ملوك العرب
الامام يحيى حميد الدين
( 4 )
قلت: ولو دفع لك الإمام مشاهرة مثل الإنكليز أتتركهم وتواليه؟
فأجاب على الفور: لا والله، أنا متعاهد والإنكليز فلا أخلف، وسأبقى صديقهم دائمًا. إي والله، الإنكليز يا أمين يعقلون، عندهم حكمة كما عندهم مال. نعم، هم غير مسلمين، والمسلمون إخوان. ولكن القلب يعرف الأخ يا أمين، والسياسة لا تعرف غير الضرورة.
إن الحواشب مثل الشوافع في اليمن وعسير يكرهون الإمام، لا لأنه عدوهم في الحرب فقط، أيْ في ضرورات السياسة؛ بل لأنه خصمهم كذلك في المذهب؛ هو زيدي شيعي، وهم سُنيون.
ودَّعْنا السلطانَ تلك الليلة، شاكِرين له حُسْن الحفاوة والضيافة، وأعلمناه أننا سننهض باكرًا للرحيل، فلا نكلِّفه مَشقَّةَ القيام مثلنا ليودِّعنا ثانية. وفهمنا منه أنه قبل بذلك، إلا أننا في صباح اليوم التالي بينا كان المكارون والخدم يحمِّلون، دُهِشْنا بل ذُعِرنا لحادث فيه منتهى الغرابة؛ كنا مقيمين في جناح من القصر قبالة الجناح الذي يسكنه الحريم، وبيننا الحوش الذي كانت فيه الركائب والخدم، فسمعنا بغتةً أن إناءً من الفخار تكسَّر فيه، فظننا أنه وقع من السطح، ولكنَّ إناءً آخَر تبعه — رأيناه يُرمى من النافذة ولم نَرَ الرامي — فأصاب أحد العساكر فرفع صوته شاكيًا. ثم جفنة، ثم قطعة أخرى من الفخار تحطَّمت بين أقدام البغال، فعَلَتِ الضجَّةُ في الحوش، وسمعنا رجالًا يصيحون: هم يطردوننا، عجِّلوا يا ناس، هذه ضيافة ابن مانع، عجِّلوا بالرحيل.
خرجت وقسطنطين مسرِعَيْن، فركبنا وسِرنا نتقدَّم الحملة. نزلنا من الجبل إلى السهل فالنهر، وقلبنا — أقول وقلبي ولا أتهم رفيقي — يختلج حنقًا ورعبًا. ظننا أننا بعدنا عن الخطر وعن ضيافة صاحب السمو الحوشبي عندما وصلنا إلى النهر، ولكننا قبل أن اجتزناه سمعنا أصواتًا تنادي: قفوا، قفوا. فلم نقف، فأطلقوا إذ ذاك البنادق طلقاتٍ متعددة، فقلت لرفيقي: هو ذا الخطر الذي نتوقَّعه. دنَتِ الساعة يا قسطنطين، قِفْ وأشهِرْ سلاحك.
بعد قليل قرب القوم منَّا، فإذا هم خدم السلطان يحملون على رءوسهم الأطباق، ومعهم بضعة عساكر، جاءوا بالفطور! إيْ بالله. كيف نسافر قبل أن نفطر؟ وكيف نسافر قبل أن نودِّع السلطان الذي نهض باكرًا للوداع؟
سألناهم عن الفخَّار الذي رمونا به، فأخبرونا أن السلطانة، وهي في خِدْرها رأتنا من على السطح في أُهْبة الرحيل، فنهضت كذلك باكرًا من أجلنا، فأرادت تنبيهَ الخدم النائمين في الطابق الأسفل، ولم تشأ أن تُسمِعنا صوتها، أو ترينا من النافذة وجهَها، فرمتهم بالفخَّار تستفيقهم لينهضوا، ويهيئوا لنا الطعام. الضيوف، انهضوا للضيوف، والحقوهم بالفطور، وأطلقوا الرصاص إذا كانوا لا يقفون.
أكثر الله أيتها السلطانة من فخَّارك، وجعلَنا ألسنةَ فَخَارِك. إنك في الضيافة شاعرةُ الأقران، وفي البلاد العربية فريدةُ الزمان. وكيف لا وأنتِ السيف في إكرام الضيف. تضربين من أجلنا الكسل، وتلحقيننا بالعسل.
تروِّعين أيتها الحوشبية الألمعية ولا تجوعين. قد كنتِ حديثنا وموضوع إعجابنا حتى في بلاد الزيود، التي تُنسي المرءَ الحبيبَ والمعبود. وقد تُنسِي الغريبةُ الجديدة غرائبَ عديدة، كما حدثت في ماوية أول بلد من بلدان الزيود١٢ شمالي عدن.
دخلناها في أصيل ذاك النهار وهي مثل المسيمير مختبئة في الجبل وراء الوادي الذي اجتزناه، فشنف آذانَنا لما كنَّا مصعدين إليها صوتٌ كان وقعه جميلًا في ذاك الوادي الموحش، وفي تلك الساعة. فاستأنسنا به أيما استئناس. كأننا عند حدود الإمام عدنا إلى المدينة والنظام. ولما بلغنا رأس العقبة رأينا على سطح من السطوح صاحب ذاك الصوت، وهو جندي بيده البرزان (البوق) ينفخ فيه مرحِّبًا بنا باسم أمير الجيش.
وكانت فاتحة الألطاف. فلما دنونا من القصر سمعنا الموسيقى العسكرية تعزف نشيد اليمن الوطني، ورأينا فرقةً من الجنود النظامية مصطفَّة خارج السور لاستقبالنا، وعلى رأسها ضابط تركي؛ فترجَّلنا نرد السلام، ودخلنا البوابة إلى الحوش بين صفوف من العساكر المسترسلي الشعور، اللابسين القمصان والعمائم المصبوغة بالنيل، المسلَّحين بالبنادق والجنبيات، وعندما وصلنا إلى الباب يتقدَّمنا كاتب سر الأمير، واثنان من رجاله، أوقفنا الحارس هناك، ونادى بكلمةٍ حارسًا آخر داخل القصر، فجاء الجواب مؤذنًا بالدخول.
دخلنا وكانت بداءة الرعب والكرب، صعدنا في دَرَج لولبي مظلم، ذكَّرتني درجاته بدرجات الهرم الكبير، كل واحدة منها دكة، وعلى كل دكة واحد أو اثنان من ذوي الشعور الطويلة، والثياب المنيلة، التي تفوح منها رائحة النيل الطري السائل كذلك في أجسامهم.١٣ كنت وأنا أتلمس طريقًا أتمثل القلعة بل السجن في ذاك القصر، وأتصور نفسي أسيرًا فيه، فجاء الاضطراب مع التقزز يفسد علينا بهجة الاستقبال العسكري، وما هي إلا فاتحة الكروب، فعندما وصلنا إلى الطابق الأخير أوقفنا الحرس ثانيةً أمام باب صغير، ثم دخلنا فإذا نحن في غرفة صغيرة نوافذها مقفلة إلا واحدة منها، وهواؤها — وقد امتزج بالدخان — كثيف
الامام يحيى حميد الدين
( 4 )
قلت: ولو دفع لك الإمام مشاهرة مثل الإنكليز أتتركهم وتواليه؟
فأجاب على الفور: لا والله، أنا متعاهد والإنكليز فلا أخلف، وسأبقى صديقهم دائمًا. إي والله، الإنكليز يا أمين يعقلون، عندهم حكمة كما عندهم مال. نعم، هم غير مسلمين، والمسلمون إخوان. ولكن القلب يعرف الأخ يا أمين، والسياسة لا تعرف غير الضرورة.
إن الحواشب مثل الشوافع في اليمن وعسير يكرهون الإمام، لا لأنه عدوهم في الحرب فقط، أيْ في ضرورات السياسة؛ بل لأنه خصمهم كذلك في المذهب؛ هو زيدي شيعي، وهم سُنيون.
ودَّعْنا السلطانَ تلك الليلة، شاكِرين له حُسْن الحفاوة والضيافة، وأعلمناه أننا سننهض باكرًا للرحيل، فلا نكلِّفه مَشقَّةَ القيام مثلنا ليودِّعنا ثانية. وفهمنا منه أنه قبل بذلك، إلا أننا في صباح اليوم التالي بينا كان المكارون والخدم يحمِّلون، دُهِشْنا بل ذُعِرنا لحادث فيه منتهى الغرابة؛ كنا مقيمين في جناح من القصر قبالة الجناح الذي يسكنه الحريم، وبيننا الحوش الذي كانت فيه الركائب والخدم، فسمعنا بغتةً أن إناءً من الفخار تكسَّر فيه، فظننا أنه وقع من السطح، ولكنَّ إناءً آخَر تبعه — رأيناه يُرمى من النافذة ولم نَرَ الرامي — فأصاب أحد العساكر فرفع صوته شاكيًا. ثم جفنة، ثم قطعة أخرى من الفخار تحطَّمت بين أقدام البغال، فعَلَتِ الضجَّةُ في الحوش، وسمعنا رجالًا يصيحون: هم يطردوننا، عجِّلوا يا ناس، هذه ضيافة ابن مانع، عجِّلوا بالرحيل.
خرجت وقسطنطين مسرِعَيْن، فركبنا وسِرنا نتقدَّم الحملة. نزلنا من الجبل إلى السهل فالنهر، وقلبنا — أقول وقلبي ولا أتهم رفيقي — يختلج حنقًا ورعبًا. ظننا أننا بعدنا عن الخطر وعن ضيافة صاحب السمو الحوشبي عندما وصلنا إلى النهر، ولكننا قبل أن اجتزناه سمعنا أصواتًا تنادي: قفوا، قفوا. فلم نقف، فأطلقوا إذ ذاك البنادق طلقاتٍ متعددة، فقلت لرفيقي: هو ذا الخطر الذي نتوقَّعه. دنَتِ الساعة يا قسطنطين، قِفْ وأشهِرْ سلاحك.
بعد قليل قرب القوم منَّا، فإذا هم خدم السلطان يحملون على رءوسهم الأطباق، ومعهم بضعة عساكر، جاءوا بالفطور! إيْ بالله. كيف نسافر قبل أن نفطر؟ وكيف نسافر قبل أن نودِّع السلطان الذي نهض باكرًا للوداع؟
سألناهم عن الفخَّار الذي رمونا به، فأخبرونا أن السلطانة، وهي في خِدْرها رأتنا من على السطح في أُهْبة الرحيل، فنهضت كذلك باكرًا من أجلنا، فأرادت تنبيهَ الخدم النائمين في الطابق الأسفل، ولم تشأ أن تُسمِعنا صوتها، أو ترينا من النافذة وجهَها، فرمتهم بالفخَّار تستفيقهم لينهضوا، ويهيئوا لنا الطعام. الضيوف، انهضوا للضيوف، والحقوهم بالفطور، وأطلقوا الرصاص إذا كانوا لا يقفون.
أكثر الله أيتها السلطانة من فخَّارك، وجعلَنا ألسنةَ فَخَارِك. إنك في الضيافة شاعرةُ الأقران، وفي البلاد العربية فريدةُ الزمان. وكيف لا وأنتِ السيف في إكرام الضيف. تضربين من أجلنا الكسل، وتلحقيننا بالعسل.
تروِّعين أيتها الحوشبية الألمعية ولا تجوعين. قد كنتِ حديثنا وموضوع إعجابنا حتى في بلاد الزيود، التي تُنسي المرءَ الحبيبَ والمعبود. وقد تُنسِي الغريبةُ الجديدة غرائبَ عديدة، كما حدثت في ماوية أول بلد من بلدان الزيود١٢ شمالي عدن.
دخلناها في أصيل ذاك النهار وهي مثل المسيمير مختبئة في الجبل وراء الوادي الذي اجتزناه، فشنف آذانَنا لما كنَّا مصعدين إليها صوتٌ كان وقعه جميلًا في ذاك الوادي الموحش، وفي تلك الساعة. فاستأنسنا به أيما استئناس. كأننا عند حدود الإمام عدنا إلى المدينة والنظام. ولما بلغنا رأس العقبة رأينا على سطح من السطوح صاحب ذاك الصوت، وهو جندي بيده البرزان (البوق) ينفخ فيه مرحِّبًا بنا باسم أمير الجيش.
وكانت فاتحة الألطاف. فلما دنونا من القصر سمعنا الموسيقى العسكرية تعزف نشيد اليمن الوطني، ورأينا فرقةً من الجنود النظامية مصطفَّة خارج السور لاستقبالنا، وعلى رأسها ضابط تركي؛ فترجَّلنا نرد السلام، ودخلنا البوابة إلى الحوش بين صفوف من العساكر المسترسلي الشعور، اللابسين القمصان والعمائم المصبوغة بالنيل، المسلَّحين بالبنادق والجنبيات، وعندما وصلنا إلى الباب يتقدَّمنا كاتب سر الأمير، واثنان من رجاله، أوقفنا الحارس هناك، ونادى بكلمةٍ حارسًا آخر داخل القصر، فجاء الجواب مؤذنًا بالدخول.
دخلنا وكانت بداءة الرعب والكرب، صعدنا في دَرَج لولبي مظلم، ذكَّرتني درجاته بدرجات الهرم الكبير، كل واحدة منها دكة، وعلى كل دكة واحد أو اثنان من ذوي الشعور الطويلة، والثياب المنيلة، التي تفوح منها رائحة النيل الطري السائل كذلك في أجسامهم.١٣ كنت وأنا أتلمس طريقًا أتمثل القلعة بل السجن في ذاك القصر، وأتصور نفسي أسيرًا فيه، فجاء الاضطراب مع التقزز يفسد علينا بهجة الاستقبال العسكري، وما هي إلا فاتحة الكروب، فعندما وصلنا إلى الطابق الأخير أوقفنا الحرس ثانيةً أمام باب صغير، ثم دخلنا فإذا نحن في غرفة صغيرة نوافذها مقفلة إلا واحدة منها، وهواؤها — وقد امتزج بالدخان — كثيف
فاسد، وأرضها مفروشة بالقشِّ والحشيش، وإلى جانب الأربعة الحيطان عمائم بيضاء كبيرة، أصحابها جالسون على الأرض صفوفًا ملزوزة، وكلهم في تلك الساعة يمضغون القات بل يخزنون،١٤ وفي الزاوية عند منضدة صغيرة، إلى جنبها مداعة، بين أكمة من الأوراق ورزمة من القات، رجل صغير المنكب والعمامة، حاد النظر واللسان، ناصع الجبين والبيان، قدَّمَنا إليه كاتبُ الأسرار، فعرفنا أنه السيد الأمجد علي بن الوزير أمير جيش الإمام في لواء تعز.