عبد الرحمن الإرياني، العائد من الإعدام إلى الحياة ومن السجن إلى الرئاسة
أنور العنسي
في ما يزيد عن أربعة أجزاء تقريباً من كتاب مذكراته الفخم، يحشد عبدالرحمن الإرياني، الرئيس اليمني الأسبق، موسوعة من الصور الفوتوغرافية لمراسلاته وأوراقه التي توثّق لحقبةٍ زمنيةٍ كانت الأهم في تاريخ المنطقة العربية خلال القرن الماضي، وكان هو أحد رموزها الكبار وصانعي أحداثها المهمة.
وبين ثنايا الكتب والدراسات التي خصصها مؤرخون وبحاثة عديدون، عربٌ وأجانب، ورفاقُ دربٍ وتلامذةٌ له تناولوا فيها سيرته كان ثمة قسم آخر من الوثائق التي لم تتسع لها مذكراته، أو أنه لم يكن يحوز على نسخ منها تنطوي على قدرٍ كبير من الأهمية التاريخية أيضاً.
كان "القاضي" وهذا هو المصطلح الذي اتفق الجميع عليه لوصف الإرياني، كنايةً عن ثقافةٍ غزيرةٍ ورفيعة في علوم إنسانية متنوعة اجتمعت في شخصه.
كان الوحيد من بين أعلام منتصف ذلك القرن ممن اجترحوا بمواقفهم سِيراً جعلت من تاريخهم جزءاً حميماً من ذلك التاريخ الذي يكاد لا يُروى إلا وتُحكى حياتُهم معه، والأكثر استرعاءاً للإنتباه والدهشة تلكم الصفات التي تحلى بها الرجل الذي كان يعرف (قيمة) الصبر حين يَحسُن الصبر، و(حكمة) العزم حيث لا يكون عنده من الحزم بدٌ.
عندما ذهبت ذات يوم في شهر مايو/ آيار 991 إلى دارٍ في حي "أبو رمانة" الدمشقي للقاء الإرياني كان الهدف هو إجراء حديث تليفزيوني علق عليه عديدون الكثير من الآمال لسماع القول الفصل منه حول خلاف نشب بشأن دستور دولة الوحدة اليمنية الناشئة عام 1990 في ما إذا كان (الإسلام) سيكون هو مصدر التشريع الوحيد أم أحد مصادره باعتبار أن هذا العالِم الجليل كان أبرز من أشرفوا على صياغة نصوص ذلك الدستور.
وبدلًا من عشرين دقيقة للقاء الرئيس الحكيم إمتد اللقاء لأكثر من ثلاث ساعات خلع الرجل خلالها جوخه وعمامته و"توزته" وهي السلاح الجمالي لعلماء البلاد، وأخذني بأناقة جوهره ومظهره إلى وجبة غداء متنوعة بين التاريخ والأدب والسياسة، غير مرتب لها.
كانت تلك أفضل فرصة أتيحت لي في حياتي الصحفية لطرح ما ظل يشغل بالي من أسئلة، وللنبش في أضابير ذاكرة هذا الرجل "الاستثنائي" في أمور أخرى غير تلك التي ذهبت من أجلها إليه، وقد أجاب وقتها على معظم تساؤلاتي، ووعدني بالرد على بعضها في كتاب مذكراته الذي لم يصدر منه حتى الآن سوى جزأين، بينما يجري الإعداد حالياً لإصدار جزأين آخرين تباعاً.
العودة إلى الحياة من تحت حد السيف
لم يكن الإرياني رجلاً من طرازٍ خاص فقط، لكن المصادفات أيضاً ربما جعلته يبدو إمتيازاً في ذلك، فقد بدأت حياته السياسية مثلما انتهت، بسلسلة مترابطةٍ من المفارقات لم يحدث أن جرت في تواليها وتزامنها واتساقها مع رجلٍ مثله، فكلما حاول الذهاب إلى حياةٍ هادئةً داهمته موجةً عاتية من الأحداث لترفعه عالياً وتنهض به إلى ذروتها.
بعد شهورٍ من الانتظار لصوت المنادي على معتقلي السياسة والاجتهاد والرأي في أحد سجون إمام اليمن الراحل أحمد حميد الدين، كان القاضي قد كتب وصاياه مرات عدة. وكلما تهيأ للخروج استعداداً للاغتسال وصلاة ركعتين قبل الموت، مبتهجاً بالذهاب النهائي إلى ساحة الإعدام بعد صلاة الجمعة، ربما أملاً في الخلاص بالموت من عذابات الترقب المضني شبه القاتل، يقال له في كل مرةٍ "إنتظر"!.
كما يذكر القاضي في مذكراته أن بعض أقاربه كانوا قدِموا لاسترحام (إمام البلاد) بكل الوسائل بما فيها رشوة حراس محبسه الفقراء، فيما كان صديقه العلامة محمد يحيى الذاري قد ألقى بنفسه بين يدي الإمام "شفاعة للإبقاء على حياة عالم من علماء الأمة".
بعد تلك الشهور نودي عليه بالخروج لملاقاة حتفه بعد صلاة الجمعة، وهو الوقت المفضل لدى "أمير المؤمنين لرؤية جماجم منافسيه على السلطة تتدحرج مضرجة بدمائها" كما ذكر لي ذلك أحد أقارب الإمام نفسه.
خرج الإرياني، وفق أكثر الروايات التي توثقت منها، مغتصباً الابتسامة لإغاظة "الطاغية " الداهية الذي أمر السياف فوراً بإعادة سيفه إلى غمده، حتى يحرم الإرياني من رمزية الاستشهاد مبتسماً في مواجهة الموت".
غير أن روايات أخرى تقول إن "الذاري قفز إلى الميدان، ووقف بين الإرياني والسيّاف، صارخاً في وجه الإمام، وطالباً منه أن يكف عن إراقة دماء علماء الأمة".
الإرياني في "المحكمة الشرعية العليا"
بعد ذلك حدثت مفارقة من نوع آخر عندما جاء أمر الإمام بتعين الإرياني في أعلى "سلطة شرعية" ليزيد من قناعة الأخير أن الإمام ليس أكثر من "مخلوق سياسي" يعمل بمكرٍ وذكاء نادر لإستغلال (المعنى) الذي يمثله شخص ما في تصور العامة، وذلك لخدمة مشروعه السياسي ليس إلاّ.
أنور العنسي
في ما يزيد عن أربعة أجزاء تقريباً من كتاب مذكراته الفخم، يحشد عبدالرحمن الإرياني، الرئيس اليمني الأسبق، موسوعة من الصور الفوتوغرافية لمراسلاته وأوراقه التي توثّق لحقبةٍ زمنيةٍ كانت الأهم في تاريخ المنطقة العربية خلال القرن الماضي، وكان هو أحد رموزها الكبار وصانعي أحداثها المهمة.
وبين ثنايا الكتب والدراسات التي خصصها مؤرخون وبحاثة عديدون، عربٌ وأجانب، ورفاقُ دربٍ وتلامذةٌ له تناولوا فيها سيرته كان ثمة قسم آخر من الوثائق التي لم تتسع لها مذكراته، أو أنه لم يكن يحوز على نسخ منها تنطوي على قدرٍ كبير من الأهمية التاريخية أيضاً.
كان "القاضي" وهذا هو المصطلح الذي اتفق الجميع عليه لوصف الإرياني، كنايةً عن ثقافةٍ غزيرةٍ ورفيعة في علوم إنسانية متنوعة اجتمعت في شخصه.
كان الوحيد من بين أعلام منتصف ذلك القرن ممن اجترحوا بمواقفهم سِيراً جعلت من تاريخهم جزءاً حميماً من ذلك التاريخ الذي يكاد لا يُروى إلا وتُحكى حياتُهم معه، والأكثر استرعاءاً للإنتباه والدهشة تلكم الصفات التي تحلى بها الرجل الذي كان يعرف (قيمة) الصبر حين يَحسُن الصبر، و(حكمة) العزم حيث لا يكون عنده من الحزم بدٌ.
عندما ذهبت ذات يوم في شهر مايو/ آيار 991 إلى دارٍ في حي "أبو رمانة" الدمشقي للقاء الإرياني كان الهدف هو إجراء حديث تليفزيوني علق عليه عديدون الكثير من الآمال لسماع القول الفصل منه حول خلاف نشب بشأن دستور دولة الوحدة اليمنية الناشئة عام 1990 في ما إذا كان (الإسلام) سيكون هو مصدر التشريع الوحيد أم أحد مصادره باعتبار أن هذا العالِم الجليل كان أبرز من أشرفوا على صياغة نصوص ذلك الدستور.
وبدلًا من عشرين دقيقة للقاء الرئيس الحكيم إمتد اللقاء لأكثر من ثلاث ساعات خلع الرجل خلالها جوخه وعمامته و"توزته" وهي السلاح الجمالي لعلماء البلاد، وأخذني بأناقة جوهره ومظهره إلى وجبة غداء متنوعة بين التاريخ والأدب والسياسة، غير مرتب لها.
كانت تلك أفضل فرصة أتيحت لي في حياتي الصحفية لطرح ما ظل يشغل بالي من أسئلة، وللنبش في أضابير ذاكرة هذا الرجل "الاستثنائي" في أمور أخرى غير تلك التي ذهبت من أجلها إليه، وقد أجاب وقتها على معظم تساؤلاتي، ووعدني بالرد على بعضها في كتاب مذكراته الذي لم يصدر منه حتى الآن سوى جزأين، بينما يجري الإعداد حالياً لإصدار جزأين آخرين تباعاً.
العودة إلى الحياة من تحت حد السيف
لم يكن الإرياني رجلاً من طرازٍ خاص فقط، لكن المصادفات أيضاً ربما جعلته يبدو إمتيازاً في ذلك، فقد بدأت حياته السياسية مثلما انتهت، بسلسلة مترابطةٍ من المفارقات لم يحدث أن جرت في تواليها وتزامنها واتساقها مع رجلٍ مثله، فكلما حاول الذهاب إلى حياةٍ هادئةً داهمته موجةً عاتية من الأحداث لترفعه عالياً وتنهض به إلى ذروتها.
بعد شهورٍ من الانتظار لصوت المنادي على معتقلي السياسة والاجتهاد والرأي في أحد سجون إمام اليمن الراحل أحمد حميد الدين، كان القاضي قد كتب وصاياه مرات عدة. وكلما تهيأ للخروج استعداداً للاغتسال وصلاة ركعتين قبل الموت، مبتهجاً بالذهاب النهائي إلى ساحة الإعدام بعد صلاة الجمعة، ربما أملاً في الخلاص بالموت من عذابات الترقب المضني شبه القاتل، يقال له في كل مرةٍ "إنتظر"!.
كما يذكر القاضي في مذكراته أن بعض أقاربه كانوا قدِموا لاسترحام (إمام البلاد) بكل الوسائل بما فيها رشوة حراس محبسه الفقراء، فيما كان صديقه العلامة محمد يحيى الذاري قد ألقى بنفسه بين يدي الإمام "شفاعة للإبقاء على حياة عالم من علماء الأمة".
بعد تلك الشهور نودي عليه بالخروج لملاقاة حتفه بعد صلاة الجمعة، وهو الوقت المفضل لدى "أمير المؤمنين لرؤية جماجم منافسيه على السلطة تتدحرج مضرجة بدمائها" كما ذكر لي ذلك أحد أقارب الإمام نفسه.
خرج الإرياني، وفق أكثر الروايات التي توثقت منها، مغتصباً الابتسامة لإغاظة "الطاغية " الداهية الذي أمر السياف فوراً بإعادة سيفه إلى غمده، حتى يحرم الإرياني من رمزية الاستشهاد مبتسماً في مواجهة الموت".
غير أن روايات أخرى تقول إن "الذاري قفز إلى الميدان، ووقف بين الإرياني والسيّاف، صارخاً في وجه الإمام، وطالباً منه أن يكف عن إراقة دماء علماء الأمة".
الإرياني في "المحكمة الشرعية العليا"
بعد ذلك حدثت مفارقة من نوع آخر عندما جاء أمر الإمام بتعين الإرياني في أعلى "سلطة شرعية" ليزيد من قناعة الأخير أن الإمام ليس أكثر من "مخلوق سياسي" يعمل بمكرٍ وذكاء نادر لإستغلال (المعنى) الذي يمثله شخص ما في تصور العامة، وذلك لخدمة مشروعه السياسي ليس إلاّ.
وبالمناسبة فالإمام أحمد، وقد بلغ دهاؤه في الحكم أن جعل أهم مقاليد الإدارة الحكومية بيد النابهين من عامة الشعب، ممن لا إمكانية (واقعية) في المذهب الزيدي لأن يصبحوا أئمة أو على رأس الحكم المحصور في سلالة آل بيت رسول الإسلام، فقد أقصى الكثير من أبناء هذه السلالة الطامحين للإمامة والسلطة، ووصل الأمر إلى حد أن أمر (الإمام أحمد الناصر لدين الله ) بضرب عُنُقَي أخويه عبدالله والعباس بحد السيف، فيما تقول بعض الروايات إن شقيقه سيف الحق إبراهيم مات مسموماً في محبسه، وذلك ضمن موجة من الإعدامات التي نجا منها الإرياني كما أشارت إليها مذكراته بالتفصيل، أعقبت فشل ثورتي 1948 و1955، وجرت جميعها دون محاكمة.
من المنفى إلى القمة
ولربما كان الإرياني واحداً من الزعماء القلائل في التاريخ يخرج من حصاره، ويعود من منفاه إلى رئاسة الدولة في بلاده بمساعدة سلطات ذات النظام الذي كان معتقلاً لديه.
كان الإرياني هو السياسي اليمني الوحيد الذي استثناه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر من السجن عندما قررت القيادة المصرية استدراج قادة المعارضة اليمنية لزيارة القاهرة، ومن ثم وضعهم في السجن بسبب رفضهم لتدخلات بعض القادة العسكريين المصريين في الشأن السياسي لليمن خلال عقد الستينيات من القرن الماضي.
تم إنزال الإرياني حينها في بيت مقبول لإقامته الجبرية، وكان يُسمح له بالذهاب بصحبة حراس منزله لأداء الصلاة في كل يوم جمعة، بينما تم وضع رفاقه الآخرين في عدد من السجون المنيعة كالسجن الحربي، وعوملوا بقسوة شديدة مثل ما أشار إلى ذلك زميله (الأستاذ) أحمد محمد النعمان.
جاءت المفارقة التالية بعد مؤتمر الخرطوم الشهير عقب نكسة يونيو/ حزيران 1967 عندما توصل الزعيمان العربيان المصري جمال عبدالناصر والسعودي فيصل بن عبدالعزيز في منزل رئيس الوزراء السوداني محمد أحمد محجوب إلى تسوية لنزاعهما على الساحة اليمنية تم بموجبها عزل الرئيس اليمني الراحل عبدالله السلال الذي كان في زيارة لبغداد وعودة الإرياني بطائرة مصرية خاصة إلى مطار الحديدة في الـ 5 من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه ليصبح بعد ثلاثة أسابيع وبتوافق وطني عام (رئيساً للمجلس الجمهوري) أعلى سلطة في الدولة.
لكن رئيس الوزراء الأسبق محسن العيني أبلغ بي بي سي أن "الإرياني الذي عاد وزملاؤه إلى الحديدة إلتقوا السلال هناك، وخيروه بين يتعاونوا معه أو أن يذهبوا إلى بيوتهم ليتحمل كامل المسؤولية عن عواقب عودة القوات المصرية من اليمن، لكنه أصر على الذهاب إلى بغداد في طريقه إلى موسكو"، حينها جرى عزله بعد اتفاق بين زعماء البلاد في منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر على اختيار الإرياني رئيساً وتكليف العيني بتشكيل أولى حكوماته.
الإرياني والفيصل
مفارقة أخرى اختارها القدر أيضاً، ففي عامين متقاربين 1965 و1967 جاء وصول الرجلين المتناقضين إلى السلطة في البلدين الجارين اليمن الجمهوري الضارب بجذوره في أطناب التاريخ والسعودية الملكية النفطية الصاعدة، المتداخلين بدورهما بعلاقات جيو - سياسية معقدة وشائكة.
الإرياني حفاظة القرآن ودارس الرسالات السماوية علماً وفهماً قبل غيب، كوسيلة للحوار، وفيصل .. الفيصل كما كان يظنه والده فيه ويوقن به في نفسه، قاطعاً بسيف أبيه البتار رأس "كل مخالف للدين والعقيدة" كما كان يؤمن.
ربما وُفِّق الباحث النابه لطفي النعمان في اختيار صورة تجمع الرجلين في غلاف كتابه (يلتقيان) ، لكن عنوان موضوعه قد لا يكون بنفس الدقة .. أحسن النعمان عندما استدرك بعد سرده الخصال المشتركة للزعيمين تعليقاً على لقطة فوتوغرافية ظهر فيها فيصل وهو يهدي للإرياني سيفاً، اعتبر النعمان أن فيصل أراد أن يحمل الإرياني "الأداة المثلى لحل ما يتطلب حد السيف، وهنا ما يبرز الاختلاف بين نهجيهما وشخصيتيهما .. بين المحارب والمحاور ، وبين الحازم والعالم".
ويضيف النعمان قوله: " لقد قوي الإرياني على حمل السيف، لكنه لم يقو على (البتر) به، أما فيصل فلا يضعف أو يلين متى تيقن من استحقاق البتر
مفارقة التفاهم مع الأضداد
كانت هناك مفارقة لا تقل غرابة وصعوبة في تعامل الإرياني مع جار عربي غني (رجعي) في الرياض من منظور أخ يمني يساري (متشدد) في عدن من وجهة نظر الجيران في الشمال، وفي الوقت نفسه كان ثمة تأثير عميق وامتدادات في الداخل اليمني لـ (حزب البعث العربي الإشتراكي) بشقيه العراقي والسوري، وكل هذا في ظل اشتداد حدة الاستقطاب الدولي خلال الحرب الباردة لأطراف المشهد اليمني بين المعسكرين الشرقي بقيادة الإتحاد السوفياتي والغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد دفع الإرياني في النهاية ثمن عجزه كبشر على تحمل مخاطر وضغط التعامل مع كل تلك القوى المتضادة والأطراف المتضاربة إلى ما لا نهاية وشعر كما قال بأن "إناءه إمتلأ بما يكفي وأن على الآخرين الإتيان بإناءٍ آخر".
أغرب المفارقات
من المنفى إلى القمة
ولربما كان الإرياني واحداً من الزعماء القلائل في التاريخ يخرج من حصاره، ويعود من منفاه إلى رئاسة الدولة في بلاده بمساعدة سلطات ذات النظام الذي كان معتقلاً لديه.
كان الإرياني هو السياسي اليمني الوحيد الذي استثناه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر من السجن عندما قررت القيادة المصرية استدراج قادة المعارضة اليمنية لزيارة القاهرة، ومن ثم وضعهم في السجن بسبب رفضهم لتدخلات بعض القادة العسكريين المصريين في الشأن السياسي لليمن خلال عقد الستينيات من القرن الماضي.
تم إنزال الإرياني حينها في بيت مقبول لإقامته الجبرية، وكان يُسمح له بالذهاب بصحبة حراس منزله لأداء الصلاة في كل يوم جمعة، بينما تم وضع رفاقه الآخرين في عدد من السجون المنيعة كالسجن الحربي، وعوملوا بقسوة شديدة مثل ما أشار إلى ذلك زميله (الأستاذ) أحمد محمد النعمان.
جاءت المفارقة التالية بعد مؤتمر الخرطوم الشهير عقب نكسة يونيو/ حزيران 1967 عندما توصل الزعيمان العربيان المصري جمال عبدالناصر والسعودي فيصل بن عبدالعزيز في منزل رئيس الوزراء السوداني محمد أحمد محجوب إلى تسوية لنزاعهما على الساحة اليمنية تم بموجبها عزل الرئيس اليمني الراحل عبدالله السلال الذي كان في زيارة لبغداد وعودة الإرياني بطائرة مصرية خاصة إلى مطار الحديدة في الـ 5 من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه ليصبح بعد ثلاثة أسابيع وبتوافق وطني عام (رئيساً للمجلس الجمهوري) أعلى سلطة في الدولة.
لكن رئيس الوزراء الأسبق محسن العيني أبلغ بي بي سي أن "الإرياني الذي عاد وزملاؤه إلى الحديدة إلتقوا السلال هناك، وخيروه بين يتعاونوا معه أو أن يذهبوا إلى بيوتهم ليتحمل كامل المسؤولية عن عواقب عودة القوات المصرية من اليمن، لكنه أصر على الذهاب إلى بغداد في طريقه إلى موسكو"، حينها جرى عزله بعد اتفاق بين زعماء البلاد في منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر على اختيار الإرياني رئيساً وتكليف العيني بتشكيل أولى حكوماته.
الإرياني والفيصل
مفارقة أخرى اختارها القدر أيضاً، ففي عامين متقاربين 1965 و1967 جاء وصول الرجلين المتناقضين إلى السلطة في البلدين الجارين اليمن الجمهوري الضارب بجذوره في أطناب التاريخ والسعودية الملكية النفطية الصاعدة، المتداخلين بدورهما بعلاقات جيو - سياسية معقدة وشائكة.
الإرياني حفاظة القرآن ودارس الرسالات السماوية علماً وفهماً قبل غيب، كوسيلة للحوار، وفيصل .. الفيصل كما كان يظنه والده فيه ويوقن به في نفسه، قاطعاً بسيف أبيه البتار رأس "كل مخالف للدين والعقيدة" كما كان يؤمن.
ربما وُفِّق الباحث النابه لطفي النعمان في اختيار صورة تجمع الرجلين في غلاف كتابه (يلتقيان) ، لكن عنوان موضوعه قد لا يكون بنفس الدقة .. أحسن النعمان عندما استدرك بعد سرده الخصال المشتركة للزعيمين تعليقاً على لقطة فوتوغرافية ظهر فيها فيصل وهو يهدي للإرياني سيفاً، اعتبر النعمان أن فيصل أراد أن يحمل الإرياني "الأداة المثلى لحل ما يتطلب حد السيف، وهنا ما يبرز الاختلاف بين نهجيهما وشخصيتيهما .. بين المحارب والمحاور ، وبين الحازم والعالم".
ويضيف النعمان قوله: " لقد قوي الإرياني على حمل السيف، لكنه لم يقو على (البتر) به، أما فيصل فلا يضعف أو يلين متى تيقن من استحقاق البتر
مفارقة التفاهم مع الأضداد
كانت هناك مفارقة لا تقل غرابة وصعوبة في تعامل الإرياني مع جار عربي غني (رجعي) في الرياض من منظور أخ يمني يساري (متشدد) في عدن من وجهة نظر الجيران في الشمال، وفي الوقت نفسه كان ثمة تأثير عميق وامتدادات في الداخل اليمني لـ (حزب البعث العربي الإشتراكي) بشقيه العراقي والسوري، وكل هذا في ظل اشتداد حدة الاستقطاب الدولي خلال الحرب الباردة لأطراف المشهد اليمني بين المعسكرين الشرقي بقيادة الإتحاد السوفياتي والغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد دفع الإرياني في النهاية ثمن عجزه كبشر على تحمل مخاطر وضغط التعامل مع كل تلك القوى المتضادة والأطراف المتضاربة إلى ما لا نهاية وشعر كما قال بأن "إناءه إمتلأ بما يكفي وأن على الآخرين الإتيان بإناءٍ آخر".
أغرب المفارقات
ولم يحدث لزعيم في التاريخ العربي على الأقل أن تتم الإطاحة بحكمه بوداع رسمي حارٍ ومؤثر كالذي جرى للإرياني بعد نحو سبعة أعوام من رئاسته، فقد احتشد كبار رجال الدولة مدنيين وعسكريين لتوديعه في مطار تعز في الـ 18 من يونيو/ حزيران 1974 بعد خمسة أيام من الإنقلاب عليه.
وكانت المفارقة المقابلة أنه كان أول رئيس معزول في التاريخ أيضاً يحظى باستقبال رسميٌ خاص من قبل رئيس الدولة التي تم نفيه اختيارياً إليها، وذلك عندما كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على رأس مستقبليه في مطار دمشق في نهار ذلك اليوم أيضاً.
عاش الرجل أفضل منافيه الاختيارية في العاصمة دمشق وقبلها في مدينة طرطوس الساحليةالسورية ومنتجع "صلنفة" في ريف محافظة اللاذقية خلال عدد هام من منعطفات الحياة السياسية للرجل حتى قبل استقالته، حيث كان فضَّل سوريا مكاناً لاستراحاته ليعتكف فيها غير مرة عن ممارسة مهامه الرئاسية خلال عدد من الأزمات السياسية.
وقد تلقى عقب استقالته دعوة من الرئيس المصري الراحل أنور السادات للإقامة في مصر لكنه أثر البقاء في هذا البلد ليظل بعيداً عن مصر بسبب استضافتها الدائمة لمجتمع اليمن السياسي الصاخب بأحزاب السلطة والمعارضة معاً منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم كذلك حتى بعد سنوات من رحيله
وكانت المفارقة المقابلة أنه كان أول رئيس معزول في التاريخ أيضاً يحظى باستقبال رسميٌ خاص من قبل رئيس الدولة التي تم نفيه اختيارياً إليها، وذلك عندما كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على رأس مستقبليه في مطار دمشق في نهار ذلك اليوم أيضاً.
عاش الرجل أفضل منافيه الاختيارية في العاصمة دمشق وقبلها في مدينة طرطوس الساحليةالسورية ومنتجع "صلنفة" في ريف محافظة اللاذقية خلال عدد هام من منعطفات الحياة السياسية للرجل حتى قبل استقالته، حيث كان فضَّل سوريا مكاناً لاستراحاته ليعتكف فيها غير مرة عن ممارسة مهامه الرئاسية خلال عدد من الأزمات السياسية.
وقد تلقى عقب استقالته دعوة من الرئيس المصري الراحل أنور السادات للإقامة في مصر لكنه أثر البقاء في هذا البلد ليظل بعيداً عن مصر بسبب استضافتها الدائمة لمجتمع اليمن السياسي الصاخب بأحزاب السلطة والمعارضة معاً منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم كذلك حتى بعد سنوات من رحيله
معاوية ابن ابي سفيان وأهل اليمن
قيل : إن معاوية جلس يوماً بين أصحابه ، إذ أقبلت قافلتان من البرية ، فقال لبعض من كان بين يديه : إنظروا هؤلاء القوم وائتوني بأخبارهم
. فمضوا وعادوا وقالوا : يا أمير المؤمنين ، إحداهما من اليمن والأخرى من قريش
. فقال : إرجعوا إليهم وإدعوا قريشاً يأتونا ، وأما أهل اليمن فينزلون في أماكنهم إلى أن نأذن لهم في الدخول فلما دخلت قريش سلّم عليهم وقربهم
وقال : أتدرون يا أهل قريش لم أخّرْتُ أهل اليمن وقربتكم ؟
قالوا : لا والله يا أمير المؤمنين
قال : لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم ، وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيرا وألقي عليهم من المسائل ما أقل به إكرامهم وأرخص به مقامهم
. فإذا دخلوا وأخذوا أماكنهم من الجلوس وسألوا عن شيء فلا يجبهم أحد غيري
قال الراوي : وكان المقدم عليهم رجلاً يقال له الطرماح بن الحكم #الباهلي فأقبل على أصحابه وقال : أتدرون يا أهل اليمن لم أخركم ابن هند وقدم قريشاً ؟
قالوا : لا
قال : لأنه في غداة غد يقوم فيكم نذيراً ويلقي عليكم من المسائل ما يقل به إكرامكم ويرخص به مقامكم ، فإذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجبه أحد غيري .فلما كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم فنهض معاوية قائماً على قدميه
وقال : أيها الناس من تكلم قبل العرب وعلى من أنزلت العربية ؟
فقام الطرماح وقال : نحن يا معاوية ، ولم يقل يا أمير المؤمنين .
فقال : لماذا ؟فقال : لأنه لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي
وهو جدنا فقرأ العربية وتداولها قومه من بعده إلى يومنا هذا ، فنحن يا معاوية عرب بالجنس وأنتم عرب بالتعليم .
فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه .
وقال : أيها الناس ، من أقوى العرب إيماناً ومن شهد له بذلك ؟
فقال الطرماح : نحن يا معاوية
قال : ولم ؟
قال : لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فكذبتموه وسفهتموه وجعلتموه مجنوناً ، فآويناه ونصرناه فأنزل الله : " والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً " . وكان النبي صلى الله عليه وآله محسناً لنا متجاوزاً عن سيئاتنا فلم لم تفعل أنت كذلك ؟
كأنك خالفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال : فسكت زماناً ثم رفع رأسه وقال : أيها الناس ، من أفصح العرب لساناً ومن شهد له بذلك ؟قال الطرماح : نحن يا معاويةقال : ولم ذلك ؟
قال : لأن امرؤ القيس بن حجر الكندي منا قال في بعض قصائده
يطعمون الناس غَباً في السنين الممحلاتِ
في جِفانٍ كالخوابي وقدورٍ راسياتِ .
وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك .
قال : فسكت معاوية زماناً وقال : أيها الناس ، من أقوى العرب شجاعة وذكراً ومن شهد له بذلك ؟
قال الطرماح : نحن يا معاوية .قال : ولم ذلك ؟
قال : لأن منا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كان فارساً في الجاهلية وفارساً في الإسلام وشهد له بذلك النبي صلى الله عليه آله وسلم .
فقال له معاوية : وأين أنت وقد أتي به مصفداً بالحديد ؟
فقال له الطرماح : ومن أتى به ؟قال معاوية : أتى به علي
قال الطرماح : والله لو عرفت مقداره لسلمت إليه الخلافة ولا طمعت فيها أبداً .
فقال له معاوية : أتحجني يا عجوز اليمن ؟
قال : نعم أحجك ياعجوز مضر لأن عجوز اليمن بلقيس آمنت بالله وتزوجت بنبيه سليمان بن داود عليهما السلام ، وعجوز مضر جدتك التي قال الله في حقها : "وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد".
قال : فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال : اصرﻓﻮﻩ ﻋﻨﻲ
قيل : إن معاوية جلس يوماً بين أصحابه ، إذ أقبلت قافلتان من البرية ، فقال لبعض من كان بين يديه : إنظروا هؤلاء القوم وائتوني بأخبارهم
. فمضوا وعادوا وقالوا : يا أمير المؤمنين ، إحداهما من اليمن والأخرى من قريش
. فقال : إرجعوا إليهم وإدعوا قريشاً يأتونا ، وأما أهل اليمن فينزلون في أماكنهم إلى أن نأذن لهم في الدخول فلما دخلت قريش سلّم عليهم وقربهم
وقال : أتدرون يا أهل قريش لم أخّرْتُ أهل اليمن وقربتكم ؟
قالوا : لا والله يا أمير المؤمنين
قال : لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم ، وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيرا وألقي عليهم من المسائل ما أقل به إكرامهم وأرخص به مقامهم
. فإذا دخلوا وأخذوا أماكنهم من الجلوس وسألوا عن شيء فلا يجبهم أحد غيري
قال الراوي : وكان المقدم عليهم رجلاً يقال له الطرماح بن الحكم #الباهلي فأقبل على أصحابه وقال : أتدرون يا أهل اليمن لم أخركم ابن هند وقدم قريشاً ؟
قالوا : لا
قال : لأنه في غداة غد يقوم فيكم نذيراً ويلقي عليكم من المسائل ما يقل به إكرامكم ويرخص به مقامكم ، فإذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجبه أحد غيري .فلما كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم فنهض معاوية قائماً على قدميه
وقال : أيها الناس من تكلم قبل العرب وعلى من أنزلت العربية ؟
فقام الطرماح وقال : نحن يا معاوية ، ولم يقل يا أمير المؤمنين .
فقال : لماذا ؟فقال : لأنه لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي
وهو جدنا فقرأ العربية وتداولها قومه من بعده إلى يومنا هذا ، فنحن يا معاوية عرب بالجنس وأنتم عرب بالتعليم .
فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه .
وقال : أيها الناس ، من أقوى العرب إيماناً ومن شهد له بذلك ؟
فقال الطرماح : نحن يا معاوية
قال : ولم ؟
قال : لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فكذبتموه وسفهتموه وجعلتموه مجنوناً ، فآويناه ونصرناه فأنزل الله : " والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً " . وكان النبي صلى الله عليه وآله محسناً لنا متجاوزاً عن سيئاتنا فلم لم تفعل أنت كذلك ؟
كأنك خالفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال : فسكت زماناً ثم رفع رأسه وقال : أيها الناس ، من أفصح العرب لساناً ومن شهد له بذلك ؟قال الطرماح : نحن يا معاويةقال : ولم ذلك ؟
قال : لأن امرؤ القيس بن حجر الكندي منا قال في بعض قصائده
يطعمون الناس غَباً في السنين الممحلاتِ
في جِفانٍ كالخوابي وقدورٍ راسياتِ .
وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك .
قال : فسكت معاوية زماناً وقال : أيها الناس ، من أقوى العرب شجاعة وذكراً ومن شهد له بذلك ؟
قال الطرماح : نحن يا معاوية .قال : ولم ذلك ؟
قال : لأن منا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كان فارساً في الجاهلية وفارساً في الإسلام وشهد له بذلك النبي صلى الله عليه آله وسلم .
فقال له معاوية : وأين أنت وقد أتي به مصفداً بالحديد ؟
فقال له الطرماح : ومن أتى به ؟قال معاوية : أتى به علي
قال الطرماح : والله لو عرفت مقداره لسلمت إليه الخلافة ولا طمعت فيها أبداً .
فقال له معاوية : أتحجني يا عجوز اليمن ؟
قال : نعم أحجك ياعجوز مضر لأن عجوز اليمن بلقيس آمنت بالله وتزوجت بنبيه سليمان بن داود عليهما السلام ، وعجوز مضر جدتك التي قال الله في حقها : "وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد".
قال : فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال : اصرﻓﻮﻩ ﻋﻨﻲ
ذكر موجب المفاخرة وابتداء ما حدث بين الحيين من المكابرة
1فكانت هذه حال نزار عند الملوك الآخرين من قحطان يغدون إلى أبوابهم ويفتخرون بعطاياهم وخدمتهم في الجاهلية، إلى أن كان في زمن معاوية ؛ فعند ذلك أحدث المفاخرة وتحرك للعصبية لما كان يرى من اليمانية على النزارية من الطول والزيادة في القول، وذلك أنه وجه جيشاً إلى الشام وعهد إلى رجل من آل ذي يزن يقال له عفير فجعله صاحب أمر الجيش فخرج عفير بالجيش، وقام محاداً للروم، فوقع في الجيش اختلاط وشر، فخرج عفير ليصلح بين الناس وعليه بُرْنُس له فجذب برنسه رجل من قيس، فأخبرت اليمانية بذلك فلم يمس في الجيش تلك الليلة قيسي إلا مكتوفاً فجعل الرجل من اليمانية يقول للمكتوف من القيسية: أأنت ممن مسّ برنس عفير؟. فيقول المكتوف القيسي: لا. فيقول له اليماني: أما أنك لو كنت ممن مسّ برنسه [187] لقطعت يدك، ويقول بعضهم لضربت عنقك. فذكروا أن جماعة من الناس من غير اليمانية اجتمعوا في ذلك وسألوا اليمانية أن يمنوا على القيسية وقالوا لهم: إنا في بلاد عدو فخلوا سبيل هؤلاء القوم. ففعلوا وكان ذلك أول ما أضغن معاوية وحرك قلبه. وكان الحارث بن عبد كلال وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم وحسن إسلامه، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاوية بن أبي سفيان أن ينطلق به فينزله في بيت عبد الله بن رواحة الأنصاري، وكان أيماً لا زوجة له، قال: فانطلقت بالرجل وإذا برجل فيه نبه النعمة وذكاء المملكة وخيلاء القدرة فعمد إلى ناقته فركبها في المدينة، قال له معاوية: إن قريشاً تعيب من الركوب في المدينة والمدن. فقال: العيب لذي العيب. قال معاوية: فسرت بين يديه وهو راكب وأنا راجل في يوم صايف شديد الحر، فلما استوجعت من الرمضاء قلت له: يا شيخ هل لك في إردافي معك؟ قال: لست من أرداف الملوك أمثالي. قال معاوية: قلت له فأعرني نعليك أقي بهما رجلي من حر الرمضاء. قال له: إنهما لا يحملان مثلك ولا يقلان شكلك، ولكن سر في ظل فرسي من حر الرمضاء فكفى لك بذلك شرفاً عند قومك. قال معاوية: فعلمت أن فيه عُجْب الملك وعجرفة الجاهلية، فسرت بين يديه ثم بلغت به حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إن الحارث بن عبد كلال أدرك معاوية خليفة فقدم عليه فقربه معاوية وأدناه من مجلسه وخلع عليه وأجرى إليه، فقال عمرو بن [188] العاص: أتذكر ما كان منه يا معاوية من شطط القول عليك يوم إسلامه. فقال معاوية: إنا لا نحقد على الضيوف ولا نتبلد عند الجتوف. فسكت عمرو حتى دخل الحارث إلى مجلس معاوية فقرعه عمرو فغضب الحارث وعزم على الإنصراف من مجلس معاوية وردّ عطيته فمشى إليه معاوية في جميع بني أمية معتذراً فرضي وأمسك. وقال الحارث مفتخراً على مضر بذي رعين:
أنا ابن الملوك الأقدمين التبابع ونجل القيول الأكرمين السمادع
ومن لو يقاس الشامخات بفخره لصارت رباها كالخلآء البلاقع
ومن فات …1 وطيبه على مضر من بين دان شاسع
أوان علت فيه ثقيفاً وغيرها من الخلق طراً فاصلات الصنائع
فقل للذنابا من بني العاص هل لكم كمثل فخاري بالنجوم الطوالع
2ودخل ذات يوم شريك بن الأعور الحارثي على معاوية بن أبي سفيان وكان دميماً ذا منطق، فقال له معاوية: إنك لدميم وللجمال خير من الدمامة وإنك لشريك وما لله تعالى من شريك وإنك لابن أعور وللبصير خير من الأعور فبم سدت قومك؟ فأجابه مسرعا: وإنك لمعاوية وإنما معاوية كلبة عوت واستعوت فسميّت معاوية وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر وإنك لابن حرب وللسلم خير من الحرب وإنك لابن أمية وإنما أمية أمَة صُغرت وذللت فسميت أمية فبم صرت أمير المؤمنين؟ فغضب معاوية [189] وخرج شريك وهو يقول:
أيشتمني معاوية بن صخر وسيفي صارم ومعي لساني
وحولي من ذوي يمن ليوث ضراغمة تهب إلى الطعان
يعيرنا الدمامة من سفاه وربات الحجال هي الغواني
ذوات الحسن والريبال جهم شتيم وجهه ماضي الجنان
فلا تبسط لسانك يا بن صخر علينا إذ بلغت مدى الأماني
فإن تك للشقاء لنا أميرا فإنا لا نقيم على الهوان
وإن تك من أمية من ذراها فإني في ذرا عبد المدان
3فهذا وما أشبهه من كلام اليمانية هو الذي أيقظ معاوية في طلب المفاخرة فعند ذلك أجمع رأي معاوية وقومه من بني أمية على مظاهرة الفرس والتطابق فيما بينهم، لأن الفرس والروم من ولد النبي إسحاق صلى الله عليه، ليستظهروا بهم على فخر اليمانية ويفتخروا بملكهم في الجاهلية إذا افتخرت قحطان بملك الجاهلية وأجابتهم جهلة الفرس إلى ذلك ليتخذوا على ذلك فخراً وذكراً لا أصل له ولا حقيقة.
1فكانت هذه حال نزار عند الملوك الآخرين من قحطان يغدون إلى أبوابهم ويفتخرون بعطاياهم وخدمتهم في الجاهلية، إلى أن كان في زمن معاوية ؛ فعند ذلك أحدث المفاخرة وتحرك للعصبية لما كان يرى من اليمانية على النزارية من الطول والزيادة في القول، وذلك أنه وجه جيشاً إلى الشام وعهد إلى رجل من آل ذي يزن يقال له عفير فجعله صاحب أمر الجيش فخرج عفير بالجيش، وقام محاداً للروم، فوقع في الجيش اختلاط وشر، فخرج عفير ليصلح بين الناس وعليه بُرْنُس له فجذب برنسه رجل من قيس، فأخبرت اليمانية بذلك فلم يمس في الجيش تلك الليلة قيسي إلا مكتوفاً فجعل الرجل من اليمانية يقول للمكتوف من القيسية: أأنت ممن مسّ برنس عفير؟. فيقول المكتوف القيسي: لا. فيقول له اليماني: أما أنك لو كنت ممن مسّ برنسه [187] لقطعت يدك، ويقول بعضهم لضربت عنقك. فذكروا أن جماعة من الناس من غير اليمانية اجتمعوا في ذلك وسألوا اليمانية أن يمنوا على القيسية وقالوا لهم: إنا في بلاد عدو فخلوا سبيل هؤلاء القوم. ففعلوا وكان ذلك أول ما أضغن معاوية وحرك قلبه. وكان الحارث بن عبد كلال وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم وحسن إسلامه، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاوية بن أبي سفيان أن ينطلق به فينزله في بيت عبد الله بن رواحة الأنصاري، وكان أيماً لا زوجة له، قال: فانطلقت بالرجل وإذا برجل فيه نبه النعمة وذكاء المملكة وخيلاء القدرة فعمد إلى ناقته فركبها في المدينة، قال له معاوية: إن قريشاً تعيب من الركوب في المدينة والمدن. فقال: العيب لذي العيب. قال معاوية: فسرت بين يديه وهو راكب وأنا راجل في يوم صايف شديد الحر، فلما استوجعت من الرمضاء قلت له: يا شيخ هل لك في إردافي معك؟ قال: لست من أرداف الملوك أمثالي. قال معاوية: قلت له فأعرني نعليك أقي بهما رجلي من حر الرمضاء. قال له: إنهما لا يحملان مثلك ولا يقلان شكلك، ولكن سر في ظل فرسي من حر الرمضاء فكفى لك بذلك شرفاً عند قومك. قال معاوية: فعلمت أن فيه عُجْب الملك وعجرفة الجاهلية، فسرت بين يديه ثم بلغت به حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إن الحارث بن عبد كلال أدرك معاوية خليفة فقدم عليه فقربه معاوية وأدناه من مجلسه وخلع عليه وأجرى إليه، فقال عمرو بن [188] العاص: أتذكر ما كان منه يا معاوية من شطط القول عليك يوم إسلامه. فقال معاوية: إنا لا نحقد على الضيوف ولا نتبلد عند الجتوف. فسكت عمرو حتى دخل الحارث إلى مجلس معاوية فقرعه عمرو فغضب الحارث وعزم على الإنصراف من مجلس معاوية وردّ عطيته فمشى إليه معاوية في جميع بني أمية معتذراً فرضي وأمسك. وقال الحارث مفتخراً على مضر بذي رعين:
أنا ابن الملوك الأقدمين التبابع ونجل القيول الأكرمين السمادع
ومن لو يقاس الشامخات بفخره لصارت رباها كالخلآء البلاقع
ومن فات …1 وطيبه على مضر من بين دان شاسع
أوان علت فيه ثقيفاً وغيرها من الخلق طراً فاصلات الصنائع
فقل للذنابا من بني العاص هل لكم كمثل فخاري بالنجوم الطوالع
2ودخل ذات يوم شريك بن الأعور الحارثي على معاوية بن أبي سفيان وكان دميماً ذا منطق، فقال له معاوية: إنك لدميم وللجمال خير من الدمامة وإنك لشريك وما لله تعالى من شريك وإنك لابن أعور وللبصير خير من الأعور فبم سدت قومك؟ فأجابه مسرعا: وإنك لمعاوية وإنما معاوية كلبة عوت واستعوت فسميّت معاوية وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر وإنك لابن حرب وللسلم خير من الحرب وإنك لابن أمية وإنما أمية أمَة صُغرت وذللت فسميت أمية فبم صرت أمير المؤمنين؟ فغضب معاوية [189] وخرج شريك وهو يقول:
أيشتمني معاوية بن صخر وسيفي صارم ومعي لساني
وحولي من ذوي يمن ليوث ضراغمة تهب إلى الطعان
يعيرنا الدمامة من سفاه وربات الحجال هي الغواني
ذوات الحسن والريبال جهم شتيم وجهه ماضي الجنان
فلا تبسط لسانك يا بن صخر علينا إذ بلغت مدى الأماني
فإن تك للشقاء لنا أميرا فإنا لا نقيم على الهوان
وإن تك من أمية من ذراها فإني في ذرا عبد المدان
3فهذا وما أشبهه من كلام اليمانية هو الذي أيقظ معاوية في طلب المفاخرة فعند ذلك أجمع رأي معاوية وقومه من بني أمية على مظاهرة الفرس والتطابق فيما بينهم، لأن الفرس والروم من ولد النبي إسحاق صلى الله عليه، ليستظهروا بهم على فخر اليمانية ويفتخروا بملكهم في الجاهلية إذا افتخرت قحطان بملك الجاهلية وأجابتهم جهلة الفرس إلى ذلك ليتخذوا على ذلك فخراً وذكراً لا أصل له ولا حقيقة.
فأما علماء الفرس المحققون وذوو المعرفة المتقدمون والمتأخرون، فيزعمون أن النبي إبراهيم صلى الله عليه هرب إليهم إلى الشام ثم هرب منهم إلى الحرم، فكيف يكون أبوهم على هذه الصفة؟ وإنما الخبر الصحيح على ما رواه محمد بن الحسن الكلاعي وغيره أن الفرس من بني كيرمون بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، ويقال في بعضهم [190] إنه من بني حومن بن يافث بن نوح لهم خليط من هذين النسبين والله أعلم، وأما الروم فإنهم بنو رومي بن تابوت بن لقطي بن يافث بن نوح عليه السلام، هذا ما رواه الكلاعي وغيره في نسب الفرس والروم، وإنما تطابقت النزارة وجهال الفرس على هذا النسب في أيام معاوية لما قد ذكروه من التناصر والتوازر وعزم معاوية على مشاركة قضاعة بالخلافة ليستجلبهم بذلك ويخرجهم من نسب اليمن ليستظهر بهم أيضاً، فأرسل إلى الحارث بن النمر بن النعمان بن سالم بن عبد الجن بن سعد بن أسعد بن غالب بن علي بن طرود بن حزم بن ربان بن حلوان بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير، فلما دخل عليه وكان له مُكرماً سأله أن ينسب قضاعة إلى معدّ وقال له: أي العرب أفضل: قال: أنتم بني عبد مناف أكرم العرب إحساناً وأعظمها لساناً. قال: ومن؟ قال: قضاعة أطيب العرب أخباراً وأطولها مناراً وأكرمهم نجاراً ؟ قال: أو تقر بذلك العرب؟ قال: هكذا، أقول لأني بهم أصول وإليهم أؤول. قال: فما تقول في نهد؟ قال: أطولنا أعلاماً وأكرمنا أقواماً وأعظمنا أحلاماً. قال: فما تقول في سليح؟ قال: أقدمنا شرفاً وأكرمنا سلفاً وأعزنا خلقاً. قال: فما تقول في جرهم؟ قال: بحور قضاعة حين تزخر وصوتها حين تجهر ولبابها حين تفخر. قال: فما تقول في كلب؟ قال: أطولنا أعماداً وأكثرنا جياداً وأورنا زناداً. قال: فما تقول في بلعنبر2؟. قال: أفسحنا نكاحاً وأشدنا طماحاً وأعطفنا جناحاً. قال: فما تقول في عاملة؟ قال: [191] أخوتنا الأقربون وقرومنا الأنجبون وليوثنا الأغلبون. قال: فما تقول في طابخة. قال: أعظمنا نائلاً وأعذبنا مناهلا وأقربنا صواهلا. قال: فما تقول في ضبّة بن سعد؟ قال: أخيرنا أطباقاً وأطولنا أبراقاً. قال: فما تقول في عذرة بن سعد؟ قال: أعزنا قلوبا وأقلنا عيوباً وأنجبنا نجوباً. قال: فما قولك في مسجعة؟ قال: ألدنا خصوما وأعلانا خيشوما، قال فما قولك في جهينة؟ قل: أعظمنا حلوماً وأثبتنا أروماً وسيوفنا وأضوأنا نجوما. قال: فما تقول في تنوخ؟ قال: خلفاؤنا في أول الدهر وسيوفنا في مواطن الفخر. قال: ألست منهم. قال: بلى ممن تنخ فأعظم وعقد فأعظم وقدر فأنعم. قال: لم سموا تنوخا؟ قال: لأنهم هجموا فسمحوا وتحالفوا فجمحوا. قال: وعلى من تنخ؟ قال: على أولاد الأكارم من فهم فأما ملوكها وقادتها فالنصر من لخم وأما فرسانها فالغرّ من سائر جرم. قال: أو يقر بذلك جمهور قضاعة؟ قال: قد علمت بذلك ابناء بني عبد الجن أصحاب ألويتها الخوافق وحماتها في الحقايق و ليوثها في كل مأزق. قال معاوية: لله درك قد أطنبت في مدحهم. قال: لأنهم أولى من خصصت بنصحي وحبوت بمنحي، إليهم أصير وبجناحهم أطير. قال: فمن الكاتب منكم مع النعمان بن المنذر؟ قال: عمرو بن عبد الحارث المشَهّر وأسد بن ناعصة الغضنفري. قال: فإلى أي قبايلها ينتهون. قال: إلى بني سعد بن سعد بن كيبر المطعمون والرافدون في الشدة الفقير والذايدون للحرب المستطير [192] والنازلون في اليوم العبوس القمطرير. قال: بم ذا قدمتم جرما؟ قال: إنهم أمنها امتنانا وأحصلها لبابا وأكرمها نصابا وأعلاها قباباً وأسطعها ترابا وأغلظها رقاباً. قال: لله أنت أمحبو ما أتيت به؟ قال: قول تغطمط به بحري وعلا به فخري فجاش به صدري. قال: فصف لي من مضى من الملوك. قال: نعم كانت ملوك حمير جمة أعظم الملوك أخطاراً وأنفذها آثاراً وأعلاها مناراً، وكانت ملوك كندة بحوراً زاخرة ومصابيح زاهرة ووجوهاً ناضرة وليوثاً عاقرة، وكانت ملوك لخم أشد الملوك طماحاً وأكثرها جلاحاً وأعصفها رياحاً، وكانت ملوك الصحاصحة3 من سليح عالية النجوم سليخة القروم، ثم ملك غسان ففاق الملوك بحمل العُظم ونصرهم إليهم. قال: فصف لي بيوتات العرب؟ قال: نعم العرب أربعة جماهير ولكل جمهور منها قبايل وعماير ليس منهم إلا من يدعى بيتاً وإنما شهرت بذلك البيوتات بمنازلهم عند الملوك. قال: فصفهم لي في السجع؟ قال: نعم، وأنشأ يقول:
إن الملوك بني الملوك المنتمين إلى يسار
رفعوا عماد بني السليل وبيت بني قدار
وملوك كندة إذ سموا وملوك حمير في الخيار
وهم لعمري اسسوا البيت الذي لبني نزار
4قال: فضحك معاوية، وقال: ما أرى فضل قضاعتك إلا وقد ذهب حتى [193] صممت إلى القروم وقربت من منابت الأروم. قال الحارث: مهلاً يا معاوية فإنك إن أردت إخراجي أصبت بحرا عميقاً ولساني ذليقاً ووجهي طليقاً. قال معاوية: إنا لم نرد بك إخراجاً فاكفف لله أبوك. قال الحارث: والله إني لفتاح الجواب قؤول بالصواب بصير بفصل الخطاب ولإن استزدتني لأزيدنك. قال: فأيس معاوية من مبايعته إياه.
إن الملوك بني الملوك المنتمين إلى يسار
رفعوا عماد بني السليل وبيت بني قدار
وملوك كندة إذ سموا وملوك حمير في الخيار
وهم لعمري اسسوا البيت الذي لبني نزار
4قال: فضحك معاوية، وقال: ما أرى فضل قضاعتك إلا وقد ذهب حتى [193] صممت إلى القروم وقربت من منابت الأروم. قال الحارث: مهلاً يا معاوية فإنك إن أردت إخراجي أصبت بحرا عميقاً ولساني ذليقاً ووجهي طليقاً. قال معاوية: إنا لم نرد بك إخراجاً فاكفف لله أبوك. قال الحارث: والله إني لفتاح الجواب قؤول بالصواب بصير بفصل الخطاب ولإن استزدتني لأزيدنك. قال: فأيس معاوية من مبايعته إياه.
5ثم أن معاوية أرسل إلى عمرو بن صرة الجرهمي وكان شريفاً فدخل وأوسع له معاوية عن يمينه وأخبره بما جرى بينهما وسأله عن أشياء، ثم قال له يا عمرو: أنت سيد قضاعة والمنظور إليه منها المقبول قوله فيها لصحبتك رسول الله صلى الله عليه فاصعد المنبر حتى تَصْعَد قضاعة إلى معد ولك خراج البصرة وخراج مصر طعمة ما بقيت. قال: لئن فعلتُ لتفعلنّ. قال: ذلك لك بعهد الله وذمة أبي سفيان. فنادى معاوية بالناس فاجتمعوا فصعد عمرو المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه ثم قال: أيها الناس اشهدوا أن معاوية صير لي خراج البصرة ومصر طعمة ما بقيت، على أن أنسب قضاعة إلى معد، آلا فإني أشهدكم أن الشيخ الأكبر قضاعة بن مالك بن حمير في النسب المعروف غير المنكر. وبلغ معاوية الخبر فهجره وأكثر الناس لائمة عمرو في الذي كان منه وقالوا ما كان عليك بمتابعته والحظوة عنده فلا مضرة عليك ولا على قومك وكان ممن عذله ابن له يقال له زهير بن عمرو، (فأنشأ يقول عمرو …)4: [194]
أزهير إني لو طمعت كسوتني حتى الممات بذلة وبعار
قحطان والدنا الذي يدعا له وأبو خزيمة ينتمي لنزار
6فلما يئس معاوية من متابعته أرسل إلى عبيد بن شرية الجرهمي وكان شيخاً كبيراً فقدمه وأكرمه وسأله عن أخبار الأولين، فانتحى في بث أخبار قومه من بني قحطان وشرح أخبار ملوكها، فعلم معاوية أنه لا سبيل إلى ما أراد من إخراج جرهم من قحطان، فعند ذلك يئس معاوية وجدّ هو وقومه من بني أمية في العصبية وشمرت مضر في ذلك وربيعة على حالها لم تنقض الحلف فالذي كان يلقاه معاوية من اليمانية من الطول عليه في الكلام والإفحام في الخصام هو الذي حرك قلبه للمناظرة وقوى عزمه في طلب المفاخرة وطمع في نزار أن تكافئ قحطان في الشرف أو تدانيها في الرفعة والزلف، وكان سبب بلوغ معاوية إلى ما بلغ من الملك حتى صار يتحرك للعصبية وعناد الملوك، وأنه وجد في الطلب بدم عثمان مدخلاً على المسلمين حتى استمال كل ذي دين ضعيف وقام معه يمانية من الشام وقامت اليمانية في العراق مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه والكل من اليمانية في طلب الدين القيم هؤلاء وهؤلاء، فلما استقامت راية معاوية وثبت أمره قام في المفاخرة وخرج في الحمية عن حدود الدين إلى طبع الملوك الأقدمين وكذلك قومه من بني أمية خاصة إلى أن انقرضوا فكانوا إذا أرادوا قتل سيد من اليمانية لم يقتلوه حتى يقيموا عليه حجة من [195] أمر الدين ويشبهوا عليه ذنبا عند المسلمين لئلا تقوم عليهم اليمانية فتجتثهم من فوق الأرض، فقتلوا جماعة بهذا السبب منهم ثابت بن نعيم الجذامي وخالد بن عبد الله القسري5 ومولاً لخالد يقال له غزوان، هؤلاء وغيرهم، واستمروا الجبار6 من أيام بني أمية على أضغانهم وإحنهم في أيام بني العباس فقتل عبد الله بن محمد بن شرحبيل بن السمط بن جبلة الكندي وعاث معن بن زايدة الشيباني في اليمن وقتل من قتل في المعافر وحضروموت غدراً، وكان أول من بغى وغدر ونقض الحلف بين كندة وربيعة، فأما في أيام بني أمية فقام في اليمانية منصور بن جمهور الكلبي بأهل الشام، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري7 وغيرهما من بني قحطان على الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وكان يسمى الفاسق لأنه كان زنديقاً قتلاه وقتلا ابنيه الحكم وعثمان ابني الوليد وكان يقال لهما الجملان وبعدما أخذهما منصور بن جمهور جعلا في الحبس أياما، وكانت أمهما كلبيّة، فقال الحكم وهو في الحبس:
ألا ليت كعباً لم تلدنا وكنا من ولادة آخرينا
أيذهب عامر بدمي ولحمي فلا غثّا أصيب ولا سمينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي فمروان أمير المؤمنين
7استكباراً منه أن تصير الدولة في يد مروان بن محمد فأخرجهما منصور بن جمهور من الحبس ثم قدما فضرب أعناقهما صبرا وقال: والله لا تركت لبني أمية نسلاً ما بقيت. فكان زوالهم على يده وكان آخرهم مروان بن محمد قتله [196] يمانية الشام وفيه يقول دعبل:
ومرواناً قتلنا عن يزيد كذاك قضاؤنا في المعتدينا
8وأما أيام بني العباس فإن المأمون وجه طاهر بن الحسين بن أبي مصعب الخزاعي لحرب أخيه محمد الأمين إلى بغداد، فسار طاهر حتى أحاط به فخشي المأمون على طاهر أن يكون من معه قليلا، فوجه إليه هرثمة بن أعين التميمي في جيش عظيم إلى طاهر فأمره أن يكون عوناً لطاهر من أحد الجانبين، فلما وصل هرثمة إلى طاهر غضب طاهر وقال: كأن المأمون يريد أن يخاطر بي حتى إذا أحكمت الأمر جعل الاسم لغيري. فجد في التضييق على الأمين حتى اضطر إلى طلب الأمان منه، فلم يؤمنه فطلب الأمان من هرثمة فأمنه فازداد غيظ طاهر وحنقه فرصد له الحرس من عبيده وعسكره الليلة التي يخرج بها إلى هرثمة فوقع في أيدي عبيد طاهر فجاؤوا به إليه فأمر طاهر به عبداً له تركياً فضرب عنقه على عيون الناس وبعث برأسه إلى المأمون على …8 ولاء لا إنكار فيه وقال المأمون: أمرناه أن يأتي به أسيراً فأتانا به قتيلاً. فقال بعض شعراء قحطان في ذلك:
أزهير إني لو طمعت كسوتني حتى الممات بذلة وبعار
قحطان والدنا الذي يدعا له وأبو خزيمة ينتمي لنزار
6فلما يئس معاوية من متابعته أرسل إلى عبيد بن شرية الجرهمي وكان شيخاً كبيراً فقدمه وأكرمه وسأله عن أخبار الأولين، فانتحى في بث أخبار قومه من بني قحطان وشرح أخبار ملوكها، فعلم معاوية أنه لا سبيل إلى ما أراد من إخراج جرهم من قحطان، فعند ذلك يئس معاوية وجدّ هو وقومه من بني أمية في العصبية وشمرت مضر في ذلك وربيعة على حالها لم تنقض الحلف فالذي كان يلقاه معاوية من اليمانية من الطول عليه في الكلام والإفحام في الخصام هو الذي حرك قلبه للمناظرة وقوى عزمه في طلب المفاخرة وطمع في نزار أن تكافئ قحطان في الشرف أو تدانيها في الرفعة والزلف، وكان سبب بلوغ معاوية إلى ما بلغ من الملك حتى صار يتحرك للعصبية وعناد الملوك، وأنه وجد في الطلب بدم عثمان مدخلاً على المسلمين حتى استمال كل ذي دين ضعيف وقام معه يمانية من الشام وقامت اليمانية في العراق مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه والكل من اليمانية في طلب الدين القيم هؤلاء وهؤلاء، فلما استقامت راية معاوية وثبت أمره قام في المفاخرة وخرج في الحمية عن حدود الدين إلى طبع الملوك الأقدمين وكذلك قومه من بني أمية خاصة إلى أن انقرضوا فكانوا إذا أرادوا قتل سيد من اليمانية لم يقتلوه حتى يقيموا عليه حجة من [195] أمر الدين ويشبهوا عليه ذنبا عند المسلمين لئلا تقوم عليهم اليمانية فتجتثهم من فوق الأرض، فقتلوا جماعة بهذا السبب منهم ثابت بن نعيم الجذامي وخالد بن عبد الله القسري5 ومولاً لخالد يقال له غزوان، هؤلاء وغيرهم، واستمروا الجبار6 من أيام بني أمية على أضغانهم وإحنهم في أيام بني العباس فقتل عبد الله بن محمد بن شرحبيل بن السمط بن جبلة الكندي وعاث معن بن زايدة الشيباني في اليمن وقتل من قتل في المعافر وحضروموت غدراً، وكان أول من بغى وغدر ونقض الحلف بين كندة وربيعة، فأما في أيام بني أمية فقام في اليمانية منصور بن جمهور الكلبي بأهل الشام، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري7 وغيرهما من بني قحطان على الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وكان يسمى الفاسق لأنه كان زنديقاً قتلاه وقتلا ابنيه الحكم وعثمان ابني الوليد وكان يقال لهما الجملان وبعدما أخذهما منصور بن جمهور جعلا في الحبس أياما، وكانت أمهما كلبيّة، فقال الحكم وهو في الحبس:
ألا ليت كعباً لم تلدنا وكنا من ولادة آخرينا
أيذهب عامر بدمي ولحمي فلا غثّا أصيب ولا سمينا
فإن أهلك أنا وولي عهدي فمروان أمير المؤمنين
7استكباراً منه أن تصير الدولة في يد مروان بن محمد فأخرجهما منصور بن جمهور من الحبس ثم قدما فضرب أعناقهما صبرا وقال: والله لا تركت لبني أمية نسلاً ما بقيت. فكان زوالهم على يده وكان آخرهم مروان بن محمد قتله [196] يمانية الشام وفيه يقول دعبل:
ومرواناً قتلنا عن يزيد كذاك قضاؤنا في المعتدينا
8وأما أيام بني العباس فإن المأمون وجه طاهر بن الحسين بن أبي مصعب الخزاعي لحرب أخيه محمد الأمين إلى بغداد، فسار طاهر حتى أحاط به فخشي المأمون على طاهر أن يكون من معه قليلا، فوجه إليه هرثمة بن أعين التميمي في جيش عظيم إلى طاهر فأمره أن يكون عوناً لطاهر من أحد الجانبين، فلما وصل هرثمة إلى طاهر غضب طاهر وقال: كأن المأمون يريد أن يخاطر بي حتى إذا أحكمت الأمر جعل الاسم لغيري. فجد في التضييق على الأمين حتى اضطر إلى طلب الأمان منه، فلم يؤمنه فطلب الأمان من هرثمة فأمنه فازداد غيظ طاهر وحنقه فرصد له الحرس من عبيده وعسكره الليلة التي يخرج بها إلى هرثمة فوقع في أيدي عبيد طاهر فجاؤوا به إليه فأمر طاهر به عبداً له تركياً فضرب عنقه على عيون الناس وبعث برأسه إلى المأمون على …8 ولاء لا إنكار فيه وقال المأمون: أمرناه أن يأتي به أسيراً فأتانا به قتيلاً. فقال بعض شعراء قحطان في ذلك:
فإن تقتلوا ابن السمط منا فإننا قتلنا أمير المؤمنين محمداً
9فكذلك كانت حالهم يأخذون اليمانية احتيالاً وتأخذهم اليمانية عزة واقتداراً، ولقد روي أن إسماعيل بن سعيد بن قيس الهمداني وابن الأشعث بن قيس الكندي وابناً لزُحَر بن قيس الجعفي دخلوا على الوليد بن عبد الملك وكان [197] عباس المرهبي قاعداً عنده فدخلوا عليه لتوديعه وكان في كلام إسماعيل بن سعيد عجلة، فقال للوليد عند توديعه: أحسن الله الصحابة وعلينا الخلافة. غلطاً منه فضحك الوليد من غلطه، فقال له العباس: مهلاً لا تراك همدان وأنت تضحك من كلام إسماعيل بن سعيد بن قيس. فقال الوليد: وإن رأوني فمه. فقال له عباس: إذا لا ترى من السماء إلا خطفة. قال له الوليد: أعفيرية يا أبا يوسف؟ قال: هو أقول لك. يعني عفير الذي وجهه معاوية في جيش الشام لقتال الروم وهو عفير من آل ذي يزن قد قدمنا خبره.
10فأهل اليمن هم أهل الأرض حقاً وساير بني آدم فيما بينهم تَبع، والدليل على ذلك أنه ما قام نبي مرسل إلا وهم أصحاب دولته والمقيمون لرايته وذلك أنه لما قام النبي إبراهيم صلى الله عليه لم يزل يتصفح الأمم حتى أفضى إلى مكة ونزل بين جرهم فنصره الضحاك بن قيس الأزدي وجرهم، فلم يزل الناس لى دين الحنيفي من لدن إبراهيم صلى الله عليه، حتى كان في زمن عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن مزيقيا بن عامر ماء السماء فأعاد الناس إلى عبادة الأوثان، وأعادهم شميل إلى الحنيفية فاختصم النضر بن سهل الحميري وخالد بن سلمة، قال النضر: هذه أكبر المناقب. قال خالد: بل هذه مثلبة. فارتفعا في ذلك إلى هشام بن عبد الملك فعرضت على جميع بني أمية فحكموا أنها منقبة وقالوا إن رجلاً يصد الحق عن طريق إلى ما يريد لحقيق أن يفتخر به. فعدت في المناقب في كتاب الواحدة.
11ثم لما كان في زمن النبي سليمان بن داود [198] صلى الله عليه ودعا الناس إلى عبادة الله عز وجل أجابته بلقيس كما شاء الله لها ولقومها فقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾9. فكان ذو بتع الناعطي من خاصته وصاحب أمره. ثم عهد عيسى بن مريم صلى الله عليه كان صاحب أمره الحارث بن كعب المذحجي وكان أكبر الحواريين فهذا مع الرسل المتقدمين وفي الفترات التي تكون بينهم فالملك في أبناء قحطان لم ينافسهم فيه أحد ولا منافس إلى أن جاء الإسلام وبعث رسول الله صلى الله عليه فلم يزل يتصفح الرجال فكل كذب وأصر ونفر إلا هذا الحي من الأوس والخزرج فإنهم بايعوه على حرب بني آدم الأسود والأبيض إلى أن يقوم الدين. ثم كذلك الأئمة من بعده فما قام خليفة محق أو غير محق إلا وأبناء قحطان أصحاب أمره والمقيمين لرايته حتى كان في زمن الواثق من بني العباس فاطرح اليمانية واصطفى الترك فسقط ملك بني العباس وتلاشى أمرهم، فبنو قحطان أصبر على الحق والباطل وأقوم بذلك وساير الناس تبَعٌ لهم، مع أن قحطان لا تفتخر بكفارها والمعاندين لأولياء الله عليهم السلام مثل فرعون ذي الأوتاد وهو الوليد بن مصعب اللخمي، ومثل الأسود الكذاب العنسي الذي قتله قيس بن مكشوح المرادي، ومثل ابن ملجم المرادي الذي قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه، ومثل قاتل عثمان وهو كنانة بن بشر السكوني، لأن كنانة هذا سار إليه من مصر فدخل عليه فشدخ رأسه [199] بعمود كان في يده حتى قتله، ومثل معاوية بن حديج السكوني10 الذي قتل محمد بن أبي بكر رحمه الله، فهؤلاء معاندين وكفار قد أدركوا بعنادهم وكفرهم لم يفتخر بهم أهل اليمن كافتخار أبي جهل بن هشام وأُبي بن خلف وغيرهم من معاندي الإسلام الذين لم يبلغوا بعنادهم إلا الشقاوة عليهم لعنهم الله وعلى من يصوب خطأهم ويرضى بفعلهم.
ملاحظات
1 بياض في الأصل.
2 هكذا وردت في الأصل.
3 هكذا وردت في الأصل، ولعلها الضجاعمة.
4 في الأصل العبارة بأكملها مطموسة ولم يبق إلا علامات الحروف.
5 وهو خالد بن عبد الله بن يزيد القسري من بجيلة يماني الأصل من أهل دمشق، ولي مكة للوليد بن عبد الملك، ثم غدا أمير العراقين في أيام هشام. وكان من خطباء العرب وأجودهم، سجن بأمر من هشام بن عبد الملك ثم قتل في أيام الوليد بن يزيد سنة 126 هجرية. راجع الزركلي، الأعلام، ج 2، ص 297. وقد تناوله صاحب الأغاني وابن الأثير وغيرهم. الأغاني، ج 5، ص 458.
6 كذا في الأصل.
7 كتب في الأصل القشيري.
8 بياض في الأصل.
9 سورة النمل/آية 44.
10 هو معاوية بن حديج بن جفنة بن قنبر الكندي السكوني أمير من الصحابة نعت بقائد الكتائب، شهد حرب صفين وكان في صف معاوية، وتجهز بجيش إلى مصر وكان الوالي عليها من قبل علي بن أبي طالب محمد بن أبي بكر الصديق، فدخل مصر وقتل محمداً وأخذ البيعة لمعاوية ثم ولي أمرة مصر ليزيد بن معاوية، وقام بغزو المغرب مراراً واستولى على صقلية وفتح بنزرت وله آثار بتونس تعرف بآبار حديج، وكان عاملا حازماً واسع العلم، مقداماً وهو ابن كبشة بن معدي كرب. توفي سنة 52 هجرية.
9فكذلك كانت حالهم يأخذون اليمانية احتيالاً وتأخذهم اليمانية عزة واقتداراً، ولقد روي أن إسماعيل بن سعيد بن قيس الهمداني وابن الأشعث بن قيس الكندي وابناً لزُحَر بن قيس الجعفي دخلوا على الوليد بن عبد الملك وكان [197] عباس المرهبي قاعداً عنده فدخلوا عليه لتوديعه وكان في كلام إسماعيل بن سعيد عجلة، فقال للوليد عند توديعه: أحسن الله الصحابة وعلينا الخلافة. غلطاً منه فضحك الوليد من غلطه، فقال له العباس: مهلاً لا تراك همدان وأنت تضحك من كلام إسماعيل بن سعيد بن قيس. فقال الوليد: وإن رأوني فمه. فقال له عباس: إذا لا ترى من السماء إلا خطفة. قال له الوليد: أعفيرية يا أبا يوسف؟ قال: هو أقول لك. يعني عفير الذي وجهه معاوية في جيش الشام لقتال الروم وهو عفير من آل ذي يزن قد قدمنا خبره.
10فأهل اليمن هم أهل الأرض حقاً وساير بني آدم فيما بينهم تَبع، والدليل على ذلك أنه ما قام نبي مرسل إلا وهم أصحاب دولته والمقيمون لرايته وذلك أنه لما قام النبي إبراهيم صلى الله عليه لم يزل يتصفح الأمم حتى أفضى إلى مكة ونزل بين جرهم فنصره الضحاك بن قيس الأزدي وجرهم، فلم يزل الناس لى دين الحنيفي من لدن إبراهيم صلى الله عليه، حتى كان في زمن عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن مزيقيا بن عامر ماء السماء فأعاد الناس إلى عبادة الأوثان، وأعادهم شميل إلى الحنيفية فاختصم النضر بن سهل الحميري وخالد بن سلمة، قال النضر: هذه أكبر المناقب. قال خالد: بل هذه مثلبة. فارتفعا في ذلك إلى هشام بن عبد الملك فعرضت على جميع بني أمية فحكموا أنها منقبة وقالوا إن رجلاً يصد الحق عن طريق إلى ما يريد لحقيق أن يفتخر به. فعدت في المناقب في كتاب الواحدة.
11ثم لما كان في زمن النبي سليمان بن داود [198] صلى الله عليه ودعا الناس إلى عبادة الله عز وجل أجابته بلقيس كما شاء الله لها ولقومها فقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾9. فكان ذو بتع الناعطي من خاصته وصاحب أمره. ثم عهد عيسى بن مريم صلى الله عليه كان صاحب أمره الحارث بن كعب المذحجي وكان أكبر الحواريين فهذا مع الرسل المتقدمين وفي الفترات التي تكون بينهم فالملك في أبناء قحطان لم ينافسهم فيه أحد ولا منافس إلى أن جاء الإسلام وبعث رسول الله صلى الله عليه فلم يزل يتصفح الرجال فكل كذب وأصر ونفر إلا هذا الحي من الأوس والخزرج فإنهم بايعوه على حرب بني آدم الأسود والأبيض إلى أن يقوم الدين. ثم كذلك الأئمة من بعده فما قام خليفة محق أو غير محق إلا وأبناء قحطان أصحاب أمره والمقيمين لرايته حتى كان في زمن الواثق من بني العباس فاطرح اليمانية واصطفى الترك فسقط ملك بني العباس وتلاشى أمرهم، فبنو قحطان أصبر على الحق والباطل وأقوم بذلك وساير الناس تبَعٌ لهم، مع أن قحطان لا تفتخر بكفارها والمعاندين لأولياء الله عليهم السلام مثل فرعون ذي الأوتاد وهو الوليد بن مصعب اللخمي، ومثل الأسود الكذاب العنسي الذي قتله قيس بن مكشوح المرادي، ومثل ابن ملجم المرادي الذي قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه، ومثل قاتل عثمان وهو كنانة بن بشر السكوني، لأن كنانة هذا سار إليه من مصر فدخل عليه فشدخ رأسه [199] بعمود كان في يده حتى قتله، ومثل معاوية بن حديج السكوني10 الذي قتل محمد بن أبي بكر رحمه الله، فهؤلاء معاندين وكفار قد أدركوا بعنادهم وكفرهم لم يفتخر بهم أهل اليمن كافتخار أبي جهل بن هشام وأُبي بن خلف وغيرهم من معاندي الإسلام الذين لم يبلغوا بعنادهم إلا الشقاوة عليهم لعنهم الله وعلى من يصوب خطأهم ويرضى بفعلهم.
ملاحظات
1 بياض في الأصل.
2 هكذا وردت في الأصل.
3 هكذا وردت في الأصل، ولعلها الضجاعمة.
4 في الأصل العبارة بأكملها مطموسة ولم يبق إلا علامات الحروف.
5 وهو خالد بن عبد الله بن يزيد القسري من بجيلة يماني الأصل من أهل دمشق، ولي مكة للوليد بن عبد الملك، ثم غدا أمير العراقين في أيام هشام. وكان من خطباء العرب وأجودهم، سجن بأمر من هشام بن عبد الملك ثم قتل في أيام الوليد بن يزيد سنة 126 هجرية. راجع الزركلي، الأعلام، ج 2، ص 297. وقد تناوله صاحب الأغاني وابن الأثير وغيرهم. الأغاني، ج 5، ص 458.
6 كذا في الأصل.
7 كتب في الأصل القشيري.
8 بياض في الأصل.
9 سورة النمل/آية 44.
10 هو معاوية بن حديج بن جفنة بن قنبر الكندي السكوني أمير من الصحابة نعت بقائد الكتائب، شهد حرب صفين وكان في صف معاوية، وتجهز بجيش إلى مصر وكان الوالي عليها من قبل علي بن أبي طالب محمد بن أبي بكر الصديق، فدخل مصر وقتل محمداً وأخذ البيعة لمعاوية ثم ولي أمرة مصر ليزيد بن معاوية، وقام بغزو المغرب مراراً واستولى على صقلية وفتح بنزرت وله آثار بتونس تعرف بآبار حديج، وكان عاملا حازماً واسع العلم، مقداماً وهو ابن كبشة بن معدي كرب. توفي سنة 52 هجرية.