بحيث هم من بلاد البربر، وفي ذلك يقول:
بربرت كنعان لما ساقها
من بلادِ المُلك للعيشِ اللجب([3])
أما "ابن عبد الحكم"؛ فيقول: "وكان البربر بفلسطين(*)، وكان ملكهم جالوت، فلّما قتله داود عليه السلام، خرج البربر متوجِّهين إلى المغرب، حتى انتهوا إلى لوبية، ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، مما يشرب من ماء السماء، ولا ينالهما النيل. فتفرَّقوا هنالك، فتقدَّمت زناتة، ومغلية إلى المغرب، وسكنوا الجبال، وتقدَّمت لواتة، فسكنت أرض انطابلس وهي برقة، وتفرقت في هذا المغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس.ونزلت هوارة مدينة لبدة. ونزلت نفوسة إلى مدينة سبرة. وجلا من كان بها من الروم من أجل ذلك([4]).
قال "الذهبي"، البربر، وبربر من وَلد قيذار بن إسماعيل؛"إِنَّ دَار البَرْبَر كَانَتْ فِلَسْطِيْن، وَمَلِكُهم هُوَ جَالُوت، فَلَمَّا قتله نَبِيُّ الله دَاوُد؛جلتِ البَرْبَرُ إِلَى المَغْرِب، وَانتشرُوا إِلَى السوس الأَقْصَى، فَطُول أَرَاضيهم نَحْوٌ مِنْ أَلف فَرسخ" ([5]).
وقال أيضا: "فَأَوّل مَنْ كَانَ فِيهِم الملك مِنَ البَرْبَر صِنْهَاجَةُ، ثُمَّ كُتَامَة، ثُمَّ لَمْتُونَة، ثُمَّ مصْمودَة، ثُمَّ زنَاتَة. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ دُرَيْد أَنَّ كُتَامَة، وَلَمْتُونَة، وَهَوَّارَة مِنْ حِمِيْر، وَمَنْ سِوَاهُم، فَمِنَ البَرْبَر، وَبربر مِنْ وَلد قيذَار بن إِسْمَاعِيْلَ"([6]).
يقول صاحب كتاب "تاج العروس من جواهر القاموس": "بَرْبرٌ: جِيلٌ من الناس لا تكادُ قبائلُه تَنْحَصِرُ، كما قالَه ابنُ خَلْدُون في التّاريخ، وفي الرَّوْض للسُّهَيْلِيّ: إنّهم، والحَبَشَةَ مِن وَلَدِ حامٍ، وفي المِصْباح إنّه مُعَرَّبٌ، وقيل: إنّهم بَقِيَّةٌ من نَسْلِ يُوشَعَ بنِ نُونٍ، مِن العَمَاليقِ الحِمْيَرِيَّةِ، وهم رَهْطُ السَّمَيْدَعِ، وإنه سَمِعَ لَفْظَهم، فقال: ما أكثَرَ بَرْبَرَتَكم، فسُمُّوا البَرْبَر،َ وقيل غيرُ ذلك . البَرابِرَةُ زادُوا الهاءَ فيه إما للعُجْمَةِ، وإمّا للنَّسَبِ وهو الصحيحُ . قال "الجوهَرِيُّ": وإن شئتَ حَذَفْتَها، وهم أي أكثرُ قبائلِهم بالمَغْرِبِ في الجِبال مِن سُوسَ، وغيرِهَا، متفرِّقَةٌ في أطرافِها، وهم زَنَانَةُ، وهَوّارة، وصِنْهَاجَةَ، ونبزةُ، وكُتَامةُ، ولَوِاتهَ، ومديونة، وشباته، وكانوا كلهم بفِلَسْطِينَ مع جالُوتَ، فلما قُتِلَ تَفَرَّقُوا ،كذا الدُّرَرِ الكَامِنَة للحافظِ ابنِ حَجَر([7]).
نجد رواية أخرى عند "أحمد بن أبي يعقوب بن واضح"، في تاريخه المشهور بتاريخ اليعقوبي، غير هذه تقول: "وكانت البربر، والأفارقة، وهم أولاد فارق بن بيصر بن حام بن نوح، لما ملك إخوتهم بأرض مصر، فأخذوا من العريش إلى أسوان طولاً، ومن أيلة إلى برقة عرضاً، خرجوا نحو المغرب، فلما جاوزوا أرض برقة أخذوا البلاد، فغلب كل قوم منهم على البلد، حتى انتشروا بأرض المغرب. فأوَّل من مَلك منهم لواتة في أرض، يُقال لها أجدابية من جبال برقة، وملكت مزاته في أرض، يُقال لها ودان، فنسب هؤلاء القوم إلى أبيهم، وجاز قوم منهم إلى بلد، يُقال له تورغة، فملكوا هناك، وهم هواره، وآخرون إلى بلاد أرميك، وهم بذرعه. وسار قوم إلى طرابلس، يُقال لهم المصالين، وجاز قوم إلى غربي طرابلس، يُقال لهم وهيلة([8]).
قال "ابن خلكان"، في مَعرض ذِكر أصل الملثمين [الطوارق]: "أصل هؤلاء القوم من حمير بن سبأ، وهم أصحاب خيل، وإبل، وشاء، ويسكنون الصحارىالجنوبية، وينتَقِلون من ماء إلى ماء كالعرب، وبيوتهم من الشعر، والوبر([9]).
أما "القلقشندى"، فقد لخَّص الآراء في نَسب البربر، قائلاً: "والبربر فيهم خلاف يرجع إلى أنهم، هل هم من العرب، أو من غيرهم؟ وقد اختلف في نسبهم اختلافاً كثيراً، فذهبت طائفة من النسّابين إلى أنهم من العرب، ثم اختُلف في ذلك، فقيل: أوزاع من اليمن، وقيل: من غسان، وغيرهم تفرَّقوا عند سيل العَرم، قاله المسعودي. وقيل: خلَّفهم أبرهة ذو المنار، أحد تَبايِعة اليمن حين غزا العرب. وقيل: من ولد لقمان بن حِمْير بن سبأ، بعث سريّة من بنيه إلى المغرب ليعمروه فنزلوا وتناسلوا فيه. وقيل: من لخم، وجُذام كانوا نازلين بفلسطين من الشام، إلى أن أخرجهم منها بعض ملوك فارس، فلجأوا إلى مصر، فمنعهم ملوكها من نزولها، فذهبوا إلى الغرب، فنزلوه. وذهب قوم إلى أنهم من ولد يقشان بن إبراهيم عليه السلام. وذكر الحمداني أنهم من ولد بر بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأنه كان قد ارتكب معصية فطرده أبوه، وقال له: البر، البرّ، اذهب يا بَر، فما أنت بَر.
وقيل: هم من ولد بربر بن كسلوحيم بن حام. وقيل: من ولد تميلة بن مأرب بن قاران بن عمرو بن عمليق بن لاوذ ابن إرم بن سام بن نوح. وقيل: من ولد قبط بن حام بن نوح.
بربرت كنعان لما ساقها
من بلادِ المُلك للعيشِ اللجب([3])
أما "ابن عبد الحكم"؛ فيقول: "وكان البربر بفلسطين(*)، وكان ملكهم جالوت، فلّما قتله داود عليه السلام، خرج البربر متوجِّهين إلى المغرب، حتى انتهوا إلى لوبية، ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، مما يشرب من ماء السماء، ولا ينالهما النيل. فتفرَّقوا هنالك، فتقدَّمت زناتة، ومغلية إلى المغرب، وسكنوا الجبال، وتقدَّمت لواتة، فسكنت أرض انطابلس وهي برقة، وتفرقت في هذا المغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس.ونزلت هوارة مدينة لبدة. ونزلت نفوسة إلى مدينة سبرة. وجلا من كان بها من الروم من أجل ذلك([4]).
قال "الذهبي"، البربر، وبربر من وَلد قيذار بن إسماعيل؛"إِنَّ دَار البَرْبَر كَانَتْ فِلَسْطِيْن، وَمَلِكُهم هُوَ جَالُوت، فَلَمَّا قتله نَبِيُّ الله دَاوُد؛جلتِ البَرْبَرُ إِلَى المَغْرِب، وَانتشرُوا إِلَى السوس الأَقْصَى، فَطُول أَرَاضيهم نَحْوٌ مِنْ أَلف فَرسخ" ([5]).
وقال أيضا: "فَأَوّل مَنْ كَانَ فِيهِم الملك مِنَ البَرْبَر صِنْهَاجَةُ، ثُمَّ كُتَامَة، ثُمَّ لَمْتُونَة، ثُمَّ مصْمودَة، ثُمَّ زنَاتَة. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ دُرَيْد أَنَّ كُتَامَة، وَلَمْتُونَة، وَهَوَّارَة مِنْ حِمِيْر، وَمَنْ سِوَاهُم، فَمِنَ البَرْبَر، وَبربر مِنْ وَلد قيذَار بن إِسْمَاعِيْلَ"([6]).
يقول صاحب كتاب "تاج العروس من جواهر القاموس": "بَرْبرٌ: جِيلٌ من الناس لا تكادُ قبائلُه تَنْحَصِرُ، كما قالَه ابنُ خَلْدُون في التّاريخ، وفي الرَّوْض للسُّهَيْلِيّ: إنّهم، والحَبَشَةَ مِن وَلَدِ حامٍ، وفي المِصْباح إنّه مُعَرَّبٌ، وقيل: إنّهم بَقِيَّةٌ من نَسْلِ يُوشَعَ بنِ نُونٍ، مِن العَمَاليقِ الحِمْيَرِيَّةِ، وهم رَهْطُ السَّمَيْدَعِ، وإنه سَمِعَ لَفْظَهم، فقال: ما أكثَرَ بَرْبَرَتَكم، فسُمُّوا البَرْبَر،َ وقيل غيرُ ذلك . البَرابِرَةُ زادُوا الهاءَ فيه إما للعُجْمَةِ، وإمّا للنَّسَبِ وهو الصحيحُ . قال "الجوهَرِيُّ": وإن شئتَ حَذَفْتَها، وهم أي أكثرُ قبائلِهم بالمَغْرِبِ في الجِبال مِن سُوسَ، وغيرِهَا، متفرِّقَةٌ في أطرافِها، وهم زَنَانَةُ، وهَوّارة، وصِنْهَاجَةَ، ونبزةُ، وكُتَامةُ، ولَوِاتهَ، ومديونة، وشباته، وكانوا كلهم بفِلَسْطِينَ مع جالُوتَ، فلما قُتِلَ تَفَرَّقُوا ،كذا الدُّرَرِ الكَامِنَة للحافظِ ابنِ حَجَر([7]).
نجد رواية أخرى عند "أحمد بن أبي يعقوب بن واضح"، في تاريخه المشهور بتاريخ اليعقوبي، غير هذه تقول: "وكانت البربر، والأفارقة، وهم أولاد فارق بن بيصر بن حام بن نوح، لما ملك إخوتهم بأرض مصر، فأخذوا من العريش إلى أسوان طولاً، ومن أيلة إلى برقة عرضاً، خرجوا نحو المغرب، فلما جاوزوا أرض برقة أخذوا البلاد، فغلب كل قوم منهم على البلد، حتى انتشروا بأرض المغرب. فأوَّل من مَلك منهم لواتة في أرض، يُقال لها أجدابية من جبال برقة، وملكت مزاته في أرض، يُقال لها ودان، فنسب هؤلاء القوم إلى أبيهم، وجاز قوم منهم إلى بلد، يُقال له تورغة، فملكوا هناك، وهم هواره، وآخرون إلى بلاد أرميك، وهم بذرعه. وسار قوم إلى طرابلس، يُقال لهم المصالين، وجاز قوم إلى غربي طرابلس، يُقال لهم وهيلة([8]).
قال "ابن خلكان"، في مَعرض ذِكر أصل الملثمين [الطوارق]: "أصل هؤلاء القوم من حمير بن سبأ، وهم أصحاب خيل، وإبل، وشاء، ويسكنون الصحارىالجنوبية، وينتَقِلون من ماء إلى ماء كالعرب، وبيوتهم من الشعر، والوبر([9]).
أما "القلقشندى"، فقد لخَّص الآراء في نَسب البربر، قائلاً: "والبربر فيهم خلاف يرجع إلى أنهم، هل هم من العرب، أو من غيرهم؟ وقد اختلف في نسبهم اختلافاً كثيراً، فذهبت طائفة من النسّابين إلى أنهم من العرب، ثم اختُلف في ذلك، فقيل: أوزاع من اليمن، وقيل: من غسان، وغيرهم تفرَّقوا عند سيل العَرم، قاله المسعودي. وقيل: خلَّفهم أبرهة ذو المنار، أحد تَبايِعة اليمن حين غزا العرب. وقيل: من ولد لقمان بن حِمْير بن سبأ، بعث سريّة من بنيه إلى المغرب ليعمروه فنزلوا وتناسلوا فيه. وقيل: من لخم، وجُذام كانوا نازلين بفلسطين من الشام، إلى أن أخرجهم منها بعض ملوك فارس، فلجأوا إلى مصر، فمنعهم ملوكها من نزولها، فذهبوا إلى الغرب، فنزلوه. وذهب قوم إلى أنهم من ولد يقشان بن إبراهيم عليه السلام. وذكر الحمداني أنهم من ولد بر بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأنه كان قد ارتكب معصية فطرده أبوه، وقال له: البر، البرّ، اذهب يا بَر، فما أنت بَر.
وقيل: هم من ولد بربر بن كسلوحيم بن حام. وقيل: من ولد تميلة بن مأرب بن قاران بن عمرو بن عمليق بن لاوذ ابن إرم بن سام بن نوح. وقيل: من ولد قبط بن حام بن نوح.
وقيل: أخلاط من كنعان والعماليق. وقيل: من حمير ومصر، والقبط.
وقيل: من ولد جالوت، ملك بني إسرائيل، وأنه لمّا قَتَلَ داود عليه السلام جالوت، تفرَّقوا في البلاد، فلمّا غزا إفريقش الغرب، نقلهم من سواحل الشام، وأسكنهم المغرب، وسمّاهم البربر. وقيل: بل أخرجهم داود عليه السلام من الشام، فصاروا إلى المغرب. وهم قبائل كثيرة، وشعوب جمة، وطوائف متفرِّقة، وأكثرهم ببلاد المغرب، وقد صار بعضهم من المغرب إلى مصر، فنزلوا وتلبَّسوا بالعرب، بعضهم بالوجه البحري، ببلاد البحيرة، والمنوفية، والغربية، وبعضهم بالوجه القبلي بالجيزة، وبلاد البهنسا، إلى أقصى الصعيد. قال صاحب العبر: وهي على كثرتها ترجع إلى أصليْن، لا تخرج عنهما، وهم: الأول: البرانس، وهم بنو برنس من بربر. والثاني: البتر، وهم بنو مادغش الأبتر بن بربر. قال: وبعضهم يقول: إنهم يرجعون إلى سبعة أصول، وهم: إردواحة، ومصمودة، وأَوْرَبَّة، وعجبة، وكُتامه، وصنهاجة، وأوريغة. ثم قال: وزاد بعضهم: لمطة، وهكسوره، وكزولة"([10]).
وقال لسان اليمن "الهمداني"، في نَسَبِ قبائل الهميسع بن حمير الأكبر بن سبأ الأكبر، ما يلي: "وأما مُرّة بن عبد شمس فولده ـ كما يُقال والله أعلم ـ كتامة، وعهامة، وصنهاجة، ولواتة، وزنيت، وهو زناتة. وهُم رؤساء البربر، نُقِلوا مع سيِّدهم كنيع بن يزيد، يوم أشْخَصَه إفريقيس، إلى إفريقية، وصَرَف المُنتاب عنها"([11]).
يقول "ابن خلدون"، في مقدِّمته الشهيرة: "والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيرِهِ، في شأنهم أنهم من وَلَدِ كنعان بن حام بن نوح عليه السلام... وأن اسم أبيهم أمازيغ"([12]).
إذن تَسمِيتهم "أمازيغ"، فأصلها من الجَد الأعلى للبرانس، وهو "مازيغ بن كنعان"؛ ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه، نقلاً عن نسّابةِ البربر "هاني بن بكور الضريبي"، و"سابق بن سليمان المطماطي"، و"كهلان بن أبي لؤي"، و"أيوب بن أبي يزيد"، وغيرهم، قال: "إن البربر، فرقتان، وهما البرانس والبتر، فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان، والبرانس بنو برنس بن سفجو بن ابزج بن جناح بن، واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام، وهذا الذي يعتمدهُ نسّابة البربر"([13]).
فأغلب المؤرِّخين العرب يرون: "إن البربر قدموا من الجزيرة العربية، في زمن لا يقِل عن ثلاثين قرناً ق.م.، وأن الفينيقيين اختلطوا بالبربر، على طول السواحل الأفريقية المغربية، في القرن الثاني عشر ق.م.، ولمّا كان الفينيقيون عرباً من كنعان، فقد اختلطوا بالبربر، الذين هم عَرب من العاربة القحطانيَّة".
يقول الكاتب الفرنسي، "فلوريان": "التطابُق الكامل بين العرب والبربر، فيما يلي: أصل مشترك، لغة واحدة، عواطف واحدة، كل شيء يُساهِم في ربطها ربطاً متينا"([14]).
يقول "عبد الرحمن باغي": "علماء الجيولوجيا يعتبرون الجزيرة العربية، امتداداً طبيعياً لأفريقيا ، لا يفصلها عنها سوى منبطح وادي النيل، ومنخفَض البحر الأحمر"([15]).
يقول المؤرِّخ الأمريكي، "وليم لانغز" في تأريخهِ: "وإذن؛ فقد كان الاتجاه العام للحركة الحضارية، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، ولهذا كانت المناطق الجنوبية، والشرقية، في أي وقت مضى، تتمتَّع بحضارات أكثر رُقِيًّا، من حضارات المناطق الهامشيَّة، في الشمال الغربي"([16]).
يؤكِّد هذا، صِحَّة كون انتقال البربر من الجزيرة العربية، إلى إفريقيا، في تلك الفترة، لعدم وجود عوارِض لتلك الهِجرة. إن هذا الكلام لا ينفي وجود اختلاف في الأقوام، التي شكَّلت البربر، ولكن هذا الاختلاف، لا يخرج عن كونِهِ مُشابه للاختلاف، الموجود بين سكان جزيرة العرب، شمالها، وجنوبها، وما يؤكِّد هذا الكلام، ما قاله "ابن خلدون"، الذي يرى في البربر، ما يلي: "البربر قبائل شتّى، من حمير، ومضر، ولقيط، والعمالقة كنعان، وقريش؛ تلاقوا بالشام، ولغطوا، فسمّاهم إفريقش بالبربر، لكثرة كلامهم..." ([17]).
يختلف "الكلبي" مع بعض كلام "ابن خلدون"؛ فيقول: "إن كتامة، وصنهاجة، ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من الشعوب اليمانية، تركهما إفريقش بن صيفي بأفريقية، مع من نَزل بها من حامية..." ([18]).
نجد "ابن خلدون" يستطرد كلامه عن البربر؛ فقال فيهم: "لا خلاف بين النسّابة العرب، إن شعوب البربر، الذين قدمنا ذكرّهم ،كلَّهم من البربر، إلا صنهاجة، وكتامة، فإن من بين النسّابة العرب خِلافاً، والمشهور أنهم من اليمنية"([19]).
في توضيح لكلام "الكلبي" و"ابن خلدون"، فالرأي إنهم عندما قسَّموا البربر إلى عرب، وغير عرب، ليس المعنى أنهم قد قالوا بعدم عروبة البربر، وإنما قد فصلوا بين القبائل العربية، التي كانت في الجزيرة العربية، من حيث اللغة العربية، التي كانت يلهجون بها، من ناحية، ومن حيث تأثير مناطق سكناهم على صفاتهم، من ناحية أخرى.
وقيل: من ولد جالوت، ملك بني إسرائيل، وأنه لمّا قَتَلَ داود عليه السلام جالوت، تفرَّقوا في البلاد، فلمّا غزا إفريقش الغرب، نقلهم من سواحل الشام، وأسكنهم المغرب، وسمّاهم البربر. وقيل: بل أخرجهم داود عليه السلام من الشام، فصاروا إلى المغرب. وهم قبائل كثيرة، وشعوب جمة، وطوائف متفرِّقة، وأكثرهم ببلاد المغرب، وقد صار بعضهم من المغرب إلى مصر، فنزلوا وتلبَّسوا بالعرب، بعضهم بالوجه البحري، ببلاد البحيرة، والمنوفية، والغربية، وبعضهم بالوجه القبلي بالجيزة، وبلاد البهنسا، إلى أقصى الصعيد. قال صاحب العبر: وهي على كثرتها ترجع إلى أصليْن، لا تخرج عنهما، وهم: الأول: البرانس، وهم بنو برنس من بربر. والثاني: البتر، وهم بنو مادغش الأبتر بن بربر. قال: وبعضهم يقول: إنهم يرجعون إلى سبعة أصول، وهم: إردواحة، ومصمودة، وأَوْرَبَّة، وعجبة، وكُتامه، وصنهاجة، وأوريغة. ثم قال: وزاد بعضهم: لمطة، وهكسوره، وكزولة"([10]).
وقال لسان اليمن "الهمداني"، في نَسَبِ قبائل الهميسع بن حمير الأكبر بن سبأ الأكبر، ما يلي: "وأما مُرّة بن عبد شمس فولده ـ كما يُقال والله أعلم ـ كتامة، وعهامة، وصنهاجة، ولواتة، وزنيت، وهو زناتة. وهُم رؤساء البربر، نُقِلوا مع سيِّدهم كنيع بن يزيد، يوم أشْخَصَه إفريقيس، إلى إفريقية، وصَرَف المُنتاب عنها"([11]).
يقول "ابن خلدون"، في مقدِّمته الشهيرة: "والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيرِهِ، في شأنهم أنهم من وَلَدِ كنعان بن حام بن نوح عليه السلام... وأن اسم أبيهم أمازيغ"([12]).
إذن تَسمِيتهم "أمازيغ"، فأصلها من الجَد الأعلى للبرانس، وهو "مازيغ بن كنعان"؛ ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه، نقلاً عن نسّابةِ البربر "هاني بن بكور الضريبي"، و"سابق بن سليمان المطماطي"، و"كهلان بن أبي لؤي"، و"أيوب بن أبي يزيد"، وغيرهم، قال: "إن البربر، فرقتان، وهما البرانس والبتر، فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان، والبرانس بنو برنس بن سفجو بن ابزج بن جناح بن، واليل بن شراط بن تام بن دويم بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام، وهذا الذي يعتمدهُ نسّابة البربر"([13]).
فأغلب المؤرِّخين العرب يرون: "إن البربر قدموا من الجزيرة العربية، في زمن لا يقِل عن ثلاثين قرناً ق.م.، وأن الفينيقيين اختلطوا بالبربر، على طول السواحل الأفريقية المغربية، في القرن الثاني عشر ق.م.، ولمّا كان الفينيقيون عرباً من كنعان، فقد اختلطوا بالبربر، الذين هم عَرب من العاربة القحطانيَّة".
يقول الكاتب الفرنسي، "فلوريان": "التطابُق الكامل بين العرب والبربر، فيما يلي: أصل مشترك، لغة واحدة، عواطف واحدة، كل شيء يُساهِم في ربطها ربطاً متينا"([14]).
يقول "عبد الرحمن باغي": "علماء الجيولوجيا يعتبرون الجزيرة العربية، امتداداً طبيعياً لأفريقيا ، لا يفصلها عنها سوى منبطح وادي النيل، ومنخفَض البحر الأحمر"([15]).
يقول المؤرِّخ الأمريكي، "وليم لانغز" في تأريخهِ: "وإذن؛ فقد كان الاتجاه العام للحركة الحضارية، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، ولهذا كانت المناطق الجنوبية، والشرقية، في أي وقت مضى، تتمتَّع بحضارات أكثر رُقِيًّا، من حضارات المناطق الهامشيَّة، في الشمال الغربي"([16]).
يؤكِّد هذا، صِحَّة كون انتقال البربر من الجزيرة العربية، إلى إفريقيا، في تلك الفترة، لعدم وجود عوارِض لتلك الهِجرة. إن هذا الكلام لا ينفي وجود اختلاف في الأقوام، التي شكَّلت البربر، ولكن هذا الاختلاف، لا يخرج عن كونِهِ مُشابه للاختلاف، الموجود بين سكان جزيرة العرب، شمالها، وجنوبها، وما يؤكِّد هذا الكلام، ما قاله "ابن خلدون"، الذي يرى في البربر، ما يلي: "البربر قبائل شتّى، من حمير، ومضر، ولقيط، والعمالقة كنعان، وقريش؛ تلاقوا بالشام، ولغطوا، فسمّاهم إفريقش بالبربر، لكثرة كلامهم..." ([17]).
يختلف "الكلبي" مع بعض كلام "ابن خلدون"؛ فيقول: "إن كتامة، وصنهاجة، ليستا من قبائل البربر، وإنما هما من الشعوب اليمانية، تركهما إفريقش بن صيفي بأفريقية، مع من نَزل بها من حامية..." ([18]).
نجد "ابن خلدون" يستطرد كلامه عن البربر؛ فقال فيهم: "لا خلاف بين النسّابة العرب، إن شعوب البربر، الذين قدمنا ذكرّهم ،كلَّهم من البربر، إلا صنهاجة، وكتامة، فإن من بين النسّابة العرب خِلافاً، والمشهور أنهم من اليمنية"([19]).
في توضيح لكلام "الكلبي" و"ابن خلدون"، فالرأي إنهم عندما قسَّموا البربر إلى عرب، وغير عرب، ليس المعنى أنهم قد قالوا بعدم عروبة البربر، وإنما قد فصلوا بين القبائل العربية، التي كانت في الجزيرة العربية، من حيث اللغة العربية، التي كانت يلهجون بها، من ناحية، ومن حيث تأثير مناطق سكناهم على صفاتهم، من ناحية أخرى.
هذا الاختلاف لا يخرج عن هذا الإطار، أما عن تحديد قبائل صنهاجة، وكتامة، بأنهم من العرب، فالمقصود أنهم من قبائل اليمن، أما الباقي فهم من قبائل العرب في بلاد الشام.
فالحديث عن شمال أفريقي جزري، لا يبدأ مع دخول الفينيقيين، في أوائل القرن الأول قبل الميلاد، وإنما يعود إلى أزمنة أقدّم بكثير، وهذا، بدورِهِ، يجعلنا ننظر إلى الشعب الذي أُطلِق عليه لفظ بربري، على أنه ينتمي إلى الشعوب الجزريَّة.
في ذلك يقول"د.طيب تيزنيي"، في موسوعة "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة، الجزء الثاني، الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى"، ما يلي: "هكذا إذن، نجد أنفسنا أمام فكرة أوَّلِيَّه مِحوريَّة؛ أن البربر ذوو جذور، ترتد إلى مصادر ساميَّة [جزريَّة بمفهومنا]، لا تبدأ مع نزوح الفينيقيين إلى هناك، وتأسيسهم مستوطنات خاصة بهم (قرطاجة خصوصاً)، في القرن السابع قبل الميلاد، كما يُعلن جميع المؤرِّخين، والباحثين. أن تلك الصِلَة، تغدو ضمن ذلك المنظور. أكثر قِدَماً. بل إنها تبدو بنوعية أخرى، تتحد بكون البربر أنفسهم ساميّين [جزريّين بمفهومنا]، أو ذوي جذور ساميَّة [جزريَّة بمفهومنا]([20]).
تُعتبر هجرة الفينيقيين إلى المغرب، واحدة من هذه الهجرات المُتأخِّرة للأقوام العربية، من الجزيرة العربية، التي سُبِقت بهجرات سابقة لها، لم يُسجِّلها التاريخ، كما سجَّل هجرة الفينيقيين. وتَنقُّل الفينيقيين، من الجزيرة العربية، إلى بلاد الشام، ومن بلاد الشام، إلى المغرب العربي، جاء عفوياً، ليؤكِّد تبادُل هذا المدْ البشري، في هذا الحوض الحضاري الكبير".
فمحرِّرو (مادة الجزائر)، في الموسوعة الفرنسية ( يونيفيرساليسUNIVERSALIS)؛ يقولون: "بدأ تاريخ المغرب الأوسط، بوصولِ الفينيقيّين، الذين سجَّلوا حضارتهم، كأول حضارة بالمدن، حيث تَركت بها آثاراً مكتوبة، فأسَّسوا مُبكِّراً، في القرون الأخيرة، للألف الثانية قبل الميلاد، مراكز تجارية. وتطوَّر الفينيقيون إلى قرطاجنيين، ولم يستعمروا داخل البلاد، ولكنهم طوَّروا هذه المدن الساحلية التجارية، والتي استمرَّت قائمة، حتى بعد تدمير قرطاج، تحمِل تسميات ساميَّة، كمدن راسكورو (دلس)، وروس كاد (سكيكدة)، وروس قونية (ماتيفون). وكان الرؤساء البربر، المسيطرون على داخل البلاد حلفاء، وزبائن تجاريين للقرطاجنيين، يمدُّونهم بفِرق عسكرية، وبخاصة بالفرسان النوميديّين المشهورين، وبالفِيَلة الحربية، والجنود. وانتشرت اللُغة البونيقيَّة (اللهجة الفينيقية الكنعانية السائدة في شمال أفريقيا – الناسخ)، والحضارة الفينيقيَّة بعمق في البلاد، وظهرت مدناً للأهالي، وأضرِحة، ومزارات دينية، بنُيت، أحياناً، من طرف فَنِّيين قرطاجنيين. وهكذا فقد كان البربر تلاميذ للفينيقيين، الذين علَّموهم أساليب زراعية، وصناعية، كصناعة الزيت، والنبيذ، وصناعة الأدوات من النحاس؛ وعلَّموهم على الخصوص ديانتهم. واستمر البربر يعبدون آلهة قرطاج، حتى أثناء الاحتلال الروماني، لدرجة أن بعض المؤرِّخين، يرون أن المسيحية، ثم الإسلام، لم يُقبِلا من البربر، بهذه السهولة، إلا بسبب دخول هذه الديانة القرطاجنية المغرب، التي هي ديانة ساميَّة. واستمرت اللغة البونيقيَّة متداولة، حتى بعد القرن الثالث الميلادي، حيث لَعبت دور الوصلة إلى اللغة العربية"([21]).
لقد خرج البربر من العصر الحجري الحديث، ودخلوا التاريخ، والعصر الحضاري عن طريق إخوانهم الفينيقيين. فالمؤرِّخ الفرنسي المتخصِّص في الدراسات البربرية، "رونيه باسيه" (R. Basset)، يورِد حقائق تؤكِّد ذلك، فيقول: "إن اللُغة البونيقيَّة، لم تختف من المغرب، إلا بعد دخول العرب. ومعنى هذا، أن هذه اللغة بَقِيت قائمة، هذه المُدَّة بالمغرب، لتِسعة عشر قرناً، وهو أمر عظيم. لقد استمر تأثير مدينة قرطاج قائماً، حتى بعد تدميرها، فقد تحوَّلت (سيرتا)، تحت حكم الملوك النوميديّين البربر، إلى مركز بونيقي، بل أن اسم سيرتا، هو (قرطا)، أي المدينة بالبونيقيَّة. لقد عَلم القرطاجنيون البربرَ الزراعةَ. فالبربر يكسرون الرُمّانة على مقبض المِحراث، أو يدفنونها في أول خط للحرث، تفاؤلاً بأن سنابل الحبَّة المبذورة، ستأتي كثيرة، بعدد حبّات الرُمّانة. وهي عادة مستمدَّة من ثقافة قرطاج، فالرُمّانة لديهم رمز للخصوبة. وتُعتبر قرطاج مُربِّية للبربر، فقد علَّمتهم كيفية الاعتناء بالزيتونة، التي كانت موجودة بالمغرب، كشجرة وحشِيَّة، وكيفيَّة استخراج الزيت منها. ويفصل "غزيل" ((Gsell هذه المسألة لغوياً؛ فيقول: [إن كلمة أزمور بالبربرية، تعني الزيتونة الوحشيَّة، وهو الاسم البربري لهذه الشجرة. أما إذا تكلَّموا عن الزيتونة الملقَّمة، أطلقوا عليها الاسم السامي (الزيتونة)، وعلى سائلها اسم الزيت...].كما عَلَّمَ الفينيقيون البربر زراعة التينة، التي كانت قبلهم موجودة بالمغرب، كشجرة وحشِيَّة، أيضًا، وعلَّموهم زراعة الكرمة، والرمّانة، وعلَّموهم، عمومًا، فن زراعة الشجر المُثمر.
فالحديث عن شمال أفريقي جزري، لا يبدأ مع دخول الفينيقيين، في أوائل القرن الأول قبل الميلاد، وإنما يعود إلى أزمنة أقدّم بكثير، وهذا، بدورِهِ، يجعلنا ننظر إلى الشعب الذي أُطلِق عليه لفظ بربري، على أنه ينتمي إلى الشعوب الجزريَّة.
في ذلك يقول"د.طيب تيزنيي"، في موسوعة "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة، الجزء الثاني، الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى"، ما يلي: "هكذا إذن، نجد أنفسنا أمام فكرة أوَّلِيَّه مِحوريَّة؛ أن البربر ذوو جذور، ترتد إلى مصادر ساميَّة [جزريَّة بمفهومنا]، لا تبدأ مع نزوح الفينيقيين إلى هناك، وتأسيسهم مستوطنات خاصة بهم (قرطاجة خصوصاً)، في القرن السابع قبل الميلاد، كما يُعلن جميع المؤرِّخين، والباحثين. أن تلك الصِلَة، تغدو ضمن ذلك المنظور. أكثر قِدَماً. بل إنها تبدو بنوعية أخرى، تتحد بكون البربر أنفسهم ساميّين [جزريّين بمفهومنا]، أو ذوي جذور ساميَّة [جزريَّة بمفهومنا]([20]).
تُعتبر هجرة الفينيقيين إلى المغرب، واحدة من هذه الهجرات المُتأخِّرة للأقوام العربية، من الجزيرة العربية، التي سُبِقت بهجرات سابقة لها، لم يُسجِّلها التاريخ، كما سجَّل هجرة الفينيقيين. وتَنقُّل الفينيقيين، من الجزيرة العربية، إلى بلاد الشام، ومن بلاد الشام، إلى المغرب العربي، جاء عفوياً، ليؤكِّد تبادُل هذا المدْ البشري، في هذا الحوض الحضاري الكبير".
فمحرِّرو (مادة الجزائر)، في الموسوعة الفرنسية ( يونيفيرساليسUNIVERSALIS)؛ يقولون: "بدأ تاريخ المغرب الأوسط، بوصولِ الفينيقيّين، الذين سجَّلوا حضارتهم، كأول حضارة بالمدن، حيث تَركت بها آثاراً مكتوبة، فأسَّسوا مُبكِّراً، في القرون الأخيرة، للألف الثانية قبل الميلاد، مراكز تجارية. وتطوَّر الفينيقيون إلى قرطاجنيين، ولم يستعمروا داخل البلاد، ولكنهم طوَّروا هذه المدن الساحلية التجارية، والتي استمرَّت قائمة، حتى بعد تدمير قرطاج، تحمِل تسميات ساميَّة، كمدن راسكورو (دلس)، وروس كاد (سكيكدة)، وروس قونية (ماتيفون). وكان الرؤساء البربر، المسيطرون على داخل البلاد حلفاء، وزبائن تجاريين للقرطاجنيين، يمدُّونهم بفِرق عسكرية، وبخاصة بالفرسان النوميديّين المشهورين، وبالفِيَلة الحربية، والجنود. وانتشرت اللُغة البونيقيَّة (اللهجة الفينيقية الكنعانية السائدة في شمال أفريقيا – الناسخ)، والحضارة الفينيقيَّة بعمق في البلاد، وظهرت مدناً للأهالي، وأضرِحة، ومزارات دينية، بنُيت، أحياناً، من طرف فَنِّيين قرطاجنيين. وهكذا فقد كان البربر تلاميذ للفينيقيين، الذين علَّموهم أساليب زراعية، وصناعية، كصناعة الزيت، والنبيذ، وصناعة الأدوات من النحاس؛ وعلَّموهم على الخصوص ديانتهم. واستمر البربر يعبدون آلهة قرطاج، حتى أثناء الاحتلال الروماني، لدرجة أن بعض المؤرِّخين، يرون أن المسيحية، ثم الإسلام، لم يُقبِلا من البربر، بهذه السهولة، إلا بسبب دخول هذه الديانة القرطاجنية المغرب، التي هي ديانة ساميَّة. واستمرت اللغة البونيقيَّة متداولة، حتى بعد القرن الثالث الميلادي، حيث لَعبت دور الوصلة إلى اللغة العربية"([21]).
لقد خرج البربر من العصر الحجري الحديث، ودخلوا التاريخ، والعصر الحضاري عن طريق إخوانهم الفينيقيين. فالمؤرِّخ الفرنسي المتخصِّص في الدراسات البربرية، "رونيه باسيه" (R. Basset)، يورِد حقائق تؤكِّد ذلك، فيقول: "إن اللُغة البونيقيَّة، لم تختف من المغرب، إلا بعد دخول العرب. ومعنى هذا، أن هذه اللغة بَقِيت قائمة، هذه المُدَّة بالمغرب، لتِسعة عشر قرناً، وهو أمر عظيم. لقد استمر تأثير مدينة قرطاج قائماً، حتى بعد تدميرها، فقد تحوَّلت (سيرتا)، تحت حكم الملوك النوميديّين البربر، إلى مركز بونيقي، بل أن اسم سيرتا، هو (قرطا)، أي المدينة بالبونيقيَّة. لقد عَلم القرطاجنيون البربرَ الزراعةَ. فالبربر يكسرون الرُمّانة على مقبض المِحراث، أو يدفنونها في أول خط للحرث، تفاؤلاً بأن سنابل الحبَّة المبذورة، ستأتي كثيرة، بعدد حبّات الرُمّانة. وهي عادة مستمدَّة من ثقافة قرطاج، فالرُمّانة لديهم رمز للخصوبة. وتُعتبر قرطاج مُربِّية للبربر، فقد علَّمتهم كيفية الاعتناء بالزيتونة، التي كانت موجودة بالمغرب، كشجرة وحشِيَّة، وكيفيَّة استخراج الزيت منها. ويفصل "غزيل" ((Gsell هذه المسألة لغوياً؛ فيقول: [إن كلمة أزمور بالبربرية، تعني الزيتونة الوحشيَّة، وهو الاسم البربري لهذه الشجرة. أما إذا تكلَّموا عن الزيتونة الملقَّمة، أطلقوا عليها الاسم السامي (الزيتونة)، وعلى سائلها اسم الزيت...].كما عَلَّمَ الفينيقيون البربر زراعة التينة، التي كانت قبلهم موجودة بالمغرب، كشجرة وحشِيَّة، أيضًا، وعلَّموهم زراعة الكرمة، والرمّانة، وعلَّموهم، عمومًا، فن زراعة الشجر المُثمر.
وقد تبيَّن لنا الآن، أن البربر كانوا على اتِّصال بالفينيقيين منذ ما قبل التاريخ. وعَلَّمَ الفينيقيون البربر الصناعات القابِلة للتصدير، كالسيراميك، وصناعة المعادن، والنسيج، والمجوهرات: كالخلاخيل، والتيجان، والخلالات (المشابِك)، التي تصنع في صورة كف مبسوطة الأصابِع. والتشابُه واضِح، بين مجوهرات القبائل (بالجزائر)، والسوس (بالمغرب)، وبين المجوهرات القرطاجية. أما ديانة قرطاج فهي التي كانت مُنتشرة بالمغرب، كالإله (بعل عمون)، والإلهة (تانيت)، وكان هذا الإله منتشراً بالعالم العربي كلّه، الأمر الذي أوردَ اسمه القرآن، بالآية: "أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين"؛ لدرجة أن انتشار الإسلام بشمال أفريقي،ا عائد إلى ما فعلته قرطاج في هذه البلاد. أما عن اللُغة، فقد جعل الملوك النوميديون البربر، في العهود الأخيرة، من البونيقية، لغتهم الرسمية، لدرجة أنه كان الناس، في بلاد البربر، وفي المدن على الخصوص، يتحدَّثون البونيقيَّة، أكثر من البربريَّة، وحتى في العهد الروماني. إن المناطق التي انتشرت فيها البونيقيَّة أكثر، هي التي تعرَّبت بالكامل.والبونيقيَّة لُغة قريبة من العربية، التي ما إن دخلت المغرب، حتى خلَّفت البونيقيَّة، وبسهولة، كما أن آلهة قرطاج، هي التي مهَّدت لانتصار الإسلام، في هذه البلاد، واللُغة القرطاجنية، عبَّدت الطريق للعربية.وخُلاصة القول، أن قرطاج لم تجلب سوى الخير للبربر، فقد علَّمتهم غرس الأشجار المثمِرة، وربَّتهم روحياً، ودينياً. ومن الغريب أن هذا التأثير تعمَّق أكثر، بعد تدمير قرطاج. لقد دُمَّرت روما أسوار قرطاج، لكنها فشلت في تدمير تأثيرها في نفوس البربر، بل إنه كلما تأسَّس احتلال روما للمغرب، كلما انتشرت، وتعمَّقت في نفوس البربر لُغة قرطاج، وعقائدها. وهل يختلف الوضع الآن عنه آنذاك؟!" ([22]).
ويؤكِّد مؤرِّخ آخر فرنسي، هو "سانتاس" P. CINTAS) )؛ فيقول: "لقد بيَّنت الكتابات البونيقيَّة المكتَشَفَة بالمغرب، والتي تحمِل تاريخ 162و147 قبل الميلاد (أي تحت حكم ماسينيا)، مدى ارتباط الأهالي بقرطاج دينياً، من خلال عبادتهم لبعل عمون، الإله القرطاجي، وهذا يؤكِّد السيطرة المستديمة للديانة القرطاجية، على السكان المحلِّيين. أريد التحدُث عن استمرار البونيقيَّة، فقد بقِيت منتشرة بالمغرب، بعد تدمير قرطاجن وفي العهد الروماني، وحتى بعد القديس أوغسطين، الذي ذَكر مراراً أن السكان الذين كانوا يحيطون به، يتكلَّمون البونيقيَّة. إن اللُّغة البونيقيَّة استمرت بين بعض البربر، كلُغة ثقافة. بل أن الدوناتيَّة مقدّمة لإلغاء الإسلام للمسيحية، وللثقافة الرومانية بالمغرب([23]).
فحسب رواية "بروكوبيوس" (Procope)، أحدث احتلال يوشع بن نون للأرض الموعودة، رحيل الأقوام الذين كانوا يقطنون الشاطئ. وبعد أن حاول هؤلاء الاستقرار في مصر، ووجدوها مزدحمة بالسكان، توجَّهوا نحو ليبيا التي احتلوها حتى أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق)، وأسَّسوا عدداً كبيراً من المدن. يؤكِّد "بروكوبيوس"، وقد بَقِيَ فيها خلفهم، ومازالوا يتكلَّمون لغة الفينيقيين، حتى اليوم. وقد شيَّدوا، أيضاً، حصناً في نوميديا، في المكان الذي ترتفع فيه مدينة تيجيسيس (Tigisis). وهناك، بالقرب من العين الكبيرة، تنتصِب مسلَّتان من الحجر الأبيض، نُقش عليهما بحروف فينيقية، وبلغة الفينيقيين، ما معناه: نحن الذين هربنا بعيداً، من أمام الشرير يوشع بن نون.
تستند هذه الرواية، كذلك، على بيِّنة أخرى، نجد أثرها، قبل ذلك بقرن، في رسالة للقديس "أوغسطين" (Saint Augustin)؛ جاء فيها: "إذا سألتم فلاحينا من هم: يجيبون بالبونيقية أنهم شنانيون، أو لا يتفق هذا الشكل المحرَّف بلهجتهم مع كنعانيين؟". ويذهب علماء كثيرون، مثل "أ. دى فيتا" (A.di Vitta)، إلى تفسير رواية "بروكوبيوس" (Procope)، بالذكرى الغامضة لأقدم تغلغُل فينيقي في الغرب، وكان سابقاً لتأسيس قرطاج ([24]).
يَذكر المؤرِّخ الفرنسي "رينان"(E. RENAN): "أن البربر اعتنقوا الإسلام بسهوله، لأنهم كانوا يعرفون البونيقيَّة"([25]).
ويقول "محمد شفيق"، من المغرب الأقصى؛ وهو متعصِّب للبربرية: "كتب المؤرِّخون العرب، وجزموا بأن البربر من أصل يماني، من العرب العاربة، وتكمُن فكرة التأكيد، اليوم، على القَرابة القديمة المحتمَلة، بين الأمازيغيين، واليمانيين، في ثلاث قرائن: أولاً: أن عددًا لا بأس به من أسماء الأماكن، على الطريق الذي يمتد من المغرب الكبير، واليمن، لها صِيغ أمازيغية واضحة. منها في صعيد مصر (أبنو، أسيوط)، وإيخيم، وتيما، في جبل حوران، في سوريا، وتيما في شمال السعودية، وتاركما، وأتبار، وتيمرايين في السودان، وأكسوم، بأسمرا، وأكولا، وأكوؤدات (أكوؤضاد )، في أريتريا، وجزيرة أنتوفاش، في اليمن.
ويؤكِّد مؤرِّخ آخر فرنسي، هو "سانتاس" P. CINTAS) )؛ فيقول: "لقد بيَّنت الكتابات البونيقيَّة المكتَشَفَة بالمغرب، والتي تحمِل تاريخ 162و147 قبل الميلاد (أي تحت حكم ماسينيا)، مدى ارتباط الأهالي بقرطاج دينياً، من خلال عبادتهم لبعل عمون، الإله القرطاجي، وهذا يؤكِّد السيطرة المستديمة للديانة القرطاجية، على السكان المحلِّيين. أريد التحدُث عن استمرار البونيقيَّة، فقد بقِيت منتشرة بالمغرب، بعد تدمير قرطاجن وفي العهد الروماني، وحتى بعد القديس أوغسطين، الذي ذَكر مراراً أن السكان الذين كانوا يحيطون به، يتكلَّمون البونيقيَّة. إن اللُّغة البونيقيَّة استمرت بين بعض البربر، كلُغة ثقافة. بل أن الدوناتيَّة مقدّمة لإلغاء الإسلام للمسيحية، وللثقافة الرومانية بالمغرب([23]).
فحسب رواية "بروكوبيوس" (Procope)، أحدث احتلال يوشع بن نون للأرض الموعودة، رحيل الأقوام الذين كانوا يقطنون الشاطئ. وبعد أن حاول هؤلاء الاستقرار في مصر، ووجدوها مزدحمة بالسكان، توجَّهوا نحو ليبيا التي احتلوها حتى أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق)، وأسَّسوا عدداً كبيراً من المدن. يؤكِّد "بروكوبيوس"، وقد بَقِيَ فيها خلفهم، ومازالوا يتكلَّمون لغة الفينيقيين، حتى اليوم. وقد شيَّدوا، أيضاً، حصناً في نوميديا، في المكان الذي ترتفع فيه مدينة تيجيسيس (Tigisis). وهناك، بالقرب من العين الكبيرة، تنتصِب مسلَّتان من الحجر الأبيض، نُقش عليهما بحروف فينيقية، وبلغة الفينيقيين، ما معناه: نحن الذين هربنا بعيداً، من أمام الشرير يوشع بن نون.
تستند هذه الرواية، كذلك، على بيِّنة أخرى، نجد أثرها، قبل ذلك بقرن، في رسالة للقديس "أوغسطين" (Saint Augustin)؛ جاء فيها: "إذا سألتم فلاحينا من هم: يجيبون بالبونيقية أنهم شنانيون، أو لا يتفق هذا الشكل المحرَّف بلهجتهم مع كنعانيين؟". ويذهب علماء كثيرون، مثل "أ. دى فيتا" (A.di Vitta)، إلى تفسير رواية "بروكوبيوس" (Procope)، بالذكرى الغامضة لأقدم تغلغُل فينيقي في الغرب، وكان سابقاً لتأسيس قرطاج ([24]).
يَذكر المؤرِّخ الفرنسي "رينان"(E. RENAN): "أن البربر اعتنقوا الإسلام بسهوله، لأنهم كانوا يعرفون البونيقيَّة"([25]).
ويقول "محمد شفيق"، من المغرب الأقصى؛ وهو متعصِّب للبربرية: "كتب المؤرِّخون العرب، وجزموا بأن البربر من أصل يماني، من العرب العاربة، وتكمُن فكرة التأكيد، اليوم، على القَرابة القديمة المحتمَلة، بين الأمازيغيين، واليمانيين، في ثلاث قرائن: أولاً: أن عددًا لا بأس به من أسماء الأماكن، على الطريق الذي يمتد من المغرب الكبير، واليمن، لها صِيغ أمازيغية واضحة. منها في صعيد مصر (أبنو، أسيوط)، وإيخيم، وتيما، في جبل حوران، في سوريا، وتيما في شمال السعودية، وتاركما، وأتبار، وتيمرايين في السودان، وأكسوم، بأسمرا، وأكولا، وأكوؤدات (أكوؤضاد )، في أريتريا، وجزيرة أنتوفاش، في اليمن.
ثانياً: لقد عثَرت على عدد من الألفاظ العربية التي قال بشأنها صاحب لسان العرب، أنها حميريَّة، أو يمانيَّة، وهي الألفاظ التي لها وجود في الأمازيغية؛ إما بمدلولها الحميري، أو بمدلول مُعاكس (الأضداد) - [درج العرب القدماء على وصف الأشياء بأضدادها – الناسخ]، ثالثا : بين حروف التيفيناغ القديمة، ومنها التوارقيَّة، وبين حروف الحميريين (الأبجدية الحميريَّة – المسند) شَبَه ملحوظ" ([26]).
يقول "محمد شفيق": "... تسمى هذه الحروف تيفيناغ، ولقد أُوِّلَتْ هذه التسمية تأويلات مختلفة، أسرعها إلى الذهن هو أن الكلمة مشتقَّة من 'فينيق، فينيقيا'، وما إلى ذلك. قد يُطابق ذلك أصل هذه التسمِية، ولكن المحقَّق، هو أن الكتابة الأمازيغية غير منقولة عنها، بل رجَح الاعتقاد بأنها، والفينيقية، تنتمِيان إلى نماذج، جد قديمة، لها علاقة بالحروف التي اكتُشِفَتْ، في جنوبي الجزيرة العربية" ([27]).
يقول أيضًا:"بين حروف « تيفيناغ »، القديمة منها والتواركَية، وبين حروف الحميريين، شَبَه ملحوظ في الأشكال، لكنها لا تتقابل في تأدِية الأصوات، إلا في حالتيْن اثنتيْن، بتجاوُز في التدقيق" ([28]).
ويؤكِّد المؤرِّخون، أن مدينة سوسة بتونس، بناها العرب القادمونَ من جنوبِ الجزيرة العربية، قبل أربعة آلاف سنة، وأعطوها اسم (حضرموت). وتوجد أسماء باليمن متطابِقة مع أسماء لقبائل بربريَّة، كالأشلوح؛ اسم قرية، وقبيلة باليمن، والشلوح تجمُّع كبير للقبائل البربرية بالمغرب الأقصى. والأكنوس، عشيرة من بني مهاجر باليمن، ومكناسة بالمغرب([29]).
يشير "عبد الوهاب بن منصور"، عضو أكاديميَّة المملكة المغربيَّة، في دراسته القيِّمة "دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل بربرية"، إلى أن العلماء المحدِّثين، عندما أخضعوا أصل البربر، أو أصولهم للمقاييس العلميَّة الخاصة بهم، كَلَون البشرة، ونوع الشَعر، وشكل الجمجمة، وبنية الجسم، مضافة إليها اللُغة، والموسيقا، والمعمار، والعادات، والمعتقدات، وجدوا بيْن بعض قبائل البربر، وقبائل العرب، في اليمن، وحضرموت، شبهاً كبيراً، مالوا معه إلى تصديق ما يروِيه كثير من نسّابة العرب، والبربر، ومؤرِّخيهم، عن عُروبة الأرومة البربرية، فشكْل الإنسان في بعض القبائل البربرية، شديد الشبه بشكْل الإنسان العربي، في اليمن، وحضرموت؛ كما أن الشبَه قوي بين اللهجات البربرية، وبين اللغة العربية، من حيث الاشتقاق، وتصريف الكلمات، ووجود حروف الحلْق مجتمعة، وهي لا تجتمِع إلا في اللُغات الساميَّة [الجزريَّة]، ويشتد على الخصوص بين اللهجات البربرية، وبين لغة المهرة، في غرب سلطنة عُمان.
ومثل هذا التشابه يوجد، أيضًا، في الموسيقا، فالرنّات، والألحان، في موسيقا الجنوبي العربي، وأغانيه، وكذلك التصفيق الرتيب، الُمصاحب بأيدي، تشبه كلها الرنّات، والألحان، في موسيقا، وأغاني القبائل البربرية، بالجنوب المغربي، وكذلك طريقه الأداء، والإنشاد، وقد دَرس كل ذلك، العالِم الألماني، "كارل ولهم لخمان" (1793ـ1851 )، دراسة مُستفيضة، والموسيقار النمساوي، "فون هورن جوستل" (1877ـ1935)، وتَفطَّنَ له الرحّالة الألماني، "هانز هولفريتز"، وأشار إليه بإسهاب، في كتابه الموسوم اليمن من الباب الخلْفي.
ولكن الذي لفت نظر الباحثين، والدارسين الُمعاصرين، الذين يعتمدون على الأدِلَّة العلميَّة، والمقاييس العقليَّة، واستدلّوا به على عروبة بعض قبائل البربر، في شمال أفريقيا، هو تشابُه المعمار اليمني، والمعمار البربري، وتطبيقها؛ فقد قارنو بين المباني العالِيَة، الموجودة في جنوب الجزيرة العربية ،وبين المباني العالية في قلب الحضارة البربرية، بأعالي جبال الأطلس، فلم يجدوا بينهما فرقاً؛ فالمباني في الجهتيْن معاً، تَحمل المظاهر المعماريَّة، والسمَّات الهندسيَّة نفسها؛ كالنتوءات، والأنابيب الخشبيَّة، لصرف مياه الأمطار، والكوات، والثقوب؛ حتى إنك لو سَكنت، برهة من الزمان، قلعة من قِلاع جبال تعُز، وصعدة، أو صرحاً شامخاً من صروحها؛ ثم انتقلت فجأة إلى قلعة من قِلاع أمزميز، وتلوات، بجبال الأطلس الكبير، بالمملكة المغربية؛ لتخيَّلْت أنك لا تزال في مسكنك الأول؛ الشيء الذي يؤكِّد الاعتقاد بصِحَّة ما يُردِّدهُ كثير من مؤرِّخي العرب، والبربر، ونسّابيهم، من انحدار البربر، أو بعض من قبائلهم من أرحام يمنيَّة!([30]).
([1]) مجلَّة دراسات يمنيَّة (صنعاء)، عبد الوهاب بن منصور، دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل
بربرية، العدد الثامن والثلاثون، مجلَّة فصليَّة تصدر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، أكتوبر
ـ نوفمبر ـ ديسمبر، 1989، ص (115-116).
([2]) (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ ابن خلدون، المُجلَّد السادس، الجزء الثاني، مصر،
يقول "محمد شفيق": "... تسمى هذه الحروف تيفيناغ، ولقد أُوِّلَتْ هذه التسمية تأويلات مختلفة، أسرعها إلى الذهن هو أن الكلمة مشتقَّة من 'فينيق، فينيقيا'، وما إلى ذلك. قد يُطابق ذلك أصل هذه التسمِية، ولكن المحقَّق، هو أن الكتابة الأمازيغية غير منقولة عنها، بل رجَح الاعتقاد بأنها، والفينيقية، تنتمِيان إلى نماذج، جد قديمة، لها علاقة بالحروف التي اكتُشِفَتْ، في جنوبي الجزيرة العربية" ([27]).
يقول أيضًا:"بين حروف « تيفيناغ »، القديمة منها والتواركَية، وبين حروف الحميريين، شَبَه ملحوظ في الأشكال، لكنها لا تتقابل في تأدِية الأصوات، إلا في حالتيْن اثنتيْن، بتجاوُز في التدقيق" ([28]).
ويؤكِّد المؤرِّخون، أن مدينة سوسة بتونس، بناها العرب القادمونَ من جنوبِ الجزيرة العربية، قبل أربعة آلاف سنة، وأعطوها اسم (حضرموت). وتوجد أسماء باليمن متطابِقة مع أسماء لقبائل بربريَّة، كالأشلوح؛ اسم قرية، وقبيلة باليمن، والشلوح تجمُّع كبير للقبائل البربرية بالمغرب الأقصى. والأكنوس، عشيرة من بني مهاجر باليمن، ومكناسة بالمغرب([29]).
يشير "عبد الوهاب بن منصور"، عضو أكاديميَّة المملكة المغربيَّة، في دراسته القيِّمة "دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل بربرية"، إلى أن العلماء المحدِّثين، عندما أخضعوا أصل البربر، أو أصولهم للمقاييس العلميَّة الخاصة بهم، كَلَون البشرة، ونوع الشَعر، وشكل الجمجمة، وبنية الجسم، مضافة إليها اللُغة، والموسيقا، والمعمار، والعادات، والمعتقدات، وجدوا بيْن بعض قبائل البربر، وقبائل العرب، في اليمن، وحضرموت، شبهاً كبيراً، مالوا معه إلى تصديق ما يروِيه كثير من نسّابة العرب، والبربر، ومؤرِّخيهم، عن عُروبة الأرومة البربرية، فشكْل الإنسان في بعض القبائل البربرية، شديد الشبه بشكْل الإنسان العربي، في اليمن، وحضرموت؛ كما أن الشبَه قوي بين اللهجات البربرية، وبين اللغة العربية، من حيث الاشتقاق، وتصريف الكلمات، ووجود حروف الحلْق مجتمعة، وهي لا تجتمِع إلا في اللُغات الساميَّة [الجزريَّة]، ويشتد على الخصوص بين اللهجات البربرية، وبين لغة المهرة، في غرب سلطنة عُمان.
ومثل هذا التشابه يوجد، أيضًا، في الموسيقا، فالرنّات، والألحان، في موسيقا الجنوبي العربي، وأغانيه، وكذلك التصفيق الرتيب، الُمصاحب بأيدي، تشبه كلها الرنّات، والألحان، في موسيقا، وأغاني القبائل البربرية، بالجنوب المغربي، وكذلك طريقه الأداء، والإنشاد، وقد دَرس كل ذلك، العالِم الألماني، "كارل ولهم لخمان" (1793ـ1851 )، دراسة مُستفيضة، والموسيقار النمساوي، "فون هورن جوستل" (1877ـ1935)، وتَفطَّنَ له الرحّالة الألماني، "هانز هولفريتز"، وأشار إليه بإسهاب، في كتابه الموسوم اليمن من الباب الخلْفي.
ولكن الذي لفت نظر الباحثين، والدارسين الُمعاصرين، الذين يعتمدون على الأدِلَّة العلميَّة، والمقاييس العقليَّة، واستدلّوا به على عروبة بعض قبائل البربر، في شمال أفريقيا، هو تشابُه المعمار اليمني، والمعمار البربري، وتطبيقها؛ فقد قارنو بين المباني العالِيَة، الموجودة في جنوب الجزيرة العربية ،وبين المباني العالية في قلب الحضارة البربرية، بأعالي جبال الأطلس، فلم يجدوا بينهما فرقاً؛ فالمباني في الجهتيْن معاً، تَحمل المظاهر المعماريَّة، والسمَّات الهندسيَّة نفسها؛ كالنتوءات، والأنابيب الخشبيَّة، لصرف مياه الأمطار، والكوات، والثقوب؛ حتى إنك لو سَكنت، برهة من الزمان، قلعة من قِلاع جبال تعُز، وصعدة، أو صرحاً شامخاً من صروحها؛ ثم انتقلت فجأة إلى قلعة من قِلاع أمزميز، وتلوات، بجبال الأطلس الكبير، بالمملكة المغربية؛ لتخيَّلْت أنك لا تزال في مسكنك الأول؛ الشيء الذي يؤكِّد الاعتقاد بصِحَّة ما يُردِّدهُ كثير من مؤرِّخي العرب، والبربر، ونسّابيهم، من انحدار البربر، أو بعض من قبائلهم من أرحام يمنيَّة!([30]).
([1]) مجلَّة دراسات يمنيَّة (صنعاء)، عبد الوهاب بن منصور، دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل
بربرية، العدد الثامن والثلاثون، مجلَّة فصليَّة تصدر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، أكتوبر
ـ نوفمبر ـ ديسمبر، 1989، ص (115-116).
([2]) (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ ابن خلدون، المُجلَّد السادس، الجزء الثاني، مصر،
مطبعة بولاق، بدون تاريخ نشر، ص51.
(*) هنا خطأ تاريخي قصد منه منطقة يمانية، يراجع (الدبش) أحمد، كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة
العرب، ط1، دمشق، خطوات للنشر والتوزيع، 2006.
([3]) (الحميري) نشوان، خلاصة السيرة الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة،تحقيق: علي بن اسماعيل
المؤيد واسماعيل بن احمد الجرافي، ط2، بيروت، دار العودة، 1978، ص71.
([4]) (ابن عبد الحكم) عبد الرحمن بن عبد الله، فتوح مصر والمغرب، الجزء الأول، تحقيق: عبد المنعم
عامر، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1999، ص229.
([5]) (الذَهَبي) شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، الجزء الثامن عشر، تحقيق:
مجموعة محققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، بدون بلد نشر، مؤسسة الرسالة، ص429.
([6]) المصدر نفسه، ص429.
([7]) (الزَّبيدي) محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني أبو الفيض، تاج العروس من جواهر القاموس،
الجزء الأول،تحقيق: مجموعة من المحقِّقين، بدون بلد نشر، دار الهداية، ص(2502-2503).
([8]) (اليعقوبي) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ اليعقوبي، موقع الوراق:http://www.alwarraq.com
([9]) (بن خلكان) أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان وأنباء الزمان،
الجزء السابع، تحقيق: إحسان عباس، بدون بلد نشر، دار الثقافة، 1968، ص 128.
([10]) القلقشندى، قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، نسخة مصوَّرة، بدون بلد نشر،
بدون دار نشر.
([11]) (الهمداني) الحسن بن أحمد بن يعقوب، الأكليل، الجزء الثاني، تحقيق: محمد بن على الأكوع
الحوالي، ط 3، بيروت، منشورات المدينة، 1986، ص94.
([12]) (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار الجيل،
بدون تاريخ نشر، ص106.
([13]) (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ ابن خلدون، الجزء الرابع، مصر، مطبعة بولاق،
بدون تاريخ نشر، ص164.
([14]) (السعدى) عثمان، البربر الامازيغ عرب عاربة، ط2، طرابلس ــ ليبيا، شُعبة التثقيف والتعبئة
والإعلام، ص28.
([15]) (ياغي) عبد الرحمن، حياة القيروان، بدون بلد نشر، بدون دار نشر، بدون تاريخ نشر، ص13.
([16]) (لانغر) وليم، موسوعة تاريخ العالم، الجزء الأول، ترجمة:د. محمد مصطفي زيادة، القاهرة، مكتبة
النهضة المصرية، 1962، ص (25-26).
([17]) تاريخ ابن خلدون، مصدر سبق ذكره، ص 177.
([18]) المصدر نفسه،ص 192.
([19]) المصدر نفسه،ص (184-185).
([20]) (تيزينيي) د. طيب، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة , الجزء
الثاني ,الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، ط1، دمشق، دار دمشق، 1982، ص67.
([21])Encyclopeadia Universalis, T1, P633 .
([22]) Rene Basset: Les Influences Puniques chez les Berberes, Revue Africaine, V.62 (1921), p.340.
([23]) P. Cintas: Ceramiques Puniques, Paris 1950. Revue Africaine, Vol. 100, 1956
([24]) (ج. كامب)، البربر الذاكرة والهوية، ترجمة: جاد الله عزوز الطلحي، طرابلس ـ ليبيا، مركز جهاد
الليبيين للدراسات التاريخية، 2005، ص (51-52).
([25]) E. Renan: Histoire Generale des Langues Semitiques 7eme edition, p.199.
([26]) (شفيق) محمد، ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ الأمازيغيين، الرباط، بدون دار نشر،
1989، ص (20-21).
([27]) ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ الأمازيغيين، مصدر سبق ذكره، ص 65.
([28]) المصدر نفسه، ص 21.
([29]) لمزيد من التفاصيل عن تطابق الاسماء اليمنية مع القبائل البربرية، يراجَع (النوايسة) أديب، المعجم
الشامل للقبائل العربية والأمازيغية، ثلاثة أجزاء، ط1، عَمّان، دار كنوز المعرفة، 2007.
([30]) مجلة دراسات يمنيَّة (صنعاء)، مجلَّة فصلية تَصدُر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، عبد
الوهاب بن منصور، دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل بربريَّة، العدد الثامن والثلاثون، أكتوبر ـ
نوفمبر ـ ديسمبر، 1989، ص (115-116).
(*) هنا خطأ تاريخي قصد منه منطقة يمانية، يراجع (الدبش) أحمد، كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة
العرب، ط1، دمشق، خطوات للنشر والتوزيع، 2006.
([3]) (الحميري) نشوان، خلاصة السيرة الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة،تحقيق: علي بن اسماعيل
المؤيد واسماعيل بن احمد الجرافي، ط2، بيروت، دار العودة، 1978، ص71.
([4]) (ابن عبد الحكم) عبد الرحمن بن عبد الله، فتوح مصر والمغرب، الجزء الأول، تحقيق: عبد المنعم
عامر، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1999، ص229.
([5]) (الذَهَبي) شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء، الجزء الثامن عشر، تحقيق:
مجموعة محققين بإشراف شعيب الأرناؤوط، بدون بلد نشر، مؤسسة الرسالة، ص429.
([6]) المصدر نفسه، ص429.
([7]) (الزَّبيدي) محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني أبو الفيض، تاج العروس من جواهر القاموس،
الجزء الأول،تحقيق: مجموعة من المحقِّقين، بدون بلد نشر، دار الهداية، ص(2502-2503).
([8]) (اليعقوبي) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ اليعقوبي، موقع الوراق:http://www.alwarraq.com
([9]) (بن خلكان) أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان وأنباء الزمان،
الجزء السابع، تحقيق: إحسان عباس، بدون بلد نشر، دار الثقافة، 1968، ص 128.
([10]) القلقشندى، قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، نسخة مصوَّرة، بدون بلد نشر،
بدون دار نشر.
([11]) (الهمداني) الحسن بن أحمد بن يعقوب، الأكليل، الجزء الثاني، تحقيق: محمد بن على الأكوع
الحوالي، ط 3، بيروت، منشورات المدينة، 1986، ص94.
([12]) (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار الجيل،
بدون تاريخ نشر، ص106.
([13]) (ابن خلدون) عبد الرحمن بن محمد، تاريخ ابن خلدون، الجزء الرابع، مصر، مطبعة بولاق،
بدون تاريخ نشر، ص164.
([14]) (السعدى) عثمان، البربر الامازيغ عرب عاربة، ط2، طرابلس ــ ليبيا، شُعبة التثقيف والتعبئة
والإعلام، ص28.
([15]) (ياغي) عبد الرحمن، حياة القيروان، بدون بلد نشر، بدون دار نشر، بدون تاريخ نشر، ص13.
([16]) (لانغر) وليم، موسوعة تاريخ العالم، الجزء الأول، ترجمة:د. محمد مصطفي زيادة، القاهرة، مكتبة
النهضة المصرية، 1962، ص (25-26).
([17]) تاريخ ابن خلدون، مصدر سبق ذكره، ص 177.
([18]) المصدر نفسه،ص 192.
([19]) المصدر نفسه،ص (184-185).
([20]) (تيزينيي) د. طيب، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة , الجزء
الثاني ,الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى، ط1، دمشق، دار دمشق، 1982، ص67.
([21])Encyclopeadia Universalis, T1, P633 .
([22]) Rene Basset: Les Influences Puniques chez les Berberes, Revue Africaine, V.62 (1921), p.340.
([23]) P. Cintas: Ceramiques Puniques, Paris 1950. Revue Africaine, Vol. 100, 1956
([24]) (ج. كامب)، البربر الذاكرة والهوية، ترجمة: جاد الله عزوز الطلحي، طرابلس ـ ليبيا، مركز جهاد
الليبيين للدراسات التاريخية، 2005، ص (51-52).
([25]) E. Renan: Histoire Generale des Langues Semitiques 7eme edition, p.199.
([26]) (شفيق) محمد، ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ الأمازيغيين، الرباط، بدون دار نشر،
1989، ص (20-21).
([27]) ثلاثة وثلاثين قرناً من تاريخ الأمازيغيين، مصدر سبق ذكره، ص 65.
([28]) المصدر نفسه، ص 21.
([29]) لمزيد من التفاصيل عن تطابق الاسماء اليمنية مع القبائل البربرية، يراجَع (النوايسة) أديب، المعجم
الشامل للقبائل العربية والأمازيغية، ثلاثة أجزاء، ط1، عَمّان، دار كنوز المعرفة، 2007.
([30]) مجلة دراسات يمنيَّة (صنعاء)، مجلَّة فصلية تَصدُر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني، عبد
الوهاب بن منصور، دلالة المعمار اليمني على عروبة قبائل بربريَّة، العدد الثامن والثلاثون، أكتوبر ـ
نوفمبر ـ ديسمبر، 1989، ص (115-116).
#مأرب
- عصام السفياني -
مأرب..أريـج التاريـــخ ..زهـرة الجغـرافيا
مخاوفي التي راودتني كثيرا أثناء توجهي إلى مأرب تبددت مجرد مضي يوم واحد في هذه المدينة التاريخية العظيمة..ورغم تمنطق الجميع هناك سواء كانوا صغاراً أو كباراً بالسلاح فإن ارتداء السلاح ليس أكثر من مجرد زينة ألفها اليمنيون منذ عصور سحيقة وإن كانت هناك حوادث أو نزاعات لتحدث في هذه المحافظة إلا أن الآونة الأخيرة شهدت صحوة ملحوظة في كيفية استخدام السلاح وفيما يستخدم.
فالقبائل وقعت ميثاق شرف فيما بينها حيث تتولى كل قبلية حماية ما يقابلها من طريق ومساحات صحراوية لحماية المسافرين والغرباء وأصحاب المصالح التجارية وهي تقوم بدور مهم يسند دور رجال الأمن في المحافظة وأجمل ما قامت به القبائل مؤخراً هو اتفاقها على إعلان الحرب على موردي المخدرات الذين يستخدمون مأرب كطريق عبور للمخدرات إلى أماكن أخرى وقد أثمر هذا الاتفاق عن مصادرة كميات كبيرة من الحشيش والمخدرات تفوق كمياتها ثلاثة طن خلال شهر واحد إضافة إلى قتل أحد أكبر موردي المخدرات في اليمن وهو المهرب السعودي (أبو أس) بعد أن أقدم على قتل نجل أحد مشائخ مأرب أثناء مطاردته له في الصحراء.
كما أن التعليم شهد نمواً في المحافظة حسب مدير مكتب التربية حيث أكد أن الفتاة الماربية تمثل 45% من إجمالي الملتحقين بالتعليم في المحافظة وهذا رقما لم يكن في الماضي إلا ضربا من أحلام اليقضة.
أثناء مقيل جمعني بالعديد من الشخصيات الاجتماعية والمسؤولين في منزل مدير مكتب التربية بمأرب استطعت الخروج بانطباع جيد عن مستوى الوعي الذي وصلت إليه المحافظة وبنيها في معالجة العديد من القضايا الهامة ويكفي أن نشير هنا إلى أن الجهات المختصة بالتنسيق مع مشائخ المحافظة استطاعت القضاء على ظاهرة الغش المنظم في المحافظة في امتحانات الثانوية والإعدادية.
بعد قضاء ليلة ونصف نهار ومأرب كان على في الصباح التوجه إلى سد مأرب العظيم مفخرة السبئيين ومعجزتهم التاريخية وتذكرت أسطورة الفأر الذي هدم سد مأرب وشرد قبائلها في جميع أنحاء الجزيرة العربية وحكاية بلقيس مع سليمان وغيرها من الأشياء التي دونها التاريخ والقرآن عن مأرب ومملكة سبأ المزارع المنتشرة في مأرب تؤكد بوضوح أن الجنتان التي حكى القرآن الكريم عنها في مملكة سبأ كانت ثمرة لعبقرية الإنسان اليمني وثراء الطبيعية
يقع سد مأرب إلى الغرب من مدينة مأرب القديمة ويبعد عنها نحو (8 كيلو مترات) شيد سد مأرب الذي كانت تطلق عليه النقوش مصطلح (ع ر م) على وادي أذنه الكبير بين مأزمي الجبلين البلق الشمالي والبلق الأوسط وسلسلة جبال البلق وهي التي تؤلف الحاجز الأخير للمرتفعات الشرقية قبل أن تلتقي بالصحراء، والصحراء المعنية هي ذلك الجزء من فلاة اليمن أو جزر اليمن الشرقي- الذي يمتد بين مأرب وشبوه، وتصب فيه معظم أودية الشرق ويسميه الجغرافيون العرب بمفازة صيهد ويطلق عليها حالياً- اسم رملة السبعتين وبين مأزمي جبلي البلق الشمالي والبلق الأوسط يضيق وادي أذنه بحيث يكون موقعا طبيعيا يصلح لإقامة سد وتتسع منطقة التجمع في أعلى المضيق بحيث تبدو وكأنها حوض مثالي لاحتواء المياه- ووادي أذنه- (أذ ن ت) في النقوش- هو أعظم أودية اليمن وميزابه الشرقي، وتشمل روافده أكبر مساحة بين روافد أودية اليمن الأخرى.
- تاريخ بناء السد واندثاره:
يعود تاريخ بناء السد إلى القرنين السابع والثامن قبل الميلاد كأدنى تاريخ معروف وذلك بناء على ورود اسم أحد مكاربة القرن السابع قبل الميلاد في نقش مثبت على مبنى المصرف الجنوبي وهذا المكرب هو (يثع أمر بين بن سمه علي ) وقد تعرض هذا السد للتدمير عدة مرات بسبب تراكم الترسبات الطمثية في حوضه ذكرت النقوش أربع منها الأولى في عهد الملك (ذمار علي ذرح بن كرب إل وتر) الذي حكم في الربع الأخير من القرن الأول الميلادي، والمرة الثانية في عهد "شرحب إل يعفر بن إل كرب أسعد) الذي حكم في منتصف القرن الخامس الميلادي والمرة الثالثة والرابعة كانت في عهد أبرهة الحبشي في سنة (552) ميلادية.
والآن لم يبق من آثار السد القديم سوى بعض معالم لجدار السد أو السد نفسه ومباني المصرفين الكبيرين اللذين كانت تخرج بواسطتهما المياه من جانبي السد أو الصدفين الشمالي والجنوبي إضافة إلى القناتين الرئيسيتين اللتين كانتا تربطان المصرفين بالجنتين- ومقاسم المياه في الجنتين- الأراضي الزراعية الشمالية والجنوبية – وهي سدود تحويلية صغيرة تقسم المياه التي تصلها من القناتين الرئيسيتين:
في عام 1984م أعلن عن إعادة بناء سد مأرب وقام رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح والشيخ زايد بن سلطان بوضع حجر الأساس لبناء سد مأرب الجديد في منطقة السد الجديد حالياً والذي يقع على بعد ثلاثة كيلو مترات من السد القديم وتم افتتاح السد الجديد عام 1986م من قبل فخامة الرئيس علي عبدالله صالح والشيخ زايد بن سلطان.
- عصام السفياني -
مأرب..أريـج التاريـــخ ..زهـرة الجغـرافيا
مخاوفي التي راودتني كثيرا أثناء توجهي إلى مأرب تبددت مجرد مضي يوم واحد في هذه المدينة التاريخية العظيمة..ورغم تمنطق الجميع هناك سواء كانوا صغاراً أو كباراً بالسلاح فإن ارتداء السلاح ليس أكثر من مجرد زينة ألفها اليمنيون منذ عصور سحيقة وإن كانت هناك حوادث أو نزاعات لتحدث في هذه المحافظة إلا أن الآونة الأخيرة شهدت صحوة ملحوظة في كيفية استخدام السلاح وفيما يستخدم.
فالقبائل وقعت ميثاق شرف فيما بينها حيث تتولى كل قبلية حماية ما يقابلها من طريق ومساحات صحراوية لحماية المسافرين والغرباء وأصحاب المصالح التجارية وهي تقوم بدور مهم يسند دور رجال الأمن في المحافظة وأجمل ما قامت به القبائل مؤخراً هو اتفاقها على إعلان الحرب على موردي المخدرات الذين يستخدمون مأرب كطريق عبور للمخدرات إلى أماكن أخرى وقد أثمر هذا الاتفاق عن مصادرة كميات كبيرة من الحشيش والمخدرات تفوق كمياتها ثلاثة طن خلال شهر واحد إضافة إلى قتل أحد أكبر موردي المخدرات في اليمن وهو المهرب السعودي (أبو أس) بعد أن أقدم على قتل نجل أحد مشائخ مأرب أثناء مطاردته له في الصحراء.
كما أن التعليم شهد نمواً في المحافظة حسب مدير مكتب التربية حيث أكد أن الفتاة الماربية تمثل 45% من إجمالي الملتحقين بالتعليم في المحافظة وهذا رقما لم يكن في الماضي إلا ضربا من أحلام اليقضة.
أثناء مقيل جمعني بالعديد من الشخصيات الاجتماعية والمسؤولين في منزل مدير مكتب التربية بمأرب استطعت الخروج بانطباع جيد عن مستوى الوعي الذي وصلت إليه المحافظة وبنيها في معالجة العديد من القضايا الهامة ويكفي أن نشير هنا إلى أن الجهات المختصة بالتنسيق مع مشائخ المحافظة استطاعت القضاء على ظاهرة الغش المنظم في المحافظة في امتحانات الثانوية والإعدادية.
بعد قضاء ليلة ونصف نهار ومأرب كان على في الصباح التوجه إلى سد مأرب العظيم مفخرة السبئيين ومعجزتهم التاريخية وتذكرت أسطورة الفأر الذي هدم سد مأرب وشرد قبائلها في جميع أنحاء الجزيرة العربية وحكاية بلقيس مع سليمان وغيرها من الأشياء التي دونها التاريخ والقرآن عن مأرب ومملكة سبأ المزارع المنتشرة في مأرب تؤكد بوضوح أن الجنتان التي حكى القرآن الكريم عنها في مملكة سبأ كانت ثمرة لعبقرية الإنسان اليمني وثراء الطبيعية
يقع سد مأرب إلى الغرب من مدينة مأرب القديمة ويبعد عنها نحو (8 كيلو مترات) شيد سد مأرب الذي كانت تطلق عليه النقوش مصطلح (ع ر م) على وادي أذنه الكبير بين مأزمي الجبلين البلق الشمالي والبلق الأوسط وسلسلة جبال البلق وهي التي تؤلف الحاجز الأخير للمرتفعات الشرقية قبل أن تلتقي بالصحراء، والصحراء المعنية هي ذلك الجزء من فلاة اليمن أو جزر اليمن الشرقي- الذي يمتد بين مأرب وشبوه، وتصب فيه معظم أودية الشرق ويسميه الجغرافيون العرب بمفازة صيهد ويطلق عليها حالياً- اسم رملة السبعتين وبين مأزمي جبلي البلق الشمالي والبلق الأوسط يضيق وادي أذنه بحيث يكون موقعا طبيعيا يصلح لإقامة سد وتتسع منطقة التجمع في أعلى المضيق بحيث تبدو وكأنها حوض مثالي لاحتواء المياه- ووادي أذنه- (أذ ن ت) في النقوش- هو أعظم أودية اليمن وميزابه الشرقي، وتشمل روافده أكبر مساحة بين روافد أودية اليمن الأخرى.
- تاريخ بناء السد واندثاره:
يعود تاريخ بناء السد إلى القرنين السابع والثامن قبل الميلاد كأدنى تاريخ معروف وذلك بناء على ورود اسم أحد مكاربة القرن السابع قبل الميلاد في نقش مثبت على مبنى المصرف الجنوبي وهذا المكرب هو (يثع أمر بين بن سمه علي ) وقد تعرض هذا السد للتدمير عدة مرات بسبب تراكم الترسبات الطمثية في حوضه ذكرت النقوش أربع منها الأولى في عهد الملك (ذمار علي ذرح بن كرب إل وتر) الذي حكم في الربع الأخير من القرن الأول الميلادي، والمرة الثانية في عهد "شرحب إل يعفر بن إل كرب أسعد) الذي حكم في منتصف القرن الخامس الميلادي والمرة الثالثة والرابعة كانت في عهد أبرهة الحبشي في سنة (552) ميلادية.
والآن لم يبق من آثار السد القديم سوى بعض معالم لجدار السد أو السد نفسه ومباني المصرفين الكبيرين اللذين كانت تخرج بواسطتهما المياه من جانبي السد أو الصدفين الشمالي والجنوبي إضافة إلى القناتين الرئيسيتين اللتين كانتا تربطان المصرفين بالجنتين- ومقاسم المياه في الجنتين- الأراضي الزراعية الشمالية والجنوبية – وهي سدود تحويلية صغيرة تقسم المياه التي تصلها من القناتين الرئيسيتين:
في عام 1984م أعلن عن إعادة بناء سد مأرب وقام رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح والشيخ زايد بن سلطان بوضع حجر الأساس لبناء سد مأرب الجديد في منطقة السد الجديد حالياً والذي يقع على بعد ثلاثة كيلو مترات من السد القديم وتم افتتاح السد الجديد عام 1986م من قبل فخامة الرئيس علي عبدالله صالح والشيخ زايد بن سلطان.
بعدها توجهت إلى معبد برآن "عرش بلقيس الذي يقع على بعد 4 كيلو مترات إلى الجنوب الغربي من مأرب القديمة وإلى الشمال الغربي من محرم بلقيس على بعد 1 كيلو متر. وتتجلى للزائر في هذا المعبد عظمة الإنسان اليمني وقدرته على تطويع الطبيعة وفق رغبته، بناء المعبد تم بطريقة هندسية فريدة وتدل على المستوى الحضاري الراقي الذي وصل إليه الإنسان اليمني في عهد المملكة السبئية ويعتبر هذا المعبد أحد أهم معابد مملكة سبأ التي بنيت للإله (المقه) وتعود أهميته باعتباره المعبد الوحيد الذي أجريت فيه تنقيبات أثرية منهجية كاملة على أساس علمي ويعود تاريخ أقدم المراحل المعمارية فيه إلى عصر المكربين وبداية "القرن السادس ق.م".
ويطلق على هذا المعبد في النقوش اليمنية القديمة اسم (برآن) عثر على هذا الاسم على أحد أعمدة المعبد وقد أشتق أصحاب المعجم السبئي كلمة برآن من الجذر الثلاثي (برأ) مهموز الأخر بحذف النون وهي بمعنى شاد أو بين أو بدى وتدل ايضا على (الإبراء) أي التخلص من الذنوب أو الأمراض وتتقدم منصة المعبد ستة أعمدة من الحجر مستطيلة لاشكل قطع كل منها من حجر واحد وتوجد خلف هذه الأعمدة بقايا قواعد أربعة أعمدة موازية للأعمدة الأربعة الوسطى من أعمدة الصف الأمامي السنة..
ويقف الزائر لهذه الأعمدة مبهوراً أمام مشهد لا يقل روعة عن فنتازيا الخيال العلمي. فكيف استطاع السبئيون تقطيع هذه الأحجار التي يزيد طول العمود فيها عن أربعة أمتار وماهي الآلات التي تم استخدامها في عملية التقطيع وكيف نقلت من الجبال إلى بطن الوادي أسئلة كثيرة تتردد في ذهن من يشاهد هذا الإبداع العظيم كما أن أحجار الرخام المرصوصة على الحافة الداخلية للمعبد تبدو هي ايضا أكثر تألقا وجمالا حين تسقط عليها أشعة الشمس وترسم في تجويف هذه الأحجار ألوان بديعة وكأنها مصابيح كهربائية ملونة حينها لا يلبث الزائر لهذه الأماكن في مارب إلا أن يحني رأسه إجلالاً لمن رسموا بأناملهم لوحة رائعة على جدار التاريخ.
محرم بلقيس
ويقع هذه المعبد إلى الجنوب من مأرب القديمة على الضفة الجنوبية لوادي أذنه وهو بناء كبير وضخم تغطى الرمال معظم أجزاءه وتشير النقوش إلى أن تاريخ بناء المعبد يعود إلى عهد المكرب السبئي (يدع إل ذرح بن سمة علي) الذي حكم في القرن الثامن قبل الميلاد ولم تفلح جهودي في إقناع حارس المعبد بالسماح لي بمعاينة المعبد عن قرب والذي أوضح لي بأنه لا يفتح لأي زائر مهما كان واكتفيت بالدوران على المعبد والتقاط صورة له من زاوية بعيدة.
وفي عامي 51-1952م أجرت المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان تنقيبات جزئية في ساحة مبنى المعبد وكشفت تلك التنقيبات عن مخطط المعبد ويتكون المعبد من سور بيضاوي الشكل تقدر أبعاد المنطقة الواقعة داخله (100× 75 متراً) وسمك جدار السور ما بين (3.90 متراً إلى 4.30 متراً ويوجد في الجهة الغربية منه فتحه في بناء السور اتساعها 88 سم وهذه الفتحة بمثابة باب في تلك الجهة بينما المدخل الرئيسي للمعبد في الجهة الشمالية الشرقية يتقدمه صف من ثمانية أعمدة حجرية يبلغ ارتفاعها ما بين 4.65- 5.30م)
مأرب القديمة
في هذه المدينة التي أوشكت على السقوط بكاملها ولم يعد يبقى منها إلا القليل من المنازل الترابية يستنشق الزائد لها عبق التاريخ اليمني العريق وحضارة شعب بالأمس كان غير أن إهمال هذه المدينة من قبل الجهات المختصة يبعث على الأسى في النفس.
وتقع مأرب القديمة إلى الجنوب من مأرب الجديدة ويوجد بها مسجد سليمان الذي تدل النقوش على أنه بنى في عام 467 للهجرة ويحتوي المسجد على 52 عمودا حجريا يزيد طول الواحد منها عن 4 أمتار وتوضح تفاصيل المسجد أن المسجد كان معبدا قديما من عهد الدولة السبئية نظراً لتشابه النمط الهندسي لبناءه مع المعابد السبئية الأخرى وكذلك سقفه المهني من الأخشاب وواجهته القبلية التي تدل بوضوح على أن المسجد طرأ عليه بعض التجديد ويلف المدينة سور قديم متهالك كان يستخدم كمصد للغزاة كما ذكرت النقوش.
بعد قضاء 3 ساعات على متن السيارة التي اقلتني من صنعاء باتجاه الشرق قاطعاً 173 كيلو مترا إلى مأرب وقضاء ثلاثة أيام في هذه المدينة العريقة هانئذ أرجع صنعاء وفي النفس شجون وهو لا يذوي فقد عشقت هذه المدينة وطريقة عيش أهلها من أعماقي وتمنيت لو أكون أحد قاطنيها رغم قساوة الطبيعة فيها أحيانا وروعتها حينا آخر نظرا لتحكم المناخ في حرارة الجو وبرودته.
لكن حضارة السبئيين وإبداعهم يجب أن نقف لهم إجلالا ونطأطئ الرؤوس احتراما لهم ونحمي ما تبقى من آثارهم الخالدة في سفر التاريخ
ويطلق على هذا المعبد في النقوش اليمنية القديمة اسم (برآن) عثر على هذا الاسم على أحد أعمدة المعبد وقد أشتق أصحاب المعجم السبئي كلمة برآن من الجذر الثلاثي (برأ) مهموز الأخر بحذف النون وهي بمعنى شاد أو بين أو بدى وتدل ايضا على (الإبراء) أي التخلص من الذنوب أو الأمراض وتتقدم منصة المعبد ستة أعمدة من الحجر مستطيلة لاشكل قطع كل منها من حجر واحد وتوجد خلف هذه الأعمدة بقايا قواعد أربعة أعمدة موازية للأعمدة الأربعة الوسطى من أعمدة الصف الأمامي السنة..
ويقف الزائر لهذه الأعمدة مبهوراً أمام مشهد لا يقل روعة عن فنتازيا الخيال العلمي. فكيف استطاع السبئيون تقطيع هذه الأحجار التي يزيد طول العمود فيها عن أربعة أمتار وماهي الآلات التي تم استخدامها في عملية التقطيع وكيف نقلت من الجبال إلى بطن الوادي أسئلة كثيرة تتردد في ذهن من يشاهد هذا الإبداع العظيم كما أن أحجار الرخام المرصوصة على الحافة الداخلية للمعبد تبدو هي ايضا أكثر تألقا وجمالا حين تسقط عليها أشعة الشمس وترسم في تجويف هذه الأحجار ألوان بديعة وكأنها مصابيح كهربائية ملونة حينها لا يلبث الزائر لهذه الأماكن في مارب إلا أن يحني رأسه إجلالاً لمن رسموا بأناملهم لوحة رائعة على جدار التاريخ.
محرم بلقيس
ويقع هذه المعبد إلى الجنوب من مأرب القديمة على الضفة الجنوبية لوادي أذنه وهو بناء كبير وضخم تغطى الرمال معظم أجزاءه وتشير النقوش إلى أن تاريخ بناء المعبد يعود إلى عهد المكرب السبئي (يدع إل ذرح بن سمة علي) الذي حكم في القرن الثامن قبل الميلاد ولم تفلح جهودي في إقناع حارس المعبد بالسماح لي بمعاينة المعبد عن قرب والذي أوضح لي بأنه لا يفتح لأي زائر مهما كان واكتفيت بالدوران على المعبد والتقاط صورة له من زاوية بعيدة.
وفي عامي 51-1952م أجرت المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان تنقيبات جزئية في ساحة مبنى المعبد وكشفت تلك التنقيبات عن مخطط المعبد ويتكون المعبد من سور بيضاوي الشكل تقدر أبعاد المنطقة الواقعة داخله (100× 75 متراً) وسمك جدار السور ما بين (3.90 متراً إلى 4.30 متراً ويوجد في الجهة الغربية منه فتحه في بناء السور اتساعها 88 سم وهذه الفتحة بمثابة باب في تلك الجهة بينما المدخل الرئيسي للمعبد في الجهة الشمالية الشرقية يتقدمه صف من ثمانية أعمدة حجرية يبلغ ارتفاعها ما بين 4.65- 5.30م)
مأرب القديمة
في هذه المدينة التي أوشكت على السقوط بكاملها ولم يعد يبقى منها إلا القليل من المنازل الترابية يستنشق الزائد لها عبق التاريخ اليمني العريق وحضارة شعب بالأمس كان غير أن إهمال هذه المدينة من قبل الجهات المختصة يبعث على الأسى في النفس.
وتقع مأرب القديمة إلى الجنوب من مأرب الجديدة ويوجد بها مسجد سليمان الذي تدل النقوش على أنه بنى في عام 467 للهجرة ويحتوي المسجد على 52 عمودا حجريا يزيد طول الواحد منها عن 4 أمتار وتوضح تفاصيل المسجد أن المسجد كان معبدا قديما من عهد الدولة السبئية نظراً لتشابه النمط الهندسي لبناءه مع المعابد السبئية الأخرى وكذلك سقفه المهني من الأخشاب وواجهته القبلية التي تدل بوضوح على أن المسجد طرأ عليه بعض التجديد ويلف المدينة سور قديم متهالك كان يستخدم كمصد للغزاة كما ذكرت النقوش.
بعد قضاء 3 ساعات على متن السيارة التي اقلتني من صنعاء باتجاه الشرق قاطعاً 173 كيلو مترا إلى مأرب وقضاء ثلاثة أيام في هذه المدينة العريقة هانئذ أرجع صنعاء وفي النفس شجون وهو لا يذوي فقد عشقت هذه المدينة وطريقة عيش أهلها من أعماقي وتمنيت لو أكون أحد قاطنيها رغم قساوة الطبيعة فيها أحيانا وروعتها حينا آخر نظرا لتحكم المناخ في حرارة الجو وبرودته.
لكن حضارة السبئيين وإبداعهم يجب أن نقف لهم إجلالا ونطأطئ الرؤوس احتراما لهم ونحمي ما تبقى من آثارهم الخالدة في سفر التاريخ
مأرب.. تاريخ من الرفض
إنها مأرب، فاتحة المجد، وذروته، وأصل العهد، وصدقه، وزهرة الوصل، ورونقه، وروح اليمن، وقلبه النابض بالوطنية والحب، تصدرت بعد قرون من التيه والشتات المشهد، واستعادت مجدها الحضاري، وسجلت حضورها الزاهي، وقاومت التوغل الإمامي، وأعلنت ميلاد جمهوريتنا الثانية، الجمهورية التي بدونها ننتهي، وبها، وبمأرب – مبتدأ الحضارة ومنتهاها -أشهرنا ميلادنا الثاني.
القارئ لتاريخ مأرب الإسلامي، والحديث، والمعاصر، يجد أنَّها – وبسبب طبيعتها الصحراوية القاسية، وقلة عدد سكانها؛ كانت مُنفصلة عن مسارات أحداث اليمن المُتتابعة، وبعيدة عن تأثير الحكومات المركزية، ولم يأتِ المُؤرخون على ذكرها إلا لمامًا، حاولنا لم شتات ما ذكروه، وما حفظته الذاكرة الشفهية أيضاً، ونشر ذلك اختزالًا، خاصة ذلك المُتعلق بعلاقة أرض سبأ بدولة «الإمامة الزيدية»، وهي بمجملها صفحات مُشرفة، مليئة بالتمرد والرفض.
انتهت بتهدم سد مأرب «مملكة سبأ» العريقة «115ق.م»، وحضارتها الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وأعماق الأرض أيضاً، لتبدأ بعد ذلك سنوات – بل قرون – التيه والشتات، وقالت العرب في الأمثال: «تفرق أيدي سبأ، وأيادي سبأ»، وقال «الطبري» في تفسيره: «فغسان لحقوا بالشام، والأنصار بيثرب، وخزاعة لحقوا بتهامة، والأزد لحقوا بعُمان»، وقال آخرون أنْ الهجرات اليمنية وصلت إلى دول شمال أفريقيا.
كان انهيار سد مأرب – حسب توصيف عبدالله البردوني – فاصلًا بين الحضارة والا حضارة؛ وبين الاستقرار والهجرة، مُشيرًا إلى وجود عشرات الحلقات المفقودة من التاريخ اليمني – بين هذه الحالة الاستثنائية وتلك؛ وذلك لغياب الأحداث التي تفرض نفسها على الكتابة والتدوين، صار ذكر مأرب – تبعًا لذلك – محدودًا للغاية، وجاء وصفها في كتب الرحالة والمُؤرخين بالصحراء القاحلة، محدودة السكان، مصداقًا لقوله تعالى: «وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ».
أثناء غَوصي في صفحات تاريخ اليمن الإسلامي، وتاريخ «الإمامة الزيدية» تحديدًا، لم أجد لمأرب ذكر إلا في مواضع محدودة، وهي بمجملها أحداث مبتورة، غير مُكتملة المعنى، صحيح أنَّها لم تعطِينا صورة شاملة للوضع، إلا أنَّها قدمت لنا صورة مُوجزة، وعناوين مُختزلة، يمكن الاستناد عليها، لتتضح تفاصيلها أكثر – حال ربطها بتاريخ اليمن ككل.
تعود علاقة أرض سبأ بدولة «الإمامة الزيدية» إلى العام «1027م»، أعلن حينها من «ناعط – ريدة» الحسن بن عبد الرحمن نفسه إمامًا، وذكر المؤرخون أنَّ ذات الإمام توجه عام دعوته إلى مأرب، ولم يتوسعوا في التفاصيل أكثر؛ بل ذكروا أنَّه حظي بتأييد الشيخ عبد المؤمن بن أسعد بن أبي الفتوح الخولاني، وأخوه المنصور، والشيخ يحيى بن أبي حاشد بن الضحاك، وأنَّه دخل بـ «10,000» مقاتل صنعاء.
بعد تلك الحادثة بـ «115» عامة جاء ذكر مأرب للمرة الثانية، لم يتوجه إليها هذه المرة أحد الأئمة؛ بل توجه إليها القاضي نشوان بن سعيد الحميري بعد أن اختلف مع الإمام أحمد بن سليمان، وبعد أن أوعز الأخير لأنصاره تشديد الخناق عليه، الأمر الذي جعله يُغادر بلدته حوث، وروى بعض المُؤرخين أنَّ أهل مأرب وبيحان ناصروه، ونصبوه ملكًا، إلا أنَّ سنوات حكمه وإقامته هناك لم تستمر طويلًا.
ثمة ارتباط وثيق بين مأرب وبيحان، ولا تذكر الأولى إلا وذكرت معها الأخيرة – خاصة في صفحات تاريخ اليمن الإسلامي، وفي العام «1182م» عزم الإمام عبدالله بن حمزة – حفيد الإمام الحسن بن عبدالرحمن السابق ذكره – على ضمهما لدولته، وذلك بعد ثلاث سنوات من دعوته، وأرسل من براقش لذات الغرض جيشًا بقيادة الأمير سليمان بن حمزة، وقعت بين الأخير وبين أهل تلك البلاد حروب كثيرة، كانت الدائرة فيها على الأخيرين، وقيل أنْ الشيخ محمد بن أسعد المرادي كان أحد دعاته.
وحين امتنع أهل مأرب – بعد ذلك – عن الأذان بـ «حي على خير العمل» – كتب الإمام عبدالله بن حمزة إليهم عدة رسائل هددهم فيها بالعدول عن ذلك، ولم ينس في كل رسالة أن يذكرهم بفضائل أسرته، وأنَّهم أعلام الهدى، وأقمار الدجى، والأحق في الولاية، وقال في إحدى رسائله: «بلغنا أن أموركم على غير نظام، وأنَّكم ماضون على الخطبة لبني العباس، ولا تجوز الإمامة إلا لمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وأضاف: «واعلموا أنا أولاد الرجل الصالح – صلى الله عليه – الذي شرع الشرائع، وسن هذه السنن، وأوضح رسوم العدل، وطمس رسوم الجور؛ فنحن أعلم الناس بآثاره، وسننه، وطرائقه، وعلومه، فلا تهلكوا أنفسكم بالجهالة والعمل على غير بصيرة.. واحمدو الله الذي أوصلكم وقتًا تقتدون في دينكم بعترة نبيكم، تأخذون الحق من أهله، وتقتبسون النور من معدنه، وتنتسبون إلى العترة الطاهرة التي خُلقت من طينة عليين، وربيت في حجور النبيين، ورضعت فيها دار الإسلام، وربيت في حجور الإيمان، ودرجت في منازل عمرها التنزيل، وخدمها جبريل، فأين تطلبون الهدى من غيرهم،
إنها مأرب، فاتحة المجد، وذروته، وأصل العهد، وصدقه، وزهرة الوصل، ورونقه، وروح اليمن، وقلبه النابض بالوطنية والحب، تصدرت بعد قرون من التيه والشتات المشهد، واستعادت مجدها الحضاري، وسجلت حضورها الزاهي، وقاومت التوغل الإمامي، وأعلنت ميلاد جمهوريتنا الثانية، الجمهورية التي بدونها ننتهي، وبها، وبمأرب – مبتدأ الحضارة ومنتهاها -أشهرنا ميلادنا الثاني.
القارئ لتاريخ مأرب الإسلامي، والحديث، والمعاصر، يجد أنَّها – وبسبب طبيعتها الصحراوية القاسية، وقلة عدد سكانها؛ كانت مُنفصلة عن مسارات أحداث اليمن المُتتابعة، وبعيدة عن تأثير الحكومات المركزية، ولم يأتِ المُؤرخون على ذكرها إلا لمامًا، حاولنا لم شتات ما ذكروه، وما حفظته الذاكرة الشفهية أيضاً، ونشر ذلك اختزالًا، خاصة ذلك المُتعلق بعلاقة أرض سبأ بدولة «الإمامة الزيدية»، وهي بمجملها صفحات مُشرفة، مليئة بالتمرد والرفض.
انتهت بتهدم سد مأرب «مملكة سبأ» العريقة «115ق.م»، وحضارتها الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وأعماق الأرض أيضاً، لتبدأ بعد ذلك سنوات – بل قرون – التيه والشتات، وقالت العرب في الأمثال: «تفرق أيدي سبأ، وأيادي سبأ»، وقال «الطبري» في تفسيره: «فغسان لحقوا بالشام، والأنصار بيثرب، وخزاعة لحقوا بتهامة، والأزد لحقوا بعُمان»، وقال آخرون أنْ الهجرات اليمنية وصلت إلى دول شمال أفريقيا.
كان انهيار سد مأرب – حسب توصيف عبدالله البردوني – فاصلًا بين الحضارة والا حضارة؛ وبين الاستقرار والهجرة، مُشيرًا إلى وجود عشرات الحلقات المفقودة من التاريخ اليمني – بين هذه الحالة الاستثنائية وتلك؛ وذلك لغياب الأحداث التي تفرض نفسها على الكتابة والتدوين، صار ذكر مأرب – تبعًا لذلك – محدودًا للغاية، وجاء وصفها في كتب الرحالة والمُؤرخين بالصحراء القاحلة، محدودة السكان، مصداقًا لقوله تعالى: «وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ».
أثناء غَوصي في صفحات تاريخ اليمن الإسلامي، وتاريخ «الإمامة الزيدية» تحديدًا، لم أجد لمأرب ذكر إلا في مواضع محدودة، وهي بمجملها أحداث مبتورة، غير مُكتملة المعنى، صحيح أنَّها لم تعطِينا صورة شاملة للوضع، إلا أنَّها قدمت لنا صورة مُوجزة، وعناوين مُختزلة، يمكن الاستناد عليها، لتتضح تفاصيلها أكثر – حال ربطها بتاريخ اليمن ككل.
تعود علاقة أرض سبأ بدولة «الإمامة الزيدية» إلى العام «1027م»، أعلن حينها من «ناعط – ريدة» الحسن بن عبد الرحمن نفسه إمامًا، وذكر المؤرخون أنَّ ذات الإمام توجه عام دعوته إلى مأرب، ولم يتوسعوا في التفاصيل أكثر؛ بل ذكروا أنَّه حظي بتأييد الشيخ عبد المؤمن بن أسعد بن أبي الفتوح الخولاني، وأخوه المنصور، والشيخ يحيى بن أبي حاشد بن الضحاك، وأنَّه دخل بـ «10,000» مقاتل صنعاء.
بعد تلك الحادثة بـ «115» عامة جاء ذكر مأرب للمرة الثانية، لم يتوجه إليها هذه المرة أحد الأئمة؛ بل توجه إليها القاضي نشوان بن سعيد الحميري بعد أن اختلف مع الإمام أحمد بن سليمان، وبعد أن أوعز الأخير لأنصاره تشديد الخناق عليه، الأمر الذي جعله يُغادر بلدته حوث، وروى بعض المُؤرخين أنَّ أهل مأرب وبيحان ناصروه، ونصبوه ملكًا، إلا أنَّ سنوات حكمه وإقامته هناك لم تستمر طويلًا.
ثمة ارتباط وثيق بين مأرب وبيحان، ولا تذكر الأولى إلا وذكرت معها الأخيرة – خاصة في صفحات تاريخ اليمن الإسلامي، وفي العام «1182م» عزم الإمام عبدالله بن حمزة – حفيد الإمام الحسن بن عبدالرحمن السابق ذكره – على ضمهما لدولته، وذلك بعد ثلاث سنوات من دعوته، وأرسل من براقش لذات الغرض جيشًا بقيادة الأمير سليمان بن حمزة، وقعت بين الأخير وبين أهل تلك البلاد حروب كثيرة، كانت الدائرة فيها على الأخيرين، وقيل أنْ الشيخ محمد بن أسعد المرادي كان أحد دعاته.
وحين امتنع أهل مأرب – بعد ذلك – عن الأذان بـ «حي على خير العمل» – كتب الإمام عبدالله بن حمزة إليهم عدة رسائل هددهم فيها بالعدول عن ذلك، ولم ينس في كل رسالة أن يذكرهم بفضائل أسرته، وأنَّهم أعلام الهدى، وأقمار الدجى، والأحق في الولاية، وقال في إحدى رسائله: «بلغنا أن أموركم على غير نظام، وأنَّكم ماضون على الخطبة لبني العباس، ولا تجوز الإمامة إلا لمن قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وأضاف: «واعلموا أنا أولاد الرجل الصالح – صلى الله عليه – الذي شرع الشرائع، وسن هذه السنن، وأوضح رسوم العدل، وطمس رسوم الجور؛ فنحن أعلم الناس بآثاره، وسننه، وطرائقه، وعلومه، فلا تهلكوا أنفسكم بالجهالة والعمل على غير بصيرة.. واحمدو الله الذي أوصلكم وقتًا تقتدون في دينكم بعترة نبيكم، تأخذون الحق من أهله، وتقتبسون النور من معدنه، وتنتسبون إلى العترة الطاهرة التي خُلقت من طينة عليين، وربيت في حجور النبيين، ورضعت فيها دار الإسلام، وربيت في حجور الإيمان، ودرجت في منازل عمرها التنزيل، وخدمها جبريل، فأين تطلبون الهدى من غيرهم،
فانظروا نظرًا يخلصكم».
وحين جاء كتاب علمائهم بالامتناع، وبقائهم على مذهب السنة، رد عليهم بكتاب آخر، انتقص فيه من الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهددهم بالحرب إن لم يتركوا مذهبهم، وأضاف: «فمن أجاب دعوتنا هذه العادلة غير الجائرة، الجامعة غير المفرقة، فهو منَّا وإلينا، له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن كره ذلك حاكمناه إلى الله سبحانه، وحاربناه، واستعنا بالله سبحانه عليه، فغلبناه إنْ شاء الله سبحانه، وإنَّما نحن نُقاتل هذه الأمة على تأويل كتاب الله، كما قاتل أبونا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تنزيله؛ لأنَّه حُطَّ بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، ونحن تراجمته وورثته، وعندنا معرفة غرائبه، وعلم عجائبه».
وبلغ من سخريته أن خاطب أهالي مأرب قائلًا: «وارضوا بنا أئمة، نرضكم لنا تبعًا»، وزاد على ذلك مُستهجنًا:
وهل تمت لكم أبدًا صلاة
إذا ما أنتم لم تذكرونا
وهل تجب الصلاة على أبيكم
كما تجب الصلاة على أبينا
وحين أذعن أهل مأرب لتهديداته، ارتجز قائلًا:
إذا بدت مثل السعالى من دغل
وطلعت فوق الرماح كالشعل
وأيقنوا أن الحِمام قد نزل
نادى مُناديهم على خير العمل
ووصل به الاستعلاء أنْ شبه نفسه بنبي الله سليمان بن داؤود، وقال في رسالة أخرى مُهددًا: «أقول لكم ما قال عمي سليمان – عليه السلام – لأوائلكم: ألا تعلوا علي وأتوني مُسلمين، وإن الإسلام لا يتم إلا بطاعة عترة خاتم المُرسلين.. وإن البغي بمعصية إمام الحق يحل سفك الدم، واستباحة المال، وهدم الديار على مذهبنا ومذهب آبائنا من أهل البيت عليهم السلام».
أذعن أهل مأرب لتهديداته، فيما أصر أهل بيحان على الامتناع، وفي ذلك قال صاحب «أنباء الزمن»: «نهض الإمام بنفسه إلى أهل بيحان، بعد أنْ كرر الكتب إليهم يأمرهم بلزوم الطاعة، وإقامة الجمعة والجماعة، والأذان بحي على خير العمل، فلم يمتثلوا، واجتمعوا للمحاربة، ففرق الله شملهم، وأمر الإمام بقطع نخيلهم، وزروعهم، وعاد إلى براقش ظافرًا».
وحين خضعوا لحكمه مرة أخرى، كتب إليهم: «أما بعد.. فإنكم قوم وفقتم لإصابة الصواب، ومنحتم أفضل أسباب النجاة، وهو محبتكم ورثة الكتاب، وعترة الرسول سلام الله عليه وعلى آله، وقد بلغنا نصيحتكم، واستقامتكم، فاستقيموا واعلموا أن الله لا يضيع أجر المُحسنين، فأحسنوا، ونحن الصادقون، فكونوا مع الصادقين، ونحن حزب الله، وحزب الله هم المفلحون».
عادت «الإمامة الزيدية» بعد وفاة الإمام عبدالله بن حمزة لانكماشتها الاعتيادية «1217م»، لتعاود بعد «42» عامًا الظهور من جديد، وذلك بعد أنْ أعلن أحمد بن الحسين من ثلا نفسه إمامًا، كانت «الدولة الرسولية» حينها تحت قيادة سلطانها الثاني «المُظفر» يوسف بن عُمر، تقوى خلال الأربع السنوات الأولى من حكم الأخير أمر الإمام الجديد، وسيطر على صنعاء ثلاث مرات، وحارب «الرسوليين»، وصالحهم، ونقض الصلح معهم أكثر من مرة، رغم اعترافهم به حاكمـًا على «اليمن الأعلى».
كان لانضمام الأمير «الرسولي» المُتمرد أسد الدين محمد إلى صف ذلك الإمام أثره البالغ في ترجيح كفته، امتدت سيطرته إلى ذمار، وبيحان، وغزا مأرب بـ «1,400» مُقاتل، وأجبر سكانها على تغيير مذهبهم السني لبعض الوقت، والأذان بـ «حي على خير العمل»، وبمقتله علي يد بني عمومته «1269م»، لم تقم لـ «دولة الإمامة» قائمة لعدة سنوات.
صحيح أنَّ صلة دولة «الإمامة الزيدية» انقطعت بعد ذلك بأرض سبأ، إلا أنَّ علاقة «العلويين» – من أحفاد الإمام عبدالله بن حمزة – لم تنقطع بها بتاتًا، فبعد حوالي أربعة قرون أرسل حفيده حسين بن محمد بن ناصر «ابن القايفية» بأحد أولاده الأربعة ليستوطنها.
حسين الذي التصق به لقب «ابن القايفية» – نسبة إلى أخواله من قبيلة «قيفة – رداع» الذين تربى بعد وفاة أبيه في كنفهم، كان مُقاتلًا مشهورًا، حارب الأتراك أثناء تواجدهم الأول في اليمن، وألصقت به الذاكرة الشفهية بُطولات خارقة، منها أنَّه اجتاح مسنودًا بأصهاره «الياميين» صنعاء، وجعل أحد أبنائه حاكمًا عليها، وهي معلومة لم أجد لها ذكر في المَراجع التاريخية التي وثقت لأحداث تلك الفترة.
وأفادت الذاكرة الشفهية أيضاً أنَّ الأتراك نجحوا في القضاء على ذلك التمرد، وأنَّ «ابن القايفية» العاشق للسفر والترحال – عمل على مد نفوذه إلى المناطق البعيدة عن سيطرة «الدولة العثمانية»، فأرسل بولده خالد إلى مأرب، وأرسل – أيضاً – بولده مُقبل إلى بيحان، وولده أحمد إلى حريب، وولده صالح إلى الجوف، وإلى هؤلاء الأربعة ينتسب «علويو» تلك المناطق، ومع مرور الوقت انقطعت صلتهم بالمذهب «الزيدي»، واعتنقوا المذهب «الشافعي» – مذهب أبناء تلك النواحي، وكانت علاقتهم بمحيطهم شبه جيدة.
وحين جاء كتاب علمائهم بالامتناع، وبقائهم على مذهب السنة، رد عليهم بكتاب آخر، انتقص فيه من الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهددهم بالحرب إن لم يتركوا مذهبهم، وأضاف: «فمن أجاب دعوتنا هذه العادلة غير الجائرة، الجامعة غير المفرقة، فهو منَّا وإلينا، له ما لنا، وعليه ما علينا، ومن كره ذلك حاكمناه إلى الله سبحانه، وحاربناه، واستعنا بالله سبحانه عليه، فغلبناه إنْ شاء الله سبحانه، وإنَّما نحن نُقاتل هذه الأمة على تأويل كتاب الله، كما قاتل أبونا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على تنزيله؛ لأنَّه حُطَّ بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، ونحن تراجمته وورثته، وعندنا معرفة غرائبه، وعلم عجائبه».
وبلغ من سخريته أن خاطب أهالي مأرب قائلًا: «وارضوا بنا أئمة، نرضكم لنا تبعًا»، وزاد على ذلك مُستهجنًا:
وهل تمت لكم أبدًا صلاة
إذا ما أنتم لم تذكرونا
وهل تجب الصلاة على أبيكم
كما تجب الصلاة على أبينا
وحين أذعن أهل مأرب لتهديداته، ارتجز قائلًا:
إذا بدت مثل السعالى من دغل
وطلعت فوق الرماح كالشعل
وأيقنوا أن الحِمام قد نزل
نادى مُناديهم على خير العمل
ووصل به الاستعلاء أنْ شبه نفسه بنبي الله سليمان بن داؤود، وقال في رسالة أخرى مُهددًا: «أقول لكم ما قال عمي سليمان – عليه السلام – لأوائلكم: ألا تعلوا علي وأتوني مُسلمين، وإن الإسلام لا يتم إلا بطاعة عترة خاتم المُرسلين.. وإن البغي بمعصية إمام الحق يحل سفك الدم، واستباحة المال، وهدم الديار على مذهبنا ومذهب آبائنا من أهل البيت عليهم السلام».
أذعن أهل مأرب لتهديداته، فيما أصر أهل بيحان على الامتناع، وفي ذلك قال صاحب «أنباء الزمن»: «نهض الإمام بنفسه إلى أهل بيحان، بعد أنْ كرر الكتب إليهم يأمرهم بلزوم الطاعة، وإقامة الجمعة والجماعة، والأذان بحي على خير العمل، فلم يمتثلوا، واجتمعوا للمحاربة، ففرق الله شملهم، وأمر الإمام بقطع نخيلهم، وزروعهم، وعاد إلى براقش ظافرًا».
وحين خضعوا لحكمه مرة أخرى، كتب إليهم: «أما بعد.. فإنكم قوم وفقتم لإصابة الصواب، ومنحتم أفضل أسباب النجاة، وهو محبتكم ورثة الكتاب، وعترة الرسول سلام الله عليه وعلى آله، وقد بلغنا نصيحتكم، واستقامتكم، فاستقيموا واعلموا أن الله لا يضيع أجر المُحسنين، فأحسنوا، ونحن الصادقون، فكونوا مع الصادقين، ونحن حزب الله، وحزب الله هم المفلحون».
عادت «الإمامة الزيدية» بعد وفاة الإمام عبدالله بن حمزة لانكماشتها الاعتيادية «1217م»، لتعاود بعد «42» عامًا الظهور من جديد، وذلك بعد أنْ أعلن أحمد بن الحسين من ثلا نفسه إمامًا، كانت «الدولة الرسولية» حينها تحت قيادة سلطانها الثاني «المُظفر» يوسف بن عُمر، تقوى خلال الأربع السنوات الأولى من حكم الأخير أمر الإمام الجديد، وسيطر على صنعاء ثلاث مرات، وحارب «الرسوليين»، وصالحهم، ونقض الصلح معهم أكثر من مرة، رغم اعترافهم به حاكمـًا على «اليمن الأعلى».
كان لانضمام الأمير «الرسولي» المُتمرد أسد الدين محمد إلى صف ذلك الإمام أثره البالغ في ترجيح كفته، امتدت سيطرته إلى ذمار، وبيحان، وغزا مأرب بـ «1,400» مُقاتل، وأجبر سكانها على تغيير مذهبهم السني لبعض الوقت، والأذان بـ «حي على خير العمل»، وبمقتله علي يد بني عمومته «1269م»، لم تقم لـ «دولة الإمامة» قائمة لعدة سنوات.
صحيح أنَّ صلة دولة «الإمامة الزيدية» انقطعت بعد ذلك بأرض سبأ، إلا أنَّ علاقة «العلويين» – من أحفاد الإمام عبدالله بن حمزة – لم تنقطع بها بتاتًا، فبعد حوالي أربعة قرون أرسل حفيده حسين بن محمد بن ناصر «ابن القايفية» بأحد أولاده الأربعة ليستوطنها.
حسين الذي التصق به لقب «ابن القايفية» – نسبة إلى أخواله من قبيلة «قيفة – رداع» الذين تربى بعد وفاة أبيه في كنفهم، كان مُقاتلًا مشهورًا، حارب الأتراك أثناء تواجدهم الأول في اليمن، وألصقت به الذاكرة الشفهية بُطولات خارقة، منها أنَّه اجتاح مسنودًا بأصهاره «الياميين» صنعاء، وجعل أحد أبنائه حاكمًا عليها، وهي معلومة لم أجد لها ذكر في المَراجع التاريخية التي وثقت لأحداث تلك الفترة.
وأفادت الذاكرة الشفهية أيضاً أنَّ الأتراك نجحوا في القضاء على ذلك التمرد، وأنَّ «ابن القايفية» العاشق للسفر والترحال – عمل على مد نفوذه إلى المناطق البعيدة عن سيطرة «الدولة العثمانية»، فأرسل بولده خالد إلى مأرب، وأرسل – أيضاً – بولده مُقبل إلى بيحان، وولده أحمد إلى حريب، وولده صالح إلى الجوف، وإلى هؤلاء الأربعة ينتسب «علويو» تلك المناطق، ومع مرور الوقت انقطعت صلتهم بالمذهب «الزيدي»، واعتنقوا المذهب «الشافعي» – مذهب أبناء تلك النواحي، وكانت علاقتهم بمحيطهم شبه جيدة.
بعد خمس سنوات من خروج الأتراك من اليمن، وتصدر «الدولة القاسمية» المشهد، أسس خالد بن حسين دويلته – أو مشيخته الصغيرة إن صح التعبير – في مأرب «1640م»، وتوارث أحفاده حكمها، وهم من عُرفوا بـ «آل خالد»، وكان قد اشترى أول وصوله المنطقة أراضي شاسعة مُجاورة للسد القديم من «آل عامر السبئي» – سكان مأرب الأصليين، واستقدم معه – كما أفاد أحد أحفاده – أفراد من قبيلة «عبيدة» من جبال «السراة» في عسير، واستوطن الأخيرون شرق المدينة في وادي «أبراد»، وتولوا حمايتها، والراجح أنَّ «العبيديون» – كما أفاد أحد مشايخهم للرحالة نزيه مؤيد العظم – من سكان مأرب الأصليين، ومن سلالة صافر القحطاني تحديدًا.
بعد عامين من تولي «المتوكل» إسماعيل بن القاسم – ثالث أئمة «الدولة القاسمية» – الحكم، وبعد أنْ امتدت حدود دولته من عسير شمالًا، إلى عدن جنوبًا، عزم على مد سيطرته إلى المناطق الشمالية الشرقية «1648م»، في البدء سقطت الجوف، فيما استعصت مأرب – نجح مُقاتلو الأخيرة المُتمرسين في جر القوات الإمامية إلى كمائن مُتقنة، وكادت الصحراء القاحلة أنْ تفتك بها؛ لولا قيام بعض الأسرى البدو في إرشادها إلى طريق الهروب الصحيح.
عاد الأمير أحمد بن الحسن – قائد تلك القوات – إلى عمه الإمام يجر أذيال الخيبة، ليعاود بعد «12» عامًا المُرور من ذات المنطقة، دون أنْ يُفكر في السيطرة عليها؛ فوجهته هذه المرة كانت بلاد حضرموت، تاهت قواته مرة أخرى في صحراء مأرب، ونجى وإياها من الموت بأعجوبة، لتتحقق له بعد عامين، وبعد أنْ تم تعزيزه بجيش آخر من طريق رداع – السيطرة التامة على حضرموت، وذلك بعد حروب وخطوب يطول شرحها، وهي سيطرة لم تدم سوى «23» عامًا.
بعث الأمير أحمد بن الحسن لعمه الإمام إسماعيل برساله شارحة، ذكر فيها العراقيل التي اعترضت طريقة، نقتطف منها: «فما زال القتل الذريع فيهم – يقصد ابناء حضرموت – والأسر، واحتزت رؤوس كثيرة، لم نحص معرفة حصرها حال الكتاب، واشتغل الناس بالغنائم لأموالهم، وسلاحهم، وخيلهم، وانكسر السلطان – يقصد السلطان بدر بن عبدالله الكثيري – وأولاده وأعوانه.. وقد أحببنا تعجيل هذه المسرة إليكم، والتفريج عليكم لما نعلمه من اشتغالكم بنا، وبمن لدينا من المُجاهدين، سيما بعد انقطاع الكتب بسبب الأعداء المُتوسطين المترصدين».
في بداية العام «1763م»، وبعد أن انكمشت خارطة الإمامة، وصلت إلى اليمن بعثة دنماركية برئاسة المهندس كارستن نيبور، وهو عالم ألماني مُتخصص في الرياضيات، والفلك، والجغرافيا، نقل في مُذكراته تفاصيل مهمة عن أحوال اليمن خلال تلك الحقبة، وذكر في معرض حديثه مأرب تلميحًا، وعدها من المناطق المُستقلة عن حكم «الدولة القاسمية»، وقال عنها: «هي الآن مقر شريف فقير لا يمتد حكمه خارجها إلا إلى عدد محدود من القرى».
وتأكيدًا لذلك، قام نيبور برسم أول خارطة جزئية لليمن، توفر فيها قدر كبير من الدقة، وضع حدودها من «المخا، والحجرية» جنوبًا، و«اللحية، وعفار، وبيت ادهم» شمالًا، و«ذيبان، وذمار، ويريم» شرقًا، وأسماها بـ «مملكة الإمام» – يقصد الإمام «المهدي» عباس بن «المنصور» القاسم.
تعاقب على حكم مأرب أحفاد الأمير خالد بن حسين، ليقوم حفيده أحمد بن علوي بتأسيس «إمارة مأرب»، جاعلًا من مأرب القديمة عاصمة له، عقد التحالفات مع القبائل المُجاورة التي كان معظمها من «البدو الرحل»، واتجه بعلاقته صوب حضرموت شرقًا، وبيحان جنوبًا، واستقدم القضاة من «آل اليوسفي» من «جردان – شبوة»، ليعمل الأخيرون على تعزيز حضور دويلته الوليدة إداريًا، كما عمل على اصطلاح بعض الأراضي، وتشجيع الناس للقدوم إلى مأرب، والعمل فيها، وأعطى التجار الحماية، وانشأ سوقًا خاصًا بهم، وبذلك صارت مأرب الصحراوية المحدودة السكان شبه آمنة، يسودها بعض الاستقرار.
ذكر الباحث سالم محمد حسان في دراسة له عن تاريخ مأرب الحديث، واعتمادًا على الذاكرة الشفهية، أنَّ الحكام من «آل خالد» كانوا قبل الأمير أحمد بن علوي يتلقون دعمًا محدودًا من قبل أئمة صنعاء، وأنْ ذلك الدعم توقف بفعل الصراع بين الإماميين أنفسهم، وهو الأمر الذي حفز ذات الأمير – كما أفاد ذات الباحث – على الاستقلال عن «الدولة القاسمية»، وهي معلومة لم أجد لها ذكر في المراجع التاريخية التي وثقت لتاريخ تلك الدولة، مع العلم أنَّ الأئمة عبر تاريخهم الطويل كانوا يأخذون ولا يعطون، وتركيزهم انصب أصلًا على أراضي اليمن الخصبة التي تدر عليهم وعلى أنصارهم الأموال الطائلة.
بعد وفاة الأمير أحمد بن علوي آل الأمر لولده محسن، وقد سار الأخير على نهج والده، ليؤول الأمر بعد وفاة الأخير لولده الوحيد عبدالرحمن، وكان عهد هذا الأمير – كما أفاد الباحث حسان – من أزهى عصور الإمارة، حكمها لأكثر من أربعة عقود، وامتدت سلطاته من منطقة «رغوان – الجوف»، إلى «بيحان – شبوة»، وكانت علاقته جيدة مع قبائل «العوالق، والرصاص، وبالحارث، ويافع، ونهد، والكرب»، وذكر المؤرخ الحضرمي سالم الكندي في كتابه «العدة المفيدة»
أنَّه عقد عام «1846م» حلفًا مع «الكثيريين».
كما أنَّه – أي الأمير عبدالرحمن – كان من جُملة مُستقبلي الوالي العثماني أحمد مختار باشا أثناء دخوله صنعاء «1872م»، وقد جعله الأخير حاكمًا على مأرب، وأعطاه راتب شهري مقداره «100» ليرة ذهبية، ورواتب أخرى لأثنى عشر شيخًا من ذات المنطقة – من «20» إلى «25» ليرة، وقد استفاد من تلك العلاقة في تطوير إمارته.
زار مأرب خلال تلك الحقبة عدد من الرحالة الأجانب، صحيح أنَّ رحلات هؤلاء كانت استكشافية أثرية في الأساس، إلا أنَّهم نقلوا لنا جانبًا من تاريخ الإمارة، وعلاقتها بمحيطها، وفي بداية حكم الأمير عبدالرحمن زار الرحالة الفرنسي جوزيف توماس أرنو المنطقة «1843م»، والتقى ذات الأمير، ونقل تفاصيل رحلته المأساوية فيما بعد، وإليه يعود الفضل في تعريف العالم بجانب من تاريخ حضارة سبأ في القرن الخامس قبل الميلاد، بعد أن قام بترجمة «نقش النصر» الرابض في معبد «ألمقة» الكبير بصرواح.
وفي «فبراير» من العام «1870م» زار مأرب مُتنكرًا المُستشرق اليهودي جوزيف هاليفي، أشاد الأخير بقبيلة «عبيدة» على عكس أرنو، وأسمى رفيق رحلته حبشوش الأمير عبدالرحمن بـ «الجزار»، دون أن يذكر سببًا للتسمية، وكانت وفاة ذات الأمير عام «1889م»، بالتزامن مع زيارة الرحالة أدورد جلازر – المدعوم من قبل «الدولة العثمانية».
دانت مأرب لسلطات «الدولة العثمانية» إسميًا، وحين تولى الإمام يحيى حميدالدين الإمامة بعد وفاة أبيه «1904م»، حاول استمالة مشايخ وأعيان اليمن إلى صفه ضد الأتراك، وراسل الأمير عبدالرحمن بن حسين – حفيد الأمير السابق ذكره – لذات الغرض، إلا أن الأخير رفض طلبه، وحين دخل الإمام يحيى بعد «14» عامًا صنعاء، ذهب ذات الأمير إليه للتهنئة، ورفض الانضمام مرة أخرى لدولة الإمامة الجديدة.
بدأ الإمام يحيى بعد ذلك بمد نفوذه جنوبًا، وغربًا، ليعقد أبناء مأرب والجوف حلفًا قبليًا لمواجهة أي توغل إمامي قادم إلى جهتهم، ودخل في ذلك الاتفاق «أمير بيحان» الهبيلي، وكان ذلك الحلف بقيادة المشايخ من «آل الشايف»، وبالتزامن مع حروب الإمام التوسعية كان لزامًا على المُناهضين لحكم الإمامة في المناطق الأخرى أن يغادروا اليمن عبر بوابة مأرب.
لم تكن مأرب ذات الطبيعة الجغرافية القاسية، والمحدودة السكان تحمل أي أهمية للإمام يحيى؛ ولهذا فإنه لم يوجه قواته إليها إلا بعد أن أتم سيطرته على المناطق الخصبة والهامة في وسط اليمن وغربها، وبعد أن دب الخلاف بين «آل خالد» أنفسهم، واستنجد به بعضهم، وقد كلف «أمير ذمار» عبدالله بن علي الوزير لذات المهمة، لتتحقق للأخير السيطرة على معظم مناطقها في العام «1931م».
رضخ معظم أعيان مأرب للأمر الواقع، وسلموا رهائن الطاعة، بعد أن اتخذ الإمام يحيى سياسة الملاينة لاستقطابهم، فيما رفض الشيخ علي بن معيلي من قبيلة «عبيدة»، والشيخان علي بن حسين البحري، وعلي بن ناصر القردعي من قبيلة «مراد» الدخول في حضيرة الدولة الإمامية، قاوموا توغلها مُتفرقين، ولمدة عامين، وألقت القوات الإمامية في النهاية القبض عليهم، وأطلق عليهم الإمام اسم «الخوارج»، وضاعف عليهم وعلى رعاياهم الزكاة، وأجبرهم على تقديم رهائن الطاعة أسوة بغيرهم.
وفي حريب المجاورة قام الأهالي الغاضبين من مضاعفة الزكاة عليهم باغتيال عاملهم أحمد بن يحيى الكحلاني، بعد أن رفض الإمام الاستماع لشكواهم، وفي ثورة «فبراير 1948م» شارك الشيخ علي القردعي – الذي أسرته القوات الإمامية أثناء تصديه لها في منطقة «الجوبة»، وتعرض للسجن والإذلال – في تلك الثورة الدستورية، وكُلف بالمهمة الصعبة، مهمة اغتيال الإمام يحيى.
وفي العام «1957م» قامت قبائل صرواح بتمرد مسلح ضد حكم الإمام أحمد حميد الدين، إلا أنَّه فشل، وبعد ثورة «26 سبتمبر 1962م» ظلت سيطرة النظام الجمهوري على مأرب مُتقطعة، ولم تتحقق السيطرة عليها إلا نهاية العام «1968م».
كما أنَّه – أي الأمير عبدالرحمن – كان من جُملة مُستقبلي الوالي العثماني أحمد مختار باشا أثناء دخوله صنعاء «1872م»، وقد جعله الأخير حاكمًا على مأرب، وأعطاه راتب شهري مقداره «100» ليرة ذهبية، ورواتب أخرى لأثنى عشر شيخًا من ذات المنطقة – من «20» إلى «25» ليرة، وقد استفاد من تلك العلاقة في تطوير إمارته.
زار مأرب خلال تلك الحقبة عدد من الرحالة الأجانب، صحيح أنَّ رحلات هؤلاء كانت استكشافية أثرية في الأساس، إلا أنَّهم نقلوا لنا جانبًا من تاريخ الإمارة، وعلاقتها بمحيطها، وفي بداية حكم الأمير عبدالرحمن زار الرحالة الفرنسي جوزيف توماس أرنو المنطقة «1843م»، والتقى ذات الأمير، ونقل تفاصيل رحلته المأساوية فيما بعد، وإليه يعود الفضل في تعريف العالم بجانب من تاريخ حضارة سبأ في القرن الخامس قبل الميلاد، بعد أن قام بترجمة «نقش النصر» الرابض في معبد «ألمقة» الكبير بصرواح.
وفي «فبراير» من العام «1870م» زار مأرب مُتنكرًا المُستشرق اليهودي جوزيف هاليفي، أشاد الأخير بقبيلة «عبيدة» على عكس أرنو، وأسمى رفيق رحلته حبشوش الأمير عبدالرحمن بـ «الجزار»، دون أن يذكر سببًا للتسمية، وكانت وفاة ذات الأمير عام «1889م»، بالتزامن مع زيارة الرحالة أدورد جلازر – المدعوم من قبل «الدولة العثمانية».
دانت مأرب لسلطات «الدولة العثمانية» إسميًا، وحين تولى الإمام يحيى حميدالدين الإمامة بعد وفاة أبيه «1904م»، حاول استمالة مشايخ وأعيان اليمن إلى صفه ضد الأتراك، وراسل الأمير عبدالرحمن بن حسين – حفيد الأمير السابق ذكره – لذات الغرض، إلا أن الأخير رفض طلبه، وحين دخل الإمام يحيى بعد «14» عامًا صنعاء، ذهب ذات الأمير إليه للتهنئة، ورفض الانضمام مرة أخرى لدولة الإمامة الجديدة.
بدأ الإمام يحيى بعد ذلك بمد نفوذه جنوبًا، وغربًا، ليعقد أبناء مأرب والجوف حلفًا قبليًا لمواجهة أي توغل إمامي قادم إلى جهتهم، ودخل في ذلك الاتفاق «أمير بيحان» الهبيلي، وكان ذلك الحلف بقيادة المشايخ من «آل الشايف»، وبالتزامن مع حروب الإمام التوسعية كان لزامًا على المُناهضين لحكم الإمامة في المناطق الأخرى أن يغادروا اليمن عبر بوابة مأرب.
لم تكن مأرب ذات الطبيعة الجغرافية القاسية، والمحدودة السكان تحمل أي أهمية للإمام يحيى؛ ولهذا فإنه لم يوجه قواته إليها إلا بعد أن أتم سيطرته على المناطق الخصبة والهامة في وسط اليمن وغربها، وبعد أن دب الخلاف بين «آل خالد» أنفسهم، واستنجد به بعضهم، وقد كلف «أمير ذمار» عبدالله بن علي الوزير لذات المهمة، لتتحقق للأخير السيطرة على معظم مناطقها في العام «1931م».
رضخ معظم أعيان مأرب للأمر الواقع، وسلموا رهائن الطاعة، بعد أن اتخذ الإمام يحيى سياسة الملاينة لاستقطابهم، فيما رفض الشيخ علي بن معيلي من قبيلة «عبيدة»، والشيخان علي بن حسين البحري، وعلي بن ناصر القردعي من قبيلة «مراد» الدخول في حضيرة الدولة الإمامية، قاوموا توغلها مُتفرقين، ولمدة عامين، وألقت القوات الإمامية في النهاية القبض عليهم، وأطلق عليهم الإمام اسم «الخوارج»، وضاعف عليهم وعلى رعاياهم الزكاة، وأجبرهم على تقديم رهائن الطاعة أسوة بغيرهم.
وفي حريب المجاورة قام الأهالي الغاضبين من مضاعفة الزكاة عليهم باغتيال عاملهم أحمد بن يحيى الكحلاني، بعد أن رفض الإمام الاستماع لشكواهم، وفي ثورة «فبراير 1948م» شارك الشيخ علي القردعي – الذي أسرته القوات الإمامية أثناء تصديه لها في منطقة «الجوبة»، وتعرض للسجن والإذلال – في تلك الثورة الدستورية، وكُلف بالمهمة الصعبة، مهمة اغتيال الإمام يحيى.
وفي العام «1957م» قامت قبائل صرواح بتمرد مسلح ضد حكم الإمام أحمد حميد الدين، إلا أنَّه فشل، وبعد ثورة «26 سبتمبر 1962م» ظلت سيطرة النظام الجمهوري على مأرب مُتقطعة، ولم تتحقق السيطرة عليها إلا نهاية العام «1968م».
العجب مِن حضارة العرب: " سدُّ مَأرِب " العظيم
نافع لعيّاشي
تاريخ
عند الحديث عن الحضارات القديمة الراقية، يتبادر إلى الذهن حضارة المصريين والبابليين واليونانيين والروم والفرس، ولن يخطر على البال حضارة " العرب البائدة " الذين شيّدوا المُدن والمباني الجليلة والذين قال عنهم ابن خلدون :" هذه الأمة أقدم الأمم مِن بعد قوم نوح، وأعظمهم قدرةً، وأشدّهم قوّة وآثارًا في الأرض وأوّل أجيال العرب مِن الخليقة فيما سمعناه "، وحضارة " العرب العاربة " الذين كان مِنهم الملوك المشاهير الذين أخضعوا الأمم. في هذا المقال سنتكلّم عن أقدم سدٍّ مائي في التاريخ، وأعظم بناءٍ هندسي قديم في شبه الجزيرة العربية.
نُبذة عن بلد اليمن، مدينة سبأ ومأرِب
اليمن، هذا البلد الذي إذا ذُكر اسمه لا يتبادر إلى السامع سوى صورة الرّمال، شدّة الحر والقحط، نحافة أهله وبساطتهم، وضيق عيشهم، غير أنه في الزمن القديم جدّا كانت حالته مغايرة تماما لما هي عليه اليوم. قال القزويني :" تُسمّى الخضراء، لكثرة أشجارها وزروعها، تزرع في السنة أربع مرّات، ويُحصد كل زرع في ستّين يوما، وتحمل أشجارهم في السنة مرّتين"، قال الحميري : " وسُمّي يمنًا لأنه عن يمين الكعبة كما سُمّي الشام شاما لأنه عن شمال الكعبة، والحجاز حجازا لأنه حاجز بينهما، وقيل سمّي اليمن ليُمنه والشام لشُؤمه، وقيل سُمّي اليمن يمنا بِتيمّن بني قحطان"، وكان يعربُ بن قحطان أوّلَ من سار إلى اليمن في ولده وأقام بها، فكانت اليمن كلّها مِن ولده.
أمّا سبأ فقال ياقوت الحموي :" هي أرضٌ بِاليمن مدينتها مَأرِب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام "،و قال الحميري : " وكانت مدينةَ بلقيس صاحبةُ سليمان عليه السلام المذكورة في القرآن "، قال ياقوت :" وسُمّيت هذه الأرض بهذا الاسم لأنها كانت منازلَ ولَد سَبَأ بنِ يَشجُب بنِ يَعرُب بنِ قَحطَان وكان اسم سبأ عامرًا وإنّما سُمّي سبأً لأنه أوّلُ مَن سَبى السَبْي"، قال أبو الفداء :" لأنه لمّا مَلَك أكثرَ الغزو في أقطار البلاد فسُمّي سبأ، وهو الذي بنى مدينة مَأرب وعُرفت بِمدينة سبأ وقيل أنّ مَأرب لَقبٌ لِلملك الذي يلي اليمنَ وقيل أنّ مَأرب هو قصرُ الملك والمدينةُ سبأ "، قال ياقوت :"ومَأرِب هو اسمٌ لِكل مَلِك كان يلي سبأ كما أنّ تُبّعا اسم لِكل مَن وَلي اليمن والشحر وحضرموت"
سبب بناء السدّ وصفته حسب المؤرّخين القدامى
قال الحِميَري :" كان أكثر أهل مأربَ سبأ مِن قِبل العرب الحِميَرية، وكان لهُم مِن الكِبْر والتيه والعُجب على سائر الأمم ما هو مشهور، وكانوا مع ذلك يكفرون بأنعم الله سبحانه، وكان لهُم بِهذه المدينة سدٌّ عظيمُ البناء وثيقُ الصنعة قد أمِنوا خللَه، وكان الماء يرتدع خَلفه نحوا مِن عشرين قامة، فكان الماء محصورا مِن جوانبه قد أمِنوه وأوثقوا صِناعته، وكانت مساكِنهم عليهِ ولِكُل قبيلةٍ مِنهم شِربٌ معلوم يسقون مِنه ويصرفونه في مزارعهم قِسمة عدل وكان السدّ يعلو هذه المدينة كالجبل المنيف"
وحكى ياقوت الحموي فقال :"حدثني شيخ سديد فقيه محصل من أهل صنعاء وسألته عن سد مأرب فقال : هو بين ثلاثةِ جبال يصبُّ ماءُ السيل إلى موضعٍ واحد وليس لِذلك الماء مخرج إلا مِن جهة واحدة فكان الأوائل قد سدُّوا ذلك الموضع بالحجارة الصلبة والرصاص فيجتمع فيه ماء عيون هناك مع ما يجتمع مِن مياه السيول فيصيرُ خلف النّد كالبحر، فكانوا إذا أرادوا سَقيَ زروعِهم فتحوا مِن ذلك السدِّ بِقدر حاجتهم بِأبواب مُحكَمة وحركاتٍ مهندسة فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدّونه إذا أرادوا"
اختلف المؤرّخون حول الذي قام بِبناء السدّ، قال الحميري : " قيل هو مِن بناء سبأ بنِ يَشجُب وكان ساق إليه سبعين واديا ومات قبل أن يستتمّه فأتمّته ملوك حِمْير بَعده، وقيل بناُه لقمانُ بن عاد وجعله فرسخًا في فرسخ وجعل له ثلاثين شِعبا " و قال القزويني :" بَنتهُ بلقيس بالصخر والقار وجعلت فيه مثاعب أعلى وأوسط وأسفل ليأخذوا مِن الماء كلّ ما احتاجوا إليه "، ورجّح ابن خلدون القول الأول حيث قال :" وهو الأليقُ والأصوبُ وإنّما رجّحناه لأنّ المباني العظيمة والهياكل الشامخة لا يستقلّ بها الواحد "
صفة السدّ حسب الكشوف الأثرية الحديثة
حسب الأبحاث الحديثة تبيّن أنّ تاريخ " سد مأرب " القديم يعود إلى حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، وبعض الباحثين أعاده إلى القرن العاشر ق.م، أمّا أبعاده الهندسية فقد بلغ ارتفاعه 16 متراً وعرضه 60 متراً وطوله 620 متراً وقيل أن طوله 650 مترًا وقيل أيضا 720 مترًا. وقد أُحسن اختيار موضعه وموقعه، إذ في بُني في أضيق مكانٍ بين الصدفين (البلق الشمالي والبلق الجنوبي)، قال د.محمد سهيل :" و يعتبر سد مأرب مِن أرقى السدود مِن الناحية الهندسية، حيث قام المهندسون بِمعاينة طبيعة الأرض قبل إنشاء السدّ، ثم بنوا عليها المخطط الهندسي الذي هو عبارة عن حائطٍ حجري ضخم أُقيم في مربط الدم عند مخرج السيل الوادي "، والدكتور يقصد وادي أذنة الذي تجري إليه السيول مِن مساقط
نافع لعيّاشي
تاريخ
عند الحديث عن الحضارات القديمة الراقية، يتبادر إلى الذهن حضارة المصريين والبابليين واليونانيين والروم والفرس، ولن يخطر على البال حضارة " العرب البائدة " الذين شيّدوا المُدن والمباني الجليلة والذين قال عنهم ابن خلدون :" هذه الأمة أقدم الأمم مِن بعد قوم نوح، وأعظمهم قدرةً، وأشدّهم قوّة وآثارًا في الأرض وأوّل أجيال العرب مِن الخليقة فيما سمعناه "، وحضارة " العرب العاربة " الذين كان مِنهم الملوك المشاهير الذين أخضعوا الأمم. في هذا المقال سنتكلّم عن أقدم سدٍّ مائي في التاريخ، وأعظم بناءٍ هندسي قديم في شبه الجزيرة العربية.
نُبذة عن بلد اليمن، مدينة سبأ ومأرِب
اليمن، هذا البلد الذي إذا ذُكر اسمه لا يتبادر إلى السامع سوى صورة الرّمال، شدّة الحر والقحط، نحافة أهله وبساطتهم، وضيق عيشهم، غير أنه في الزمن القديم جدّا كانت حالته مغايرة تماما لما هي عليه اليوم. قال القزويني :" تُسمّى الخضراء، لكثرة أشجارها وزروعها، تزرع في السنة أربع مرّات، ويُحصد كل زرع في ستّين يوما، وتحمل أشجارهم في السنة مرّتين"، قال الحميري : " وسُمّي يمنًا لأنه عن يمين الكعبة كما سُمّي الشام شاما لأنه عن شمال الكعبة، والحجاز حجازا لأنه حاجز بينهما، وقيل سمّي اليمن ليُمنه والشام لشُؤمه، وقيل سُمّي اليمن يمنا بِتيمّن بني قحطان"، وكان يعربُ بن قحطان أوّلَ من سار إلى اليمن في ولده وأقام بها، فكانت اليمن كلّها مِن ولده.
أمّا سبأ فقال ياقوت الحموي :" هي أرضٌ بِاليمن مدينتها مَأرِب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام "،و قال الحميري : " وكانت مدينةَ بلقيس صاحبةُ سليمان عليه السلام المذكورة في القرآن "، قال ياقوت :" وسُمّيت هذه الأرض بهذا الاسم لأنها كانت منازلَ ولَد سَبَأ بنِ يَشجُب بنِ يَعرُب بنِ قَحطَان وكان اسم سبأ عامرًا وإنّما سُمّي سبأً لأنه أوّلُ مَن سَبى السَبْي"، قال أبو الفداء :" لأنه لمّا مَلَك أكثرَ الغزو في أقطار البلاد فسُمّي سبأ، وهو الذي بنى مدينة مَأرب وعُرفت بِمدينة سبأ وقيل أنّ مَأرب لَقبٌ لِلملك الذي يلي اليمنَ وقيل أنّ مَأرب هو قصرُ الملك والمدينةُ سبأ "، قال ياقوت :"ومَأرِب هو اسمٌ لِكل مَلِك كان يلي سبأ كما أنّ تُبّعا اسم لِكل مَن وَلي اليمن والشحر وحضرموت"
سبب بناء السدّ وصفته حسب المؤرّخين القدامى
قال الحِميَري :" كان أكثر أهل مأربَ سبأ مِن قِبل العرب الحِميَرية، وكان لهُم مِن الكِبْر والتيه والعُجب على سائر الأمم ما هو مشهور، وكانوا مع ذلك يكفرون بأنعم الله سبحانه، وكان لهُم بِهذه المدينة سدٌّ عظيمُ البناء وثيقُ الصنعة قد أمِنوا خللَه، وكان الماء يرتدع خَلفه نحوا مِن عشرين قامة، فكان الماء محصورا مِن جوانبه قد أمِنوه وأوثقوا صِناعته، وكانت مساكِنهم عليهِ ولِكُل قبيلةٍ مِنهم شِربٌ معلوم يسقون مِنه ويصرفونه في مزارعهم قِسمة عدل وكان السدّ يعلو هذه المدينة كالجبل المنيف"
وحكى ياقوت الحموي فقال :"حدثني شيخ سديد فقيه محصل من أهل صنعاء وسألته عن سد مأرب فقال : هو بين ثلاثةِ جبال يصبُّ ماءُ السيل إلى موضعٍ واحد وليس لِذلك الماء مخرج إلا مِن جهة واحدة فكان الأوائل قد سدُّوا ذلك الموضع بالحجارة الصلبة والرصاص فيجتمع فيه ماء عيون هناك مع ما يجتمع مِن مياه السيول فيصيرُ خلف النّد كالبحر، فكانوا إذا أرادوا سَقيَ زروعِهم فتحوا مِن ذلك السدِّ بِقدر حاجتهم بِأبواب مُحكَمة وحركاتٍ مهندسة فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدّونه إذا أرادوا"
اختلف المؤرّخون حول الذي قام بِبناء السدّ، قال الحميري : " قيل هو مِن بناء سبأ بنِ يَشجُب وكان ساق إليه سبعين واديا ومات قبل أن يستتمّه فأتمّته ملوك حِمْير بَعده، وقيل بناُه لقمانُ بن عاد وجعله فرسخًا في فرسخ وجعل له ثلاثين شِعبا " و قال القزويني :" بَنتهُ بلقيس بالصخر والقار وجعلت فيه مثاعب أعلى وأوسط وأسفل ليأخذوا مِن الماء كلّ ما احتاجوا إليه "، ورجّح ابن خلدون القول الأول حيث قال :" وهو الأليقُ والأصوبُ وإنّما رجّحناه لأنّ المباني العظيمة والهياكل الشامخة لا يستقلّ بها الواحد "
صفة السدّ حسب الكشوف الأثرية الحديثة
حسب الأبحاث الحديثة تبيّن أنّ تاريخ " سد مأرب " القديم يعود إلى حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، وبعض الباحثين أعاده إلى القرن العاشر ق.م، أمّا أبعاده الهندسية فقد بلغ ارتفاعه 16 متراً وعرضه 60 متراً وطوله 620 متراً وقيل أن طوله 650 مترًا وقيل أيضا 720 مترًا. وقد أُحسن اختيار موضعه وموقعه، إذ في بُني في أضيق مكانٍ بين الصدفين (البلق الشمالي والبلق الجنوبي)، قال د.محمد سهيل :" و يعتبر سد مأرب مِن أرقى السدود مِن الناحية الهندسية، حيث قام المهندسون بِمعاينة طبيعة الأرض قبل إنشاء السدّ، ثم بنوا عليها المخطط الهندسي الذي هو عبارة عن حائطٍ حجري ضخم أُقيم في مربط الدم عند مخرج السيل الوادي "، والدكتور يقصد وادي أذنة الذي تجري إليه السيول مِن مساقط
المياه في المرتفعات المحاذية له على امتداد مساحة شاسعة من ذمار و رداع و مراد و خولان والتي تهطل عليها الأمطار من أبريل حتى أغسطس، ويقوم السدّ بتصريفها لتسقي أرض الجنّتين ( سهلينِ مُرتفعين ) التي تُقدّر مساحتها بأكثر من " 72000 كم2، هذان السهلان اللذان أُشير إليهما في النقوش السبئية "مأرب والسهلان" وتروي الوثائق المكتوبة بلغة "حِمْـيَر" أنّ هذا السدّ قد جعل المنطقة في غاية الخصوبة والعطاء، وكانت أساساته من الأحجار الضخمة، والتي كما قال أدولف غروهمان :" تم اقتطاع حجارة السد من صخور الجبال ونُحتت بِدقّة ووُضِعت فوق بعضها البعض واستُخدِم الجبس لربط الحجارة المنحوتة بِبعضها البعض واستُخدِمت قضبانٌ إسطوانية مِن النحاس والرصاص يبلغ طول الواحدة مِنها ستة عشر مترا وقطرها حوالي أربع سنتمرات توضع في ثقوب الحجارة فتصبح كالمسمار فيتم دمجها بصخرة مطابقة لها وذلك ليتمكن مِن الثبات أمام خطر الزلازل والسيول العنيفة "، وعند طرفي السد يقع الصدفان (المصرفان) ينفُذ منهما الماء إلى شبكات وقنوات الريّ.
وهذه إعادة تصميم لِما كان عليه "سدّ مأرب" القديم قامت بها جامعة كاليغري والمؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان
تصدّعات السدّ و إنهياره الأخير
حسب التنقيبات الأثرية تبيّن أن السد تعرض لأربع انهيارات على الأقل، وقد شهد ترميمات وإصلاحات، إلا أن هذه الإصلاحات لم تمنع السد من الانهيار عام 547 م في عهد أبرهة وقيل بل سنة 542 م وقيل أيضا سنة 575 م ولم تُبذل جهود لترميمه مِن ذلك الحين، انهار السد بسبب سَيل العَرِمِ الذي ذكره القرآن الكريم، والذي سَبَّبَ أضراراً بالغة، فقد هلكت كل البساتين والكروم والحدائق التي بقي السبئيون يرعونها لعدة قرون، على بَكْرَةِ أبيها، وبعد انهياره عانَوا مِن فترة ركود طويلة لم تقم لهم قائمة بعدها.
قال ابن خلدون واصفا أهل مأرب :" فأقاموا في جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن ودولتهم يومئذ أوفر ما كانت وأترف وأبذخ وأعلى يدا وأظهر، فلمّا طغوا وأعرضوا سلّط الله عليهم الخلد، وهو الجرذ فنقبه من أسفله فأجحفهم السيل، وأغرق جناتهم وخربت أرضهم وتمزّق ملكهم وصاروا أحاديث"
وقصّة هذا الجُرذ قد وردت مفصّلةً ومطوّلةً في كتب مُعظم المؤرّخين القدامى والمفسّرين، مِنهم القزويني الذي قال:" سلّط الله تعالى الجرذ على السدّ يحفره بأنيابه ويقلعه بمخالبه، ففُتِح مما يلي السدّ، فغرقت البلاد حتى لم يبق إلا ما كان على رؤوس الجبال، وذهبت الحدائق والجنان والضياع والدور والقصور، وجاء السيل بِالرّمل فطمّها، فجعلهم الله أحاديث ومزّقهم كلّ مُمزّق، فتفرّقوا في البلاد، ويُضرب بِهم المثل فيقال تفرّقوا أيادي سبأ"
بعد وقوع الكارثة بالسدّ، بدأت أراضي المنطقة بالتصحر، وفقد قوم سبأ أبرز مصادر الدخل لديهم مع اختفاء أراضيهم الزراعية، وهكذا كانت عاقبة القوم الذين أعرضوا عن الله وغفلوا عن شُكره، وتفرق السبئيون وهجروا أراضيهم منتقلين إلى شمالي الجزيرة، مكة وسوريا.
مُعجم البلدان لياقوت الحموي
آثار البلاد وأخبار العباد لزكريا بن محمد القزويني
ديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون
المُختصر في أخبار البشر لعماد الدين أبي الفدا
الروض المعطار في خبر الأقطار لمحمد بن عبد المنعم الحميري
تاريخ العرب قبل الإسلام د.محمد سهيل
التاريخ الثقافي للشرق الأدنى القديم لأدولف غروهمان
وهذه إعادة تصميم لِما كان عليه "سدّ مأرب" القديم قامت بها جامعة كاليغري والمؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان
تصدّعات السدّ و إنهياره الأخير
حسب التنقيبات الأثرية تبيّن أن السد تعرض لأربع انهيارات على الأقل، وقد شهد ترميمات وإصلاحات، إلا أن هذه الإصلاحات لم تمنع السد من الانهيار عام 547 م في عهد أبرهة وقيل بل سنة 542 م وقيل أيضا سنة 575 م ولم تُبذل جهود لترميمه مِن ذلك الحين، انهار السد بسبب سَيل العَرِمِ الذي ذكره القرآن الكريم، والذي سَبَّبَ أضراراً بالغة، فقد هلكت كل البساتين والكروم والحدائق التي بقي السبئيون يرعونها لعدة قرون، على بَكْرَةِ أبيها، وبعد انهياره عانَوا مِن فترة ركود طويلة لم تقم لهم قائمة بعدها.
قال ابن خلدون واصفا أهل مأرب :" فأقاموا في جناته عن اليمين والشمال كما وصف القرآن ودولتهم يومئذ أوفر ما كانت وأترف وأبذخ وأعلى يدا وأظهر، فلمّا طغوا وأعرضوا سلّط الله عليهم الخلد، وهو الجرذ فنقبه من أسفله فأجحفهم السيل، وأغرق جناتهم وخربت أرضهم وتمزّق ملكهم وصاروا أحاديث"
وقصّة هذا الجُرذ قد وردت مفصّلةً ومطوّلةً في كتب مُعظم المؤرّخين القدامى والمفسّرين، مِنهم القزويني الذي قال:" سلّط الله تعالى الجرذ على السدّ يحفره بأنيابه ويقلعه بمخالبه، ففُتِح مما يلي السدّ، فغرقت البلاد حتى لم يبق إلا ما كان على رؤوس الجبال، وذهبت الحدائق والجنان والضياع والدور والقصور، وجاء السيل بِالرّمل فطمّها، فجعلهم الله أحاديث ومزّقهم كلّ مُمزّق، فتفرّقوا في البلاد، ويُضرب بِهم المثل فيقال تفرّقوا أيادي سبأ"
بعد وقوع الكارثة بالسدّ، بدأت أراضي المنطقة بالتصحر، وفقد قوم سبأ أبرز مصادر الدخل لديهم مع اختفاء أراضيهم الزراعية، وهكذا كانت عاقبة القوم الذين أعرضوا عن الله وغفلوا عن شُكره، وتفرق السبئيون وهجروا أراضيهم منتقلين إلى شمالي الجزيرة، مكة وسوريا.
مُعجم البلدان لياقوت الحموي
آثار البلاد وأخبار العباد لزكريا بن محمد القزويني
ديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون
المُختصر في أخبار البشر لعماد الدين أبي الفدا
الروض المعطار في خبر الأقطار لمحمد بن عبد المنعم الحميري
تاريخ العرب قبل الإسلام د.محمد سهيل
التاريخ الثقافي للشرق الأدنى القديم لأدولف غروهمان