقع في 391 صفحة من الحجم المتوسط ضمن سلسلة «إصدارات الموسوعة اليافعية»، وهو ما يشير إلى مشروع خاص بتوثيق التراث اليافعي،
ومنطقة «يافع» تقع جنوب اليمن في محافظة لحج شمال شرق عدن.. ويشير نادر العمري في مقدمته للكتاب بسعادته عندما أخبره المؤلف قبل سنوات أنه يحفظ كثيرًا من الحكايات الشعبية التي كانت متداولة في بلاد يافع، وأنه ينوي تدوينها، وألح عليه حينها أن يكمل مشروعه حتى انتهى من جمع ما أمكنه جمعه من الحكايات، وأنه عازم على طبع الكتاب، وشرّفني بأن طلب مني كتابة تقديم لكتابه الرائع.. ويعرض المؤلف في مقدمة كتابه لمفهوم الأسطورة وعلاقتها بالقصة الخرافية والحكاية الشعبية، مشيرًا إلى أن مجموعة الحكايات التي سجلها في كتابه قد تجنح إلى اللون الخرافي وبعضها أشبه ما تكون بالأسطورة.
ويستمر المؤلف في مقدمته بحثًا عن جذور الحكاية الشعبية وتصنيفاتها إلى أن يصل إلى هوية الحكاية اليافعية محل الدراسة، وقد وقفت القصة اليافعية من المرأة في موقف التوسط، فهي تتحامل عليها في مواقف معينة، بينما تشيد بدورها في قصص أخرى.. لكن ذلك التبجيل والذم لا يعني المرأة ولا يحددها من حيث الجنس، لكن ذلك التبجيل والزم يتوازى مع السلوك الذي قد يرتكبه الرجل أو المرأة، حيث تنتقد القصة اليافعية «الخالة» وهي الزوجة الأخرى التي يتزوجها الرجل على امرأته الأولى، وكيف أنها تسيء معاملة أولاد الزوجة السابقة وبناتها. كما انتقدت الحكاية الشعبية اليافعية، بأسلوب مبطن، أهل الترف والقصور المنغلقة، وحرصت على ضرورة الإشادة بالتعلم من الحكماء، والتمسك بالأمانة، وذم السلوك السيء فضلاً عن تبجيل الأولياء واحترام كبار السن والوالدين، وقيمة الصبر..
إن الحكاية اليافعية تحفل بعناصر الإسقاط والسفر عبر الأزمان الذي ينقلك من زمن إلى آخر، والتي انتشرت في الزمن القديم.. والملفت في الحكاية اليافعية تحاملها على القضاة، وقد يعود السبب إلى أن القضاة ينفذون أمر الولاة والسلاطين، ولا يهمهم أن كان الشخص ظالمًا أو مظلومًا.. كما يعرض المؤلف لمبحث حول أهمية معرفتنا للحكاية الشعبية القديمة، وعلاقتها بالمعتقد الشعبي..
ويشير إلى أنه عادة ما تتخلل الحكايات عبارات يكررها الحكواتي في كل حكاية، وهي بمثابة تحسينات يأتي بها من عنده، كمثل قوله- إذا كانت الشخصية المحكي عنها تنتقل من بلاد إلى أخرى لمسافات طويلة (هبّي دبّي، هبّي دبّي)، وكذلك قولهم (وأرضًا تصلي وأرضًا تولي، وأرضًا تصلي وأرضًا تولي) للغرض نفسه عندما تطول الرحلة، وغيرها من العبارات التي يستخدمها الحكواتي لتحسين طريقة أدائه، ومحاولة إطالة القص قدر الإمكان.
ويحوي الكتاب ما يقرب من مائة وعشرين حكاية لم يقم المؤلف بتصنيفها رغم قابليتها لذلك، وإنما أوردها في ترتيب معين، وقد حملت كل منها عنوانًا دالاً عليها منها: الثعلب والغراب والنمر- الفلوس تدي ما طلبته النفوس- الرعوي البسيط والمشتري المحتال- الرجل الحكيم- الأميرة وبانواس- جرف التماني- حارس ليلة القدر- درس في تربية الزوجة- ماء عين الحياة- جدة أهل شبح. وقد حفلت المجموعة أيضًا بحكايات الأمثال الشعبية، منها: حكايات الأمثال الشعبية: الحسنة ولو على راكب الحصان- صليت لك تقر- لا الحمار بالنعمة ناق- لا معك جناحين قمّعي طُميحين- الضرطة بضرطة والحب به غلطة..
الأغنية الشعبية اليمنية أبعادها
الثقافية والجمالية
صدر عام 2012 كتاب «الأغنية الشعبية: أبعادها الثقافية والجمالية» لمؤلفه عبد الرحمن سيف اسماعيل، عن الهيئة العامة للكتاب بصنعاء. والكتاب يقع في 355 صفحة من الحجم المتوسط. والكتاب يقع في مبحثين يناقش الأول في مقدمة نظرية طبيعة الأغنية الشعبية اليمنية، مشيرَا إلى أغاني الفلاح التي تردد غالبًا أثناء العمل الجماعي، والأغاني المرتبطة بالمرأة، ثم يعرض لبعض جوانب الروح الجمالية والإبداعية في بعض نصوص الأغنية الشعبية المرتبطة بالمرأة والفلاح، مشيرًا إلى أن المرأة في كثير من النصوص الشعرية تحاول لفت انتباه الرجل الحبيب إلى جمالها وتلخص مشاعرها وأحاسيسها بلغة سهلة. أما الأغاني التي تعكس الحنين الذي يشعر به الإنسان تجاه الآخر: الابن- الزوج- الأب- الوطن.. فهي حاضرة بقوة في الأغنية الشعبية اليمنية:
ذكرتني يا ورد يا نيساني
شوقتني لبلدي وأوطاني
يا قاطفة الوردة ما فاح له شم
قلبي يحبك ياحبيب كن افهم
ويستمر المؤلف في عرض نماذج تحليلية للأغنية الشعبية اليمنية مركزًا على المرأة الريفية التي جبلت على التغزل بجمالها، وإبراز مفاتنها في محاولة لدغدغة مشاعر الحبيب..وكذا الأغنيات التي تعكس الظمأ العاطفي بين الرجل والمرأة في قوالب جمالية شفافة، فتتغنى المرأة بالصفات الحميدة لمن عشقه قلبها، وحرك وجدانها طربًا للقائه:
صدر المليح بستان وورد فاتش
وأنا جزعت جنب الغيول العاطش
ثم يبحث عبد الرحمن سيف في الصور الجمالية لبعض نصوص الأغنية الشعبية وارتباطها بالإيقاع النغمي، ولا تزال النماذج التي يوردها تعكس مشاعر الحب والغزل والشوق العاطفي للحبيب:
أصه اسكتوا صوت بالنقيل داعي
لا هو الحبيب شامد له ذراعي
مشيرًا أيضًا للدلالة الجمالية لما أسماه «الأخضري» فالمرأة الخضراء هي المرأة السمراء الجميلة، ويطلق الأخضري أيضًا على الكثير من المنتجات الزراعية، ولذاحظي الأخضري بقسط أكبر في أغاني المرأة الريفية:
أخضر ينوس نازل نقيل الأعبوس
يا عيدروس افسح لكل محبوس
كما يعرض المؤلف لبعض المفاهيم المتضمنة في الشعبية اليمنية كمفهوم الاغتراب والوطن ودلالات الفداء والترحيب بالحبيب، ومفهوم الرفض والأجرام السماوية في الدلالة على الحب:
زوج القمر يضرب إلى الشبابيك
صافي البدن يا سعد من يهاويك
ولا تزال النماذج الواردة بالكتاب حول الأغنية الشعبية مرتبطة بمفهوم الحب والغزل والتأثير الوجداني، فضلا عن القات والتنباك، إلى جانب دلالات «القامة» أي قامة الرجل باعتبارها إحدى صور الجمال أيضًا، فكل امرأة أنشدت لهذا الرجل الطويل.. أو ذاك القصير، وكل رأته بعينها وبقلبها، وبمعاييرها المختلفة:
رد السلام على الطويل واجب
أما القصير حبحب بالشواجب
ويصل بنا عبد الرحمن سيف إلى المبحث الثاني الذي خصصه لأغاني الفلاحة، ليشير إلى أن الأغنية الفلاحية ارتبطت أكثر بالأرض والعمل.. وهي تختلف كثيرًا عن أغاني المرأة والحب والغزل، وأبرز الاختلافات في كون الأولى فردية وجدانية أكثر، فيما نجد أن الأغنية الفلاحية أغنية جماعية أكثر منها فردية، وتعبر عن روح الجماعة، حتى أن المقاطع الفردية في الأغنية الفلاحية لها إيقاع أقرب إلى الجماعية.. وهذا النوع من الغناء لا يحتاج عادة إلى استخدام الآلات الموسيقية.. وتتنوع الأغنية الفلاحية بتنوع المواسم والمواقيت الزراعية التي تخضع لحركة النجوم والشمس والقمر والأفلاك، وتعتمد على «الملالاة» والمشتقة من اللازمة الغنائية التي يبتدىء بها المغني بقوله: ألا ليه ليه ليليه».. وصنف المؤلف هذا النوع من الأغاني إلى عدة أنواع منها أغاني «الشصرة» وهي مفتاح الموسم الزراعي وأوله، حيث يتمنى الفلاح أن يكون مبشرًا بخير وفير:
هي بالله بدا مالي
صباح عدتي وأثواري
صباح من سنامه عالي
صبوحك يا بنت خالي
قزحة بيضة وبصالي
ويحوي الكتاب ما يقرب من مائة وعشرين حكاية لم يقم المؤلف بتصنيفها رغم قابليتها لذلك، وإنما أوردها في ترتيب معين، وقد حملت كل منها عنوانًا دالاً عليها منها: الثعلب والغراب والنمر- الفلوس تدي ما طلبته النفوس- الرعوي البسيط والمشتري المحتال- الرجل الحكيم- الأميرة وبانواس- جرف التماني- حارس ليلة القدر- درس في تربية الزوجة- ماء عين الحياة- جدة أهل شبح. وقد حفلت المجموعة أيضًا بحكايات الأمثال الشعبية، منها: حكايات الأمثال الشعبية: الحسنة ولو على راكب الحصان- صليت لك تقر- لا الحمار بالنعمة ناق- لا معك جناحين قمّعي طُميحين- الضرطة بضرطة والحب به غلطة..
الأغنية الشعبية اليمنية أبعادها
الثقافية والجمالية
صدر عام 2012 كتاب «الأغنية الشعبية: أبعادها الثقافية والجمالية» لمؤلفه عبد الرحمن سيف اسماعيل، عن الهيئة العامة للكتاب بصنعاء. والكتاب يقع في 355 صفحة من الحجم المتوسط. والكتاب يقع في مبحثين يناقش الأول في مقدمة نظرية طبيعة الأغنية الشعبية اليمنية، مشيرَا إلى أغاني الفلاح التي تردد غالبًا أثناء العمل الجماعي، والأغاني المرتبطة بالمرأة، ثم يعرض لبعض جوانب الروح الجمالية والإبداعية في بعض نصوص الأغنية الشعبية المرتبطة بالمرأة والفلاح، مشيرًا إلى أن المرأة في كثير من النصوص الشعرية تحاول لفت انتباه الرجل الحبيب إلى جمالها وتلخص مشاعرها وأحاسيسها بلغة سهلة. أما الأغاني التي تعكس الحنين الذي يشعر به الإنسان تجاه الآخر: الابن- الزوج- الأب- الوطن.. فهي حاضرة بقوة في الأغنية الشعبية اليمنية:
ذكرتني يا ورد يا نيساني
شوقتني لبلدي وأوطاني
يا قاطفة الوردة ما فاح له شم
قلبي يحبك ياحبيب كن افهم
ويستمر المؤلف في عرض نماذج تحليلية للأغنية الشعبية اليمنية مركزًا على المرأة الريفية التي جبلت على التغزل بجمالها، وإبراز مفاتنها في محاولة لدغدغة مشاعر الحبيب..وكذا الأغنيات التي تعكس الظمأ العاطفي بين الرجل والمرأة في قوالب جمالية شفافة، فتتغنى المرأة بالصفات الحميدة لمن عشقه قلبها، وحرك وجدانها طربًا للقائه:
صدر المليح بستان وورد فاتش
وأنا جزعت جنب الغيول العاطش
ثم يبحث عبد الرحمن سيف في الصور الجمالية لبعض نصوص الأغنية الشعبية وارتباطها بالإيقاع النغمي، ولا تزال النماذج التي يوردها تعكس مشاعر الحب والغزل والشوق العاطفي للحبيب:
أصه اسكتوا صوت بالنقيل داعي
لا هو الحبيب شامد له ذراعي
مشيرًا أيضًا للدلالة الجمالية لما أسماه «الأخضري» فالمرأة الخضراء هي المرأة السمراء الجميلة، ويطلق الأخضري أيضًا على الكثير من المنتجات الزراعية، ولذاحظي الأخضري بقسط أكبر في أغاني المرأة الريفية:
أخضر ينوس نازل نقيل الأعبوس
يا عيدروس افسح لكل محبوس
كما يعرض المؤلف لبعض المفاهيم المتضمنة في الشعبية اليمنية كمفهوم الاغتراب والوطن ودلالات الفداء والترحيب بالحبيب، ومفهوم الرفض والأجرام السماوية في الدلالة على الحب:
زوج القمر يضرب إلى الشبابيك
صافي البدن يا سعد من يهاويك
ولا تزال النماذج الواردة بالكتاب حول الأغنية الشعبية مرتبطة بمفهوم الحب والغزل والتأثير الوجداني، فضلا عن القات والتنباك، إلى جانب دلالات «القامة» أي قامة الرجل باعتبارها إحدى صور الجمال أيضًا، فكل امرأة أنشدت لهذا الرجل الطويل.. أو ذاك القصير، وكل رأته بعينها وبقلبها، وبمعاييرها المختلفة:
رد السلام على الطويل واجب
أما القصير حبحب بالشواجب
ويصل بنا عبد الرحمن سيف إلى المبحث الثاني الذي خصصه لأغاني الفلاحة، ليشير إلى أن الأغنية الفلاحية ارتبطت أكثر بالأرض والعمل.. وهي تختلف كثيرًا عن أغاني المرأة والحب والغزل، وأبرز الاختلافات في كون الأولى فردية وجدانية أكثر، فيما نجد أن الأغنية الفلاحية أغنية جماعية أكثر منها فردية، وتعبر عن روح الجماعة، حتى أن المقاطع الفردية في الأغنية الفلاحية لها إيقاع أقرب إلى الجماعية.. وهذا النوع من الغناء لا يحتاج عادة إلى استخدام الآلات الموسيقية.. وتتنوع الأغنية الفلاحية بتنوع المواسم والمواقيت الزراعية التي تخضع لحركة النجوم والشمس والقمر والأفلاك، وتعتمد على «الملالاة» والمشتقة من اللازمة الغنائية التي يبتدىء بها المغني بقوله: ألا ليه ليه ليليه».. وصنف المؤلف هذا النوع من الأغاني إلى عدة أنواع منها أغاني «الشصرة» وهي مفتاح الموسم الزراعي وأوله، حيث يتمنى الفلاح أن يكون مبشرًا بخير وفير:
هي بالله بدا مالي
صباح عدتي وأثواري
صباح من سنامه عالي
صبوحك يا بنت خالي
قزحة بيضة وبصالي
وهناك أنواع أخرى من أغاني الفلاح رصدها المؤلف منها: أغاني المقرب، وأغاني البذار (الذري) وهي مرحلة مهمة وأساسية في أعمال الزراعة، ولهذه المرحلة أغانيها وأهازيجها الخاصة، وفيها تكثر الأعمال وخدمة الأرض، فيقول على لسان الفلاحة:
شجي خصب وشترجع تشاني
بالخصب ماشكش أني
شجي خصب شترجع تراجع
وادكع وابن الدكع
شجي خصب شجي محاجين
ولعين وابن اللعين
ويختم المؤلف كتابه بنوعين من أغاني الفلاحة الأولى هي أغاني «النقوة» التي تأتي فور ظهور الزرع مباشرة، حيث يقوم الفلاح خلالها باستخدام الحجنة لانتشال النباتات والأعشاب الطفيلية التي تعيش على حساب الزرع، وهي عملية مهمة في العمل الزراعي. والنقوة باعتبارها عملية تؤدى بطريقة جماعية باستخدام الأهازيج والزوامل والمواويل التي تستهدف تشجيع الناس وحثهم على إنجاز العمل بصورة سريعة:
الأخضـر محنـا وجـالس.. الليل
طارح أرجله على المتارس.. الليل
الأخـضـر تهـيـأ ونـشــر.. الليل
أخضـر خضـرته كالعـلالي.. الليل
أما النوع الأخير من أغاني الفلاحة فقد جاء تحت اسم «الحشوشة»، والحشوش هو جز العشب الذي يظهر في أطراف الأحوال والمدرجات ومسافح المياه وعلى جدران المدرجات باعتبارها طعامًا خصبًا وطازجًا للأبقار والأغنام:
قولوا لمنقوش البناني
ما لسهمه صابني
قولوا لمنقوش الخضابي
ما لدمعه ساكبي.
الأدب الشعبي في محافظة حجة
صدر عام 2015 كتاب «الأدب الشعبي في محافظة حجة» لمؤلفه يحيى محمد جحاف عن مؤسسة حجة الثقافية، والكتاب يقع في 159 صفحة من القطع المتوسط. وأشار المؤلف في مقدمته إلى أنه قد سعى في كتابه إلى جمع شذرات من التراث الثقافي في محافظة حجة التي تتميز بخصوصية في جوانب الأدب الإنساني المتنوع، والمتميز بخصوصيته النابعة من التضاريس المتنوعة التي جمعت بين الجبل والسهل والساحل كان لها الأثر الكبير في هذه الخصوصية، دون الكثير من المحافظات اليمنية الأخرى.. ويستطرد بقوله: أننا قد حاولنا جمع جزء بسيط من هذا الموروث النادر تاركين الباب مفتوحا لكل من يرغب من المهتمين والباحثين من أبناء الوطن عامة وأبناء محافظة حجة في البحث والجمع في هذا الجانب المهم الذي يحتاج إلى تضافر كل الجهود كون المجتمع يشهد حاليا الكثير من التحولات الاجتماعية والثقافية التي أخذت تؤثر على الوسائل والمؤسسات التقليدية التي كانت تؤطر عملية النقل من جيل إلى آخر، والتي يمكن أن تؤدي إلى مكونات الذاكرة على هذا الصعيد، وبالنسبة إلى مكوناتها على أصعدة أخرى، إلى فقدان هذا الإرث الثقافي والتاريخي، وهذا ما لمسناه من خلال النزول الميداني والالتقاء بالكثير من الناس الذين صاروا لا يتذكرون إلا القليل منه نتيجة الطغيان المدمر الذي حل على هذا الموروث الثقافي.
بدأ المؤلف كتابه بمقدمة علمية تناول فيها مفهوم الأدب الشعبي، ثم تتابعت فصول الكتاب التي بدأها بفصل حول «الأغنية الشعبية» التي صنفها إلى: أغاني العمل الزراعي- الحصاد (الصراب)- أغاني نزع المياه- أغاني الرعي وجمع الحطب- أغاني العرس- أغاني المهد (أغاني الأطفال)- أغاني الجمالة- أغاني السفر- أغاني الفراق- الانشاد الديني- أغاني التكافل الاجتماعي. وقد أفرد المؤلف تعريفًا لكل نوع مع تقديم نماذج منه. أما الفصل الثاني فقد خصصه المؤلف لبحث «الزامل اليمني» وهو عبارة عن أبيات من الشعر العامي البسيط يعود تاريخه إلى ملوك حمير، وتتنوع الزوامل باختلاف المناسبة، وفي العادة تؤدى بشكل جماعي، حيث يقوم أحدهم- ويطلق عليه في بعض المناطق «البداع» أي من يبدع القول- بوضع الكلمات وتلقين الآخرين هذه الكلمات لحفظها حتى يتمكن الجميع من ترديدها كون المجموعة الأولى تقوم بترديد مقطع وتتوقف، وتقوم المجموعة الأخرى بترديد المقطع المكمل له أو ترديده في بعض الحالات، كما أنها تكون مصحوبة بالطاسات والمرافع وحامليها أمام الصفوف. والزامل في اليمن هو تعبير للحياة المباشرة من خلال الأصوات المتجاوبة، وهو نتاج جماعي روته أجيال عن أجيال، وأكثرها مشهورة التداول، لكنها تظل مجهولة القائل.. وهناك زامل الحرب، وزامل الترحيب وزامل الاستقبال، وزامل الزفاف، وزامل العودة، والتمجيد والنصر والسياسة وغيرها.. ومن هذه الزوامل ما يكون على هيئة أبيات شعرية على أي بحر من الشعر ومنتقاة مثل:
يا من يخالف أمر مولانا ويعصيه
لابد من يوم يراه
لابد من يوم يشيب الطفل فيه
والطير يرسي في سماه
ومنه ما يكون على هيئة أرجوزة:
سيد تكبر والله أكبر
لابد من نهجم جباه
نضرب على أكباده بمعبر
ونلحق الذانب ورآه
ثم ينتقل جحاف لعرض الأدب الشعبي المرتبط بـ «المناسبات» ومنها احتفالية عيد الفطر وعيد الأضحى وارتباطهما بأغاني النساء
سنسين الرغد
قد أول العشر من غد
قد الكباش في الدرج
والبر الأحمر مدقق
شجي خصب وشترجع تشاني
بالخصب ماشكش أني
شجي خصب شترجع تراجع
وادكع وابن الدكع
شجي خصب شجي محاجين
ولعين وابن اللعين
ويختم المؤلف كتابه بنوعين من أغاني الفلاحة الأولى هي أغاني «النقوة» التي تأتي فور ظهور الزرع مباشرة، حيث يقوم الفلاح خلالها باستخدام الحجنة لانتشال النباتات والأعشاب الطفيلية التي تعيش على حساب الزرع، وهي عملية مهمة في العمل الزراعي. والنقوة باعتبارها عملية تؤدى بطريقة جماعية باستخدام الأهازيج والزوامل والمواويل التي تستهدف تشجيع الناس وحثهم على إنجاز العمل بصورة سريعة:
الأخضـر محنـا وجـالس.. الليل
طارح أرجله على المتارس.. الليل
الأخـضـر تهـيـأ ونـشــر.. الليل
أخضـر خضـرته كالعـلالي.. الليل
أما النوع الأخير من أغاني الفلاحة فقد جاء تحت اسم «الحشوشة»، والحشوش هو جز العشب الذي يظهر في أطراف الأحوال والمدرجات ومسافح المياه وعلى جدران المدرجات باعتبارها طعامًا خصبًا وطازجًا للأبقار والأغنام:
قولوا لمنقوش البناني
ما لسهمه صابني
قولوا لمنقوش الخضابي
ما لدمعه ساكبي.
الأدب الشعبي في محافظة حجة
صدر عام 2015 كتاب «الأدب الشعبي في محافظة حجة» لمؤلفه يحيى محمد جحاف عن مؤسسة حجة الثقافية، والكتاب يقع في 159 صفحة من القطع المتوسط. وأشار المؤلف في مقدمته إلى أنه قد سعى في كتابه إلى جمع شذرات من التراث الثقافي في محافظة حجة التي تتميز بخصوصية في جوانب الأدب الإنساني المتنوع، والمتميز بخصوصيته النابعة من التضاريس المتنوعة التي جمعت بين الجبل والسهل والساحل كان لها الأثر الكبير في هذه الخصوصية، دون الكثير من المحافظات اليمنية الأخرى.. ويستطرد بقوله: أننا قد حاولنا جمع جزء بسيط من هذا الموروث النادر تاركين الباب مفتوحا لكل من يرغب من المهتمين والباحثين من أبناء الوطن عامة وأبناء محافظة حجة في البحث والجمع في هذا الجانب المهم الذي يحتاج إلى تضافر كل الجهود كون المجتمع يشهد حاليا الكثير من التحولات الاجتماعية والثقافية التي أخذت تؤثر على الوسائل والمؤسسات التقليدية التي كانت تؤطر عملية النقل من جيل إلى آخر، والتي يمكن أن تؤدي إلى مكونات الذاكرة على هذا الصعيد، وبالنسبة إلى مكوناتها على أصعدة أخرى، إلى فقدان هذا الإرث الثقافي والتاريخي، وهذا ما لمسناه من خلال النزول الميداني والالتقاء بالكثير من الناس الذين صاروا لا يتذكرون إلا القليل منه نتيجة الطغيان المدمر الذي حل على هذا الموروث الثقافي.
بدأ المؤلف كتابه بمقدمة علمية تناول فيها مفهوم الأدب الشعبي، ثم تتابعت فصول الكتاب التي بدأها بفصل حول «الأغنية الشعبية» التي صنفها إلى: أغاني العمل الزراعي- الحصاد (الصراب)- أغاني نزع المياه- أغاني الرعي وجمع الحطب- أغاني العرس- أغاني المهد (أغاني الأطفال)- أغاني الجمالة- أغاني السفر- أغاني الفراق- الانشاد الديني- أغاني التكافل الاجتماعي. وقد أفرد المؤلف تعريفًا لكل نوع مع تقديم نماذج منه. أما الفصل الثاني فقد خصصه المؤلف لبحث «الزامل اليمني» وهو عبارة عن أبيات من الشعر العامي البسيط يعود تاريخه إلى ملوك حمير، وتتنوع الزوامل باختلاف المناسبة، وفي العادة تؤدى بشكل جماعي، حيث يقوم أحدهم- ويطلق عليه في بعض المناطق «البداع» أي من يبدع القول- بوضع الكلمات وتلقين الآخرين هذه الكلمات لحفظها حتى يتمكن الجميع من ترديدها كون المجموعة الأولى تقوم بترديد مقطع وتتوقف، وتقوم المجموعة الأخرى بترديد المقطع المكمل له أو ترديده في بعض الحالات، كما أنها تكون مصحوبة بالطاسات والمرافع وحامليها أمام الصفوف. والزامل في اليمن هو تعبير للحياة المباشرة من خلال الأصوات المتجاوبة، وهو نتاج جماعي روته أجيال عن أجيال، وأكثرها مشهورة التداول، لكنها تظل مجهولة القائل.. وهناك زامل الحرب، وزامل الترحيب وزامل الاستقبال، وزامل الزفاف، وزامل العودة، والتمجيد والنصر والسياسة وغيرها.. ومن هذه الزوامل ما يكون على هيئة أبيات شعرية على أي بحر من الشعر ومنتقاة مثل:
يا من يخالف أمر مولانا ويعصيه
لابد من يوم يراه
لابد من يوم يشيب الطفل فيه
والطير يرسي في سماه
ومنه ما يكون على هيئة أرجوزة:
سيد تكبر والله أكبر
لابد من نهجم جباه
نضرب على أكباده بمعبر
ونلحق الذانب ورآه
ثم ينتقل جحاف لعرض الأدب الشعبي المرتبط بـ «المناسبات» ومنها احتفالية عيد الفطر وعيد الأضحى وارتباطهما بأغاني النساء
سنسين الرغد
قد أول العشر من غد
قد الكباش في الدرج
والبر الأحمر مدقق
كما يستعرض الأغاني المرتبطة بالجباء في الأعراس، وهي بمثابة المساعدة المادية للحرية لمواجهة الحياة القادمة، ويدخل ذلك ضمن التكافل الاجتماعي، لكنه يبقى في حكم الدين لابد من قضائه، إلا أنه يطغى عليه التفاخر والإحراج والقمار بين الحضور كونه علنًا، ويبدأ بالكلمات التي مطلعها ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى مفردات لغوية تحمل خصوصية المكان:
البدع بذكر الله والثاني الهادي
بز البخور يطلع ولا نزلنا له
بأربع مية مجرى وألفين خياله
ثم يفرد المؤلف لشرح نماذج من الأغنية العاطفية اليمنية، وأغاني العروسة أو زفة الحريوة، والتي تبدأ مطلعها بالصلاة على النبي مع تنبيهها بالتجهيز والاستعداد، فقد حانت ساعة الرحيل وتوديع أهلها والانتقال إلى المكان الآخر الذي حلمت به:
يا صلاتي على روح النبي الغالي
قومي احربي يا حلاهيا رسمتينا
واحنا رسمنا الشباب وانت رسمتينا
توادعي بيت أبوش طوفي على أركانه
كما يخصص المؤلف فصلا عن الأغاني المصاحبة للرقص الشعبي وألعاب الطفولة والشباب، مثل ألعاب البرع، والمدرهة، وأغاني البالة، وهي من أغاني سمرية، تؤدى في جماعة وتقال في علان بعد صلاة العشاء. أما الحجاج أي أغاني الحجيج فمرتبطة بطقوس الحج منذ خروج الحاج من منزله حتى العودة إلى أهله:
منا سلام الله مياتي يبلغ إلى مكة الياتي
بيت العدالة واليقين
منا سلام الله مثني يبلغ إلى عند الحاج منا
صاحب وله مرحب عزيز
ثم ينتقل المؤلف لبعض أنواع الأدب الشعبي في عالم الأساطير ومدلولاتها، والتشييع والوداع وهي المرتبطة بعادات دفن الميت وتوديعه
يا با ويا ولدا أين الطريق لي تدلى
في عارضة أو ملوى
يا با ويا ولدا يا ورقة يا خضراء
سيري شرس بين المائ
ويختتم جحاف كتابه بفصل حول المعتقدات الشعبية والرموز المرتبطة بها كالمعتقدات المرتبطة بالحيوانات والطيور وبعض الأفعال مثل الكنس بعد سفر الشخص من المنزل، والجلوس على ضوء القمر، وكذا مدلولات العين والكف والأنف وقراءة الفنجان..إلخ..
هذه هي الرحلة الأولى في عالم التراث الشعبي اليمني.. وفي العدد القادم سأقدم لكم القسم الثاني من الرحلة..
البدع بذكر الله والثاني الهادي
بز البخور يطلع ولا نزلنا له
بأربع مية مجرى وألفين خياله
ثم يفرد المؤلف لشرح نماذج من الأغنية العاطفية اليمنية، وأغاني العروسة أو زفة الحريوة، والتي تبدأ مطلعها بالصلاة على النبي مع تنبيهها بالتجهيز والاستعداد، فقد حانت ساعة الرحيل وتوديع أهلها والانتقال إلى المكان الآخر الذي حلمت به:
يا صلاتي على روح النبي الغالي
قومي احربي يا حلاهيا رسمتينا
واحنا رسمنا الشباب وانت رسمتينا
توادعي بيت أبوش طوفي على أركانه
كما يخصص المؤلف فصلا عن الأغاني المصاحبة للرقص الشعبي وألعاب الطفولة والشباب، مثل ألعاب البرع، والمدرهة، وأغاني البالة، وهي من أغاني سمرية، تؤدى في جماعة وتقال في علان بعد صلاة العشاء. أما الحجاج أي أغاني الحجيج فمرتبطة بطقوس الحج منذ خروج الحاج من منزله حتى العودة إلى أهله:
منا سلام الله مياتي يبلغ إلى مكة الياتي
بيت العدالة واليقين
منا سلام الله مثني يبلغ إلى عند الحاج منا
صاحب وله مرحب عزيز
ثم ينتقل المؤلف لبعض أنواع الأدب الشعبي في عالم الأساطير ومدلولاتها، والتشييع والوداع وهي المرتبطة بعادات دفن الميت وتوديعه
يا با ويا ولدا أين الطريق لي تدلى
في عارضة أو ملوى
يا با ويا ولدا يا ورقة يا خضراء
سيري شرس بين المائ
ويختتم جحاف كتابه بفصل حول المعتقدات الشعبية والرموز المرتبطة بها كالمعتقدات المرتبطة بالحيوانات والطيور وبعض الأفعال مثل الكنس بعد سفر الشخص من المنزل، والجلوس على ضوء القمر، وكذا مدلولات العين والكف والأنف وقراءة الفنجان..إلخ..
هذه هي الرحلة الأولى في عالم التراث الشعبي اليمني.. وفي العدد القادم سأقدم لكم القسم الثاني من الرحلة..
العرب البائدة
لعل من الأفضل هنا، قبل الحديث عن العرب البائدة، أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى ما جرى الأخباريون عليه من تقسيم العرب إلى طبقات، أو ما عرف في الكتب التاريخية بطبقات العرب.
طبقات العرب:
اتفق الرواة وأهل الأخبار -أو كادوا يتفقون- على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات:
عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة ومستعربة وتابعة ومستعجمة.
على أن هناك من يجعلهم طبقتين: بائدة وباقية، فأما البائدة فهم الذين كانوا عربًا صرحاء خلصاء ذوي نسب عربي خالص -نظريًّا على الأقل- ويتكونون من قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا ومدين وغيرهم، وأما العرب الباقية- ويسمون أيضًا المتعربة والمستعربة- فهم الذين ليسوا عربًا خلصًا، ويتكونون من بني يعرب بن قحطان، وبني معد بن عدنان3.
وكان يعرب بن قحطان في قول الرواة -كما أشرنا من قبل- أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، أو أول من تكلم العربية، ولسنا الآن في حاجة إلى دحض هذه الروايات، فذلك أمر سبق لنا القيام به.
وهناك تقسيم ثالث يعتمد في الدرجة الأولى على النسب، فهم قحطانية في اليمن، وعدنانية في الحجاز، على أن "ابن خلدون" إنما ينحو نحوًا آخر، يقسم به العرب -طبقًا للتسلسل التاريخي- إلى طبقات أربعة، فهم عرب عاربة قد بادت، ثم مستعربة، وهم القحطانيون، ثم العرب التابعة لهم من عدنان والأوس والخزرج، ثم الغساسنة والمناذرة، وأخيرًا العرب المستعجمة وهم الذين دخلوا في نفوذ الدولة الإسلامية.
هذه هي التقسيمات التي رأى الأخباريون تقسيم العرب إليها -من ناحية القدم والتقدم في العربية- وهي تقسيمات يلاحظ عليها "أولًا" أنها لا ترجع إلى أيام العرب القدامى أنفسهم، وإنما إلى العصور الإسلامية، فليس هناك نص واحد يذكر هذه التقسيمات ويرجع في تأريخه إلى ما قبل الإسلام، حتى يمكن القول أنها من وضع العرب القدامى أنفسهم، ثم هي "ثانيًا" عربية صرفة؛ وذلك لأن المصادر اليهودية، وكذا المصادر اليونانية واللاتينية والسريانية، لم تتعرض لمثل هذه التقسيمات.
والرأي عندي أن هذه التقسيمات غير مقبولة، ومتعسفة كذلك، وذلك لأسباب منها:
"أولًا" أن القرآن الكريم لم يفرق بين العرب القحطانية والعدنانية، وإنما رفع العرب جميعًا إلى أب واحد، هو إبراهيم الخليل، عليه السلام، يقول سبحانه وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
"ثانيًا" ما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام".
"ثالثًا" أن هناك من يعتبر "قحطان" نفسه من ولد إسماعيل عليه السلام، اعتمادًا على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بناس من "أسلم خزاعة" -وهم من قحطان- وكانوا يتناضلون، فقال: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا" ، ومن ثم فإن "ابن خلدون" يذهب إلى أن جميع العرب إنما هم من ولد إسماعيل عليه السلام؛ لأن عدنان وقحطان يستوعبان العرب العدنانية والقحطانية.
"رابعًا" أن ابن عباس، روى أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "انتسب فلما بلغ عدنان وقف، فقال كذب النسابون، كما روى ابن إسحاق- عن يزيد بن رومان -أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "استقامت نسبة الناس إلى عدنان"، فإذا صح هذان الحديثان الشريفان، فيمكننا القول أن عدنان هو القرم الأول للقبائل العربية، عدا من سماهم الكتاب العرب بالقبائل البائدة.
"خامسًا" أن الأخباريين عندما حاولوا كتابة أنساب العرب، إنما اعتمدوا إلى حد كبير على سلسلة الأنساب في التوراة، ومن ثم فقد رفعوا من نسل قحطان، فهم العرب العاربة، ونزلوا بنسب بني إسماعيل، فهم العرب المستعربة، أحدث نسبًا من غيرهم من القبائل البائدة والعاربة في نظر كتاب الجنوب، وبالتالي فهم أقل شأنًا من قبائل جنوب شبه الجزيرة العربية، وهكذا كان الكتاب المسلمون مروجين لنظرية التوراة في الأنساب، وجهلوا -أو تجاهلوا- أن التوراة إنما كتبت ذلك لترفع من شأن بني إسحاق على بني إسماعيل، ولتجعل منهم دون غيرهم الأمة المختارة، وسلسلة النسب المصطفاة، على بني إسماعيل بالذات، وجهلوا -أو تجاهلوا -أن الخليل، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، إنما كان عربيًّا خالصًا، والأمر كذلك بالنسبة إلى ذريته من بني إسماعيل.
"سادسًا" أن الشعر الجاهلي لم يرد فيه ذكر لتقسيم العرب إلى قحطانية وعدنانية، وإن وردت فيه أبيات يتفاخر أصحابها بعدنان أو قحطان، ترجع في أغلب الظن إلى الحقبة القريبة من الإسلام، كما أن هذا التفاخر -أو حتى الهجاء- لا يصح أن يكون أساسًا لوضع نظرية في اختلاف أجناس القبائل العربية.
لعل من الأفضل هنا، قبل الحديث عن العرب البائدة، أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى ما جرى الأخباريون عليه من تقسيم العرب إلى طبقات، أو ما عرف في الكتب التاريخية بطبقات العرب.
طبقات العرب:
اتفق الرواة وأهل الأخبار -أو كادوا يتفقون- على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات:
عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة ومستعربة وتابعة ومستعجمة.
على أن هناك من يجعلهم طبقتين: بائدة وباقية، فأما البائدة فهم الذين كانوا عربًا صرحاء خلصاء ذوي نسب عربي خالص -نظريًّا على الأقل- ويتكونون من قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا ومدين وغيرهم، وأما العرب الباقية- ويسمون أيضًا المتعربة والمستعربة- فهم الذين ليسوا عربًا خلصًا، ويتكونون من بني يعرب بن قحطان، وبني معد بن عدنان3.
وكان يعرب بن قحطان في قول الرواة -كما أشرنا من قبل- أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، أو أول من تكلم العربية، ولسنا الآن في حاجة إلى دحض هذه الروايات، فذلك أمر سبق لنا القيام به.
وهناك تقسيم ثالث يعتمد في الدرجة الأولى على النسب، فهم قحطانية في اليمن، وعدنانية في الحجاز، على أن "ابن خلدون" إنما ينحو نحوًا آخر، يقسم به العرب -طبقًا للتسلسل التاريخي- إلى طبقات أربعة، فهم عرب عاربة قد بادت، ثم مستعربة، وهم القحطانيون، ثم العرب التابعة لهم من عدنان والأوس والخزرج، ثم الغساسنة والمناذرة، وأخيرًا العرب المستعجمة وهم الذين دخلوا في نفوذ الدولة الإسلامية.
هذه هي التقسيمات التي رأى الأخباريون تقسيم العرب إليها -من ناحية القدم والتقدم في العربية- وهي تقسيمات يلاحظ عليها "أولًا" أنها لا ترجع إلى أيام العرب القدامى أنفسهم، وإنما إلى العصور الإسلامية، فليس هناك نص واحد يذكر هذه التقسيمات ويرجع في تأريخه إلى ما قبل الإسلام، حتى يمكن القول أنها من وضع العرب القدامى أنفسهم، ثم هي "ثانيًا" عربية صرفة؛ وذلك لأن المصادر اليهودية، وكذا المصادر اليونانية واللاتينية والسريانية، لم تتعرض لمثل هذه التقسيمات.
والرأي عندي أن هذه التقسيمات غير مقبولة، ومتعسفة كذلك، وذلك لأسباب منها:
"أولًا" أن القرآن الكريم لم يفرق بين العرب القحطانية والعدنانية، وإنما رفع العرب جميعًا إلى أب واحد، هو إبراهيم الخليل، عليه السلام، يقول سبحانه وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} .
"ثانيًا" ما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام".
"ثالثًا" أن هناك من يعتبر "قحطان" نفسه من ولد إسماعيل عليه السلام، اعتمادًا على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بناس من "أسلم خزاعة" -وهم من قحطان- وكانوا يتناضلون، فقال: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا" ، ومن ثم فإن "ابن خلدون" يذهب إلى أن جميع العرب إنما هم من ولد إسماعيل عليه السلام؛ لأن عدنان وقحطان يستوعبان العرب العدنانية والقحطانية.
"رابعًا" أن ابن عباس، روى أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "انتسب فلما بلغ عدنان وقف، فقال كذب النسابون، كما روى ابن إسحاق- عن يزيد بن رومان -أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "استقامت نسبة الناس إلى عدنان"، فإذا صح هذان الحديثان الشريفان، فيمكننا القول أن عدنان هو القرم الأول للقبائل العربية، عدا من سماهم الكتاب العرب بالقبائل البائدة.
"خامسًا" أن الأخباريين عندما حاولوا كتابة أنساب العرب، إنما اعتمدوا إلى حد كبير على سلسلة الأنساب في التوراة، ومن ثم فقد رفعوا من نسل قحطان، فهم العرب العاربة، ونزلوا بنسب بني إسماعيل، فهم العرب المستعربة، أحدث نسبًا من غيرهم من القبائل البائدة والعاربة في نظر كتاب الجنوب، وبالتالي فهم أقل شأنًا من قبائل جنوب شبه الجزيرة العربية، وهكذا كان الكتاب المسلمون مروجين لنظرية التوراة في الأنساب، وجهلوا -أو تجاهلوا- أن التوراة إنما كتبت ذلك لترفع من شأن بني إسحاق على بني إسماعيل، ولتجعل منهم دون غيرهم الأمة المختارة، وسلسلة النسب المصطفاة، على بني إسماعيل بالذات، وجهلوا -أو تجاهلوا -أن الخليل، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، إنما كان عربيًّا خالصًا، والأمر كذلك بالنسبة إلى ذريته من بني إسماعيل.
"سادسًا" أن الشعر الجاهلي لم يرد فيه ذكر لتقسيم العرب إلى قحطانية وعدنانية، وإن وردت فيه أبيات يتفاخر أصحابها بعدنان أو قحطان، ترجع في أغلب الظن إلى الحقبة القريبة من الإسلام، كما أن هذا التفاخر -أو حتى الهجاء- لا يصح أن يكون أساسًا لوضع نظرية في اختلاف أجناس القبائل العربية.
"سابعًا" أن ما يراه الإخباريون من أن العداء كان مستحكمًا بين العدنانيين والقحطانيين من قديم، حتى رووا أن كل فريق منهم، إنما اتخذ لنفسه شعارًا في الحرب يخالف الآخر، فاتخذ المضريون العمائم والرايات الحمر، واتخذ أهل اليمن العمائم الصفر، فإنما أصل هذا العداء ما كان بين الحضارة والبداوة من نزاع طبيعي، وكان توالي الوقائع والحوادث يزيد في العداء، ويقوي روح الشر بينهم، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما كان من العداء الشديد بين أهل المدينة -من أوس وخزرج، وهم على ما يذكر النسابون قحطانيون، وأهل مكة-وهم عدنانيون- وقد استمر هذا التنافس بينهم بعد الإسلام، وكان بين القومين حزازات ومفاخرات، وكل يدعي أنه أشرف نسبًا، وأعز نفرًا.
"ثامنًا" أن علماء الأنثروبولوجيا لم يلاحظوا فروقًا واضحة بين العدنايين والقحطانيين، وإن كان من العجيب أن الدراسات الأنثروبولوجية التي أجريت على أفراد من القبائل العربية الجنوبية، قد أثبتت فروقًا بين أفراد هذه القبائل، هذا إلى أن الجماجم التي عثر عليها من عهود ما قبل الإسلام تشير إلى وجود أعراق متعددة بينها، فإذا كان ذلك صحيحًا، فربما كان السبب في هذا هو الاختلاط الجنسي عند القبائل العربية الجنوبية، والذي كان نتيجة هجرات من وإلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ومن هنا كان التشابه بين أهل عمان وبين سكان السواحل الهندية المقابلة لها، ثم بين أهل عدن وبقية العربية الجنوبية وتهامة، وبين سكان أفريقيا الشرقية، وإن كان أكثر احتمالا في الحالة الأخيرة أن تلك القبائل في إفريقيا الشرقية، ربما كانت نتيجة هجرات عربية عن طريق باب المندب إلى إفريقيا.
"تاسعًا" أنه لم يظهر أي انقسام بين العرب على أيام الرسول -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وكذا على أيام خليفتيه الصديق والفاروق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- كما أن الروايات الخاصة بتنظيم الفاروق عمر بن الخطاب لديوان المظالم لم يرد فيها ما يشير إلى أي انقسام أو تمييز بين القحطانية والعدنانية كجنس، وإنما كانت القربى من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي الأساس، ثم يتفاضل الناس بعد ذلك على مقدار سبقهم في الإسلام، وعلى أي حال، فلقد كان بنو هاشم -بيت النبوة- قطب الترتيب، وأن هذا التسجيل قد تم سنة خمس عشرة للهجرة على رأي، وسنة عشرين على رأي آخر.
"عاشرًا" أن الحروب التي قامت بين الإمام عليٍّ -كرم الله وجهه ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه- وبين خصومه، لم تكن حروبًا بين قحطانيين وعدنايين، وإنما كانت بين العدنايين أنفسهم، والأمر كذلك بالنسبة إلى حروب اشتعل أوارها بين القحطانيين أنفسهم.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن الحروب التي دارت رحاها بين العدنانيين والقحطانيين، أو بين فريق وفريق من هذه القبيلة أو تلك، لا تكاد تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، وإنما تسمع فخرًا بأسماء القبائل أو الأحلاف التي انضمت إلى هذا أو ذاك، تسمع أسماء معد أو نزار أو مضر، ولعل هذا كله، يجيز لنا أن نقول -مع الدكتور جواد علي- كيف يجوز لنا أن نتصور انقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين انقسامًا حقيقيًّا، وقد كانت القبائل تتحالف فيما بينها، وتحارب بعضها مع بعض بأحلاف قد تكون مزيجًا بين عدنانيين وقحطانيين، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان العرب قحطانيين وعدنانيين بالأصل، فكيف تحالفت "جديلة" -وهي من طيء- مع "بني شيبان- وهم من بني عدنان- لمحاربة "عبس" العدنانية، وكيف نفسر تحالف قبائل يمنية مع قبائل عدنانية، لمحاربة قبائل يمنية، أو لعقد محالفات دفاعية هجومية معها.
وهكذا يمكننا أن نفسر نظرية الطبقات هذه، بأن الظروف السياسية لعبت دورها في تكوينها، وإن شاء أصحابها الرجعة بها إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم لها، ذلك أن بني أمية، حين وضعت الأقدار أمور المسلمين بأيديهم، إنما عملوا على إحياء العصبية الأولى بين القبائل وضرب الواحدة منها بالأخرى رغبة منهم في السيطرة على القبائل جميعًا، وشغلها عما يقترفه الواحد منهم أو الآخر من أخطاء، وقد تسبب هذا الوضع -في أغلب الأحايين- في الإساءة إلى القبائل الجنوبية إلى حد كبير، وسرعان ما انتهزت هذه القبائل فرصة قيام دولة بني العباس -التي اعتمدت عليهم إلى حد كبير- فعملت على استعادة ما فقدته على أيام الأمويين، وبدأ الإخباريون -ومعظمهم من قبائل الجنوب- يكتبون عن الأنساب، وعن التاريخ العربي القديم، وكان موضع الخطر في هذا، أنهم بدءوا يكتبون وهم في البصرة والكوفة، ومن ثم فلم يجدوا من المصادر التي يعتمودون عليها، إلا ما كان قريبًا منهم، وكانت التوراة -وما يدور في فلكها من تصانيف- قد امتلأت بها مكتبات العراق، ومن ثم فقد نقلوا عنها ما كتبته عن قحطان وإسماعيل وهاجر وسبأ وبعض قبائل الجنوب، زاد الطين بلة، أن العصبية لدى اليمنيين قد لعبت دورًا خطيرًا في الأنساب، ومن ثم فقد نسبوا معظم القبائل البائدة إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، كما أنهم لم يكتفوا بنسب أنفسهم، وإنما كانوا ينسبون غيرهم إليهم كذلك،
"ثامنًا" أن علماء الأنثروبولوجيا لم يلاحظوا فروقًا واضحة بين العدنايين والقحطانيين، وإن كان من العجيب أن الدراسات الأنثروبولوجية التي أجريت على أفراد من القبائل العربية الجنوبية، قد أثبتت فروقًا بين أفراد هذه القبائل، هذا إلى أن الجماجم التي عثر عليها من عهود ما قبل الإسلام تشير إلى وجود أعراق متعددة بينها، فإذا كان ذلك صحيحًا، فربما كان السبب في هذا هو الاختلاط الجنسي عند القبائل العربية الجنوبية، والذي كان نتيجة هجرات من وإلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ومن هنا كان التشابه بين أهل عمان وبين سكان السواحل الهندية المقابلة لها، ثم بين أهل عدن وبقية العربية الجنوبية وتهامة، وبين سكان أفريقيا الشرقية، وإن كان أكثر احتمالا في الحالة الأخيرة أن تلك القبائل في إفريقيا الشرقية، ربما كانت نتيجة هجرات عربية عن طريق باب المندب إلى إفريقيا.
"تاسعًا" أنه لم يظهر أي انقسام بين العرب على أيام الرسول -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وكذا على أيام خليفتيه الصديق والفاروق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- كما أن الروايات الخاصة بتنظيم الفاروق عمر بن الخطاب لديوان المظالم لم يرد فيها ما يشير إلى أي انقسام أو تمييز بين القحطانية والعدنانية كجنس، وإنما كانت القربى من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي الأساس، ثم يتفاضل الناس بعد ذلك على مقدار سبقهم في الإسلام، وعلى أي حال، فلقد كان بنو هاشم -بيت النبوة- قطب الترتيب، وأن هذا التسجيل قد تم سنة خمس عشرة للهجرة على رأي، وسنة عشرين على رأي آخر.
"عاشرًا" أن الحروب التي قامت بين الإمام عليٍّ -كرم الله وجهه ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه- وبين خصومه، لم تكن حروبًا بين قحطانيين وعدنايين، وإنما كانت بين العدنايين أنفسهم، والأمر كذلك بالنسبة إلى حروب اشتعل أوارها بين القحطانيين أنفسهم.
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن الحروب التي دارت رحاها بين العدنانيين والقحطانيين، أو بين فريق وفريق من هذه القبيلة أو تلك، لا تكاد تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، وإنما تسمع فخرًا بأسماء القبائل أو الأحلاف التي انضمت إلى هذا أو ذاك، تسمع أسماء معد أو نزار أو مضر، ولعل هذا كله، يجيز لنا أن نقول -مع الدكتور جواد علي- كيف يجوز لنا أن نتصور انقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين انقسامًا حقيقيًّا، وقد كانت القبائل تتحالف فيما بينها، وتحارب بعضها مع بعض بأحلاف قد تكون مزيجًا بين عدنانيين وقحطانيين، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان العرب قحطانيين وعدنانيين بالأصل، فكيف تحالفت "جديلة" -وهي من طيء- مع "بني شيبان- وهم من بني عدنان- لمحاربة "عبس" العدنانية، وكيف نفسر تحالف قبائل يمنية مع قبائل عدنانية، لمحاربة قبائل يمنية، أو لعقد محالفات دفاعية هجومية معها.
وهكذا يمكننا أن نفسر نظرية الطبقات هذه، بأن الظروف السياسية لعبت دورها في تكوينها، وإن شاء أصحابها الرجعة بها إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم لها، ذلك أن بني أمية، حين وضعت الأقدار أمور المسلمين بأيديهم، إنما عملوا على إحياء العصبية الأولى بين القبائل وضرب الواحدة منها بالأخرى رغبة منهم في السيطرة على القبائل جميعًا، وشغلها عما يقترفه الواحد منهم أو الآخر من أخطاء، وقد تسبب هذا الوضع -في أغلب الأحايين- في الإساءة إلى القبائل الجنوبية إلى حد كبير، وسرعان ما انتهزت هذه القبائل فرصة قيام دولة بني العباس -التي اعتمدت عليهم إلى حد كبير- فعملت على استعادة ما فقدته على أيام الأمويين، وبدأ الإخباريون -ومعظمهم من قبائل الجنوب- يكتبون عن الأنساب، وعن التاريخ العربي القديم، وكان موضع الخطر في هذا، أنهم بدءوا يكتبون وهم في البصرة والكوفة، ومن ثم فلم يجدوا من المصادر التي يعتمودون عليها، إلا ما كان قريبًا منهم، وكانت التوراة -وما يدور في فلكها من تصانيف- قد امتلأت بها مكتبات العراق، ومن ثم فقد نقلوا عنها ما كتبته عن قحطان وإسماعيل وهاجر وسبأ وبعض قبائل الجنوب، زاد الطين بلة، أن العصبية لدى اليمنيين قد لعبت دورًا خطيرًا في الأنساب، ومن ثم فقد نسبوا معظم القبائل البائدة إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، كما أنهم لم يكتفوا بنسب أنفسهم، وإنما كانوا ينسبون غيرهم إليهم كذلك،
بل إن الأمر قد وصل إلى أن تتخذ لفظة "الأنصار"- والتي أطلقت على أهل المدينة من أوس وخزرج، بسبب نصرتهم لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكأنها قد أصبحت نسبًا، مما ضايق بعض رجالات قريش، وبدأ شعراء المدينة يفخرون بأصلهم اليمني، وبأنهم من أقرباء الغساسنة وذوي رحمهم، كما استعملوا لفظة الأنصار في مقابل قريش ومعد ونزار.
ومن عجب أن بعض النزارية في هذا الجو المحموم بالعصبية افتخروا بالفرس على اليمنية، وعدوهم من ولد إسحاق بن إبراهيم، ومن ثم فقد أصبح إبراهيم جد الفرس والعرب، ولم تكتف النزارية بذلك، بل زعمت أن هذا النسب قديم، معتمدين في ذلك على شعر نسبوه إلى شاعر جاهلي، وجاراهم الفرس في هذا الزعم، تقربًا إلى الحكومة وهي عدنانية، فضلا عن أسباب سياسية أخرى، لا شك أن منها إثارة العصبية البغيضة بين العرب أنفسهم، ويبدو أن العدنانيين لم يكتفوا بربط نسبهم بالفرس والإسرائيليين، وإنما ربطوه كذلك بالأكراد، حين نسبوهم إلى "ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل.."، فكان رد القحطانيين أن جعلوا اليونان من ذوي قرباهم، بل إن الترك كذلك أصبحوا من حمير.
وعلى أن "ألويس موسل" إنما يرى أن أسطورة الأنساب هذه، إنما بدأت فيما قبيل الإسلام، ولما كان لليمن في الجاهلية مقام عظيم، فقد انتسب الكثيرون إلى اليمن، ثم جاء علماء الأنساب -متأثرين بالعوامل الآنفة الذكر- فسجلوها على أنها حقيقة واقعة.
العرب البائدة:
مدخل
لعل من الأفضل هنا أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى أننا لا نعني بالعرب البائدة والعرب الباقية، أن أقوامًا قد انقرضوا فلم يبق منهم أحد، وأن أقوامًا لم يكونوا ثم نشئوا من جديد، وإنما ما نعنيه أن قومًا قد يقل عددهم بالكوارث أو بالذوبان في آخرين، لسبب أو لآخر، ومن ثم يتوقف تاريخهم وتبطل حضارتهم، مع أن بقاياهم لا تزال موجودة، ولكنها بدون قيمة حضارية، والتاريخ في حقيقته إنما هو تطور الحضارة، وعلى أية حال، فتلك تسمية ابتدعها الكتاب العرب، ذلك لأنه من المعروف أن شيئًا لن يبيد ما دام قد ترك من الآثار ما يدل عليه، وهي دون شك مصدرنا الأساسي للتعرف على الحضارات السابقة، وربما كان المقصود بلفظة "بائد" عدم وجود أحد من العرب ينتسب إلى هذه القبيلة أو تلك عند كتابة المؤرخين الإسلاميين لتاريخ ما بعد ظهور الإسلام.
ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن ما يسمى بالعرب البائدة، ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، وإنما هو جزء من الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري، الذي يسبق عادة التاريخ الحقيقي لكل أمة، ومن ثم فإنهم إذا ما عالجوا تاريخ بعض القبائل العربية التي تسمى "بالبائدة" فإنما يعالجونه على هذا الأساس3، وإن كانت غالبية المؤرخين الأوربيين الآن قد عدلت عن هذا الاتجاه، بعد أن ثبت لهم أن بعضًا من هذه القبائل البائدة، قد تحدث عنها المؤرخون القدامى من الأغارقة والرومان، وبعد أن أثبتت الأحافير إلى حد ما صحة بعض ما ورد عن هذه القبائل البائدة في المصادر العربية.
أما العرب الباقية، فلعنا نعني بهم تلك الجماعات التي كانت -ولا تزال- تعيش في هذه المنطقة، وسوف تظل تعيش إن شاء الله، إلى أن يغير الله الأرض غير الأرض، وأن حضارتها مستمرة يتوارثها جيل بعد جيل، وأن كل جيل يضيف إليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن ثم فإن مهمتنا أن نقوم بدراسة تلك الحضارات متتبعين دورها في كل طور من أطوار التاريخ، وأما أهم القبائل البائدة التي سنتناولها هنا بالدراسة الموجزة فهي عاد وثمود ومدين وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا.
1- عاد:
ينظر الأخباريون إلى قوم عاد، على أنهم أقدم الأقوام العربية البائدة، حتى أصبحت كلمة "عادي" و"عادية" إنما تستعملان صفتين للأشياء البالغة القدم، وحتى أصبح القوم إذا ما شاهدوا آثارًا قديمة لا يعرفون تاريخها أطلقوا عليها صفة "عادية"، وربما كان السبب في ذلك قدم قوم عاد، أو أن عادًا -ومن بعدها ثمود- قد ورد اسميهما في القرآن الكريم، ومن ثم فقد قدما على بقية الأقوام البائدة، رغم أننا لو جارينا الإخباريين في قوائم أنسابهم، لكان علينا أن نقدم طسم وعمليق وأميم وغيرهم على عاد وثمود، ذلك لأن الأولين من وجهة نظرهم إنما هم من أولاد "لاو بن سام" شقيق "إرم" وأن الآخرين من حفدة "إرم"، ولكن الأخباريين أنفسهم إنما يقدمون عادًا على بقية الشعوب.
ولقد انفرد القرآن الكريم بذكر عاد، ونبيهم هود عليه السلام، فجاء ذكرهم في كثير من سور القرآن الكريم، بل إن هناك سورة كاملة تسمى سورة "هود" كما أن هناك في القرآن الكريم ما يشير إلى أن هناك عادًا الأولى، وعادًا الثانية، وأن عادًا الأولى إنما هم عاد إرم الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام2، وأن عادًا الثانية إنما هم سكان اليمن من قحطان وسبأ وتلك الفروع، وربما كانوا هم ثمود.
ومن عجب أن بعض النزارية في هذا الجو المحموم بالعصبية افتخروا بالفرس على اليمنية، وعدوهم من ولد إسحاق بن إبراهيم، ومن ثم فقد أصبح إبراهيم جد الفرس والعرب، ولم تكتف النزارية بذلك، بل زعمت أن هذا النسب قديم، معتمدين في ذلك على شعر نسبوه إلى شاعر جاهلي، وجاراهم الفرس في هذا الزعم، تقربًا إلى الحكومة وهي عدنانية، فضلا عن أسباب سياسية أخرى، لا شك أن منها إثارة العصبية البغيضة بين العرب أنفسهم، ويبدو أن العدنانيين لم يكتفوا بربط نسبهم بالفرس والإسرائيليين، وإنما ربطوه كذلك بالأكراد، حين نسبوهم إلى "ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل.."، فكان رد القحطانيين أن جعلوا اليونان من ذوي قرباهم، بل إن الترك كذلك أصبحوا من حمير.
وعلى أن "ألويس موسل" إنما يرى أن أسطورة الأنساب هذه، إنما بدأت فيما قبيل الإسلام، ولما كان لليمن في الجاهلية مقام عظيم، فقد انتسب الكثيرون إلى اليمن، ثم جاء علماء الأنساب -متأثرين بالعوامل الآنفة الذكر- فسجلوها على أنها حقيقة واقعة.
العرب البائدة:
مدخل
لعل من الأفضل هنا أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى أننا لا نعني بالعرب البائدة والعرب الباقية، أن أقوامًا قد انقرضوا فلم يبق منهم أحد، وأن أقوامًا لم يكونوا ثم نشئوا من جديد، وإنما ما نعنيه أن قومًا قد يقل عددهم بالكوارث أو بالذوبان في آخرين، لسبب أو لآخر، ومن ثم يتوقف تاريخهم وتبطل حضارتهم، مع أن بقاياهم لا تزال موجودة، ولكنها بدون قيمة حضارية، والتاريخ في حقيقته إنما هو تطور الحضارة، وعلى أية حال، فتلك تسمية ابتدعها الكتاب العرب، ذلك لأنه من المعروف أن شيئًا لن يبيد ما دام قد ترك من الآثار ما يدل عليه، وهي دون شك مصدرنا الأساسي للتعرف على الحضارات السابقة، وربما كان المقصود بلفظة "بائد" عدم وجود أحد من العرب ينتسب إلى هذه القبيلة أو تلك عند كتابة المؤرخين الإسلاميين لتاريخ ما بعد ظهور الإسلام.
ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن ما يسمى بالعرب البائدة، ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، وإنما هو جزء من الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري، الذي يسبق عادة التاريخ الحقيقي لكل أمة، ومن ثم فإنهم إذا ما عالجوا تاريخ بعض القبائل العربية التي تسمى "بالبائدة" فإنما يعالجونه على هذا الأساس3، وإن كانت غالبية المؤرخين الأوربيين الآن قد عدلت عن هذا الاتجاه، بعد أن ثبت لهم أن بعضًا من هذه القبائل البائدة، قد تحدث عنها المؤرخون القدامى من الأغارقة والرومان، وبعد أن أثبتت الأحافير إلى حد ما صحة بعض ما ورد عن هذه القبائل البائدة في المصادر العربية.
أما العرب الباقية، فلعنا نعني بهم تلك الجماعات التي كانت -ولا تزال- تعيش في هذه المنطقة، وسوف تظل تعيش إن شاء الله، إلى أن يغير الله الأرض غير الأرض، وأن حضارتها مستمرة يتوارثها جيل بعد جيل، وأن كل جيل يضيف إليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن ثم فإن مهمتنا أن نقوم بدراسة تلك الحضارات متتبعين دورها في كل طور من أطوار التاريخ، وأما أهم القبائل البائدة التي سنتناولها هنا بالدراسة الموجزة فهي عاد وثمود ومدين وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا.
1- عاد:
ينظر الأخباريون إلى قوم عاد، على أنهم أقدم الأقوام العربية البائدة، حتى أصبحت كلمة "عادي" و"عادية" إنما تستعملان صفتين للأشياء البالغة القدم، وحتى أصبح القوم إذا ما شاهدوا آثارًا قديمة لا يعرفون تاريخها أطلقوا عليها صفة "عادية"، وربما كان السبب في ذلك قدم قوم عاد، أو أن عادًا -ومن بعدها ثمود- قد ورد اسميهما في القرآن الكريم، ومن ثم فقد قدما على بقية الأقوام البائدة، رغم أننا لو جارينا الإخباريين في قوائم أنسابهم، لكان علينا أن نقدم طسم وعمليق وأميم وغيرهم على عاد وثمود، ذلك لأن الأولين من وجهة نظرهم إنما هم من أولاد "لاو بن سام" شقيق "إرم" وأن الآخرين من حفدة "إرم"، ولكن الأخباريين أنفسهم إنما يقدمون عادًا على بقية الشعوب.
ولقد انفرد القرآن الكريم بذكر عاد، ونبيهم هود عليه السلام، فجاء ذكرهم في كثير من سور القرآن الكريم، بل إن هناك سورة كاملة تسمى سورة "هود" كما أن هناك في القرآن الكريم ما يشير إلى أن هناك عادًا الأولى، وعادًا الثانية، وأن عادًا الأولى إنما هم عاد إرم الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام2، وأن عادًا الثانية إنما هم سكان اليمن من قحطان وسبأ وتلك الفروع، وربما كانوا هم ثمود.
2- ثمود:
تكاد تجمع الكتب العربية على أن ثمودًا إنما كان مقامها بالحجر إلى وادي القرى بين الحجاز والشام، على أن ارتباطها بعاد يقتضي تقاربهما في المكان، ولذا ذهب الأخباريون إلى أن ثمودًا إنما كانت باليمن قديمًا، فلما ملكت حميرًا أخرجوها إلى الحجاز، ولسنا في حاجة إلى التدليل الآن على خطأ هذا الاتجاه، فذلك أمر سبق لنا مناقشته في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآن".
وعلى أي حال، فإن الدراسات الحديثة تثبت أن الثموديين قد عاشوا في شمال الجزيرة العربية منذ أعماق التاريخ، وتركوا لنا آثارًا ونقوشًا في كل مكان من هذه الأرضين، التي تمتد من الجوف شمالا إلى الطائف جنوبًا، ومن الأحساء شرقًا إلى يثرب فأرض مدين غربًا، ومن المسالك المؤدية إلى العقبة والأردن وسورية، وحتى في أرض حضرموت من جنوب الجزيرة، وإن ذلك لدليل على أن الثموديين كانوا في يوم ما السكان الأصليين لشمال شبه الجزيرة العربية.
وليس من شك في أن قصة ثمود أوضح بكثير من قصة عاد، فمنذ القرن الثامن قبل الميلاد والنقوش الآشورية تتحدث عنهم، من بين مَن تحدثت عنهم من قبائل، وقد دعتهم "تامودي"، كما تحدث عنهم الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان من أمثال "أجاثار خيدس" و"ديودور" و"بليني" و"كلوديوس بتولمايس"، وصاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" وغيرهم.
وأما القرآن الكريم، فقد ذكرهم في كثير من سوره، هذا إلى جانب أن كثيرًا من الآيات الكريمة قد قرنت قوم عاد بثمود، كما في سورة التوبة وإبراهيم والفرقان وص والنجم والفجر، وقد استدل البعض من كلمات "رجفة" و"صيحة" التي جاءت في القرآن الكريم على أن ثمودًا إنما أصيبوا بكارثة عظيمة، من ثوران البراكين أو من الهزات الأرضية، وربما كان الأمر كذلك، فمنطقة إقامتهم إنما هي واحدة من مناطق الحرارة في شبه الجزيرة العربية.
3- طسم وجديس:
ينسب الأخباريون "طسم وجديس" إلى "لاوذ بن إرم بن سام بن نوح"، مع قليل أو كثير من التعديل في هذا النسب كالعادة، وأنهما كانا قريبًا عهد بعاد الأولى، أما موطنها فكان في منطقة اليمامة، والتي كانت تسمى "جو" من قبل، ولكن يبدو أن هذا لم يكن هو الوطن الأول، ومن ثم فعلينا أن نبحث عنه في مكان آخر.
لقد حدثتنا التوراة عن كثير من القبائل العربية، ومن بينها قبيلة "طسم" التي دعتها "لتوشيم" وأنها إحدى بطون قبيلة "ديدان" الموجودة في العلا، وهذا يعني أن بداية استقرار "طسم" إنما كان في منطقة العلا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى منطقة اليمامة، وهذا القول لا يبدو غريبًا ويمكن تصوره، فنحن نعرف أن أحد الطرق التجارية يبدأ من جنوب بلاد العرب، من "عدن" أو"قنا"، فمدن الحجاز "مكة، المدينة، خيبر" إلى أن يصل إلى العلا، ثم يتجه إلى الشمال، وهناك طريق ثان يبدأ من الجنوب أيضًا، مارًّا بالحافة الغربية للربع الخالي، متجهًا إلى اليمامة، ثم ينحدر باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة العلا ومدائن صالح، فبلاد الشام، أو إلى مصر، إذن فمن المحتمل أن يكون نزوح "طسم" إلى اليمامة، إنما كان بسبب العامل الاقتصادي في المكان الأول، على أساس أن جزءًا، من قبيلة ديدان- وهي التي كانت تشارك في الحركة الاقتصادية بين جنوب الجزيرة وشمالها -قد نزح إلى منطقة اليمامة، ليحافظ على استقرار الأمن في الطريق التجاري من جنوب بلاد العرب إلى شمالها عبر اليمامة، ويبدو أن "جديس" قد نزحت كذلك مع "طسم"، وبهذا يمكن أن نجد صلة النسب قائمة بين القبيلتين.
وفي الواقع أننا لا نملك مصادر يعتمد عليها في التأريخ لهما، فالقرآن الكريم لم يتحدث عنهما، والاكتشافات الأثرية لم تصل إليهما، وكتابات الأمم الأخرى لم تذكرهما، إذا استثنينا إشارة التوراة عن طسم، ومن هنا فالشك يحيط بتاريخهما من كل جانب، ومع ذلك فقد حاول البعض أن يلم بشتات ما كتب عنهما، ليخرج لنا صورة عنهما، أقرب إلى الحكايات منها إلى التاريخ الصحيح.
ومع ذلك، فعلينا ألا نتعجل في الحكم عليهما، كما فعل نفر من المستشرقين، فذهب إلى أنهما من الشعوب الخرافية، فقد تأتي لنا الأيام بمعلومات عنهما قد تغير الصورة الحالية إلى حد كبير، ويبدو أنها بدأت تفعل، فلقد عثر في "صلخد" على نص يوناني يرجع إلى عام 322م، جاء فيه "أنعم طسم"، كما أن التوراة قد أشارت إلى "طسم"، على أنه من نسل "دادان بن يقطان" أضف إلى ذلك أن بعضًا من المستشرقين يرى أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisiae" الوارد في جغرافية بطليموس، هو اسم قبيلة من قبائل شرق بلاد العرب، وأنها "جديس" بعينها، وأنها كانت معروفة حوالي عام 1253م، بل ومزدهرة كذلك. ويصفها المسعودي -هي وأرض طسم- بأنها من أفضل البلاد وأكثرها خيرًا، فيها صنوف الشجر والأعناب، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفة.
تكاد تجمع الكتب العربية على أن ثمودًا إنما كان مقامها بالحجر إلى وادي القرى بين الحجاز والشام، على أن ارتباطها بعاد يقتضي تقاربهما في المكان، ولذا ذهب الأخباريون إلى أن ثمودًا إنما كانت باليمن قديمًا، فلما ملكت حميرًا أخرجوها إلى الحجاز، ولسنا في حاجة إلى التدليل الآن على خطأ هذا الاتجاه، فذلك أمر سبق لنا مناقشته في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآن".
وعلى أي حال، فإن الدراسات الحديثة تثبت أن الثموديين قد عاشوا في شمال الجزيرة العربية منذ أعماق التاريخ، وتركوا لنا آثارًا ونقوشًا في كل مكان من هذه الأرضين، التي تمتد من الجوف شمالا إلى الطائف جنوبًا، ومن الأحساء شرقًا إلى يثرب فأرض مدين غربًا، ومن المسالك المؤدية إلى العقبة والأردن وسورية، وحتى في أرض حضرموت من جنوب الجزيرة، وإن ذلك لدليل على أن الثموديين كانوا في يوم ما السكان الأصليين لشمال شبه الجزيرة العربية.
وليس من شك في أن قصة ثمود أوضح بكثير من قصة عاد، فمنذ القرن الثامن قبل الميلاد والنقوش الآشورية تتحدث عنهم، من بين مَن تحدثت عنهم من قبائل، وقد دعتهم "تامودي"، كما تحدث عنهم الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان من أمثال "أجاثار خيدس" و"ديودور" و"بليني" و"كلوديوس بتولمايس"، وصاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" وغيرهم.
وأما القرآن الكريم، فقد ذكرهم في كثير من سوره، هذا إلى جانب أن كثيرًا من الآيات الكريمة قد قرنت قوم عاد بثمود، كما في سورة التوبة وإبراهيم والفرقان وص والنجم والفجر، وقد استدل البعض من كلمات "رجفة" و"صيحة" التي جاءت في القرآن الكريم على أن ثمودًا إنما أصيبوا بكارثة عظيمة، من ثوران البراكين أو من الهزات الأرضية، وربما كان الأمر كذلك، فمنطقة إقامتهم إنما هي واحدة من مناطق الحرارة في شبه الجزيرة العربية.
3- طسم وجديس:
ينسب الأخباريون "طسم وجديس" إلى "لاوذ بن إرم بن سام بن نوح"، مع قليل أو كثير من التعديل في هذا النسب كالعادة، وأنهما كانا قريبًا عهد بعاد الأولى، أما موطنها فكان في منطقة اليمامة، والتي كانت تسمى "جو" من قبل، ولكن يبدو أن هذا لم يكن هو الوطن الأول، ومن ثم فعلينا أن نبحث عنه في مكان آخر.
لقد حدثتنا التوراة عن كثير من القبائل العربية، ومن بينها قبيلة "طسم" التي دعتها "لتوشيم" وأنها إحدى بطون قبيلة "ديدان" الموجودة في العلا، وهذا يعني أن بداية استقرار "طسم" إنما كان في منطقة العلا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى منطقة اليمامة، وهذا القول لا يبدو غريبًا ويمكن تصوره، فنحن نعرف أن أحد الطرق التجارية يبدأ من جنوب بلاد العرب، من "عدن" أو"قنا"، فمدن الحجاز "مكة، المدينة، خيبر" إلى أن يصل إلى العلا، ثم يتجه إلى الشمال، وهناك طريق ثان يبدأ من الجنوب أيضًا، مارًّا بالحافة الغربية للربع الخالي، متجهًا إلى اليمامة، ثم ينحدر باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة العلا ومدائن صالح، فبلاد الشام، أو إلى مصر، إذن فمن المحتمل أن يكون نزوح "طسم" إلى اليمامة، إنما كان بسبب العامل الاقتصادي في المكان الأول، على أساس أن جزءًا، من قبيلة ديدان- وهي التي كانت تشارك في الحركة الاقتصادية بين جنوب الجزيرة وشمالها -قد نزح إلى منطقة اليمامة، ليحافظ على استقرار الأمن في الطريق التجاري من جنوب بلاد العرب إلى شمالها عبر اليمامة، ويبدو أن "جديس" قد نزحت كذلك مع "طسم"، وبهذا يمكن أن نجد صلة النسب قائمة بين القبيلتين.
وفي الواقع أننا لا نملك مصادر يعتمد عليها في التأريخ لهما، فالقرآن الكريم لم يتحدث عنهما، والاكتشافات الأثرية لم تصل إليهما، وكتابات الأمم الأخرى لم تذكرهما، إذا استثنينا إشارة التوراة عن طسم، ومن هنا فالشك يحيط بتاريخهما من كل جانب، ومع ذلك فقد حاول البعض أن يلم بشتات ما كتب عنهما، ليخرج لنا صورة عنهما، أقرب إلى الحكايات منها إلى التاريخ الصحيح.
ومع ذلك، فعلينا ألا نتعجل في الحكم عليهما، كما فعل نفر من المستشرقين، فذهب إلى أنهما من الشعوب الخرافية، فقد تأتي لنا الأيام بمعلومات عنهما قد تغير الصورة الحالية إلى حد كبير، ويبدو أنها بدأت تفعل، فلقد عثر في "صلخد" على نص يوناني يرجع إلى عام 322م، جاء فيه "أنعم طسم"، كما أن التوراة قد أشارت إلى "طسم"، على أنه من نسل "دادان بن يقطان" أضف إلى ذلك أن بعضًا من المستشرقين يرى أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisiae" الوارد في جغرافية بطليموس، هو اسم قبيلة من قبائل شرق بلاد العرب، وأنها "جديس" بعينها، وأنها كانت معروفة حوالي عام 1253م، بل ومزدهرة كذلك. ويصفها المسعودي -هي وأرض طسم- بأنها من أفضل البلاد وأكثرها خيرًا، فيها صنوف الشجر والأعناب، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفة.
هذا وينسب الإخباريون إلى القبليتين كثيرًا من المواضع، فإلى "طسم" ينسب حصن المشقر، بين نجران والبحرين، وإلى "جديس" ينسب قصر معنق والشموس في اليمامة، فضلا عن بعض القرى في اليمامة كذلك، منها "حجر" حاضرة طسم وجديس.
وهناك "جعدة" والتي يصف "الهمداني" جُدرها، بأنها تسمح بأن يركض عليها أربع من الخيل جنبًا إلى جنب، وأن بها حصنًا قديمًا ظل باقيًا حتى أيامه، وأنه كان يحيط بالقرية، وأن أساسه من اللبن، وفي هذا دلالة على خصب التربة ووفرة الأرض الطيبة والماء، كما هو الحال في العراق ومصر منذا أقدم العصور، هذا إلى جانب "الخضرمة" "جو القديمة" التي كانت تسكنها جديس -في مقابل الخضراء لطسم- فضلا عن "الهدار" و"ريمان".
وقصة القبيلتين العربيتين -كما يقدمها الأخباريون- تذهب إلى أن الغلبة إنما كانت من نصيب "طسم"، وأن أولي الأمر وأصحاب السطوة، إنما كانوا منها كذلك، ومرت الأيام وانتهى الملك في طسم إلى رجل ظلوم غشوم، استذل جديس وانتهك أعراضها، حتى جعل سنته السيئة، ألا تزف البكر من جديس إلى بعلها، قبل أن يقضي منها وطره، إلى أن كان يوم زفت فيه امرأة من جديس تدعى "الشموس" "عفيرة بنت غفار بن جديس" إلى رجل من قومها، وعندما حملت إلى ملك طسم ليفترعها أولًا، سمعت من عبيده ما مس كرامتها، وأهان شرفها، فخرجت من فراش ملك طسم ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من خلف ومن قدام، ثم أخذت تنشد شعرًا في قصيدة طويلة، تثير به نخوة قومها.
وتستمر الأقصوصة، فتذهب إلى أن أخا الشموس "الأسود بن غفار بن جديس" سيد قومه وصاحب الرأي فيهم، قد تحركت نخوته، كما أحس المذلة قومه من جديس، فاتفق القوم على ملك طسم، ومن ثم فقد نصبوا له ولخاصة قومه الشباك، وكتب لهم في مهمتهم هذه نجحا بعيد المدى، واستطاع رجل من طسم أن يفر من المذبحة، وأن يستنجد بحسان بن تبع ملك حمير، الذي يعد جيشًا كثيفًا، بغية أن يقضي به على جديس، وبينما كان هذا الجيش العرمرم على مبعدة ثلاثة أيام من اليمامة، يخبر هذا المستجير -ويسمونه رباح بن مرة- ملك حمير، أن له أختًا في جديس ترى على مسيرة ثلاثة أيام، وأنه يخشى أن تراهم فتحذر القوم منهم، ومن ثم فإنه يقترح أن يحمل كل جندي فرعًا من شجرة كبيرة يستتر وراءها، حتى يستطيعوا أن يفجئوا جديسًا قبل أن يتحوطوا للقائهم.
وتطلعت أخت الطسمي -وتدعى زرقاء اليمامة- إلى ناحية الجنوب الغربي، وصاحت في جديس تحذرهم من حمير، فهي ترى شجرًا يتحرك ومن ورائه جنودًا تحمل سلاحًا، ولكن القوم ظنوا بها الظنون فلم يصدقوها، حتى حلت الكارثة، فأبيد الرجال، وسبيت النساء، وقتلت الأطفال، وهدمت البيوت والحصون، وفقئت عيني الزرقاء، وتغير اسم مساكن طسم وجديس من "جو" إلى اليمامة، وهكذا كان فناء جديس على يد الحميريين، ومن ثم فقد لحق القومان "طسم وجديس" بعاد وثمود، وصاروا من العرب البائدة.
هذه هي القصة التي تدور حول الحيين العربيين طسم وجديس -وهي فيما نظن- لا تعدو أن تكون واحدة من القصص الشعبي، ومن الغريب أن القصة تكاد أن تكرر نفسها بين العرب واليهود في المدينة، فضلا عن شبه قريب بينها وبين قصص أخرى يرويها الأخباريون عن ملوك اليمن، وعن ولعهم بالنساء، وفعل المنكر فيهن، ومنها واحدة تتصل بملكة سبأ "بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام" وأخرى عن "عتودة" مولى أبرهة الحبشي.
أضف إلى ذلك أن القصة تصور القوم وكأنهم لا يثورون على هذا الوضع الدنيء، إلا بعد أن ظهرت "عفيرة" ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من قدام ومن خلف، فيغضب أخوها -كما غضب أخو فضلاء في يثرب- ويقبل "عملوق" ملك طسم، هذا إلى جانب أن القصة تصور المرأة -وليس الرجل- هي التي تأنف من العار وتأبى الذل، وتحرض الرجال على الانتقام للعرض المستباح، ومن ثم فإننا نرى "عفيرة" تقول:
لا أحد أذل من جديس .................................................... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا يقوم بعل حر ........................................ أهدى وقد أعطى وثيق المهر
ولو أننا كنا رجالا وكنتم ............................................. نساء لكنا لا نقر بذا الفعل
فموتوا كرامًا وأميتوا عدوكم ...................................... ودبوا لنا الحرب بالحطب الجزل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ..................................... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب النساء فإنما ........................................ خلقتم لأثواب العروس وللنسل
ومن هنا، فإننا نرفض هذه القصة هنا وهناك، نرفضها لأنها لا تتفق مع الخلق العربي والكرامة العربية، نرفضها لأنها تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة يمكن أن تفسر على أنها إنما تسيء إلى الشرف والعرض الذي كان -وما زال وسوف يظل إن شاء الله- من أقدس ما يحافظ العربي عليه، ثم هل هذا الشعر العربي الفصيح يمكن أن يكون من قول "عفيرة" جديس، وأخيرًا فإن قصة زرقاء اليمامة هذه، إنما رويت في مكان آخر عند حديث الإخباريين عن تفرق ولد معد، وقريب منها ما جاء في
وهناك "جعدة" والتي يصف "الهمداني" جُدرها، بأنها تسمح بأن يركض عليها أربع من الخيل جنبًا إلى جنب، وأن بها حصنًا قديمًا ظل باقيًا حتى أيامه، وأنه كان يحيط بالقرية، وأن أساسه من اللبن، وفي هذا دلالة على خصب التربة ووفرة الأرض الطيبة والماء، كما هو الحال في العراق ومصر منذا أقدم العصور، هذا إلى جانب "الخضرمة" "جو القديمة" التي كانت تسكنها جديس -في مقابل الخضراء لطسم- فضلا عن "الهدار" و"ريمان".
وقصة القبيلتين العربيتين -كما يقدمها الأخباريون- تذهب إلى أن الغلبة إنما كانت من نصيب "طسم"، وأن أولي الأمر وأصحاب السطوة، إنما كانوا منها كذلك، ومرت الأيام وانتهى الملك في طسم إلى رجل ظلوم غشوم، استذل جديس وانتهك أعراضها، حتى جعل سنته السيئة، ألا تزف البكر من جديس إلى بعلها، قبل أن يقضي منها وطره، إلى أن كان يوم زفت فيه امرأة من جديس تدعى "الشموس" "عفيرة بنت غفار بن جديس" إلى رجل من قومها، وعندما حملت إلى ملك طسم ليفترعها أولًا، سمعت من عبيده ما مس كرامتها، وأهان شرفها، فخرجت من فراش ملك طسم ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من خلف ومن قدام، ثم أخذت تنشد شعرًا في قصيدة طويلة، تثير به نخوة قومها.
وتستمر الأقصوصة، فتذهب إلى أن أخا الشموس "الأسود بن غفار بن جديس" سيد قومه وصاحب الرأي فيهم، قد تحركت نخوته، كما أحس المذلة قومه من جديس، فاتفق القوم على ملك طسم، ومن ثم فقد نصبوا له ولخاصة قومه الشباك، وكتب لهم في مهمتهم هذه نجحا بعيد المدى، واستطاع رجل من طسم أن يفر من المذبحة، وأن يستنجد بحسان بن تبع ملك حمير، الذي يعد جيشًا كثيفًا، بغية أن يقضي به على جديس، وبينما كان هذا الجيش العرمرم على مبعدة ثلاثة أيام من اليمامة، يخبر هذا المستجير -ويسمونه رباح بن مرة- ملك حمير، أن له أختًا في جديس ترى على مسيرة ثلاثة أيام، وأنه يخشى أن تراهم فتحذر القوم منهم، ومن ثم فإنه يقترح أن يحمل كل جندي فرعًا من شجرة كبيرة يستتر وراءها، حتى يستطيعوا أن يفجئوا جديسًا قبل أن يتحوطوا للقائهم.
وتطلعت أخت الطسمي -وتدعى زرقاء اليمامة- إلى ناحية الجنوب الغربي، وصاحت في جديس تحذرهم من حمير، فهي ترى شجرًا يتحرك ومن ورائه جنودًا تحمل سلاحًا، ولكن القوم ظنوا بها الظنون فلم يصدقوها، حتى حلت الكارثة، فأبيد الرجال، وسبيت النساء، وقتلت الأطفال، وهدمت البيوت والحصون، وفقئت عيني الزرقاء، وتغير اسم مساكن طسم وجديس من "جو" إلى اليمامة، وهكذا كان فناء جديس على يد الحميريين، ومن ثم فقد لحق القومان "طسم وجديس" بعاد وثمود، وصاروا من العرب البائدة.
هذه هي القصة التي تدور حول الحيين العربيين طسم وجديس -وهي فيما نظن- لا تعدو أن تكون واحدة من القصص الشعبي، ومن الغريب أن القصة تكاد أن تكرر نفسها بين العرب واليهود في المدينة، فضلا عن شبه قريب بينها وبين قصص أخرى يرويها الأخباريون عن ملوك اليمن، وعن ولعهم بالنساء، وفعل المنكر فيهن، ومنها واحدة تتصل بملكة سبأ "بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام" وأخرى عن "عتودة" مولى أبرهة الحبشي.
أضف إلى ذلك أن القصة تصور القوم وكأنهم لا يثورون على هذا الوضع الدنيء، إلا بعد أن ظهرت "عفيرة" ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من قدام ومن خلف، فيغضب أخوها -كما غضب أخو فضلاء في يثرب- ويقبل "عملوق" ملك طسم، هذا إلى جانب أن القصة تصور المرأة -وليس الرجل- هي التي تأنف من العار وتأبى الذل، وتحرض الرجال على الانتقام للعرض المستباح، ومن ثم فإننا نرى "عفيرة" تقول:
لا أحد أذل من جديس .................................................... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا يقوم بعل حر ........................................ أهدى وقد أعطى وثيق المهر
ولو أننا كنا رجالا وكنتم ............................................. نساء لكنا لا نقر بذا الفعل
فموتوا كرامًا وأميتوا عدوكم ...................................... ودبوا لنا الحرب بالحطب الجزل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ..................................... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب النساء فإنما ........................................ خلقتم لأثواب العروس وللنسل
ومن هنا، فإننا نرفض هذه القصة هنا وهناك، نرفضها لأنها لا تتفق مع الخلق العربي والكرامة العربية، نرفضها لأنها تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة يمكن أن تفسر على أنها إنما تسيء إلى الشرف والعرض الذي كان -وما زال وسوف يظل إن شاء الله- من أقدس ما يحافظ العربي عليه، ثم هل هذا الشعر العربي الفصيح يمكن أن يكون من قول "عفيرة" جديس، وأخيرًا فإن قصة زرقاء اليمامة هذه، إنما رويت في مكان آخر عند حديث الإخباريين عن تفرق ولد معد، وقريب منها ما جاء في
قصة "الزباء" ملكة تدمر المشهورة.
وأما الفترة التي عاشت فيها قبيلتا "طسم وجديس"، فهي -طبقًا للرواية الآنفة الذكر- إنما كانت في أوائل القرن الرابع الميلادي، أو أوائل القرن الخامس الميلادي، على أن "ده برسيفال" إنما يرى أن إغارة الحميريين على جديس إنما كان بعد عام 140م، وهذا يعني أن القبيلتين قد انتهى أمرهما في حوالي منتصف القرن الثاني الميلادي، ومن ثم فقد أخطأ المؤرخون المسلمون في الربط بينهما وبين عاد الأولى، والتي ربما عاشت في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، هذا إلى أن ذلك إنما يتعارض وما رآه البعض من أن بطليموس الجغرافي إنما كان يقصد باسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" قوم جديس، وأنهم كانوا معروفين حوالي عام 125/.
أضف إلى ذلك أن الفترة التي حكم فيها التبابعة جنوب بلاد العرب، كانت فيها دولة "كندة" هي المسيطرة على منطقة اليمامة، ومن ثم يمكننا القول أن قبيلتي طسم وجديس كانتا معاصرتين لدولة ديدان، وربما انتهتا بنهايتها، أي أننا يمكننا أن نؤرخ لهما فيما بين القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ولا نشك في أن الكشف الأثري سوف يؤكد أو يعدل أو يأتي بتاريخ لا يبعد كثيرًا عن هذا التاريخ، وإن كان هذا لا يمنع من وجود بعض جماعات من "جديس" بعد هذا التاريخ، دون أن يكون لها نفس الكيان الذي كان لها من قبل، ولعل هذه الجماعات هي التي عناها بطليموس، إن كان حقًّا أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" إنما يعني في نظره قوم جديس
4- أميم:
وهم في نظر الأخباريين في طبقة طسم وجديس، وينسبون إلى "لاوذ بن عمليق" أو "لاوذ بن سام بن نوح" أو "وبار بن إرم بن سام بن نوح" أو ما شابه ذلك من شجرات نسب، وأن من شعوبهم "وبار بن أميم"، برمل عالج بين اليمامة والشحر، وأن الرمال قد انهارت عليهم بسبب معصية أصابوها، وإن بقيت منهم بقية دعيت "النسناس".
ولعل أغرب ما في الأمر دعوى الأخباريين بأن ديار بين أميم، إنما كانت بأرض فارس، ومن ثم فقد رأى الفرس أنهم من أميم من ولده "كيومرث"، ولست أدري كيف اعتبر المؤرخون المسلمون بني أميم هؤلاء من طبقة العرب العاربة، ثم هم في نفس الوقت من الفرس؟ ثم ما هي العلاقة بين "وبار" و"أميم"، وهل صحيح أن "وبار" هذا شقيق "كيومرث" جد الفرس؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل هذه القبيلة من العرب البائدة، أم هي قبيلة فارسية؟.
وهناك خلاف بين المؤرخين الأوربيين على ذلك الشعب العربي الذي دعاه بطيلموس "Jobaritae"، وهل هو شعب "وبار" أم أنه "يوباب"، وأن هناك تحريفًا في النسخ فصارت "الباء" "B" "راء" R" ومن ثم فقد أصبح "Jobabitae" وإن كنا لا نملك على هذا التحريف ما يدعمه من أدلة، هذا فضلا عن أنه على موضع قريب من المكان الذي عناه بطليموس الجغرافي تقع أرض "وبار" بين اليمن ورمال يبرين.
ومع ذلك، فإن شعب وبار -في رأي كثير من المستشرقين- إنما هو من الشعوب الخرافية، وليس هذا بالأمر الغريب على قوم يرون في كل الكتابات العربية، أو معظمها، شيئًا أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة، غير أن بعضًا منهم، ممن قدر له زيارة الأماكن التي ذهب الأخباريون إلى أنها أرض "وبار" لا يرون هذا الرأي، كما أن ذكرى "وبار" لا تزال في ذاكرة العرب حتى اليوم، ففي الربع الخالي أماكن كثيرة يزعم الأعراب أنها كانت مواضع وبار، وإن أضافوا إليها أساطير لا يقرها منطق ولا يقبلها عقل.
5- عبيل:
وعبيل هذه -فيما يرى الأخباريون- من ولد "عوص" أخي عاد وأنهم هم الذين اختطوا مدينة يثرب، إلا أن العماليق سرعان ما طردوهم منها، ومن ثم فقد نزلوا في مكان بين مكة والمدينة، حيث اجتحفهم سيل فذهب بهم، وسمي المكان "الجحفة" وتقرأ في التوراة عن "عيبال" أو "عوبال"، على أنه من ولد "يقطان" "قحطان في المصادر العربية"، ومن هنا رأى فريق من علماء التوراة أن "عبيل" من الممكن أن يكون "عيبال" أو "عوبال"، ويشير بطليموس إلى موضع يقال له "Avaiitae" على خليج يدعى بهذا الاسم "Avaiites Sinus" عليه مدينة تسمى "Avaiites Emporium" وسكانها يدعون "Avaites"، كما ورد الاسم عند "بليني" محرفًا إلى "Abaiitae" أو "Abaiites"، وربما كان هؤلاء هم "عوبال"، فيما يرى "فورستر"، وقد يكون أبناء عوبال هم عبيل.
هذا ويحاول البعض أن يوجد صلة بين "عبيل" وبين مكان في اليمن بهذا الاسم، هذا إلى جانب قرية تدعى "عبال" على مقربة من صنعاء، على أن الحكم في مثل هذه الأمور، اعتمادًا على تشابه الأسماء، فيه من الخطورة ما فيه.
6- جرهم:
ينظر الأخباريون إلى جرهم على أنهم طبقتان، الواحدة من العرب البائدة، وقد كانت في مكة المكرمة على عهد عاد وثمود والعماليق، ثم أبيدت بأيدي القحطانيين، والأخرى من جرهم بن قحطان بن هود، وقد كانوا أصهارًا للنبي الكريم سيدنا إسماعيل عليه السلام، وقد آلت إليهم ولاية البيت الحرام حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة -الأمر الذي سوف نناقشه بالتفصيل عند الحديث عن مكة المكرمة- وعلي أي حال، فلقد نزلوا بعد ذلك بين مكة ويثرب، ثم هلكوا بوباء تفشى فيهم.
وأما الفترة التي عاشت فيها قبيلتا "طسم وجديس"، فهي -طبقًا للرواية الآنفة الذكر- إنما كانت في أوائل القرن الرابع الميلادي، أو أوائل القرن الخامس الميلادي، على أن "ده برسيفال" إنما يرى أن إغارة الحميريين على جديس إنما كان بعد عام 140م، وهذا يعني أن القبيلتين قد انتهى أمرهما في حوالي منتصف القرن الثاني الميلادي، ومن ثم فقد أخطأ المؤرخون المسلمون في الربط بينهما وبين عاد الأولى، والتي ربما عاشت في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، هذا إلى أن ذلك إنما يتعارض وما رآه البعض من أن بطليموس الجغرافي إنما كان يقصد باسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" قوم جديس، وأنهم كانوا معروفين حوالي عام 125/.
أضف إلى ذلك أن الفترة التي حكم فيها التبابعة جنوب بلاد العرب، كانت فيها دولة "كندة" هي المسيطرة على منطقة اليمامة، ومن ثم يمكننا القول أن قبيلتي طسم وجديس كانتا معاصرتين لدولة ديدان، وربما انتهتا بنهايتها، أي أننا يمكننا أن نؤرخ لهما فيما بين القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ولا نشك في أن الكشف الأثري سوف يؤكد أو يعدل أو يأتي بتاريخ لا يبعد كثيرًا عن هذا التاريخ، وإن كان هذا لا يمنع من وجود بعض جماعات من "جديس" بعد هذا التاريخ، دون أن يكون لها نفس الكيان الذي كان لها من قبل، ولعل هذه الجماعات هي التي عناها بطليموس، إن كان حقًّا أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" إنما يعني في نظره قوم جديس
4- أميم:
وهم في نظر الأخباريين في طبقة طسم وجديس، وينسبون إلى "لاوذ بن عمليق" أو "لاوذ بن سام بن نوح" أو "وبار بن إرم بن سام بن نوح" أو ما شابه ذلك من شجرات نسب، وأن من شعوبهم "وبار بن أميم"، برمل عالج بين اليمامة والشحر، وأن الرمال قد انهارت عليهم بسبب معصية أصابوها، وإن بقيت منهم بقية دعيت "النسناس".
ولعل أغرب ما في الأمر دعوى الأخباريين بأن ديار بين أميم، إنما كانت بأرض فارس، ومن ثم فقد رأى الفرس أنهم من أميم من ولده "كيومرث"، ولست أدري كيف اعتبر المؤرخون المسلمون بني أميم هؤلاء من طبقة العرب العاربة، ثم هم في نفس الوقت من الفرس؟ ثم ما هي العلاقة بين "وبار" و"أميم"، وهل صحيح أن "وبار" هذا شقيق "كيومرث" جد الفرس؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل هذه القبيلة من العرب البائدة، أم هي قبيلة فارسية؟.
وهناك خلاف بين المؤرخين الأوربيين على ذلك الشعب العربي الذي دعاه بطيلموس "Jobaritae"، وهل هو شعب "وبار" أم أنه "يوباب"، وأن هناك تحريفًا في النسخ فصارت "الباء" "B" "راء" R" ومن ثم فقد أصبح "Jobabitae" وإن كنا لا نملك على هذا التحريف ما يدعمه من أدلة، هذا فضلا عن أنه على موضع قريب من المكان الذي عناه بطليموس الجغرافي تقع أرض "وبار" بين اليمن ورمال يبرين.
ومع ذلك، فإن شعب وبار -في رأي كثير من المستشرقين- إنما هو من الشعوب الخرافية، وليس هذا بالأمر الغريب على قوم يرون في كل الكتابات العربية، أو معظمها، شيئًا أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة، غير أن بعضًا منهم، ممن قدر له زيارة الأماكن التي ذهب الأخباريون إلى أنها أرض "وبار" لا يرون هذا الرأي، كما أن ذكرى "وبار" لا تزال في ذاكرة العرب حتى اليوم، ففي الربع الخالي أماكن كثيرة يزعم الأعراب أنها كانت مواضع وبار، وإن أضافوا إليها أساطير لا يقرها منطق ولا يقبلها عقل.
5- عبيل:
وعبيل هذه -فيما يرى الأخباريون- من ولد "عوص" أخي عاد وأنهم هم الذين اختطوا مدينة يثرب، إلا أن العماليق سرعان ما طردوهم منها، ومن ثم فقد نزلوا في مكان بين مكة والمدينة، حيث اجتحفهم سيل فذهب بهم، وسمي المكان "الجحفة" وتقرأ في التوراة عن "عيبال" أو "عوبال"، على أنه من ولد "يقطان" "قحطان في المصادر العربية"، ومن هنا رأى فريق من علماء التوراة أن "عبيل" من الممكن أن يكون "عيبال" أو "عوبال"، ويشير بطليموس إلى موضع يقال له "Avaiitae" على خليج يدعى بهذا الاسم "Avaiites Sinus" عليه مدينة تسمى "Avaiites Emporium" وسكانها يدعون "Avaites"، كما ورد الاسم عند "بليني" محرفًا إلى "Abaiitae" أو "Abaiites"، وربما كان هؤلاء هم "عوبال"، فيما يرى "فورستر"، وقد يكون أبناء عوبال هم عبيل.
هذا ويحاول البعض أن يوجد صلة بين "عبيل" وبين مكان في اليمن بهذا الاسم، هذا إلى جانب قرية تدعى "عبال" على مقربة من صنعاء، على أن الحكم في مثل هذه الأمور، اعتمادًا على تشابه الأسماء، فيه من الخطورة ما فيه.
6- جرهم:
ينظر الأخباريون إلى جرهم على أنهم طبقتان، الواحدة من العرب البائدة، وقد كانت في مكة المكرمة على عهد عاد وثمود والعماليق، ثم أبيدت بأيدي القحطانيين، والأخرى من جرهم بن قحطان بن هود، وقد كانوا أصهارًا للنبي الكريم سيدنا إسماعيل عليه السلام، وقد آلت إليهم ولاية البيت الحرام حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة -الأمر الذي سوف نناقشه بالتفصيل عند الحديث عن مكة المكرمة- وعلي أي حال، فلقد نزلوا بعد ذلك بين مكة ويثرب، ثم هلكوا بوباء تفشى فيهم.
7- العمالقة:
ينسب الأخباريون العماليق إلى "عمليق بن لوذ بن سام بن نوح"، وهو شقيق طسم، هذا ويبالغ الأخباريون في أهمية العماليق وسعة انتشارهم بدرجة لا يمكن أن يقبلها منطق أو يقرها عقل، فيجعلونهم أممًا كثيرة تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان والحجاز والشام ومصر، فضلا عن أهل المدينة وبنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق وسعد بن هزان، وأهل نجد، وبديل وراحل وغفار هذا، وأخيرًا فقد كان منهم الجبابرة بالشام -وهم الكنعانيون- والفراعين بمصر، والأرقم ملك الحجاز بتيماء.
ولا شك في أن الاضطراب إنما يبدو واضحًا في روايات الأخباريين هذه، فضلا عن أثر التوراة الواضح فيها، فهم يرون أن أهل مصر من العماليق -والعماليق، في رأيهم، كجرهم من العرب العاربة-، ولكنهم في نفس الوقت يرون أن أهل مصر من أبناء "مصرايم بن حام بن نوح"، وتلك في الواقع إنما هي رواية التوراة، وهكذا فإن المصريين -في نظر المؤرخين المسلمين- ساميون وحاميون في نفس الوقت، والأمر كذلك بالنسبة إلى الكنعانيين، فهم من العماليق، وهم في نفس الوقت، أبناء "حام بن نوح"، وتلك -مرة أخرى- رواية التوراة وإذا كان الحقد الدفين من يهود ضد المصريين والكنعانيين والبابليين، هو الذي دفع بكتبة التوراة إلى إخراج هذه الشعوب جميعًا من الساميين، وجعلها من أبناء حام، فإن النقل عن يهود -والغفلة كذلك- هي التي دفعت بالمؤرخين الإسلاميين إلى هذا الموقف الخاطئ.
وأما عن الانتشار غير المقبول للعماليق، فلعله في أحسن الأحوال، إنما كان لأن العماليق قبائل بدوية، انتشرت هنا وهناك في عديد من الأماكن بشبه الجزيرة العربية، ثم جاء الأحباريون وجعلوهم سكانا لمناطق لا تقتصر على بلاد العرب وحدها، وإنما شمتل غيرها من المناطق المجاورة.
وأما أصل الكلمة "عماليق" أو عمالقة، فمجهول، وإن غلب على الظن أنهم نحتوه من اسم قبيلة عربية كانت مواطنها بجهة العقبة أو شماليها، ويسميهم البابليون "ماليق" أو "مالوق"، فأضاف إليها اليهود لفظ "عم" أي الشعب أو الأمة، فقالوا "عم ماليق" و "عم مالوق"، ثم جاءت العرب فقالت: "عماليق" أو "عمالقة"، ثم سرعان ما أطلقت الكلمة على طائفة كبيرة من العرب القدامى.
ويكاد يتفق الإخباريون على أن العماليق عرب صرحاء، ومن أقدم العرب زمانا، ولسانهم هو اللسان المضري التي نطقت به كل العرب البائدة، بل ويذهب الطبري إلى أن عمليقا -وهو أبو العمالقة- كان أول من تكلم العربية حين ظعنوا من بابل، ومن ثم فقد كان يقال لهم -وكذا لجرهم- العرب العاربة، ومرة أخرى يظهر أثر التوراة في هذه الرواية، فهي لا تتعارض مع الرواية المشهورة التي تجعل "يعرب بن قحطان" أول الناطقين بالعربية فحسب، وإنما تجعل السريانية أقدم من العربية، وذلك حين جعلتها لغة الناس جميعًا، غير أن القوم قد انحرفوا إلى عبادة الأوثان، خنوعًا "للنمرود بن كوش بن كنعان بن حام" ملك بابل، وصاحب إبراهيم عليه السلام، ومن ثم فقد أصبح القوم ذات يوم، وقد بلبل الله ألسنتهم، فلا يفهم الواحد منهم الآخر، إذ "أصبح لبني سام ثمانية عشر لسانًا، ولبني حام ثمانية عشر لسانًا، ولبني يافث سنة وثلاثون لسانًا، ففهم الله العربية عادًا وعبيل وثمود وجديس عمليق وطسم وأميم وبني يقطن بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح".
وهكذا فالرواية إذن لا تجعل شرف السبق في النطق بالعربية مقصورًا على "عمليق" وإنما شاركه فيه آخرون، ثم إنها تؤرخ للحادث بعهد "نمرود" صاحب إبراهيم عليه السلام وإبراهيم -كما هو معروف- لا يعده الإخباريون من العرب العاربة، فضلا عن أن يكون من أقدم العرب زمانًا،، ومن ثم فكل من ذكرهم الإخباريون على أنهم أصحاب السبق في النطق بالعربية، تأتي هذه الرواية فتجعلهم لا ينطقون بها إلا على أيام النمرود، صاحب إبراهيم عليه السلام "1940-1765ق. م".
وأخيرًا، فالرواية تحريف لرواية توراتية، أراد كاتبها أن يقدم لنا تفسيرًا لاختلاف اللغات والأجناس -كما فعلت الرواية العربية- فقدم لنا تفسيرًا ساذجًا غير علمي، ذهب فيه إلى أن الله سبحانه وتعالى قد رأى أن سلالة الناجين من الطوفان يبنون برجًا بغية الوصول إليه في علياء سمائه، وكانوا يحسبون السماء أشبه بلوح زجاج يعلو بضع مئات من الأمتار، فخشي شرهم واحتاط لنفسه فهبط الأرض وبلبل ألسنتهم، فتقرقوا شذر مذر، ومن ثم فقد سميت المدينة "بابل"، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ثم بددهم على وجه الأرض، أضف إلى ذلك كله، أن الرواية العربية إنما هي متأثرة بروايات تذهب إلى أن الموطن الأصلي للساميين إنما كان في بابل، بل ربما كانت أساسًا لنظريات حديثة تنحو هذا النحو.
وعلى أي حال، فالعماليق -في نظر التوراة- من أقدم الشعوب التي سكنت جنوب فلسطين، وقد عدهم "بلعام" أول الشعوب، ربما لأنهم كانوا أول من اصطدم بالإسرائيليين في أثناء التيه في صحراوات سيناء، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه البعض -طبقًا لرواية توراتية- من أنهم من سلالة "اليعازر بن عيسو" جد الآدوميين، وحفيد إبراهيم، ذلك لأن هناك نصًّا تواراتيًّا آخر
ينسب الأخباريون العماليق إلى "عمليق بن لوذ بن سام بن نوح"، وهو شقيق طسم، هذا ويبالغ الأخباريون في أهمية العماليق وسعة انتشارهم بدرجة لا يمكن أن يقبلها منطق أو يقرها عقل، فيجعلونهم أممًا كثيرة تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان والحجاز والشام ومصر، فضلا عن أهل المدينة وبنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق وسعد بن هزان، وأهل نجد، وبديل وراحل وغفار هذا، وأخيرًا فقد كان منهم الجبابرة بالشام -وهم الكنعانيون- والفراعين بمصر، والأرقم ملك الحجاز بتيماء.
ولا شك في أن الاضطراب إنما يبدو واضحًا في روايات الأخباريين هذه، فضلا عن أثر التوراة الواضح فيها، فهم يرون أن أهل مصر من العماليق -والعماليق، في رأيهم، كجرهم من العرب العاربة-، ولكنهم في نفس الوقت يرون أن أهل مصر من أبناء "مصرايم بن حام بن نوح"، وتلك في الواقع إنما هي رواية التوراة، وهكذا فإن المصريين -في نظر المؤرخين المسلمين- ساميون وحاميون في نفس الوقت، والأمر كذلك بالنسبة إلى الكنعانيين، فهم من العماليق، وهم في نفس الوقت، أبناء "حام بن نوح"، وتلك -مرة أخرى- رواية التوراة وإذا كان الحقد الدفين من يهود ضد المصريين والكنعانيين والبابليين، هو الذي دفع بكتبة التوراة إلى إخراج هذه الشعوب جميعًا من الساميين، وجعلها من أبناء حام، فإن النقل عن يهود -والغفلة كذلك- هي التي دفعت بالمؤرخين الإسلاميين إلى هذا الموقف الخاطئ.
وأما عن الانتشار غير المقبول للعماليق، فلعله في أحسن الأحوال، إنما كان لأن العماليق قبائل بدوية، انتشرت هنا وهناك في عديد من الأماكن بشبه الجزيرة العربية، ثم جاء الأحباريون وجعلوهم سكانا لمناطق لا تقتصر على بلاد العرب وحدها، وإنما شمتل غيرها من المناطق المجاورة.
وأما أصل الكلمة "عماليق" أو عمالقة، فمجهول، وإن غلب على الظن أنهم نحتوه من اسم قبيلة عربية كانت مواطنها بجهة العقبة أو شماليها، ويسميهم البابليون "ماليق" أو "مالوق"، فأضاف إليها اليهود لفظ "عم" أي الشعب أو الأمة، فقالوا "عم ماليق" و "عم مالوق"، ثم جاءت العرب فقالت: "عماليق" أو "عمالقة"، ثم سرعان ما أطلقت الكلمة على طائفة كبيرة من العرب القدامى.
ويكاد يتفق الإخباريون على أن العماليق عرب صرحاء، ومن أقدم العرب زمانا، ولسانهم هو اللسان المضري التي نطقت به كل العرب البائدة، بل ويذهب الطبري إلى أن عمليقا -وهو أبو العمالقة- كان أول من تكلم العربية حين ظعنوا من بابل، ومن ثم فقد كان يقال لهم -وكذا لجرهم- العرب العاربة، ومرة أخرى يظهر أثر التوراة في هذه الرواية، فهي لا تتعارض مع الرواية المشهورة التي تجعل "يعرب بن قحطان" أول الناطقين بالعربية فحسب، وإنما تجعل السريانية أقدم من العربية، وذلك حين جعلتها لغة الناس جميعًا، غير أن القوم قد انحرفوا إلى عبادة الأوثان، خنوعًا "للنمرود بن كوش بن كنعان بن حام" ملك بابل، وصاحب إبراهيم عليه السلام، ومن ثم فقد أصبح القوم ذات يوم، وقد بلبل الله ألسنتهم، فلا يفهم الواحد منهم الآخر، إذ "أصبح لبني سام ثمانية عشر لسانًا، ولبني حام ثمانية عشر لسانًا، ولبني يافث سنة وثلاثون لسانًا، ففهم الله العربية عادًا وعبيل وثمود وجديس عمليق وطسم وأميم وبني يقطن بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح".
وهكذا فالرواية إذن لا تجعل شرف السبق في النطق بالعربية مقصورًا على "عمليق" وإنما شاركه فيه آخرون، ثم إنها تؤرخ للحادث بعهد "نمرود" صاحب إبراهيم عليه السلام وإبراهيم -كما هو معروف- لا يعده الإخباريون من العرب العاربة، فضلا عن أن يكون من أقدم العرب زمانًا،، ومن ثم فكل من ذكرهم الإخباريون على أنهم أصحاب السبق في النطق بالعربية، تأتي هذه الرواية فتجعلهم لا ينطقون بها إلا على أيام النمرود، صاحب إبراهيم عليه السلام "1940-1765ق. م".
وأخيرًا، فالرواية تحريف لرواية توراتية، أراد كاتبها أن يقدم لنا تفسيرًا لاختلاف اللغات والأجناس -كما فعلت الرواية العربية- فقدم لنا تفسيرًا ساذجًا غير علمي، ذهب فيه إلى أن الله سبحانه وتعالى قد رأى أن سلالة الناجين من الطوفان يبنون برجًا بغية الوصول إليه في علياء سمائه، وكانوا يحسبون السماء أشبه بلوح زجاج يعلو بضع مئات من الأمتار، فخشي شرهم واحتاط لنفسه فهبط الأرض وبلبل ألسنتهم، فتقرقوا شذر مذر، ومن ثم فقد سميت المدينة "بابل"، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ثم بددهم على وجه الأرض، أضف إلى ذلك كله، أن الرواية العربية إنما هي متأثرة بروايات تذهب إلى أن الموطن الأصلي للساميين إنما كان في بابل، بل ربما كانت أساسًا لنظريات حديثة تنحو هذا النحو.
وعلى أي حال، فالعماليق -في نظر التوراة- من أقدم الشعوب التي سكنت جنوب فلسطين، وقد عدهم "بلعام" أول الشعوب، ربما لأنهم كانوا أول من اصطدم بالإسرائيليين في أثناء التيه في صحراوات سيناء، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه البعض -طبقًا لرواية توراتية- من أنهم من سلالة "اليعازر بن عيسو" جد الآدوميين، وحفيد إبراهيم، ذلك لأن هناك نصًّا تواراتيًّا آخر
يجعلهم يقيمون في جنوب غرب البحر الميت على أيام الخليل إبراهيم، وأنهم كانوا على أيام موسى الكليم منتشرين في كل صحراء التيه حتى حدود مصر، وفي معظم سيناء، وجنوب فلسطين، كما كان هناك "جبل العمالقة" في أرض أفرايم.
وليس هناك من شك في أن الصدام الحقيقي بين اليهود والعماليق إنما بدأ في المرحلة الأولى من التيه، ونقرأ في التوراة أن العمالقة قد هاجموا بني إسرائيل المنهكين عند خروجهم من مصر وأسروا جميع مقاتليهم، كما نقرأ كذلك في التوراة أن العماليق قد أتوا لمحاربة بني إسرائيل في "رفيديم"، حيث ضرب موسى الحجر بعصاه، فانبثقت منه اثنتا عشرة عينًا، ويذهب "يوسف بن متى" المؤرخ اليهودي، إلى أن الإسرائيليين حينما وصلوا إلى "رفيديم" كانوا في حالة يرثى لها من العطش، ومن ثم فقد كان هجوم العمالقة عليهم ناجحًا.
وعلى أي حال، فإذا كانت "رفيديم" والتي أطلق الإسرائيليون عليها "مريبة" -وكذا قادش القريبة منها- تقعان حول البتراء، فهما إذن في جوار أرض العماليق الذين كانوا يتمكنون في سهولة من أن يهاجموا بني إسرائيل، متنقلين من معسكر إلى آخر، ومن أن يأسروا مقاتليهم، غير أن العمالقة قد أعانوا أعداء آخرين لبني إسرائيل، حتى بعد استقرارهم في فلسطين، ومن ثم فإننا نقرأ في التوراة أن العمالقة قد اتحدوا مع "عجلون" ملك مؤاب، الذي انتزع منهم مدينة النخل "أريحا"، كما كانوا كذلك حلفاء لأهل مدين وبني المشرق "بني قدم" الذين كانوا يسكنون في سهل يزرعيل، وهكذا استمر العماليق يغزون بني إسرائيل في فلسطين، تقول التوراة: "إذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق، ويتلفون غلة الارض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوة الحياة، ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا".
وهكذا بدأ الإسرائيليون يفكرون في الانتقام من العماليق، وكان "شاول" "1020-100ق. م" هو أول ملك إسرائيلي يحارب العماليق، ونقرأ في التوراة أن الربَّ أمر شاؤل أن يحارب العماليق ويبيد كل ممتلكاتهم من ثيران وماشية وجمال وحمير، ومن هذا نفهم أن العمالقة إنما كانوا يمتلكون عددًا من القرى والديار، وأنهم قد عنوا بحرث الأرض وزراعاتها، فضلا عن تربية الماشية والأنعام.
وطبقًا لرواية التوراة، فإن شاؤل قد نجح في مهمته، وحقق للإسرائيليين -ولأول مرة- نصرًا على العماليق، كما يفهم من الرواية نفسها أن العمالقة إنما كانوا يسيطرون على طرق القوافل فيما بين جنوب فلسطين وشمال شبه الجزيرة العربية.
وكان هناك طريقان يقعان في أرض العماليق، الواحد عن طريق برزخ السويس، والآخر عن طريق خليج العقبة، ولما كانت العلاقات التجارية بين مصر وغزة من ناحية، وبين جنوب بلاد العرب من ناحية أخرى، في غاية من الازدهار والنشاط، فقد كانت القوافل التجارية القادمة من غزة إلى العقبة تمر في أرض العماليق، فليس من شك في أنها إنما كانت تعترف بسلطتهم في هذا الجزء من الطريق القادم من غزة متجهًا إلى مصر، والأمر كذلك بالنسبة إلى جزئه الآخر المتجه نحو الجنوب الشرقي، أو أنها على الأقل كانت خاضعة لسلطة العمالقة في هذا الجزء المتاخم لساحل البحر من الطريق.
وفي أيام داود عليه السلام "1000-960ق. م" تدق الحرب طبولها من جديد بين بني إسرائيل والعماليق، وطبقًا لرواية التوراة فإن العمالقة قد غزوا بني إسرائيل، "وضربوا صقلع وأحرقوها بالنار وسبوا نساءها"، إلا أن داود قد كتب له نجحًا بعيد المدى في رد الغزاة، وفي استعادة الغنائم منهم، بل وفي استعادة بعض السبايا -ومنهم امرأتيه أخينوعم وأبجايل- كما تمكن قائد "يؤاب" من أن يخرجهم من ديارهم الأولى، وإن ظلت بقية منهم تسكن الجزء الجنوبي من جبل سعير، حتى أتى المهاجرون من قبائل شمعون فاحتلوا ديارهم، ومن ثم أصبحنا لا نجد للعمالقة بعد ذلك ذكرًا في النصوص.
بقيت نقطة أخيرة تتصل بعدم ذكر العمالقة في جملة قبائل العرب، وهذا
"أولًا" لا يدل على أن العمالقة لم يكونوا عربًا.
"ثانيًا" لأن العبرانيين لم يطلقوا لفظة "عرب" إلا على أعراب البادية، ولا سيما بادية الشام.
"ثالثًا" لأن العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها بنو إسرائيل، ومن ثم فقد حملوا لهم حقدًا دفينًا، واليهود -كما معروف- قد تأثروا بعواطفهم نحو الشعوب التي يكتبون عنها.
"رابعًا" فإن العمالقة -في نظر اليهود- أقدم من القحطانيين والعدنايين، سواء بسواء.
8- حضوراء:
يروي الأخباريون أن حضورا من نسل قحطان، وأنهم كانوا يقيمون بالرس، وهو إما موضع بحضرموت أو اليمامة، أو مكان كانت فيه ديار نفر من ثمود، وإن كان "الهمداني" يرى أن الرس بناحية "صيهد"، وهي بلدة ما بين بيجان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعًا إلى حضرموت، كما فسر الرس بمعنى "البئر القليلة الماء"، وذهب اليعقوبي إلى أنها بين العراق والشام إلى حد الحجاز.
وليس هناك من شك في أن الصدام الحقيقي بين اليهود والعماليق إنما بدأ في المرحلة الأولى من التيه، ونقرأ في التوراة أن العمالقة قد هاجموا بني إسرائيل المنهكين عند خروجهم من مصر وأسروا جميع مقاتليهم، كما نقرأ كذلك في التوراة أن العماليق قد أتوا لمحاربة بني إسرائيل في "رفيديم"، حيث ضرب موسى الحجر بعصاه، فانبثقت منه اثنتا عشرة عينًا، ويذهب "يوسف بن متى" المؤرخ اليهودي، إلى أن الإسرائيليين حينما وصلوا إلى "رفيديم" كانوا في حالة يرثى لها من العطش، ومن ثم فقد كان هجوم العمالقة عليهم ناجحًا.
وعلى أي حال، فإذا كانت "رفيديم" والتي أطلق الإسرائيليون عليها "مريبة" -وكذا قادش القريبة منها- تقعان حول البتراء، فهما إذن في جوار أرض العماليق الذين كانوا يتمكنون في سهولة من أن يهاجموا بني إسرائيل، متنقلين من معسكر إلى آخر، ومن أن يأسروا مقاتليهم، غير أن العمالقة قد أعانوا أعداء آخرين لبني إسرائيل، حتى بعد استقرارهم في فلسطين، ومن ثم فإننا نقرأ في التوراة أن العمالقة قد اتحدوا مع "عجلون" ملك مؤاب، الذي انتزع منهم مدينة النخل "أريحا"، كما كانوا كذلك حلفاء لأهل مدين وبني المشرق "بني قدم" الذين كانوا يسكنون في سهل يزرعيل، وهكذا استمر العماليق يغزون بني إسرائيل في فلسطين، تقول التوراة: "إذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق، ويتلفون غلة الارض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوة الحياة، ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا".
وهكذا بدأ الإسرائيليون يفكرون في الانتقام من العماليق، وكان "شاول" "1020-100ق. م" هو أول ملك إسرائيلي يحارب العماليق، ونقرأ في التوراة أن الربَّ أمر شاؤل أن يحارب العماليق ويبيد كل ممتلكاتهم من ثيران وماشية وجمال وحمير، ومن هذا نفهم أن العمالقة إنما كانوا يمتلكون عددًا من القرى والديار، وأنهم قد عنوا بحرث الأرض وزراعاتها، فضلا عن تربية الماشية والأنعام.
وطبقًا لرواية التوراة، فإن شاؤل قد نجح في مهمته، وحقق للإسرائيليين -ولأول مرة- نصرًا على العماليق، كما يفهم من الرواية نفسها أن العمالقة إنما كانوا يسيطرون على طرق القوافل فيما بين جنوب فلسطين وشمال شبه الجزيرة العربية.
وكان هناك طريقان يقعان في أرض العماليق، الواحد عن طريق برزخ السويس، والآخر عن طريق خليج العقبة، ولما كانت العلاقات التجارية بين مصر وغزة من ناحية، وبين جنوب بلاد العرب من ناحية أخرى، في غاية من الازدهار والنشاط، فقد كانت القوافل التجارية القادمة من غزة إلى العقبة تمر في أرض العماليق، فليس من شك في أنها إنما كانت تعترف بسلطتهم في هذا الجزء من الطريق القادم من غزة متجهًا إلى مصر، والأمر كذلك بالنسبة إلى جزئه الآخر المتجه نحو الجنوب الشرقي، أو أنها على الأقل كانت خاضعة لسلطة العمالقة في هذا الجزء المتاخم لساحل البحر من الطريق.
وفي أيام داود عليه السلام "1000-960ق. م" تدق الحرب طبولها من جديد بين بني إسرائيل والعماليق، وطبقًا لرواية التوراة فإن العمالقة قد غزوا بني إسرائيل، "وضربوا صقلع وأحرقوها بالنار وسبوا نساءها"، إلا أن داود قد كتب له نجحًا بعيد المدى في رد الغزاة، وفي استعادة الغنائم منهم، بل وفي استعادة بعض السبايا -ومنهم امرأتيه أخينوعم وأبجايل- كما تمكن قائد "يؤاب" من أن يخرجهم من ديارهم الأولى، وإن ظلت بقية منهم تسكن الجزء الجنوبي من جبل سعير، حتى أتى المهاجرون من قبائل شمعون فاحتلوا ديارهم، ومن ثم أصبحنا لا نجد للعمالقة بعد ذلك ذكرًا في النصوص.
بقيت نقطة أخيرة تتصل بعدم ذكر العمالقة في جملة قبائل العرب، وهذا
"أولًا" لا يدل على أن العمالقة لم يكونوا عربًا.
"ثانيًا" لأن العبرانيين لم يطلقوا لفظة "عرب" إلا على أعراب البادية، ولا سيما بادية الشام.
"ثالثًا" لأن العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها بنو إسرائيل، ومن ثم فقد حملوا لهم حقدًا دفينًا، واليهود -كما معروف- قد تأثروا بعواطفهم نحو الشعوب التي يكتبون عنها.
"رابعًا" فإن العمالقة -في نظر اليهود- أقدم من القحطانيين والعدنايين، سواء بسواء.
8- حضوراء:
يروي الأخباريون أن حضورا من نسل قحطان، وأنهم كانوا يقيمون بالرس، وهو إما موضع بحضرموت أو اليمامة، أو مكان كانت فيه ديار نفر من ثمود، وإن كان "الهمداني" يرى أن الرس بناحية "صيهد"، وهي بلدة ما بين بيجان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعًا إلى حضرموت، كما فسر الرس بمعنى "البئر القليلة الماء"، وذهب اليعقوبي إلى أنها بين العراق والشام إلى حد الحجاز.