معاوية ابن ابي سفيان وأهل اليمن
قيل : إن معاوية جلس يوماً بين أصحابه ، إذ أقبلت قافلتان من البرية ، فقال لبعض من كان بين يديه : إنظروا هؤلاء القوم وائتوني بأخبارهم
. فمضوا وعادوا وقالوا : يا أمير المؤمنين ، إحداهما من اليمن والأخرى من قريش
. فقال : إرجعوا إليهم وإدعوا قريشاً يأتونا ، وأما أهل اليمن فينزلون في أماكنهم إلى أن نأذن لهم في الدخول فلما دخلت قريش سلّم عليهم وقربهم
وقال : أتدرون يا أهل قريش لم أخّرْتُ أهل اليمن وقربتكم ؟
قالوا : لا والله يا أمير المؤمنين
قال : لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم ، وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيرا وألقي عليهم من المسائل ما أقل به إكرامهم وأرخص به مقامهم
. فإذا دخلوا وأخذوا أماكنهم من الجلوس وسألوا عن شيء فلا يجبهم أحد غيري
قال الراوي : وكان المقدم عليهم رجلاً يقال له الطرماح بن الحكم #الباهلي فأقبل على أصحابه وقال : أتدرون يا أهل اليمن لم أخركم ابن هند وقدم قريشاً ؟
قالوا : لا
قال : لأنه في غداة غد يقوم فيكم نذيراً ويلقي عليكم من المسائل ما يقل به إكرامكم ويرخص به مقامكم ، فإذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجبه أحد غيري .فلما كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم فنهض معاوية قائماً على قدميه
وقال : أيها الناس من تكلم قبل العرب وعلى من أنزلت العربية ؟
فقام الطرماح وقال : نحن يا معاوية ، ولم يقل يا أمير المؤمنين .
فقال : لماذا ؟فقال : لأنه لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي
وهو جدنا فقرأ العربية وتداولها قومه من بعده إلى يومنا هذا ، فنحن يا معاوية عرب بالجنس وأنتم عرب بالتعليم .
فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه .
وقال : أيها الناس ، من أقوى العرب إيماناً ومن شهد له بذلك ؟
فقال الطرماح : نحن يا معاوية
قال : ولم ؟
قال : لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فكذبتموه وسفهتموه وجعلتموه مجنوناً ، فآويناه ونصرناه فأنزل الله : " والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً " . وكان النبي صلى الله عليه وآله محسناً لنا متجاوزاً عن سيئاتنا فلم لم تفعل أنت كذلك ؟
كأنك خالفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال : فسكت زماناً ثم رفع رأسه وقال : أيها الناس ، من أفصح العرب لساناً ومن شهد له بذلك ؟قال الطرماح : نحن يا معاويةقال : ولم ذلك ؟
قال : لأن امرؤ القيس بن حجر الكندي منا قال في بعض قصائده
يطعمون الناس غَباً في السنين الممحلاتِ
في جِفانٍ كالخوابي وقدورٍ راسياتِ .
وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك .
قال : فسكت معاوية زماناً وقال : أيها الناس ، من أقوى العرب شجاعة وذكراً ومن شهد له بذلك ؟
قال الطرماح : نحن يا معاوية .قال : ولم ذلك ؟
قال : لأن منا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كان فارساً في الجاهلية وفارساً في الإسلام وشهد له بذلك النبي صلى الله عليه آله وسلم .
فقال له معاوية : وأين أنت وقد أتي به مصفداً بالحديد ؟
فقال له الطرماح : ومن أتى به ؟قال معاوية : أتى به علي
قال الطرماح : والله لو عرفت مقداره لسلمت إليه الخلافة ولا طمعت فيها أبداً .
فقال له معاوية : أتحجني يا عجوز اليمن ؟
قال : نعم أحجك ياعجوز مضر لأن عجوز اليمن بلقيس آمنت بالله وتزوجت بنبيه سليمان بن داود عليهما السلام ، وعجوز مضر جدتك التي قال الله في حقها : "وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد".
قال : فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال : اصرﻓﻮﻩ ﻋﻨﻲ
قيل : إن معاوية جلس يوماً بين أصحابه ، إذ أقبلت قافلتان من البرية ، فقال لبعض من كان بين يديه : إنظروا هؤلاء القوم وائتوني بأخبارهم
. فمضوا وعادوا وقالوا : يا أمير المؤمنين ، إحداهما من اليمن والأخرى من قريش
. فقال : إرجعوا إليهم وإدعوا قريشاً يأتونا ، وأما أهل اليمن فينزلون في أماكنهم إلى أن نأذن لهم في الدخول فلما دخلت قريش سلّم عليهم وقربهم
وقال : أتدرون يا أهل قريش لم أخّرْتُ أهل اليمن وقربتكم ؟
قالوا : لا والله يا أمير المؤمنين
قال : لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم ، وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيرا وألقي عليهم من المسائل ما أقل به إكرامهم وأرخص به مقامهم
. فإذا دخلوا وأخذوا أماكنهم من الجلوس وسألوا عن شيء فلا يجبهم أحد غيري
قال الراوي : وكان المقدم عليهم رجلاً يقال له الطرماح بن الحكم #الباهلي فأقبل على أصحابه وقال : أتدرون يا أهل اليمن لم أخركم ابن هند وقدم قريشاً ؟
قالوا : لا
قال : لأنه في غداة غد يقوم فيكم نذيراً ويلقي عليكم من المسائل ما يقل به إكرامكم ويرخص به مقامكم ، فإذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجبه أحد غيري .فلما كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم فنهض معاوية قائماً على قدميه
وقال : أيها الناس من تكلم قبل العرب وعلى من أنزلت العربية ؟
فقام الطرماح وقال : نحن يا معاوية ، ولم يقل يا أمير المؤمنين .
فقال : لماذا ؟فقال : لأنه لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي
وهو جدنا فقرأ العربية وتداولها قومه من بعده إلى يومنا هذا ، فنحن يا معاوية عرب بالجنس وأنتم عرب بالتعليم .
فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه .
وقال : أيها الناس ، من أقوى العرب إيماناً ومن شهد له بذلك ؟
فقال الطرماح : نحن يا معاوية
قال : ولم ؟
قال : لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فكذبتموه وسفهتموه وجعلتموه مجنوناً ، فآويناه ونصرناه فأنزل الله : " والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً " . وكان النبي صلى الله عليه وآله محسناً لنا متجاوزاً عن سيئاتنا فلم لم تفعل أنت كذلك ؟
كأنك خالفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال : فسكت زماناً ثم رفع رأسه وقال : أيها الناس ، من أفصح العرب لساناً ومن شهد له بذلك ؟قال الطرماح : نحن يا معاويةقال : ولم ذلك ؟
قال : لأن امرؤ القيس بن حجر الكندي منا قال في بعض قصائده
يطعمون الناس غَباً في السنين الممحلاتِ
في جِفانٍ كالخوابي وقدورٍ راسياتِ .
وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك .
قال : فسكت معاوية زماناً وقال : أيها الناس ، من أقوى العرب شجاعة وذكراً ومن شهد له بذلك ؟
قال الطرماح : نحن يا معاوية .قال : ولم ذلك ؟
قال : لأن منا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كان فارساً في الجاهلية وفارساً في الإسلام وشهد له بذلك النبي صلى الله عليه آله وسلم .
فقال له معاوية : وأين أنت وقد أتي به مصفداً بالحديد ؟
فقال له الطرماح : ومن أتى به ؟قال معاوية : أتى به علي
قال الطرماح : والله لو عرفت مقداره لسلمت إليه الخلافة ولا طمعت فيها أبداً .
فقال له معاوية : أتحجني يا عجوز اليمن ؟
قال : نعم أحجك ياعجوز مضر لأن عجوز اليمن بلقيس آمنت بالله وتزوجت بنبيه سليمان بن داود عليهما السلام ، وعجوز مضر جدتك التي قال الله في حقها : "وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد".
قال : فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال : اصرﻓﻮﻩ ﻋﻨﻲ
ذكر موجب المفاخرة وابتداء ما حدث بين الحيين من المكابرة
1فكانت هذه حال نزار عند الملوك الآخرين من قحطان يغدون إلى أبوابهم ويفتخرون بعطاياهم وخدمتهم في الجاهلية، إلى أن كان في زمن معاوية ؛ فعند ذلك أحدث المفاخرة وتحرك للعصبية لما كان يرى من اليمانية على النزارية من الطول والزيادة في القول، وذلك أنه وجه جيشاً إلى الشام وعهد إلى رجل من آل ذي يزن يقال له عفير فجعله صاحب أمر الجيش فخرج عفير بالجيش، وقام محاداً للروم، فوقع في الجيش اختلاط وشر، فخرج عفير ليصلح بين الناس وعليه بُرْنُس له فجذب برنسه رجل من قيس، فأخبرت اليمانية بذلك فلم يمس في الجيش تلك الليلة قيسي إلا مكتوفاً فجعل الرجل من اليمانية يقول للمكتوف من القيسية: أأنت ممن مسّ برنس عفير؟. فيقول المكتوف القيسي: لا. فيقول له اليماني: أما أنك لو كنت ممن مسّ برنسه [187] لقطعت يدك، ويقول بعضهم لضربت عنقك. فذكروا أن جماعة من الناس من غير اليمانية اجتمعوا في ذلك وسألوا اليمانية أن يمنوا على القيسية وقالوا لهم: إنا في بلاد عدو فخلوا سبيل هؤلاء القوم. ففعلوا وكان ذلك أول ما أضغن معاوية وحرك قلبه. وكان الحارث بن عبد كلال وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم وحسن إسلامه، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاوية بن أبي سفيان أن ينطلق به فينزله في بيت عبد الله بن رواحة الأنصاري، وكان أيماً لا زوجة له، قال: فانطلقت بالرجل وإذا برجل فيه نبه النعمة وذكاء المملكة وخيلاء القدرة فعمد إلى ناقته فركبها في المدينة، قال له معاوية: إن قريشاً تعيب من الركوب في المدينة والمدن. فقال: العيب لذي العيب. قال معاوية: فسرت بين يديه وهو راكب وأنا راجل في يوم صايف شديد الحر، فلما استوجعت من الرمضاء قلت له: يا شيخ هل لك في إردافي معك؟ قال: لست من أرداف الملوك أمثالي. قال معاوية: قلت له فأعرني نعليك أقي بهما رجلي من حر الرمضاء. قال له: إنهما لا يحملان مثلك ولا يقلان شكلك، ولكن سر في ظل فرسي من حر الرمضاء فكفى لك بذلك شرفاً عند قومك. قال معاوية: فعلمت أن فيه عُجْب الملك وعجرفة الجاهلية، فسرت بين يديه ثم بلغت به حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إن الحارث بن عبد كلال أدرك معاوية خليفة فقدم عليه فقربه معاوية وأدناه من مجلسه وخلع عليه وأجرى إليه، فقال عمرو بن [188] العاص: أتذكر ما كان منه يا معاوية من شطط القول عليك يوم إسلامه. فقال معاوية: إنا لا نحقد على الضيوف ولا نتبلد عند الجتوف. فسكت عمرو حتى دخل الحارث إلى مجلس معاوية فقرعه عمرو فغضب الحارث وعزم على الإنصراف من مجلس معاوية وردّ عطيته فمشى إليه معاوية في جميع بني أمية معتذراً فرضي وأمسك. وقال الحارث مفتخراً على مضر بذي رعين:
أنا ابن الملوك الأقدمين التبابع ونجل القيول الأكرمين السمادع
ومن لو يقاس الشامخات بفخره لصارت رباها كالخلآء البلاقع
ومن فات …1 وطيبه على مضر من بين دان شاسع
أوان علت فيه ثقيفاً وغيرها من الخلق طراً فاصلات الصنائع
فقل للذنابا من بني العاص هل لكم كمثل فخاري بالنجوم الطوالع
2ودخل ذات يوم شريك بن الأعور الحارثي على معاوية بن أبي سفيان وكان دميماً ذا منطق، فقال له معاوية: إنك لدميم وللجمال خير من الدمامة وإنك لشريك وما لله تعالى من شريك وإنك لابن أعور وللبصير خير من الأعور فبم سدت قومك؟ فأجابه مسرعا: وإنك لمعاوية وإنما معاوية كلبة عوت واستعوت فسميّت معاوية وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر وإنك لابن حرب وللسلم خير من الحرب وإنك لابن أمية وإنما أمية أمَة صُغرت وذللت فسميت أمية فبم صرت أمير المؤمنين؟ فغضب معاوية [189] وخرج شريك وهو يقول:
أيشتمني معاوية بن صخر وسيفي صارم ومعي لساني
وحولي من ذوي يمن ليوث ضراغمة تهب إلى الطعان
يعيرنا الدمامة من سفاه وربات الحجال هي الغواني
ذوات الحسن والريبال جهم شتيم وجهه ماضي الجنان
فلا تبسط لسانك يا بن صخر علينا إذ بلغت مدى الأماني
فإن تك للشقاء لنا أميرا فإنا لا نقيم على الهوان
وإن تك من أمية من ذراها فإني في ذرا عبد المدان
3فهذا وما أشبهه من كلام اليمانية هو الذي أيقظ معاوية في طلب المفاخرة فعند ذلك أجمع رأي معاوية وقومه من بني أمية على مظاهرة الفرس والتطابق فيما بينهم، لأن الفرس والروم من ولد النبي إسحاق صلى الله عليه، ليستظهروا بهم على فخر اليمانية ويفتخروا بملكهم في الجاهلية إذا افتخرت قحطان بملك الجاهلية وأجابتهم جهلة الفرس إلى ذلك ليتخذوا على ذلك فخراً وذكراً لا أصل له ولا حقيقة.
1فكانت هذه حال نزار عند الملوك الآخرين من قحطان يغدون إلى أبوابهم ويفتخرون بعطاياهم وخدمتهم في الجاهلية، إلى أن كان في زمن معاوية ؛ فعند ذلك أحدث المفاخرة وتحرك للعصبية لما كان يرى من اليمانية على النزارية من الطول والزيادة في القول، وذلك أنه وجه جيشاً إلى الشام وعهد إلى رجل من آل ذي يزن يقال له عفير فجعله صاحب أمر الجيش فخرج عفير بالجيش، وقام محاداً للروم، فوقع في الجيش اختلاط وشر، فخرج عفير ليصلح بين الناس وعليه بُرْنُس له فجذب برنسه رجل من قيس، فأخبرت اليمانية بذلك فلم يمس في الجيش تلك الليلة قيسي إلا مكتوفاً فجعل الرجل من اليمانية يقول للمكتوف من القيسية: أأنت ممن مسّ برنس عفير؟. فيقول المكتوف القيسي: لا. فيقول له اليماني: أما أنك لو كنت ممن مسّ برنسه [187] لقطعت يدك، ويقول بعضهم لضربت عنقك. فذكروا أن جماعة من الناس من غير اليمانية اجتمعوا في ذلك وسألوا اليمانية أن يمنوا على القيسية وقالوا لهم: إنا في بلاد عدو فخلوا سبيل هؤلاء القوم. ففعلوا وكان ذلك أول ما أضغن معاوية وحرك قلبه. وكان الحارث بن عبد كلال وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم وحسن إسلامه، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاوية بن أبي سفيان أن ينطلق به فينزله في بيت عبد الله بن رواحة الأنصاري، وكان أيماً لا زوجة له، قال: فانطلقت بالرجل وإذا برجل فيه نبه النعمة وذكاء المملكة وخيلاء القدرة فعمد إلى ناقته فركبها في المدينة، قال له معاوية: إن قريشاً تعيب من الركوب في المدينة والمدن. فقال: العيب لذي العيب. قال معاوية: فسرت بين يديه وهو راكب وأنا راجل في يوم صايف شديد الحر، فلما استوجعت من الرمضاء قلت له: يا شيخ هل لك في إردافي معك؟ قال: لست من أرداف الملوك أمثالي. قال معاوية: قلت له فأعرني نعليك أقي بهما رجلي من حر الرمضاء. قال له: إنهما لا يحملان مثلك ولا يقلان شكلك، ولكن سر في ظل فرسي من حر الرمضاء فكفى لك بذلك شرفاً عند قومك. قال معاوية: فعلمت أن فيه عُجْب الملك وعجرفة الجاهلية، فسرت بين يديه ثم بلغت به حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إن الحارث بن عبد كلال أدرك معاوية خليفة فقدم عليه فقربه معاوية وأدناه من مجلسه وخلع عليه وأجرى إليه، فقال عمرو بن [188] العاص: أتذكر ما كان منه يا معاوية من شطط القول عليك يوم إسلامه. فقال معاوية: إنا لا نحقد على الضيوف ولا نتبلد عند الجتوف. فسكت عمرو حتى دخل الحارث إلى مجلس معاوية فقرعه عمرو فغضب الحارث وعزم على الإنصراف من مجلس معاوية وردّ عطيته فمشى إليه معاوية في جميع بني أمية معتذراً فرضي وأمسك. وقال الحارث مفتخراً على مضر بذي رعين:
أنا ابن الملوك الأقدمين التبابع ونجل القيول الأكرمين السمادع
ومن لو يقاس الشامخات بفخره لصارت رباها كالخلآء البلاقع
ومن فات …1 وطيبه على مضر من بين دان شاسع
أوان علت فيه ثقيفاً وغيرها من الخلق طراً فاصلات الصنائع
فقل للذنابا من بني العاص هل لكم كمثل فخاري بالنجوم الطوالع
2ودخل ذات يوم شريك بن الأعور الحارثي على معاوية بن أبي سفيان وكان دميماً ذا منطق، فقال له معاوية: إنك لدميم وللجمال خير من الدمامة وإنك لشريك وما لله تعالى من شريك وإنك لابن أعور وللبصير خير من الأعور فبم سدت قومك؟ فأجابه مسرعا: وإنك لمعاوية وإنما معاوية كلبة عوت واستعوت فسميّت معاوية وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر وإنك لابن حرب وللسلم خير من الحرب وإنك لابن أمية وإنما أمية أمَة صُغرت وذللت فسميت أمية فبم صرت أمير المؤمنين؟ فغضب معاوية [189] وخرج شريك وهو يقول:
أيشتمني معاوية بن صخر وسيفي صارم ومعي لساني
وحولي من ذوي يمن ليوث ضراغمة تهب إلى الطعان
يعيرنا الدمامة من سفاه وربات الحجال هي الغواني
ذوات الحسن والريبال جهم شتيم وجهه ماضي الجنان
فلا تبسط لسانك يا بن صخر علينا إذ بلغت مدى الأماني
فإن تك للشقاء لنا أميرا فإنا لا نقيم على الهوان
وإن تك من أمية من ذراها فإني في ذرا عبد المدان
3فهذا وما أشبهه من كلام اليمانية هو الذي أيقظ معاوية في طلب المفاخرة فعند ذلك أجمع رأي معاوية وقومه من بني أمية على مظاهرة الفرس والتطابق فيما بينهم، لأن الفرس والروم من ولد النبي إسحاق صلى الله عليه، ليستظهروا بهم على فخر اليمانية ويفتخروا بملكهم في الجاهلية إذا افتخرت قحطان بملك الجاهلية وأجابتهم جهلة الفرس إلى ذلك ليتخذوا على ذلك فخراً وذكراً لا أصل له ولا حقيقة.
فأما علماء الفرس المحققون وذوو المعرفة المتقدمون والمتأخرون، فيزعمون أن النبي إبراهيم صلى الله عليه هرب إليهم إلى الشام ثم هرب منهم إلى الحرم، فكيف يكون أبوهم على هذه الصفة؟ وإنما الخبر الصحيح على ما رواه محمد بن الحسن الكلاعي وغيره أن الفرس من بني كيرمون بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، ويقال في بعضهم [190] إنه من بني حومن بن يافث بن نوح لهم خليط من هذين النسبين والله أعلم، وأما الروم فإنهم بنو رومي بن تابوت بن لقطي بن يافث بن نوح عليه السلام، هذا ما رواه الكلاعي وغيره في نسب الفرس والروم، وإنما تطابقت النزارة وجهال الفرس على هذا النسب في أيام معاوية لما قد ذكروه من التناصر والتوازر وعزم معاوية على مشاركة قضاعة بالخلافة ليستجلبهم بذلك ويخرجهم من نسب اليمن ليستظهر بهم أيضاً، فأرسل إلى الحارث بن النمر بن النعمان بن سالم بن عبد الجن بن سعد بن أسعد بن غالب بن علي بن طرود بن حزم بن ربان بن حلوان بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير، فلما دخل عليه وكان له مُكرماً سأله أن ينسب قضاعة إلى معدّ وقال له: أي العرب أفضل: قال: أنتم بني عبد مناف أكرم العرب إحساناً وأعظمها لساناً. قال: ومن؟ قال: قضاعة أطيب العرب أخباراً وأطولها مناراً وأكرمهم نجاراً ؟ قال: أو تقر بذلك العرب؟ قال: هكذا، أقول لأني بهم أصول وإليهم أؤول. قال: فما تقول في نهد؟ قال: أطولنا أعلاماً وأكرمنا أقواماً وأعظمنا أحلاماً. قال: فما تقول في سليح؟ قال: أقدمنا شرفاً وأكرمنا سلفاً وأعزنا خلقاً. قال: فما تقول في جرهم؟ قال: بحور قضاعة حين تزخر وصوتها حين تجهر ولبابها حين تفخر. قال: فما تقول في كلب؟ قال: أطولنا أعماداً وأكثرنا جياداً وأورنا زناداً. قال: فما تقول في بلعنبر2؟. قال: أفسحنا نكاحاً وأشدنا طماحاً وأعطفنا جناحاً. قال: فما تقول في عاملة؟ قال: [191] أخوتنا الأقربون وقرومنا الأنجبون وليوثنا الأغلبون. قال: فما تقول في طابخة. قال: أعظمنا نائلاً وأعذبنا مناهلا وأقربنا صواهلا. قال: فما تقول في ضبّة بن سعد؟ قال: أخيرنا أطباقاً وأطولنا أبراقاً. قال: فما تقول في عذرة بن سعد؟ قال: أعزنا قلوبا وأقلنا عيوباً وأنجبنا نجوباً. قال: فما قولك في مسجعة؟ قال: ألدنا خصوما وأعلانا خيشوما، قال فما قولك في جهينة؟ قل: أعظمنا حلوماً وأثبتنا أروماً وسيوفنا وأضوأنا نجوما. قال: فما تقول في تنوخ؟ قال: خلفاؤنا في أول الدهر وسيوفنا في مواطن الفخر. قال: ألست منهم. قال: بلى ممن تنخ فأعظم وعقد فأعظم وقدر فأنعم. قال: لم سموا تنوخا؟ قال: لأنهم هجموا فسمحوا وتحالفوا فجمحوا. قال: وعلى من تنخ؟ قال: على أولاد الأكارم من فهم فأما ملوكها وقادتها فالنصر من لخم وأما فرسانها فالغرّ من سائر جرم. قال: أو يقر بذلك جمهور قضاعة؟ قال: قد علمت بذلك ابناء بني عبد الجن أصحاب ألويتها الخوافق وحماتها في الحقايق و ليوثها في كل مأزق. قال معاوية: لله درك قد أطنبت في مدحهم. قال: لأنهم أولى من خصصت بنصحي وحبوت بمنحي، إليهم أصير وبجناحهم أطير. قال: فمن الكاتب منكم مع النعمان بن المنذر؟ قال: عمرو بن عبد الحارث المشَهّر وأسد بن ناعصة الغضنفري. قال: فإلى أي قبايلها ينتهون. قال: إلى بني سعد بن سعد بن كيبر المطعمون والرافدون في الشدة الفقير والذايدون للحرب المستطير [192] والنازلون في اليوم العبوس القمطرير. قال: بم ذا قدمتم جرما؟ قال: إنهم أمنها امتنانا وأحصلها لبابا وأكرمها نصابا وأعلاها قباباً وأسطعها ترابا وأغلظها رقاباً. قال: لله أنت أمحبو ما أتيت به؟ قال: قول تغطمط به بحري وعلا به فخري فجاش به صدري. قال: فصف لي من مضى من الملوك. قال: نعم كانت ملوك حمير جمة أعظم الملوك أخطاراً وأنفذها آثاراً وأعلاها مناراً، وكانت ملوك كندة بحوراً زاخرة ومصابيح زاهرة ووجوهاً ناضرة وليوثاً عاقرة، وكانت ملوك لخم أشد الملوك طماحاً وأكثرها جلاحاً وأعصفها رياحاً، وكانت ملوك الصحاصحة3 من سليح عالية النجوم سليخة القروم، ثم ملك غسان ففاق الملوك بحمل العُظم ونصرهم إليهم. قال: فصف لي بيوتات العرب؟ قال: نعم العرب أربعة جماهير ولكل جمهور منها قبايل وعماير ليس منهم إلا من يدعى بيتاً وإنما شهرت بذلك البيوتات بمنازلهم عند الملوك. قال: فصفهم لي في السجع؟ قال: نعم، وأنشأ يقول:
إن الملوك بني الملوك المنتمين إلى يسار
رفعوا عماد بني السليل وبيت بني قدار
وملوك كندة إذ سموا وملوك حمير في الخيار
وهم لعمري اسسوا البيت الذي لبني نزار
4قال: فضحك معاوية، وقال: ما أرى فضل قضاعتك إلا وقد ذهب حتى [193] صممت إلى القروم وقربت من منابت الأروم. قال الحارث: مهلاً يا معاوية فإنك إن أردت إخراجي أصبت بحرا عميقاً ولساني ذليقاً ووجهي طليقاً. قال معاوية: إنا لم نرد بك إخراجاً فاكفف لله أبوك. قال الحارث: والله إني لفتاح الجواب قؤول بالصواب بصير بفصل الخطاب ولإن استزدتني لأزيدنك. قال: فأيس معاوية من مبايعته إياه.
إن الملوك بني الملوك المنتمين إلى يسار
رفعوا عماد بني السليل وبيت بني قدار
وملوك كندة إذ سموا وملوك حمير في الخيار
وهم لعمري اسسوا البيت الذي لبني نزار
4قال: فضحك معاوية، وقال: ما أرى فضل قضاعتك إلا وقد ذهب حتى [193] صممت إلى القروم وقربت من منابت الأروم. قال الحارث: مهلاً يا معاوية فإنك إن أردت إخراجي أصبت بحرا عميقاً ولساني ذليقاً ووجهي طليقاً. قال معاوية: إنا لم نرد بك إخراجاً فاكفف لله أبوك. قال الحارث: والله إني لفتاح الجواب قؤول بالصواب بصير بفصل الخطاب ولإن استزدتني لأزيدنك. قال: فأيس معاوية من مبايعته إياه.
5ثم أن معاوية أرسل إلى عمرو بن صرة الجرهمي وكان شريفاً فدخل وأوسع له معاوية عن يمينه وأخبره بما جرى بينهما وسأله عن أشياء، ثم قال له يا عمرو: أنت سيد قضاعة والمنظور إليه منها المقبول قوله فيها لصحبتك رسول الله صلى الله عليه فاصعد المنبر حتى تَصْعَد قضاعة إلى معد ولك خراج البصرة وخراج مصر طعمة ما بقيت. قال: لئن فعلتُ لتفعلنّ. قال: ذلك لك بعهد الله وذمة أبي سفيان. فنادى معاوية بالناس فاجتمعوا فصعد عمرو المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه ثم قال: أيها الناس اشهدوا أن معاوية صير لي خراج البصرة ومصر طعمة ما بقيت، على أن أنسب قضاعة إلى معد، آلا فإني أشهدكم أن الشيخ الأكبر قضاعة بن مالك بن حمير في النسب المعروف غير المنكر. وبلغ معاوية الخبر فهجره وأكثر الناس لائمة عمرو في الذي كان منه وقالوا ما كان عليك بمتابعته والحظوة عنده فلا مضرة عليك ولا على قومك وكان ممن عذله ابن له يقال له زهير بن عمرو، (فأنشأ يقول عمرو …)4: [194]
أزهير إني لو طمعت كسوتني حتى الممات بذلة وبعار
قحطان والدنا الذي يدعا له وأبو خزيمة ينتمي لنزار
6فلما يئس معاوية من متابعته أرسل إلى عبيد بن شرية الجرهمي وكان شيخاً كبيراً فقدمه وأكرمه وسأله عن أخبار الأولين، فانتحى في بث أخبار قومه من بني قحطان وشرح أخبار ملوكها، فعلم معاوية أنه لا سبيل إلى ما أراد من إخراج جرهم من قحطان، فعند ذلك يئس معاوية وجدّ هو وقومه من بني أمية في العصبية وشمرت مضر في ذلك وربيعة على حالها لم تنقض الحلف فالذي كان يلقاه معاوية من اليمانية من الطول عليه في الكلام والإفحام في الخصام هو الذي حرك قلبه للمناظرة وقوى عزمه في طلب المفاخرة وطمع في نزار أن تكافئ قحطان في الشرف أو تدانيها في الرفعة والزلف، وكان سبب بلوغ معاوية إلى ما بلغ من الملك حتى صار يتحرك للعصبية وعناد الملوك، وأنه وجد في الطلب بدم عثمان مدخلاً على المسلمين حتى استمال كل ذي دين ضعيف وقام معه يمانية من الشام وقامت اليمانية في العراق مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه والكل من اليمانية في طلب الدين القيم هؤلاء وهؤلاء، فلما استقامت راية معاوية وثبت أمره قام في المفاخرة وخرج في الحمية عن حدود الدين إلى طبع الملوك الأقدمين وكذلك قومه من بني أمية خاصة إلى أن انقرضوا فكانوا إذا أرادوا قتل سيد من اليمانية لم يقتلوه حتى يقيموا عليه حجة من [195] أمر الدين ويشبهوا عليه ذنبا عند المسلمين لئلا تقوم عليهم اليمانية فتجتثهم من فوق الأرض، فقتلوا جماعة بهذا السبب منهم ثابت بن نعيم الجذامي وخالد بن عبد الله القسري5 ومولاً لخالد يقال له غزوان، هؤلاء وغيرهم، واستمروا الجبار6 من أيام بني أمية على أضغانهم وإحنهم في أيام بني العباس فقتل عبد الله بن محمد بن شرحبيل بن السمط بن جبلة الكندي وعاث معن بن زايدة الشيباني في اليمن وقتل من قتل في المعافر وحضروموت غدراً، وكان أول من بغى وغدر ونقض الحلف بين كندة وربيعة، فأما في أيام بني أمية فقام في اليمانية منصور بن جمهور الكلبي بأهل الشام، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري7 وغيرهما من بني قحطان على الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وكان يسمى الفاسق لأنه كان زنديقاً قتلاه وقتلا ابنيه الحكم وعثمان ابني الوليد وكان يقال لهما الجملان وبعدما أخذهما منصور بن جمهور جعلا في الحبس أياما، وكانت أمهما كلبيّة، فقال الحكم وهو في الحبس:
ألا ليت كعباً لم تلدنا وكنا من ولادة آخرينا
أيذهب عامر بدمي ولحمي فلا غثّا أصيب ولا سمينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي فمروان أمير المؤمنين
7استكباراً منه أن تصير الدولة في يد مروان بن محمد فأخرجهما منصور بن جمهور من الحبس ثم قدما فضرب أعناقهما صبرا وقال: والله لا تركت لبني أمية نسلاً ما بقيت. فكان زوالهم على يده وكان آخرهم مروان بن محمد قتله [196] يمانية الشام وفيه يقول دعبل:
ومرواناً قتلنا عن يزيد كذاك قضاؤنا في المعتدينا
8وأما أيام بني العباس فإن المأمون وجه طاهر بن الحسين بن أبي مصعب الخزاعي لحرب أخيه محمد الأمين إلى بغداد، فسار طاهر حتى أحاط به فخشي المأمون على طاهر أن يكون من معه قليلا، فوجه إليه هرثمة بن أعين التميمي في جيش عظيم إلى طاهر فأمره أن يكون عوناً لطاهر من أحد الجانبين، فلما وصل هرثمة إلى طاهر غضب طاهر وقال: كأن المأمون يريد أن يخاطر بي حتى إذا أحكمت الأمر جعل الاسم لغيري. فجد في التضييق على الأمين حتى اضطر إلى طلب الأمان منه، فلم يؤمنه فطلب الأمان من هرثمة فأمنه فازداد غيظ طاهر وحنقه فرصد له الحرس من عبيده وعسكره الليلة التي يخرج بها إلى هرثمة فوقع في أيدي عبيد طاهر فجاؤوا به إليه فأمر طاهر به عبداً له تركياً فضرب عنقه على عيون الناس وبعث برأسه إلى المأمون على …8 ولاء لا إنكار فيه وقال المأمون: أمرناه أن يأتي به أسيراً فأتانا به قتيلاً. فقال بعض شعراء قحطان في ذلك:
أزهير إني لو طمعت كسوتني حتى الممات بذلة وبعار
قحطان والدنا الذي يدعا له وأبو خزيمة ينتمي لنزار
6فلما يئس معاوية من متابعته أرسل إلى عبيد بن شرية الجرهمي وكان شيخاً كبيراً فقدمه وأكرمه وسأله عن أخبار الأولين، فانتحى في بث أخبار قومه من بني قحطان وشرح أخبار ملوكها، فعلم معاوية أنه لا سبيل إلى ما أراد من إخراج جرهم من قحطان، فعند ذلك يئس معاوية وجدّ هو وقومه من بني أمية في العصبية وشمرت مضر في ذلك وربيعة على حالها لم تنقض الحلف فالذي كان يلقاه معاوية من اليمانية من الطول عليه في الكلام والإفحام في الخصام هو الذي حرك قلبه للمناظرة وقوى عزمه في طلب المفاخرة وطمع في نزار أن تكافئ قحطان في الشرف أو تدانيها في الرفعة والزلف، وكان سبب بلوغ معاوية إلى ما بلغ من الملك حتى صار يتحرك للعصبية وعناد الملوك، وأنه وجد في الطلب بدم عثمان مدخلاً على المسلمين حتى استمال كل ذي دين ضعيف وقام معه يمانية من الشام وقامت اليمانية في العراق مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه والكل من اليمانية في طلب الدين القيم هؤلاء وهؤلاء، فلما استقامت راية معاوية وثبت أمره قام في المفاخرة وخرج في الحمية عن حدود الدين إلى طبع الملوك الأقدمين وكذلك قومه من بني أمية خاصة إلى أن انقرضوا فكانوا إذا أرادوا قتل سيد من اليمانية لم يقتلوه حتى يقيموا عليه حجة من [195] أمر الدين ويشبهوا عليه ذنبا عند المسلمين لئلا تقوم عليهم اليمانية فتجتثهم من فوق الأرض، فقتلوا جماعة بهذا السبب منهم ثابت بن نعيم الجذامي وخالد بن عبد الله القسري5 ومولاً لخالد يقال له غزوان، هؤلاء وغيرهم، واستمروا الجبار6 من أيام بني أمية على أضغانهم وإحنهم في أيام بني العباس فقتل عبد الله بن محمد بن شرحبيل بن السمط بن جبلة الكندي وعاث معن بن زايدة الشيباني في اليمن وقتل من قتل في المعافر وحضروموت غدراً، وكان أول من بغى وغدر ونقض الحلف بين كندة وربيعة، فأما في أيام بني أمية فقام في اليمانية منصور بن جمهور الكلبي بأهل الشام، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري7 وغيرهما من بني قحطان على الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وكان يسمى الفاسق لأنه كان زنديقاً قتلاه وقتلا ابنيه الحكم وعثمان ابني الوليد وكان يقال لهما الجملان وبعدما أخذهما منصور بن جمهور جعلا في الحبس أياما، وكانت أمهما كلبيّة، فقال الحكم وهو في الحبس:
ألا ليت كعباً لم تلدنا وكنا من ولادة آخرينا
أيذهب عامر بدمي ولحمي فلا غثّا أصيب ولا سمينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي فمروان أمير المؤمنين
7استكباراً منه أن تصير الدولة في يد مروان بن محمد فأخرجهما منصور بن جمهور من الحبس ثم قدما فضرب أعناقهما صبرا وقال: والله لا تركت لبني أمية نسلاً ما بقيت. فكان زوالهم على يده وكان آخرهم مروان بن محمد قتله [196] يمانية الشام وفيه يقول دعبل:
ومرواناً قتلنا عن يزيد كذاك قضاؤنا في المعتدينا
8وأما أيام بني العباس فإن المأمون وجه طاهر بن الحسين بن أبي مصعب الخزاعي لحرب أخيه محمد الأمين إلى بغداد، فسار طاهر حتى أحاط به فخشي المأمون على طاهر أن يكون من معه قليلا، فوجه إليه هرثمة بن أعين التميمي في جيش عظيم إلى طاهر فأمره أن يكون عوناً لطاهر من أحد الجانبين، فلما وصل هرثمة إلى طاهر غضب طاهر وقال: كأن المأمون يريد أن يخاطر بي حتى إذا أحكمت الأمر جعل الاسم لغيري. فجد في التضييق على الأمين حتى اضطر إلى طلب الأمان منه، فلم يؤمنه فطلب الأمان من هرثمة فأمنه فازداد غيظ طاهر وحنقه فرصد له الحرس من عبيده وعسكره الليلة التي يخرج بها إلى هرثمة فوقع في أيدي عبيد طاهر فجاؤوا به إليه فأمر طاهر به عبداً له تركياً فضرب عنقه على عيون الناس وبعث برأسه إلى المأمون على …8 ولاء لا إنكار فيه وقال المأمون: أمرناه أن يأتي به أسيراً فأتانا به قتيلاً. فقال بعض شعراء قحطان في ذلك:
فإن تقتلوا ابن السمط منا فإننا قتلنا أمير المؤمنين محمداً
9فكذلك كانت حالهم يأخذون اليمانية احتيالاً وتأخذهم اليمانية عزة واقتداراً، ولقد روي أن إسماعيل بن سعيد بن قيس الهمداني وابن الأشعث بن قيس الكندي وابناً لزُحَر بن قيس الجعفي دخلوا على الوليد بن عبد الملك وكان [197] عباس المرهبي قاعداً عنده فدخلوا عليه لتوديعه وكان في كلام إسماعيل بن سعيد عجلة، فقال للوليد عند توديعه: أحسن الله الصحابة وعلينا الخلافة. غلطاً منه فضحك الوليد من غلطه، فقال له العباس: مهلاً لا تراك همدان وأنت تضحك من كلام إسماعيل بن سعيد بن قيس. فقال الوليد: وإن رأوني فمه. فقال له عباس: إذا لا ترى من السماء إلا خطفة. قال له الوليد: أعفيرية يا أبا يوسف؟ قال: هو أقول لك. يعني عفير الذي وجهه معاوية في جيش الشام لقتال الروم وهو عفير من آل ذي يزن قد قدمنا خبره.
10فأهل اليمن هم أهل الأرض حقاً وساير بني آدم فيما بينهم تَبع، والدليل على ذلك أنه ما قام نبي مرسل إلا وهم أصحاب دولته والمقيمون لرايته وذلك أنه لما قام النبي إبراهيم صلى الله عليه لم يزل يتصفح الأمم حتى أفضى إلى مكة ونزل بين جرهم فنصره الضحاك بن قيس الأزدي وجرهم، فلم يزل الناس لى دين الحنيفي من لدن إبراهيم صلى الله عليه، حتى كان في زمن عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن مزيقيا بن عامر ماء السماء فأعاد الناس إلى عبادة الأوثان، وأعادهم شميل إلى الحنيفية فاختصم النضر بن سهل الحميري وخالد بن سلمة، قال النضر: هذه أكبر المناقب. قال خالد: بل هذه مثلبة. فارتفعا في ذلك إلى هشام بن عبد الملك فعرضت على جميع بني أمية فحكموا أنها منقبة وقالوا إن رجلاً يصد الحق عن طريق إلى ما يريد لحقيق أن يفتخر به. فعدت في المناقب في كتاب الواحدة.
11ثم لما كان في زمن النبي سليمان بن داود [198] صلى الله عليه ودعا الناس إلى عبادة الله عز وجل أجابته بلقيس كما شاء الله لها ولقومها فقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾9. فكان ذو بتع الناعطي من خاصته وصاحب أمره. ثم عهد عيسى بن مريم صلى الله عليه كان صاحب أمره الحارث بن كعب المذحجي وكان أكبر الحواريين فهذا مع الرسل المتقدمين وفي الفترات التي تكون بينهم فالملك في أبناء قحطان لم ينافسهم فيه أحد ولا منافس إلى أن جاء الإسلام وبعث رسول الله صلى الله عليه فلم يزل يتصفح الرجال فكل كذب وأصر ونفر إلا هذا الحي من الأوس والخزرج فإنهم بايعوه على حرب بني آدم الأسود والأبيض إلى أن يقوم الدين. ثم كذلك الأئمة من بعده فما قام خليفة محق أو غير محق إلا وأبناء قحطان أصحاب أمره والمقيمين لرايته حتى كان في زمن الواثق من بني العباس فاطرح اليمانية واصطفى الترك فسقط ملك بني العباس وتلاشى أمرهم، فبنو قحطان أصبر على الحق والباطل وأقوم بذلك وساير الناس تبَعٌ لهم، مع أن قحطان لا تفتخر بكفارها والمعاندين لأولياء الله عليهم السلام مثل فرعون ذي الأوتاد وهو الوليد بن مصعب اللخمي، ومثل الأسود الكذاب العنسي الذي قتله قيس بن مكشوح المرادي، ومثل ابن ملجم المرادي الذي قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه، ومثل قاتل عثمان وهو كنانة بن بشر السكوني، لأن كنانة هذا سار إليه من مصر فدخل عليه فشدخ رأسه [199] بعمود كان في يده حتى قتله، ومثل معاوية بن حديج السكوني10 الذي قتل محمد بن أبي بكر رحمه الله، فهؤلاء معاندين وكفار قد أدركوا بعنادهم وكفرهم لم يفتخر بهم أهل اليمن كافتخار أبي جهل بن هشام وأُبي بن خلف وغيرهم من معاندي الإسلام الذين لم يبلغوا بعنادهم إلا الشقاوة عليهم لعنهم الله وعلى من يصوب خطأهم ويرضى بفعلهم.
ملاحظات
1 بياض في الأصل.
2 هكذا وردت في الأصل.
3 هكذا وردت في الأصل، ولعلها الضجاعمة.
4 في الأصل العبارة بأكملها مطموسة ولم يبق إلا علامات الحروف.
5 وهو خالد بن عبد الله بن يزيد القسري من بجيلة يماني الأصل من أهل دمشق، ولي مكة للوليد بن عبد الملك، ثم غدا أمير العراقين في أيام هشام. وكان من خطباء العرب وأجودهم، سجن بأمر من هشام بن عبد الملك ثم قتل في أيام الوليد بن يزيد سنة 126 هجرية. راجع الزركلي، الأعلام، ج 2، ص 297. وقد تناوله صاحب الأغاني وابن الأثير وغيرهم. الأغاني، ج 5، ص 458.
6 كذا في الأصل.
7 كتب في الأصل القشيري.
8 بياض في الأصل.
9 سورة النمل/آية 44.
10 هو معاوية بن حديج بن جفنة بن قنبر الكندي السكوني أمير من الصحابة نعت بقائد الكتائب، شهد حرب صفين وكان في صف معاوية، وتجهز بجيش إلى مصر وكان الوالي عليها من قبل علي بن أبي طالب محمد بن أبي بكر الصديق، فدخل مصر وقتل محمداً وأخذ البيعة لمعاوية ثم ولي أمرة مصر ليزيد بن معاوية، وقام بغزو المغرب مراراً واستولى على صقلية وفتح بنزرت وله آثار بتونس تعرف بآبار حديج، وكان عاملا حازماً واسع العلم، مقداماً وهو ابن كبشة بن معدي كرب. توفي سنة 52 هجرية.
9فكذلك كانت حالهم يأخذون اليمانية احتيالاً وتأخذهم اليمانية عزة واقتداراً، ولقد روي أن إسماعيل بن سعيد بن قيس الهمداني وابن الأشعث بن قيس الكندي وابناً لزُحَر بن قيس الجعفي دخلوا على الوليد بن عبد الملك وكان [197] عباس المرهبي قاعداً عنده فدخلوا عليه لتوديعه وكان في كلام إسماعيل بن سعيد عجلة، فقال للوليد عند توديعه: أحسن الله الصحابة وعلينا الخلافة. غلطاً منه فضحك الوليد من غلطه، فقال له العباس: مهلاً لا تراك همدان وأنت تضحك من كلام إسماعيل بن سعيد بن قيس. فقال الوليد: وإن رأوني فمه. فقال له عباس: إذا لا ترى من السماء إلا خطفة. قال له الوليد: أعفيرية يا أبا يوسف؟ قال: هو أقول لك. يعني عفير الذي وجهه معاوية في جيش الشام لقتال الروم وهو عفير من آل ذي يزن قد قدمنا خبره.
10فأهل اليمن هم أهل الأرض حقاً وساير بني آدم فيما بينهم تَبع، والدليل على ذلك أنه ما قام نبي مرسل إلا وهم أصحاب دولته والمقيمون لرايته وذلك أنه لما قام النبي إبراهيم صلى الله عليه لم يزل يتصفح الأمم حتى أفضى إلى مكة ونزل بين جرهم فنصره الضحاك بن قيس الأزدي وجرهم، فلم يزل الناس لى دين الحنيفي من لدن إبراهيم صلى الله عليه، حتى كان في زمن عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن مزيقيا بن عامر ماء السماء فأعاد الناس إلى عبادة الأوثان، وأعادهم شميل إلى الحنيفية فاختصم النضر بن سهل الحميري وخالد بن سلمة، قال النضر: هذه أكبر المناقب. قال خالد: بل هذه مثلبة. فارتفعا في ذلك إلى هشام بن عبد الملك فعرضت على جميع بني أمية فحكموا أنها منقبة وقالوا إن رجلاً يصد الحق عن طريق إلى ما يريد لحقيق أن يفتخر به. فعدت في المناقب في كتاب الواحدة.
11ثم لما كان في زمن النبي سليمان بن داود [198] صلى الله عليه ودعا الناس إلى عبادة الله عز وجل أجابته بلقيس كما شاء الله لها ولقومها فقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾9. فكان ذو بتع الناعطي من خاصته وصاحب أمره. ثم عهد عيسى بن مريم صلى الله عليه كان صاحب أمره الحارث بن كعب المذحجي وكان أكبر الحواريين فهذا مع الرسل المتقدمين وفي الفترات التي تكون بينهم فالملك في أبناء قحطان لم ينافسهم فيه أحد ولا منافس إلى أن جاء الإسلام وبعث رسول الله صلى الله عليه فلم يزل يتصفح الرجال فكل كذب وأصر ونفر إلا هذا الحي من الأوس والخزرج فإنهم بايعوه على حرب بني آدم الأسود والأبيض إلى أن يقوم الدين. ثم كذلك الأئمة من بعده فما قام خليفة محق أو غير محق إلا وأبناء قحطان أصحاب أمره والمقيمين لرايته حتى كان في زمن الواثق من بني العباس فاطرح اليمانية واصطفى الترك فسقط ملك بني العباس وتلاشى أمرهم، فبنو قحطان أصبر على الحق والباطل وأقوم بذلك وساير الناس تبَعٌ لهم، مع أن قحطان لا تفتخر بكفارها والمعاندين لأولياء الله عليهم السلام مثل فرعون ذي الأوتاد وهو الوليد بن مصعب اللخمي، ومثل الأسود الكذاب العنسي الذي قتله قيس بن مكشوح المرادي، ومثل ابن ملجم المرادي الذي قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه، ومثل قاتل عثمان وهو كنانة بن بشر السكوني، لأن كنانة هذا سار إليه من مصر فدخل عليه فشدخ رأسه [199] بعمود كان في يده حتى قتله، ومثل معاوية بن حديج السكوني10 الذي قتل محمد بن أبي بكر رحمه الله، فهؤلاء معاندين وكفار قد أدركوا بعنادهم وكفرهم لم يفتخر بهم أهل اليمن كافتخار أبي جهل بن هشام وأُبي بن خلف وغيرهم من معاندي الإسلام الذين لم يبلغوا بعنادهم إلا الشقاوة عليهم لعنهم الله وعلى من يصوب خطأهم ويرضى بفعلهم.
ملاحظات
1 بياض في الأصل.
2 هكذا وردت في الأصل.
3 هكذا وردت في الأصل، ولعلها الضجاعمة.
4 في الأصل العبارة بأكملها مطموسة ولم يبق إلا علامات الحروف.
5 وهو خالد بن عبد الله بن يزيد القسري من بجيلة يماني الأصل من أهل دمشق، ولي مكة للوليد بن عبد الملك، ثم غدا أمير العراقين في أيام هشام. وكان من خطباء العرب وأجودهم، سجن بأمر من هشام بن عبد الملك ثم قتل في أيام الوليد بن يزيد سنة 126 هجرية. راجع الزركلي، الأعلام، ج 2، ص 297. وقد تناوله صاحب الأغاني وابن الأثير وغيرهم. الأغاني، ج 5، ص 458.
6 كذا في الأصل.
7 كتب في الأصل القشيري.
8 بياض في الأصل.
9 سورة النمل/آية 44.
10 هو معاوية بن حديج بن جفنة بن قنبر الكندي السكوني أمير من الصحابة نعت بقائد الكتائب، شهد حرب صفين وكان في صف معاوية، وتجهز بجيش إلى مصر وكان الوالي عليها من قبل علي بن أبي طالب محمد بن أبي بكر الصديق، فدخل مصر وقتل محمداً وأخذ البيعة لمعاوية ثم ولي أمرة مصر ليزيد بن معاوية، وقام بغزو المغرب مراراً واستولى على صقلية وفتح بنزرت وله آثار بتونس تعرف بآبار حديج، وكان عاملا حازماً واسع العلم، مقداماً وهو ابن كبشة بن معدي كرب. توفي سنة 52 هجرية.
من التاريخ: اليمن في خلافة علي بن أبي طالب بقلم زيد محمد حسين الفرح
لقد كان في اليمن -كغيرها من الأمصار- مشايعون لعثمان بن عفان ومعارضون لعلي بن أبي طالب كما كان فيها مشايعون لعلي بن أبي طالب، وقد كان ذلك بعد مقتل عثمان بن عفان وتولى علي بن أبي طالب الخلافة حيث ولى علي بن ابي طالب على اليمن عبيد الله بن العباس، بينما أرسل معاوية بن أبي سفيان جيشاً إلى اليمن بقيادة بسر بن أرطأة العامري
فلما دنى بسر من صنعاء سار بن نمران إلى عبيد الله بن العباس ليقاتلا بسر بن أرطأة وأصحابه، فقال له عبيد الله {لا والله ما لنا بهم طاقة ولا يدان، ورفض أن يقاتل، فقام ابن نمران الناعطى الهمداني في الناس وقال: يا أهل اليمن من كان في طاعتنا وعلى بيعة امير المؤمنين علي بن أبي طالب، فإلي.. فأجابه منهم عصابة فتقدم بهم، فقاتل قتالا ضعيفا ثم تفرق عنه الناس. فلحق ابن نمران بعلي في الكوفه مع عبيد الله العباس} [ص ٨٥ قرة العيون]
ويذكر ابن الديبع أنه {لما قرب بسر من صنعاء جمع عبيد الله أهل صنعاء فخطبهم وحضهم على القتال، فقال له ابن فيروز الديلمي: احترز في نفسك. فلما أيس عبيد الله من أهل صنعاء استخلف عمرو بن أراكة الثقفي على صنعاء وترك ولدين له صغيرين بصنعاء وسار يريد علياً في الكوفة، فلما قدم بسر إلى صنعاء انحازت عنه همدان، ثم دخل بسر مدينة صنعاء.. وقتل ابني عبيد الله بن العباس [وقبرهما بصنعاء في مسجد الشهيدين] كما قتل عمرو بن أراكة نائب عبيد الله.. وكذلك قتل بسر بن أرطأة اثنين وتسعين رجلا من الأبناء (الفرس) بصنعاء} [ص٨٧- قرة العيون]
فدانت اليمن لبسر بن أرطأة، وبالتالي لمعاوية بن أبي سفيان ومكث بسر واليا على اليمن مدة سنة كاملة [ص ١٧٠ تاريخ الرازي].. ثم أرسل علي بن أبي طالب الى اليمن جارية بن قدامه السعدي في أربعة آلاف مقاتل وذلك عام ٤٠ ه فلما بلغ بسر بن أرطأة ذلك غادر اليمن مع جنوده فلم يدركه جارية
ثم دخل جارية اليمن حيث يقول ابن الديبع {فنكل جارية بمن ظفر من أصحاب بسر وقتل مستحق القتل منهم ثم عاد الى مكة}
ويذكر الأكوع أن جارية السعدي {نكل بشيعة عثمان في اليمن، وقام بدور يماثل دور بسر وأصحابه، وهرب شيعة عثمان إلى شعاف الجبال، فتبعتهم شيعة علي، وتداعت عليهم من كل جانب، وهكذا منيت اليمن بكارثة عنيفة إثر كارثة..}، بينما سار جارية الى مكة، فلما دخلها بلغه موت على بن أبي طالب.. ثم جرت اتصالات بين معاوية والحسن بن علي بن أبي طالب، فخلع الحسن نفسه وبايع معاوية بالخلافة عام ٤١ ه فدانت لمعاوية سائر الأقطار العربية الإسلامية -ومنها اليمن- وبدأ بذلك عصر الدولة الأموية
لقد كان في اليمن -كغيرها من الأمصار- مشايعون لعثمان بن عفان ومعارضون لعلي بن أبي طالب كما كان فيها مشايعون لعلي بن أبي طالب، وقد كان ذلك بعد مقتل عثمان بن عفان وتولى علي بن أبي طالب الخلافة حيث ولى علي بن ابي طالب على اليمن عبيد الله بن العباس، بينما أرسل معاوية بن أبي سفيان جيشاً إلى اليمن بقيادة بسر بن أرطأة العامري
فلما دنى بسر من صنعاء سار بن نمران إلى عبيد الله بن العباس ليقاتلا بسر بن أرطأة وأصحابه، فقال له عبيد الله {لا والله ما لنا بهم طاقة ولا يدان، ورفض أن يقاتل، فقام ابن نمران الناعطى الهمداني في الناس وقال: يا أهل اليمن من كان في طاعتنا وعلى بيعة امير المؤمنين علي بن أبي طالب، فإلي.. فأجابه منهم عصابة فتقدم بهم، فقاتل قتالا ضعيفا ثم تفرق عنه الناس. فلحق ابن نمران بعلي في الكوفه مع عبيد الله العباس} [ص ٨٥ قرة العيون]
ويذكر ابن الديبع أنه {لما قرب بسر من صنعاء جمع عبيد الله أهل صنعاء فخطبهم وحضهم على القتال، فقال له ابن فيروز الديلمي: احترز في نفسك. فلما أيس عبيد الله من أهل صنعاء استخلف عمرو بن أراكة الثقفي على صنعاء وترك ولدين له صغيرين بصنعاء وسار يريد علياً في الكوفة، فلما قدم بسر إلى صنعاء انحازت عنه همدان، ثم دخل بسر مدينة صنعاء.. وقتل ابني عبيد الله بن العباس [وقبرهما بصنعاء في مسجد الشهيدين] كما قتل عمرو بن أراكة نائب عبيد الله.. وكذلك قتل بسر بن أرطأة اثنين وتسعين رجلا من الأبناء (الفرس) بصنعاء} [ص٨٧- قرة العيون]
فدانت اليمن لبسر بن أرطأة، وبالتالي لمعاوية بن أبي سفيان ومكث بسر واليا على اليمن مدة سنة كاملة [ص ١٧٠ تاريخ الرازي].. ثم أرسل علي بن أبي طالب الى اليمن جارية بن قدامه السعدي في أربعة آلاف مقاتل وذلك عام ٤٠ ه فلما بلغ بسر بن أرطأة ذلك غادر اليمن مع جنوده فلم يدركه جارية
ثم دخل جارية اليمن حيث يقول ابن الديبع {فنكل جارية بمن ظفر من أصحاب بسر وقتل مستحق القتل منهم ثم عاد الى مكة}
ويذكر الأكوع أن جارية السعدي {نكل بشيعة عثمان في اليمن، وقام بدور يماثل دور بسر وأصحابه، وهرب شيعة عثمان إلى شعاف الجبال، فتبعتهم شيعة علي، وتداعت عليهم من كل جانب، وهكذا منيت اليمن بكارثة عنيفة إثر كارثة..}، بينما سار جارية الى مكة، فلما دخلها بلغه موت على بن أبي طالب.. ثم جرت اتصالات بين معاوية والحسن بن علي بن أبي طالب، فخلع الحسن نفسه وبايع معاوية بالخلافة عام ٤١ ه فدانت لمعاوية سائر الأقطار العربية الإسلامية -ومنها اليمن- وبدأ بذلك عصر الدولة الأموية
اليمن والتشيع في صدر الإسلام
اليمن والتشيع في صدر الإسلام
أ/ حمود عبدالله الأهنومي
يعتقد البعض أن ظهور الإمام الهادي يحيى بن الحسين في اليمن وتأسيسه دولة استمرت لأكثر من ألف سنة جاء نتيجة الحظ والصدفة، وأنه أول من نشر المذهب الزيدي والتشيع في اليمن، ويبالغ بعضهم في إنكار أي تشيع في اليمن قبل مجيئه، وينكر أي صلة لليمن بفكرة التشيع والاعتقاد بكون اليمن مغلقة على المذهب السني، ويستغل البعض الحركة النشطة للحديث في القرنين الأول والثاني ليصنفها في إطار الحركة الفكرية السنية، مع أن تلك الفترة (ما قبل الهادي) يصعب تصنيفها بصورة قاطعة ليس في اليمن بل في بلدان كثيرة؛ حيث كانت الأفكار والنظريات المذهبية لا زالت قيد البحث والحوار والتدافع، غير أن هناك مؤشرات كثيرة تدل على أن اليمن كانت تذهب باتجاه التشيع منذ وقت مبكر، وأن الإمام الهادي استطاع إظهار الوجهة اليمنية بما أوتي من قدرات قيادية وحركية وفكرية، وفي هذه المقالة استعراض واسع لنقض ما يقوله أولئك البعض، وإثبات ما نرجِّحه من أن التشيع في اليمن ضارب بجذوره منذ أول الإسلام ونمى إلى حدِّ ظهوره كنظام حاكم في اليمن.
ونقصد بالتشيع هو في أقل مستوياته محبة علي عليه السلام المحبة الخاصة، والتي تعني نشر فضائله والاهتمام بها أكثر من سواه، واتباعه، وتفضيله، ولا نقصد بالمذهب السني كثيرا من المحدثين وأتباع المذاهب الأربعة فهناك كثير من المحدثين وأتباع المذاهب الأربعة؛ فهؤلاء كانوا شيعة، ومنهم على سبيل المثال الحاكم صاحب المستدرك، والنسائي صاحب السنن، وكثيرون، وصموا بالتشيع، بل نقصد بالمذهب السني أولئك الذين تشرّبوا حب الأمويين ففهم يتظاهرون بحب معاوية مثلا وحب علي في آن واحد.
بداية يمكن القول إن علاقة تاريخية قوية ومتأصلة وضاربة في التاريخ ربطت اليمن بالحجاز، بحكم الجوار، والقرب الجغرافي، هذا من غير علاقة الفروع بالأصل حيث ترجِّحُ كثير من البحوث التاريخية المعاصرة أنه إلى اليمن تعود أصول الشعوب في الحجاز وبلاد الشام وبلاد الرافدين وشمال أفريقيا؛ وفي مكة يذكر الأخباريون أنه كان هناك جرهم الأولى التي تعتبر من العرب البائدة، والتي قضى عليها القحطانيون، وهو أمر يشير إلى قوة تأثير اليمن في هذه المنطقة القريبة من الحجاز[1].
وُجِد العماليق في مكة، وينسبهم الأخباريون إلى لاوذ بن سام، وتذكر المصادر اليهودية عنهم أحداثا تشير إلى استحكام العداء بين اليهود والعماليق، لكن الرواية تقول: إن جرهم القحطانية وهم جرهم بن عامر قدمت إلى مكة فتغلبت على العماليق بعد حين وقضت عليهم نهائيا[2]، ولما أسكن خليلُ الله إبراهيمُ عليه السلام زوجَه هاجر وابنه إسماعيل بمكة الوادي غير ذي الزرع، وأخرج الله ماء زمزم، تزوّج فيهم إسماعيل عليه السلام، وأنجب أولادا كثيرين، افترقوا وبقي منهم قوم آلت أمور مكة إليهم في وسط القرن الثاني الميلادي بعد أن كانت في يد أخوالهم الجرهميين اليمانيين الذين أساؤوا التصرف في شؤون البيت الحرام.
هذه الخؤولة كانت أول لقاء حميمي بين الجرهميين اليمانيين وبين أولاد إسماعيل عليه السلام، والتي سيكون لها أثر في تدعيم العلاقات التاريخية بين الفريقين لاحقا، بإتباعها بمزيد من التقارب والتآصر الاجتماعي.
لقد تحوّلت منطقة الحجاز وتحديدا مكة بوضع أول بيت فيها لله مباركا وهدى للعالمين، الذي أُمِر إبراهيم عليه السلام بأن يؤذِّن للناس بالحج إليه من كل فج عميق، ولا شك أن اليمن سيكون لها حظ كبير في هذا الحج، وكانت مع ذلك لا تزال تشكِّل المصدر الأهم للهجرات نحو الشمال، حيث لما انفرط عِقْدُ الدولة السبئية وتفرّقت أياديهم، وتخرّب سد مأرب، هاجر الحيان الأوس والخزرج اليمانيون إلى يثرب (المدينة المنورة) وقطنوها، وسادت علاقة طيبة بين العدنانيين أولاد إسماعيل وبين اليمانيين أهل يثرب، ونتيجة لذلك وبعد زمن تزوّج سيد بطحاء مكة كلابُ بن مرة فاطمةَ بنت عوف بن سعد الأزدية[3]، والأزد من القبائل اليمنية التي هاجرت شمالا بعد انهيار الدولة المركزية في اليمن، وبعضهم قطن منطقة عُمَان والسراة شمال اليمن، ثم تزوج هاشم بن عبدمناف بالعقيلة اليمانية سلمى بنت عمرو، من بني النجار، من الخزرج، من أهل المدينة[4]، ثم تزوّج عبدالمطلب بنجارية أخرى وهي فاطمة بنت عمرو بن عامر من بني النجار، ولدت له عبدالله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم[5].
وبهذا يتبين عمق الأواصر الاجتماعية التي ربطت بعض أحياء اليمانيين بسلسلة النسب الطاهر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أثمرت هذه العلاقة القريبة أوضاعا إيجابية لأهل مكة، فقد كان عبدالمطلب يزور اليمن بين الحين والآخر، وإذا وردها نزل على عظيم من عظماء حمير، وأخذ من ملوك اليمن لقومه إيلافا بالاتجار مع اليمن، فكانت قريش تنظم عيرا تجارية إلى اليمن سنويا، وهي المنة التي امتنّ الله بها على قريش حيث (آمنهم من جوع وآمنهم من خوف)، فلا يعترض قوافلهم التجارية أحدٌ، بل لعمق العلاقة وعظيم المحبة تأثّر عبدالمطلب
اليمن والتشيع في صدر الإسلام
أ/ حمود عبدالله الأهنومي
يعتقد البعض أن ظهور الإمام الهادي يحيى بن الحسين في اليمن وتأسيسه دولة استمرت لأكثر من ألف سنة جاء نتيجة الحظ والصدفة، وأنه أول من نشر المذهب الزيدي والتشيع في اليمن، ويبالغ بعضهم في إنكار أي تشيع في اليمن قبل مجيئه، وينكر أي صلة لليمن بفكرة التشيع والاعتقاد بكون اليمن مغلقة على المذهب السني، ويستغل البعض الحركة النشطة للحديث في القرنين الأول والثاني ليصنفها في إطار الحركة الفكرية السنية، مع أن تلك الفترة (ما قبل الهادي) يصعب تصنيفها بصورة قاطعة ليس في اليمن بل في بلدان كثيرة؛ حيث كانت الأفكار والنظريات المذهبية لا زالت قيد البحث والحوار والتدافع، غير أن هناك مؤشرات كثيرة تدل على أن اليمن كانت تذهب باتجاه التشيع منذ وقت مبكر، وأن الإمام الهادي استطاع إظهار الوجهة اليمنية بما أوتي من قدرات قيادية وحركية وفكرية، وفي هذه المقالة استعراض واسع لنقض ما يقوله أولئك البعض، وإثبات ما نرجِّحه من أن التشيع في اليمن ضارب بجذوره منذ أول الإسلام ونمى إلى حدِّ ظهوره كنظام حاكم في اليمن.
ونقصد بالتشيع هو في أقل مستوياته محبة علي عليه السلام المحبة الخاصة، والتي تعني نشر فضائله والاهتمام بها أكثر من سواه، واتباعه، وتفضيله، ولا نقصد بالمذهب السني كثيرا من المحدثين وأتباع المذاهب الأربعة فهناك كثير من المحدثين وأتباع المذاهب الأربعة؛ فهؤلاء كانوا شيعة، ومنهم على سبيل المثال الحاكم صاحب المستدرك، والنسائي صاحب السنن، وكثيرون، وصموا بالتشيع، بل نقصد بالمذهب السني أولئك الذين تشرّبوا حب الأمويين ففهم يتظاهرون بحب معاوية مثلا وحب علي في آن واحد.
بداية يمكن القول إن علاقة تاريخية قوية ومتأصلة وضاربة في التاريخ ربطت اليمن بالحجاز، بحكم الجوار، والقرب الجغرافي، هذا من غير علاقة الفروع بالأصل حيث ترجِّحُ كثير من البحوث التاريخية المعاصرة أنه إلى اليمن تعود أصول الشعوب في الحجاز وبلاد الشام وبلاد الرافدين وشمال أفريقيا؛ وفي مكة يذكر الأخباريون أنه كان هناك جرهم الأولى التي تعتبر من العرب البائدة، والتي قضى عليها القحطانيون، وهو أمر يشير إلى قوة تأثير اليمن في هذه المنطقة القريبة من الحجاز[1].
وُجِد العماليق في مكة، وينسبهم الأخباريون إلى لاوذ بن سام، وتذكر المصادر اليهودية عنهم أحداثا تشير إلى استحكام العداء بين اليهود والعماليق، لكن الرواية تقول: إن جرهم القحطانية وهم جرهم بن عامر قدمت إلى مكة فتغلبت على العماليق بعد حين وقضت عليهم نهائيا[2]، ولما أسكن خليلُ الله إبراهيمُ عليه السلام زوجَه هاجر وابنه إسماعيل بمكة الوادي غير ذي الزرع، وأخرج الله ماء زمزم، تزوّج فيهم إسماعيل عليه السلام، وأنجب أولادا كثيرين، افترقوا وبقي منهم قوم آلت أمور مكة إليهم في وسط القرن الثاني الميلادي بعد أن كانت في يد أخوالهم الجرهميين اليمانيين الذين أساؤوا التصرف في شؤون البيت الحرام.
هذه الخؤولة كانت أول لقاء حميمي بين الجرهميين اليمانيين وبين أولاد إسماعيل عليه السلام، والتي سيكون لها أثر في تدعيم العلاقات التاريخية بين الفريقين لاحقا، بإتباعها بمزيد من التقارب والتآصر الاجتماعي.
لقد تحوّلت منطقة الحجاز وتحديدا مكة بوضع أول بيت فيها لله مباركا وهدى للعالمين، الذي أُمِر إبراهيم عليه السلام بأن يؤذِّن للناس بالحج إليه من كل فج عميق، ولا شك أن اليمن سيكون لها حظ كبير في هذا الحج، وكانت مع ذلك لا تزال تشكِّل المصدر الأهم للهجرات نحو الشمال، حيث لما انفرط عِقْدُ الدولة السبئية وتفرّقت أياديهم، وتخرّب سد مأرب، هاجر الحيان الأوس والخزرج اليمانيون إلى يثرب (المدينة المنورة) وقطنوها، وسادت علاقة طيبة بين العدنانيين أولاد إسماعيل وبين اليمانيين أهل يثرب، ونتيجة لذلك وبعد زمن تزوّج سيد بطحاء مكة كلابُ بن مرة فاطمةَ بنت عوف بن سعد الأزدية[3]، والأزد من القبائل اليمنية التي هاجرت شمالا بعد انهيار الدولة المركزية في اليمن، وبعضهم قطن منطقة عُمَان والسراة شمال اليمن، ثم تزوج هاشم بن عبدمناف بالعقيلة اليمانية سلمى بنت عمرو، من بني النجار، من الخزرج، من أهل المدينة[4]، ثم تزوّج عبدالمطلب بنجارية أخرى وهي فاطمة بنت عمرو بن عامر من بني النجار، ولدت له عبدالله والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم[5].
وبهذا يتبين عمق الأواصر الاجتماعية التي ربطت بعض أحياء اليمانيين بسلسلة النسب الطاهر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أثمرت هذه العلاقة القريبة أوضاعا إيجابية لأهل مكة، فقد كان عبدالمطلب يزور اليمن بين الحين والآخر، وإذا وردها نزل على عظيم من عظماء حمير، وأخذ من ملوك اليمن لقومه إيلافا بالاتجار مع اليمن، فكانت قريش تنظم عيرا تجارية إلى اليمن سنويا، وهي المنة التي امتنّ الله بها على قريش حيث (آمنهم من جوع وآمنهم من خوف)، فلا يعترض قوافلهم التجارية أحدٌ، بل لعمق العلاقة وعظيم المحبة تأثّر عبدالمطلب
حتى في الشكل ببعض أقيال اليمن حيث صبغ شعره بالسواد مثلهم، فما لبث أن سرت هذه الموضة في أهل مكة فصاروا يخضبون بالسواد جميعا[6].
وللعلاقة المتأصلة ذهب عبدالمطلب على رأس وفد إلى اليمن لتهنئة القائد سيف بن ذي يزن في مناسبة انتصار اليمنيين وطرد الأحباش المحتلين، وقد بالغ الملك سيف مبالغة عظيمة في احترام عبدالمطلب وصحبه، وأكرم نُزُلَهم ووفادتهم، لا سيما حين عرف أنه ابن أختهم سلمى النجارية[7]، وهكذا يتضح أن العلاقة الطيبة بين البيت الهاشمي العدناني واليمنيين هي التي كُتِبَ لها الاستمرار ربما لقرون مضت، حتى أشرقت شمس الإسلام، حيث ظهرت بمحيا سيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كما سلف ينحدر من جدات قحطانيات، ضمن جداته في سلسلة نسبه الشريف.
لقد كانت اليمن أهم البلدان التي فكّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسل الدعاة لدعوة أهلها إلى الإسلام، وهناك حالات كثيرة أسلم فيها أفراد يمنيون منذ وقت مبكر، أي من قبل فتح مكة، ويترجح أن باذان الفارسي حاكم صنعاء أسلم في السنة السابعة من الهجرة إثر كتبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك العالم، ولما دخلت مكة في الإسلام في السنة الثامنة الهجرية كان ذلك بمثابة انتشاره كالنار في الهشيم؛ لِمَا كانت تمثله مكة من زعامة روحية، ولِمَا كانت تمثِّلُه قريش من أداة تخذيل وصدٍّ عن الدعوة الإسلامية.
من المعروف أن اليمن وقتذاك كانت منفرِطةَ العِقد، لا تجمعها حكومة واحدة، وكل قبيلة لها قَيْلُها، الذي يُدْعَى في كثير من الأحيان بـ(الملك)، وحتى تلك القبائل الكبرى كهمدان[8] ومذحج[9] وكندة[10] وحمير[11] والأشاعرة[12] وقبائل السراة[13] وقضاعة[14] كانت شذر مذر؛ ولهذا نجد أن القبيلة الواحدة تكررت فيها سرايا رسول الله، وجاءته صلى الله عليه وآله وسلم منها وفود مختلفة في عام الوفود والتي تمثل في بعض الأحيان أفخاذا من القبيلة الواحدة.
يبدو أن أبناء الفرس في صنعاء حيث لم يكن تحت أيديهم سوى صنعاء وعدن فقط أحسوا بالخطر عشية ظهور الإسلام، فتحالفوا مع قبيلة همدان، ووقعوا وثيقة تحالف وتناصر معها في الرحبة من ضواحي صنعاء[15]، وكانت لهم علاقات حسنة بحمير، بينما كانوا على علاقة عداء مع بعض أفخاذ قبيلة مذحِج[16].
بدأت طلائع القبائل اليمنية تتوافد على المدينة، وقد أسلم كثير من زعماء حمير، وبعثوا برسالة مع مالك بن مرارة الرهاوي، وأجاب عليهم رسول الله وولاهم على بلدانهم، ومنهم أبو زرعة بن سيف بن ذي يزن وغيره، ثم أرسل إلى ملوك حمير ولاة ومعلمين تحت قيادة معاذ بن جبل وكان ذلك بعد السنة التاسعة، وجعله معلِّما لولاية الجند، التي تتبع (حمير) وعلى تماسٍّ بحدود كندة شرقا، التي تتداخل مع حمير.
تذكر بعض الروايات أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصل إلى اليمن أربع مرات؛ ثلاثٌ على عهد رسول الله، وواحدة في عهد أبي بكر[17]، لكنه يصعب افتراض تاريخ خروجه في هذه الثلاث المرات، وإن ورد في طبقات ابن سعد[18] أن له سريتين إلى اليمن، وإحداها في شهر رمضان من السنة العاشرة للهجرة، بينما بقيت الأخريات من دون تاريخ، ومع ذلك لا يمكن أخذ الأمر على علاته.
لقد ثبت بصورة قاطعة أن عليا عليه السلام كان مع رسول الله في فتح مكة، ثم في حنين في السنة الثامنة، من شهر رمضان حتى آخر السنة، وفي السنة التاسعة في شهر ربيع الأول أرسله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طيء لهدم صنم (الفلس)، وفي رجب من نفس السنة تركه صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة حين خرج إلى تبوك، وفي آخر السنة في الحج بعثه لإعلان البراءة من المشركين، أي أن هناك فارقا من الوقت وهو ما بين شهر رجب وآخر ذي القعدة وشهر ذي الحجة، وفي السنة التي تلتها يذكر ابن سعد في الطبقات أنه في السنة العاشرة خرج إلى اليمن، ثم يُجْمِع المؤرخون والفقهاء أنه بقي في اليمن حتى أيام موسم الحج وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بموافاته في مكة، وبحسب ابن سعد فإنه عليه السلام إذا كان قد خرج في رمضان فإنه سيحتاج أكثر من 30 يوما للوصول إلى اليمن، أي لن يصل إلا في شوال، ولن يمكنه أن يوافي رسول الله في الموسم إلا قبل يوم عرفة بحوالي أكثر من 20 يوما على الأقل، أي أنه قد ترك اليمن في 20 ذي القعدة، وبهذا تكون مدة بقائه في اليمن قليلة جدا، لا تتناسب والدور التاريخي الذي أوكل إليه عليه السلام.
لقد جاء في الرواية أنه بعث قاضيا[19]، وأميرا[20]، وأنه دعا همدان إلى الإسلام وأسلمت في يوم واحد[21]، وأنه جاء نفر من أهل اليمن وطلبوا أن يرسل معهم من يفقههم في الدين، ويعلمهم السنن، ويحكم فيهم بالكتاب، فبعثه معهم[22]، وأنه دخل صنعاء ونزل على أم سعيد بنت برزج زوجة داذويه الفارسي ومكث أربعين يوما فيها، وفصل في مسائل قضائية، وأرسل إلى رسول الله بعضا مما غنمه، وأرسل إليه أيضا تقريره عن إسلام همدان في يوم واحد، وكان يخطب في الناس، ويصف لهم رسول الله حتى أنه كما سيأتي أقنع يهوديا بالإسلام، فمكث لديه يعلمه الكتاب والآثار، ...
وللعلاقة المتأصلة ذهب عبدالمطلب على رأس وفد إلى اليمن لتهنئة القائد سيف بن ذي يزن في مناسبة انتصار اليمنيين وطرد الأحباش المحتلين، وقد بالغ الملك سيف مبالغة عظيمة في احترام عبدالمطلب وصحبه، وأكرم نُزُلَهم ووفادتهم، لا سيما حين عرف أنه ابن أختهم سلمى النجارية[7]، وهكذا يتضح أن العلاقة الطيبة بين البيت الهاشمي العدناني واليمنيين هي التي كُتِبَ لها الاستمرار ربما لقرون مضت، حتى أشرقت شمس الإسلام، حيث ظهرت بمحيا سيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كما سلف ينحدر من جدات قحطانيات، ضمن جداته في سلسلة نسبه الشريف.
لقد كانت اليمن أهم البلدان التي فكّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسل الدعاة لدعوة أهلها إلى الإسلام، وهناك حالات كثيرة أسلم فيها أفراد يمنيون منذ وقت مبكر، أي من قبل فتح مكة، ويترجح أن باذان الفارسي حاكم صنعاء أسلم في السنة السابعة من الهجرة إثر كتبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك العالم، ولما دخلت مكة في الإسلام في السنة الثامنة الهجرية كان ذلك بمثابة انتشاره كالنار في الهشيم؛ لِمَا كانت تمثله مكة من زعامة روحية، ولِمَا كانت تمثِّلُه قريش من أداة تخذيل وصدٍّ عن الدعوة الإسلامية.
من المعروف أن اليمن وقتذاك كانت منفرِطةَ العِقد، لا تجمعها حكومة واحدة، وكل قبيلة لها قَيْلُها، الذي يُدْعَى في كثير من الأحيان بـ(الملك)، وحتى تلك القبائل الكبرى كهمدان[8] ومذحج[9] وكندة[10] وحمير[11] والأشاعرة[12] وقبائل السراة[13] وقضاعة[14] كانت شذر مذر؛ ولهذا نجد أن القبيلة الواحدة تكررت فيها سرايا رسول الله، وجاءته صلى الله عليه وآله وسلم منها وفود مختلفة في عام الوفود والتي تمثل في بعض الأحيان أفخاذا من القبيلة الواحدة.
يبدو أن أبناء الفرس في صنعاء حيث لم يكن تحت أيديهم سوى صنعاء وعدن فقط أحسوا بالخطر عشية ظهور الإسلام، فتحالفوا مع قبيلة همدان، ووقعوا وثيقة تحالف وتناصر معها في الرحبة من ضواحي صنعاء[15]، وكانت لهم علاقات حسنة بحمير، بينما كانوا على علاقة عداء مع بعض أفخاذ قبيلة مذحِج[16].
بدأت طلائع القبائل اليمنية تتوافد على المدينة، وقد أسلم كثير من زعماء حمير، وبعثوا برسالة مع مالك بن مرارة الرهاوي، وأجاب عليهم رسول الله وولاهم على بلدانهم، ومنهم أبو زرعة بن سيف بن ذي يزن وغيره، ثم أرسل إلى ملوك حمير ولاة ومعلمين تحت قيادة معاذ بن جبل وكان ذلك بعد السنة التاسعة، وجعله معلِّما لولاية الجند، التي تتبع (حمير) وعلى تماسٍّ بحدود كندة شرقا، التي تتداخل مع حمير.
تذكر بعض الروايات أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصل إلى اليمن أربع مرات؛ ثلاثٌ على عهد رسول الله، وواحدة في عهد أبي بكر[17]، لكنه يصعب افتراض تاريخ خروجه في هذه الثلاث المرات، وإن ورد في طبقات ابن سعد[18] أن له سريتين إلى اليمن، وإحداها في شهر رمضان من السنة العاشرة للهجرة، بينما بقيت الأخريات من دون تاريخ، ومع ذلك لا يمكن أخذ الأمر على علاته.
لقد ثبت بصورة قاطعة أن عليا عليه السلام كان مع رسول الله في فتح مكة، ثم في حنين في السنة الثامنة، من شهر رمضان حتى آخر السنة، وفي السنة التاسعة في شهر ربيع الأول أرسله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طيء لهدم صنم (الفلس)، وفي رجب من نفس السنة تركه صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة حين خرج إلى تبوك، وفي آخر السنة في الحج بعثه لإعلان البراءة من المشركين، أي أن هناك فارقا من الوقت وهو ما بين شهر رجب وآخر ذي القعدة وشهر ذي الحجة، وفي السنة التي تلتها يذكر ابن سعد في الطبقات أنه في السنة العاشرة خرج إلى اليمن، ثم يُجْمِع المؤرخون والفقهاء أنه بقي في اليمن حتى أيام موسم الحج وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بموافاته في مكة، وبحسب ابن سعد فإنه عليه السلام إذا كان قد خرج في رمضان فإنه سيحتاج أكثر من 30 يوما للوصول إلى اليمن، أي لن يصل إلا في شوال، ولن يمكنه أن يوافي رسول الله في الموسم إلا قبل يوم عرفة بحوالي أكثر من 20 يوما على الأقل، أي أنه قد ترك اليمن في 20 ذي القعدة، وبهذا تكون مدة بقائه في اليمن قليلة جدا، لا تتناسب والدور التاريخي الذي أوكل إليه عليه السلام.
لقد جاء في الرواية أنه بعث قاضيا[19]، وأميرا[20]، وأنه دعا همدان إلى الإسلام وأسلمت في يوم واحد[21]، وأنه جاء نفر من أهل اليمن وطلبوا أن يرسل معهم من يفقههم في الدين، ويعلمهم السنن، ويحكم فيهم بالكتاب، فبعثه معهم[22]، وأنه دخل صنعاء ونزل على أم سعيد بنت برزج زوجة داذويه الفارسي ومكث أربعين يوما فيها، وفصل في مسائل قضائية، وأرسل إلى رسول الله بعضا مما غنمه، وأرسل إليه أيضا تقريره عن إسلام همدان في يوم واحد، وكان يخطب في الناس، ويصف لهم رسول الله حتى أنه كما سيأتي أقنع يهوديا بالإسلام، فمكث لديه يعلمه الكتاب والآثار، ...
إلى آخر الأحداث الثابتة التي لا يمكن أن يفي هذا الزمن المفترض لها.
يجب إذن أن نرتب الأحداث التاريخية غير المؤرخة بحسب سياقها الموضوعي؛ فمثلا ليس معقولا أن يذهب الإمام علي قاضيا بين الناس وهم لا يزالون في الكفر.
ولهذا يترجح لدينا أنه خرج عدة خرجات إلى اليمن، وهو كما قلنا يحمل مهمة مزدوجة عسكرية ودعوية وإرشادية وقضائية، وتذكر رواية الجندي أن له أربع خرجات إلى اليمن، إحداها في أيام أبي بكر[23]، ولكن ما يمكن التحقق منه أنه من الطبيعي أن لا يكون له أي تحرك نحو اليمن إلا بعد فتح مكة؛ لوقوعها جنوبا من المدينة على طريق اليمن، ومن ثم كانت تشكِّل سورا مانعا للمسلمين من التقدم نحو اليمن، وربما كانت رواية طبقات ابن سعد هي الأقرب من كونه له سريتان إلى اليمن، وإن أخطأ في توقيت الأخيرة بأنه في رمضان.
يبدو إذن أن السرية الأولى كانت في السنة التاسعة ما بين شهر رجب منقلب رسول الله من تبوك، وآخر شهر ذي القعدة التي أمَرَ فيه عليا بتبليغ (براءة)، وكانت موجهة ضد بعض قبائل (مذحج) والتي منها قبيلة (زُبَيْد)[24] قبيلة الفارس المشهور عمرو بن معدي كرب، ورافقه قائد آخر وهو خالد بن سعيد بن العاص على رأس سرية أخرى متوجهة أيضا إلى (قبيلة) مذحج، وأمِر أنه إذا التقى عليا فعلي هو الأمير، وحدث أن حاول فارس (زبيد) التعرض لهما، فلما دنا منهما ناداهما: أنا أبو ثور، أنا عمرو بن معد يكرب، وحَسِب أن شهرته ستهيبهما، لكنهما ابتدراه وكلاهما يُفَدِّي صاحبه بأمه وأبيه، ويقول: خلّني وإياه، فانسحب عمرو بعد أن رأى تسابقهما إليه[25]، وإذا عرفنا أن مساكن زبيد المذحجية تقع في ما يسمى الآن خولان بن عامر، فإن بعض المصادر أوردت اسم المكان الذي التقوا فيه، وهو (كشر)[26] المعروفة اليوم والتي تقع ضمن المحيط الجغرافي القريب، ويؤكّد هذا أن رسول الله ولّى خالد بن سعيد بن العاص ما بين نجران ورمع، وهي تشمل المنطقة المذكورة[27]، وهناك رواية تقول: إن عمرو بن معدي كرب لم يسلم إلا في السنة العاشرة[28]، ومع ذلك فقد أسلم عدد من زعماء مذحج مع علي في هذه السرية.
ولما أكمل مهمته عليه السلام في السنة التاسعة في الحج أُمِر - كما يترجح لي - بالتوجه بعدها إلى اليمن في بداية السنة العاشرة للهجرة، قائدا وأميرا وقاضيا ومرشدا، ومع علمنا أن هناك وفودا من همدان (حاشد وبكيل) أسلمت في السنة التاسعة للهجرة، وهناك استجابة مبكِّرة من قبل بعض أفراد قبيلة همدان للدخول في الإسلام، إلا أن الأغلب أو القبائل الأقوى لم تشأ الدخول في الإسلام، بل وعاندت القائد خالد بن الوليد ومانعته ستة أشهر، فلم يستجيبوا له، حتى إذا جاء علي عليه السلام جمعهم في مكان واحد، وقرأ عليهم كتاب رسول الله فأسلمت همدان جميعُها في يوم واحد؛ الأمر الذي جعل عليا عليه السلام يرسل تقريره إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسلام همدان سريعا، فما كان من النبي القائد إلا أن يستجيب استجابة حسنة لهذا التقرير فيسجد سجود الشكر، ويقول: السلام على همدان ثلاثا[29]، وهي حالة فرح لم تُعْهَد ولم تعرف في حالات أخرى؛ الأمر الذي يجعل الحدث ذا أهمية بالغة في تاريخ الإسلام وتاريخ اليمنيين، ويبين أن هناك علاقة ما كانت سببا في هذه الاستجابة العجيبة، تعود لأهلية أمير المؤمنين وقدرته الباهرة في الدعوة، وحنكته في القيادة وسمعته في الأخلاق والقتال، وقربه من رسول الله، ولانتمائه إلى بيت عبدالمطلب الشخصية المعروفة في اليمن وابن الأسرة المحبوبة فيها.
لقد مكث شهورا كثيرة مكّنته لأن يقوم بالدور المفترض به والمطلوب منه، وهو تعليم الناس بأحكام الله، وإرشادهم إلى دين الله، وتعليمهم الفرائض والسنن، والقضاء بينهم، وهو الأمر الذي خاف علي عليه السلام أن لا يُوَفَّق إليه؛ لأنه سيأتي إلى قوم – على حد قوله – "هم أسن مني" كما في بعض الروايات، وفيه إشارة إلى التفوق اليمني في مجال القضاء؛ لخلفيتهم الحضارية حتى أن أمير المؤمنين هاب أن يقضي بينهم، ولهذا دعا له رسول الله بتثبيت قلبه، ونصحه أن لا يحكم للخصم حتى يسمع من الخصم الآخر[30]، ومن قضاياه التي حكم بها في اليمن قضية زبية الأسد، والتي يتضح من خلال سياقها التاريخي أنه قضاها في هذه المرة أي في السنة العاشرة؛ لأنهم استأنفوا الحكم لدى رسول الله، حيث أجاز لهم علي عليه السلام ذلك، فلقوه في مكة في حجة الوداع وأيّد صلى الله عليه وآله وسلم حكمه[31].
لقد روى عليه السلام أن يهوديا سأله في اليمن عن أوصاف رسول الله فبيَّنها له وهو على المنبر، فوجدها اليهودي مطابقة لما معه من الكتب التي تبشر به فما كان منه إلا أن أعلن إسلامه، ثم كان يأتي عليا عليه السلام فيعلمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام[32].
يجب إذن أن نرتب الأحداث التاريخية غير المؤرخة بحسب سياقها الموضوعي؛ فمثلا ليس معقولا أن يذهب الإمام علي قاضيا بين الناس وهم لا يزالون في الكفر.
ولهذا يترجح لدينا أنه خرج عدة خرجات إلى اليمن، وهو كما قلنا يحمل مهمة مزدوجة عسكرية ودعوية وإرشادية وقضائية، وتذكر رواية الجندي أن له أربع خرجات إلى اليمن، إحداها في أيام أبي بكر[23]، ولكن ما يمكن التحقق منه أنه من الطبيعي أن لا يكون له أي تحرك نحو اليمن إلا بعد فتح مكة؛ لوقوعها جنوبا من المدينة على طريق اليمن، ومن ثم كانت تشكِّل سورا مانعا للمسلمين من التقدم نحو اليمن، وربما كانت رواية طبقات ابن سعد هي الأقرب من كونه له سريتان إلى اليمن، وإن أخطأ في توقيت الأخيرة بأنه في رمضان.
يبدو إذن أن السرية الأولى كانت في السنة التاسعة ما بين شهر رجب منقلب رسول الله من تبوك، وآخر شهر ذي القعدة التي أمَرَ فيه عليا بتبليغ (براءة)، وكانت موجهة ضد بعض قبائل (مذحج) والتي منها قبيلة (زُبَيْد)[24] قبيلة الفارس المشهور عمرو بن معدي كرب، ورافقه قائد آخر وهو خالد بن سعيد بن العاص على رأس سرية أخرى متوجهة أيضا إلى (قبيلة) مذحج، وأمِر أنه إذا التقى عليا فعلي هو الأمير، وحدث أن حاول فارس (زبيد) التعرض لهما، فلما دنا منهما ناداهما: أنا أبو ثور، أنا عمرو بن معد يكرب، وحَسِب أن شهرته ستهيبهما، لكنهما ابتدراه وكلاهما يُفَدِّي صاحبه بأمه وأبيه، ويقول: خلّني وإياه، فانسحب عمرو بعد أن رأى تسابقهما إليه[25]، وإذا عرفنا أن مساكن زبيد المذحجية تقع في ما يسمى الآن خولان بن عامر، فإن بعض المصادر أوردت اسم المكان الذي التقوا فيه، وهو (كشر)[26] المعروفة اليوم والتي تقع ضمن المحيط الجغرافي القريب، ويؤكّد هذا أن رسول الله ولّى خالد بن سعيد بن العاص ما بين نجران ورمع، وهي تشمل المنطقة المذكورة[27]، وهناك رواية تقول: إن عمرو بن معدي كرب لم يسلم إلا في السنة العاشرة[28]، ومع ذلك فقد أسلم عدد من زعماء مذحج مع علي في هذه السرية.
ولما أكمل مهمته عليه السلام في السنة التاسعة في الحج أُمِر - كما يترجح لي - بالتوجه بعدها إلى اليمن في بداية السنة العاشرة للهجرة، قائدا وأميرا وقاضيا ومرشدا، ومع علمنا أن هناك وفودا من همدان (حاشد وبكيل) أسلمت في السنة التاسعة للهجرة، وهناك استجابة مبكِّرة من قبل بعض أفراد قبيلة همدان للدخول في الإسلام، إلا أن الأغلب أو القبائل الأقوى لم تشأ الدخول في الإسلام، بل وعاندت القائد خالد بن الوليد ومانعته ستة أشهر، فلم يستجيبوا له، حتى إذا جاء علي عليه السلام جمعهم في مكان واحد، وقرأ عليهم كتاب رسول الله فأسلمت همدان جميعُها في يوم واحد؛ الأمر الذي جعل عليا عليه السلام يرسل تقريره إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسلام همدان سريعا، فما كان من النبي القائد إلا أن يستجيب استجابة حسنة لهذا التقرير فيسجد سجود الشكر، ويقول: السلام على همدان ثلاثا[29]، وهي حالة فرح لم تُعْهَد ولم تعرف في حالات أخرى؛ الأمر الذي يجعل الحدث ذا أهمية بالغة في تاريخ الإسلام وتاريخ اليمنيين، ويبين أن هناك علاقة ما كانت سببا في هذه الاستجابة العجيبة، تعود لأهلية أمير المؤمنين وقدرته الباهرة في الدعوة، وحنكته في القيادة وسمعته في الأخلاق والقتال، وقربه من رسول الله، ولانتمائه إلى بيت عبدالمطلب الشخصية المعروفة في اليمن وابن الأسرة المحبوبة فيها.
لقد مكث شهورا كثيرة مكّنته لأن يقوم بالدور المفترض به والمطلوب منه، وهو تعليم الناس بأحكام الله، وإرشادهم إلى دين الله، وتعليمهم الفرائض والسنن، والقضاء بينهم، وهو الأمر الذي خاف علي عليه السلام أن لا يُوَفَّق إليه؛ لأنه سيأتي إلى قوم – على حد قوله – "هم أسن مني" كما في بعض الروايات، وفيه إشارة إلى التفوق اليمني في مجال القضاء؛ لخلفيتهم الحضارية حتى أن أمير المؤمنين هاب أن يقضي بينهم، ولهذا دعا له رسول الله بتثبيت قلبه، ونصحه أن لا يحكم للخصم حتى يسمع من الخصم الآخر[30]، ومن قضاياه التي حكم بها في اليمن قضية زبية الأسد، والتي يتضح من خلال سياقها التاريخي أنه قضاها في هذه المرة أي في السنة العاشرة؛ لأنهم استأنفوا الحكم لدى رسول الله، حيث أجاز لهم علي عليه السلام ذلك، فلقوه في مكة في حجة الوداع وأيّد صلى الله عليه وآله وسلم حكمه[31].
لقد روى عليه السلام أن يهوديا سأله في اليمن عن أوصاف رسول الله فبيَّنها له وهو على المنبر، فوجدها اليهودي مطابقة لما معه من الكتب التي تبشر به فما كان منه إلا أن أعلن إسلامه، ثم كان يأتي عليا عليه السلام فيعلمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام[32].
هذا الدور الإرشادي والقضائي المتميز والأداء الجيد حربا ودعوة وقضاء بالإضافة إلى الأخلاق العظيمة التي كان عليها عند الحرب مع أعدائه، حيث كان يرد ما يأخذه الجيش من أموال أناس مسالمين، ويحفظ حرمتهم[33]، وكان يطبِّق معهم مبادئ الإسلام ومُثُله العليا في أخذ الصدقات والرفق بهم، والإحسان إليهم، أدَّى كل ذلك إلى شغف اليمنيين الذين عرفوه به، بالإضافة إلى ما كانت تربطهم بأسرته الهاشمية من علاقات قديمة.
لقد سجّلت الذاكرة الشعبية اليمنية حضورا قويا وطاغيا للإمام علي في مناطق مختلفة من اليمن، ولا زال الناس ينسبون مناطق وعيونا وآبارا وآثارا إليه، فمنها مثلا عين علي، وضربة علي[34]، وهناك المعقر في تهامة حيث اعترضه أهلها وعقروا بغلته فسمي الموضع (المعقر)، كما يروى أنه وصل عدن أبين وأنه خطب على منبرها خطبة بليغة[35]، وهي جميعا تعكس الحالة الوجدانية لأهل اليمن تجاه هذه الشخصية التي ولع الناس بها قديما وحديثا، وصارت الأنموذج المتجسد في الشجاعة والقضاء والعدالة والمساواة.
كان لليمنيين دورٌ مهم في الدعوة الإسلامية ونصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قام الأوس والخزرج القبيلتان اليمنيتان بدورٍ نكص عنه معظم القبائل في الجزيرة العربية، وقد جعل رسول الله حبَّهم إيمانا وبغضهم نفاقا، وأثبت الأنصارُ أنهم الأقربُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، ولهذا تعرضوا لكثير من الأثرة والحيف من قبل الحكام الأمويين لاحقا بسبب مواقفهم في الإسلام.
ومن المعروف أيضا أن القرآن الكريم أثنى على أهل اليمن، وهناك روايات تفسر بعضا من آيات القرآن على ذلك النحو، كما وردت أحاديث كثيرة ومشتهرة تثني عليهم بالإيمان والحكمة، ووردت مناسبات أثنى فيها رسول الله على قبائل خاصة من أهل اليمن مثل (همدان) حيث قال فيهم: (نعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد)[36]، كما أثنى ثناء خاصا على قبيلة (النخع)[37]، وهي قبيلة مذحجية يعود إليها مالك الأشتر أحد أعظم أنصار علي عليه السلام، ولعظيم ذلك الثناء تمنى الصحابي عبدالله بن مسعود راوي ذلك الثناء أنه رجل نخعي[38].
يبدو أن سمعة علي عليه السلام وأخلاقه وقيمه انتشرت في أهل اليمن؛ ولهذا كان أحد أسباب تمرد أهل حضرموت على حكومة الخليفة أبي بكر هو الاعتراض بكون علي هو الأحق بالخلافة، والتساؤل عن سبب إقصائه من الحكم[39]، وتقول بعض الروايات أن أبا بكر طلب من علي الذهاب إلى اليمن لتهدئة الأوضاع فيها[40]، وفي ذلك دلالة على اعتقاد الخليفة أبي بكر بميول اليمانيين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.
وعند لحاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى ثبتت قبيلة همدان التي أسلم كثير منها على يد علي بن أبي طالب على الإسلام، وكذلك فعلت قبيلة حمير الذين تلقوا التعليم على يد معاذ بن جبل، وشاء الله أن يتحرك اليمانيون بأهاليهم تلبية لدعاء الجهاد في جهاد الروم والفرس، وقد نزلت كتائب الجهاد بترتيب قبلي عسكري في مدن قديمة وجديدة في العراق والشام ومصر، وهي التي بني بعضها بتخطيط مهندسين يمانيين عكَس المعرفة الحضارية لليمني كالكوفة والبصرة ودمشق والفسطاط وغيرها، وفي هذه المدن ترك اليمنيون صبغتهم اليمنية ومسمياتهم الأصلية وحملوها قرونا كثيرة بعد ذلك.
في الكوفة نزلت أعدادٌ كبيرة من قبائل همدان ومذحج وكندة التي لها علاقة أكثر التصاقا بالإمام علي، ولكن أيضا بجانب قبائل تعود إلى أصول نجدية وحجازية، وقد تفشّت في هذه المدن الجديدة روحُ التذمُّر من بعض الأخطاء المالية والإدارية التي وقعت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، والتي رأوا فيها مخالفة للمبادئ التي آمنوا بها، ولهذا فقد كان العراق ومصر ضمن الثوار الناقمين على حكومة عثمان، والذين كثيرا ما نادوا وهتفوا باسم علي الذي أمّلوا فيه أن يعيد الحكم النبوي كما كان عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ووقعت الفتنة التي انجلت عن مقتل عثمان، فدخل المسلمون فصلا جديدا من الحرب الأهلية حيث استُغِلَّ دم عثمان وقميصه من قبل معاوية للوصول إلى السلطة.
ووقعت معركة الجمل والتي تمثَّل في أحد أوجهها صراعا واضحا وبيّنا بين أولئك الذين تشرّبوا حب المبادئ الإسلامية في المساواة، وكذلك الفقراء الذين قذفت بهم سياسة توزيع المال حسب الأقدمية في الإسلام والتي اتخذها الخليفة الثاني وأقرها الثالث من جهة، وأولئك المستفيدين من هذه السياسة، ومثلوا الطبقة البرجوازية، وهم كثير من كبار الصحابة والذين رأوا في حكومة علي خطرا يتهدد مصالحهم ووضعهم الاجتماعي.
هذه المعركة اضطُرَّت عليا عليه السلام إلى ترك المدينة والبحث عن مدينة أخرى يضمن فيها الموارد والإمكانات البشرية والمادية، ولم تكن هناك مدينة مؤهلة سوى الكوفة بما فيها من قبائل يمنية وبأعداد كثيرة من قبيلتي همدان ومذحج، وهما منطقتان وصلهما علي عليه السلام إلى اليمن، وفيها كثير من أنصاره، ومن خلال الإحصاءات الآتية يتبين ولاء اليمنيين بصورة أكبر للإمام
لقد سجّلت الذاكرة الشعبية اليمنية حضورا قويا وطاغيا للإمام علي في مناطق مختلفة من اليمن، ولا زال الناس ينسبون مناطق وعيونا وآبارا وآثارا إليه، فمنها مثلا عين علي، وضربة علي[34]، وهناك المعقر في تهامة حيث اعترضه أهلها وعقروا بغلته فسمي الموضع (المعقر)، كما يروى أنه وصل عدن أبين وأنه خطب على منبرها خطبة بليغة[35]، وهي جميعا تعكس الحالة الوجدانية لأهل اليمن تجاه هذه الشخصية التي ولع الناس بها قديما وحديثا، وصارت الأنموذج المتجسد في الشجاعة والقضاء والعدالة والمساواة.
كان لليمنيين دورٌ مهم في الدعوة الإسلامية ونصرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قام الأوس والخزرج القبيلتان اليمنيتان بدورٍ نكص عنه معظم القبائل في الجزيرة العربية، وقد جعل رسول الله حبَّهم إيمانا وبغضهم نفاقا، وأثبت الأنصارُ أنهم الأقربُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، ولهذا تعرضوا لكثير من الأثرة والحيف من قبل الحكام الأمويين لاحقا بسبب مواقفهم في الإسلام.
ومن المعروف أيضا أن القرآن الكريم أثنى على أهل اليمن، وهناك روايات تفسر بعضا من آيات القرآن على ذلك النحو، كما وردت أحاديث كثيرة ومشتهرة تثني عليهم بالإيمان والحكمة، ووردت مناسبات أثنى فيها رسول الله على قبائل خاصة من أهل اليمن مثل (همدان) حيث قال فيهم: (نعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد)[36]، كما أثنى ثناء خاصا على قبيلة (النخع)[37]، وهي قبيلة مذحجية يعود إليها مالك الأشتر أحد أعظم أنصار علي عليه السلام، ولعظيم ذلك الثناء تمنى الصحابي عبدالله بن مسعود راوي ذلك الثناء أنه رجل نخعي[38].
يبدو أن سمعة علي عليه السلام وأخلاقه وقيمه انتشرت في أهل اليمن؛ ولهذا كان أحد أسباب تمرد أهل حضرموت على حكومة الخليفة أبي بكر هو الاعتراض بكون علي هو الأحق بالخلافة، والتساؤل عن سبب إقصائه من الحكم[39]، وتقول بعض الروايات أن أبا بكر طلب من علي الذهاب إلى اليمن لتهدئة الأوضاع فيها[40]، وفي ذلك دلالة على اعتقاد الخليفة أبي بكر بميول اليمانيين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام.
وعند لحاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى ثبتت قبيلة همدان التي أسلم كثير منها على يد علي بن أبي طالب على الإسلام، وكذلك فعلت قبيلة حمير الذين تلقوا التعليم على يد معاذ بن جبل، وشاء الله أن يتحرك اليمانيون بأهاليهم تلبية لدعاء الجهاد في جهاد الروم والفرس، وقد نزلت كتائب الجهاد بترتيب قبلي عسكري في مدن قديمة وجديدة في العراق والشام ومصر، وهي التي بني بعضها بتخطيط مهندسين يمانيين عكَس المعرفة الحضارية لليمني كالكوفة والبصرة ودمشق والفسطاط وغيرها، وفي هذه المدن ترك اليمنيون صبغتهم اليمنية ومسمياتهم الأصلية وحملوها قرونا كثيرة بعد ذلك.
في الكوفة نزلت أعدادٌ كبيرة من قبائل همدان ومذحج وكندة التي لها علاقة أكثر التصاقا بالإمام علي، ولكن أيضا بجانب قبائل تعود إلى أصول نجدية وحجازية، وقد تفشّت في هذه المدن الجديدة روحُ التذمُّر من بعض الأخطاء المالية والإدارية التي وقعت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، والتي رأوا فيها مخالفة للمبادئ التي آمنوا بها، ولهذا فقد كان العراق ومصر ضمن الثوار الناقمين على حكومة عثمان، والذين كثيرا ما نادوا وهتفوا باسم علي الذي أمّلوا فيه أن يعيد الحكم النبوي كما كان عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ووقعت الفتنة التي انجلت عن مقتل عثمان، فدخل المسلمون فصلا جديدا من الحرب الأهلية حيث استُغِلَّ دم عثمان وقميصه من قبل معاوية للوصول إلى السلطة.
ووقعت معركة الجمل والتي تمثَّل في أحد أوجهها صراعا واضحا وبيّنا بين أولئك الذين تشرّبوا حب المبادئ الإسلامية في المساواة، وكذلك الفقراء الذين قذفت بهم سياسة توزيع المال حسب الأقدمية في الإسلام والتي اتخذها الخليفة الثاني وأقرها الثالث من جهة، وأولئك المستفيدين من هذه السياسة، ومثلوا الطبقة البرجوازية، وهم كثير من كبار الصحابة والذين رأوا في حكومة علي خطرا يتهدد مصالحهم ووضعهم الاجتماعي.
هذه المعركة اضطُرَّت عليا عليه السلام إلى ترك المدينة والبحث عن مدينة أخرى يضمن فيها الموارد والإمكانات البشرية والمادية، ولم تكن هناك مدينة مؤهلة سوى الكوفة بما فيها من قبائل يمنية وبأعداد كثيرة من قبيلتي همدان ومذحج، وهما منطقتان وصلهما علي عليه السلام إلى اليمن، وفيها كثير من أنصاره، ومن خلال الإحصاءات الآتية يتبين ولاء اليمنيين بصورة أكبر للإمام
علي، حيث نجد أن:
10 يمانيين من الأنصار و10 مهاجريين مضريين، وفارسيا واحدا هم البذرة الأولى لشيعة علي في الصحابة والذين أبدوا معارضتهم للخليفة الأول بصورة جهرية[41].
و40 نفرا يمنيا أو من أصول يمنية مقابل 17 نفرا من نزار هم أول من بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان[42].
المقاتلين مع علي من اليمنيين في الجمل كانوا بنسبة 37% بينما شكلت جميع القبائل العربية الأخرى نسبة 62% تقريبا، أما قادة جيش الناكثين البالغ عددهم 20 نفرا فكان منهم 75% من النزاريين، بينما فقط 25 % كانوا يمنيين[43]، وشكلت أربع فرق يمنية من أصل سبعٍ هي مجموع فرق جيش أمير المؤمنين عليه السلام[44].
بلغ عدد عماله عليه السلام من اليمنيين 30 نفرا، منهم 12 نفرا من الأنصار، بينما فقط بلغ عدد النزاريين 21 نفرا[45]، وهو أمر له دلالته على الخلفية الإدارية والحضارية للإنسان اليمني، كما يدل على ثقته عليه السلام بهم، ومتانة الروابط الاجتماعية التي تجمعه وإياهم.
ومن المعروف أنه عليه السلام توّج همدان الذين أبلوا معه بلاء حسنا في الجهاد والنصرة في صفين فمدحهم بتلك القصيدة التي ظلت ولا تزال تاجا على رؤوسهم حيث يقول معددا أحياء همدان ومآثرها يوم قاتلت هناك قتال الأبطال، ومؤكدا أنهم يحبون النبي ورهطه:
ولما رأيت الخيل تقرع بالقنى .... فوارسها حمر النحور دوامي
ونادى ابن هند في الكلاع ويحصب .... وكندة في لخم وحي جذام
تيممت همدان الذين هُمُ هُمُ .... إذا ناب أمرٌ جُنتي وسهامي
فناديت فيهم دعوة فأجابني .... فوارس من همدان غير لئام
فوارس ليسوا في الحروب بعزّل .... غداة الوغى من شاكر وشبام
ومن أرحب الشُم المطاعين بالقنى .... ورهم وأحياء السبيع ويام
ووادعة الأبطال يخشى مصالها .... بكل صقيل في الأكف حسام
ومن كل حيٍ قد أتتني فوارس .... كرامٌ لدى الهيجاء أي كرام
يقودهم حامي الحقيقة ماجد .... سعيد بن قيس والكريم محامي
بكل رُدَيني وعَضب تخاله .... إذا اختلف الأقوام سيل عرام
فخاضوا لظاها واصطلوا حر نارها .... كأنهمُ في الهيج شرب مدام
جزى الله همدان الجنان فإنهم .... سمام العدا في كل يوم سمام
لهم تعرف الرايات عند اختلافها .... وهم بدؤوا للناس كلَّ لحام
رجالٌ يحبون النبي ورهطه .... لهم سالف في الدهر غير أيام
همُ نصرونا والسيوف كأنها .... حريق تلظى في هشيم ثُمام
لهمدان أخلاقٌ ودينٌ يزينها .... وبأسٌ إذا لوقوا وحدُّ خصام
وجدٌّ وصدقٌ في الحديث ونجدة .... وعلم إذا قالوا وطيب كلام
فلو كنت بواباً على باب جنةٍ .... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
كما أثنى عليهم قائلا: (يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي، وما نصرتم إلا الله ورسوله، وما أجبتم غيره)، فقال سعيد بن قيس، وزياد بن كعب الأرحبي: (أجبنا الله ورسوله وأجبناك، ونصرنا الله ورسوله ثم إياك، وقاتلنا معك من ليس مثلك، فارم بنا حيث شئت)؛ الأمر الذي أثار غيرة عامر بن قيس العبدي، وهو فارس القوم، فقام وقال: يا أمير المؤمنين إذا رُمْتَ بهمدان أمراً فاجعلنا معهم، فإنا يداك وجناحك، فقال عليه السلام: (وأنتم عبد القيس سيفي وقوسي)، فرجع بها العبدي إلى قومه[46].
وبالعودة إلى اليمن فإنه من المؤكّد أن كثيرا من أهلها كانوا قد ذهبوا في الفاتحين، ويدلنا على ذلك أننا لا نكاد نجد إلا القليل من أهل اليمن الأصليين ممن كان لهم دور علمي رائد في القرون الأولى، بينما ذهب بالفضل في هذا المجال الأبناء، فقد جمع الدكتور نزار الحديثي معلومات عن أهل العلم في صنعاء ليجد بصورة تقريبية خلال القرون الأولى 84 عالما، منهم 30 أبناويا، وواحد لكل من مراد، وخولان، وقريش، والأزد، وخمسة من الموالي، واثنان من حمير، وواحد لكل من قريش وكنانة، وبقية الأسماء لم ينسبوا إلى أي جهة أو قبيلة، ومعظمهم توفوا في القرن الثاني الهجري[47]، على أن استئثار الأبناء بالعلم في اليمن مثله مثل استئثار الموالي بالعلم في الأمصار الأخرى؛ لكون العربي الصريح كان مثبتا في ديوان الجند الذي كان محظورا على المسلمين من أصل غير عربي، فعوّضت الفئات من غير العرب نقصها بالاتجاه لإحياء المبدأ الإسلامي الذي لا يفرّق في الحقوق والواجبات بين العرب وغير العرب، والذي وجدوه في العلم بالأحكام الشرعية.
إذن فقد نفّذ الأبناء دورا جيدا في دراسة العلم، ومع أن أصولهم فارسية لكن أمهاتهم يمنيات، وقد حمل كثير من علمائهم الروح اليمنية ونافحوا من أجلها، وأصبحوا يعدُّون أنفسهم في اليمانيين[48]، ومع ذلك نجد أن التشيع تغلغل في أوساطهم، فهذه أم سعيد بنت برزج تستضيف الإمام علي كما تقدم، وحين يأتي الطاغية بسر بن أرطاة أيام خلافة أميرالمؤمنين إلى صنعاء يستخرج ولدي عامله عبيدالله بن عباس من عندها ليذبحهما بسكين الحقد وجنون الطغيان بين يدي أمهما اليمانية ابن عبدالمدان، فأصابها الوله والجنون عليهما[49]، ولا يزال مرقدهما كما هو معروف في صنعاء بمسجد الشهيدين الذي بني باسمهما، ولم يكف بسر ذلك حتى قام بذبح 72 أبناويا،
10 يمانيين من الأنصار و10 مهاجريين مضريين، وفارسيا واحدا هم البذرة الأولى لشيعة علي في الصحابة والذين أبدوا معارضتهم للخليفة الأول بصورة جهرية[41].
و40 نفرا يمنيا أو من أصول يمنية مقابل 17 نفرا من نزار هم أول من بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان[42].
المقاتلين مع علي من اليمنيين في الجمل كانوا بنسبة 37% بينما شكلت جميع القبائل العربية الأخرى نسبة 62% تقريبا، أما قادة جيش الناكثين البالغ عددهم 20 نفرا فكان منهم 75% من النزاريين، بينما فقط 25 % كانوا يمنيين[43]، وشكلت أربع فرق يمنية من أصل سبعٍ هي مجموع فرق جيش أمير المؤمنين عليه السلام[44].
بلغ عدد عماله عليه السلام من اليمنيين 30 نفرا، منهم 12 نفرا من الأنصار، بينما فقط بلغ عدد النزاريين 21 نفرا[45]، وهو أمر له دلالته على الخلفية الإدارية والحضارية للإنسان اليمني، كما يدل على ثقته عليه السلام بهم، ومتانة الروابط الاجتماعية التي تجمعه وإياهم.
ومن المعروف أنه عليه السلام توّج همدان الذين أبلوا معه بلاء حسنا في الجهاد والنصرة في صفين فمدحهم بتلك القصيدة التي ظلت ولا تزال تاجا على رؤوسهم حيث يقول معددا أحياء همدان ومآثرها يوم قاتلت هناك قتال الأبطال، ومؤكدا أنهم يحبون النبي ورهطه:
ولما رأيت الخيل تقرع بالقنى .... فوارسها حمر النحور دوامي
ونادى ابن هند في الكلاع ويحصب .... وكندة في لخم وحي جذام
تيممت همدان الذين هُمُ هُمُ .... إذا ناب أمرٌ جُنتي وسهامي
فناديت فيهم دعوة فأجابني .... فوارس من همدان غير لئام
فوارس ليسوا في الحروب بعزّل .... غداة الوغى من شاكر وشبام
ومن أرحب الشُم المطاعين بالقنى .... ورهم وأحياء السبيع ويام
ووادعة الأبطال يخشى مصالها .... بكل صقيل في الأكف حسام
ومن كل حيٍ قد أتتني فوارس .... كرامٌ لدى الهيجاء أي كرام
يقودهم حامي الحقيقة ماجد .... سعيد بن قيس والكريم محامي
بكل رُدَيني وعَضب تخاله .... إذا اختلف الأقوام سيل عرام
فخاضوا لظاها واصطلوا حر نارها .... كأنهمُ في الهيج شرب مدام
جزى الله همدان الجنان فإنهم .... سمام العدا في كل يوم سمام
لهم تعرف الرايات عند اختلافها .... وهم بدؤوا للناس كلَّ لحام
رجالٌ يحبون النبي ورهطه .... لهم سالف في الدهر غير أيام
همُ نصرونا والسيوف كأنها .... حريق تلظى في هشيم ثُمام
لهمدان أخلاقٌ ودينٌ يزينها .... وبأسٌ إذا لوقوا وحدُّ خصام
وجدٌّ وصدقٌ في الحديث ونجدة .... وعلم إذا قالوا وطيب كلام
فلو كنت بواباً على باب جنةٍ .... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
كما أثنى عليهم قائلا: (يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي، وما نصرتم إلا الله ورسوله، وما أجبتم غيره)، فقال سعيد بن قيس، وزياد بن كعب الأرحبي: (أجبنا الله ورسوله وأجبناك، ونصرنا الله ورسوله ثم إياك، وقاتلنا معك من ليس مثلك، فارم بنا حيث شئت)؛ الأمر الذي أثار غيرة عامر بن قيس العبدي، وهو فارس القوم، فقام وقال: يا أمير المؤمنين إذا رُمْتَ بهمدان أمراً فاجعلنا معهم، فإنا يداك وجناحك، فقال عليه السلام: (وأنتم عبد القيس سيفي وقوسي)، فرجع بها العبدي إلى قومه[46].
وبالعودة إلى اليمن فإنه من المؤكّد أن كثيرا من أهلها كانوا قد ذهبوا في الفاتحين، ويدلنا على ذلك أننا لا نكاد نجد إلا القليل من أهل اليمن الأصليين ممن كان لهم دور علمي رائد في القرون الأولى، بينما ذهب بالفضل في هذا المجال الأبناء، فقد جمع الدكتور نزار الحديثي معلومات عن أهل العلم في صنعاء ليجد بصورة تقريبية خلال القرون الأولى 84 عالما، منهم 30 أبناويا، وواحد لكل من مراد، وخولان، وقريش، والأزد، وخمسة من الموالي، واثنان من حمير، وواحد لكل من قريش وكنانة، وبقية الأسماء لم ينسبوا إلى أي جهة أو قبيلة، ومعظمهم توفوا في القرن الثاني الهجري[47]، على أن استئثار الأبناء بالعلم في اليمن مثله مثل استئثار الموالي بالعلم في الأمصار الأخرى؛ لكون العربي الصريح كان مثبتا في ديوان الجند الذي كان محظورا على المسلمين من أصل غير عربي، فعوّضت الفئات من غير العرب نقصها بالاتجاه لإحياء المبدأ الإسلامي الذي لا يفرّق في الحقوق والواجبات بين العرب وغير العرب، والذي وجدوه في العلم بالأحكام الشرعية.
إذن فقد نفّذ الأبناء دورا جيدا في دراسة العلم، ومع أن أصولهم فارسية لكن أمهاتهم يمنيات، وقد حمل كثير من علمائهم الروح اليمنية ونافحوا من أجلها، وأصبحوا يعدُّون أنفسهم في اليمانيين[48]، ومع ذلك نجد أن التشيع تغلغل في أوساطهم، فهذه أم سعيد بنت برزج تستضيف الإمام علي كما تقدم، وحين يأتي الطاغية بسر بن أرطاة أيام خلافة أميرالمؤمنين إلى صنعاء يستخرج ولدي عامله عبيدالله بن عباس من عندها ليذبحهما بسكين الحقد وجنون الطغيان بين يدي أمهما اليمانية ابن عبدالمدان، فأصابها الوله والجنون عليهما[49]، ولا يزال مرقدهما كما هو معروف في صنعاء بمسجد الشهيدين الذي بني باسمهما، ولم يكف بسر ذلك حتى قام بذبح 72 أبناويا،
كانوا قد حاولوا التشفع لهم[50]، وفيه مؤشر على أنهم كانوا من أولياء علي؛ لأن مهمة بسر التي كلف بها من قبل معاوية هو تتبع شيعة علي وقتلهم، وقد نفذ مجازر ضدهم فقتل منهم أمما، بل وأغار على قبائل من همدان وسبى نساءهم، وباعهن في الأسواق، فكان أول سبي لمسلمات في الإسلام [51].
وفي تجييش معاوية لبسر وأمره بقتل شيعة علي في اليمن دلالة على وجود محبين لعلي لا يمكن معاوية أن ينتقم من علي إلا بقتلهم، وفيه ما يسلط الضوء على متانة العلاقة بين اليمنيين في اليمن وإمامهم علي، ولعله أراد أن ينتقم من بطولات همدان العراق في همدان اليمن.
ولم يخذل أمير المؤمنين هؤلاء المحبين بل أرسل جيشا بقيادة جارية بن قدامة السعدي لمطاردة بسر الذي فرّ حينما سمع بأخبار جارية، وأدّب جارية في اليمن أولئك المتمالئين من الذين يستحقون القصاص بما ارتكبوا من جرائم، ورغم تأكيد بعض المؤرخين السنة من أهل اليمن كالجندي بذلك إلا أن المؤرخ محمد بن علي الأكوع حاول أن يلصق بالقائد جارية تهمة لا أساس لها حيث اتهمه أنه ماثل بسرا في أفعاله الشنيعة[52]، ومع أن الأكوع تلقّف بعض هذه التهم من مؤرخين سابقين لكنه طوّرها بحسب الهوى الذي يجتاحه، لكن يرد عليهم جميعا أنه من غير المعقول أن يترك علي قائده جارية ولا يعاقبه أو يستنكر عليه، وهو الذي عهدناه لا يحابي ولا يجامل أحدا.
وبالعودة إلى الأبناء فإن هناك قوما في صنعاء من ذرية أخي أم سعيد وهو عبدالرحمن بن برزج، يعرفون ببني الشيعي[53]، وهي نسبة قادمة من محبة علي بن أبي طالب عليه السلام، ويروي أحدهم وهو زياد بن فيروز أنه سأل ابن عمر عن أداء الزكاة إلى أحد الأمراء فقال: "لا تزكينّ إليهم ولا تصل معهم"[54]، وهي عبارة وإن كانت لا تنسجم ومواقف ابن عمر من حكام عصره الطغاة كيزيد، ولكنها تشير إلى بعض التعاليم الثورية التي بثها علي عليه السلام في أتباعه، والتي نجد من الأبناء من يروّج لها على هذا النحو.
لقد تتلمذ على علي عليه السلام كثيرٌ من اليمنيين في بلاد العراق ومن قبل ذلك في المدينة، ومن خلالهم انتشرت مبادئ الإسلام التي نادى بتطبيقها علي وحملها الأئمة من أهله وفضلاءُ الصحابة والتابعون، وذاق الناس في تلك الفترة القصيرة التي حكم فيها علي عليه السلام الأمة برْد العدل، وسعة الإسلام وعظمته وعاشوا المفاهيم التي طالما حملوها وقرأوها في شريعة الإسلام حقيقة واقعة، رغم ما حملته تلك الفترة من محن وفتن وحروب تشيب لهولها الولدان، لقد أصبح عليه السلام مدرسة فكرية وعلمية واجتماعية متميزة، ونهل من علومه أتباعه ومحبوه وازدادوا به بصيرة وهدى.
غير أن ما يهمنا هو اليمن؛ ما الذي جدّ بها بعد رحيله وبعد ضمِّها إلى حكومة معاوية التي عملت على حكم الناس بطريقة تختلف عن طريقة علي تماما، وتضاهي حكومات الملوك والسلاطين البيزنطيين، وليس فيها من الإسلام إلا العنوان، وبالتأكيد فإن نصيب اليمن هو ذاته نصيب الشعوب الأخرى، حيث حاول الأمويون في اليمن إبعاد اليمنيين عن أهل البيت وعن حب علي بن أبي طالب كما فعلوا في غيره من البلدان، ولكن مع ذلك فقد وفّر بُعْدُ اليمن عن العاصمة الأموية فرصة أكثر للتحرك حول أهل البيت والتعلم لديهم، وهناك قنوات اتصال كثيرة تربطهم بالإمام الحسن والحسين حيث سكن أهل البيت المدينة المنورة، وطالما التقوا بالناس في مواسم الحج والزيارة؛ ولهذا نجد ابن عباس يشير على الإمام الحسين عليه السلام التحرك نحو اليمن عند قيامه بالثورة ضد يزيد، واتخاذها مكانا للثورة لكون أهلها شيعة لأبيه، وهي إشارة بقدر ما يعني رفضُها من قبل الحسين أن لديه من المعلومات بشأن خياره المفضل وهو العر اق، فإن لدى ابن عباس معلومات مهمة جدا عن اليمن تبين تشيعهم؛ لكونه قطن مكة وانتصب فيها للتدريس وكثر أتباعه وطلابه ولا سيما من أهل اليمن، والذين طالما ربطتهم علاقات علمية بها، ومن المرجح أن هؤلاء نقلوا له توجهات وميول الناس فيها.
عاد بعض تلامذة علي الذين تتلمذوا على علي (ع) مرة أخرى إلى اليمن، ولدينا بعض الأسماء التي تدل على أنهم فضّلوا الذهاب إليها والابتعاد عن الضغط الأموي الذي كان يمارس على الحجاز والعراق وتحديدا على الكوفة.
ومن هؤلاء حجر بن قيس المدري الحجوري روى عن جمع من الصحابة وعن علي عليه السلام، وقد صحبه أياما طويلة، وقد حمل علمَه إلى اليمن، وذكر الجندي أنه من مدرات بالقرب من الجند، وبلغ في العلم درجة جعلت أبرز علماء التابعين اليمانيين وهو طاووس بن كيسان يراجعه كثيرا في المسائل التي تشكل عليه[55]، وأصبح خطيبا بأحد المخلافين صنعاء أو الجند، وكان ذلك في فترة حكم الأمير محمد بن يوسف الثقفي (ت91هـ) على اليمن، وحدث في إحدى الجمع أنه لما انتهى من الخطبة أمره الثقفي أن يلعن عليا فتذكّر حجر ما كان قد قاله له أمير المؤمنين من أنه سيؤمر بلعنه في يوم من الأيام، فرفع صوته قائلا: إن الأمير محمد بن يوسف أمرني أن ألعن عليا فالعنوه، لعنه الله، وتفرق أهل المسجد شغر بغر، كراهية لذلك على حد قول
وفي تجييش معاوية لبسر وأمره بقتل شيعة علي في اليمن دلالة على وجود محبين لعلي لا يمكن معاوية أن ينتقم من علي إلا بقتلهم، وفيه ما يسلط الضوء على متانة العلاقة بين اليمنيين في اليمن وإمامهم علي، ولعله أراد أن ينتقم من بطولات همدان العراق في همدان اليمن.
ولم يخذل أمير المؤمنين هؤلاء المحبين بل أرسل جيشا بقيادة جارية بن قدامة السعدي لمطاردة بسر الذي فرّ حينما سمع بأخبار جارية، وأدّب جارية في اليمن أولئك المتمالئين من الذين يستحقون القصاص بما ارتكبوا من جرائم، ورغم تأكيد بعض المؤرخين السنة من أهل اليمن كالجندي بذلك إلا أن المؤرخ محمد بن علي الأكوع حاول أن يلصق بالقائد جارية تهمة لا أساس لها حيث اتهمه أنه ماثل بسرا في أفعاله الشنيعة[52]، ومع أن الأكوع تلقّف بعض هذه التهم من مؤرخين سابقين لكنه طوّرها بحسب الهوى الذي يجتاحه، لكن يرد عليهم جميعا أنه من غير المعقول أن يترك علي قائده جارية ولا يعاقبه أو يستنكر عليه، وهو الذي عهدناه لا يحابي ولا يجامل أحدا.
وبالعودة إلى الأبناء فإن هناك قوما في صنعاء من ذرية أخي أم سعيد وهو عبدالرحمن بن برزج، يعرفون ببني الشيعي[53]، وهي نسبة قادمة من محبة علي بن أبي طالب عليه السلام، ويروي أحدهم وهو زياد بن فيروز أنه سأل ابن عمر عن أداء الزكاة إلى أحد الأمراء فقال: "لا تزكينّ إليهم ولا تصل معهم"[54]، وهي عبارة وإن كانت لا تنسجم ومواقف ابن عمر من حكام عصره الطغاة كيزيد، ولكنها تشير إلى بعض التعاليم الثورية التي بثها علي عليه السلام في أتباعه، والتي نجد من الأبناء من يروّج لها على هذا النحو.
لقد تتلمذ على علي عليه السلام كثيرٌ من اليمنيين في بلاد العراق ومن قبل ذلك في المدينة، ومن خلالهم انتشرت مبادئ الإسلام التي نادى بتطبيقها علي وحملها الأئمة من أهله وفضلاءُ الصحابة والتابعون، وذاق الناس في تلك الفترة القصيرة التي حكم فيها علي عليه السلام الأمة برْد العدل، وسعة الإسلام وعظمته وعاشوا المفاهيم التي طالما حملوها وقرأوها في شريعة الإسلام حقيقة واقعة، رغم ما حملته تلك الفترة من محن وفتن وحروب تشيب لهولها الولدان، لقد أصبح عليه السلام مدرسة فكرية وعلمية واجتماعية متميزة، ونهل من علومه أتباعه ومحبوه وازدادوا به بصيرة وهدى.
غير أن ما يهمنا هو اليمن؛ ما الذي جدّ بها بعد رحيله وبعد ضمِّها إلى حكومة معاوية التي عملت على حكم الناس بطريقة تختلف عن طريقة علي تماما، وتضاهي حكومات الملوك والسلاطين البيزنطيين، وليس فيها من الإسلام إلا العنوان، وبالتأكيد فإن نصيب اليمن هو ذاته نصيب الشعوب الأخرى، حيث حاول الأمويون في اليمن إبعاد اليمنيين عن أهل البيت وعن حب علي بن أبي طالب كما فعلوا في غيره من البلدان، ولكن مع ذلك فقد وفّر بُعْدُ اليمن عن العاصمة الأموية فرصة أكثر للتحرك حول أهل البيت والتعلم لديهم، وهناك قنوات اتصال كثيرة تربطهم بالإمام الحسن والحسين حيث سكن أهل البيت المدينة المنورة، وطالما التقوا بالناس في مواسم الحج والزيارة؛ ولهذا نجد ابن عباس يشير على الإمام الحسين عليه السلام التحرك نحو اليمن عند قيامه بالثورة ضد يزيد، واتخاذها مكانا للثورة لكون أهلها شيعة لأبيه، وهي إشارة بقدر ما يعني رفضُها من قبل الحسين أن لديه من المعلومات بشأن خياره المفضل وهو العر اق، فإن لدى ابن عباس معلومات مهمة جدا عن اليمن تبين تشيعهم؛ لكونه قطن مكة وانتصب فيها للتدريس وكثر أتباعه وطلابه ولا سيما من أهل اليمن، والذين طالما ربطتهم علاقات علمية بها، ومن المرجح أن هؤلاء نقلوا له توجهات وميول الناس فيها.
عاد بعض تلامذة علي الذين تتلمذوا على علي (ع) مرة أخرى إلى اليمن، ولدينا بعض الأسماء التي تدل على أنهم فضّلوا الذهاب إليها والابتعاد عن الضغط الأموي الذي كان يمارس على الحجاز والعراق وتحديدا على الكوفة.
ومن هؤلاء حجر بن قيس المدري الحجوري روى عن جمع من الصحابة وعن علي عليه السلام، وقد صحبه أياما طويلة، وقد حمل علمَه إلى اليمن، وذكر الجندي أنه من مدرات بالقرب من الجند، وبلغ في العلم درجة جعلت أبرز علماء التابعين اليمانيين وهو طاووس بن كيسان يراجعه كثيرا في المسائل التي تشكل عليه[55]، وأصبح خطيبا بأحد المخلافين صنعاء أو الجند، وكان ذلك في فترة حكم الأمير محمد بن يوسف الثقفي (ت91هـ) على اليمن، وحدث في إحدى الجمع أنه لما انتهى من الخطبة أمره الثقفي أن يلعن عليا فتذكّر حجر ما كان قد قاله له أمير المؤمنين من أنه سيؤمر بلعنه في يوم من الأيام، فرفع صوته قائلا: إن الأمير محمد بن يوسف أمرني أن ألعن عليا فالعنوه، لعنه الله، وتفرق أهل المسجد شغر بغر، كراهية لذلك على حد قول