اليمن_تاريخ_وثقافة
10.4K subscribers
141K photos
348 videos
2.16K files
24.5K links
#اليمن_تاريخ_وثقافة ننشر ملخصات عن تاريخ وثقافة اليمن الواحد الموحد @taye5
@mao777 للتواصل
Download Telegram
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
أنا منْ بلادِ (القاتِ) مأساتي تضجُّ بها الحقَبْ
أنا منْ هناكَ قصيدةٌ تبكي وحرفٌ مغْتَرِبْ
غادرتُ سجنَ الأمسِ ملتحفاً براكينَ الغضبْ
أثرُ القيودِ على يدي، ساقي تنوءُ منَ التعبْ
لا (عطرَ) لا (بترولَ) أحملُهُ وليسَ معي ذهبْ

ما زلتُ أغسلُ في مياهِ البحرِ، أشربُ في القِرَبْ
قدمايَ حافيتانِ، عاري الرّأسِ، موصولُ السَّغَبْ
وسفينةُ الصَّحْراءِ طائرتي، وَقَصْري منْ خَشَبْ
إنْ دندنَ (الموّالُ) في الأغوارِ يقتلْني الطربْ
ويشدَّني نايُ الحقولِ أذوبُ إنْ ناحَ القَصَبْ
لكنّني في الحبِّ موصولُ العراقةِ، والنَّسَبْ
(مجنونُ ليلى) في دمي و(جميلُ) مجنونُ اللَّهَبْ

أنا والهوى جئنا، شببْتُ بظِلِّهِ حلماً، وَشَبْ
هل تقبليني بعدُ؟ هل ترضينَ بي، شمسَ العربْ؟
أنا فيكِ مجنونٌ تحيَّرَ سَيْرُ عمري واضطربْ
لَمّا تلاقى المعجبونَ أمامَ موكبِكِ العجبْ
قالوا: وماتَ اللَّفظُ مشنوقاً على شفتي الْتَهَبْ:
هزَّتْكَ ثرثرةُ الشِّفاهِ. وخابَ صمتي وانتحبْ
وذهبْتِ تقتاتينَ، تغتسلينَ في موجِ الصَّخَبْ
والصمتُ لو تدرينَ.. أبلغُ منْ ملايينِ الخطبْ.

القاهرة ديسمبر 1963م
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
عبدالعزيز المقالح الذي أعرفه: أبٌ لليتيم وصديق من لا صديق له
عبد الرحمن الغابري*
ولد ووجد في أرضه اليمن، ليصبح أهم وأبرز أعلامها، وبه ومن خلاله اتسعت خارطة اليمن الثقافية حيث امتدت من أقصى الأرض إلى أقصاها.

عبد العزيز المقالح، قبل أن يكون دكتور، عاش طفولته شغوفاً بالمعرفة مطلعاً على مجمل الكتب التي كانت تصل سرّاً إلى اليمن. تشرّب والتهم من مكتبة والده الكثير من المعارف، خصوصاً في مجالات الأدب والفنون جميعها.

حين سُجن والده صالح المقالح في سجن حجة، ذهب عبدالعزيز، الطفل، لمشاركة والده الزنازين الرهيبة والقيود الغليظة. لقد سَجن الإمام والده فكان عبدالعزيز السجين الطفل.. الكبير في ثقافته ومعارفه .

عبد العزيز المقالح أحد أهم من بثت إذاعة صنعاء صوته مجلجلاً في إذاعة البيان الأول لثورة ٢٦ سبتمبر المجيدة. كبر عبدالعزيز فكراً، ونضج ثقافةً وموهبةً في شتى مجالات الإبداع.

نبغ شعراً، وأجاد إعلامياً، ونمنم بريشته لوحات تشكيلية غاية في الجمال. وهذه الموهبة لا أحد يعرف عنها سوى القليل من أصدقائه، وأنا أحدهم.

حياة عبدالعزيز المقالح متشبّعة بالفكر والأدب والفلسفة؛ سخّر كل تلك الإبداعات لأجل وطنه اليمن. وعروبياً، كان الدكتور عبدالعزيز المقالح يصدح بإبداعاته مباركاً الشعب المصري الشقيق وجيشه، في انتصاراته على الجيش الإسرائيلي عام 1973، بقصائد عدة أولها “العبور”.

مناقب كثيرة جداً للدكتور عبدالعزيز المقالح لا يتسع هذا الحيز لحصرها. قرأت للدكتور عبدالعزيز قصائد لا تزال مرسومة في عقلي وقلبي، مذ كنت فتىً أيام حصار السبعين يوماً لصنعاء .شُغفت بشعره ونضاله وتمنيت حينها أن التقيه. وبالفعل، التقيته بشوق عام ١٩٧٨، فكان أول لقاء تعارفي حميم، بعده توطدت العلاقة حتى أصبحنا صديقين؛

ومع ذلك، فأنا التلميذ وهو الأستاذ، أنا الأخ الصغير وهو الأخ الكبير، أنا اليتيم وهو أبي، أنا العاطش المتعطش للفنون، وهو النهر الذي يسقيني ويرويني، أنا المتحمّس للصدامات، للمشاغبات مع بعض قيادات الدولة، دون أن أحسب العواقب والأضرار التي كان يمكن أن تحبطني، وهو أفق الحكمة الواسع الذي طرت في فضائه مبتعداً عن الحماقات، سالكاً دروب المعرفة والسلام والفنون بأصنافها.

هذه المشاعر التي أُكنّها لصديقي الأعظم ليست وليدة اليوم؛ لقد زُرعت ونمت وكبرت في ذاكرة الفتى اليتيم منذ النشأة .

الدكتور عبد العزيز المقالح ليس أديباً ومفكراً كبيراً وحسب، إنه إنسان بكل ما تعنيه الإنسانية، إنه أباً لليتيم، صديقاً لمن لا صديق ولا صداقات له، مربّياً للمواهب في بساتينه الغنّاء، يستقي المبدعون الشباب من سنابله وثماره اللذيذة، جميع إبداعاتهم.

لقد كان حظي كبيراً وكثيراً وحسناً، أن الدكتور العزيز عبدالعزيز، هو من فكّ أسري الذي أراده لي البعض دون أن تكون لي علاقة بهم، فأخذ بيدي وفتح لي أبواب العالم كي أنطلق نحو التفرغ للإبداع والارتواء المعرفي، عبر القراءة والتأهل وممارسة أنشطتي بصورة يومية، وإقامة المعارض الفوتوغرافية العديدة التي كان أولها تحت رعايته ودعمه. إنه صندوق اليمن الثري بالإبداعات، وكنزها الذي ستتقلد الأجيال المتعاقبة جواهره.

مشاعر فياضة بالمحبة، غزيرة وكثيفة وكبيرة، أُكنّها لهذا الإنسان العظيم. وأرجو من زمن السلام والاستقرار الآتي، أن يتح لي البوح بها بأية وسيلة. لك أخي الكبير وصديقي الحميم وأبي العزيز: دكتور عبدالعزيز المقالح كل الحب. وكلما فاح عبير وعطر هذه الأرض، أنت هدفه ومستقرّه الأبدي.

* ضمن ملف (تغريبة في مياه الكلام)، موقع خيوط
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
المقالح كما عرفته:
بلد في جسد

لـ “عبدالرزّاق الربيعي”


بعض الأشخاص، يتماهون مع المكان لدرجة لا يمكن فصلهم عنه، لذا تبدو عملية كهذه أشبه بفصل وجهي ورقة شجرة عن بعضهما البعض! وهنا لا أتحدّث عن الآصرة الوجدانية التي تربط شخصا ما بوطنه، لكنني أتحدث عن حالة التماهي النابعة عن علاقة مشيمية، تلك العلاقة هي أقرب توصيف لعلاقة الشاعر الكبير د. عبد العزيز المقالح بصنعاء التي لا تشبهها سوى علاقة نجيب محفوظ بالقاهرة، ومحمد خضير بالبصرة، ومحمد شكري بطنجة! حتى عدّه الكاتب حسن عبدالوارث (الباب الثامن لصنعاء) ذات السبعة أبواب، تلك العاصمة التي حين غادرها للدراسة، وجد أنها تقيم في صدره “تفتش عن ألعاب الطفولة”، لذا حين يقول عن (عاصمة الروح) في (كتاب صنعاء):
“حين جئت إلى الأرض كانت معي
في قماطي
وكنت أرى في حليب الصباح
بياض مآذنها والقباب”
فأنه يصل بهذا الإنشداد لصنعاء إلى نسج أسطورة حب العاصمة التي يقف أمام بابها المفتوح للشمس متسائلا:
“هل هطلت من كتاب الأساطير؟
أم هبطت من غناء البنفسج؟”
ويختصر ذلك كله حين يقول:
“كانت امرأة
هبطت في ثياب الندى
ثم صارت مدينة”
لكنها في النهاية صارت قصيدة، تلك الحبيبة رآها للمرة الأولى حين كان عمره ست سنوات مغادرا قريته في محافظة إب، ليلتحق بمدرسة يتعلّم فيها حفظ القرآن والكتابة والحساب، بل أنه يصل إلى درجة أن يرى” أخطاءها الذهبية
أفضل من صوابكم العقيم”.
وإذا كان الإمام علي بن أبي طالب (ع) رأى في الكوفة “سرّة الكون” حين سئل عن مركز الأرض، ملقيا عصاه، فصنعاء بالنسبة للمقالح سرّة عالمه الشعري، فأفرد لها كتابا شعريا أسماه (كتاب صنعاء) ووصفها في هذا الكتاب بـ عاصمة الروح والشعر، والأسطورة التي تحقق أماني الغرباء:
“أبوابها سبعة
والفراديس
أبوابها سبعة
كل باب يحقق أمنية
للغريب”
وهكذا من الصعب تخيّل المقالح بدون صنعاء، خصوصا أنه لم يغادرها منذ أكثر من أربعين عاما! وحين سمعت بمرضه وتعرضه لانزلاق غضروفي في عموده الفقري، كلّمته، وعرضت عليه العلاج في مسقط، أسوة بعشرات اليمنيين، وأكدت عليه أنه سيعامل معاملة خاصة، لكنه اعتذر؛ لأنه ربط مصيره بمصير أبناء شعبه، ولن يغادر صنعاء، مثلما اعتذر عن تلبية عشرات الدعوات التي وجهت له من قبل، حتى أن مؤسسة سلطان العويس قامت بتسليمه جائزة الشعر التي نالها في حفل إقامته في صنعاء في خطوة غير مسبوقة للمؤسسة تقديرا منها للشاعر ومكانته الشعرية، متذرّعا بكثرة انشغالاته، وهو أمر يلمسه من يقترب منه إذ يكتب في أكثر من صحيفة محلية وعربية أعمدة أسبوعية، ويشرف على طلبة الدراسات العليا، ويدعم الأدباء الشباب من خلال مراجعة نتاجاتهم، وكتابة مقدمات دواوينهم، ويواظب على القراءة بشكل يومي، والأهم من كل هذا مداومته على الكتابة الشعرية وحرصه على تطوير تجربته وانتقاله من أفق إلى آخر بين فترة وأخرى، فعدم قبوله للدعوات التي توجه له وسط هذه الالتزامات والمشاغل يبدو تحصيل حاصل، رغم أن البعض يردد أن المقالح يهاب ركوب الطائرات وحين سألته عام 1997 عن ذلك أجابني “هذه إشاعة أطلقها بعض الزملاء وأستطيع أن أؤكد إن ركوب الطائرة بالنسبة لي ضرب من الكتابة الشعرية، والتحليق في الفضاء عمل شعري باذخ يغني عن قراءة عشرات الدواوين ويعطي طاقة إلهام لا حدود لها”.
وقد سألته ذات يوم أيضا عن سبب عدم مغادرته صنعاء، فأجاب: “ربما لأنني غبت كثيرا عنها في الستينيات والسبعينيات فترة طويلة كانت كافية لتزرع في النفس حنينا جارفا لا تهدأ عواصفه وشعورا بالخوف من الفقدان مرة أخرى”.
ورغم هذه العواصف التي تضج في صدر قصيدته، إلا أنه حين يتكلّم، لا تكاد تسمع صوته، فكلامه همس. قال لي د. عبد الرضا علي، في أول لقاء لي بـ (الدكتور)- وهذا هو لقبه الذي يلازمه في اليمن، وليس درجة علمية فحسب – كان أثناء دراسته بالقاهرة، التي وصل إليها في منتصف الستينيات حتى 1977حين كان يواصل دراساته العليا بجامعة عين شمس، وكان بصحبة د.سهير القلماوي، وحين يتكلم مع القلماوي كنا نستغرب كيف كانت تسمع ما ينطق!
لكنّ صوته دائما هو الأعلى في الشارع الثقافي اليمني، وكلمته حدّ فاصل في حلقات الجدل التي تُعقد.
-٢-
لقد لفتت قوة تأثير المقالح في المحيط انتباه الشاعر الراحل إبراهيم الجرادي، فقال في كتابه حداثة متوازنة “ويندر في حياتنا الأدبية، والاجتماعية أن نعثر على أديب ذي تأثير في بيئته يعادل تأثير عبد العزيز المقالح في البيئة اليمنية، فهو شخصية ذات مكانة اجتماعية كبيرة اكتسبها نتيجة إخلاصه لمجتمعه، وتوظيفه وعيه، وإنتاجه لرفعة شأن هذا المجتمع” ذلك لأنّ المقالح، كما يقول الجرادي” مسلكية ثقافية عربية، تنفرد في سماتها وتتيح للتكريم مقاما، يكرر ثناءاته للحرف المتأصل، في سلوك ثقافي وإنساني، لا يرضي نفسه على مايبدو، ولا يبلغ قيمة لديه، بانفتاحه المشروع على أفقه العربي، وهذا ما تبديه ممارسته الإبداعية، وما يشترطه طموحه الثقافي الكبير في رفض النزاعات الإقليمية التي تنمو في إطار الحواجز
الجغرافية، وفي استكانة بعض المثقفين العرب، ولم يكتف المقالح شاعرا، وباحثا، وأستاذا بتوصيل شجون اليمن الثقافية إلى مواقعها العربية بل ساهم ويساهم بجهد مضن واضح، ومن خلال كتبه، ونشاطه الدائم بالتعريف بالأدب العربي في مواقعه الجغرافية المختلفة”، إن قيمة هذه الشهادة تنبع من كونها جاءت من شاعر، وأكاديمي عمل معه سنوات طويلة في جامعة صنعاء، عندما كان رئيسا لها، ونظر إلى حداثته نظرة فيها الكثير من التوازن، فرغم نشأة المقالح في بيئة بها للتراث هيمنة قوية، وقف موقفا صلبا مع الحداثة في الكتابة، والحياة، ودعا للجديد، واعتبر انحيازه له “تهمة محبّبة إلى نفسه” متبنيا مفهوما حداثويّا أطلق عليه “الأجد”.
وكان الجرادي -رحمه الله- من المواظبين على حضور مجلس المقالح الأدبي الذي كنّا نلتقي به أكثر من مرة في الأسبوع، ذلك المجلس المفتوح الذي كان يعقده بمركز الدراسات والبحوث اليمني، أما مجالسه الخاصة، فقد كانت تعقد أمّا في بيته، أو في بيت خالد الرويشان، أو في بيت محمد عبد السلام منصور، وهما صديقاه المقربان، وجناحاه في مجلسه، إذ يجلس الرويشان على يساره، فيما يجلس منصور على يمينه، ويتوسط المجلس محاطا بمحبة الأصدقاء، فالصداقة لديه مقرونة بالحب، حسب أوكتافيو باث، باعتبارهما عاطفتين متقابلتين كما ذكر في كتابه (كتاب الأصدقاء)، وكان من الحاضرين الدائمين: سليمان العيسى، وشاكر خصباك، وعبد علي الجسماني، وإبراهيم الجرادي رحمهم الله، وحاتم الصكر، وعبدالرضا علي، وسعيد الزبيدي، وعلي جعفر العلاق وفضل خلف جبر، وعائد خصباك، أمد الله بأعمارهم، وما أن يدخل ضيف مجلسه، ينهض من مكانه، ويضع في يده غصن (قات) كعادة اليمنيين في الترحيب بضيفهم في (المقايل) مهما كان الضيف صغيرا، أم كبيرا، إلا إذا كان يحمل معه باقة (قات) رغم أنه نادرا ما يمضغ (القات) وإذا ما مضغه من باب المجاملة الاجتماعية فإنه يكتفي بورقة واحدة أو ورقتين، في الزيارة الأولى لمجلسه، وكنت بصحبة صديقي الشاعر فضل خلف جبر الذي سبقني لصنعاء، حين قدّم لي الغصن، التفت إلى صديقي فضل، فأشار بطرف عينه “خذه”، فأخذته، ثم سألته هامسا “ماذا أفعل به؟” أجاب مثلما يفعل المقالح، نظرت إلى سيد المجلس المهيب، رأيته يقتطع الوريقات الصغيرة من الغصن ويضعها براحة يده اليمني، ثم يفركها بحنو، ويدس واحدة في فمه، ويبقى يمضغ بها، فالمقالح لم يكن يفعل ذلك إلا من باب المجاملة الاجتماعية، وحين كان بعض الأخوة اليمنيين يمزحون معي، ويطلبون مني مضع القات، بشكل احترافي، كان الدكتور المقالح، يقول لهم “دعوا عبد الرزاق وشأنه، فهو مثلي، لا أقترب من هذه الأمور”، ثم قال: “في صباي كان يتم في قريتي تصنيع النبيذ من العنب، في البيوت، ولم أقترب منه”، بل يمضي إلى أبعد من ذلك، حتى يصل الأمر للشاي، والقهوة!
-٣-
كان المقالح يعيش حياته مثل راهب، يكتب، ويقرأ، ويطيل الصمت، ينام بوقت مبكّر، وينهض من النوم مبكّرا، ويعمل في مكتبه، وكان له ثلاثة مكاتب، عندما كان رئيسا لجامعة صنعاء، الأول في الجامعة الجديدة، والثاني في القديمة، والثالث في مركز الدراسات والبحوث اليمني بشارع بغداد، وكان الأخير الأحبّ إلى نفسه، لذا يبدأ يومه به، ويختمه به، ويقابل به من يودّ لقاءه، وحين يطلب منه أحد موعدا على الفور يقول له: مر بي صباح غد، وحين يسأله: أين أجدك؟ يصمت قليلا، ثم يجيبه، في مكتبي بالمركز، وكان لا يتردد برد طلب أحد أبدا.
وعن تواضعه، فلم أر مثله شبيها، سأروي لكم هذه الحكاية، كدليل على حجم تواضع هذا الكبير، قبل شهور اتصل بي، وبعد تبادل التحيات والسؤال عن الحال، والجديد، قال: بعثت لمجلة نزوى قصيدة جديدة، قلت له: حسنا، سأتاكد من وصولها، قال: لقد وصل النص للمجلة وجاءني إشعار منها باستلامه، قلت له: إذن سأتابع نشرها، فقال: ليس من أجل هذا اتصلت! بل لأطلب منك مراجعة النص، فإذا لم يعجبك اسحبه من المجلة، قلت له: ما هذا الكلام دكتور؟ اسمك يكفي، قال: شكرا لك، لكنني صدقا غير متأكد من مستواها الفني، اقرأها، واحكم بماشئت، قلت له: وهل أقوى على ذلك؟ ولكنه شدّد على الأمر، قلت له: سأقرأ النص للاستمتاع به، لا أكثر، وودعته، ثم ذهبت إلى مكتب الرحبي- رئيس تحرير مجلة نزوى- باحثا عن مدخل مناسب لأنقل له طلب المقالح، فلم أجد، وإذا به يسألني عن المقالح، قلت له: أمس كلمني وقبل أن أكمل قال: وصلتني منه قصيدة مدهشة، قلت له: عجيب، يبدو أنه متردد بنشرها، قال: لماذا؟ القصيدة أجمل نص قرأته له في السنوات الأخيرة!!!
ولم أكمل سرد القصة للرحبي!
وذات مرة كلفت أحد طلابي، وكنت أعمل في التدريس في تلك السنوات إلى جانب عملي في الصحافة الثقافية مراسلا لعدد من المطبوعات، بإجراء مقابلة مع المقالح، لنشرة مدرسية، وأعطيته عنوانه، وساعدته بوضع الأسئلة، وقلت ليجرب حظه، وبعد أيام قليلة، جاءني بنص الحوار، وفوجئت لأنه لم يخيِّب ظن تلميذ أجرى معه مقابلة لنشرة مدرسية! في وقت يترفّع به العديد من الشعراء ممن هم أقل منزلة من المقالح بسنوات
ضوئية على الصحافة!
-٤-
هذا هو المقالح، مدرسة في سلوكه، “الشاعر الكبير، والأكاديمي، والناقد الذي أخذ من الشخصية اليمنية بساطتها، وعمقها التاريخي، ومن الشخصية العربية كرمها، ورفعتها، ومن الشخصية المعاصرة حضارتها ومن شخصية الشاعر شفافيته وحساسيته”، كما أشرت في كتابي (راهب القصيدة)، وأشرت “رغم ابتسامته الرقيقة إلا أن المقرّبين إلى المقالح يعرفون جيدا أنه شخصية حزينة كثيرة التأمل، وربما يعود هذا الحزن الدفين في أعماقه إلى سنوات الطفولة، والظلم الاجتماعي الذي عاشه الشعب اليمني أيام حكم الإمام”. يقول المقالح في حوار أجريته معه: “صور المعاناة في حياتي بلا حدود، كل يوم من زمن الطفولة سواء في القرية أو المدينة يشكّل سلسلة من صور الحرمان الفاجع والخوف من المجهول، فالأشجان تبعثها الذكريات في هذه المرحلة بكل أبعادها المفجعة بالنسبة للفرد وبالنسبة لليمن كشعب”. وعن علاقته بالحزن يقول: “قد يداهمني وأنا ماش في الطريق، وقد يتسلل ليلا، قد يحاصرني وأنا أرى أطفالا يسيرون بالملابس الممزقة، ويضعون أقدامهم الحافية على الطريق في وقدة الشمس…. الحزن رفيق دائم وصديق حميم، ومهماز لا بد منه لكي نواصل الحياة بقدر من النقاء”.
له موقف صلب من شعر المديح ويعتبر شعراء المديح (شعراء الارتزاق).

-٥-
ورغم محبة الناس للمقالح كواحد من الشعراء الوطنيين الذين أحدثوا نقلة نوعية في الشعر اليمني الحديث، ونقلة حضارية في الأوساط الجامعية، إلا إنني فوجئت عندما رأيته يسير في (صنعاء) وسط حرس مدجج بالسلاح لحماية الشاعر من التكفيريين.
وفي مقال نُشر بجريدة (العرب اللندنية) في 26-2-2017 يورد الكاتب صالح البيضاني إحصائية للمرات التي جرى فيها تكفير المقالح من قبل الجماعات المتشددة، ويجملها بأربع مرات، الأولى كانت عام 1984 بسبب مقطع من قصيدة له هو “صار الله رمادا صما رعبا في كفّ الجلادين”، أما الثانية ففي عام 1988 حين صدر كتاب للشيخ عوض القرني (الحداثة في ميزان الإسلام) وفيه ورد تكفير صريح للمقالح، والثالثة بعد وضعه في الثمانينيات كتاب (قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة في اليمن)، والرابعة فكانت عام2004 م حين دعا في اختتام مؤتمر (حوار الحضارات) إلى “إشاعة ثقافة السلام ورفض ثقافتي العنف والتكفير”.
ومع ذلك كانت محبّة الناس حارسا له، فلقد أحبّه الجميع، وامتدت محبّته لعامّة الناس، ولذا لم أستغرب حين أشاهد كلما مررت بمكتبه في مركز الدراسات والبحوث اليمني مجموعة من الفقراء يقفون عند بابه ليلبي حاجتهم، فيخرج لهم ويسلّم عليهم، ثم يعطي مدير مكتبه محمد الشرفي حزمة من النقود يكون قد وضعها في مكتبه، ويطلب منه توزيعه عليهم!
-٦-
ورغم حالته الصحية.. إلا أنه ظل مستمرا على الدوام في مركز الدراسات والبحوث اليمني الذي يرأسه منذ سنوات، ولو لثلاثة أيام في الأسبوع، وحين سألته عما يفعل في المركز والبلد في ظروف حرب، نحن نعرفها أكثر من سوانا؟ أجاب: “أراسل المنظمات الإنسانية، وأناشد المثقفين العرب، والأجانب من أجل التحرك لإيجاد حلول، وأنقل صورة للمجتمع الدولي عما يجري في اليمن…”.
رغم أنه وصل إلى حالة اليأس فكتب: “أعلنت يأسي” بعد أن رأى أن الغربُ أغلق أبوابَهُ ، فابتهل إلى الله:
“يا إله السماوات
لم يبق يا سيدي مشرّعًا غير بابك
باب السماء
دعوني لحزني
وخوفي
فما عدتُ أذكر مَن كنتُ
مَن سأكون
فقد أفقدتني الحروبُ “أناي”
واسمي
سلبتني هوايَ وشعري
وذاكرتي
تركتني حطامًا بلا حلمٍ
وبلا ذاكرهْ”.
وتألمنا كثيرا ونحن نقرأ له:
“أنا هالكٌ حتمًا
فما الداعي إلى تأجيل
موتي
جسدي يشيخُ
ومثله لغتي وصوتي
ذهبَ الذين أحبهم
وفقدتُ أسئلتي
ووقتي”.
وقوله:
“دثّريني
وشدّي على كفني
واكتبي فوق قبري:
هنا واحد من ضحايا الحروب التي عافها
ثم قال لقادتها قبل أن يبدأوها:
الحروب إذا دخلت قرية أكلت أهلها الطيبين”
لكنه يظل يحلم بذلك الصباح الذي رسمه في ديوانه الأول (لا بد من صنعاء) الصادر عام 1971م:
“صنعاء وإن أغفت على أحزانها
حينا وطال بها التبلّد والخدر
سيثور في وجه الظلام صباحها
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
صنعاءبين سحر الواقع وجمال الأسطورة
(بقلم-د. عبدالعزيز المقالح )

كانت امرأة
هبطت في ثياب الندى
ثم صارت
مدينة
هكذا يصف شاعرنا الكبير مدينة روحه صنعاء.
وهو يكمل معنا رحلته في شوارعها، ومرابعها من خلال الكلمات التي يخترق بها حجب الذاكرة.
كان الوقت صيفاً عندما دخلتها لأول مرة طفلاً في السادسة، وعلى ظهر أحد الجمال التي تحمل ؛ بالإضافة إلى أفراد الأسرة أثاث المنزل القروي من فرش وسجاجيد محلية مصنوعة من صوف الماعز. لم يكن الطفل الذي كنته –يؤمئذ- يعي معنى الفصول، أو يدرك أسماءها، لكنه يتذكر الآن أن البطيخ بقشرته الخضراء، وجوفه الأحمر- والذي لم يسبق أن رآه، أو ذاقه في قريته- كان أول فاكهة قدمت للعائلة القادمة من الريف، وهي – في ذلك الحين- فاكهة صيفية قبل أن تنتشر وسائل المواصلات، وتستقبل العاصمة منتجات المحافظات ذات المناخات المختلفة.

الإشارة تستدعي القول إن صنعاء –رغم تمايز فصولها الأربعة – ذات مناخ معتدل جميل تقترب درجة حرارة الشمس في نهارها الشتوي من درجة حرارتها في الصيف، وربما تقل صيفاً بسبب الغيوم، والأمطار التي تهطل كثيراً في شهور يونيو، يوليو، أغسطس. ولن تبرح ذاكرتي عبارة بديعة قالها منذ عشرين عاماً الشاعر الإنجليزي "فيتزجيرالد برنس"- رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة صنعاء، والعبارة هي:(ما أجمل شتاء هذه المدينة، نهار مشمس دافئ، وإضاءة باهرة، وفضاء مغسول كأنه البللور البهي". وسيلاحظ الخبير المهتم بالتضاريس الجغرافية للمدينة أنها تقع في محيط هو الأعلى في كل الجزيرة العربية، كما أنها مبنية على هضبة ترتفع عن الوديان التي تحيط بها، وأن الزائر عندما يدخلها من أي الجهات يشعر أنه يعلو لاسيما حين يكون قادماً من جهة الجنوب، ولا يصل إليها إلاّ بعد أن يتسلق الجبال والآكام، ومتى دخلها يشعر أنه اقترب من السماء، وأن في إمكانه إذا ما صعد أحد الجبال المحيطة بها أن يلمس السماء بيده.

أبعاد الدهشة
وأزعم أن كل ما في القاموس العربي من مفردات، وما في الكتب من عبارات لا تستطيع أن ترسم أبعاد الدهشة التي تمتلكني عند رؤية صنعاء عن قرب وهي مغمورة بشمس الظهيرة، وما يتدفق على واجهات المنازل من كميات الضوء. لحظتها كانت المآذن المستقيمة البيضاء، ونوافذ البيوت المطلية بجص يشبه الفضة في أزهى حال من التوهج، واللمعان. وقد يكون الشعر في وقت متأخر استطاع أن يلتقط ما تبقى في الذاكرة من آثار تلك الدهشة. ومن (كتاب صنعاء) وهو قصيدة واحدة في مدح هذه المدينة المدهشة اختار هذه اللوحة:
هي عاصمة الروح
مغمورة بالضحى والتعاويذ
تومض أشجار ذاكرتي حين أدخلها
وأراها بأطمارها تتوهج عارية
تحت جمر الظهيرة
أذكرها...
كنت طفلاً بعينين ذاهلتين
رأيت مفاتنها
وبقايا "البرود"
وتابعت نبض خطاها
شربت الشذى،
واستحمت جفوني بماء الظلال
وشاهد قلبي ملائكة يرسمون على الأفق
أودية وقصوراً
وأروقة
كانت العين تسمع أصوات فرشاتهم
وترى الأذن كيف تصير السحابات
لوناً
وتغدو الحقيقة حلماً.


مدينة نائمة
لن أتكلم كثيراً عن صنعاء الحديثة، المدينة التي أكلت الحقول والضواحي المحيطة بها، والتي لا تزال تتمدد، وتترهل، بل سأكتفي بالكلام على صنعاء القديمة مدينتي الصغيرة النائمة خلف سورها الطيني العتيق، والمحمية بغيمان الجبل المطل عليها من الشرق، والذي اعتدى الأحباش على اسمه القديم واختاروا له اسماً آخر هو "نقم" وإذا كنا لا نمتلك من الشواهد ما يكفي لإثبات التسمية القديمة "غيمان" فإن الدليل التاريخي الوحيد أن الأحباش هم الذين أطلقوا عليه اسمه الحالي انتقاماً منه، فقد كانت كهوفه وتضاعيفه مأوى للمقاومة الوطنية التي أرهقت ذلك الاحتلال. وتحيط بصنعاء سلسلة من الجبال العالية والمنخفضة. لكن نقم أو غيمان يظل أبرزها وأهمها بوصفه الحارس التاريخي الذي يحتوي صنعاء من جهة الشرق، ويبدو في مكانه- بعد أن تجعدت ملامحه- كشيخ عجوز يحنو على أبنائه وأحفاده ويدفع عنهم غائلة كل الغزاة، وأطماع المعتدين.
بعد أيام من استقرار العائلة في منزل صنعاني لا تختلف مواصفاته عن بقية المنازل التي يقف إلى جوارها، أو بالأصح يتداخل عن بقية المنازل التي يقف إلى جوارها، أو بالأصح يتداخل معها في اصطفاف أو تلاصق فريد، بدأ شغف غامض يقودني يومياً إلى سطح هذا المنزل كلما جاء ضيوف إليه، أو انشغل أفراد العائلة بشئونهم الخاصة لأمارس دهشتي الطفولية، يشدني منظر المآذن، وسطوح بعض البيوت العالية، وتثيرني الجبال المحيطة بالمدينة من قرب، أو من بعد. لم يكن صعودي إلى السطح يرتبط بوقت معين، وإن كان وقت الظهيرة المشبع بالضوء هو الوقت الأكثر إثارة. لكن الصباحات لم تكن تقل إثارة، كما أن لوقت الغروب أيضاً إثارته الخاصة عندما يبدأ اللون البنفسجي يلف المدينة، وتبدأ السحب البيضاء تأوي إلى ما وراء الجبال.
كان ذلك هو شأني مع المدينة التي تشبعت سريعاً بصورها الجميلة، وترددت على مساجدها، وحماماتها، وبساتينها، والتحقتُ بإحدى مدارسها. وكان أخي -الذي يكبرني بعشر سنوات- سبقني إلى المدينة بوقت طويل –لذلك فقد كان هو دليلي العارف، والقادر على إيجاد مزيد من التشويق والإثارة الذكية.
لكن الأيام لا تستقر على حال إذْ سرعان ما تجهمت في وجه العائلة، فقد دخل والدي السجن لأسباب سياسية وساءت أوضاعنا النفسية، والاقتصادية إلى درجة يصعب وصفها. وبعد أعوام قليلة ساءت أوضاع المدينة أيضاً بعد أن تعرضت للنهب وظلت كثير من دورها أعواماً بلا نوافذ، وذبلت الدهشة في العينين القرويتين اللتين صقلتهما الينابيع القروية، وأصبحت مع زملائي من أبناء الحارة ننظر إلى الأرض المغطاة بالتراب، والحصى أكثر مما ننظر إلى الأرض السماء، أو إلى واجهات البيوت التي أصبحت باهتة، ومألوفة.

البساطة وعمق الجبال
وفي زمن لاحق، حين اكتمل الوعي بجمال المكان، وبهاء العمارة، وأخذ الشعر يقود الشعور للإحساس ببساطة صنعاء، وعمق جمالها، اختزنت الذاكرة، والبصر ما تزخر به المدينة من شواخص ثرية، فهنا حفرة (القليس) التي يقال إنها بقايا الكنيسة التي بناها أبرهة، وهنا مسجد (أروى) الذي يعود تاريخه إلى العام السادس الهجري الموافق 627م، وهناك الحمامات التي تسمى بالتركية، وهي عربية الأصل ولا تزال مستخدمة. فيها أيام خاصة للرجال، وأخرى للنساء، وكلما ضاقت أزقة صنعاء القديمة انبثقت ساحة واسعة مخططة بحساب لتخدم البيوت المحيطة بها، بينما يطل عليك من وراء كل مجموعة من الأزقة بستان صغير يسمى بـ"المقشامة" يسقى من مياه المسجد، ويستفيد من زرعه الجميع. ولعل سحر الإضاءة في البيت الصنعاني يتجلى بشكل معاكس، ففي النهار يستمع الجالس داخل البيت بضوء ملون تنثه النوافذ المصممة بشكل هلالي وبقطع متعددة الألوان من الزجاج، أما في الليل فيكون الضوء الساحر الملون تحت نظر المارة الذين يرون النوافذ من الخارج. ومن العجيب أن النوافذ المخرمة، أو المشربيات (التي تستعمل بعضها كثلاجات طبيعية لتبريد المياه) تستدق وتصغر حتى يكون بعضها من "الشاقوص" (نافذة بحجم الكف لتنقية الهواء).
حين أنظر –الآن- إلى الوراء في محاولة لاسترجاع علاقتي بصنعاء تتراءى لي هذه المدينة من خلال ثلاث حالات من الدهشة، الحالة الأولى هي تلك التي ارتبطت باللقاء الأول، والتي تم الحديث عنها في القسم الأول من هذه المقالة، أما الحالة الثانية فكانت عند عودتي إليها في أواخر الخمسينيات بعد غياب دام سبعة أعوام، والحالة الثالثة والأخيرة كانت عند عودتي إليها في أواخر الخمسينيات بعد غياب دام سبعة أعوام، والحالة الثالثة والأخيرة كانت عند رجوعي من مصر بعد أن أمضيت في القاهرة ما يقرب من اثني عشر عاماً. وفي حالة الدهشة الثانية هذه أذكر أنني رجعت إليها ذات مساء، كانت نائمة تحت عباءة الليل وحال سورها الطيني بيني وبينها إلى ما بعد مطلع الفجر وانفتاح الأبواب التي كان قانون الخوف على المدينة وأهلها يقضي بإغلاقها من قبل الغروب وإلى ما قبل الشروق، وفي هذه العودة انتعشت ذكريات الطفولة مجدداً وخرجت من مخابئ الذاكرة، ولما كنت بدأت كتابة الشعر، فقد زادت علاقتي بالطبيعة وبالمدينة إعجاباً وحميمية، فاخترت رابية تقع في الجهة الشرقية من المدينة تسمى (ظهر حمير) لكي استوعب من هناك منظر المدينة، وما تحشده من جماليات المكان بأقسامه الثلاثة كما كان حتى منتصف الستينات: القسم الأول وحيّزه المكاني صنعاء القديمة، بحاراتها، ومساجدها، وبساتينها، وأسواقها. والقسم الثاني ويضم باب السبح، وبئر العزب بحدائقه الواسعة، وقصوره القليلة.
والقسم الثالث وشمل منطقة "القاع" الذي كان يتألف من الأحياء الخاصة باليهود قبل أن يرحلوا عن البلاد ويبيعوا منازلهم وممتلكاتهم كاملة. كنت استطيع –من فوق تلك الرابية- أن أحدد أماكن الأبواب السبعة للمدينة، وهي: باب شعوب في الجزء الشمالي، يقابله باب اليمن في الجزء الجنوبي، ثم باب الشقاديف في وسط المدينة شمالاً، يقابله باب السبح جنوباً، وباب الروم في الجزء الشمالي عند نهاية المدينة غرباً، يقابله باب البلقة جنوباً. ثم باب "القاع" المفتوح على الجهة الغربية. وهناك باب آخر اسمه باب "استران" ومعناه الباب المستور، ويحسبه البعض من أبواب المدينة، في حين أنه ليس كذلك، ويقع في شرق المدينة، ويتبع قلعة غمدان، التي أصبحت في العهد العثماني قصراً للسلاح. وهذا الباب مغلق، وخاص بالقلعة، ولا يعد من أبواب المدينة، ولم يفتح في تاريخ اليمن الحديث سوى مرة واحدة عندما اتخذ الإمام الشهيد عبدالله الوزير القلعة مقراً لحكمه الذي لم يدم سوى ثلاثة أسابيع.
ترهّل المدينة
الحالة الثالثة وهي خليط من الدهشة والحسرة، وتعود إلى أواخر السبعينيات عندما رجعت من القاهرة بعد غياب دام اثني عشر عاماً. كانت المدينة بدأت في الترهّل إن لم تكن ترهلت فعلاً، ولأني اخترت الإقامة في حي "جديد" فقد صدمني كل شيء فيه، وحزنت أشد الحزن لانتشار بيوت الأسمنت، وما تتركه من ملامح المدينة الهجين. لقد تبددت الصورة المرسومة في الذاكرة لصنعاء، وتكسرت أمام عيني، ولم يبق في هذه الأحياء الجديدة سوى شوارع مكتظة بالناس، وهذه الشوارع في الوقت نفسه أسواق نافرة، ومنفردة يجتمع فيها بائع الذهب، والمجوهرات ببائع الفحم والأحذية، وبائع العطور ببائع اللحم والسمك، أين هذا التنافر البغيض من صنعاء الذاكرة حيث الأسواق المستقلة البعيدة عن الأحياء السكنية؛ وحيث يوجد سوق خاص لكل سلعة، فهناك سوق للزبيب، وسوق للفضة، وسوق للقماش، وآخر للعطارة، وأسواق للحدادة، والنجارة والصناعات الحرفية..الخ.
إحساس فظيع بالتشويه الذي لحق بالمدينة، بيوت الأسمنت الباهتة بدلاً عن البيوت التي تتعانق فيها الأحجار بالآجر. والبناء العشوائي يزخف تماماً على الحدائق والبساتين بعد أن التهم كل الأراضي الزراعية، التي كانت تحيط بالمدينة، وتم القضاء نهائياً على الينابيع المائية التي كانت تسقي جزءً من المدينة، وتخترقها متجهة إلى الضواحي الشمالية الغنية بالأشجار، وأشجار الورد على وجه الخصوص، لكن القوة المدمرة لم تكن اقتربت من المدينة القديمة، من صنعائي الصغيرة. وعندما ذهبتُ لزيارة منزلنا القديم وجدت الأحياء لم تتغير، والأسواق كذلك، وحتى الناس لا يزالون يعيشون في سكينة، وهدوء يحبّون بعضهم، ويتعاطفون في السراء، والضراء، وهذا ما جعلني دائم الحنين إلى السير فيها، والتنقل في أحيائها، وكأنني أكتشفها لأول مرة، وحينما كنت أسير ليلاً في شوارعها وأزقتها الضيقة أتجول بهدوء، وطمأنينة وأحس بالتذاذٍ نفسي أكاد معه أسمع صدى أقدام ذلك الطفل الذي كنته وأحياناً أشعر بأسى عميق لأنني –لأسباب خارجة عن إرادتي الشخصية- لا أستطيع السكنى في منزلنا القديم على الرغم من أن والدتي لم تغادره حتى كتابة هذه الكلمات، ولا تزال متشبثة به كحلم تخشى لو فارقته أن يتبدد أو يضيع منها كما تضيع سنوات العمر.

مدينة في وجه الزمن
والآن- السؤال موجه إلى القارئ- هل تستطيع أن ترجع معي بذاكرتك إلى الوراء قرونا، وأن تغمض عينيك، وتغوص عميقاً في التاريخ غير المكتوب لهذه المدينة الفريدة في تكوينها المكاني، والمعماري، والتي أثبتت أنها لا تشيخ أبداً، وذلك لتلتقط ما تبقى من بريقها ونظامها المتفرد؟ لقد تقادم الدهر بصنعاء القديمة لكنها لا تزال تقف في وجه الزمن حتى اليوم بمعمارها وجمالها الطبيعي تتحدى صنعاء الجديدة، وتزهو بمنازلها، التي كلما تصدعت أحجارها، وبهت لون آجرها، أو اختفى زادت جمالاً ونقاء، وزاد عدد عشاقها العريق، والحالمين بفنادقها التقليدية المسماة بالسماسر (جمع سمسرة) ليذوقوا لحظات الراحة في مدينة لا يتسلل إليها الخوف، وليس فيها مخابئ، ولا حوارٍ سرية كبعض المدن القديمة، فهي واضحة شفافة ما يكاد يختفي قنديل النهار (الشمس) حتى تضيء قناديلها الليلية الصغيرة التي تطل من وراء العقود الزجاجية الملونة فتبعث الراحة والأمن إلى نفوس المارة، وهواة النزهة المسائية في شوارع لا تعرف الانكماش، أو التمدد بفعل البرودة والحرارة.
على درج الضوء
أدركت أني
بصنعاء،
أن النجوم
إذا ما أتى الليلُ
ترقص في غرفِ
النوم
وحين توارب النساء النوافذ الخشبية صباحاً، تدخل الريح بنعومة عبر شقوق هذه النوافذ يسمع الناس صدىً لأغنيات كأنها قادمة من الماضي البعيد، ويصغون إلى موسيقى مترعة بالشجن العميق، وبقايا حكايات ترجع في أصولها إلى أقدم الأزمان. ومن المؤكد أنه ليس للجمال شكل ثابت متفق عليه، ولا هيئة خاصة، وإنما لكل إنسان ذوقه الخاص بتحديد أبعاد الجمال. هكذا يقولون، لكن الجمال الذي تتمتع به هذه المدينة يؤكد أن هناك قاسماً مشتركاً تلتقي عنده نواميس الحواس الحقيقية، ومنذ ربع قرن ,وأنا أرافق زوّارًا يأتون من الشرق والغرب، من العرب، والعجم، وفيهم شعراء وعلماء، وما من واحد منهم إلاّ وقد وضعته صنعاء في حال من الدهشة،والشعور بمعنى الجمال الأصيل الذي تتفق عنده كل الأذواق على اختلاف أمزجتها، لا أقول ذلك من باب التحيز لمدينتي الصغيرة، وإنما أنقل ما سمعته تماماً. وإذا كان لكل جمال أسراره الخاصة، فإن البساطة هي سر الأسرار في جمال هذه المدينة البديعة التي تجمع بين سحر الواقع وجمال الأسطورة.
يا لصنعاءً...
سيدة لا تبيح السفورْ
وترفض أن تقرأ الشمُس
أن يقرأ الليلُ أوراقها
أو يلامس سر الطلاسم في اللوحة
الغامضةْ.