التجديد في الدين عند بعض الناس هو الإتيان بأفكار دينية جديدة مختلفة عن الموروث القديم، وعالمية الإسلام عندهم هي أن يتفق الإسلام مع قيم العصر.
ومن تأمل هاتين الفكرتين علم تماما من أين أُتيَ أتباع محمد شحرور وأمثاله من المحرّفين للدين، ولو تفكرنا بعقلانية في هاتين الفكرتين المهيمنتين على خطاب هؤلاء لأدركنا المغالطة الكبرى الكامنة فيهما.
فالعاقل لا يرى أن مجرّد الإتيان بأفكار جديدة في الدين هو أمر مستحسن بحدّ ذاته، الجديد مستحسن في الماديات والتقنيات عادة، ولكن في عالم القيم الأمر متعلق بطبيعة هذه القيمة، فمثلا هناك أنواع من الشذ-وذ الجنسي استحدثها أهل هذا العصر، فهل هي مستحسنة لأنها جديدة؟ وهناك أنواع من المعاملات الربوية والعقود الاحتكارية المستحدثة، فهل صارت مستحسنة لمجرّد أنها جديدة؟!
في عالم القيم والأخلاق قد يرتقي الإنسان مع مرور خط الزمن وقد ينتكس، ولا توجد علاقة طردية بين تقدّم الزمن وتحسّن القيم، الأغبياء فقط من يعتقدون ذلك! أما في عالم المادة والأشياء فعادة ما يؤدي التقدّم الزمني إلى التحسين؛ لأنّ مبنى هذه الأمور على التجربة وعلى مراكمة الخبرات، ودخول الهوى فيها ليس كما هو في القيم والأخلاق.
أما عالمية الإسلام فهي أنّه بقيمه وتعاليمه وأحكامه لم ينزل على مقاس عرق معيّن أو فترة زمنية محددة، بل هو مرتبط بالثابت من الإنسان، كل إنسان في كل عصر. فحين حرّم الإسلام الربا كمنظومة استغلالية قذرة، وجدنا أن العصر لم يتجاوز هذه المنظومة، فما زال الإنسان من جميع الشعوب حين يتردّى في الأهواء يمارس الربا وإنْ بأشكال مختلفة. وكذلك الأمر في حكم الحجاب، فما زالت مفاتن المرأة التي طولبت بسترها هي هي لم تتغير، وهذه المفاتن هي هي لدى كل الشعوب، لا تختص بها المرأة العربية في الجزيرة دون غيرها.
أما فهم العالمية على أنّها الاتساق مع قيم الحضارة المهيمنة في كل عصر، بحيث يتحول حكم السارق من قطع اليد إلى التغريم والسجن كما هو مطبّق في أمريكا ودول العالم (هكذا يردد شحرور دائما)، ويصبح تحديد الحجاب بناء على المقبول في أهواء كل مجتمع؛ فهو إبطال لدور الإسلام في إنشاء القيم وتوجيه الناس إلى الحق والعدل، لأنه يتحول إلى تابع يتشكّل بحسب أهواء الناس في كل عصر، والله سبحانه يقول {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}. ويقول عز وجل {إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}، ولم يقل سبحانه إن هذا القرآن "يهتدي" للتي هي أقوم، فالقرآن هو الذي يحدد الأقوم ويهدي إلى الرشد. وحين شرع الله الصلاة لعباده، لم يكن فيها شيء يختص بقوم دون قوم، لم يكن من شروطها مثلا أن تؤدى في الصحراء، ويقيمُ المسلمون من جميع أعراق العالم الصلاة اليوم، ويتوجّهون إلى قبلة واحدة، دون أن يشعر أحد منهم أنها ممارسة خاصة بالعرب أو بعصر من العصور، لأن الصلاة بشعائرها وقيمها مرتبطة بجوهر الإنسان، كل إنسان.
ومن تأمل هاتين الفكرتين علم تماما من أين أُتيَ أتباع محمد شحرور وأمثاله من المحرّفين للدين، ولو تفكرنا بعقلانية في هاتين الفكرتين المهيمنتين على خطاب هؤلاء لأدركنا المغالطة الكبرى الكامنة فيهما.
فالعاقل لا يرى أن مجرّد الإتيان بأفكار جديدة في الدين هو أمر مستحسن بحدّ ذاته، الجديد مستحسن في الماديات والتقنيات عادة، ولكن في عالم القيم الأمر متعلق بطبيعة هذه القيمة، فمثلا هناك أنواع من الشذ-وذ الجنسي استحدثها أهل هذا العصر، فهل هي مستحسنة لأنها جديدة؟ وهناك أنواع من المعاملات الربوية والعقود الاحتكارية المستحدثة، فهل صارت مستحسنة لمجرّد أنها جديدة؟!
في عالم القيم والأخلاق قد يرتقي الإنسان مع مرور خط الزمن وقد ينتكس، ولا توجد علاقة طردية بين تقدّم الزمن وتحسّن القيم، الأغبياء فقط من يعتقدون ذلك! أما في عالم المادة والأشياء فعادة ما يؤدي التقدّم الزمني إلى التحسين؛ لأنّ مبنى هذه الأمور على التجربة وعلى مراكمة الخبرات، ودخول الهوى فيها ليس كما هو في القيم والأخلاق.
أما عالمية الإسلام فهي أنّه بقيمه وتعاليمه وأحكامه لم ينزل على مقاس عرق معيّن أو فترة زمنية محددة، بل هو مرتبط بالثابت من الإنسان، كل إنسان في كل عصر. فحين حرّم الإسلام الربا كمنظومة استغلالية قذرة، وجدنا أن العصر لم يتجاوز هذه المنظومة، فما زال الإنسان من جميع الشعوب حين يتردّى في الأهواء يمارس الربا وإنْ بأشكال مختلفة. وكذلك الأمر في حكم الحجاب، فما زالت مفاتن المرأة التي طولبت بسترها هي هي لم تتغير، وهذه المفاتن هي هي لدى كل الشعوب، لا تختص بها المرأة العربية في الجزيرة دون غيرها.
أما فهم العالمية على أنّها الاتساق مع قيم الحضارة المهيمنة في كل عصر، بحيث يتحول حكم السارق من قطع اليد إلى التغريم والسجن كما هو مطبّق في أمريكا ودول العالم (هكذا يردد شحرور دائما)، ويصبح تحديد الحجاب بناء على المقبول في أهواء كل مجتمع؛ فهو إبطال لدور الإسلام في إنشاء القيم وتوجيه الناس إلى الحق والعدل، لأنه يتحول إلى تابع يتشكّل بحسب أهواء الناس في كل عصر، والله سبحانه يقول {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}. ويقول عز وجل {إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}، ولم يقل سبحانه إن هذا القرآن "يهتدي" للتي هي أقوم، فالقرآن هو الذي يحدد الأقوم ويهدي إلى الرشد. وحين شرع الله الصلاة لعباده، لم يكن فيها شيء يختص بقوم دون قوم، لم يكن من شروطها مثلا أن تؤدى في الصحراء، ويقيمُ المسلمون من جميع أعراق العالم الصلاة اليوم، ويتوجّهون إلى قبلة واحدة، دون أن يشعر أحد منهم أنها ممارسة خاصة بالعرب أو بعصر من العصور، لأن الصلاة بشعائرها وقيمها مرتبطة بجوهر الإنسان، كل إنسان.
يُقال إنّ القلبَ سُمّيَ قلبًا لكثرة تقلّبه.. فلا يكاد يهجعُ إلى يقين حتى ينقلب عليه!
قد كان يمكنُ أن تنسابَ أغنيتي
كما يُغسّل شعْرَ الروضةِ المطرُ
وكان يمكنُ ألا تصطلي أبدًا
ولا يهزّ سنى أوتارها خبرُ
لكنَّ قلبكَ يا إنسانُ أحجيةٌ
فرعاءُ لم يستبحْ أسرارَها بشَرُ
تَمورُ، تَهجمُ، تَنزو تَنتشي غَرقًا
تَشِفّ، تُحجِمُ، يَبْري نبضَك الضجَرُ
كأنَّ خفقَكَ يا لهفانُ قافيةٌ
تَرتدُّ ثاويةً طورًا وتنتشِرُ
قد كان يمكنُ... ما لي أستريحُ لِـ "قدْ"؟
حرفانِ بينهما سَيْلٌ ومُنحَدَرُ
حرفانِ من تعَبٍ والريحُ بينهما
تَعوي وتَصْفِر والأحلامُ تنتثِرُ
وعالمٌ مُقفِرٌ غابَ اليقينُ بهِ
فلا نجومٌ ولا شمسٌ ولا قمرُ!
شريف
8 جمادى الآخرة 1441
إسطنبول
صوتية: https://on.soundcloud.com/YygZQ
قد كان يمكنُ أن تنسابَ أغنيتي
كما يُغسّل شعْرَ الروضةِ المطرُ
وكان يمكنُ ألا تصطلي أبدًا
ولا يهزّ سنى أوتارها خبرُ
لكنَّ قلبكَ يا إنسانُ أحجيةٌ
فرعاءُ لم يستبحْ أسرارَها بشَرُ
تَمورُ، تَهجمُ، تَنزو تَنتشي غَرقًا
تَشِفّ، تُحجِمُ، يَبْري نبضَك الضجَرُ
كأنَّ خفقَكَ يا لهفانُ قافيةٌ
تَرتدُّ ثاويةً طورًا وتنتشِرُ
قد كان يمكنُ... ما لي أستريحُ لِـ "قدْ"؟
حرفانِ بينهما سَيْلٌ ومُنحَدَرُ
حرفانِ من تعَبٍ والريحُ بينهما
تَعوي وتَصْفِر والأحلامُ تنتثِرُ
وعالمٌ مُقفِرٌ غابَ اليقينُ بهِ
فلا نجومٌ ولا شمسٌ ولا قمرُ!
شريف
8 جمادى الآخرة 1441
إسطنبول
صوتية: https://on.soundcloud.com/YygZQ
تدبّرتُ قول الشافعي (ت 204 هـ) رحمه الله: "أصحاب العربية جِنُّ الإنس، يُبصرون ما لا يُبصر غيرهم"، فوجدته ينطبق عبر التاريخ على العديد من الأئمة، والعربية هنا ليست العلم بالنحو أو الصرف أو البلاغة فحسب، بل إلى جانب ذلك ممارسة العربية أدبًا، ومَن جمع العربيّة نحوًا وأدبًا تفتّقتْ في عقله نظرات عميقة ليس في اللغة فحسب، بل في الفكر وتحليل الظواهر وفهم العالَم.
ولعلّ الشافعي نفسه يعبّر أجمل تعبير عن مقولته تلك، فقد كان الشافعي "ممّن تؤخذ عنه اللغة" كما قال ابن هشام صاحب المغازي، وكان إلى جانب ذلك أديبًا رقيق المشاعر يُعبّر عن أحوال الحياة والإنسان والقيم أبلغ تعبير في قصائده البديعة، فماذا كان؟ أنتج الشافعي بنظره الثاقب كتاب "الرسالة"، الذي يعتبر بحقّ أحد أهم الإنتاجات الفكرية في تاريخ المسلمين، وسيطّلع من يقرؤه على عقلية فذّة ينطبق عليها ما وُصف به الشافعي بأنّه "الذي عَلَّم الناس الحُجَج".
وممن ينطبق عليه هذا القول أيضًا الإمام أبو سليمان الخطّابي (ت 388 هـ) رحمه الله، فقد كان بصيرًا باللغة، تشهد مؤلّفاته – ومنها "غريب الحديث" – على سعة علمه في هذا الباب، وكان إلى جانب ذلك شاعرًا حسّاسًا يعبّر عن أحوال الإنسان مع الحياة أرقّ تعبير. ومن يطالع ما بلغنا من كتبه "الفكرية" سيجده صاحب عقل كبير، وليُنظر كلامه وتحليله في رسالته الصغيرة "الغنية عن الكلام وأهله" وما بلغنا من رسالته "شعار الدين وبراهين المسلمين"، سنجده قد كشف اللثام عن الفرق بين المنهج العقلي الذي يرشد إليه القرآن وسار عليه الأئمة كالشافعي وغيره، وبين مسالك علم الكلام، وهو تفريق مبكّر دقيق.
ومنهم أيضًا الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) رحمه الله، فقد كان عالمًا باللغة، وشرحه على ألفية ابن مالك يشهد على ذلك، وكان إلى جانب ذلك شاعرًا ومتذوّقًا للأدب كما ظهر في كتابه "الإفادات والإنشادات" وغيره، ومن يقرأ كتبه يرى لغة بليغة مع خوضه في مباحث عميقة. وكان أن أنتج لنا الشاطبي كتابا لم يرَ الدهر مثله، وهو كتاب "الموافقات"، ومن يقرأ هذا الكتاب يدرك سعة عقل الرجل ورحابة مداركه وكيف أنّه أبصر فيه ما لم يبصره غيره.
والأمر كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "تعلّموا العربية، فإنّها تُثبّت العقلَ وتزيد في المروءة". والعربية أوسع من أن تكون علوم آلة يحفظ المرء قواعدها، فلم تكن تلك العلوم على عهد عمر، بل هي لسان العرب وطرائق تعبيرهم وحيواتهم التي بثّوها في مدوّنات الأدب من شعر ونثر، فمن نهل منها اتّسع عقله وشفَّ قلبه
ولعلّ الشافعي نفسه يعبّر أجمل تعبير عن مقولته تلك، فقد كان الشافعي "ممّن تؤخذ عنه اللغة" كما قال ابن هشام صاحب المغازي، وكان إلى جانب ذلك أديبًا رقيق المشاعر يُعبّر عن أحوال الحياة والإنسان والقيم أبلغ تعبير في قصائده البديعة، فماذا كان؟ أنتج الشافعي بنظره الثاقب كتاب "الرسالة"، الذي يعتبر بحقّ أحد أهم الإنتاجات الفكرية في تاريخ المسلمين، وسيطّلع من يقرؤه على عقلية فذّة ينطبق عليها ما وُصف به الشافعي بأنّه "الذي عَلَّم الناس الحُجَج".
وممن ينطبق عليه هذا القول أيضًا الإمام أبو سليمان الخطّابي (ت 388 هـ) رحمه الله، فقد كان بصيرًا باللغة، تشهد مؤلّفاته – ومنها "غريب الحديث" – على سعة علمه في هذا الباب، وكان إلى جانب ذلك شاعرًا حسّاسًا يعبّر عن أحوال الإنسان مع الحياة أرقّ تعبير. ومن يطالع ما بلغنا من كتبه "الفكرية" سيجده صاحب عقل كبير، وليُنظر كلامه وتحليله في رسالته الصغيرة "الغنية عن الكلام وأهله" وما بلغنا من رسالته "شعار الدين وبراهين المسلمين"، سنجده قد كشف اللثام عن الفرق بين المنهج العقلي الذي يرشد إليه القرآن وسار عليه الأئمة كالشافعي وغيره، وبين مسالك علم الكلام، وهو تفريق مبكّر دقيق.
ومنهم أيضًا الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) رحمه الله، فقد كان عالمًا باللغة، وشرحه على ألفية ابن مالك يشهد على ذلك، وكان إلى جانب ذلك شاعرًا ومتذوّقًا للأدب كما ظهر في كتابه "الإفادات والإنشادات" وغيره، ومن يقرأ كتبه يرى لغة بليغة مع خوضه في مباحث عميقة. وكان أن أنتج لنا الشاطبي كتابا لم يرَ الدهر مثله، وهو كتاب "الموافقات"، ومن يقرأ هذا الكتاب يدرك سعة عقل الرجل ورحابة مداركه وكيف أنّه أبصر فيه ما لم يبصره غيره.
والأمر كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "تعلّموا العربية، فإنّها تُثبّت العقلَ وتزيد في المروءة". والعربية أوسع من أن تكون علوم آلة يحفظ المرء قواعدها، فلم تكن تلك العلوم على عهد عمر، بل هي لسان العرب وطرائق تعبيرهم وحيواتهم التي بثّوها في مدوّنات الأدب من شعر ونثر، فمن نهل منها اتّسع عقله وشفَّ قلبه
{وهو معكُم أين ما كُنتم}
هذه المعيّة الحاضرة في كل تفاصيل الحياة هي النور المنتشر في حنايا القلب والذي تنطفئ دونه كل الأنوار. وهي الندهة الأعلى التي تلُمّ تفاريق القلب وتسوقها إلى درب راحتها. هي التي ترفع عن الوجود الإنساني أستارَ تيهه وغربته ووحشته.
وهي معيّة تأييدٍ وعطاء كما أنّها معيّة عِلم وحفظ، أيّدكم بأُنْسه ومدّ لكم بساطَ مرضاته لتطيروا فيه إلى واحات هنائكم، فلا تَغفلوا عن حضوره الأعلى أينما كنتم؛ سواء كنتم في صحراء قاحلة تطلبون فيها عونه وتأييده، أو كنتم في مضائق قلقٍ تطلبون فيها عطاء السكينة.
وكثيرا ما تكون الراحة والسعادة كامنة في الانغماس بمرضاته سبحانه، وهي من بحر المعيّة لمن فقه واستعجل الاغتراف منه، فتلك عجلة محبوبة عند الرحمن ومذكورة في الملأ الأعلى، تورثُ القلبَ فرحة العبد بربّه، فتدفئه وتُغنيه، ومن كان غنيّا بالحقّ كان غنيّا عن الخَلْق.
هذه المعيّة الحاضرة في كل تفاصيل الحياة هي النور المنتشر في حنايا القلب والذي تنطفئ دونه كل الأنوار. وهي الندهة الأعلى التي تلُمّ تفاريق القلب وتسوقها إلى درب راحتها. هي التي ترفع عن الوجود الإنساني أستارَ تيهه وغربته ووحشته.
وهي معيّة تأييدٍ وعطاء كما أنّها معيّة عِلم وحفظ، أيّدكم بأُنْسه ومدّ لكم بساطَ مرضاته لتطيروا فيه إلى واحات هنائكم، فلا تَغفلوا عن حضوره الأعلى أينما كنتم؛ سواء كنتم في صحراء قاحلة تطلبون فيها عونه وتأييده، أو كنتم في مضائق قلقٍ تطلبون فيها عطاء السكينة.
وكثيرا ما تكون الراحة والسعادة كامنة في الانغماس بمرضاته سبحانه، وهي من بحر المعيّة لمن فقه واستعجل الاغتراف منه، فتلك عجلة محبوبة عند الرحمن ومذكورة في الملأ الأعلى، تورثُ القلبَ فرحة العبد بربّه، فتدفئه وتُغنيه، ومن كان غنيّا بالحقّ كان غنيّا عن الخَلْق.
حول تكفير الإمام النووي
شاهدتُ قبل أيام مقطعًا للداعية المتميّز محمد حجاب حفظه الله يردّ فيه على شخص على يوتيوب سُئل: "هل يصحّ كفر النووي" فأجاب: "أما كفر النووي فهو تابع لمسألة تكفير الأشعرية، فهو منهم، إذا كانوا كفارًا فهو تنزل عليه أحكامهم، لكن قد يُعامَل بمعاملة خاصة، يُنظر هل هو جاهل هل هو لا يفهم هل هو كذا".
كان ردّ فعل الداعية محمد حجاب هو ردّ الفعل الفطري التقليدي لأي مسلم، فقد قال: "ما هذا! ما هذا الكلام الفارغ! الإمام النووي من كبار العلماء، من كبار أئمة أهل السنة والجماعة... كيف تتكلّم في الإمام النووي وكدتَ أن تكفّرَه، فإنْ لم يكن هذا عين التطرّف والغلوّ فماذا إذن!".
وأجمل ما في ردّ الداعية محمد حجاب، الذي أحسبه بعيدًا عن كل هذا الجدل العقائدي، أنّه لا يقبل أساسا فكرة مناقشة كفر النووي من عدمه، ويعتبر أنّ مجرّد الطعن فيه وتبديعه أو تكفيره أو الاقتراب من ذلك يدلّ على غلوّ القائل وجهله، فلا يدخل معه في الأدلّة والحجج.
وأنا أعلم أن أنصار هذا التوجّه المغالي كالشخص الذي أجاب يضحكون من ردّ محمد حجاب، بل هم يتندّرون بأمثال هذه الردود قبل أن يسجّل محمد حجاب ردّه هذا. وليس ذلك لأنّهم أهل أدلّة وحجج كما يزعمون، بل لأنّهم أهل جهل وغفلة كما سأبيّن هنا.
لم يدرك هؤلاء أنّ إمامة النووي وولايته للمؤمنين وولاية المؤمنين له قد تأكّدت بمسالك قطعية مبنية على حقائق الإيمان والإسلام التي جاءت في الكتاب والسنة، وعلى تلقّيه بالقبول من عموم أهل السنّة والجماعة، وعلى انتشار ذكره مقرونًا بالعلم والصلاح في أوساط الأمّة منذ قرون طويلة، وتلقّي كتبه بالقبول كشرح مسلم ورياض الصالحين والأذكار وغيرها.
ما يفعله هؤلاء أنّهم يغفلون عن جميع قواطع الإسلام التي بها يتعلّق الإيمان والكفر، ويتطرّقون إلى مسائل حادثة ثار الجدل حولها في الأمة بعد أكثر من قرن من البعثة النبوية، وتحديدًا مسائل الصفات وما بني عليها من مقولات زائدة على ما في الكتاب والسنّة.
فما نعرفه عن الإمام النووي أنّه أحد أعلام هذه الأمّة الإسلامية، أي الأمّة الموحّدة التي تشهد بأن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، فهو يحبّ الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ويوالي أمّة الإسلام، ويعمل بشرائع الإسلام ويدعو إلى التزامها ويكفّر من يردُّها ويرفضها أو ينكر معلومًا من الدين بالضرورة.
وما علمنا عن الرجل أنّه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة من العقائد والشرائع، بل كان داعيًا إلى دين الله باثّا شريعته وذكرَه في الآفاق، ومن يطّلع على كتابه "الأذكار" على سبيل المثال ويتصفّحه يدرك أنّه أمام مسلم موحّد له حظّ عظيم من معرفة الله وحبّه وتعظيمه ومعرفة السنن النبوية والتزامها والدعوة إلى العمل بها. فكيف يستحلّ مسلم أن يتطرّق بالتكفير لمثل هذا الإمام المسلم؟!
ما يفعله هؤلاء أنّهم يتجاهلون كل هذه الحقائق التي تثبت إسلامه وتثبت له حقوق المسلمين من ولاية ونصرة وأخوة وتراحم وغير ذلك، ويبنون أحكامهم على مسائل الجدل العقائدي في المسائل التي ثار حولها الخلاف كمسائل الصفات.
فلا يكفي عندهم أن يُثبت النووي العلوّ لله العزيز على نحو يليق بجلاله سبحانه، ويؤمن قبل ذلك بالآيات التي تذكر العلوّ، ويعمل بمقتضاها التعبّدي المطلوب من الإنسان من تعظيم وخشوع ورهبة وخوف وخضوع (وهذا هو القطعيّ في ذكر هذه الصفة) بل يزعمون أنّه يعطّل معناها لأنّه ينفي الجهة.
مع العلم أنّ الكلام عن الجهة – إثباتًا ونفيًا – هو كلام مُحدَثٌ لم يكن يومًا من حقائق الإيمان والإسلام التي جاء بها الكتاب والسنّة وأجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم، فالحاصل أنّهم تركوا المضمون القطعي المتحقق للرجل في هذه الجزئية (الإيمان بصفة العلوّ لله سبحانه) والذي تترتّب عليه المعرفة الإنسانية ومقتضاها التعبّدي، وتناولوا ما يخالفهم فيه من تنزيه لله عن التجسّم والانتقال والتحيّز في جهةٍ كما ذكرَ رحمه الله في شرح مسلم.
وقِسْ على ذلك سائر المسائل كالحدّ وصفة النزول والإتيان والمجيء واليمين والعين واليد وسائر الصفات. فكل آية من الآيات التي ترد فيها هذه الألفاظ لها معنى معيّن ولهذا المعنى مقتضى تعبّدي، وهم متّفقون على هذا المعنى والمقتضى التعبّدي، بدءًا من الإيمان بالآية وألفاظها وعدم تحريفها، وصولا إلى دلالاتها التعبّدية الواقعية في القلوب والسلوك.
وليس الحديث هنا عن زهد وأخلاق وشهرة فحسب هي التي تمنع من تكفير الإمام النووي رحمه الله كما يحاول المموّهون أن يموّهوا، بل الحديث تحديدًا عن دخول في التوحيد وعمل بمقتضياته من الشرائع وولاء لله عزّ وجلّ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، مع تلقّيه بالقبول من سواد أهل السنّة، تلك الأمّة التي لم تنقطع على مرّ الزمان منذ البعثة النبوية، فهذا أحد المعايير التي يُشاد من خلالها بالعالِم أو يتم إسقاطه.
شاهدتُ قبل أيام مقطعًا للداعية المتميّز محمد حجاب حفظه الله يردّ فيه على شخص على يوتيوب سُئل: "هل يصحّ كفر النووي" فأجاب: "أما كفر النووي فهو تابع لمسألة تكفير الأشعرية، فهو منهم، إذا كانوا كفارًا فهو تنزل عليه أحكامهم، لكن قد يُعامَل بمعاملة خاصة، يُنظر هل هو جاهل هل هو لا يفهم هل هو كذا".
كان ردّ فعل الداعية محمد حجاب هو ردّ الفعل الفطري التقليدي لأي مسلم، فقد قال: "ما هذا! ما هذا الكلام الفارغ! الإمام النووي من كبار العلماء، من كبار أئمة أهل السنة والجماعة... كيف تتكلّم في الإمام النووي وكدتَ أن تكفّرَه، فإنْ لم يكن هذا عين التطرّف والغلوّ فماذا إذن!".
وأجمل ما في ردّ الداعية محمد حجاب، الذي أحسبه بعيدًا عن كل هذا الجدل العقائدي، أنّه لا يقبل أساسا فكرة مناقشة كفر النووي من عدمه، ويعتبر أنّ مجرّد الطعن فيه وتبديعه أو تكفيره أو الاقتراب من ذلك يدلّ على غلوّ القائل وجهله، فلا يدخل معه في الأدلّة والحجج.
وأنا أعلم أن أنصار هذا التوجّه المغالي كالشخص الذي أجاب يضحكون من ردّ محمد حجاب، بل هم يتندّرون بأمثال هذه الردود قبل أن يسجّل محمد حجاب ردّه هذا. وليس ذلك لأنّهم أهل أدلّة وحجج كما يزعمون، بل لأنّهم أهل جهل وغفلة كما سأبيّن هنا.
لم يدرك هؤلاء أنّ إمامة النووي وولايته للمؤمنين وولاية المؤمنين له قد تأكّدت بمسالك قطعية مبنية على حقائق الإيمان والإسلام التي جاءت في الكتاب والسنة، وعلى تلقّيه بالقبول من عموم أهل السنّة والجماعة، وعلى انتشار ذكره مقرونًا بالعلم والصلاح في أوساط الأمّة منذ قرون طويلة، وتلقّي كتبه بالقبول كشرح مسلم ورياض الصالحين والأذكار وغيرها.
ما يفعله هؤلاء أنّهم يغفلون عن جميع قواطع الإسلام التي بها يتعلّق الإيمان والكفر، ويتطرّقون إلى مسائل حادثة ثار الجدل حولها في الأمة بعد أكثر من قرن من البعثة النبوية، وتحديدًا مسائل الصفات وما بني عليها من مقولات زائدة على ما في الكتاب والسنّة.
فما نعرفه عن الإمام النووي أنّه أحد أعلام هذه الأمّة الإسلامية، أي الأمّة الموحّدة التي تشهد بأن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، فهو يحبّ الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ويوالي أمّة الإسلام، ويعمل بشرائع الإسلام ويدعو إلى التزامها ويكفّر من يردُّها ويرفضها أو ينكر معلومًا من الدين بالضرورة.
وما علمنا عن الرجل أنّه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة من العقائد والشرائع، بل كان داعيًا إلى دين الله باثّا شريعته وذكرَه في الآفاق، ومن يطّلع على كتابه "الأذكار" على سبيل المثال ويتصفّحه يدرك أنّه أمام مسلم موحّد له حظّ عظيم من معرفة الله وحبّه وتعظيمه ومعرفة السنن النبوية والتزامها والدعوة إلى العمل بها. فكيف يستحلّ مسلم أن يتطرّق بالتكفير لمثل هذا الإمام المسلم؟!
ما يفعله هؤلاء أنّهم يتجاهلون كل هذه الحقائق التي تثبت إسلامه وتثبت له حقوق المسلمين من ولاية ونصرة وأخوة وتراحم وغير ذلك، ويبنون أحكامهم على مسائل الجدل العقائدي في المسائل التي ثار حولها الخلاف كمسائل الصفات.
فلا يكفي عندهم أن يُثبت النووي العلوّ لله العزيز على نحو يليق بجلاله سبحانه، ويؤمن قبل ذلك بالآيات التي تذكر العلوّ، ويعمل بمقتضاها التعبّدي المطلوب من الإنسان من تعظيم وخشوع ورهبة وخوف وخضوع (وهذا هو القطعيّ في ذكر هذه الصفة) بل يزعمون أنّه يعطّل معناها لأنّه ينفي الجهة.
مع العلم أنّ الكلام عن الجهة – إثباتًا ونفيًا – هو كلام مُحدَثٌ لم يكن يومًا من حقائق الإيمان والإسلام التي جاء بها الكتاب والسنّة وأجمع عليها الصحابة رضوان الله عليهم، فالحاصل أنّهم تركوا المضمون القطعي المتحقق للرجل في هذه الجزئية (الإيمان بصفة العلوّ لله سبحانه) والذي تترتّب عليه المعرفة الإنسانية ومقتضاها التعبّدي، وتناولوا ما يخالفهم فيه من تنزيه لله عن التجسّم والانتقال والتحيّز في جهةٍ كما ذكرَ رحمه الله في شرح مسلم.
وقِسْ على ذلك سائر المسائل كالحدّ وصفة النزول والإتيان والمجيء واليمين والعين واليد وسائر الصفات. فكل آية من الآيات التي ترد فيها هذه الألفاظ لها معنى معيّن ولهذا المعنى مقتضى تعبّدي، وهم متّفقون على هذا المعنى والمقتضى التعبّدي، بدءًا من الإيمان بالآية وألفاظها وعدم تحريفها، وصولا إلى دلالاتها التعبّدية الواقعية في القلوب والسلوك.
وليس الحديث هنا عن زهد وأخلاق وشهرة فحسب هي التي تمنع من تكفير الإمام النووي رحمه الله كما يحاول المموّهون أن يموّهوا، بل الحديث تحديدًا عن دخول في التوحيد وعمل بمقتضياته من الشرائع وولاء لله عزّ وجلّ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، مع تلقّيه بالقبول من سواد أهل السنّة، تلك الأمّة التي لم تنقطع على مرّ الزمان منذ البعثة النبوية، فهذا أحد المعايير التي يُشاد من خلالها بالعالِم أو يتم إسقاطه.
فأمثال غيلان الدمشقي والجَهم بن صفوان والحلّاج قد سقطوا ليس فقط بسقوط مقولاتهم من جهة الاستدلال، بل بعدم تلقّي عموم علماء الأمّة لهم بالقبول، فهذا التلقّي بالقبول ليس مجرّد شهرة عبثية كشهرة الناس اليوم في مجالات الترفيه وأمثالها، بل له قيمته المعتبرة في دين الله.
وأنا أعتذر أخيرا عن إقحام اسم كاسم الإمام النووي رحمه الله في سياق تكفيره من عدمه، فهو أجلّ من ذلك، ولكنّي احتجت إلى هذا المثال لتوضيح عمق الجهل الذي يغطّ به هؤلاء وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أو بأنّهم أهل فطنة واستدلال والآخرون أهل عاطفة وتقليد. فالأمر ليس كذلك، بل يغلب على هذا التوجّه السطحية وإغفال الأسس والقواعد وقطعيات الإيمان والإسلام على حساب تضخيم الهوامش والخلافيات.
وأنا أعتذر أخيرا عن إقحام اسم كاسم الإمام النووي رحمه الله في سياق تكفيره من عدمه، فهو أجلّ من ذلك، ولكنّي احتجت إلى هذا المثال لتوضيح عمق الجهل الذي يغطّ به هؤلاء وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أو بأنّهم أهل فطنة واستدلال والآخرون أهل عاطفة وتقليد. فالأمر ليس كذلك، بل يغلب على هذا التوجّه السطحية وإغفال الأسس والقواعد وقطعيات الإيمان والإسلام على حساب تضخيم الهوامش والخلافيات.
من أهم الكتب العقدية المعاصرة التي أُلّفتْ في السنوات الأخيرة رسالة صغيرة بعنوان "المختصر في العقيدة المتّفق عليها بين المسلمين" لصاحبها الشيخ الفاضل هيثم بن جواد الحدّاد.
وهذه الرسالة جهد عظيم نبيل على صغر حجمها، فقد بيّن فيها صاحبها بحقّ أنّ ما يجتمع عليه أهل السنّة في مسائل الاعتقاد أكثر وأثقل وأرسخ ممّا يختلفون فيه من المسائل الكلامية.
وهو بذلك يفنّد الادعاء القائل بأنّ دعاة التوفيق بين توجّهات أهل السنّة المختلفة إنّما يعمدون إلى ما اتفقوا عليه في عصرهم فيجعلونه معالمَ الدين وأصوله؛ إذ الواقع الظاهر الجليّ لمتصفّح هذا المختصر أنّ هذه العقائد هي حقّا ما جاء في ثوابت الكتاب والسنّة، وهي ترسم صورة متكاملة عن الاعتقاد الإسلامي.
يقول الشيخ جواد الحدّاد في مقدّمة رسالته هذه:
"الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذه رسالة مختصرة لكنّها جامعة لجُلِّ مباحث العقيدة التي يتّفق عليها السواد الأعظم من المسلمين؛ من أهل الأثر، والأشاعرة، والماتريديّة، والصوفية، وغيرهم، من غير المتعصّبين بلا نَظر، كان المقصود من كتابتها إثباتَ أنَّ ما يتّفق عليه المسلمون من اعتقاد؛ أكبر حجمًا وأهمّيةً وتأثيرًا ممّا يختلفون فيه، وأنّ العوامل العقيدية لاجتماعهم واتّحادهم أقوى وأكثر عددًا من تلك التي تفرّقهم.
ولتحقيق هذا الغرض – وأغراضٍ أخرى لا تخفى على أحد – جُعِل بناءُ هذا المتن أوّلا، ثم جُعلتْ عباراته ثانيةً، معتمدةً على القرآن والسنّة؛ لفظًا كما وردتْ فيهما، ومعنًى كما أجمع على ذلك علماء الأمّة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. ولذلك فإنّ هذا المتن قد امتلأ بالذِّكر الصريح أو الضمني للنصوص القرآنية، والأحاديث النبوية". انتهى.
وهذه من اللفتات المهمة التي ينبغي التوقّف عندها طويلًا وأخذ الدروس والعبر منها، أعني اعتماده على عبارة الكتاب والسنّة، فقد ظهرتْ بركة هذا الفعل بأنّ العقائد التي ذكرها هي أبعد ما يكون عن الجدل الكلامي الذهني البارد الذي لا يُبنى عليه عمل، فمن كان الكتابُ والسنّة معتمَدَهُ في بيان معالم الإيمان ظهرتْ عليه أمارات الصدق والبركة.
ومطالعة هذه الرسالة مهمّة خصوصا لأولئك الذين ما زالوا يعتنقون مقولة "الأشاعرة خالفوا أهل السنّة في جُلّ مسائل العقيدة"، أو أن السلفية أو ابن تيمية مخالفون لمذهب أهل السنّة.
فالمتصفّح المتجرّد لمسائل الاعتقاد الإسلامي التي في الكتاب والسنّة، مرتّبا إيّاها من الأهم فالأقل أهمية، سيجد أنّ الاتفاق منعقد على معظمها بخلاف هذه المزاعم، تماما كما أنّ من يرى اختلاف الفقهاء في جميع أبواب الفقه سيظنّ أنّ اختلافهم أكثر من اجتماعهم، ولكنّه غفل عن كونهم في كتبهم يتعمّدون الحديث عن الظنّي المختلَف فيه ليرجّحوا القول الصحيح، أما المتفق عليه من الشرائع فهو أكثر وأهم وأثقل وبه قوام الدين.
وعلمُ "المتّفق عليه" كما أحبّ تسميته أو "الإجماع" بمفهوم ما هو علم نحتاجه في عصرنا هذا أيّما حاجة، خصوصا مع الأثر البالغ للخلافات الفقهية والكلامية والتفسيرية وغيرها، والذي ينفخ فيه من له مصلحة في بقاء الأمة مبعثرة متنافرة التوجّهات، كي تبقى ضعيفة غير قادرة على النهوض من انحطاطها المريع الذي ألمّ بها في القرنين الأخيرين.
مرفق ملف الكتاب للتحميل في الرسالة التالية:
وهذه الرسالة جهد عظيم نبيل على صغر حجمها، فقد بيّن فيها صاحبها بحقّ أنّ ما يجتمع عليه أهل السنّة في مسائل الاعتقاد أكثر وأثقل وأرسخ ممّا يختلفون فيه من المسائل الكلامية.
وهو بذلك يفنّد الادعاء القائل بأنّ دعاة التوفيق بين توجّهات أهل السنّة المختلفة إنّما يعمدون إلى ما اتفقوا عليه في عصرهم فيجعلونه معالمَ الدين وأصوله؛ إذ الواقع الظاهر الجليّ لمتصفّح هذا المختصر أنّ هذه العقائد هي حقّا ما جاء في ثوابت الكتاب والسنّة، وهي ترسم صورة متكاملة عن الاعتقاد الإسلامي.
يقول الشيخ جواد الحدّاد في مقدّمة رسالته هذه:
"الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذه رسالة مختصرة لكنّها جامعة لجُلِّ مباحث العقيدة التي يتّفق عليها السواد الأعظم من المسلمين؛ من أهل الأثر، والأشاعرة، والماتريديّة، والصوفية، وغيرهم، من غير المتعصّبين بلا نَظر، كان المقصود من كتابتها إثباتَ أنَّ ما يتّفق عليه المسلمون من اعتقاد؛ أكبر حجمًا وأهمّيةً وتأثيرًا ممّا يختلفون فيه، وأنّ العوامل العقيدية لاجتماعهم واتّحادهم أقوى وأكثر عددًا من تلك التي تفرّقهم.
ولتحقيق هذا الغرض – وأغراضٍ أخرى لا تخفى على أحد – جُعِل بناءُ هذا المتن أوّلا، ثم جُعلتْ عباراته ثانيةً، معتمدةً على القرآن والسنّة؛ لفظًا كما وردتْ فيهما، ومعنًى كما أجمع على ذلك علماء الأمّة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. ولذلك فإنّ هذا المتن قد امتلأ بالذِّكر الصريح أو الضمني للنصوص القرآنية، والأحاديث النبوية". انتهى.
وهذه من اللفتات المهمة التي ينبغي التوقّف عندها طويلًا وأخذ الدروس والعبر منها، أعني اعتماده على عبارة الكتاب والسنّة، فقد ظهرتْ بركة هذا الفعل بأنّ العقائد التي ذكرها هي أبعد ما يكون عن الجدل الكلامي الذهني البارد الذي لا يُبنى عليه عمل، فمن كان الكتابُ والسنّة معتمَدَهُ في بيان معالم الإيمان ظهرتْ عليه أمارات الصدق والبركة.
ومطالعة هذه الرسالة مهمّة خصوصا لأولئك الذين ما زالوا يعتنقون مقولة "الأشاعرة خالفوا أهل السنّة في جُلّ مسائل العقيدة"، أو أن السلفية أو ابن تيمية مخالفون لمذهب أهل السنّة.
فالمتصفّح المتجرّد لمسائل الاعتقاد الإسلامي التي في الكتاب والسنّة، مرتّبا إيّاها من الأهم فالأقل أهمية، سيجد أنّ الاتفاق منعقد على معظمها بخلاف هذه المزاعم، تماما كما أنّ من يرى اختلاف الفقهاء في جميع أبواب الفقه سيظنّ أنّ اختلافهم أكثر من اجتماعهم، ولكنّه غفل عن كونهم في كتبهم يتعمّدون الحديث عن الظنّي المختلَف فيه ليرجّحوا القول الصحيح، أما المتفق عليه من الشرائع فهو أكثر وأهم وأثقل وبه قوام الدين.
وعلمُ "المتّفق عليه" كما أحبّ تسميته أو "الإجماع" بمفهوم ما هو علم نحتاجه في عصرنا هذا أيّما حاجة، خصوصا مع الأثر البالغ للخلافات الفقهية والكلامية والتفسيرية وغيرها، والذي ينفخ فيه من له مصلحة في بقاء الأمة مبعثرة متنافرة التوجّهات، كي تبقى ضعيفة غير قادرة على النهوض من انحطاطها المريع الذي ألمّ بها في القرنين الأخيرين.
مرفق ملف الكتاب للتحميل في الرسالة التالية:
المختصر_في_العقيدة_المتفق_عليها_بين_المسلمين_د_هيثم_الحداد_الإصدار.pdf
1.7 MB
المختصر في العقيدة المتفق عليها بين المسلمين - هيثم بن جواد الحداد
مفاتيح_لفهم_السنّة_شريف_محمد_جابر.pdf
11.7 MB
أرفق كتابي "مفاتيح لفهم السنّة" بصيغة pdf، والذي صدر بطبعته الإلكترونية الثانية عام 1441هـ - 2020م
وهو يناقش أبرز الإشكاليات والشبهات المعاصرة حول السنة النبوية، مع بيان مفهوم السنّة وكيفية التعامل مع المدونة الحديثية. والكتاب يهتم بالتأصيل والبناء أكثر من اهتمامه بالجدل وردّ الشبهات، ولهذا فهو كفيل بوضع قارئه على أرضيّة صلبة في فهم قضية السنّة التي تشكّل ركيزة رئيسية في الإسلام، ويُكسبه حصانة جيّدة أمام الكثير من الشبهات والطعون المعاصرة.
أرجو لكم قراءة نافعة
وهو يناقش أبرز الإشكاليات والشبهات المعاصرة حول السنة النبوية، مع بيان مفهوم السنّة وكيفية التعامل مع المدونة الحديثية. والكتاب يهتم بالتأصيل والبناء أكثر من اهتمامه بالجدل وردّ الشبهات، ولهذا فهو كفيل بوضع قارئه على أرضيّة صلبة في فهم قضية السنّة التي تشكّل ركيزة رئيسية في الإسلام، ويُكسبه حصانة جيّدة أمام الكثير من الشبهات والطعون المعاصرة.
أرجو لكم قراءة نافعة
فكرة وجود مسائل عقائدية لا تَعَلُّقَ لها بالنفع والعمل وأنّها أشرف المسائل؛ هي فكرة فلسفية خيالية، قال بها الفلاسفة تحت باب أنّ الحقّ يُراد لذاته والخير يراد للعمل به كما نُقل عن ابن سينا وغيره، أي أنّ هناك معارف يُسعى إلى معرفتها لمجرّد معرفة الحقيقة دون أن يُبنى عليها عمل. ومن العجيب أن تتسرّب هذه الفكرة إلى التيّار السلفي المعاصر في باب "الأسماء والصفات"، فلا توجد صفة لله عز وجل وصف بها نفسه في كتابه أو اسمًا سمّى به نفسه سبحانه وتعالى إلا ولمعرفتها - على قدْر ما يُطيق الإنسان - مقتضى سواء في أعمال القلوب أو الجوارح، وفي هذا العمل المبني على المعرفة نفع للإنسان في الدنيا والآخرة.
ولهذا علّمنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن ندعوَ قائلين: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ" (صحيح مسلم).
ورويَ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: "مَا مِنْ حرفٍ أو آيةٍ إِلا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا قومٌ، أَوْ لَهَا قومٌ سيَعْمَلُونَ بِهَا".
وقال الإمام الضحّاك بن مزاحم رحمه الله في رسالته التي بيّن فيها أصول الإيمان وشُعبه ومجمل شرائع الإسلام: "فهذه صفة دين الله، وهو الإيمان، وما شرَعَ فيه من الإقرار بما جاء من عند الله، وبَيَّنَ من حلاله وحرامه وسُننه وفرائضه، قد سَمّى لكم ما ينتفع به ذوو الألباب من النّاس".
ورويَ عن مالك بن أنس رحمه الله أنّه قال: "ولا أُحبُّ الكلام إلا فيما تحته عمل" حين ذكر كلام الجَهمية والقدَرية والكلام في الدين وفي الله عزّ وجل.
وربط الإمام عبد العزيز بن الماجشون رحمه الله في رسالته حول ما جَحدتِ الجَهمية ربطًا محكمًا بين معرفة الله سبحانه وعمل الإنسان بطاعته والانزجار عن معصيته فقال: "إذا لم تعرف قدْر ما وصف، فما كلّفك علمَ ما لم يصف، هل تستدلّ بذلك على شيء من طاعته أو تتزحزح عن شيء من معصيته؟".
فهؤلاء الأئمّة المتَّبعون المتابعون لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم كانوا على انتباه لهذه المسألة، ولم يخوضوا في شيء من دين الله لا يبنى عليه عمل ونفع، بل أدركوا أنّ الدين قد جاء لإصلاح هذا الواقع الذي يعيشه الإنسان المخاطَب به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، قال الإمام الطبري في تفسير {ليقوم النّاسُ بالقسط}: "ليعمل الناس بينهم بالعدل". وهي من رسائل الدين الأساسية، فكيف يغفل عنها بعض الدعاة ويخوضون فيما لا يصبّ فيها؟ وكيف يجعلها بعضهم غير أساسية بل يجعلها معارضة لمعرفة الله وصفاته وأفعاله سبحانه؟!
ولهذا علّمنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن ندعوَ قائلين: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ" (صحيح مسلم).
ورويَ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال: "مَا مِنْ حرفٍ أو آيةٍ إِلا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا قومٌ، أَوْ لَهَا قومٌ سيَعْمَلُونَ بِهَا".
وقال الإمام الضحّاك بن مزاحم رحمه الله في رسالته التي بيّن فيها أصول الإيمان وشُعبه ومجمل شرائع الإسلام: "فهذه صفة دين الله، وهو الإيمان، وما شرَعَ فيه من الإقرار بما جاء من عند الله، وبَيَّنَ من حلاله وحرامه وسُننه وفرائضه، قد سَمّى لكم ما ينتفع به ذوو الألباب من النّاس".
ورويَ عن مالك بن أنس رحمه الله أنّه قال: "ولا أُحبُّ الكلام إلا فيما تحته عمل" حين ذكر كلام الجَهمية والقدَرية والكلام في الدين وفي الله عزّ وجل.
وربط الإمام عبد العزيز بن الماجشون رحمه الله في رسالته حول ما جَحدتِ الجَهمية ربطًا محكمًا بين معرفة الله سبحانه وعمل الإنسان بطاعته والانزجار عن معصيته فقال: "إذا لم تعرف قدْر ما وصف، فما كلّفك علمَ ما لم يصف، هل تستدلّ بذلك على شيء من طاعته أو تتزحزح عن شيء من معصيته؟".
فهؤلاء الأئمّة المتَّبعون المتابعون لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم كانوا على انتباه لهذه المسألة، ولم يخوضوا في شيء من دين الله لا يبنى عليه عمل ونفع، بل أدركوا أنّ الدين قد جاء لإصلاح هذا الواقع الذي يعيشه الإنسان المخاطَب به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، قال الإمام الطبري في تفسير {ليقوم النّاسُ بالقسط}: "ليعمل الناس بينهم بالعدل". وهي من رسائل الدين الأساسية، فكيف يغفل عنها بعض الدعاة ويخوضون فيما لا يصبّ فيها؟ وكيف يجعلها بعضهم غير أساسية بل يجعلها معارضة لمعرفة الله وصفاته وأفعاله سبحانه؟!
عن طبعة دار جسور لظلال سيد قطب
هناك كلمة ينبغي أن تقال بخصوص إصدار دار جسور لكتاب "في ظلال القرآن" بطبعته الأولى قبل تنقيحات سيّد قطب الأخيرة عليه، وبتحقيق عصام تليمة.
أول ما يقال عن هذا الفعل بأنّه مريب من الناحية العلمية المحضة، فعندما يحقق المحققون اليوم الكتب التراثية، ومنها كتب التفسير، يحاولون الوصول إلى النسخة الأخيرة التي ارتضاها المؤلّف ويقدّمونها بالطبع على ما سبقها من نسخ، بصرف النظر عن طبيعة أفكاره التي أضافها (ودون تجاهل باب دراسة تطور الأفكار).
المنزعج من أفكار سيد قطب التي انتهى إليها بما يعتبره سيّد نفسه زيادة نضج له أن يبدي انزعاجه ونقده لأفكاره، لكن عند عرض سيد قطب وآثاره ينبغي أيضا عرضها كما هي، وبالصورة التي أرادها هو في تعديلاته وتنقيحاته الأخيرة.
لا يوجد في الواقع غير "في ظلال القرآن" واحد هو الذي وضع المؤلف بصمته الأخيرة عليه. هذا كله بصرف النظر عن إبداء الرأي بأفكار الكاتب، فالأمر قد يُحدِث تشوّشا حين تنتشر هذه الطبعة ويُنقل عنها تحت اسم "في ظلال القرآن"، ويكون النقل مخالفا لما ارتضاه المؤلف في الطبعة الأخيرة.
كنت منذ زمن بعيد، في بدايات أيام الدراسة الجامعية، مولعًا بتتبّع آثار الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وكانت مكتبة الجامعة توفّر عددا كبيرا منها، وكان من بينها نسخة قديمة من "في ظلال القرآن"، أي أنّ هذه النسخة متوفّرة في بعض المكتبات بل ولعلّ بعضهم قد رفعها على الشبكة كما أذكر، أي أن مادة الطبعة الأولى متوفّرة للباحثين عن تطوّر الأفكار، لكنّ فِعل إعادة صفّ النصّ القديم وإصداره بطبعة تسمّى "جديدة" وهي لا تأخذ بعين الاعتبار آخر تعديلات المؤلّف؛ هو فعل غير علمي، ويحمل في ثناياه أبعادا أيديولوجية تتعلّق بنظرة المشرف على المشروع إلى الدين التي من الواضح أنّها مخالفة إلى حدّ بعيد لِما انتهى إليه سيد قطب رحمه الله. أو أنه يريد إظهار سيّد قطب بصورة يرتضيها هو له، مع أنّنا لا يمكننا أن نخالف التاريخ وعلينا أن نعرض فكر الرجل بأمانة، سواء اتفقنا معه أم لم نتفق.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ينبغي على القراء أن يعرفوا ما الذي أضافه سيد قطب وأين ولماذا؟ ولِمَ تحمّس عصام تليمة إلى إصدار "في ظلال القرآن" قبل تلك الإضافات؟
بحسب كتاب "مدخل إلى ظلال القرآن" للدكتور صلاح الخالدي، وهو جزء من رسالته للدكتوراة، فقد كتب سيد قطب الظلال في ثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى: مقالات في مجلة "المسلمون" بدأها في شهر شباط 1952، ووصل فيها حتى الآية 103 من سورة البقرة. ثم أعلن عن توقف الحلقات لأنّها سينشرها في كتاب مستقبلي في دار إحياء الكتب العربية.
- المرحلة الثانية: وهي قبيل اعتقاله، وقد ظهر الجزء الأول من الظلال في تشرين الأول 1952، وبين تشرين الأول 1952 وكانون الثاني 1954 أصدر 16 جزءًا من الظلال.
- المرحلة الثالثة: إكماله للظلال في السجن، فقد سجن للمرة الأولى في 1954 لثلاثة أشهر وأصدر فيها الجزئين السابع عشر والثامن عشر. ولم يلبث طويلا خارج السجن حتى أعيد إليه بعد حادث المنشية. لم يكتب في الفترة الأولى شيئا من الظلال. ولم يكمله حتى هدأ التعذيب وحكم عليه 15 عشر عامًا واستقرّ في سجن "ليمان طرة". وكان الشيخ محمد الغزالي في تلك المرحلة رقيبًا دينيّا يُعرض عليه الظلال قبل طبعه، ولم يحذف منه إلا تعقيب سيد قطب على تفسير سورة البروج، حيث أشار فيه إلى التعذيب الذي لقيه هو وصحبه في السجن (نُشر لاحقا تحت عنوان "هذا هو الطريق" مع تغييرات طفيفة في العبارة في كتاب "معالم في الطريق").
في هذه المرحلة تعمّقت تجربة سيد قطب الدينية والروحانية، وقد ذكر ذلك في رسائل أرسلها لبعض أصدقائه، تحدث فيها عن كونه يجد نفسه خيرا من أي وقت مضى في عقيدته وإيمانه، ووضوح العقيدة والإيمان في قلبه، ووضوح إدراكه وتصوره لهذا الأمر ومقتضياته، ووضوح الهدف والوسيلة والطريق والغاية. وقال إنه وجد الله كما لم يجده من قبل، وعرف منهجه وطريقه كما لم يعرفه من قبل قط. ولا شكّ أن هذا قد أضاف إليه الكثير في كتابة الظلال، بل قال عنه شريكه في زنزانته مصطفى العالم في مقال له: "فها هو يجوب الزنزانة كل يوم، يذرعها قارئًا لسورة من كتاب الله بصوت عذب رخيم، ومعه قلمه يدوّن به كل ما يخطر له من خواطر وأفكار على هامش المصحف، وهو فرح مسرور بما يجول في خاطره من معانٍ جديدة لم تكن تلامس ذهنه قبل أن يدخل السجن ويأنس فيه بكتاب الله".
هناك كلمة ينبغي أن تقال بخصوص إصدار دار جسور لكتاب "في ظلال القرآن" بطبعته الأولى قبل تنقيحات سيّد قطب الأخيرة عليه، وبتحقيق عصام تليمة.
أول ما يقال عن هذا الفعل بأنّه مريب من الناحية العلمية المحضة، فعندما يحقق المحققون اليوم الكتب التراثية، ومنها كتب التفسير، يحاولون الوصول إلى النسخة الأخيرة التي ارتضاها المؤلّف ويقدّمونها بالطبع على ما سبقها من نسخ، بصرف النظر عن طبيعة أفكاره التي أضافها (ودون تجاهل باب دراسة تطور الأفكار).
المنزعج من أفكار سيد قطب التي انتهى إليها بما يعتبره سيّد نفسه زيادة نضج له أن يبدي انزعاجه ونقده لأفكاره، لكن عند عرض سيد قطب وآثاره ينبغي أيضا عرضها كما هي، وبالصورة التي أرادها هو في تعديلاته وتنقيحاته الأخيرة.
لا يوجد في الواقع غير "في ظلال القرآن" واحد هو الذي وضع المؤلف بصمته الأخيرة عليه. هذا كله بصرف النظر عن إبداء الرأي بأفكار الكاتب، فالأمر قد يُحدِث تشوّشا حين تنتشر هذه الطبعة ويُنقل عنها تحت اسم "في ظلال القرآن"، ويكون النقل مخالفا لما ارتضاه المؤلف في الطبعة الأخيرة.
كنت منذ زمن بعيد، في بدايات أيام الدراسة الجامعية، مولعًا بتتبّع آثار الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وكانت مكتبة الجامعة توفّر عددا كبيرا منها، وكان من بينها نسخة قديمة من "في ظلال القرآن"، أي أنّ هذه النسخة متوفّرة في بعض المكتبات بل ولعلّ بعضهم قد رفعها على الشبكة كما أذكر، أي أن مادة الطبعة الأولى متوفّرة للباحثين عن تطوّر الأفكار، لكنّ فِعل إعادة صفّ النصّ القديم وإصداره بطبعة تسمّى "جديدة" وهي لا تأخذ بعين الاعتبار آخر تعديلات المؤلّف؛ هو فعل غير علمي، ويحمل في ثناياه أبعادا أيديولوجية تتعلّق بنظرة المشرف على المشروع إلى الدين التي من الواضح أنّها مخالفة إلى حدّ بعيد لِما انتهى إليه سيد قطب رحمه الله. أو أنه يريد إظهار سيّد قطب بصورة يرتضيها هو له، مع أنّنا لا يمكننا أن نخالف التاريخ وعلينا أن نعرض فكر الرجل بأمانة، سواء اتفقنا معه أم لم نتفق.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ينبغي على القراء أن يعرفوا ما الذي أضافه سيد قطب وأين ولماذا؟ ولِمَ تحمّس عصام تليمة إلى إصدار "في ظلال القرآن" قبل تلك الإضافات؟
بحسب كتاب "مدخل إلى ظلال القرآن" للدكتور صلاح الخالدي، وهو جزء من رسالته للدكتوراة، فقد كتب سيد قطب الظلال في ثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى: مقالات في مجلة "المسلمون" بدأها في شهر شباط 1952، ووصل فيها حتى الآية 103 من سورة البقرة. ثم أعلن عن توقف الحلقات لأنّها سينشرها في كتاب مستقبلي في دار إحياء الكتب العربية.
- المرحلة الثانية: وهي قبيل اعتقاله، وقد ظهر الجزء الأول من الظلال في تشرين الأول 1952، وبين تشرين الأول 1952 وكانون الثاني 1954 أصدر 16 جزءًا من الظلال.
- المرحلة الثالثة: إكماله للظلال في السجن، فقد سجن للمرة الأولى في 1954 لثلاثة أشهر وأصدر فيها الجزئين السابع عشر والثامن عشر. ولم يلبث طويلا خارج السجن حتى أعيد إليه بعد حادث المنشية. لم يكتب في الفترة الأولى شيئا من الظلال. ولم يكمله حتى هدأ التعذيب وحكم عليه 15 عشر عامًا واستقرّ في سجن "ليمان طرة". وكان الشيخ محمد الغزالي في تلك المرحلة رقيبًا دينيّا يُعرض عليه الظلال قبل طبعه، ولم يحذف منه إلا تعقيب سيد قطب على تفسير سورة البروج، حيث أشار فيه إلى التعذيب الذي لقيه هو وصحبه في السجن (نُشر لاحقا تحت عنوان "هذا هو الطريق" مع تغييرات طفيفة في العبارة في كتاب "معالم في الطريق").
في هذه المرحلة تعمّقت تجربة سيد قطب الدينية والروحانية، وقد ذكر ذلك في رسائل أرسلها لبعض أصدقائه، تحدث فيها عن كونه يجد نفسه خيرا من أي وقت مضى في عقيدته وإيمانه، ووضوح العقيدة والإيمان في قلبه، ووضوح إدراكه وتصوره لهذا الأمر ومقتضياته، ووضوح الهدف والوسيلة والطريق والغاية. وقال إنه وجد الله كما لم يجده من قبل، وعرف منهجه وطريقه كما لم يعرفه من قبل قط. ولا شكّ أن هذا قد أضاف إليه الكثير في كتابة الظلال، بل قال عنه شريكه في زنزانته مصطفى العالم في مقال له: "فها هو يجوب الزنزانة كل يوم، يذرعها قارئًا لسورة من كتاب الله بصوت عذب رخيم، ومعه قلمه يدوّن به كل ما يخطر له من خواطر وأفكار على هامش المصحف، وهو فرح مسرور بما يجول في خاطره من معانٍ جديدة لم تكن تلامس ذهنه قبل أن يدخل السجن ويأنس فيه بكتاب الله".
وفي ظل ذلك تحوّل القرآن عنده من معان مدركة إلى حقائق متذوّقة معاشة، وقد ذكر ذلك في تفسيره لقوله تعالى من سورة فاطر: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده} (وهو مما كتبه في تلك المرحلة) حيث قال: "يسّر الله لي أن أطّلع على حقيقتها، وأن تسكب حقيقتها في روحي، كأنّما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني، حقيقة أذوقها لا معنى أدركه. فكانت رحمة بذاتها تقدّم نفسها لي تفسيرا واقعيّا لحقيقة الآية التي تفتّحت لي تفتّحها هذا. وقد قرأتها من قبل كثيرا، ومررت بها من قبل كثيرا، ولكنها اللحظة تسكب رحيقها، وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجرّدة وتقول: هآنذا.. نموذج من رحمة الله حين يفتحها، فانظر كيف تكون...". كما ذكر شيئا من هذه المعاني في مقدمّة الطبعة المنقّحة من الظلال فقال: "الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكّيه.. والحمد لله.. لقد منَّ عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقتُ فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقتُ فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه...".
وفي ضوء ذلك كله لم يعد الظلال "تسجيلا لخواطر متنوّعة حول الآيات، وبيانا لما فيها من جمال وفن وتصوير، وعرضا لما تضمّنته من مبادئ ومناهج وتشريعات" كما يقول الدكتور صلاح الخالدي، فبعدما طالت حياته في ظلال القرآن، وتعمّقت تجربته العملية وفّقه الله إلى إدراك طبيعة هذا الدين الواقعية الجدية والحركية. وقد فسّر الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الظلال وفق منهجه الحركي الجديد، ثم قرر إعادة النظر في تفسير الأجزاء الأولى لإعادة تنقيح الظلال على أساس هذا المنهج، فكانت الطبعة الثالثة المنقّحة. وما ميّز هذه الطبعة – بحسب الدكتور الخالدي – كان وقوفه الطويل عند الآيات، وتسجيل كل خواطره حولها، وتعرضه للحديث عما توحي به من قضايا في العقيدة والحركة، أو الفقه والتشريع، أو السياسة والاقتصاد، أو التاريخ والاجتماع، أو غير ذلك. وكانت أطول وقفاته وأعمقها وأنضجها، تلك التي تتعلق بالعقيدة والحركة، والألوهية والعبودية، والحاكمية والتشريع.
ويذكر الدكتور الخالدي أيضا أن الجزء السابع كان أكثر الأجزاء تركيزا وأنضجها فكرا، حيث توسع في الحديث عن العقيدة ومباحثها، في مقدّمته المطوّلة لسورة الأنعام، وأثناء تفسيرها.
والآن، تخيّلوا الآن أن يأتي رجل عام 2022 يريد تجاوز هذه التجربة الثرية كلها، وإعادة طبع "في ظلال القرآن" وترويجه بطبعته الأولى التي خلتْ من كل ذلك! هل يرضى مؤلّف أن يُفعل هذا بكتبه؟ وهل يعبّر تليمة بهذا الفعل عن تقديره فعلا لفكر الأستاذ سيد واحترام حقّه في التعبير عن رأيه؟ وما المشكلة في أن يبقى الظلال في نسخته المنقّحة الأخيرة، فتكون الخواطر القديمة بجوار الخواطر الجديدة؟
لهذا كله أقول إنّ فعل تليمة لا يخلو من أدلجة، فهو يحب سيد قطب ولكنه – كما يبدو - يريد ظلالًا بغير هذا المنهج الحركي الذي يركّز على مسائل الحاكمية وارتباط العقيدة بالشريعة كما اتّضح في تجربة سيد قطب الناضجة بعد طول معايشته للقرآن وخوضه للتجارب وزيادة عقله وحكمته.
أما الحديث عن سوء حالته النفسية بسبب التعذيب فكل من قرأ سيد قطب مع قراءة تطوّره الفكري وتجربته الحياتية وكيف كان يكتب يدرك أنّ الرجل حافظ على اتّزانه حتى آخر لحظة في حياته (انظر مثلا كتاب "مقومات التصور الإسلامي" وهو آخر ما كتب سيد قطب)، بل صارت كتاباته أعمق وأبعد عن الانفعالية التي تميّزت بها مقالاته القديمة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.
وفي ضوء ذلك كله لم يعد الظلال "تسجيلا لخواطر متنوّعة حول الآيات، وبيانا لما فيها من جمال وفن وتصوير، وعرضا لما تضمّنته من مبادئ ومناهج وتشريعات" كما يقول الدكتور صلاح الخالدي، فبعدما طالت حياته في ظلال القرآن، وتعمّقت تجربته العملية وفّقه الله إلى إدراك طبيعة هذا الدين الواقعية الجدية والحركية. وقد فسّر الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الظلال وفق منهجه الحركي الجديد، ثم قرر إعادة النظر في تفسير الأجزاء الأولى لإعادة تنقيح الظلال على أساس هذا المنهج، فكانت الطبعة الثالثة المنقّحة. وما ميّز هذه الطبعة – بحسب الدكتور الخالدي – كان وقوفه الطويل عند الآيات، وتسجيل كل خواطره حولها، وتعرضه للحديث عما توحي به من قضايا في العقيدة والحركة، أو الفقه والتشريع، أو السياسة والاقتصاد، أو التاريخ والاجتماع، أو غير ذلك. وكانت أطول وقفاته وأعمقها وأنضجها، تلك التي تتعلق بالعقيدة والحركة، والألوهية والعبودية، والحاكمية والتشريع.
ويذكر الدكتور الخالدي أيضا أن الجزء السابع كان أكثر الأجزاء تركيزا وأنضجها فكرا، حيث توسع في الحديث عن العقيدة ومباحثها، في مقدّمته المطوّلة لسورة الأنعام، وأثناء تفسيرها.
والآن، تخيّلوا الآن أن يأتي رجل عام 2022 يريد تجاوز هذه التجربة الثرية كلها، وإعادة طبع "في ظلال القرآن" وترويجه بطبعته الأولى التي خلتْ من كل ذلك! هل يرضى مؤلّف أن يُفعل هذا بكتبه؟ وهل يعبّر تليمة بهذا الفعل عن تقديره فعلا لفكر الأستاذ سيد واحترام حقّه في التعبير عن رأيه؟ وما المشكلة في أن يبقى الظلال في نسخته المنقّحة الأخيرة، فتكون الخواطر القديمة بجوار الخواطر الجديدة؟
لهذا كله أقول إنّ فعل تليمة لا يخلو من أدلجة، فهو يحب سيد قطب ولكنه – كما يبدو - يريد ظلالًا بغير هذا المنهج الحركي الذي يركّز على مسائل الحاكمية وارتباط العقيدة بالشريعة كما اتّضح في تجربة سيد قطب الناضجة بعد طول معايشته للقرآن وخوضه للتجارب وزيادة عقله وحكمته.
أما الحديث عن سوء حالته النفسية بسبب التعذيب فكل من قرأ سيد قطب مع قراءة تطوّره الفكري وتجربته الحياتية وكيف كان يكتب يدرك أنّ الرجل حافظ على اتّزانه حتى آخر لحظة في حياته (انظر مثلا كتاب "مقومات التصور الإسلامي" وهو آخر ما كتب سيد قطب)، بل صارت كتاباته أعمق وأبعد عن الانفعالية التي تميّزت بها مقالاته القديمة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.
من المضحك المبكي الذي قرأته مؤخّرا أنّ شيخ الأزهر، المقيم في مصر المعطّلة لشريعة الله، المحكومة بشرائع الكفر وبالطغيان والاستبداد، يُصدر بيانًا يستنكر فيه تعليق طالبان المؤقّت لتعليم الفتيات في جامعات أفغانسان لأنّه مخالف للشريعة بحسب زعمه!
وبصرف النظر عن تفاصيل الخبر ومصداقيته يحقّ لنا أن نتساءل، على افتراض نزاهة الرجل (ولا أظنّ ذلك بعضو الحزب الوطني سابقًا وداعم انقلاب السيسي): ما الذي جعل عالمًا في الدين يعمى عن الكوارث الفظيعة التي تخالف الفطرة الحيّة فضلا عن مخالفة أصول الشرائع الواضحة: كالطغيان وموالاة المجرمين من أعداء الأمّة واستحلال ما حرّم الله كالربا والخمر وتبديل الشريعة في الأموال والعقوبات وغيرها وكوارث ما يسمّى "دار الإفتاء المصرية" ويتصدّر للحديث عن مخالفة تعليق تعليم الفتيات مؤقّتًا في جامعات أفغانستان للشريعة؟ بل هل وضوح تلك المخالفات التي في مصر للشريعة كوضوح هذه المخالفة المزعومة؟!
إنّ استنكار الخبر دون التطرّق إلى أصوله ومنطلقاته الفكرية لا يفيدنا كثيرا، ولهذا أرى أنّ الأزمة تكمن في الانسحاق الفكري للمفاهيم العلمانية الغربية، فهي التي جعلت المرأة خطًّا أحمر في هذا العصر، وكلّ متابع لما يجري في العالم اليوم يدرك أنّ مجرد التفكير في حرمان النساء من التعليم "الرسمي" هو انتهاك لمفهوم مركزي في الفضاء الفكري الغربي والعالمي اليوم، ولأجل ذلك صار فعل طالبان انتهاكًا يستحقّ التعليق عند شيخ الأزهر وأمثاله، وعَموا عن مخالفات أفظع وكوارث تجري كل يوم في بلادهم وأمام أعينهم!
إنّ البوصلة الرئيسية التي تحرّك هؤلاء في مثل هذه التصريحات ليست بوصلة الشريعة، ولو كانت كذلك لَما أصبحوا كالذي يطلب مَذبّةً يدفع بها الذباب عن غيره متجاهلا الأفاعي والعقارب تحت ثيابه بتعبير الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله.
وبصرف النظر عن تفاصيل الخبر ومصداقيته يحقّ لنا أن نتساءل، على افتراض نزاهة الرجل (ولا أظنّ ذلك بعضو الحزب الوطني سابقًا وداعم انقلاب السيسي): ما الذي جعل عالمًا في الدين يعمى عن الكوارث الفظيعة التي تخالف الفطرة الحيّة فضلا عن مخالفة أصول الشرائع الواضحة: كالطغيان وموالاة المجرمين من أعداء الأمّة واستحلال ما حرّم الله كالربا والخمر وتبديل الشريعة في الأموال والعقوبات وغيرها وكوارث ما يسمّى "دار الإفتاء المصرية" ويتصدّر للحديث عن مخالفة تعليق تعليم الفتيات مؤقّتًا في جامعات أفغانستان للشريعة؟ بل هل وضوح تلك المخالفات التي في مصر للشريعة كوضوح هذه المخالفة المزعومة؟!
إنّ استنكار الخبر دون التطرّق إلى أصوله ومنطلقاته الفكرية لا يفيدنا كثيرا، ولهذا أرى أنّ الأزمة تكمن في الانسحاق الفكري للمفاهيم العلمانية الغربية، فهي التي جعلت المرأة خطًّا أحمر في هذا العصر، وكلّ متابع لما يجري في العالم اليوم يدرك أنّ مجرد التفكير في حرمان النساء من التعليم "الرسمي" هو انتهاك لمفهوم مركزي في الفضاء الفكري الغربي والعالمي اليوم، ولأجل ذلك صار فعل طالبان انتهاكًا يستحقّ التعليق عند شيخ الأزهر وأمثاله، وعَموا عن مخالفات أفظع وكوارث تجري كل يوم في بلادهم وأمام أعينهم!
إنّ البوصلة الرئيسية التي تحرّك هؤلاء في مثل هذه التصريحات ليست بوصلة الشريعة، ولو كانت كذلك لَما أصبحوا كالذي يطلب مَذبّةً يدفع بها الذباب عن غيره متجاهلا الأفاعي والعقارب تحت ثيابه بتعبير الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} (النساء: 63).
غاية المنطق القرآني أن يَبلغ الخطابُ القلوب، وأن يصل إلى أعمق نقطة فيها. وهذه الآية تتحدّث عن المنافقين الذين زعموا الإيمان ولكنّهم {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به}، وقد صدّوا عن دعوة التحاكم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم تصيبهم مصيبةٌ جرّاء ما اقترفوا فيزعمون أنّهم أرادوا بتحاكمهم إلى الطاغوت الإحسانَ والتوفيقَ بين المتخاصمين وهم كاذبون، فهم أهل مماحكة لا يعتبرون بالنِّقَم، ولهذا أُمِرَ الرسول صلى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم فيما جاؤوا من أجله وعدم قبول عذرهم أو محاسبتهم عليه، وأُمِرَ مع ذلك بوعظهم وأن يقول لهم في أنفسهم {قولًا بليغًا}.
والبلوغ: الوصول، والبليغ في الكلام هو الذي يبلغ به ما يريد، والقول البليغ كلام يتغلغل في النفوس ويصل إليها بخطاب الحقّ. واللافت في الآية أنّ الله عزّ وجلّ لم يأمره بجدالهم ولا إفحامهم. لم يقل له: وقل لهم في أنفسهم قولا مُفحمًا أو مُلزِمًا؛ لأنّ غاية الخطاب القرآني هي بلوغ القلوب بمعاني الهداية التي يحملها، وفي اللحظة التي تصل كلمات الحقّ بكامل نصاعتها ووضوحها إلى القلوب تتحوّل المهمّة إلى أصحاب تلك القلوب وما يفعل الله بهم بعدله وعلمه بأحوالهم. وقد أخبره اللهُ عزّ وجلّ في مَطْلَع الآية قائلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، ولهذا فليس لنا نحن البشر إلا إبلاغ الحقّ لأصحابه.
ومفهوم البلاغة كما يقدّمه القرآن مفهوم عظيم ظُلم كثيرا حين صارت البلاغة في حسّ المتأخّرين أنماطًا تعنى بالأساليب اللغوية أكثر من عنايتها بالمضمون، ونوعًا من الكلام بعيدًا كل البعد عن مخاطبة العقل، فهو إلى مخاطبة الذائقة الأدبية والعواطف أقرب، ولهذا تم عزله عن "الخطاب العقلي"، وحلّت مكانه في هذا الخطاب الأساليبُ المنطقية الجافّة، والتي تقدّم حجج الحقّ بخطاب ذهنيّ أحاديّ، يطرق الأذهان بمعاظلاته ولكنّه لا يلامس القلوب فضلا عن أن يبلغ أعماقها ويتغلغل فيها.
إنّ المنطق القرآني منطقٌ يحترم كيان الإنسان، وهو يعلّمنا بذلك أن نرجو في حجاجنا الهداية للناس أكثر مما نرجو الإفحام، وفي هذه الآية كان المثال شديد التطرّف، فهذه نفوس مريضة شُوّهتْ فِطَرها لمنافقين متلوّنين، يتذبذبون بين الباطل ودعاوى اتباع الحقّ وهم كاذبون، ولهذا فقد يظنّ ظانٌّ أنّ الواجب تجاههم هو الخطاب الشديد المفحم والجواب القارع الفاضح لأكاذيبهم وخداعهم. ولكنّ الله عزّ وجلّ يأمرُ رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك؛ يأمره بوعظهم ومخاطبتهم بقول بليغ مؤثّر، فكيف بمن هم دونهم في رتبة الخلاف والابتعاد عن الحقّ ممن نخاطبهم ونحاورهم ونجادلهم؟
يريد الله منّا أن نظلّ متمسّكين بأصول رسالتنا القائمة على الحقّ والصدق والعدل، فنحن لا نرجو لهذه النفوس التي نخاطبها، أيّا كان دينها أو مذهبها أو فكرُها، سوى الهداية. ومهما بدتْ تلك النفوس مراوِغةً زائفة، عليها سيما الخداع والنفاق، فهم في النهاية بشر قد تنجيهم من جحيمهم الدنيوي هذا كلمةٌ بليغة تطرق القلب بسلاسة، متجاوزةً ضجيج الجدل ورغبات الإفحام والإلزام.
والقول البليغ خطاب عقليّ يُمسك بتلابيب النفس من كل جانب، فيخاطب الذهن في الوقت الذي يؤزّ الوجدان، وينسرب في الحواسّ في الوقت الذي يقدّم فيه المعاني ثمارًا يانعة للفكر، ويسبر أغوار النفس الإنسانية ليجد له مدخلا إلى القلب الذي فطره الله على حبّ الحقّ، عساه يجد بقايا من تلك الفطرة لم تمتْ بعد، فتنتفض حين تُلامسها أنوار الحقّ وينهار ركامُ الجهل والغفلة والعناد والإعراض، ويخشع القلبُ للرحمن من موقع الشعور الداخلي الصادق بالحقّ، لا من موقع الجدل الحامي الذي يرهق النفس ويبقيها على حالة الاستنفار والدفاع عن عقائدها خشية الهزيمة في معركة الجدل!
يُعلّمنا منطقُ القرآن أن تكون غايتنا حين ندعو الناس إلى الحقّ إبلاغَ هذا الحقّ إلى قلوبهم بكامل بهائه وتألّقه ووضوحه، وأن نحاول قدر الإمكان إيصاله إلى أغوار نفوسهم، عميقًا حيث تكمن مستقبِلات الحقّ الفطرية خلف القشرة المثيرة للشفقة، والتي ينبغي الإعراض عنها. فلا ننهمك بملاحقة ما يصدر عن هذه القشرة وننشغل عن جوهر رسالتنا، كما يفعل بعض أهل "العلوم العقلية" الذين أتلفوا أوقاتهم في إبطال مغالطات السفسطائيين ومخادعات الجدليين!
غاية المنطق القرآني أن يَبلغ الخطابُ القلوب، وأن يصل إلى أعمق نقطة فيها. وهذه الآية تتحدّث عن المنافقين الذين زعموا الإيمان ولكنّهم {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به}، وقد صدّوا عن دعوة التحاكم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم تصيبهم مصيبةٌ جرّاء ما اقترفوا فيزعمون أنّهم أرادوا بتحاكمهم إلى الطاغوت الإحسانَ والتوفيقَ بين المتخاصمين وهم كاذبون، فهم أهل مماحكة لا يعتبرون بالنِّقَم، ولهذا أُمِرَ الرسول صلى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم فيما جاؤوا من أجله وعدم قبول عذرهم أو محاسبتهم عليه، وأُمِرَ مع ذلك بوعظهم وأن يقول لهم في أنفسهم {قولًا بليغًا}.
والبلوغ: الوصول، والبليغ في الكلام هو الذي يبلغ به ما يريد، والقول البليغ كلام يتغلغل في النفوس ويصل إليها بخطاب الحقّ. واللافت في الآية أنّ الله عزّ وجلّ لم يأمره بجدالهم ولا إفحامهم. لم يقل له: وقل لهم في أنفسهم قولا مُفحمًا أو مُلزِمًا؛ لأنّ غاية الخطاب القرآني هي بلوغ القلوب بمعاني الهداية التي يحملها، وفي اللحظة التي تصل كلمات الحقّ بكامل نصاعتها ووضوحها إلى القلوب تتحوّل المهمّة إلى أصحاب تلك القلوب وما يفعل الله بهم بعدله وعلمه بأحوالهم. وقد أخبره اللهُ عزّ وجلّ في مَطْلَع الآية قائلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، ولهذا فليس لنا نحن البشر إلا إبلاغ الحقّ لأصحابه.
ومفهوم البلاغة كما يقدّمه القرآن مفهوم عظيم ظُلم كثيرا حين صارت البلاغة في حسّ المتأخّرين أنماطًا تعنى بالأساليب اللغوية أكثر من عنايتها بالمضمون، ونوعًا من الكلام بعيدًا كل البعد عن مخاطبة العقل، فهو إلى مخاطبة الذائقة الأدبية والعواطف أقرب، ولهذا تم عزله عن "الخطاب العقلي"، وحلّت مكانه في هذا الخطاب الأساليبُ المنطقية الجافّة، والتي تقدّم حجج الحقّ بخطاب ذهنيّ أحاديّ، يطرق الأذهان بمعاظلاته ولكنّه لا يلامس القلوب فضلا عن أن يبلغ أعماقها ويتغلغل فيها.
إنّ المنطق القرآني منطقٌ يحترم كيان الإنسان، وهو يعلّمنا بذلك أن نرجو في حجاجنا الهداية للناس أكثر مما نرجو الإفحام، وفي هذه الآية كان المثال شديد التطرّف، فهذه نفوس مريضة شُوّهتْ فِطَرها لمنافقين متلوّنين، يتذبذبون بين الباطل ودعاوى اتباع الحقّ وهم كاذبون، ولهذا فقد يظنّ ظانٌّ أنّ الواجب تجاههم هو الخطاب الشديد المفحم والجواب القارع الفاضح لأكاذيبهم وخداعهم. ولكنّ الله عزّ وجلّ يأمرُ رسوله محمّدًا صلى الله عليه وسلّم بخلاف ذلك؛ يأمره بوعظهم ومخاطبتهم بقول بليغ مؤثّر، فكيف بمن هم دونهم في رتبة الخلاف والابتعاد عن الحقّ ممن نخاطبهم ونحاورهم ونجادلهم؟
يريد الله منّا أن نظلّ متمسّكين بأصول رسالتنا القائمة على الحقّ والصدق والعدل، فنحن لا نرجو لهذه النفوس التي نخاطبها، أيّا كان دينها أو مذهبها أو فكرُها، سوى الهداية. ومهما بدتْ تلك النفوس مراوِغةً زائفة، عليها سيما الخداع والنفاق، فهم في النهاية بشر قد تنجيهم من جحيمهم الدنيوي هذا كلمةٌ بليغة تطرق القلب بسلاسة، متجاوزةً ضجيج الجدل ورغبات الإفحام والإلزام.
والقول البليغ خطاب عقليّ يُمسك بتلابيب النفس من كل جانب، فيخاطب الذهن في الوقت الذي يؤزّ الوجدان، وينسرب في الحواسّ في الوقت الذي يقدّم فيه المعاني ثمارًا يانعة للفكر، ويسبر أغوار النفس الإنسانية ليجد له مدخلا إلى القلب الذي فطره الله على حبّ الحقّ، عساه يجد بقايا من تلك الفطرة لم تمتْ بعد، فتنتفض حين تُلامسها أنوار الحقّ وينهار ركامُ الجهل والغفلة والعناد والإعراض، ويخشع القلبُ للرحمن من موقع الشعور الداخلي الصادق بالحقّ، لا من موقع الجدل الحامي الذي يرهق النفس ويبقيها على حالة الاستنفار والدفاع عن عقائدها خشية الهزيمة في معركة الجدل!
يُعلّمنا منطقُ القرآن أن تكون غايتنا حين ندعو الناس إلى الحقّ إبلاغَ هذا الحقّ إلى قلوبهم بكامل بهائه وتألّقه ووضوحه، وأن نحاول قدر الإمكان إيصاله إلى أغوار نفوسهم، عميقًا حيث تكمن مستقبِلات الحقّ الفطرية خلف القشرة المثيرة للشفقة، والتي ينبغي الإعراض عنها. فلا ننهمك بملاحقة ما يصدر عن هذه القشرة وننشغل عن جوهر رسالتنا، كما يفعل بعض أهل "العلوم العقلية" الذين أتلفوا أوقاتهم في إبطال مغالطات السفسطائيين ومخادعات الجدليين!
ويُعلّمنا منطقُ القرآن ألّا نخشى حين نخاطب الناس أن تنفعل وجداناتُنا وأن يظهر ذلك على أقوالنا، لا نخشى أن يُقال: هذا خطاب عاطفي، فإنّ عواطفنا التي تلفّ الخطاب هي ثمرة الصدق في رسالتنا وغايتنا وهي دليل إنسانيّتنا، وهي بعدُ لا تُعارض الحجاج العقلي المبني على الأدلة والبراهين، بل تجعله أكثر صدقًا وقربًا من الإنسان؛ لأنّها لا تصدر عن زخرفة مصطنعة بل عن تحرير الإنسان ممّا يكبّل كينونته ويُعيق طلاقتها، ليعبّر عن مكنونه بخطابٍ يلامس قلوب الآخرين ويوصل إليها ملامحَ الصدق وليس فقط براهين الحقّ.
الحمد لله
هذه دراسة جديدة لي حول كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب في ظلّ الجدل الدائر مؤخرا بعد صدور طبعة دار جسور المعتمدة على الطبعة الأولى للظلال، والخالية من جميع إضافات وتنقيحات الطبعة التي اعتمدها سيد قطب في أواخر حياته.
ضمّنت الدراسة نقدًا موجّهًا إلى فعل عصام تليمة بإخراج هذه الطبعة، ثم أجريت قراءة مقارنة بين مقدّمتَي الطبعتين، ثم مقارنة لنموذج من التفسير في سورة الفاتحة بين الطبعتين، وقد خرجت بنتائج مهمة جدا أعبّر عنها بانتقال الظلال من "الخواطر" إلى "الرؤية"، أي من الأفكار المتناثرة إلى المشروع المتماسك الذي بيّن سيّد محاوره في مقدّمته الثانية للظلال.
تناولت في الدراسة أيضا مفهوم "الحركية" الذي يتّهم به سيد قطب في ظلاله الأخيرة، والذي أصبح "وصمة" في أيامنا هذه، وفنّدت الزعم القائل إنّ الظلال في نسخته الأخيرة كان موجّهًا لطائفة معيّنة وليس لكل المسلمين، فالحقيقة التي وجدتها أنّ سيد قطب قد انتقل في ظلاله إلى أبعاد إنسانية كونية.
أرجو أن تكون الدراسة مفيدة في بيان قيمة إضافات سيد قطب رحمه الله على الظلال وتنقيحاته، فهذا هو هدفها الأساسي.
وأرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة..
https://hekmahyemanya.com/?p=16156
هذه دراسة جديدة لي حول كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب في ظلّ الجدل الدائر مؤخرا بعد صدور طبعة دار جسور المعتمدة على الطبعة الأولى للظلال، والخالية من جميع إضافات وتنقيحات الطبعة التي اعتمدها سيد قطب في أواخر حياته.
ضمّنت الدراسة نقدًا موجّهًا إلى فعل عصام تليمة بإخراج هذه الطبعة، ثم أجريت قراءة مقارنة بين مقدّمتَي الطبعتين، ثم مقارنة لنموذج من التفسير في سورة الفاتحة بين الطبعتين، وقد خرجت بنتائج مهمة جدا أعبّر عنها بانتقال الظلال من "الخواطر" إلى "الرؤية"، أي من الأفكار المتناثرة إلى المشروع المتماسك الذي بيّن سيّد محاوره في مقدّمته الثانية للظلال.
تناولت في الدراسة أيضا مفهوم "الحركية" الذي يتّهم به سيد قطب في ظلاله الأخيرة، والذي أصبح "وصمة" في أيامنا هذه، وفنّدت الزعم القائل إنّ الظلال في نسخته الأخيرة كان موجّهًا لطائفة معيّنة وليس لكل المسلمين، فالحقيقة التي وجدتها أنّ سيد قطب قد انتقل في ظلاله إلى أبعاد إنسانية كونية.
أرجو أن تكون الدراسة مفيدة في بيان قيمة إضافات سيد قطب رحمه الله على الظلال وتنقيحاته، فهذا هو هدفها الأساسي.
وأرجو لكم قراءة مفيدة وممتعة..
https://hekmahyemanya.com/?p=16156
حكمة يمانية
قصة "في ظلال القرآن": من الخواطر إلى الرؤية - حكمة يمانية
في ظلّ الجدل الدائر مؤخّرا حول إصدار كتاب "في ظلال القرآن" للأستاذ سيّد قطب بطبعته الأولى، الخالية من نحو ثُلث الكتاب، أي من المادة الثرية التي أضافها الأستاذ سيّد قطب رحمه الله في السنوات الأخيرة من حياته على نحو نصف أجزاء التفسير.. في ظلّ هذا الجدل يحسن…
قصة_“في_ظلال_القرآن”_من_الخواطر_إلى_الرؤية_شريف_محمد_جابر.pdf
4.2 MB
دراستي الجديدة حول "في ظلال القرآن": من الخواطر إلى الرؤية" بصيغة PDF متاحة للتحميل
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2).
قد وصف الله عزّ وجلّ هذا الكتاب بأنّه هُدًى، وقد تضمّن هداية الإنسان فيما لا يمكنه أن يهتديَ فيه بعقله وحده. والقرآن خطاب إلى النّاس جميعًا ليهديهم إلى سواء السبيل، وليس خاصّا بالمسلمين، وقد وصفه الله في آية أخرى بأنّه {هُدًى لِلنَّاسِ} (البقرة: 185)، وقد أنذر به جميع الناس، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّا، بل هي رسالة القرآن؛ فلم يُنزله الله تعالى لمخاطبة فئة محدودة من البشر، بل خاطب به الإنس والجنّ وقال في صفته: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (ص: 87).
ولكنّه يؤكّد في هذه الآية أنّه هُدًى من نوع محدّد، يحتاج – من أجل تحقّق هذا الاهتداء والانتفاع به – إلى استعداد نفسي واستقبال إيماني، فلا يمكن أن تُتّخذ شرائعه وقواعده وتوجيهاته ومواعظه للانتفاع الدنيوي من غير الإيمان بالغيب ومن غير ممارسة الإسلام قلبًا وسلوكًا. وقد قال تعالى عقب هذه الآية واصفًا أولئك المتّقين الذين يكون الكتاب بالنسبة إليهم "هُدًى": {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 3-5). قال الإمام الطبري في قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}: "فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم".
إنّ المسألة التي تؤكّد عليها هذه الآيات، وهي أول ذكر للقرآن في ترتيب المصحف، أنّ هدايات القرآن للعقل، التي تُعرّفه بالحقّ وتعصمه عن الباطل، لا تعمل في النفس الإنسانية ولا يمكن اتخاذها "آلة" صناعية لمعرفة الحقّ والصواب بمعزل عن سائر حقائق هذا الدين. إنّ هذا الدين نسيج متكامل لا تعمل أجزاؤه فُرادى، ولا يمكن للإنسان أن يأخذ ببعض الكتاب دون بعض، فالكتاب في اللغة "النظام"، وهذا القرآن نظام متكامل جاء ليخاطب الفطرة الإنسانية كلّها من جميع مداخلها بجميع هداياته.
ونحن حين نتحدّث عن منهج القرآن في إصلاح العقل لا نبتغي من ذلك اقتصاص منظومة وفرزها بمعزل عن أركان الإيمان وشرائع الإسلام، فهذه المنظومة هي جزء لا يتجزأ من تلك الأركان والشرائع؛ إذ ينبغي لمن يرجو الصلاح لعقله بمادّة القرآن أن يؤمن بالله الخالق الحيّ الذي وهبه العقلَ أولا، وأن يستعين به ويستهديه في كل آن، وأن يؤمن بكل ما أخبره به من غيوب، وأن يكون على صلة بربّه في صلاته ودعائه وسجوده، وممارسًا لهذا الدين من منطلق الإيمان به وبما أنزله الله إليه من هدايات وشرائع، وأن يكون موقنًا بالآخرة، فهو يعمل بالحقّ ويتجنّب الباطل من أجل الآخرة وابتغاء ما عند الله.
إنّ منطق القرآن في إصلاح العقل منطق غيبيّ، أي أنّه ليس أداة صناعية من صنع الإنسان، ليس صنم عجوة يأكله الإنسان حين يجوع كما يفعل المناطقة الحُذّاق حين يتحوّل منطقهم إلى أداة للمنافحة عن معتقداتهم مهما كانت موغلة في الظلمة والضلال، بل هو منطق مرتبط ارتباطًا وشيجًا بالله الخالق الحي، فمن عنده جاء وإليه يعود، وفي كل لحظة يفكّر الإنسان المسلم في اتخاذ موقف أو إبداء رأي يتعلق بالحقّ والباطل، فهو يراقب الله عزّ وجلّ، ويتتبّع هدايات كتابه وتعليمات نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فيكون في هذه المراقبة ما يردعه عن المراوغة والخداع والتلاعب بالألفاظ والحقائق، ويكون في اتّباعه للشريعة الغرّاء التي أنزلها الله سبحانه، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ ما يعصمه عن الوقوع في مستنقعات الباطل والفساد.
هذه هي القيمة الكبرى التي تُفرّق بين منطق القرآن وكل منطق بشري ذهني مهما بلغ من الحذق والإتقان، فالمنطق البشري الذهني منطقٌ "عارٍ" إن جاز التعبير؛ لأنّه تعرّى عن المقومات التي تُعطيه فاعليّته وقوّته وقدرته على التأثير في الإنسان ودفعه دومًا على طريق الحقّ والصدق والعدل.
وفي قوله تعالى في أول صفة أولئك المتّقين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ما يدلّ على مدارك عقولهم الرحبة التي لم تنحصر في الوقوف عند المحسوسات، وأما الآخرون فقد قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}، ولعلّنا نبيّنه لاحقا بإذن الله.
قد وصف الله عزّ وجلّ هذا الكتاب بأنّه هُدًى، وقد تضمّن هداية الإنسان فيما لا يمكنه أن يهتديَ فيه بعقله وحده. والقرآن خطاب إلى النّاس جميعًا ليهديهم إلى سواء السبيل، وليس خاصّا بالمسلمين، وقد وصفه الله في آية أخرى بأنّه {هُدًى لِلنَّاسِ} (البقرة: 185)، وقد أنذر به جميع الناس، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّا، بل هي رسالة القرآن؛ فلم يُنزله الله تعالى لمخاطبة فئة محدودة من البشر، بل خاطب به الإنس والجنّ وقال في صفته: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (ص: 87).
ولكنّه يؤكّد في هذه الآية أنّه هُدًى من نوع محدّد، يحتاج – من أجل تحقّق هذا الاهتداء والانتفاع به – إلى استعداد نفسي واستقبال إيماني، فلا يمكن أن تُتّخذ شرائعه وقواعده وتوجيهاته ومواعظه للانتفاع الدنيوي من غير الإيمان بالغيب ومن غير ممارسة الإسلام قلبًا وسلوكًا. وقد قال تعالى عقب هذه الآية واصفًا أولئك المتّقين الذين يكون الكتاب بالنسبة إليهم "هُدًى": {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 3-5). قال الإمام الطبري في قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}: "فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم".
إنّ المسألة التي تؤكّد عليها هذه الآيات، وهي أول ذكر للقرآن في ترتيب المصحف، أنّ هدايات القرآن للعقل، التي تُعرّفه بالحقّ وتعصمه عن الباطل، لا تعمل في النفس الإنسانية ولا يمكن اتخاذها "آلة" صناعية لمعرفة الحقّ والصواب بمعزل عن سائر حقائق هذا الدين. إنّ هذا الدين نسيج متكامل لا تعمل أجزاؤه فُرادى، ولا يمكن للإنسان أن يأخذ ببعض الكتاب دون بعض، فالكتاب في اللغة "النظام"، وهذا القرآن نظام متكامل جاء ليخاطب الفطرة الإنسانية كلّها من جميع مداخلها بجميع هداياته.
ونحن حين نتحدّث عن منهج القرآن في إصلاح العقل لا نبتغي من ذلك اقتصاص منظومة وفرزها بمعزل عن أركان الإيمان وشرائع الإسلام، فهذه المنظومة هي جزء لا يتجزأ من تلك الأركان والشرائع؛ إذ ينبغي لمن يرجو الصلاح لعقله بمادّة القرآن أن يؤمن بالله الخالق الحيّ الذي وهبه العقلَ أولا، وأن يستعين به ويستهديه في كل آن، وأن يؤمن بكل ما أخبره به من غيوب، وأن يكون على صلة بربّه في صلاته ودعائه وسجوده، وممارسًا لهذا الدين من منطلق الإيمان به وبما أنزله الله إليه من هدايات وشرائع، وأن يكون موقنًا بالآخرة، فهو يعمل بالحقّ ويتجنّب الباطل من أجل الآخرة وابتغاء ما عند الله.
إنّ منطق القرآن في إصلاح العقل منطق غيبيّ، أي أنّه ليس أداة صناعية من صنع الإنسان، ليس صنم عجوة يأكله الإنسان حين يجوع كما يفعل المناطقة الحُذّاق حين يتحوّل منطقهم إلى أداة للمنافحة عن معتقداتهم مهما كانت موغلة في الظلمة والضلال، بل هو منطق مرتبط ارتباطًا وشيجًا بالله الخالق الحي، فمن عنده جاء وإليه يعود، وفي كل لحظة يفكّر الإنسان المسلم في اتخاذ موقف أو إبداء رأي يتعلق بالحقّ والباطل، فهو يراقب الله عزّ وجلّ، ويتتبّع هدايات كتابه وتعليمات نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فيكون في هذه المراقبة ما يردعه عن المراوغة والخداع والتلاعب بالألفاظ والحقائق، ويكون في اتّباعه للشريعة الغرّاء التي أنزلها الله سبحانه، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ ما يعصمه عن الوقوع في مستنقعات الباطل والفساد.
هذه هي القيمة الكبرى التي تُفرّق بين منطق القرآن وكل منطق بشري ذهني مهما بلغ من الحذق والإتقان، فالمنطق البشري الذهني منطقٌ "عارٍ" إن جاز التعبير؛ لأنّه تعرّى عن المقومات التي تُعطيه فاعليّته وقوّته وقدرته على التأثير في الإنسان ودفعه دومًا على طريق الحقّ والصدق والعدل.
وفي قوله تعالى في أول صفة أولئك المتّقين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ما يدلّ على مدارك عقولهم الرحبة التي لم تنحصر في الوقوف عند المحسوسات، وأما الآخرون فقد قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}، ولعلّنا نبيّنه لاحقا بإذن الله.
قد يبدو ساذجًا أن يُقال لمن يمرّ بالمتاعب: "الضربة التي لا تكسر ظهرك تقوّيه"، أو: "لا تنظر إلى من هو أعلى منك بل انظر إلى من هو أدنى منك". ولكن الحقيقة أنّ المتاعب ستمرّ بعجرها وبجرها، وسيظلّ المعيار هو تحوّل إراداتنا معها؛ كيف خُضنا هذا التعب؟ هل استسلمنا لفعله فينا أم استعنّا بالله وتفاءلنا بالخير واستمسكنا بإرادة الحق والصدق والعدل مهما تعثّرنا وحيثما ألقتْ بنا الأحوال؟
ليست المتاعب هي التي تصنعنا بقدر ما نصنع نحن أنفسنا، وليست هي ما يقوّينا أو يزيدنا صلابة بقدر ما نقوّي نحن أنفسنا ونطبّبها حين نداوي قلوبنا بالشفاء الذي أنزله الله عزّ وجلّ على لسان خير البشر صلّى الله عليه وسلّم ونتّخذه بلسمًا لإراداتنا، في اليسر والعسر، وفي المنشط والمكره، وفي الصحة والمرض، وفي الوثبة والعثرة.
ليست المتاعب هي التي تصنعنا بقدر ما نصنع نحن أنفسنا، وليست هي ما يقوّينا أو يزيدنا صلابة بقدر ما نقوّي نحن أنفسنا ونطبّبها حين نداوي قلوبنا بالشفاء الذي أنزله الله عزّ وجلّ على لسان خير البشر صلّى الله عليه وسلّم ونتّخذه بلسمًا لإراداتنا، في اليسر والعسر، وفي المنشط والمكره، وفي الصحة والمرض، وفي الوثبة والعثرة.