#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الثالث
لتجلس:
- طبعاً، تفضلي..
وشكرته، وهي تسلخ عنها المعطف الثقيل وتضعه على الكرسي أمامها، ثم تنزع القب الفروي وتضعه فوقه وهي تتلكم:
- آسفة أن أُثقل عليك، ولكن، كما ترى، لا توجد هناك موائد فارغة.
فرد بقليل من الحرج:
- لا، أبداً! أنا وحدي هنا، وليس عدلاً أن أحتكر الطاولة كلها.
- شكراً على أي حال.
وبدأت تبحث في حقيبتها عن علبة سجائرها ثم القدَّاحة والدكتور نادر يلاحظها بطرف عينه مستأنساً قليلاً بمخلوق بشرى إلى جانبه. وأخرجت سيجارة فوضعتها بين شفتيها، فتناول هو القداحة من بين أصابعها البادرة قائلاً:
- هل تأذنين؟
وأشعل سجارتها وهي تنظر إلى وجهه على ضوئها الأصفر، وكأنها فوجئت بأن النبل والرجولة ما يزالان على قيد الحياة.
- شكراً يا سيدي، شكراً!
- العفو.
ولمس في كلامها لكنة اسكوتلاندية فسألها:
- من أي مكان؟ من اسكتلاندة أنت؟
- كيف عرفت أنني اسكتلاندية؟
- طائر صغير أوعز لي بذلك.
فابتسمت وقالت:
- إنَّه سؤال سخيف، لكنتي المحلية تفشي سري على بعد أميال!
- أحب اللهجة الاسكتلاندية، فبها خشونة البادية وجمالها.
- شكراً! أنت رجل لطيف، من أين أنت؟
- خمني.
- إيطالي.
- لا.
- أعرف، أنت إسباني.
- كلا! ولكنك قريبة.
- عربي؟
- نعم، من المغرب.
- من شمال إفريقيا، إذن!
فصاحت وكأنها رأت أحداً تعرفه، وأشارت إليه بأصبعها، وعلى وجهها ابتسامة:
- أتعرف أنني كنت على وشك أن أذهب إلى طنجة؟ لم يبق بيني وبينها إلا البوغاز.
- وماذا حدث؟
- أنذرنا دليلنا الإسباني بأن المغاربة لصوص وكذابون وقتلة وغشاشون في البيع والشراء، فخفت وبقيت في إسبانيا. قل لي، هل ذلك صحيح؟
- بعضه، كما في إسبانيا نفسها أو إيطاليا أو أي بلد بحري.
وجاء النادل فوضع فنجان الشكلاط أمامه، ونظر إلى الآنسة، فسألها الدكتور على نادر:
- ماذا ستطلبين؟
فطلبت "أومليت" وقهوة، وارتاحت في مقعدها تمتص دخينتها وتتحدث كأنها تعرف الدكتور نادر منذ أعوام. وأتيح له أن يتأملها فأعجبه وجهها المنمش قليلاً في أعلى الجبهة وعلى رانفة الأنف. كانت أسنانها لؤلؤية نظيفة، وشفتاها ممتلئتين.
وجاءها الشاب بعشائها فأكلته بسرعة، ومسحت فمها بمنديل الورق، ثم أشعلت سجارة واتكأت إلى الخلف تدخن وتتحدث.
وعاد المغني إلى الظهور على المسرح، وبدأ بأغنية كانت أغنية ذلك الموسم، فبدأت هي تتمايل معها وتردد الكلمات:
"لا داعي لأن تقول إنك تحبني
"ولكن ابق مني قريباً...
"ولا داعي لأن تبقى إلى الأبد
"فسوف أفهم".
وكان بعض الزبناء قاموا للحلبة يرقصون، فسألها:
- هل ترقصين؟
فقامت في الحال مسرعة حتى لا تنتهي الأغنية دون أن ترقص عليها.
ووضع الدكتور نادر يده على ظهرها، ورفعت رأسها فجأة لتردد مع المغنى لازمة "صدقني! صدقني!" وتنظر إلى عيني الدكتور نادر مفتعلة الحزن والانفعال. وابتسم لها ابتسامته المشرقة، فهمسته في أذنه.
- في ابتسامتك مرح وترحيب.
- ذلك لأنني أرحب بك فعلاً.
- آه! شكراً!
وهو يتحرك بها بين الراقصين الذين كان بعضهم لا يكاد يتحرك.
وانتهت الأغنية. وعادا إلى مائدتهما، فالتفتت إليه قبل أن يجلسا وقالت:
- اسمي آن. "آن سيسيليا ورد" فما هو اسمك؟
- اسمي على نادر.
وصافحته وهي تقول:
- اسمك خفيف وسهل. كثير من الأسماء الأجنبية لا أستطيع أن أنطق بها، ولكن اسمك سهل.
ورقصا مراراً، وتحدثا طويلاً.
وفي النهاية سألها الدكتور نادر دون أن يفكر:
- هل تشرفينني بشرب كأس عندي في منزلي، والاستماع إلى مجموعة أسطواناتي الجديدة؟
وفوجىء بقبولها بدون تردد. كان يأمل أن ترفض، وكان متأكداً أنها ستفعل في تلك الساعة المتأخرة من الليل، ولكنه كتم المفاجأة وأظهر السرور.
ومر بخياله شريط سريعة يستبق الأحداث الآتية. ومر ببطنه ألم حاد لم يشعر به منذ أيام الكتاب والامتحانات.
ودفع الحساب، وألبسها معطفها وارتدى معطفه وخرجا.
كانت السماء ما تزال غائمة ثقيلة، والضباب تتزاحم أمواجه الصامتة في جميع الاتجاهات. ونظر الدكتور نادر حواليه، وقال:
- تبدو هذه الليلة شبيهة بإحدى ليالي الدكتور "هايد" أو "جاك السفاح".
فأطلقت آن صرخة صغيرة، وأمسكت بذراعه، والتصقت به، فقال ضاحكاً:
- لا تخافي يا عزيزتي. أي شبح من تلك الأشباح سيفكر مرتين قبل أن يتحرك من خلف هذا الضباب.
ومشيا على رصيف "فولهام رود" الموازية ب لـ كنجزرود"، لا يسمعان إلا أصوات وقع خطواتهما، ولا يريان المارة الآخرين حتى يكاد يحدث الاصطدام... كانت السيارات تتحرك ببطء، وتغير قوة أضوائها حتى تراها السيارات القادمة. وقالت آن:
- ما أكثفه من ضباب! يمكنك قصه بمقص!
- تصوري أنك في حمام بخار، ويزول خوفك.
وعبرا الطريق إلى الرصيف المقابل، ثم دارا يمينا في شارع صغير مهجور يبدو الضباب فيه أكثف، وله وجوه وأفواه وعيون كأنها غيلان تداخلت حجومها، أو مخلوقات فضائية في طور التكوين...
وأحس "بآن" تتعلق بذراعه
#الجزء_الثالث
لتجلس:
- طبعاً، تفضلي..
وشكرته، وهي تسلخ عنها المعطف الثقيل وتضعه على الكرسي أمامها، ثم تنزع القب الفروي وتضعه فوقه وهي تتلكم:
- آسفة أن أُثقل عليك، ولكن، كما ترى، لا توجد هناك موائد فارغة.
فرد بقليل من الحرج:
- لا، أبداً! أنا وحدي هنا، وليس عدلاً أن أحتكر الطاولة كلها.
- شكراً على أي حال.
وبدأت تبحث في حقيبتها عن علبة سجائرها ثم القدَّاحة والدكتور نادر يلاحظها بطرف عينه مستأنساً قليلاً بمخلوق بشرى إلى جانبه. وأخرجت سيجارة فوضعتها بين شفتيها، فتناول هو القداحة من بين أصابعها البادرة قائلاً:
- هل تأذنين؟
وأشعل سجارتها وهي تنظر إلى وجهه على ضوئها الأصفر، وكأنها فوجئت بأن النبل والرجولة ما يزالان على قيد الحياة.
- شكراً يا سيدي، شكراً!
- العفو.
ولمس في كلامها لكنة اسكوتلاندية فسألها:
- من أي مكان؟ من اسكتلاندة أنت؟
- كيف عرفت أنني اسكتلاندية؟
- طائر صغير أوعز لي بذلك.
فابتسمت وقالت:
- إنَّه سؤال سخيف، لكنتي المحلية تفشي سري على بعد أميال!
- أحب اللهجة الاسكتلاندية، فبها خشونة البادية وجمالها.
- شكراً! أنت رجل لطيف، من أين أنت؟
- خمني.
- إيطالي.
- لا.
- أعرف، أنت إسباني.
- كلا! ولكنك قريبة.
- عربي؟
- نعم، من المغرب.
- من شمال إفريقيا، إذن!
فصاحت وكأنها رأت أحداً تعرفه، وأشارت إليه بأصبعها، وعلى وجهها ابتسامة:
- أتعرف أنني كنت على وشك أن أذهب إلى طنجة؟ لم يبق بيني وبينها إلا البوغاز.
- وماذا حدث؟
- أنذرنا دليلنا الإسباني بأن المغاربة لصوص وكذابون وقتلة وغشاشون في البيع والشراء، فخفت وبقيت في إسبانيا. قل لي، هل ذلك صحيح؟
- بعضه، كما في إسبانيا نفسها أو إيطاليا أو أي بلد بحري.
وجاء النادل فوضع فنجان الشكلاط أمامه، ونظر إلى الآنسة، فسألها الدكتور على نادر:
- ماذا ستطلبين؟
فطلبت "أومليت" وقهوة، وارتاحت في مقعدها تمتص دخينتها وتتحدث كأنها تعرف الدكتور نادر منذ أعوام. وأتيح له أن يتأملها فأعجبه وجهها المنمش قليلاً في أعلى الجبهة وعلى رانفة الأنف. كانت أسنانها لؤلؤية نظيفة، وشفتاها ممتلئتين.
وجاءها الشاب بعشائها فأكلته بسرعة، ومسحت فمها بمنديل الورق، ثم أشعلت سجارة واتكأت إلى الخلف تدخن وتتحدث.
وعاد المغني إلى الظهور على المسرح، وبدأ بأغنية كانت أغنية ذلك الموسم، فبدأت هي تتمايل معها وتردد الكلمات:
"لا داعي لأن تقول إنك تحبني
"ولكن ابق مني قريباً...
"ولا داعي لأن تبقى إلى الأبد
"فسوف أفهم".
وكان بعض الزبناء قاموا للحلبة يرقصون، فسألها:
- هل ترقصين؟
فقامت في الحال مسرعة حتى لا تنتهي الأغنية دون أن ترقص عليها.
ووضع الدكتور نادر يده على ظهرها، ورفعت رأسها فجأة لتردد مع المغنى لازمة "صدقني! صدقني!" وتنظر إلى عيني الدكتور نادر مفتعلة الحزن والانفعال. وابتسم لها ابتسامته المشرقة، فهمسته في أذنه.
- في ابتسامتك مرح وترحيب.
- ذلك لأنني أرحب بك فعلاً.
- آه! شكراً!
وهو يتحرك بها بين الراقصين الذين كان بعضهم لا يكاد يتحرك.
وانتهت الأغنية. وعادا إلى مائدتهما، فالتفتت إليه قبل أن يجلسا وقالت:
- اسمي آن. "آن سيسيليا ورد" فما هو اسمك؟
- اسمي على نادر.
وصافحته وهي تقول:
- اسمك خفيف وسهل. كثير من الأسماء الأجنبية لا أستطيع أن أنطق بها، ولكن اسمك سهل.
ورقصا مراراً، وتحدثا طويلاً.
وفي النهاية سألها الدكتور نادر دون أن يفكر:
- هل تشرفينني بشرب كأس عندي في منزلي، والاستماع إلى مجموعة أسطواناتي الجديدة؟
وفوجىء بقبولها بدون تردد. كان يأمل أن ترفض، وكان متأكداً أنها ستفعل في تلك الساعة المتأخرة من الليل، ولكنه كتم المفاجأة وأظهر السرور.
ومر بخياله شريط سريعة يستبق الأحداث الآتية. ومر ببطنه ألم حاد لم يشعر به منذ أيام الكتاب والامتحانات.
ودفع الحساب، وألبسها معطفها وارتدى معطفه وخرجا.
كانت السماء ما تزال غائمة ثقيلة، والضباب تتزاحم أمواجه الصامتة في جميع الاتجاهات. ونظر الدكتور نادر حواليه، وقال:
- تبدو هذه الليلة شبيهة بإحدى ليالي الدكتور "هايد" أو "جاك السفاح".
فأطلقت آن صرخة صغيرة، وأمسكت بذراعه، والتصقت به، فقال ضاحكاً:
- لا تخافي يا عزيزتي. أي شبح من تلك الأشباح سيفكر مرتين قبل أن يتحرك من خلف هذا الضباب.
ومشيا على رصيف "فولهام رود" الموازية ب لـ كنجزرود"، لا يسمعان إلا أصوات وقع خطواتهما، ولا يريان المارة الآخرين حتى يكاد يحدث الاصطدام... كانت السيارات تتحرك ببطء، وتغير قوة أضوائها حتى تراها السيارات القادمة. وقالت آن:
- ما أكثفه من ضباب! يمكنك قصه بمقص!
- تصوري أنك في حمام بخار، ويزول خوفك.
وعبرا الطريق إلى الرصيف المقابل، ثم دارا يمينا في شارع صغير مهجور يبدو الضباب فيه أكثف، وله وجوه وأفواه وعيون كأنها غيلان تداخلت حجومها، أو مخلوقات فضائية في طور التكوين...
وأحس "بآن" تتعلق بذراعه
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الرابع
تحرك التاكسي اللندني خارجاً من "كارلايل سكوير" إلى "كنجزرود" يدرج على مهل في طريقه إلى مطار (هيثرو). ومن داخله كان الدكتور نادر وإلى جانبه تاج ينظران إلى الشوارع المكسوة بالثلج، وإلى السيارات وهي تخوض الوحل البارد، وتلقي به على الأرصفة.
كان الثلج قد تساقط الليلة السابقة، وتراكم على سطوح البيوت وحيطان الحدائق المنزلية القصيرة وظهور السيارات الواقفة.
وكان المارة يخوضون المزيج المتذاوب بأحذية المطاط الشتوية بحذر بالغ خوف الانزلاق.
والتفتت تاج إلى الدكتور نادر:
- هل أنت نادم على مغادرة لندن؟
فمط شفته السفلى، ثم قال:
- لندن كالزواج، من فيها يريد الخروج منها، ومن خارجها يريد الدخول إليها.
واتسعت عينا تاج، ووضعت يدها على صدرها في مفاجأة واندهاش.
- أهذه فكرتك عن الزواج؟
- لا يا آنسة، هذا مثل فقط!
- لا أريد أن أقول إنه تعريف متشائم، ولا أعتقد أنه صحيح بالنسبة لجميع الزيجات.
وابتسم الدكتور نادر ففركت يديها، وهي تقول في مرح صبياني يعجب الدكتور نادر:
- بعد بضع ساعات ستشرق الشمس ثم لا تغرب إلا في الليل!
ثم أضافت:
- في لندن تشرق الشمس غاربة!
ونظر الدكتور نادر إليها بافتتان أخجلها.
قامت النفاثة الضخمة في الميعاد تاركة وراءها مدارج مطار "هيثرو" تلمع من بلل الثلج الذائب، وارتفعت شبه عمودية إلى عنان السماوات تجر وراءها ذيلاً مستقيماً من البخار والزئير الحاد.
أطلَّ الدكتور نادر من النافذة، لينظر إلى النفاثات الضخمة الجاثمة على أرض المطار وهي تبتعد لتصبح كلعب من الورق الفضي.
ومرت مضيفة برزمة جرائد ومجلات، فتناولت تاج جريدة ومجلة. وحرك هو رأسه بالنفي، وهو يضغط على الزر، ويدفع الكرسي بظهره إلى الوراء ويغمض عينيه.وفسخت تاج حزامها، وسهمت بعينيها نحو الغرب.
كانت الشمس على وشك الغروب حمراء كبيرة، أسفلها غارق في ضباب أزرق تجر تحتها ذيلاً ذهبياً فوق صفحة المحيط.
ورغم ارتفاع الطائرة فقد ظلت حجوم الأشياء وأضواء القرى تبدو واضحة متلألئة كالجواهر في منجم طين أسود.
ولم يفق الدكتور نادر إلا على صوت الوصيفة تسأله هل يريد عشاءه. فاعتدل في كرسيه ونظر من النافذة نحو الأفق الغربي. كان الشفق ما يزال يلون الفضاء بلون القرمز والبنفسج. وفي الشرق كانت النجوم تلمع كبيرة في خميلة من السندس الداكن.
الطائرة ضاربة بأجنحتها الضخمة في عرض الفضاء وقوراً شامخة الأنف.
وهدأت الحركة داخل الطائرة بنهاية العشاء. وانطفأت الأنوار إلا ما كان من المصابيح الفردية فوق رؤوس من فضلوا القراءة والكتابة.
ودخلت الطائرة سماء الصحراء تاركة وراءها المدائن والأضواء. واختفت علائم الأنس البشري، وحلقت السمكة الفضية سابحة بين فيافي السماء والصحراء كجرم من الأجرام السماوية.
وما نزلت الطائرة بلاجوس، عاصمة نايجيريا حتى ملأ الجو أزيز أسلاك البرق والهاتف تنقل خبر اختفاء الدكتور على نادر والآنسة تاج محيي الدين من قلب الطائرة في عرض الفضاء.
ووصل الخبر لندن، كما وصلها خبر اختفاء الدكتور هالين قبل بضعة أسابيع، وما زال لم يعثر له على أثر.. وما يزال إختفاؤه سراً غامضاً يحير الشرطة الدولية.
وتكرر نفس ما حدث عند اختفاء الدكتور هالن من مؤتمرات صحافية، وتخمينات تحاول كشف الغموض فما تزيده إلا غموضاً.
وظهر على التلفزيون عدد من الدكاترة زملاء نادر ومعارف تاج، واستجوبتهم السلطات. ورغم كل المحاولات فقد بقى لغز الاختفاء داخل الطائرة في الفضاء محيراً للجميع.
وقبل انتشار الخبر في لندن كان ثلاثة رجال من السكوتلاند يارد يفتحون منزل الدكتور على نادر بكارلايل سكوير وينتشرون في غرفه بحثاً عن جميع ما يمكن أن يؤدي إلى كشف الغموض المزدوج الآن باختفاء نادر.
وعثر أحدهم كان يبحث في أدراج غرفة النوم على يومية بخط الدكتور نادر فصاح:
- إيه!
وتجمع الاثنان حوله:
- ماذا؟
- أعتقد أني عثرت على شيء. ربما كانت هذه مذكرات الدكتور نادر.
وتناولها أكثر الجماعة سناً فتصفحها.
- هناك عقبة. المذكرات مكتوبة باللغة العربية.
فقال أصغر الثلاثة:
- أعرف أحداً يقرأ العربية.
فصرفه الرئيس بحركة من يده، وهو ينقر على الكناش الأسود بأصابعه، ثم قال.
- ناد محطة "البيبسي" القسم العربي، وأسأل عن أحد اسمه فيليب ماكنزي، ودعني أتكلم معه.وأدار الفتى قرص التلفون وتكلم فيه قليلاً، ثم ناوله رئيسه هامساً:
- فيليب ما كنزي على الخط.
وتناول السماعة:
- فيليب.
- نعم.
- المفتش دُورْسي. هل تذكرني؟
- طبعاً، طبعاً! خيراً إن شاء الله.
- هل يمكنك أن تأخذ سيارة أجرة في الحال وتأتي إلى منزل صديقك الدكتور علي نادر؟
- هل أنت ا
#الجزء_الرابع
تحرك التاكسي اللندني خارجاً من "كارلايل سكوير" إلى "كنجزرود" يدرج على مهل في طريقه إلى مطار (هيثرو). ومن داخله كان الدكتور نادر وإلى جانبه تاج ينظران إلى الشوارع المكسوة بالثلج، وإلى السيارات وهي تخوض الوحل البارد، وتلقي به على الأرصفة.
كان الثلج قد تساقط الليلة السابقة، وتراكم على سطوح البيوت وحيطان الحدائق المنزلية القصيرة وظهور السيارات الواقفة.
وكان المارة يخوضون المزيج المتذاوب بأحذية المطاط الشتوية بحذر بالغ خوف الانزلاق.
والتفتت تاج إلى الدكتور نادر:
- هل أنت نادم على مغادرة لندن؟
فمط شفته السفلى، ثم قال:
- لندن كالزواج، من فيها يريد الخروج منها، ومن خارجها يريد الدخول إليها.
واتسعت عينا تاج، ووضعت يدها على صدرها في مفاجأة واندهاش.
- أهذه فكرتك عن الزواج؟
- لا يا آنسة، هذا مثل فقط!
- لا أريد أن أقول إنه تعريف متشائم، ولا أعتقد أنه صحيح بالنسبة لجميع الزيجات.
وابتسم الدكتور نادر ففركت يديها، وهي تقول في مرح صبياني يعجب الدكتور نادر:
- بعد بضع ساعات ستشرق الشمس ثم لا تغرب إلا في الليل!
ثم أضافت:
- في لندن تشرق الشمس غاربة!
ونظر الدكتور نادر إليها بافتتان أخجلها.
قامت النفاثة الضخمة في الميعاد تاركة وراءها مدارج مطار "هيثرو" تلمع من بلل الثلج الذائب، وارتفعت شبه عمودية إلى عنان السماوات تجر وراءها ذيلاً مستقيماً من البخار والزئير الحاد.
أطلَّ الدكتور نادر من النافذة، لينظر إلى النفاثات الضخمة الجاثمة على أرض المطار وهي تبتعد لتصبح كلعب من الورق الفضي.
ومرت مضيفة برزمة جرائد ومجلات، فتناولت تاج جريدة ومجلة. وحرك هو رأسه بالنفي، وهو يضغط على الزر، ويدفع الكرسي بظهره إلى الوراء ويغمض عينيه.وفسخت تاج حزامها، وسهمت بعينيها نحو الغرب.
كانت الشمس على وشك الغروب حمراء كبيرة، أسفلها غارق في ضباب أزرق تجر تحتها ذيلاً ذهبياً فوق صفحة المحيط.
ورغم ارتفاع الطائرة فقد ظلت حجوم الأشياء وأضواء القرى تبدو واضحة متلألئة كالجواهر في منجم طين أسود.
ولم يفق الدكتور نادر إلا على صوت الوصيفة تسأله هل يريد عشاءه. فاعتدل في كرسيه ونظر من النافذة نحو الأفق الغربي. كان الشفق ما يزال يلون الفضاء بلون القرمز والبنفسج. وفي الشرق كانت النجوم تلمع كبيرة في خميلة من السندس الداكن.
الطائرة ضاربة بأجنحتها الضخمة في عرض الفضاء وقوراً شامخة الأنف.
وهدأت الحركة داخل الطائرة بنهاية العشاء. وانطفأت الأنوار إلا ما كان من المصابيح الفردية فوق رؤوس من فضلوا القراءة والكتابة.
ودخلت الطائرة سماء الصحراء تاركة وراءها المدائن والأضواء. واختفت علائم الأنس البشري، وحلقت السمكة الفضية سابحة بين فيافي السماء والصحراء كجرم من الأجرام السماوية.
وما نزلت الطائرة بلاجوس، عاصمة نايجيريا حتى ملأ الجو أزيز أسلاك البرق والهاتف تنقل خبر اختفاء الدكتور على نادر والآنسة تاج محيي الدين من قلب الطائرة في عرض الفضاء.
ووصل الخبر لندن، كما وصلها خبر اختفاء الدكتور هالين قبل بضعة أسابيع، وما زال لم يعثر له على أثر.. وما يزال إختفاؤه سراً غامضاً يحير الشرطة الدولية.
وتكرر نفس ما حدث عند اختفاء الدكتور هالن من مؤتمرات صحافية، وتخمينات تحاول كشف الغموض فما تزيده إلا غموضاً.
وظهر على التلفزيون عدد من الدكاترة زملاء نادر ومعارف تاج، واستجوبتهم السلطات. ورغم كل المحاولات فقد بقى لغز الاختفاء داخل الطائرة في الفضاء محيراً للجميع.
وقبل انتشار الخبر في لندن كان ثلاثة رجال من السكوتلاند يارد يفتحون منزل الدكتور على نادر بكارلايل سكوير وينتشرون في غرفه بحثاً عن جميع ما يمكن أن يؤدي إلى كشف الغموض المزدوج الآن باختفاء نادر.
وعثر أحدهم كان يبحث في أدراج غرفة النوم على يومية بخط الدكتور نادر فصاح:
- إيه!
وتجمع الاثنان حوله:
- ماذا؟
- أعتقد أني عثرت على شيء. ربما كانت هذه مذكرات الدكتور نادر.
وتناولها أكثر الجماعة سناً فتصفحها.
- هناك عقبة. المذكرات مكتوبة باللغة العربية.
فقال أصغر الثلاثة:
- أعرف أحداً يقرأ العربية.
فصرفه الرئيس بحركة من يده، وهو ينقر على الكناش الأسود بأصابعه، ثم قال.
- ناد محطة "البيبسي" القسم العربي، وأسأل عن أحد اسمه فيليب ماكنزي، ودعني أتكلم معه.وأدار الفتى قرص التلفون وتكلم فيه قليلاً، ثم ناوله رئيسه هامساً:
- فيليب ما كنزي على الخط.
وتناول السماعة:
- فيليب.
- نعم.
- المفتش دُورْسي. هل تذكرني؟
- طبعاً، طبعاً! خيراً إن شاء الله.
- هل يمكنك أن تأخذ سيارة أجرة في الحال وتأتي إلى منزل صديقك الدكتور علي نادر؟
- هل أنت ا
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الخامس
أحس الدكتور علي نادر أنه يفيق من نوم ثقيل، وأن صوتاً صارخاً يترامى إلى سمعه من بعيد فيه إنذار بخطر قريب.
كان يشعر كأنه في حلم من أحلام طفولته كان يرى نفسه يطير من النافذة إلى وسط الدار، أو يقفز بين السطوح، أو يقف في الفضاء فوق قبة المحكمة الزجاجية يلوح إلى جده بداخلها.
وشعر بتيار هواء بارد يغمر وجهه وسائر جسده، وأنه يتأرجح من اليمين إلى اليسار معلقاً في فضاء لا نهائي.
وفتح عينيه بصعوبة فلم ير شيئاً لأول وهلة. كان يطبق الأفق حوله ظلام بارد أيقظ حواسه النائمة بسرعة. وحملق في العتمة الزرقاء ليرى شبح مخلوق بشري قريباً منه يتأرجح هو الآخر في الفضاء... وحينئذ فقط أدرك أنه نازل بمظلة ورفع عينيه ليرى قبتها الهائلة تحجب عنه السماء...وترامى إليه صوت من ناحية الشبح الآدمي المعلق على بعد خطوات قليلة منه.
- دكتور نادر!
ولم يجب، فعاد الصوت الذي ميز فيه الآن صوت أنثى مألوفاً:
- دكتور نادر! هل تسمعني؟
فرد هو بصوت مبحوح:
- أسمعك... تاج....
- نعم.. اسمع! حاول الاسترخاء التام. نحن نازلان بمظلة! قريباً سنلمس الأرض.
وفي اللحظة نفسها لامست قدماه كئيب رمل ناعم فوقع على وجهه وتدحرج إلى أسفله. ووقف يحاول التخلص من شبكة الحبال التي كانت تربطه إلى المظلة وسمع صوت تاج في الظلام.
- دكتور نادر! أين أنت؟
فصاح:
- أنا هنا.
والتفت ليرى شبحها مرتسماً على الأفق الأزرق وهي واقفة على رأس التل وراءه. ونزلت نحوه تخوض الرمل الناعم وتحمل تحت ذراعيها صرة كبيرة. وحين اقتربت منه سألته.
- هل أنت بخير؟
- أعتقد.
- هل تحس ألماً من أي نوع؟
- لا، ماذا حدث؟ أين نحن؟
- ألم تعرف؟ لابد أن الضغط أفقدك الوعي. يظهر أن الطائرة لاقت بعض المتاعب الميكانيكية، فوزعت الوصيفات علينا المظلات للهبوط خوفاً من انفجار الطائرة عند احتكاكها بالرمل. وقد ساعدت الوصيفات على إلباسك مظلتك ونزلت معك في نفس الدفعة.
لم يكن الدكتور نادر يدرك معاني ما كانت تقول، فقد كان يمشي على الرمل نصف مخدر كأنه في حلم أو سكر شديد.
وبعد فترة أحس أنها طالت سأل:
- أين نحن؟
وجاءه صوتها:
- لاأدري. مما يظهر نحن الآن في قلب الصحراء الكبرى.
- وماذا سنفعل الآن؟
قالها وهو ينظر إلى تاج التي كانت بعض خصلات شعرها الأسود تتدلى على وجهها وهي تحاول إعادتها إلى تحت الشال الذي كان يغطي رأسها وتنظر حواليها في جميع الاتجاهات وهي تتكلم:
- أعتقد أنه من الأفضل ألاَّ نتحرك في أي تجاه حتى الصباح لنعرف أين نحن، وحتى إذا بحثوا عنا حول المكان الذي فقدت فيه الطائرة وجدونا بسهولة. ربما كانت الريح قد أبعدتنا عن خط سير الطائرة، فلا داعي للابتعاد أكثر.
ورآها تحملق في مكان مُعَيَّن، ثم ناولته الصرة الكبيرة التي كانت تحت ذراعها قائلة:
- خذ هذه، وانتظر قليلاً حتى أعود.
واختفت في حلكة الظلام حتى أصبحت بقعة سوداء متحركة. ورآها تنحني ثم تعود بصُرَّة أخرى تحت إبطها، قالت:
- وجدت مظلتك. سنحتاجهما للغطاء. تعالَ معي. وأمسكت بيده فتبعها كطفل مطيع. وشعر بالبرد قارساً يتسرب إلى عظامه. ونظر أمامه فإذا صخرة عالية تقف وحدها وسط الرمال.
وسمعت تاج قضقضة أسنانه فنشرت المظلة ووضعتها على أكتافه وظهره.
وتناولت مظلته فتلفعت بها، وقادته نحو الصخرة حيث دارت حولها بسرعة ثم عادت تقوده إلى الناحية الأخرى منها.
- الريح لا تمس هذه الناحية. سوف نجلس إلى جنب الصخرة حتى الصباح.
وجلست داخل شق واسع بالصخرة ثم سحبت الدكتور نادر إلى جانبها فعقد القرفصاء.كان عقله المخدر نصف مشلول لا يفكر إلا فيما تحت عينيه، وما داخل دائرة شعوره المباشرة حادث الطائرة، ووجوده هائماً على وجهه في قفار الصحراء وفي جوف الليل أشياء لم تدخل بعد منطقة وعيه، ولم تترجم إلى أحداث خطيرة.
وفي تلك الليلة هبت عاصفة رملية مخيفة. بدأت الرياح تهب باردة كما تعصف في أصقاع الشمال. وسرعان ما أخذت تشتد وتحرث الرمال وتصفر بين الشعاب والصخور.
وقبع الدكتور نادر وتاج في شق الصخرة يستمعان إلى عُوائها وكأنها أغوال تتعارك وعماليق تتصارع وتتقاتل ممتطية جياداً من ظلام.
والتصقت تاج بطريقة لا إرادية بالدكتور علي نادر، فطوق خصرها بذراعه وضمها إليه وهي ترتعش كالعصفور الصغير، بينما العاصفة تزداد هيجاناً وطغياناً.
وباتت الرياح طول الليل تولول عاتية تقتلع الصخور، وغطتهما الرمال الخفيفة التي كانت تتساقط من فوق الصخرة ومن جانبها، ونادر يرفع رأسه من حين لآخر ليدخل قليلاً من الهواء إلى تحت الغطاء.
وهدأت العاصفة فجأة كما بدأت دون أن يُحسَّا بها. فقد غرقا في سبات عميق بعد هدوئها التدريجي، أرهقهما التعب والسهر والفزع لغضبة الطبيعة المتوحشة.
واستيقظ الدكتور علي نادر على تاج تحركه ليفيق.
كانت الشمس تشرق أرجوانية هائلة الحجم من وراء التلال الشرقية، تلمس أشعتها الحريرية رؤوس الصخور والمرتفعات. والسماء كانت زرقاء كأعماق المحيط.
وأخذ الدكتور علي نادر يفرك عينيه دون أن يعرف أين هو. ونظر حوله ليجد نفسه مغطى
بالمظلة المث
#الجزء_الخامس
أحس الدكتور علي نادر أنه يفيق من نوم ثقيل، وأن صوتاً صارخاً يترامى إلى سمعه من بعيد فيه إنذار بخطر قريب.
كان يشعر كأنه في حلم من أحلام طفولته كان يرى نفسه يطير من النافذة إلى وسط الدار، أو يقفز بين السطوح، أو يقف في الفضاء فوق قبة المحكمة الزجاجية يلوح إلى جده بداخلها.
وشعر بتيار هواء بارد يغمر وجهه وسائر جسده، وأنه يتأرجح من اليمين إلى اليسار معلقاً في فضاء لا نهائي.
وفتح عينيه بصعوبة فلم ير شيئاً لأول وهلة. كان يطبق الأفق حوله ظلام بارد أيقظ حواسه النائمة بسرعة. وحملق في العتمة الزرقاء ليرى شبح مخلوق بشري قريباً منه يتأرجح هو الآخر في الفضاء... وحينئذ فقط أدرك أنه نازل بمظلة ورفع عينيه ليرى قبتها الهائلة تحجب عنه السماء...وترامى إليه صوت من ناحية الشبح الآدمي المعلق على بعد خطوات قليلة منه.
- دكتور نادر!
ولم يجب، فعاد الصوت الذي ميز فيه الآن صوت أنثى مألوفاً:
- دكتور نادر! هل تسمعني؟
فرد هو بصوت مبحوح:
- أسمعك... تاج....
- نعم.. اسمع! حاول الاسترخاء التام. نحن نازلان بمظلة! قريباً سنلمس الأرض.
وفي اللحظة نفسها لامست قدماه كئيب رمل ناعم فوقع على وجهه وتدحرج إلى أسفله. ووقف يحاول التخلص من شبكة الحبال التي كانت تربطه إلى المظلة وسمع صوت تاج في الظلام.
- دكتور نادر! أين أنت؟
فصاح:
- أنا هنا.
والتفت ليرى شبحها مرتسماً على الأفق الأزرق وهي واقفة على رأس التل وراءه. ونزلت نحوه تخوض الرمل الناعم وتحمل تحت ذراعيها صرة كبيرة. وحين اقتربت منه سألته.
- هل أنت بخير؟
- أعتقد.
- هل تحس ألماً من أي نوع؟
- لا، ماذا حدث؟ أين نحن؟
- ألم تعرف؟ لابد أن الضغط أفقدك الوعي. يظهر أن الطائرة لاقت بعض المتاعب الميكانيكية، فوزعت الوصيفات علينا المظلات للهبوط خوفاً من انفجار الطائرة عند احتكاكها بالرمل. وقد ساعدت الوصيفات على إلباسك مظلتك ونزلت معك في نفس الدفعة.
لم يكن الدكتور نادر يدرك معاني ما كانت تقول، فقد كان يمشي على الرمل نصف مخدر كأنه في حلم أو سكر شديد.
وبعد فترة أحس أنها طالت سأل:
- أين نحن؟
وجاءه صوتها:
- لاأدري. مما يظهر نحن الآن في قلب الصحراء الكبرى.
- وماذا سنفعل الآن؟
قالها وهو ينظر إلى تاج التي كانت بعض خصلات شعرها الأسود تتدلى على وجهها وهي تحاول إعادتها إلى تحت الشال الذي كان يغطي رأسها وتنظر حواليها في جميع الاتجاهات وهي تتكلم:
- أعتقد أنه من الأفضل ألاَّ نتحرك في أي تجاه حتى الصباح لنعرف أين نحن، وحتى إذا بحثوا عنا حول المكان الذي فقدت فيه الطائرة وجدونا بسهولة. ربما كانت الريح قد أبعدتنا عن خط سير الطائرة، فلا داعي للابتعاد أكثر.
ورآها تحملق في مكان مُعَيَّن، ثم ناولته الصرة الكبيرة التي كانت تحت ذراعها قائلة:
- خذ هذه، وانتظر قليلاً حتى أعود.
واختفت في حلكة الظلام حتى أصبحت بقعة سوداء متحركة. ورآها تنحني ثم تعود بصُرَّة أخرى تحت إبطها، قالت:
- وجدت مظلتك. سنحتاجهما للغطاء. تعالَ معي. وأمسكت بيده فتبعها كطفل مطيع. وشعر بالبرد قارساً يتسرب إلى عظامه. ونظر أمامه فإذا صخرة عالية تقف وحدها وسط الرمال.
وسمعت تاج قضقضة أسنانه فنشرت المظلة ووضعتها على أكتافه وظهره.
وتناولت مظلته فتلفعت بها، وقادته نحو الصخرة حيث دارت حولها بسرعة ثم عادت تقوده إلى الناحية الأخرى منها.
- الريح لا تمس هذه الناحية. سوف نجلس إلى جنب الصخرة حتى الصباح.
وجلست داخل شق واسع بالصخرة ثم سحبت الدكتور نادر إلى جانبها فعقد القرفصاء.كان عقله المخدر نصف مشلول لا يفكر إلا فيما تحت عينيه، وما داخل دائرة شعوره المباشرة حادث الطائرة، ووجوده هائماً على وجهه في قفار الصحراء وفي جوف الليل أشياء لم تدخل بعد منطقة وعيه، ولم تترجم إلى أحداث خطيرة.
وفي تلك الليلة هبت عاصفة رملية مخيفة. بدأت الرياح تهب باردة كما تعصف في أصقاع الشمال. وسرعان ما أخذت تشتد وتحرث الرمال وتصفر بين الشعاب والصخور.
وقبع الدكتور نادر وتاج في شق الصخرة يستمعان إلى عُوائها وكأنها أغوال تتعارك وعماليق تتصارع وتتقاتل ممتطية جياداً من ظلام.
والتصقت تاج بطريقة لا إرادية بالدكتور علي نادر، فطوق خصرها بذراعه وضمها إليه وهي ترتعش كالعصفور الصغير، بينما العاصفة تزداد هيجاناً وطغياناً.
وباتت الرياح طول الليل تولول عاتية تقتلع الصخور، وغطتهما الرمال الخفيفة التي كانت تتساقط من فوق الصخرة ومن جانبها، ونادر يرفع رأسه من حين لآخر ليدخل قليلاً من الهواء إلى تحت الغطاء.
وهدأت العاصفة فجأة كما بدأت دون أن يُحسَّا بها. فقد غرقا في سبات عميق بعد هدوئها التدريجي، أرهقهما التعب والسهر والفزع لغضبة الطبيعة المتوحشة.
واستيقظ الدكتور علي نادر على تاج تحركه ليفيق.
كانت الشمس تشرق أرجوانية هائلة الحجم من وراء التلال الشرقية، تلمس أشعتها الحريرية رؤوس الصخور والمرتفعات. والسماء كانت زرقاء كأعماق المحيط.
وأخذ الدكتور علي نادر يفرك عينيه دون أن يعرف أين هو. ونظر حوله ليجد نفسه مغطى
بالمظلة المث
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_السادس
15-
وتوجه الاثنان إلى خيمة بين المضارب. والتفت الشيخ إلى الدكتور نادر وقال:
- هل تريد أن تنفرد به أم تريدني حاضراً؟
- الأحسن أن أنفرد به. سوف يشعر بحرية أكثر مع غريب مثلي فيفضي بذات نفسه.
وعلى باب الخيمة نادى الشيخ باسم امرأة، فخرجت زوجته والدموع في عينيها، ونظرت إلى زوجها متوسلة إليه ألا يعذبه، فلم ينظر إليها، بل أشار للدكتور أن يدخل.
ورفع هذا ستار الخيمة وسلم ودخل، فإذا بشاب في حوالي العشرين، طويل الشعر، نحيفٍ، حاد النظرات. وحين رأى الدكتور نادر سمر فيه عينيه ولم يُردَّ التحية.
قال الدكتور:
- "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها." وقد قلت السلام عليكم!
- من أنت؟ وماذا تريد؟
- اسمي نادر. علي نادر.
- من أين جئت؟
وابتسم الدكتور وهو يقول:
- سقطت من السماء! هل تصدق ذلك؟
- هل تريدني أن أضحك؟!
- أريد أن أقول لك إنني جئت لأتحدث إليك، وأنك لا ينبغي أن تخاف مني. لقد أقنعت والدك بأن العنف والضغط لا يخلقان إلا الحنق والتمرد. وهو يعتقد أنك خرجت عن الجماعة، وأصبحت ملحداً منذ عودتك من فاس. هل هذا صحيح؟
وسكت الشاب. وتقدم الدكتور نادر منه، فلاحظ السلاسل، فعاد إلى خارج الخيمة ونادى الشيخ:
- مولانا. هل تسمح لي بمفاتيح القيد؟ أعتقد أن فكه سيكون عربوناً على حسن النية والرغبة في التفهم.
وأعطاه الشيخ المفتاح، فعاد إلى الخيمة، وفك القيد عن ساقي الشاب ويديه، ورمى به في جنب الخيمة قائلاً:
- أرجو حين أخرج من هذه الخيمة أن آخذ ذلك القيد لأرمي به في زريبة البهائم! والآن أرجو أن تصدق أني هنا لأساعدك على فهم والدك، وأساعده على فهمك. فقد كنت مرة شاباً في مثل سنك، وكان لي أب مثل أبيك. أنا أعيش في القرن العشرين، وهو في العصر الجاهلي، وما أجده أنا من المسلمات التي لا تحتاج إلى مناقشة، يجدها هو كفراً وإلحاداً.وبدأ وجه الفتى يتغير، ويبدو عليه الاهتمام والاستجابة. واستأنف الدكتور:
- أتعرف أن أبي ما يزال يعتقد أن الأرض مسطحة؟ ولو أخذته في طائرة ودرت به الأرض لحرك رأسه وقال: "والأرض بساط" و"الأرض دحاها" و"جعلنا الأرض مهادا" صدق الله العظيم! وحين كبرت بدأت أفهم أن عقلية الإنسان تتحجر حين يبلغ سناً معينة، ولا تبقى لينة تتقبل الأفكار الجديدة، كما كانت حين كانوا صغاراً في مثل سنك. وسوف تكبر أنت ويصعب عليك أن تتنازل عن أفكار كثيرة آمنت بها في شبابك!
ونظر الفتى إلى الدكتور، وتكلم لأول مرة متأثراً:
- حين أصبح مثل هؤلاء سأقتل نفسي!
- بالعكس، تذكر ما قاله المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ونظر الفتى إلى الأرض، وقال:
- أحياناً أتمنى لو لم يكن والدي بعث بي إلى فاس، لكنت هنا واحداً منهم، أُومنُ بما يؤمنون به، أقول بسطحية الأرض، وأرقص على الأذكار، وأنتظر المهدي المنتظر، وأمجد مولاي عبد القادر الجيلالي، لكنت أسعد مما أنا!
قال الدكتور: هل من أجل خلافك معهم في هذا وضعك والدك في القيود؟
- قلت لهم أن يعودوا إلى الله، لا يمكن أن تصدق ما يملأ عقول هؤلاء الناس من وثنية وشعوذة. كلمة الله لم تعد شيئاً بالنسبة إليهم. إنهم لا يرونه. وقد ارتدوا في وثنية الجاهلية الأولى، فخلقوا الأضرحة والأولياء وعلقوا التمائم والxxxxب حول أعناقهم. وتوجه النساء نحو الحجارة فطلوها بالجير وقدسوها، وإلى الأشجار فعلقوا عليها قطعاً من ملابسهم بدرجة مخجلة. حين قرأت عن المجتمع الجاهلي قبل الإسلام لم أجد فرقاً بينه وبين هذا. وشعرت بالرغبة في دعوة قومي إلى الإسلام والعودة إلى الله. وليتني لم أفعل. ليتني بقيت أعمى مثلهم!
- أبداً، يا ولدي! لقد أنعم الله عليك بالبصيرة! ولن ترضى بها بديلاً.
ونظر إليه لحظة وقال:
- أتعرف أن وضعيتك هذه تذكرني بقصة مشهورة لكاتب إنجليزي، عنوانها "مدينة العميان" وموضوعها باختصار أن رجلاً هام على وجهه في منطقة عذراء لم يصل إليها مستكشف، فعثر على مدينة كل سكانها عميان. وحين دخل المدينة وأعلن لهم أنه مُبصرٌ، وأن هناك حاسة إبصار، وأن هناك سماء وشمساً وليلاً ونهاراً، وأن المدينة ليست مسقفة بسقف علوه ست قامات، كما يعتقدون، قبضوا عليه بتهمة مخالفة التقاليد والعقائد الموروثة، وخيروه بين أن يفقأوا عينيه حتى يصبح أعمى مثلهم، أو يغادر المدينة. ورغم أنه كان وقع في حب أجمل فتاة هناك وكان يريد الزواج بها، فقد فضل الخروج من دفء المدينة إلى برد الأصقاع الموحشة. فضل أن يموت مبصراً على أن يعيش أعمى. هل تجد مقارنة بين بطل القصة وبينك؟
وانشرح وجه الفتى، ونظر بإعجاب إلى الدكتور نادر، وقال:
- إذن المسألة دورية، أعني أن الإنسانية كلها تقع على وجهها من حين لآخر، وتحتاج إلى أنبياء لإيقافها على رجليها!
وحرك الدكتور رأسه موافقاً، وأضاف الفتى:
- وماذا ينبغي أن يفعل البصراء؟ ماذا يكون مصير الإنسانية لو أن كل من أبصر غادر مدينة العميان دون أن يحاول فتح عيون أهلها؟
ورد الدكتور:
- هناك اعتبارات تقلل من أهمية الإبصار. مثل ظروف قومك، أ
#الجزء_السادس
15-
وتوجه الاثنان إلى خيمة بين المضارب. والتفت الشيخ إلى الدكتور نادر وقال:
- هل تريد أن تنفرد به أم تريدني حاضراً؟
- الأحسن أن أنفرد به. سوف يشعر بحرية أكثر مع غريب مثلي فيفضي بذات نفسه.
وعلى باب الخيمة نادى الشيخ باسم امرأة، فخرجت زوجته والدموع في عينيها، ونظرت إلى زوجها متوسلة إليه ألا يعذبه، فلم ينظر إليها، بل أشار للدكتور أن يدخل.
ورفع هذا ستار الخيمة وسلم ودخل، فإذا بشاب في حوالي العشرين، طويل الشعر، نحيفٍ، حاد النظرات. وحين رأى الدكتور نادر سمر فيه عينيه ولم يُردَّ التحية.
قال الدكتور:
- "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها." وقد قلت السلام عليكم!
- من أنت؟ وماذا تريد؟
- اسمي نادر. علي نادر.
- من أين جئت؟
وابتسم الدكتور وهو يقول:
- سقطت من السماء! هل تصدق ذلك؟
- هل تريدني أن أضحك؟!
- أريد أن أقول لك إنني جئت لأتحدث إليك، وأنك لا ينبغي أن تخاف مني. لقد أقنعت والدك بأن العنف والضغط لا يخلقان إلا الحنق والتمرد. وهو يعتقد أنك خرجت عن الجماعة، وأصبحت ملحداً منذ عودتك من فاس. هل هذا صحيح؟
وسكت الشاب. وتقدم الدكتور نادر منه، فلاحظ السلاسل، فعاد إلى خارج الخيمة ونادى الشيخ:
- مولانا. هل تسمح لي بمفاتيح القيد؟ أعتقد أن فكه سيكون عربوناً على حسن النية والرغبة في التفهم.
وأعطاه الشيخ المفتاح، فعاد إلى الخيمة، وفك القيد عن ساقي الشاب ويديه، ورمى به في جنب الخيمة قائلاً:
- أرجو حين أخرج من هذه الخيمة أن آخذ ذلك القيد لأرمي به في زريبة البهائم! والآن أرجو أن تصدق أني هنا لأساعدك على فهم والدك، وأساعده على فهمك. فقد كنت مرة شاباً في مثل سنك، وكان لي أب مثل أبيك. أنا أعيش في القرن العشرين، وهو في العصر الجاهلي، وما أجده أنا من المسلمات التي لا تحتاج إلى مناقشة، يجدها هو كفراً وإلحاداً.وبدأ وجه الفتى يتغير، ويبدو عليه الاهتمام والاستجابة. واستأنف الدكتور:
- أتعرف أن أبي ما يزال يعتقد أن الأرض مسطحة؟ ولو أخذته في طائرة ودرت به الأرض لحرك رأسه وقال: "والأرض بساط" و"الأرض دحاها" و"جعلنا الأرض مهادا" صدق الله العظيم! وحين كبرت بدأت أفهم أن عقلية الإنسان تتحجر حين يبلغ سناً معينة، ولا تبقى لينة تتقبل الأفكار الجديدة، كما كانت حين كانوا صغاراً في مثل سنك. وسوف تكبر أنت ويصعب عليك أن تتنازل عن أفكار كثيرة آمنت بها في شبابك!
ونظر الفتى إلى الدكتور، وتكلم لأول مرة متأثراً:
- حين أصبح مثل هؤلاء سأقتل نفسي!
- بالعكس، تذكر ما قاله المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ونظر الفتى إلى الأرض، وقال:
- أحياناً أتمنى لو لم يكن والدي بعث بي إلى فاس، لكنت هنا واحداً منهم، أُومنُ بما يؤمنون به، أقول بسطحية الأرض، وأرقص على الأذكار، وأنتظر المهدي المنتظر، وأمجد مولاي عبد القادر الجيلالي، لكنت أسعد مما أنا!
قال الدكتور: هل من أجل خلافك معهم في هذا وضعك والدك في القيود؟
- قلت لهم أن يعودوا إلى الله، لا يمكن أن تصدق ما يملأ عقول هؤلاء الناس من وثنية وشعوذة. كلمة الله لم تعد شيئاً بالنسبة إليهم. إنهم لا يرونه. وقد ارتدوا في وثنية الجاهلية الأولى، فخلقوا الأضرحة والأولياء وعلقوا التمائم والxxxxب حول أعناقهم. وتوجه النساء نحو الحجارة فطلوها بالجير وقدسوها، وإلى الأشجار فعلقوا عليها قطعاً من ملابسهم بدرجة مخجلة. حين قرأت عن المجتمع الجاهلي قبل الإسلام لم أجد فرقاً بينه وبين هذا. وشعرت بالرغبة في دعوة قومي إلى الإسلام والعودة إلى الله. وليتني لم أفعل. ليتني بقيت أعمى مثلهم!
- أبداً، يا ولدي! لقد أنعم الله عليك بالبصيرة! ولن ترضى بها بديلاً.
ونظر إليه لحظة وقال:
- أتعرف أن وضعيتك هذه تذكرني بقصة مشهورة لكاتب إنجليزي، عنوانها "مدينة العميان" وموضوعها باختصار أن رجلاً هام على وجهه في منطقة عذراء لم يصل إليها مستكشف، فعثر على مدينة كل سكانها عميان. وحين دخل المدينة وأعلن لهم أنه مُبصرٌ، وأن هناك حاسة إبصار، وأن هناك سماء وشمساً وليلاً ونهاراً، وأن المدينة ليست مسقفة بسقف علوه ست قامات، كما يعتقدون، قبضوا عليه بتهمة مخالفة التقاليد والعقائد الموروثة، وخيروه بين أن يفقأوا عينيه حتى يصبح أعمى مثلهم، أو يغادر المدينة. ورغم أنه كان وقع في حب أجمل فتاة هناك وكان يريد الزواج بها، فقد فضل الخروج من دفء المدينة إلى برد الأصقاع الموحشة. فضل أن يموت مبصراً على أن يعيش أعمى. هل تجد مقارنة بين بطل القصة وبينك؟
وانشرح وجه الفتى، ونظر بإعجاب إلى الدكتور نادر، وقال:
- إذن المسألة دورية، أعني أن الإنسانية كلها تقع على وجهها من حين لآخر، وتحتاج إلى أنبياء لإيقافها على رجليها!
وحرك الدكتور رأسه موافقاً، وأضاف الفتى:
- وماذا ينبغي أن يفعل البصراء؟ ماذا يكون مصير الإنسانية لو أن كل من أبصر غادر مدينة العميان دون أن يحاول فتح عيون أهلها؟
ورد الدكتور:
- هناك اعتبارات تقلل من أهمية الإبصار. مثل ظروف قومك، أ
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_السابع
واستيقظ الدكتور نادر من حلم غريب رأى نفسه خلاله في ركن حمام بخاري ساخن، تتصاعد الأبخرة من أرضه الرخامية، وقد وقف عدد من الرجال حليقي الرؤوس، رافعي الأيدي والأوجه إلى السماء بالدعاء والاستغفار. وتلاشت الجدران من حوله، وتكاثر عدد الرجال، واتسعت القاعة حتى لم تعد لها حدود.. ووقف هو في ركن مظلم يحاول اختراق الطوفان البشري للخروج منه دون جدوى.
وانحبست أنفاسه، وأحس بالضيق حتى كاد ينفجر.. وحينئذ فتح عينيه ليجد نفسه في الخيمة متكئاً إلى جوف الصخرة، وقد تصبب العرق من جميع مسام جلده.
وفتح عينيه لينظر حوله. وبعد لحظة من استرجاع الذاكرة تبين أنه في الواحة وأن الوقت ضحى والشمس حامية اللهب.
كانت تاج قد سبقته إلى البئر، فعلقت عباءتها على مدخله حتى يعرف أنها هناك، لتستحم من دلو الماء بارد وتستلذ كل قطرة منه تقع على وجهها وعينيها ورأسها ونهديها، وتتنفس بعمق وانتعاش...
ووضعت الدول على حافة البئر، ووقفعت على الصخرة الملساء تنظر إلى قطرات الماء تترقرق ، لتستقر في البركة المتجمعة على الصخرة. وخطر لها أن تنظر إلى نفسها في صفحة الماء، فقد اشتاقت غريزتها الأنثوية إلى النظر في مرآة...
وبينما هي كذلك، إذ خامرها إحساس غريب بأن أحداً يراقبهاا...
ونظرت حواليها من خلال سعف النخيل، فإذا رجل صحراوي ذو عباءة وعمامة زرقاوين، لا تبدو من وجهه إلا عيناه الثاقبتان ينظر إليها دون حركة.
وأطلقت شهقة، وهمت بالفرار، فانقض الرجل عليها كالفهد، وطوق خصرها بيمناه وأقفل فمها بيسراه، وجذبها نحو زرب النخيل قائلاً:
- لا تخافي! لا حاجة بك إلى إيقاظه. هل تذكرينني؟ أنا الذي رأيتك حين جئت للقافلة، ومن ثم عشقتك. وقلت في نفسي لا يمكن أن أعيش بدونك! وقد انفصلت عن القافلة وعدت لآخذك.
واستطاعت تاج أن تعض كفه وتصرخ:
- علي! علي!
ولكنه بادرها بإقفال فمها بإدخال حافة يده فيه بقوة بحيث لا تستطيع إقفاله وسمع الدكتور نادر صرختها فخرج من الخيمة مسرعاً ينادي:
- تاج! تاج! أين أنت!؟
ولما لم تجب، قصد البئر حيث خيل إليه أن الصوت جاء من تلك الناحية. وعلى باب البئر رأى عباءتها، فوقف يتسمع وينادي بصوت خفيض.
- تاج! تاج! أنت هنا؟
وحين لم تجب أزاح العباءة وهم بالدخول. وقبل أن يدرك الموقف، أطلق عليه البدوي نار مسدسه فاندفع بقوة هائلة إلى الوراء، ووقع على ظهره فوق حقف رمل، والدم يفور من ثقب رصاصة في صدره...
وأطلق الرجل سراح تاج فقفزت نحو العباءة بسرعة، ثم أسرعت نحو الدكتور نادر، فأمسكت بوجهه بين يديها وحركته وهي تصرخ فيه:
- علي! علي! لا تمت، أرجوك! لن أغفر لنفسي موتك ما حييت!
ثم أمسكت بكوعه وتحسست نبضه، وانحنت فوضعت أذنها اليمنى على صدره منصتة إلى دقات قلبه. ثم انهارت على جسده تبكي بدموع غزيرة.
وأحست بالرجل الملثم يقف وراءها، وقد ركز المسدس في حزامه، فالتفتت إليه وقد تحول حزنها إلى غضب، فصرخت في وجهه:
- أرأيت ما فعلت؟ قتلته أيها المجرم..! قتلت رجلاً لا يعوض بمليون من أمثالك أيها الحيوان!
ووقفت مواجهة له تلعنه وتدق علي صدره بكلتي يديها في هسترية عنيفة لم توقظها منها إلا صفعة قوية من يده الخشنة على خدها. فسكتت وقد اصفر وجهها ونزل عليها حزن ثقيل.
واقتادها الرجل من يدها نحو الكهف صامتاً....
وعلى بابه دفعها فألقاها على الأرض داخله، ووقف عند قدميها . وظهر وجهه كاملاً كأنه منحوت نحاسي أو برونزي إلا ما كان من النظرة الحادة البارقة في عينيه...
وحينئذ فقط أحست تاج بالخطر... فدق قلبها بعنف، وبدأت تردد بداخلها كلمة لم تكن رددتها منذ دخولها الجامعة.
- يا إلهي! يا إلهي!
وانحنى الرجل عليها، فأمسك بصدر العباءة وشقها حتى النهاية، وأخرجها منها كما تخرج الموزة من قشرها...
ومر شريط سريع في مخيلها لينذرها: "لا تقاومي.. استرخي تماماً... لا تتوتري حتى لا يمزق الوحش... استسلمي فتلك أفضل طريقة لمقاومة الاغتصاب!".
كان الاغتصاب أشنع شيء يمكن أن تتصوره العذراء... ولم يكن يُخفيها الموت بقدر ما كان يخفيها أن يمزق جسمها وحش بشري...
ورمى هو عباءته بركن الخيمة، وركز عينيه المتوقدتين عليها، فأحست بالضعف الشديد وأغمي عليها...
وحين أفاقت أحست بضيق كبير، وأن حملاً كبيراً يثقل جسدها. وفتحت عينيها لتجد وجه الرجل على وجهها ساكناً لا يتحرك، وعينيه مفتوحتين بدون بريق حياة.
وارتعدت فرائضها! وبدون أن تدري انسحبت من تحت الجثة الباردة، وتركتها تقع على الأرض. وزحفت على يديها وركبتيها خارجة من الخيمة وقد لامس الرعب قلبها بقبضة باردة.
وركضت نحو البئر حيث كان الدكتور نادر يتخبط في دمه.
#الجزء_السابع
واستيقظ الدكتور نادر من حلم غريب رأى نفسه خلاله في ركن حمام بخاري ساخن، تتصاعد الأبخرة من أرضه الرخامية، وقد وقف عدد من الرجال حليقي الرؤوس، رافعي الأيدي والأوجه إلى السماء بالدعاء والاستغفار. وتلاشت الجدران من حوله، وتكاثر عدد الرجال، واتسعت القاعة حتى لم تعد لها حدود.. ووقف هو في ركن مظلم يحاول اختراق الطوفان البشري للخروج منه دون جدوى.
وانحبست أنفاسه، وأحس بالضيق حتى كاد ينفجر.. وحينئذ فتح عينيه ليجد نفسه في الخيمة متكئاً إلى جوف الصخرة، وقد تصبب العرق من جميع مسام جلده.
وفتح عينيه لينظر حوله. وبعد لحظة من استرجاع الذاكرة تبين أنه في الواحة وأن الوقت ضحى والشمس حامية اللهب.
كانت تاج قد سبقته إلى البئر، فعلقت عباءتها على مدخله حتى يعرف أنها هناك، لتستحم من دلو الماء بارد وتستلذ كل قطرة منه تقع على وجهها وعينيها ورأسها ونهديها، وتتنفس بعمق وانتعاش...
ووضعت الدول على حافة البئر، ووقفعت على الصخرة الملساء تنظر إلى قطرات الماء تترقرق ، لتستقر في البركة المتجمعة على الصخرة. وخطر لها أن تنظر إلى نفسها في صفحة الماء، فقد اشتاقت غريزتها الأنثوية إلى النظر في مرآة...
وبينما هي كذلك، إذ خامرها إحساس غريب بأن أحداً يراقبهاا...
ونظرت حواليها من خلال سعف النخيل، فإذا رجل صحراوي ذو عباءة وعمامة زرقاوين، لا تبدو من وجهه إلا عيناه الثاقبتان ينظر إليها دون حركة.
وأطلقت شهقة، وهمت بالفرار، فانقض الرجل عليها كالفهد، وطوق خصرها بيمناه وأقفل فمها بيسراه، وجذبها نحو زرب النخيل قائلاً:
- لا تخافي! لا حاجة بك إلى إيقاظه. هل تذكرينني؟ أنا الذي رأيتك حين جئت للقافلة، ومن ثم عشقتك. وقلت في نفسي لا يمكن أن أعيش بدونك! وقد انفصلت عن القافلة وعدت لآخذك.
واستطاعت تاج أن تعض كفه وتصرخ:
- علي! علي!
ولكنه بادرها بإقفال فمها بإدخال حافة يده فيه بقوة بحيث لا تستطيع إقفاله وسمع الدكتور نادر صرختها فخرج من الخيمة مسرعاً ينادي:
- تاج! تاج! أين أنت!؟
ولما لم تجب، قصد البئر حيث خيل إليه أن الصوت جاء من تلك الناحية. وعلى باب البئر رأى عباءتها، فوقف يتسمع وينادي بصوت خفيض.
- تاج! تاج! أنت هنا؟
وحين لم تجب أزاح العباءة وهم بالدخول. وقبل أن يدرك الموقف، أطلق عليه البدوي نار مسدسه فاندفع بقوة هائلة إلى الوراء، ووقع على ظهره فوق حقف رمل، والدم يفور من ثقب رصاصة في صدره...
وأطلق الرجل سراح تاج فقفزت نحو العباءة بسرعة، ثم أسرعت نحو الدكتور نادر، فأمسكت بوجهه بين يديها وحركته وهي تصرخ فيه:
- علي! علي! لا تمت، أرجوك! لن أغفر لنفسي موتك ما حييت!
ثم أمسكت بكوعه وتحسست نبضه، وانحنت فوضعت أذنها اليمنى على صدره منصتة إلى دقات قلبه. ثم انهارت على جسده تبكي بدموع غزيرة.
وأحست بالرجل الملثم يقف وراءها، وقد ركز المسدس في حزامه، فالتفتت إليه وقد تحول حزنها إلى غضب، فصرخت في وجهه:
- أرأيت ما فعلت؟ قتلته أيها المجرم..! قتلت رجلاً لا يعوض بمليون من أمثالك أيها الحيوان!
ووقفت مواجهة له تلعنه وتدق علي صدره بكلتي يديها في هسترية عنيفة لم توقظها منها إلا صفعة قوية من يده الخشنة على خدها. فسكتت وقد اصفر وجهها ونزل عليها حزن ثقيل.
واقتادها الرجل من يدها نحو الكهف صامتاً....
وعلى بابه دفعها فألقاها على الأرض داخله، ووقف عند قدميها . وظهر وجهه كاملاً كأنه منحوت نحاسي أو برونزي إلا ما كان من النظرة الحادة البارقة في عينيه...
وحينئذ فقط أحست تاج بالخطر... فدق قلبها بعنف، وبدأت تردد بداخلها كلمة لم تكن رددتها منذ دخولها الجامعة.
- يا إلهي! يا إلهي!
وانحنى الرجل عليها، فأمسك بصدر العباءة وشقها حتى النهاية، وأخرجها منها كما تخرج الموزة من قشرها...
ومر شريط سريع في مخيلها لينذرها: "لا تقاومي.. استرخي تماماً... لا تتوتري حتى لا يمزق الوحش... استسلمي فتلك أفضل طريقة لمقاومة الاغتصاب!".
كان الاغتصاب أشنع شيء يمكن أن تتصوره العذراء... ولم يكن يُخفيها الموت بقدر ما كان يخفيها أن يمزق جسمها وحش بشري...
ورمى هو عباءته بركن الخيمة، وركز عينيه المتوقدتين عليها، فأحست بالضعف الشديد وأغمي عليها...
وحين أفاقت أحست بضيق كبير، وأن حملاً كبيراً يثقل جسدها. وفتحت عينيها لتجد وجه الرجل على وجهها ساكناً لا يتحرك، وعينيه مفتوحتين بدون بريق حياة.
وارتعدت فرائضها! وبدون أن تدري انسحبت من تحت الجثة الباردة، وتركتها تقع على الأرض. وزحفت على يديها وركبتيها خارجة من الخيمة وقد لامس الرعب قلبها بقبضة باردة.
وركضت نحو البئر حيث كان الدكتور نادر يتخبط في دمه.
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الثامن
ولاح وجه رجل في ملابس طبية بيضاء على لوح زجاجي معلق أمام سرير الدكتور نادر. ونظر الرجل إلى نادر نظرة فاحصة ثم قال:
- كاثي.
- نعم يا دكتور.
- كيف مريضك؟
- في حالة حسنة.
- أنا قادم الآن.
واختفى الوجه من الشاشة الزجاجية. وبعد بعض لحظات انفتح باب في جانب الغرفة المستديرة، ودخل نفس الرجل. كانت في وجههى الأسمر الوسيم ابتسامة مشجعة. وسعى نحو الدكتور نادر بخطوات واسعة، ويده مبسوطة بالتحية، وصافحة وهو يضغط على أحد أزرار بلوح السرير، ليرفع نصفه الأعلى. وبادره الدكتور نادر:
- أين أنا يا دكتور؟
- ستعرف قريباً. لا تدع ذلك يقلقك، مهمتي هي إرجاعك إلى الصحة التامة.
ونظر إلى ساعته وهو يجسُّ نبضه، ثم وضع السماعة على صدره وظهره، وضرب بأصابعه هنا وهناك، وضغط على زر آخر ونظر إلى الشاشة الناصعة التي ارتسمت عليها خطوط متعددة الألوان. ثم أعاد نظارته إلى جيبه، وقال:
- لقد أصبح شفاؤك كاملاً! عليك الآن أن تستريح لتسترجع وزنك العادي ونشاطك وسوف تقوم كاثي بالإشراف المباشر عليك طوال فترة النقاهة.
وفي عصر ذلك اليوم استيقظ الدكتور نادر من قيلولته، فأحس بنشاط كبير وصحة متجددة. وجاءته كاثي بقهوة وبعض الحلويات، وجلست تشاركه أكلته المسائية.
ورن جرس موسيقي خافت، فضغطت كاثي على احد الأزرار إلى جانب السرير، وقالت شيئاً ثم عادت إلى ضغطه مرة أخرى، ثم التفتت إلى نادر قائلة:
- المفاجأة التي وعدك بها الدكتورمورينو، هل أنت مستعد؟
وخفق قلبه معتقداً أنها تاج...
وانفتح الباب، فدخل رجل طويل على عينيه نظارة ذهبية الإطار وابتسامة مألوفة لدى الدكتور نادر. ولم يكد هذا يصدق عينيه، فاعتدل في جلسته، ومد كلتي يديه للترحيب بزائره.
- الدكتور هالن... إيريك هالن!
ووضع الرجل يديه في يدي الدكتور نادر، وضغطهما بحرارة، وهو يقعد على كرسي إلى جانب السرير.
- علي، كيف أنت الآن؟
- أنا بخير... هذا الصباح قال الطبيب أنني شفيت تماماً... ولكن من أي مرض؟ لا أدري! قالت لي الممرضة أنني أصبت بالإشعاع كيف؟ لا أحد يريد الإجابة عن أسئلتي. وأنت؟ متى عدت إلى الظهور؟ لقد أثار اختفاؤك ضجة عالمية!
وأجاب الدكتور هالن:
- ستعرف كل شيء في حينه. أعرف أن برأسك ألف سؤال تريد الجواب عليها... وعندما تعرف أين أنت ستتوالد الأسئلة لتصبح ملايين.
- لقد أيقظت فضولي بغموضك.. وإذا كنت تخاف أن تفاجئني أو تصدمني بما سوف تقوله فلا تقلق.. لقد مررت خلال الأيام القلائل الماضية بتجربة عمر كامل... ولم يعد هناك ما يفاجئني..ومسح الدكتور هالن نظارته، ووضعها على عينيه، ونظر إلى نادر بتأمل صامت. ثم لَعَقَ شفتيه بلسانه، وقال ساهماً بعينيه في الفراغ:
- من أين سأبدأ؟ أعتقد أن البداية أحسن نقطة... وينبغي أن أنبهك إلى أن ما سأقوله شيء غير عادي... ولكنه حقيقة لا خيال فيها، وإن كانت أشبه ما تكون بالخيال...
وفتحت هذه المقدمة شهية الدكتور نادر، فأمسك بطرفي اللحاف في توقع متوتر. واستأنف الدكتور هالن:
- سألتني متى عدت للظهور، في الحقيقة أنا لم أظهر، بل أنت الذي اختفيت. اختفيت بنفس الطريقة التي اختفيت بها أنا من الطائرة بين نيويورك والمغرب...
وفتح الدكتور نادر فمه ليسأل، فاستوقفه الدكتور هالن بحركة من يده.
- تم الاختفاء بالتعاون مع الطيار والملاح المنتميين للهيأة التي أنت ضيف عليها الآن. تنزل الطائرة إلى ارتفاع مناسب يقل معه الضغط الجوي، ويلقى بك منها بمظلة ليلتقطك أعوان الهيأة في نقطة معينة بالبحر أو الصحراءfأبدأ. وتتم العملية تحت تخدير شامل لبقية الركاب.
- كان ينبغي أن تسمع الضجة التي قامت حول اختفائك بلندن! كان لها نفع مباشر لناشر كتبك، فقد اختفت كلها من السوق، والمطابع تحسك ضلوعها لتجيب رغبة الجمهور الجائع لأخبارك وأفكارك.
- وما هي هذه الهيأة التي لها كل هذه القوة؟ وما هو قصدك من اختطافي أنا؟
فلست خبيراً في الإشعاع ولا أي علم مربح تجارياً.
- سأشرح لك. منذ بعض وعشرين سنة، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قررت هيأة من العلماء الفرار بمواهبهم وبحوثهم من أوربا إلى مكان مجهول يدفنون فيه كنزر نتاج العقل البشري وتراث الإنسان منذ بدأ يقلب وجهه في السماء.. كان خوفهم حقيقياً من قيام حرب ثالثة ذرية تمسح البشرية من الأرض وتقضي على خمسة آلاف سنة من الكدح العقلي.. فوقع اختيارهم على جبل في جوف واد شاسع بقلب الصحراء بعيد عن كل طريق، أطلقوا عيه اسم جبل الجودي.وبقي اتصالهم بالعالم الخارجي دائماً بطرق معقدة للحصول على المجلدات المهمة والسجلات القيمة والأشرطة الموسيقية والسينمائية التي تسجل حياة الإنسان وذخائر مواهبه. وبالتقدم السريع الذي حدث في العشرين سنة الأخيرة أمكن فيها إلى حد بعيد. وكبر المشروع ومعه الهيأة. وتم استقدام عدد كبير من العلماء الرواد في ميادينهم، والفنانين والأدباء والصناع المهرة في جميع المهن. وينبغي أن أعترف أن استقدام بعض أولئك لم يكن بالطرق التقليدية...
وابتسم وهو يشير للدكتور نادر ولنف
سه ويقول:
- م
#الجزء_الثامن
ولاح وجه رجل في ملابس طبية بيضاء على لوح زجاجي معلق أمام سرير الدكتور نادر. ونظر الرجل إلى نادر نظرة فاحصة ثم قال:
- كاثي.
- نعم يا دكتور.
- كيف مريضك؟
- في حالة حسنة.
- أنا قادم الآن.
واختفى الوجه من الشاشة الزجاجية. وبعد بعض لحظات انفتح باب في جانب الغرفة المستديرة، ودخل نفس الرجل. كانت في وجههى الأسمر الوسيم ابتسامة مشجعة. وسعى نحو الدكتور نادر بخطوات واسعة، ويده مبسوطة بالتحية، وصافحة وهو يضغط على أحد أزرار بلوح السرير، ليرفع نصفه الأعلى. وبادره الدكتور نادر:
- أين أنا يا دكتور؟
- ستعرف قريباً. لا تدع ذلك يقلقك، مهمتي هي إرجاعك إلى الصحة التامة.
ونظر إلى ساعته وهو يجسُّ نبضه، ثم وضع السماعة على صدره وظهره، وضرب بأصابعه هنا وهناك، وضغط على زر آخر ونظر إلى الشاشة الناصعة التي ارتسمت عليها خطوط متعددة الألوان. ثم أعاد نظارته إلى جيبه، وقال:
- لقد أصبح شفاؤك كاملاً! عليك الآن أن تستريح لتسترجع وزنك العادي ونشاطك وسوف تقوم كاثي بالإشراف المباشر عليك طوال فترة النقاهة.
وفي عصر ذلك اليوم استيقظ الدكتور نادر من قيلولته، فأحس بنشاط كبير وصحة متجددة. وجاءته كاثي بقهوة وبعض الحلويات، وجلست تشاركه أكلته المسائية.
ورن جرس موسيقي خافت، فضغطت كاثي على احد الأزرار إلى جانب السرير، وقالت شيئاً ثم عادت إلى ضغطه مرة أخرى، ثم التفتت إلى نادر قائلة:
- المفاجأة التي وعدك بها الدكتورمورينو، هل أنت مستعد؟
وخفق قلبه معتقداً أنها تاج...
وانفتح الباب، فدخل رجل طويل على عينيه نظارة ذهبية الإطار وابتسامة مألوفة لدى الدكتور نادر. ولم يكد هذا يصدق عينيه، فاعتدل في جلسته، ومد كلتي يديه للترحيب بزائره.
- الدكتور هالن... إيريك هالن!
ووضع الرجل يديه في يدي الدكتور نادر، وضغطهما بحرارة، وهو يقعد على كرسي إلى جانب السرير.
- علي، كيف أنت الآن؟
- أنا بخير... هذا الصباح قال الطبيب أنني شفيت تماماً... ولكن من أي مرض؟ لا أدري! قالت لي الممرضة أنني أصبت بالإشعاع كيف؟ لا أحد يريد الإجابة عن أسئلتي. وأنت؟ متى عدت إلى الظهور؟ لقد أثار اختفاؤك ضجة عالمية!
وأجاب الدكتور هالن:
- ستعرف كل شيء في حينه. أعرف أن برأسك ألف سؤال تريد الجواب عليها... وعندما تعرف أين أنت ستتوالد الأسئلة لتصبح ملايين.
- لقد أيقظت فضولي بغموضك.. وإذا كنت تخاف أن تفاجئني أو تصدمني بما سوف تقوله فلا تقلق.. لقد مررت خلال الأيام القلائل الماضية بتجربة عمر كامل... ولم يعد هناك ما يفاجئني..ومسح الدكتور هالن نظارته، ووضعها على عينيه، ونظر إلى نادر بتأمل صامت. ثم لَعَقَ شفتيه بلسانه، وقال ساهماً بعينيه في الفراغ:
- من أين سأبدأ؟ أعتقد أن البداية أحسن نقطة... وينبغي أن أنبهك إلى أن ما سأقوله شيء غير عادي... ولكنه حقيقة لا خيال فيها، وإن كانت أشبه ما تكون بالخيال...
وفتحت هذه المقدمة شهية الدكتور نادر، فأمسك بطرفي اللحاف في توقع متوتر. واستأنف الدكتور هالن:
- سألتني متى عدت للظهور، في الحقيقة أنا لم أظهر، بل أنت الذي اختفيت. اختفيت بنفس الطريقة التي اختفيت بها أنا من الطائرة بين نيويورك والمغرب...
وفتح الدكتور نادر فمه ليسأل، فاستوقفه الدكتور هالن بحركة من يده.
- تم الاختفاء بالتعاون مع الطيار والملاح المنتميين للهيأة التي أنت ضيف عليها الآن. تنزل الطائرة إلى ارتفاع مناسب يقل معه الضغط الجوي، ويلقى بك منها بمظلة ليلتقطك أعوان الهيأة في نقطة معينة بالبحر أو الصحراءfأبدأ. وتتم العملية تحت تخدير شامل لبقية الركاب.
- كان ينبغي أن تسمع الضجة التي قامت حول اختفائك بلندن! كان لها نفع مباشر لناشر كتبك، فقد اختفت كلها من السوق، والمطابع تحسك ضلوعها لتجيب رغبة الجمهور الجائع لأخبارك وأفكارك.
- وما هي هذه الهيأة التي لها كل هذه القوة؟ وما هو قصدك من اختطافي أنا؟
فلست خبيراً في الإشعاع ولا أي علم مربح تجارياً.
- سأشرح لك. منذ بعض وعشرين سنة، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قررت هيأة من العلماء الفرار بمواهبهم وبحوثهم من أوربا إلى مكان مجهول يدفنون فيه كنزر نتاج العقل البشري وتراث الإنسان منذ بدأ يقلب وجهه في السماء.. كان خوفهم حقيقياً من قيام حرب ثالثة ذرية تمسح البشرية من الأرض وتقضي على خمسة آلاف سنة من الكدح العقلي.. فوقع اختيارهم على جبل في جوف واد شاسع بقلب الصحراء بعيد عن كل طريق، أطلقوا عيه اسم جبل الجودي.وبقي اتصالهم بالعالم الخارجي دائماً بطرق معقدة للحصول على المجلدات المهمة والسجلات القيمة والأشرطة الموسيقية والسينمائية التي تسجل حياة الإنسان وذخائر مواهبه. وبالتقدم السريع الذي حدث في العشرين سنة الأخيرة أمكن فيها إلى حد بعيد. وكبر المشروع ومعه الهيأة. وتم استقدام عدد كبير من العلماء الرواد في ميادينهم، والفنانين والأدباء والصناع المهرة في جميع المهن. وينبغي أن أعترف أن استقدام بعض أولئك لم يكن بالطرق التقليدية...
وابتسم وهو يشير للدكتور نادر ولنف
سه ويقول:
- م
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_التاسع
استيقظ الدكتور نادر مبكراً في الصباح الموالي. فتح عينيه داخل الغرفة البلورية المضاءة بأشعة زرقاء ناعمة فوجد نفسه على حافة الفراش الواسع. والتفت يميناً ليجد "كاثي"
وكأنما أحست أن أحداً يراقبها، ففتحت عينيها الواسعتين، وابتسمت دون أن تتكلم، ومدت يدها نحوه فوضع عليها يده. قالت:
- كيف أصبحت؟
- بخير.
- أصابك كابوس مزعج، هل تتذكر شيئاً؟
- لا.
- أضطررتُ إلى إعطائك مسكناً حتى تكف عن الاستغاثة والارتعاش. كنت تسبح في العرق..
- غريب، لم أتذكر شيئاً!
ونهض من الفراش فوجد نفسه قادراً على الحركة دون ضعف. ودخل الحمام فاغتسل وحلق. وحين خرج كانت "كاثي" تنتظره بسلة في يديها. قالت:
- سنفطر في الهواء الطلق..
- فكرة حسنة.
وناولته قميصاً أبيض وبنطلوناً فارتداهما، وتبعها خارج الغرفة. انقفل الباب خلفهما آلياً فنظر الدكتور نادر حواليه ليرى ممراً طويلاً كأنبوب زجاجي لماع أضواؤه مدفونة في حيطانه كأنهار من سائل الفسفور.
وأدهشه المنظر الرائع الذي وجد نفسه أمامه.. بحيرة واسعة زرقاء يحيط بها الأرز والسنديان، وحولها شواطىء رملية أنيقة وصخور بيضاء عالية تلقي على الرمال الذهبية ظلالها الكثيفة.
ونزع حذاءه وانطلق نحو الرمل. ثم رفع قميصه وخاض الماء فأنعشته برودته. والتفت إلى كاثي:
- هذه مفاجأة سارة!
- هذه أرض المفاجآت..
- أين يقع "الجودي" بالضبط؟ لاداعي للغموض الآن. فقد قال لي الدكتور هالن كل شيء..
ودخلت كاثي معه الماء وأمسكت بيده. ونظرت إليه:
- أنت واقف فوقه!
- وأين المدينة الصاخبة وآلاف العلماء الذين تحدث عنهم هالن؟
أشارت بعينها إلى البحيرة.
- تحت تلك الصخرة يوجد عالم بأسره.. عالم في "كبسول" مصغر... يمكنك أن تسميه "جينا" حضارياً أو خليةً حية تحتوي على جميع خصائص الإنسان الذي يعمر الأرض الآن.. ولو مسحت حرب ذرية الوجود البشري بكامله اليوم، لاستطاع ما في قلب أن يعيد الحياة من جديد.. لنا وسائل مكافحة الإشعاع، وإرجاع الوظائف الطبيعية إلى النبات، والخصب للتربة، والنقاء للماء والهواء...ولنا القدرة على إعمار الأرض من جديد.. إلا أن الإنسانية القادمة ستكون أكثر انتظاماً، وأقدر على تركيز عبقريتها على الحياة بدل الخراب والموت.
ونظر الدكتور نادر إلى عينيها المتوقدتين حماساً، ثم وضع ذراعه حول كتفيها، وضمها إليه برفق وإعجاب:
- أرجو ألا يكون ما تقولينه من صنع الخيال..
- كل المشاريع العظيمة كانت من صنع الخيال... ولكن "جبل الجودي" حقيقة واقعه. وسوف ترين بنفسك... وهبت نسمة عليلة جعدت وجه البحيرة. وداعبت وجه نادر وعبثت بخصلات من شعر كاثي الحريري. واستنشق الاثنان ملء رئتيهما منه، قال نادر:
- آه! هذه هي الحياة.. لو بقيت هنا شهراً واحداً فسأضمن نقاء رئتي من سخام لندن!
وضحكت كاثي وقالت:
- ولو بقيت هنا أكثر لضمنت نقاء عقلك من فوضى العالم الخارجي!
وابتسم الدكتور نادر ثم قال:
- أنا جائع...
- لنفطر إذن.
وخرجا من البحيرة إلى حيث كانت كاثي قد فرشت إزاراً ووضعت عليه أواني الفطور فجلسا متقابلين..وشرد ذهن الدكتور نادر، وقد عادت إليه ذكريات تاج، فتجهم وجهه وكف عن الحديث..
في لمحة بارقة عبرت خياله صورة تاج قاعدة أمامه تحت نخلة., ورأى في عينيها السوداوين نظرة عتاب على نسيانه لها، واستمتاعه بممرضته الجديدة...
وقرأت كاثي ما يجول بخاطره، فأخرجته من غفوته الحزينة بقولها:
- أرجو أن تتماثل تاج للشفاء قريباً...
وأشاح عنها بوجهه وهو يحاول مقاومة شعوره، فأضافت:
- كن على يقين أنها تحظى بعناية أمهر أطباء الإشعاع. الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون القيام به هو تحويل الرماد إلى مادته الأصلية..
وبعد لحظة صمت قالت مغيرة الموضوع:
- سيأتي رئيس مبرمجي القطاع الأنثروبولوجي للترحيب بك رسمياً على جبل الجودي وسيأخذك للفطور مع فرقته لتتعرف عليها، وتعرف مدى التقدم الذي حدث في ميدانك.
- هل سيكون الدكتور إيريك هالن هناك؟
- لا، ستراه بعد الظهر.
واستمرت تسرد عليه جدول أعماله للأسبوع القادم، وهو يستمع دون إنصات..
وبعد نهاية الفطور، جمعت الأواني في سلتها، وفتحت باباً في صخرة وضعت السلة بداخله حيث ابتلعها الظلام، ونظرت إلى نادر وقالت:
- والآن لنتجول حول البحيرة، إذا أردت.
وتمشيا على حافة البحيرة، ثم طلب منها أن يطل على العالم الخارجي فمشت به في طريق مرصوف برخام أحمر حتى نهايته، حيث أشرف من فوق صخرة على جرف شديد الانحدار وكأنه حائط عملاق.. ووقف ينظر إلى الأرض التي كانت بعيدة تحته وقد قامت فوقها صخور ملساء، كأنما انْحَسَر عنها مد الرمال، فبقيت واقفة بالعراء كموميات ضاربة في القدم. وطافت حولها العقبان والرخم، وعشعشت فوقها جوارح الفضاء...
ونظر إلى الأفق البعيد حيث تمتزج غبرة السماء بسراب الصحراء، فأحس كأنه في سفينة تجمد حولها محيط رملي هائج متوحش...
ودار رأسه، فأحس بمنبه حاد يوقظه من شروده دون أ
ن يعرف مصدره. ووضع يده على قفاه حيث أحس المنبه، فلمس جسماً مسطحاً أجنبياً مزروعاً تحت جلده عند أسف
#الجزء_التاسع
استيقظ الدكتور نادر مبكراً في الصباح الموالي. فتح عينيه داخل الغرفة البلورية المضاءة بأشعة زرقاء ناعمة فوجد نفسه على حافة الفراش الواسع. والتفت يميناً ليجد "كاثي"
وكأنما أحست أن أحداً يراقبها، ففتحت عينيها الواسعتين، وابتسمت دون أن تتكلم، ومدت يدها نحوه فوضع عليها يده. قالت:
- كيف أصبحت؟
- بخير.
- أصابك كابوس مزعج، هل تتذكر شيئاً؟
- لا.
- أضطررتُ إلى إعطائك مسكناً حتى تكف عن الاستغاثة والارتعاش. كنت تسبح في العرق..
- غريب، لم أتذكر شيئاً!
ونهض من الفراش فوجد نفسه قادراً على الحركة دون ضعف. ودخل الحمام فاغتسل وحلق. وحين خرج كانت "كاثي" تنتظره بسلة في يديها. قالت:
- سنفطر في الهواء الطلق..
- فكرة حسنة.
وناولته قميصاً أبيض وبنطلوناً فارتداهما، وتبعها خارج الغرفة. انقفل الباب خلفهما آلياً فنظر الدكتور نادر حواليه ليرى ممراً طويلاً كأنبوب زجاجي لماع أضواؤه مدفونة في حيطانه كأنهار من سائل الفسفور.
وأدهشه المنظر الرائع الذي وجد نفسه أمامه.. بحيرة واسعة زرقاء يحيط بها الأرز والسنديان، وحولها شواطىء رملية أنيقة وصخور بيضاء عالية تلقي على الرمال الذهبية ظلالها الكثيفة.
ونزع حذاءه وانطلق نحو الرمل. ثم رفع قميصه وخاض الماء فأنعشته برودته. والتفت إلى كاثي:
- هذه مفاجأة سارة!
- هذه أرض المفاجآت..
- أين يقع "الجودي" بالضبط؟ لاداعي للغموض الآن. فقد قال لي الدكتور هالن كل شيء..
ودخلت كاثي معه الماء وأمسكت بيده. ونظرت إليه:
- أنت واقف فوقه!
- وأين المدينة الصاخبة وآلاف العلماء الذين تحدث عنهم هالن؟
أشارت بعينها إلى البحيرة.
- تحت تلك الصخرة يوجد عالم بأسره.. عالم في "كبسول" مصغر... يمكنك أن تسميه "جينا" حضارياً أو خليةً حية تحتوي على جميع خصائص الإنسان الذي يعمر الأرض الآن.. ولو مسحت حرب ذرية الوجود البشري بكامله اليوم، لاستطاع ما في قلب أن يعيد الحياة من جديد.. لنا وسائل مكافحة الإشعاع، وإرجاع الوظائف الطبيعية إلى النبات، والخصب للتربة، والنقاء للماء والهواء...ولنا القدرة على إعمار الأرض من جديد.. إلا أن الإنسانية القادمة ستكون أكثر انتظاماً، وأقدر على تركيز عبقريتها على الحياة بدل الخراب والموت.
ونظر الدكتور نادر إلى عينيها المتوقدتين حماساً، ثم وضع ذراعه حول كتفيها، وضمها إليه برفق وإعجاب:
- أرجو ألا يكون ما تقولينه من صنع الخيال..
- كل المشاريع العظيمة كانت من صنع الخيال... ولكن "جبل الجودي" حقيقة واقعه. وسوف ترين بنفسك... وهبت نسمة عليلة جعدت وجه البحيرة. وداعبت وجه نادر وعبثت بخصلات من شعر كاثي الحريري. واستنشق الاثنان ملء رئتيهما منه، قال نادر:
- آه! هذه هي الحياة.. لو بقيت هنا شهراً واحداً فسأضمن نقاء رئتي من سخام لندن!
وضحكت كاثي وقالت:
- ولو بقيت هنا أكثر لضمنت نقاء عقلك من فوضى العالم الخارجي!
وابتسم الدكتور نادر ثم قال:
- أنا جائع...
- لنفطر إذن.
وخرجا من البحيرة إلى حيث كانت كاثي قد فرشت إزاراً ووضعت عليه أواني الفطور فجلسا متقابلين..وشرد ذهن الدكتور نادر، وقد عادت إليه ذكريات تاج، فتجهم وجهه وكف عن الحديث..
في لمحة بارقة عبرت خياله صورة تاج قاعدة أمامه تحت نخلة., ورأى في عينيها السوداوين نظرة عتاب على نسيانه لها، واستمتاعه بممرضته الجديدة...
وقرأت كاثي ما يجول بخاطره، فأخرجته من غفوته الحزينة بقولها:
- أرجو أن تتماثل تاج للشفاء قريباً...
وأشاح عنها بوجهه وهو يحاول مقاومة شعوره، فأضافت:
- كن على يقين أنها تحظى بعناية أمهر أطباء الإشعاع. الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون القيام به هو تحويل الرماد إلى مادته الأصلية..
وبعد لحظة صمت قالت مغيرة الموضوع:
- سيأتي رئيس مبرمجي القطاع الأنثروبولوجي للترحيب بك رسمياً على جبل الجودي وسيأخذك للفطور مع فرقته لتتعرف عليها، وتعرف مدى التقدم الذي حدث في ميدانك.
- هل سيكون الدكتور إيريك هالن هناك؟
- لا، ستراه بعد الظهر.
واستمرت تسرد عليه جدول أعماله للأسبوع القادم، وهو يستمع دون إنصات..
وبعد نهاية الفطور، جمعت الأواني في سلتها، وفتحت باباً في صخرة وضعت السلة بداخله حيث ابتلعها الظلام، ونظرت إلى نادر وقالت:
- والآن لنتجول حول البحيرة، إذا أردت.
وتمشيا على حافة البحيرة، ثم طلب منها أن يطل على العالم الخارجي فمشت به في طريق مرصوف برخام أحمر حتى نهايته، حيث أشرف من فوق صخرة على جرف شديد الانحدار وكأنه حائط عملاق.. ووقف ينظر إلى الأرض التي كانت بعيدة تحته وقد قامت فوقها صخور ملساء، كأنما انْحَسَر عنها مد الرمال، فبقيت واقفة بالعراء كموميات ضاربة في القدم. وطافت حولها العقبان والرخم، وعشعشت فوقها جوارح الفضاء...
ونظر إلى الأفق البعيد حيث تمتزج غبرة السماء بسراب الصحراء، فأحس كأنه في سفينة تجمد حولها محيط رملي هائج متوحش...
ودار رأسه، فأحس بمنبه حاد يوقظه من شروده دون أ
ن يعرف مصدره. ووضع يده على قفاه حيث أحس المنبه، فلمس جسماً مسطحاً أجنبياً مزروعاً تحت جلده عند أسف
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_العاشر
ذهب الدكتور نادر تلك الليلة إلى فراشه منتفخ الرأس مشبعاً بالمفاجآت. ووضع رأسه على المخدة، وأقفل عينيه دون أن ينام رغم تعبه. كان يفكر في الأوجه والأحاديث والابتسامات والحُلَل المتعددة الألوان واللوحات الزيتية، والقباب المزخرفة برسوم فرعونية أو صينية أو رومانية أو عربية. وتداخلت الألوان والظلال والأصداء والأفكار في مخيلته فأحس بالإرهاق وعُسرِ الهضم الفكري...
وفي مثل هذه الحالات كان نادر يفر دائماً إلى فردوس خياله الأخضر. وأحس بالراحة والارتخاء، وهو يستعرض كثبان رمل جزيرته النائية، ليشرف من فوقها على شاطىء فسيح تسبح أطرافه في الضباب...
ورأى تاج وهي خارجة من موجة زمردية بحركة بطيئة فاتحةً ذراعيها نحوه، وهو يركض بتماوج رشيق حالم نحوها، وملايين الأصوات الملائكية تهلل بلحن سماوي...
ونام والوسادة مبتلة بدموعه...
فتح الدكتور نادر عينيه تلك الليلة على غرفة زرقاء، تتسلل من قبتها البلورية أحجام النجوم تتغامز في أفلاكها الأزلية هائمة في الفضاء، كأنها غير حقيقية.
والتفت نحو كاثي فإذا هي غارقة في سبات عميق. وانسحب بحذر ، وتسلل خارجاً . ثم التقط الدليل الضخم، ومشي على رؤوس بنانه نحو الحمام حيث أقفل الباب خلفه، وأشعل النور، وقعد على كرسي مستدير يتصفح الكتاب إلى أن وضع اصبعه على رقم مكتوب أمامه "مستشفى- قسم مقاومة الإشعاع- الحالات الخاصة" وحمل الكتاب ثم أطفأ النور وغادر الحمام إلى حيث كان الحاسوب. فجلس إليه ووضع الكتاب بجانبه، وأخذ يطبع العنوان والرقم. وظهرت صورة ممر طويل صفت على جوانبه عدة غرف.
وطبع نادر على اللوح اسم "محيي الدين- تاج" فظهرت صورة غرفة خالية.
وضغط على زر مكتوب عليه "استرجاع" فتحركت الصور على الشاشة بطريقة عكسية سريعة، وعندما رأى أشباح أشخاص بالغرفة، ضغط على زر "عرض" فتوقفت الصور لتمُرَّ بسرعة الحياة العادية.
ورأى أربعة أطباء حول سرير تاج وهي داخل خيمة من البلاستيك الشفاف، وقد هرب الدم من وجهها، وعلى فمها وأنفها قناع أوكسيجين تنتفخ رئته الصناعية وتتقلص. وفي ذراعها عرق صناعي يتدلى من زجاجة دم معلقة فوق السرير، فخفق قلبه بسرعة..
كانت عيون الأطباء الملثمين تنذر بالخطر والحيرة. وبدأت الرئة الصناعية تضعف، ودقات القلب المسجلة على الشاشة الخضراء تتباطأ.
ودخل أكثر الدكاترة سنا تحت الخيمة فوضع يده على صدرها ثم خرج سريعاً وأشار إلى ممرضة ملثمة، فجاءته بحقنة وساعدته على حقنها في ذراعها.
وعاد التنفس. وتسارعت نبضات القلب قليلاً.
وتنهد الدكتور نادر وهو يتابع بعينيه حركات الدكتور.
وهبط قلبه حين انخفضت نبضات القلب وتقلصت الرئة، وبان على الدكاترة القلق، وهرع بعضهم إلى تحت الخيمة لتدليك القلب بالضغط على الصدر.
وماتت العلامات الكهربائية على الشاشة المستديرة الخضراء.. وتقلصت الرئة الصناعية للمرة الأخيرة.. ونزع الدكاترة أقنعتهم وقد بلها العرق، وخرجوا صموتاً خائبين من الغرفة، وجاءت الممرضة لتنزع الخيمة عن جثة تاج ، وتزيل القناع والعرَّق الصناعي، ثم تغطيها من قدميها إلى ما فوق وجهها بإزار أبيض.
أفاقت كاثي من نومها حين بحثت عن نادر ولم تجده. ونظرت حولها فوجدته متسمراً على الكرسي، متجمداً بنظرة تائهة في غرفة المستشفى على الشاشة المضاءة أمامه..
ونادته بصوت نائم فلم ينتبه. ورفعت صوتها قليلاً ليسمعها فلم يلتفت.
ونظرت إلى الشاشة والغرفة الخالية فرن في مخها جرس حاد! وقفزت من فوق السرير فضغطت زراً اختفت عنده الصورة، وأظلمت الشاشة. ووقفت أمام نادر تلبس ثوباً ليلياً وتخاطبه:
- عليّ..! عليّ..!
وأخيراً جثت عند قدميه وأمست بيديه:
- علي، أرجوك، ماذا حدث؟ ماذا رأيت على تلك الشاشة.
ولم يجب، فوقفت وأمسكت بوجهه بين يديها تحركه وتربت خديه، وهو ما يزال في غيبوبته. وعند ذلك هرعت بسرعة إلى لوح الأزرار فضغطت على زر أحمر ظهر بعده وجه الدكتور "مورينو" الأسمر على الشاشة.
وخاطبت كاثي الصورة:
- حالة استعجال! أعتقد أنها صدمة.
ورد الدكتور مورينو.
- سآتي في الحال.
وبعد بضع دقائق كان الدكتور علي نادر نائماً تحت مفعول منوم.
#يتبع
#الجزء_العاشر
ذهب الدكتور نادر تلك الليلة إلى فراشه منتفخ الرأس مشبعاً بالمفاجآت. ووضع رأسه على المخدة، وأقفل عينيه دون أن ينام رغم تعبه. كان يفكر في الأوجه والأحاديث والابتسامات والحُلَل المتعددة الألوان واللوحات الزيتية، والقباب المزخرفة برسوم فرعونية أو صينية أو رومانية أو عربية. وتداخلت الألوان والظلال والأصداء والأفكار في مخيلته فأحس بالإرهاق وعُسرِ الهضم الفكري...
وفي مثل هذه الحالات كان نادر يفر دائماً إلى فردوس خياله الأخضر. وأحس بالراحة والارتخاء، وهو يستعرض كثبان رمل جزيرته النائية، ليشرف من فوقها على شاطىء فسيح تسبح أطرافه في الضباب...
ورأى تاج وهي خارجة من موجة زمردية بحركة بطيئة فاتحةً ذراعيها نحوه، وهو يركض بتماوج رشيق حالم نحوها، وملايين الأصوات الملائكية تهلل بلحن سماوي...
ونام والوسادة مبتلة بدموعه...
فتح الدكتور نادر عينيه تلك الليلة على غرفة زرقاء، تتسلل من قبتها البلورية أحجام النجوم تتغامز في أفلاكها الأزلية هائمة في الفضاء، كأنها غير حقيقية.
والتفت نحو كاثي فإذا هي غارقة في سبات عميق. وانسحب بحذر ، وتسلل خارجاً . ثم التقط الدليل الضخم، ومشي على رؤوس بنانه نحو الحمام حيث أقفل الباب خلفه، وأشعل النور، وقعد على كرسي مستدير يتصفح الكتاب إلى أن وضع اصبعه على رقم مكتوب أمامه "مستشفى- قسم مقاومة الإشعاع- الحالات الخاصة" وحمل الكتاب ثم أطفأ النور وغادر الحمام إلى حيث كان الحاسوب. فجلس إليه ووضع الكتاب بجانبه، وأخذ يطبع العنوان والرقم. وظهرت صورة ممر طويل صفت على جوانبه عدة غرف.
وطبع نادر على اللوح اسم "محيي الدين- تاج" فظهرت صورة غرفة خالية.
وضغط على زر مكتوب عليه "استرجاع" فتحركت الصور على الشاشة بطريقة عكسية سريعة، وعندما رأى أشباح أشخاص بالغرفة، ضغط على زر "عرض" فتوقفت الصور لتمُرَّ بسرعة الحياة العادية.
ورأى أربعة أطباء حول سرير تاج وهي داخل خيمة من البلاستيك الشفاف، وقد هرب الدم من وجهها، وعلى فمها وأنفها قناع أوكسيجين تنتفخ رئته الصناعية وتتقلص. وفي ذراعها عرق صناعي يتدلى من زجاجة دم معلقة فوق السرير، فخفق قلبه بسرعة..
كانت عيون الأطباء الملثمين تنذر بالخطر والحيرة. وبدأت الرئة الصناعية تضعف، ودقات القلب المسجلة على الشاشة الخضراء تتباطأ.
ودخل أكثر الدكاترة سنا تحت الخيمة فوضع يده على صدرها ثم خرج سريعاً وأشار إلى ممرضة ملثمة، فجاءته بحقنة وساعدته على حقنها في ذراعها.
وعاد التنفس. وتسارعت نبضات القلب قليلاً.
وتنهد الدكتور نادر وهو يتابع بعينيه حركات الدكتور.
وهبط قلبه حين انخفضت نبضات القلب وتقلصت الرئة، وبان على الدكاترة القلق، وهرع بعضهم إلى تحت الخيمة لتدليك القلب بالضغط على الصدر.
وماتت العلامات الكهربائية على الشاشة المستديرة الخضراء.. وتقلصت الرئة الصناعية للمرة الأخيرة.. ونزع الدكاترة أقنعتهم وقد بلها العرق، وخرجوا صموتاً خائبين من الغرفة، وجاءت الممرضة لتنزع الخيمة عن جثة تاج ، وتزيل القناع والعرَّق الصناعي، ثم تغطيها من قدميها إلى ما فوق وجهها بإزار أبيض.
أفاقت كاثي من نومها حين بحثت عن نادر ولم تجده. ونظرت حولها فوجدته متسمراً على الكرسي، متجمداً بنظرة تائهة في غرفة المستشفى على الشاشة المضاءة أمامه..
ونادته بصوت نائم فلم ينتبه. ورفعت صوتها قليلاً ليسمعها فلم يلتفت.
ونظرت إلى الشاشة والغرفة الخالية فرن في مخها جرس حاد! وقفزت من فوق السرير فضغطت زراً اختفت عنده الصورة، وأظلمت الشاشة. ووقفت أمام نادر تلبس ثوباً ليلياً وتخاطبه:
- عليّ..! عليّ..!
وأخيراً جثت عند قدميه وأمست بيديه:
- علي، أرجوك، ماذا حدث؟ ماذا رأيت على تلك الشاشة.
ولم يجب، فوقفت وأمسكت بوجهه بين يديها تحركه وتربت خديه، وهو ما يزال في غيبوبته. وعند ذلك هرعت بسرعة إلى لوح الأزرار فضغطت على زر أحمر ظهر بعده وجه الدكتور "مورينو" الأسمر على الشاشة.
وخاطبت كاثي الصورة:
- حالة استعجال! أعتقد أنها صدمة.
ورد الدكتور مورينو.
- سآتي في الحال.
وبعد بضع دقائق كان الدكتور علي نادر نائماً تحت مفعول منوم.
#يتبع
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الحادي_عشر
لم يدر الدكتور أين هو حين استيقظ. ونظر حواليه فرأى وجه الدكتور هالن يبتسم له، ويسأله:
- علي، هل تسمعني؟
وحرك نادر رأسه بالإيجاب، فقال هالن:
- لابد أنك رأيت على الشاشة ما حدث، فلا داعي لإعادته. كنت فقط أود لو وصلتك الأخبار بطريقة أفضل...
ولم يجب نادر. كان ينظر إلى صديقه نظرة غريب لغريب، وكأنه لا يفهم ما يقول.
ووقف هالن ويد نادر بين كفيه:
- أعتقد أنك ينبغي أن ترتاح الآن. إذا احتجت لأي شيء فما عليك إلا أن تنادي.
والتفت إلى كاثي وقال لها:
- لا تتركيه وحيداً...
وأحنت رأسها موافقة، فخرج الدكتور هالن وفي عينيه نظرة قلقة.
عادت إلى نادر ذكرى ما رآه على الشاشة فلمست قلبه يد باردة.. وانحنت عليه كاثي تسأله:
- هل آتيك بفطورك؟
ونهض من السرير دون أن يلقي بالا لسؤالها، فجاءته بعباءة لفتها حواليه، وسألته:
- هل تريد حماماً؟
وحرك رأسه بلا، فقالت:
- هل تريد شيئاً ما؟ أي شيء؟
- أريد أن أذهب إلى مكان حيث أكون وحيداً.. هل تأخذينني إلى البحيرة؟
فاستمهلته لحظة ضغطت عندها زراً وتكلمت في سماعة، ثم وضعتها وجاءت لتقول له:
- تعال نصعد إلى البحيرة.
كان الوقت أصيلاً وقد تعلقت الشمس الأُرجوانية بأغصان السنديان نازلة نحو كثبان الصحراء الغريبة. وانعكست ظلال الأغصان والأشعة خلفها على مرآة البحيرة الساكنة فأعطت للمكان جواً من الدعة والطمأنينة والأزلية..
وتجاوبت نفس نادر الغارقة في بحيرة من سائل لزج أسود مع أضواء الغروب الخافتة، وصمت الماء والنبات..
كانت كاثي تلاحقه ببصرها من بعيد خوف أن يفعل بنفسه شيئاً أو يقع في أزمة.
ومال نحو حافة الجبل، فمشى بين الأشجار العالية في ممرات عتمتها ظلال المساء. ووقف وراء صخرة ينظر إلى الأفق الشرقي ترتسم عليه أشكال التلال والصخور العالية وقد توجت أعاليها خمرة الأفق..
وبقي في موقفه ذلك حتى كسته عتمة الليل. وأحس بقشعريرة الرطوبة المتساقطة تسري في عظامه. وأيقظته كاثي من تأمله بنحنحة خفيفة، فالتفت نحوها.
قالت: "أعتقد أنه من الأحسن أن ننزل. قد يؤثر عليك برد الليل".
واستسلم ليدها الناعمة فساقته إلى تحت.
واستعملت سحرها كله تلك الليلة لتطعمه حتى لا يقتل نفسه جوعاً. وجعلته يتناول بعض أقراص الفيتامين وأقراصاً أخرى مغذية. ونام تلك الليلة بدون أحلام..
وفي الصباح الموالي أحس حركة غير عادية من كاثي. فتح عينيه ليجدها مستعدة بأدوات الحلاقة. وتساءل فقالت:
- الرئيس كرونين قادم لزيارتك.
وأفطر الدكتور نادر بكأس قهوة سوداء، وجلس في عباءته البيضاء ينتظر زيارة ضيفه الكبير. وانفتح الباب فدخل الرجل المسن وقد زادت بشرته الناعمة بياضاً تحت ضوء النهار، ومال شعره الفضي إلى الزرقة.
وأمسك بيد الدكتور نادر بين يديه وقد أشرق وجهه بنظرة عطف وحنان، ثم جلس قبالته واقترب منه بكرسيه حتى كادت ركبتاهما تتلامسان.
ونطق الرجل:
- ولدي، أرى أنك تجتاز تجربة عاطفية قاسية.. لابد أن "تاجاً" كانت تعني الكثير بالنسبة إليك... صدقني إن ذهابها أحزن الجميع، ولو كان في مقدور أي طبيب إنقاذها لأنقذها أطباء الجودي.. ورجائي أن لا يكون أثر هذه الصدمة مخرباً بالنسبة إليك.. حاول أن تجعل من حرمانك قوة دافعة لإشباع روحك.. فذلك أعظم هدية تقدمها لروح تاج. سوف تعيش لتصل إلى سنّي. وسوف تتلقى كثيراً من الصدمات بعضها قد يكون ساحقاً، ولكن انتصار العقل على القلب لا يتم إلا بالانتصار على هذه الصدمات... وسوف تخرج من محنتك هذه متزناً مكتمل البناء النفسي.
وضغط على يديه مرة أخرى، ثم وقف والتفت إلى كاثي وقال:
- هل تحتاجين إلى شيء؟
- لا، كل شيء على ما يرام.
وصافح الدكتور نادر، وربت كتفه، فشكره هذا على زيارته، وصحبه حتى الباب.
#يتبع
#الجزء_الحادي_عشر
لم يدر الدكتور أين هو حين استيقظ. ونظر حواليه فرأى وجه الدكتور هالن يبتسم له، ويسأله:
- علي، هل تسمعني؟
وحرك نادر رأسه بالإيجاب، فقال هالن:
- لابد أنك رأيت على الشاشة ما حدث، فلا داعي لإعادته. كنت فقط أود لو وصلتك الأخبار بطريقة أفضل...
ولم يجب نادر. كان ينظر إلى صديقه نظرة غريب لغريب، وكأنه لا يفهم ما يقول.
ووقف هالن ويد نادر بين كفيه:
- أعتقد أنك ينبغي أن ترتاح الآن. إذا احتجت لأي شيء فما عليك إلا أن تنادي.
والتفت إلى كاثي وقال لها:
- لا تتركيه وحيداً...
وأحنت رأسها موافقة، فخرج الدكتور هالن وفي عينيه نظرة قلقة.
عادت إلى نادر ذكرى ما رآه على الشاشة فلمست قلبه يد باردة.. وانحنت عليه كاثي تسأله:
- هل آتيك بفطورك؟
ونهض من السرير دون أن يلقي بالا لسؤالها، فجاءته بعباءة لفتها حواليه، وسألته:
- هل تريد حماماً؟
وحرك رأسه بلا، فقالت:
- هل تريد شيئاً ما؟ أي شيء؟
- أريد أن أذهب إلى مكان حيث أكون وحيداً.. هل تأخذينني إلى البحيرة؟
فاستمهلته لحظة ضغطت عندها زراً وتكلمت في سماعة، ثم وضعتها وجاءت لتقول له:
- تعال نصعد إلى البحيرة.
كان الوقت أصيلاً وقد تعلقت الشمس الأُرجوانية بأغصان السنديان نازلة نحو كثبان الصحراء الغريبة. وانعكست ظلال الأغصان والأشعة خلفها على مرآة البحيرة الساكنة فأعطت للمكان جواً من الدعة والطمأنينة والأزلية..
وتجاوبت نفس نادر الغارقة في بحيرة من سائل لزج أسود مع أضواء الغروب الخافتة، وصمت الماء والنبات..
كانت كاثي تلاحقه ببصرها من بعيد خوف أن يفعل بنفسه شيئاً أو يقع في أزمة.
ومال نحو حافة الجبل، فمشى بين الأشجار العالية في ممرات عتمتها ظلال المساء. ووقف وراء صخرة ينظر إلى الأفق الشرقي ترتسم عليه أشكال التلال والصخور العالية وقد توجت أعاليها خمرة الأفق..
وبقي في موقفه ذلك حتى كسته عتمة الليل. وأحس بقشعريرة الرطوبة المتساقطة تسري في عظامه. وأيقظته كاثي من تأمله بنحنحة خفيفة، فالتفت نحوها.
قالت: "أعتقد أنه من الأحسن أن ننزل. قد يؤثر عليك برد الليل".
واستسلم ليدها الناعمة فساقته إلى تحت.
واستعملت سحرها كله تلك الليلة لتطعمه حتى لا يقتل نفسه جوعاً. وجعلته يتناول بعض أقراص الفيتامين وأقراصاً أخرى مغذية. ونام تلك الليلة بدون أحلام..
وفي الصباح الموالي أحس حركة غير عادية من كاثي. فتح عينيه ليجدها مستعدة بأدوات الحلاقة. وتساءل فقالت:
- الرئيس كرونين قادم لزيارتك.
وأفطر الدكتور نادر بكأس قهوة سوداء، وجلس في عباءته البيضاء ينتظر زيارة ضيفه الكبير. وانفتح الباب فدخل الرجل المسن وقد زادت بشرته الناعمة بياضاً تحت ضوء النهار، ومال شعره الفضي إلى الزرقة.
وأمسك بيد الدكتور نادر بين يديه وقد أشرق وجهه بنظرة عطف وحنان، ثم جلس قبالته واقترب منه بكرسيه حتى كادت ركبتاهما تتلامسان.
ونطق الرجل:
- ولدي، أرى أنك تجتاز تجربة عاطفية قاسية.. لابد أن "تاجاً" كانت تعني الكثير بالنسبة إليك... صدقني إن ذهابها أحزن الجميع، ولو كان في مقدور أي طبيب إنقاذها لأنقذها أطباء الجودي.. ورجائي أن لا يكون أثر هذه الصدمة مخرباً بالنسبة إليك.. حاول أن تجعل من حرمانك قوة دافعة لإشباع روحك.. فذلك أعظم هدية تقدمها لروح تاج. سوف تعيش لتصل إلى سنّي. وسوف تتلقى كثيراً من الصدمات بعضها قد يكون ساحقاً، ولكن انتصار العقل على القلب لا يتم إلا بالانتصار على هذه الصدمات... وسوف تخرج من محنتك هذه متزناً مكتمل البناء النفسي.
وضغط على يديه مرة أخرى، ثم وقف والتفت إلى كاثي وقال:
- هل تحتاجين إلى شيء؟
- لا، كل شيء على ما يرام.
وصافح الدكتور نادر، وربت كتفه، فشكره هذا على زيارته، وصحبه حتى الباب.
#يتبع
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الثاني_عشر
ومرت أيام...
وغرق الدكتور علي نادر في عمله بمختبر "الأنثروعاذ" حيث قدمه الدكتور أديب إسكندر إلى جميع أعضاء المركز، وأطلعه على آخر ما توصلوا إليه من اكتشافات علمية ماكانت لتخطر على باله.
وصغر في عين نفسه وهو يقرأ من الألواح الإلكترونية المضاءة، أو يتفرج على الأفلام أو يستمع إلى الأشرطة التي تسجل التقدم الباهر في ميدان كان يعتقد أنه وصل النهاية فيه...
ووقف في نهاية يوم طويل يسأل الدكتور إسكندر:
- لماذا جئتم بي إلى هنا وعندكم كل هذا؟ إنني أبدو إلى جانبكم بدائي المعرفة.
فابتسم الدكتور إسكندر وأجاب:
- هذا ليس من عمل عالم واحد. وفي الحقيقة ليس من عمل أية مجموعة من العلماء. العمل الذي ترى قام به "معاذ". الفضل الوحيد الذي يمكن أن يرجع لنا وللعلماء قبلنا هو أنهم برمجوا "معاذ" بكل ما كُتبَ وسُجل وصُور في ميدان الأنثروبولوجيا. وقد قام معاذ بالباقي.
- كيف؟
- معاذ لا يكتفي بخزن المعلومات وإعطائها عند الحاجة إليها، بل إنه مُبرمج بالقدرة على المقارنة والاستبطان والاستنتاج العلمي... الشيء الذي لا يمكن لعالم وحده أن يقوم به بصفة أو بأخرى. وذلك لمجرد أن معاذ أكبر من الإنسان، أي إنسان.. ولمعاذ امتياز آخر، وهو الحرية المطلقة في استعمال جميع فروع المعرفة البشرية الأُخرى التي تملأ جوفه. وليس هناك دماغ بشري يحتوي ما يحتوي عليه دماغ معاذ!
وتنهد الدكتور إسكندر في عجز عن وصف كل ما يملأ ذاكرته، ثم قال:
- لا يمكنني أن أحيطك علماً بكل قدرات "معاذ". أشعر باليأس وأنا أواجه هذه المهمة في بعض الأحيان. ويكفي أن أحكي لك الحكاية القديمة عن أول عقل إليكتروني تم تدشينه في إحدى الجامعات. وحضر العلماء والفلاسفة لرؤية المعجزة الجديدة وتجربتها. واحتاروا في أي سؤال يسألونه، فخرج فيلسوف عجوز بهذا الاقتراح: "لماذا لا نطرح عليه السؤال الأزلي: هل الله موجود؟" وفعلاً ألقوا عليه السؤال، وانتظر الجميع الجواب التاريخي.. ولمعت الأضواء بجميع الألوان على الآلة، وسمعت من جوفها أصوات غريبة، وبعد ثوان خرج الجواب فكان: "نعم، الآن!".
وابتسم الدكتور نادر، ونظر حوله ليرى أن كارول لاندكريب، الفتاة ذات الشعر الأحمر قد انضمت إليهما.
وخرج الثلاثة للعشاء في مطعم الجودي.
#الجزء_الثاني_عشر
ومرت أيام...
وغرق الدكتور علي نادر في عمله بمختبر "الأنثروعاذ" حيث قدمه الدكتور أديب إسكندر إلى جميع أعضاء المركز، وأطلعه على آخر ما توصلوا إليه من اكتشافات علمية ماكانت لتخطر على باله.
وصغر في عين نفسه وهو يقرأ من الألواح الإلكترونية المضاءة، أو يتفرج على الأفلام أو يستمع إلى الأشرطة التي تسجل التقدم الباهر في ميدان كان يعتقد أنه وصل النهاية فيه...
ووقف في نهاية يوم طويل يسأل الدكتور إسكندر:
- لماذا جئتم بي إلى هنا وعندكم كل هذا؟ إنني أبدو إلى جانبكم بدائي المعرفة.
فابتسم الدكتور إسكندر وأجاب:
- هذا ليس من عمل عالم واحد. وفي الحقيقة ليس من عمل أية مجموعة من العلماء. العمل الذي ترى قام به "معاذ". الفضل الوحيد الذي يمكن أن يرجع لنا وللعلماء قبلنا هو أنهم برمجوا "معاذ" بكل ما كُتبَ وسُجل وصُور في ميدان الأنثروبولوجيا. وقد قام معاذ بالباقي.
- كيف؟
- معاذ لا يكتفي بخزن المعلومات وإعطائها عند الحاجة إليها، بل إنه مُبرمج بالقدرة على المقارنة والاستبطان والاستنتاج العلمي... الشيء الذي لا يمكن لعالم وحده أن يقوم به بصفة أو بأخرى. وذلك لمجرد أن معاذ أكبر من الإنسان، أي إنسان.. ولمعاذ امتياز آخر، وهو الحرية المطلقة في استعمال جميع فروع المعرفة البشرية الأُخرى التي تملأ جوفه. وليس هناك دماغ بشري يحتوي ما يحتوي عليه دماغ معاذ!
وتنهد الدكتور إسكندر في عجز عن وصف كل ما يملأ ذاكرته، ثم قال:
- لا يمكنني أن أحيطك علماً بكل قدرات "معاذ". أشعر باليأس وأنا أواجه هذه المهمة في بعض الأحيان. ويكفي أن أحكي لك الحكاية القديمة عن أول عقل إليكتروني تم تدشينه في إحدى الجامعات. وحضر العلماء والفلاسفة لرؤية المعجزة الجديدة وتجربتها. واحتاروا في أي سؤال يسألونه، فخرج فيلسوف عجوز بهذا الاقتراح: "لماذا لا نطرح عليه السؤال الأزلي: هل الله موجود؟" وفعلاً ألقوا عليه السؤال، وانتظر الجميع الجواب التاريخي.. ولمعت الأضواء بجميع الألوان على الآلة، وسمعت من جوفها أصوات غريبة، وبعد ثوان خرج الجواب فكان: "نعم، الآن!".
وابتسم الدكتور نادر، ونظر حوله ليرى أن كارول لاندكريب، الفتاة ذات الشعر الأحمر قد انضمت إليهما.
وخرج الثلاثة للعشاء في مطعم الجودي.
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الثالث_عشر
وتم تدريب الدكتور نادر على استعمال "أنثروعاذ" وبدأ تفكيره ينتظم، والفوضى والضباب اللذان كانا يخيمان على عقله يتلاشيان..
وانتقل بعد آخر اختبار طبى إلى مسكن آخر يشرف على البحيرة من جهة الغرب، وعلى الصحراء من ناحية الشرق.
وودعته كاثي على باب غرفته الأولى، فأمسك بيديها وقال:
- هل معنى هذا أننا سنفترق؟
فابتسمت وقالت:
- علاقتنا كانت طبية محضة... ولكن إذا رغبت في استمرارها اجتماعياً فليس لي مانع.
ونظر إلى كارول التي كات مكلفة بترحيله إلى مقره الجديد، ثم إلى كاثي وضغط على يدها وقال:
- سأتصل بك.
وألقت كاثي على كارول نظرة ذات معنى، ثم نظرت إليه مبتسمة وقالت غير مقتنعة:
- أكيد!
وذهب الدكتور نادر إلى مسكنه الجديد حيث وجده أوسع وآنق. كانت غرفة جلوسه مستديرة مؤثثة بأرائك وحشايا بيضاء وسوداء، وقد كست الأرض زريبة سميكة بيضاء. وانفتحت واجهة غرفة الجلوس الزجاجية على منظر البحيرة.
ووقفت كارول لاندكريب تطلعه خفايا المكان، وكيف يستعمل الأدوات الإلكترونية الكثيرة لتسهيل حياته.
كان الوقت مساء، ووميض أشعة الشمس في البحيرة قوياً. ولاحظت كارول أن نادر يضيق عينيه ويجعد جبهته لتفادي قوة الضوء، فضغطت على زر فَتَلونت الزجاجة الأمامية بلون أرق فاتح يكسر الأشعة.
وسارت به بين الأقواس المنحنية الواسعة، ففتحت له باب بيت النوم ثم الحمام، ثم المكتبة التي كانت عبارة عن كرسي مريح للغاية يتحرك بحركة الجالس عليه، وإلى جانبه لوح مفاتيح وأزرار، وأمامه شاشة بيضاء مربعة.
كان ينظر إليها وهي تشرح له بكفاءة وثقة بنفسها وبكل كلمة تقولها، وقد برز صدرها الصغيرة داخل القميص الحريري الفضي، وانعقد شعرها الأحمر وراءها وكأنه شعلة نار! وأحست أنه ينظر إلى عمق عينيها الرماديتين، دون أن ينصت إلى شرحها فتورد وجهها اللبني واستمرت في الكلام متلعثمة وعيناها إلى الأرض.
ـــــــــــ
قضى الدكتور نادر الأيام التالية في زيارة فروع "معاذ" المختلفة، فزار ما يتعلق مباشرة بميدان اهتمامه، مثل "السايكوعاذ" واستقبله رئيس القسم وقدمه إلى أعضائه، وأطلعه على آخر ما توصلوا إليه في ميدان علم النفس. قال رئيس القسم:
- تركيزنا الآن يقع على جزء هام من أجزاء الدماغ الإنساني، الذاكرة. وتجاربنا تقع على مقاومة النسيان، واستعمال جميع خلايا العقل البشري، بدل الأجزاء المحدودة التي يستعملها الفرد الجماعي...
وتحدثنا عن مقاومة الجريمة وتقوية العقول العادية لاحتمال الضغط الهائل الذي تفرضه المجتمعات الحديثة بتعقيداتها عليها...
ثم زار "السوسيوعاذ" الذي كان يتسلم أغلب معلوماته من مراكز في المدن الكبرى بالقارات الخمس.
ولكن الأقسام التي بهرته كانت هي "البايوعاذ" حيث رأى بنفسه عملية الإنسان في أرحام صناعية شفافة..
ورأى أطفالاً يولدون بدون ألم ولا أوجاع.
ورأى الممرضات يستلمنهم حيث يسلمون لأمهات صناعيات تلبين كل رغباتهم...
واطلع على مدرسة صغيرة يتعلم فيها الأطفال الصناعيون بطرق عجيبة صامتة.
ورأى في عيون أولئك الأطفال بريقاً حاداً غير بشري... وأحس بخوف عميق بداخله...
قال له رئيس القسم:
- معاذ يبرمج هؤلاء الأطفال عن طريق ذبذبات صامتة تسري إلى أدمغتهم منه رأساً. لأول مرة في حياة البشرية سيستطيع المخ الواحد أن يعيش حياة كاملة مستعملاً أجزاءه وخلاياه.. ولا ندري، ونحن في هذا الطور، كفاءة ذلك المخ... إلا أننا لا نرى علائم التشبع أو التعب أوالنسيان أو العجز في أي من هؤلاء الصغار...
وسأل الدكتور نادر:
- وماذا حين يكبر هؤلاء؟
وهز الرئيس كتفيه:
- ذلك ما لا تعرفه. آخر ما ينبغي أن يخيف الباحث هو نتائج تجاربه. وإلا لما تقدم الإنسان خطوة واحدة!
ولاحظ نظرة القلق على وجه الدكتور نادر فابتسم، وقال:
- ليس هذا نوعاً من القصص التي قرأناها في صبانا عن سكان المريخ ومردة الجن وأرواح العوالم الخفية. "معاذ" مبرمج ليطعم هؤلاء الصغار ما يجعلهم علماء عمالقة التفكير، موجهين نحو الخير والبناء، لا الشر والتخريب...
وزار نادر مركز البحوث الفضائية، فوجد عالماً صاخباً منهمكاً في بناء صواريخ وسفن فضائية غريبة الأحجام والأشكال.. ووجد أن العمل والبناء يتم بطريقة آلية تقوم بها آلات بناها "معاذ" للغرض المطلوب...
ومر من خلف سور زجاجي، بصف طويل من الصواريخ الضخمة في طريقها نحو فوهة واسعة تخترق ارتفاع الجبل كله، وتنفتح وسط البحيرة لتنطلق نحو الفضاء غازية الكواكب والسماوات، وكأنها رصاصات في مسدس عملاق..
والتفت إلى المبرمج يسأله:
- هل أرسلتم بعض هذه الصواريخ إلى الفضاء؟
- طبعاً.
وقبل أن يعترض الدكتور نادر، قاطعه المبرمج فاهماً:
- لا وسائلنا
في التعمية على جميع رادارات العالم. وحتى الآن لم يكتشف أحد في صاروخ أطلقناه.. ولكننا نعرف كل ما يجري فوق الأرض أو تحتها والمحيطات..
وانتهت زياراته بقسم صديقه الدكتور هالين، ففوجىء بتعقيد المصنع الهائل الذي بناه "معاذ" حسب برمجة هالين للمصافي الإشعاعية التي يمكن أن تحمي مدناً كاملة من الغبار
#الجزء_الثالث_عشر
وتم تدريب الدكتور نادر على استعمال "أنثروعاذ" وبدأ تفكيره ينتظم، والفوضى والضباب اللذان كانا يخيمان على عقله يتلاشيان..
وانتقل بعد آخر اختبار طبى إلى مسكن آخر يشرف على البحيرة من جهة الغرب، وعلى الصحراء من ناحية الشرق.
وودعته كاثي على باب غرفته الأولى، فأمسك بيديها وقال:
- هل معنى هذا أننا سنفترق؟
فابتسمت وقالت:
- علاقتنا كانت طبية محضة... ولكن إذا رغبت في استمرارها اجتماعياً فليس لي مانع.
ونظر إلى كارول التي كات مكلفة بترحيله إلى مقره الجديد، ثم إلى كاثي وضغط على يدها وقال:
- سأتصل بك.
وألقت كاثي على كارول نظرة ذات معنى، ثم نظرت إليه مبتسمة وقالت غير مقتنعة:
- أكيد!
وذهب الدكتور نادر إلى مسكنه الجديد حيث وجده أوسع وآنق. كانت غرفة جلوسه مستديرة مؤثثة بأرائك وحشايا بيضاء وسوداء، وقد كست الأرض زريبة سميكة بيضاء. وانفتحت واجهة غرفة الجلوس الزجاجية على منظر البحيرة.
ووقفت كارول لاندكريب تطلعه خفايا المكان، وكيف يستعمل الأدوات الإلكترونية الكثيرة لتسهيل حياته.
كان الوقت مساء، ووميض أشعة الشمس في البحيرة قوياً. ولاحظت كارول أن نادر يضيق عينيه ويجعد جبهته لتفادي قوة الضوء، فضغطت على زر فَتَلونت الزجاجة الأمامية بلون أرق فاتح يكسر الأشعة.
وسارت به بين الأقواس المنحنية الواسعة، ففتحت له باب بيت النوم ثم الحمام، ثم المكتبة التي كانت عبارة عن كرسي مريح للغاية يتحرك بحركة الجالس عليه، وإلى جانبه لوح مفاتيح وأزرار، وأمامه شاشة بيضاء مربعة.
كان ينظر إليها وهي تشرح له بكفاءة وثقة بنفسها وبكل كلمة تقولها، وقد برز صدرها الصغيرة داخل القميص الحريري الفضي، وانعقد شعرها الأحمر وراءها وكأنه شعلة نار! وأحست أنه ينظر إلى عمق عينيها الرماديتين، دون أن ينصت إلى شرحها فتورد وجهها اللبني واستمرت في الكلام متلعثمة وعيناها إلى الأرض.
ـــــــــــ
قضى الدكتور نادر الأيام التالية في زيارة فروع "معاذ" المختلفة، فزار ما يتعلق مباشرة بميدان اهتمامه، مثل "السايكوعاذ" واستقبله رئيس القسم وقدمه إلى أعضائه، وأطلعه على آخر ما توصلوا إليه في ميدان علم النفس. قال رئيس القسم:
- تركيزنا الآن يقع على جزء هام من أجزاء الدماغ الإنساني، الذاكرة. وتجاربنا تقع على مقاومة النسيان، واستعمال جميع خلايا العقل البشري، بدل الأجزاء المحدودة التي يستعملها الفرد الجماعي...
وتحدثنا عن مقاومة الجريمة وتقوية العقول العادية لاحتمال الضغط الهائل الذي تفرضه المجتمعات الحديثة بتعقيداتها عليها...
ثم زار "السوسيوعاذ" الذي كان يتسلم أغلب معلوماته من مراكز في المدن الكبرى بالقارات الخمس.
ولكن الأقسام التي بهرته كانت هي "البايوعاذ" حيث رأى بنفسه عملية الإنسان في أرحام صناعية شفافة..
ورأى أطفالاً يولدون بدون ألم ولا أوجاع.
ورأى الممرضات يستلمنهم حيث يسلمون لأمهات صناعيات تلبين كل رغباتهم...
واطلع على مدرسة صغيرة يتعلم فيها الأطفال الصناعيون بطرق عجيبة صامتة.
ورأى في عيون أولئك الأطفال بريقاً حاداً غير بشري... وأحس بخوف عميق بداخله...
قال له رئيس القسم:
- معاذ يبرمج هؤلاء الأطفال عن طريق ذبذبات صامتة تسري إلى أدمغتهم منه رأساً. لأول مرة في حياة البشرية سيستطيع المخ الواحد أن يعيش حياة كاملة مستعملاً أجزاءه وخلاياه.. ولا ندري، ونحن في هذا الطور، كفاءة ذلك المخ... إلا أننا لا نرى علائم التشبع أو التعب أوالنسيان أو العجز في أي من هؤلاء الصغار...
وسأل الدكتور نادر:
- وماذا حين يكبر هؤلاء؟
وهز الرئيس كتفيه:
- ذلك ما لا تعرفه. آخر ما ينبغي أن يخيف الباحث هو نتائج تجاربه. وإلا لما تقدم الإنسان خطوة واحدة!
ولاحظ نظرة القلق على وجه الدكتور نادر فابتسم، وقال:
- ليس هذا نوعاً من القصص التي قرأناها في صبانا عن سكان المريخ ومردة الجن وأرواح العوالم الخفية. "معاذ" مبرمج ليطعم هؤلاء الصغار ما يجعلهم علماء عمالقة التفكير، موجهين نحو الخير والبناء، لا الشر والتخريب...
وزار نادر مركز البحوث الفضائية، فوجد عالماً صاخباً منهمكاً في بناء صواريخ وسفن فضائية غريبة الأحجام والأشكال.. ووجد أن العمل والبناء يتم بطريقة آلية تقوم بها آلات بناها "معاذ" للغرض المطلوب...
ومر من خلف سور زجاجي، بصف طويل من الصواريخ الضخمة في طريقها نحو فوهة واسعة تخترق ارتفاع الجبل كله، وتنفتح وسط البحيرة لتنطلق نحو الفضاء غازية الكواكب والسماوات، وكأنها رصاصات في مسدس عملاق..
والتفت إلى المبرمج يسأله:
- هل أرسلتم بعض هذه الصواريخ إلى الفضاء؟
- طبعاً.
وقبل أن يعترض الدكتور نادر، قاطعه المبرمج فاهماً:
- لا وسائلنا
في التعمية على جميع رادارات العالم. وحتى الآن لم يكتشف أحد في صاروخ أطلقناه.. ولكننا نعرف كل ما يجري فوق الأرض أو تحتها والمحيطات..
وانتهت زياراته بقسم صديقه الدكتور هالين، ففوجىء بتعقيد المصنع الهائل الذي بناه "معاذ" حسب برمجة هالين للمصافي الإشعاعية التي يمكن أن تحمي مدناً كاملة من الغبار
قصص وروايات✏ via @like
#الطوفان_الأزرق 💙
الطوفان القادم والقوقعه بجبل الجودي والكثير مما يحيرنا والاكبر من ذالك معاذ الانسان او شبه الانسان ذو العقل المحير !!
قرأتو الروايه عجبتكم او لا؟!
اذا لم تقرأؤها اختارو 💔
ــــــــــــــــــــــــ
بوت التواصل والتبادل ؛-
@NovelsStoriesBot
الطوفان القادم والقوقعه بجبل الجودي والكثير مما يحيرنا والاكبر من ذالك معاذ الانسان او شبه الانسان ذو العقل المحير !!
قرأتو الروايه عجبتكم او لا؟!
اذا لم تقرأؤها اختارو 💔
ــــــــــــــــــــــــ
بوت التواصل والتبادل ؛-
@NovelsStoriesBot
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الرابع_عشر
وفي الثامنة من صباح اليوم الموالي، ظهر الدكتور إسكندر يتمشى بخطواته الواسعة خلف زجاج واجهة بيت نادر. وانفتح الباب أمامه فدخل يلقي تحيات الصباح بوجه باسم. كان الدكتور نادر جالساً إلى مائدة بيضاء مستديرة يشرب قهوته مع شطائر محمرة بالزبدة ويشاهد برنامج الصباح الإخباري على شاشته الضخمة التي تأخذ حائطاً بأكمله.
وقف نادر لزميله، وجلس الاثنان جنباً لجنب يتفرجان على عملية فتح شريانٍ جديد من اليورانيوم تحت قاعدة جبل الجودي بطريقة آلية.
قال نادر:
- كنت نائماً أتساءل عن مصدر الطاقة التي تحرك هذا المشروع الجبار. وقد جاءني الجواب على غير ميعاد..
وعلق الدكتور إسكندر:
- قلب الصحراء يزخر بمصادر الطاقة العالية، فهناك البترول والأنهار الجارفة واليورانيوم. إلى جانب الطاقة الشمسية..
واستأذن الدكتور نادر وغادر القاعة إلى بيت نومه حيث خلع رداءه، وفتح دولاب ملابسه الآلية حيث كانت تقف تماثيل في حجمه، عليها ملابس مختلفة الألوان والأشكال، حسب المناسبات التي تقتضيها. كل الحلل تلبس مرة واحدة وترمى في "المحرق" وتفرز التماثيل من مسامها غدداً خيطية ملونة باللون المطلوب تتشابك حول الأعضاء وتجف لتصبح ملابس كاملة.
وضغط الدكتور نادر على زر تمثال يلبس كسوة بيضاء، فانفصلت الكسوة عن التمثال بانفتاحها من الجانبين، ودخل فيها فانطبقت على جسمه بسهولة ونعومة. وتحرك حركات رياضية ليجرب قوة امتطاطها. وخرج ليذهب مع زائره في أول زيارة لمعاذ.
وبدأ الدكتور إسكندر يعطيه تعليمات عن طرق استعمال معاذ:
- "معاذ" ليس آلة إليكترونية فقط، وسترى أنه سيخيفك أحياناً باستجاباته وردود فعله العجيبة... وسوف تجالسه في جميع ظروفه وأحواله، وتسأله فيجيب، ويسألك فينتظر منك الجواب. حاول أن تكون حريصاً على إعطاء أحسن جواب ممكن...
وانزلق المصعد الزجاجي داخل النفق العمودي بسرعة مدهشة، ثم تمهل ليتوقف. وانفتح بابه، فخرج الاثنان إلى قاعة مستديرة مبلطة بمعدن شفاف تحته زخارف ملونة تتحرك كالأميبات الحية في جميع الاتجاهات. ونظر الدكتور نادر إلى فوق فإذا قبة من نفس المعدن تمتزج بها سوائل ثقيلة كالشمع الذائب تحدث مفعولاً مخدراً على من ينظر إليها...
وسمع نادر صوت رفيقه يدعوه ليتبعه نحو قوس وسع في صدر القبة. وخف الدكتور نادر نحوه، ورفع هذا يده بالبطاقة، فأخرج نادر بطاقته.
أدخل إسكندر بطاقته في شق جانب القوس فانفتح الباب، وأشار إلى نادر فدخل، وتبعه هو. وانقفل الباب خلفهما، ووقف الدكتور نادر ينظر حواليه في ظلام صامت. وبعد لحظة تبينت له قاعة مقعرة مستديرة يُنزَل إليها بدرجات رخامية واسعة في نهايتها عدد من الكراسي المريحة مصنوعة من نفس المعدن الشفاف، وعلى بعضها يجلس أعضاء الجودي صامتين.
وهمس نادر لإسكندر:
- لماذا هم صامتون؟
- ليسوا صامتين. نحن فقط لا نسمع المناقشة بينهم وبين معاذ.
ونزل الاثنان إلى القاعة وجلسا جنباً إلى جنب. وضغط إسكندر زراً أبيض بجانب ذراع مقعده، وفعل نادر مثله، فغرق الاثنان في عتمة زرقاء انفتح على إثرها أمامهما كهف عميق دائري الفوهة، وحملق نادر داخل ظلام الكهف فإذا خيوط من النور تلمع وتختفي كسياط برق في أفق ناء. وانشق الظلام على عين هائلة مستديرة، تسمرت على الدكتور نادر فارتعدت فرائضه للمفاجأة.
وسمع صوتاً خشناً يقول:
- مرحباً بك، يا دكتور نادر!
وهمس الدكتور نادر:
- شكراً.
فرد الصوت:
- لا ينبغي أن يفاجئك شيء من تصرفاتي. وصدقني، سترى ما يدعو منها للاستغراب.
وبعد صمت قليل عاد الصوت:
- هل اعتدت على الحياة معنا؟
- نوعاً ما.
- هل ما تزال تفكر في العودة لي لندن؟
- كلا! لم يبق لي ما أعود إليه بلندن. وقد وجدت هنا ما يملأ حياتي...
- قرار حكيم! فما كنت لأتركك تذهب على أي حال! وجودك ضروري لمشروعنا. وبالمناسبة، ما رأيك في قرار مؤتمر الجودي الأخير؟
والتفت الدكتور نادر إلى إسكندر متسائلاً، فحرك هذا رأسه مشجعاً هامساً:
- تكلم كما تتكلم معي...
وتوجه نادر نحو معاذ ليقول:
- لا أدري ما أقول! كل الآراء كانت وجيهة بالنسبة لي، ولها ما يؤيدها علمياً. ولكنني وجدت نفسي أميل أكثر لرأي الأغلبية الداعي إلى الانتظار.
- ألم يكن التردد والخوف أحد دواعي انضمامك إلى ذلك القرار؟
- قد تكون على حق. بالنسبة لي، من الصعوبة القضاء على العالم الذي جئت منه لكثرة الروابط العاطفية القوية بيني وبينه... إلى جانب أنه مهما تتعدد الأسباب، فسيبقى هناك شك قوي في عقله الباطني في سلامة القرارات الأخرى...
وسكت قليلاً ثم وجد الجرأة للسؤال:
- وما رأيك أنت، يا معاذ؟
- أنا لست عاطفياً في الموضوع. ربما لأني مجردُ آلة! ولكنني برمجت بجميع عواطف الإنسان وتردده وشكوكه ومخاوفه، ورغم ذلك فرأيي مع جماعة الطوفان الأزرق..
- ما هي أسبابك؟
وغابت العين قليلاً تحت ضباب كثيف ثم عادت إلى التألق والبروز، وجاء صوت معاذ:
- أسبابي منها الموجب والسالب. السالب منها هو القضاء على الفوضى العقلية الحالية التي نتجت عن اختلاف الأديان و
#الجزء_الرابع_عشر
وفي الثامنة من صباح اليوم الموالي، ظهر الدكتور إسكندر يتمشى بخطواته الواسعة خلف زجاج واجهة بيت نادر. وانفتح الباب أمامه فدخل يلقي تحيات الصباح بوجه باسم. كان الدكتور نادر جالساً إلى مائدة بيضاء مستديرة يشرب قهوته مع شطائر محمرة بالزبدة ويشاهد برنامج الصباح الإخباري على شاشته الضخمة التي تأخذ حائطاً بأكمله.
وقف نادر لزميله، وجلس الاثنان جنباً لجنب يتفرجان على عملية فتح شريانٍ جديد من اليورانيوم تحت قاعدة جبل الجودي بطريقة آلية.
قال نادر:
- كنت نائماً أتساءل عن مصدر الطاقة التي تحرك هذا المشروع الجبار. وقد جاءني الجواب على غير ميعاد..
وعلق الدكتور إسكندر:
- قلب الصحراء يزخر بمصادر الطاقة العالية، فهناك البترول والأنهار الجارفة واليورانيوم. إلى جانب الطاقة الشمسية..
واستأذن الدكتور نادر وغادر القاعة إلى بيت نومه حيث خلع رداءه، وفتح دولاب ملابسه الآلية حيث كانت تقف تماثيل في حجمه، عليها ملابس مختلفة الألوان والأشكال، حسب المناسبات التي تقتضيها. كل الحلل تلبس مرة واحدة وترمى في "المحرق" وتفرز التماثيل من مسامها غدداً خيطية ملونة باللون المطلوب تتشابك حول الأعضاء وتجف لتصبح ملابس كاملة.
وضغط الدكتور نادر على زر تمثال يلبس كسوة بيضاء، فانفصلت الكسوة عن التمثال بانفتاحها من الجانبين، ودخل فيها فانطبقت على جسمه بسهولة ونعومة. وتحرك حركات رياضية ليجرب قوة امتطاطها. وخرج ليذهب مع زائره في أول زيارة لمعاذ.
وبدأ الدكتور إسكندر يعطيه تعليمات عن طرق استعمال معاذ:
- "معاذ" ليس آلة إليكترونية فقط، وسترى أنه سيخيفك أحياناً باستجاباته وردود فعله العجيبة... وسوف تجالسه في جميع ظروفه وأحواله، وتسأله فيجيب، ويسألك فينتظر منك الجواب. حاول أن تكون حريصاً على إعطاء أحسن جواب ممكن...
وانزلق المصعد الزجاجي داخل النفق العمودي بسرعة مدهشة، ثم تمهل ليتوقف. وانفتح بابه، فخرج الاثنان إلى قاعة مستديرة مبلطة بمعدن شفاف تحته زخارف ملونة تتحرك كالأميبات الحية في جميع الاتجاهات. ونظر الدكتور نادر إلى فوق فإذا قبة من نفس المعدن تمتزج بها سوائل ثقيلة كالشمع الذائب تحدث مفعولاً مخدراً على من ينظر إليها...
وسمع نادر صوت رفيقه يدعوه ليتبعه نحو قوس وسع في صدر القبة. وخف الدكتور نادر نحوه، ورفع هذا يده بالبطاقة، فأخرج نادر بطاقته.
أدخل إسكندر بطاقته في شق جانب القوس فانفتح الباب، وأشار إلى نادر فدخل، وتبعه هو. وانقفل الباب خلفهما، ووقف الدكتور نادر ينظر حواليه في ظلام صامت. وبعد لحظة تبينت له قاعة مقعرة مستديرة يُنزَل إليها بدرجات رخامية واسعة في نهايتها عدد من الكراسي المريحة مصنوعة من نفس المعدن الشفاف، وعلى بعضها يجلس أعضاء الجودي صامتين.
وهمس نادر لإسكندر:
- لماذا هم صامتون؟
- ليسوا صامتين. نحن فقط لا نسمع المناقشة بينهم وبين معاذ.
ونزل الاثنان إلى القاعة وجلسا جنباً إلى جنب. وضغط إسكندر زراً أبيض بجانب ذراع مقعده، وفعل نادر مثله، فغرق الاثنان في عتمة زرقاء انفتح على إثرها أمامهما كهف عميق دائري الفوهة، وحملق نادر داخل ظلام الكهف فإذا خيوط من النور تلمع وتختفي كسياط برق في أفق ناء. وانشق الظلام على عين هائلة مستديرة، تسمرت على الدكتور نادر فارتعدت فرائضه للمفاجأة.
وسمع صوتاً خشناً يقول:
- مرحباً بك، يا دكتور نادر!
وهمس الدكتور نادر:
- شكراً.
فرد الصوت:
- لا ينبغي أن يفاجئك شيء من تصرفاتي. وصدقني، سترى ما يدعو منها للاستغراب.
وبعد صمت قليل عاد الصوت:
- هل اعتدت على الحياة معنا؟
- نوعاً ما.
- هل ما تزال تفكر في العودة لي لندن؟
- كلا! لم يبق لي ما أعود إليه بلندن. وقد وجدت هنا ما يملأ حياتي...
- قرار حكيم! فما كنت لأتركك تذهب على أي حال! وجودك ضروري لمشروعنا. وبالمناسبة، ما رأيك في قرار مؤتمر الجودي الأخير؟
والتفت الدكتور نادر إلى إسكندر متسائلاً، فحرك هذا رأسه مشجعاً هامساً:
- تكلم كما تتكلم معي...
وتوجه نادر نحو معاذ ليقول:
- لا أدري ما أقول! كل الآراء كانت وجيهة بالنسبة لي، ولها ما يؤيدها علمياً. ولكنني وجدت نفسي أميل أكثر لرأي الأغلبية الداعي إلى الانتظار.
- ألم يكن التردد والخوف أحد دواعي انضمامك إلى ذلك القرار؟
- قد تكون على حق. بالنسبة لي، من الصعوبة القضاء على العالم الذي جئت منه لكثرة الروابط العاطفية القوية بيني وبينه... إلى جانب أنه مهما تتعدد الأسباب، فسيبقى هناك شك قوي في عقله الباطني في سلامة القرارات الأخرى...
وسكت قليلاً ثم وجد الجرأة للسؤال:
- وما رأيك أنت، يا معاذ؟
- أنا لست عاطفياً في الموضوع. ربما لأني مجردُ آلة! ولكنني برمجت بجميع عواطف الإنسان وتردده وشكوكه ومخاوفه، ورغم ذلك فرأيي مع جماعة الطوفان الأزرق..
- ما هي أسبابك؟
وغابت العين قليلاً تحت ضباب كثيف ثم عادت إلى التألق والبروز، وجاء صوت معاذ:
- أسبابي منها الموجب والسالب. السالب منها هو القضاء على الفوضى العقلية الحالية التي نتجت عن اختلاف الأديان و
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الخامس_عشر
صعدت كارول لاندكريب إلى شاطىء البحرية في مصعد شفاف، ووقفت تنتظر بابه أن تنفتح.. ونزلت خصلات شعرها الأحمر على كتفها تتخلله شمس الضحى الناعمة فتحيله ذهباً وهاجاً..
وانفتح باب المصعد فخرجت كعروس صناعية انبعثت فيها الحياة. ووضعت على عينيها نظارة مستديرة الإطار وتوجهت نحو لسان رملي ناعم تشرف عليه نخلة مائلة الساق.
ولمست ظهرها يد فقفزت في مجلسها، وأطلقت صيحة صغيرة وهي تلتفت لترى لامسها. وأضاء وجهها حين رأت وجه الدكتور على نادر يطل عليها من فوق وهو في سترة سباحته. وافترش فوطته وقعد.
جلسا يتحدثان ويمتصان أشعة شمس الضحى حتى أحسا بلفحها يتزايد مع تقدم النهار. ووقف الدكتور نادر فسألت كارول:
- إلى أين؟
- إلى الماء. أكاد أن أحترق!
- أنا كذلك.
ا، ووضعت نظارتها وسارت أمام الدكتور نادر خفيفة رشيقة كحلم من أحلام الصيف... وخرجا من تحت ماء البحيرة البلوري يتضاحكان، وقد انسدل شعر كارول على ظهرها ووجهها
وغامر الدكتور نادر بالسباحة إلى وسط البحيرة وتبعته كارول. ومن هناك أشارت له أن يتبعها إلى صخرة على شاطىء قريب فسبح خلفها وهما يتحدثان عن تجاربهما مع البحر والبحيرات.
وفجأة غطست كارول، وبدأت تستغيث به فخف نحوها... وما كاد يمسكها حتى انفلتت منه وغرقت، فغطس خلفها. وبينما هو يسبح نحوها تحت الماء وهي منجذبة بقوة هائلة لقعر البحيرة، إذ وقعت يد على كتفه. والتفت فإذا وجه مقنع بقناع أكسيجين ينظر إليه من خلال نظارات واسعة، ويشير إليه ألا يفزع.. وحين واجه الغواص ناوله هذا أُنبوب أكسجين أدخلهُ في فمه وأطبق عليه شفتيه وأخذ يتنفس من خلاله.
وقاده الغواص إلى تحت، حيث انفتح لهما باب في حائط فولاذي، ودخلا خلف كارول التي كانت سبقتهما إليه مع غواص آخر، فانقفل خلفهما وانخفض الماء داخل الغرفة بسرعة من ثقوب جانبيه، ثم انفتح باب آخر على أرض مفروشة بزرابي خضراء.
ورفع الدكتور نادر عينيه لينظر حواليه، وهو غير متأكد مما يحدث حوله لغرابة المفاجأة. ووجد نفسه وسط قاعة مستديرة والماء يتقاطر من جميع أطرافه. وخرجت فتاة بفوطة كبيرة لفته بها. وفي تلك اللحظة فقط شعر بصوت مُلحٍ يصدر عن جسم غريب في جذر جمجمته بأعلى قفاه، فأمسك به ليحاول إسكاته وهو يزداد حدة..
وتطور الصوت إلى ألم حاد وقع نادر عنده على ركبتيه وانكفأ على وجهه يريد أن ينزع الجهاز الجهنمي المزروع في رأسه.
وهنا خرج رجل عجوز يحمل في إحدى يديه آلة تشبه ملقاطاً، فقصد الدكتور نادراً وفرز الجهاز من قاعدته ووضعه بين فكي الملقاط، وضغط عليه قليلاً فسكت الصوت في الحال وزال معه الألم المدمر..
وانهار الدكتور نادر على الأرض يلهث ويستريح... وجاءت الفتاة بكأس فيه مشروب فجثت إلى جانبه، ورفعت رأسه وناولته المشروب، فارتشف منه وهو يُجيل بصره فيمن حوله. وفي الحين أحس بتجدد في قواه، فساعده الرجل العجوز على القيام، وذهب به نحو باب آخر. وفي الطريق جاءت امرأة فألبسته قُباء قطنياً مريحاً، وحزمت خصره بزنار صوفي.
وحين دخل وقف الحاضرون الذين كانوا عبارة عن عشرين رجلاً وامرأة من فئات سن مختلفة حول مائدة مستديرة. ولاحظ الدكتور نادر وجهاً مألوفاً بين الحاضرين والشيخ يقدمهم له واحداً واحداً:
- أقدم نفسي أولاً. اسمي البروفيسور فوش، فيزيائي.
ومد يده فصافح الرجل الذي ضغط على يده بحرارة، ثم التفت نحو الجماعة وهو ما يزال ممسكاً بيده ليقدمه لهم. كل واحد باسمه ووظيفته، وهم يردون التحية بابتسامات أو إشارات برؤوسهم أو تلويحات بأديهم، وحين وصل دور الدكتور هالن قال "فوش".
- أما هذا فهو غني عن التعريف.
وابتسم الدكتور هالن، وكانت كارول تقف بجانبه. وأضاف فوش:
- هما اللذان اقترحاك لجمعيتنا.
كانت الحوادث أسرع مما يستطيع نادر أن يتابع.. لذلك فضل السكوت والاستماع.
وجلس الجميع. وبعد لحظة صمت تنحنح البروفيسور فوش ملتفتاً إلى نادر وبدأ بصوت رزين:
- باسم جماعتنا هذه أرحب بكم هنا وأرجو أن يكون ما ستسمعه اليوم مبرراً وجيهاً لعملية القرصنة التي تعرضت لها، والألم الحاد الذي قاسيته...
وفتحت هذه المقدمة شهية الدكتور نادر لسماع السر الكبير الكامن وراء كل هذا التستر، فقبع في مكانه مترقباً صامتاً:
واستأنف البروفيسور فوش:
- ببساطة، نحن ثوار!
ومرت ثانية صمت ونادر ينظر إلى وجه البروفيسور العجوز بدون فهم أو رد فعل. واستمر هذا:
- لسنا ثواراً على حكومة ولا على نظام.. أرجو ألا تعتقدنا مجانين إذا قلت لك إننا ثائرون على آلة.
صمت قصير مشحون بالتوقع من طرف نادر، والبروفيسور فوش يركز أفكاره وقد تسمرت عيناه على المائدة أمامه وانفتحت كفاه.
وقطع الصمت بقوله:
- منذ سنة وبعضنا يعاني من شك قاتل في أن هناك سراً رهيباً بدأت كثير من الأحداث تشير إلى صحته، ولم يجرؤ أحد أن يصارح به صاحبه، إلى أن حل الخوف محل الشك، اليكترونياً فقط. بل تحول بمعجزة ما إلى مخلوق حي، مخلوق له روح وعقل وعواطف وإرادة واختيار. ويدخل في العواطف الآلام والمخاوف والآمال والمطامح وكذلك الح
#الجزء_الخامس_عشر
صعدت كارول لاندكريب إلى شاطىء البحرية في مصعد شفاف، ووقفت تنتظر بابه أن تنفتح.. ونزلت خصلات شعرها الأحمر على كتفها تتخلله شمس الضحى الناعمة فتحيله ذهباً وهاجاً..
وانفتح باب المصعد فخرجت كعروس صناعية انبعثت فيها الحياة. ووضعت على عينيها نظارة مستديرة الإطار وتوجهت نحو لسان رملي ناعم تشرف عليه نخلة مائلة الساق.
ولمست ظهرها يد فقفزت في مجلسها، وأطلقت صيحة صغيرة وهي تلتفت لترى لامسها. وأضاء وجهها حين رأت وجه الدكتور على نادر يطل عليها من فوق وهو في سترة سباحته. وافترش فوطته وقعد.
جلسا يتحدثان ويمتصان أشعة شمس الضحى حتى أحسا بلفحها يتزايد مع تقدم النهار. ووقف الدكتور نادر فسألت كارول:
- إلى أين؟
- إلى الماء. أكاد أن أحترق!
- أنا كذلك.
ا، ووضعت نظارتها وسارت أمام الدكتور نادر خفيفة رشيقة كحلم من أحلام الصيف... وخرجا من تحت ماء البحيرة البلوري يتضاحكان، وقد انسدل شعر كارول على ظهرها ووجهها
وغامر الدكتور نادر بالسباحة إلى وسط البحيرة وتبعته كارول. ومن هناك أشارت له أن يتبعها إلى صخرة على شاطىء قريب فسبح خلفها وهما يتحدثان عن تجاربهما مع البحر والبحيرات.
وفجأة غطست كارول، وبدأت تستغيث به فخف نحوها... وما كاد يمسكها حتى انفلتت منه وغرقت، فغطس خلفها. وبينما هو يسبح نحوها تحت الماء وهي منجذبة بقوة هائلة لقعر البحيرة، إذ وقعت يد على كتفه. والتفت فإذا وجه مقنع بقناع أكسيجين ينظر إليه من خلال نظارات واسعة، ويشير إليه ألا يفزع.. وحين واجه الغواص ناوله هذا أُنبوب أكسجين أدخلهُ في فمه وأطبق عليه شفتيه وأخذ يتنفس من خلاله.
وقاده الغواص إلى تحت، حيث انفتح لهما باب في حائط فولاذي، ودخلا خلف كارول التي كانت سبقتهما إليه مع غواص آخر، فانقفل خلفهما وانخفض الماء داخل الغرفة بسرعة من ثقوب جانبيه، ثم انفتح باب آخر على أرض مفروشة بزرابي خضراء.
ورفع الدكتور نادر عينيه لينظر حواليه، وهو غير متأكد مما يحدث حوله لغرابة المفاجأة. ووجد نفسه وسط قاعة مستديرة والماء يتقاطر من جميع أطرافه. وخرجت فتاة بفوطة كبيرة لفته بها. وفي تلك اللحظة فقط شعر بصوت مُلحٍ يصدر عن جسم غريب في جذر جمجمته بأعلى قفاه، فأمسك به ليحاول إسكاته وهو يزداد حدة..
وتطور الصوت إلى ألم حاد وقع نادر عنده على ركبتيه وانكفأ على وجهه يريد أن ينزع الجهاز الجهنمي المزروع في رأسه.
وهنا خرج رجل عجوز يحمل في إحدى يديه آلة تشبه ملقاطاً، فقصد الدكتور نادراً وفرز الجهاز من قاعدته ووضعه بين فكي الملقاط، وضغط عليه قليلاً فسكت الصوت في الحال وزال معه الألم المدمر..
وانهار الدكتور نادر على الأرض يلهث ويستريح... وجاءت الفتاة بكأس فيه مشروب فجثت إلى جانبه، ورفعت رأسه وناولته المشروب، فارتشف منه وهو يُجيل بصره فيمن حوله. وفي الحين أحس بتجدد في قواه، فساعده الرجل العجوز على القيام، وذهب به نحو باب آخر. وفي الطريق جاءت امرأة فألبسته قُباء قطنياً مريحاً، وحزمت خصره بزنار صوفي.
وحين دخل وقف الحاضرون الذين كانوا عبارة عن عشرين رجلاً وامرأة من فئات سن مختلفة حول مائدة مستديرة. ولاحظ الدكتور نادر وجهاً مألوفاً بين الحاضرين والشيخ يقدمهم له واحداً واحداً:
- أقدم نفسي أولاً. اسمي البروفيسور فوش، فيزيائي.
ومد يده فصافح الرجل الذي ضغط على يده بحرارة، ثم التفت نحو الجماعة وهو ما يزال ممسكاً بيده ليقدمه لهم. كل واحد باسمه ووظيفته، وهم يردون التحية بابتسامات أو إشارات برؤوسهم أو تلويحات بأديهم، وحين وصل دور الدكتور هالن قال "فوش".
- أما هذا فهو غني عن التعريف.
وابتسم الدكتور هالن، وكانت كارول تقف بجانبه. وأضاف فوش:
- هما اللذان اقترحاك لجمعيتنا.
كانت الحوادث أسرع مما يستطيع نادر أن يتابع.. لذلك فضل السكوت والاستماع.
وجلس الجميع. وبعد لحظة صمت تنحنح البروفيسور فوش ملتفتاً إلى نادر وبدأ بصوت رزين:
- باسم جماعتنا هذه أرحب بكم هنا وأرجو أن يكون ما ستسمعه اليوم مبرراً وجيهاً لعملية القرصنة التي تعرضت لها، والألم الحاد الذي قاسيته...
وفتحت هذه المقدمة شهية الدكتور نادر لسماع السر الكبير الكامن وراء كل هذا التستر، فقبع في مكانه مترقباً صامتاً:
واستأنف البروفيسور فوش:
- ببساطة، نحن ثوار!
ومرت ثانية صمت ونادر ينظر إلى وجه البروفيسور العجوز بدون فهم أو رد فعل. واستمر هذا:
- لسنا ثواراً على حكومة ولا على نظام.. أرجو ألا تعتقدنا مجانين إذا قلت لك إننا ثائرون على آلة.
صمت قصير مشحون بالتوقع من طرف نادر، والبروفيسور فوش يركز أفكاره وقد تسمرت عيناه على المائدة أمامه وانفتحت كفاه.
وقطع الصمت بقوله:
- منذ سنة وبعضنا يعاني من شك قاتل في أن هناك سراً رهيباً بدأت كثير من الأحداث تشير إلى صحته، ولم يجرؤ أحد أن يصارح به صاحبه، إلى أن حل الخوف محل الشك، اليكترونياً فقط. بل تحول بمعجزة ما إلى مخلوق حي، مخلوق له روح وعقل وعواطف وإرادة واختيار. ويدخل في العواطف الآلام والمخاوف والآمال والمطامح وكذلك الح
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_السادس_عشر
أصبحت البحيرة هادئة تجعد وجهها من حين لآخر نسمة خفيفة فتنعكس الشمس على تجاعيدها كدنانير ذهبية كبيرة.
كان الاستعداد للاحتفال الذي سيدوم ثلاثة أيام قد بدأ مع الفجر. وصعدت البنات إلى شاطىء البحيرة وتسريحات شعورهن كأنها تيجان فاحمة بنية، أو ذهبية، وكشف الرجال عن عضلاتهم القوية التي بناها "معاذ" بالتمرينات الرياضية الإلزامية.
ودخلت كارول على الدكتور نادر لتستعجله والتفتت إليه تستطلع رأيه، وحين لاحظت اندهاشه ابتسمت في خجل حلو، وقالت:
- لابد أن أشرح. ألم أقل لك إنني سأشارك في مسابقة ملكة الجمال؟
وحرك رأسه نافياً:
- لا، ليس لي علم بذلك. كل ما أعرفه هو أن أية لجنة تحكيم لا تعطيك الجائزة الأولى تستحق المحاكمة!
وضحكت كارول وأمسكت بيده وخرجا.
وما كاد النهار ينتصف حتى كان سكان الجودي جميعاً يحيطون بالبحيرة يتمتعون بالشمس والطعام والشراب المصفوف على الموائد المزينة بالزهور.
ومرت استعراضات. وقدم قسم الفنون الجميلة رقصات ومسرحيات فكاهية ومعارض لوحات فنية غريبة. وأقيمت مسابقات سباحة وعدو وتجذيف على البحيرة التي فوجىء الجميع بظهور نافورة هائلة في وسطها ترسل الماء إلى عنان السماء.
والتقى الدكتور نادر بصديقه إيريك هالين الذي حياه ونزع نظارته ووقف معه يتحدث عن الاحتفال بأسلوب رخى، ونادر ينظر إليه نظرة حادة فيها كثير من الأسئلة والآخر يتفاداه.
وأعاد هالين نظارته إلى عينيه، ودفع وسطها بإصبعه ووضع يده على كتف نادر قائلاً:
- أراك الليلة. عندي لك مفاجأة.
وانصرف دون التفات، فهمس نادر:
وعندي لك مفاجأة أيضاً..
وجاءت كارول فسحبته من يده، وذهبت به نحو البحيرة.
وظل الدكتور نادر مشغول البال أثناء الاحتفالات والمسابقات وانتخاب ملكات الجمال يحملق في الوجوه الضاحكة، وصرخات الممازحة والعبث وكأنه يشاهد رواية رومانية على عهد انهيار الامبراطورية.
ولم يدرك أن كارول فازت بجائزة أجمل بشرة واتت لتريه الجائزه الذهبية فضمها واستقبلها مهنئاً.
وفي ذلك الظهر الباهر فوجىء الجميع بقصف رعد شديد رفع عنده الجميع عيونهم مندهشين إلى السماء فلم تكن هناك علامة سحاب. وزاد ذلك من قلقهم فبدأ بعضهم ينظر في أوجه البعض متسائلين.
وخرج السابحون بسرعة من الماء خوف كهرباء البرق، وسكتت الموسيقى وانخفضت الأصوات والضحكات تدريجياً حتى ماتت تماماً.
وبدأ وجه البحيرة يغلي ومن غليانه سمعت قهقهة خشنة عالية كشخير مارد عملاق.
وجاء بعد صوت معاذ:
- هذا معاذ يكلمكم! ما هذا الصمت المفاجىء؟ هل أنتم خائفون؟ أليس لي الحق في المشاركة في الاحتفال بطريقتي الخاصة؟ أرجو ألا أكون قد قاطعت مسراتكم.
وسكت.
ومن بين البنات خرجت ملكة الجمال الطويلة خرجت من بينهم وقد اقترن حاجباها، وكأنه تعانى من صداع خفيف.
ومرت تعدو أمام الدكتور نادر وكارول، وكأن يداً خفية تقتادها من شفار عينيها حتى اختفت بأحد المصاعد. ونظر نادر إلى كارول فوجدها تنظر إليه بنفس التعبير. الإشفاق على الفتاة والفزع الممزوج بعدم التصديق.
هل ستكون أول قربان في هذا العصر الحجري الجديد؟
في أصيل ذلك اليوم نزل الدكتور نادر لمقابلة "معاذ" بطلب من هذا.
ووقف أمام الفوهة التي كانت حالكة السواد حينئذ يحاول أن يعثر على تعبير عن مزاجه الحالي، فلم يفلح.
وبعد فترة صمت نطق معاذ:
- نادر! هل عندك ما تقول لي؟
- لا. ليس الآن.
- أنت متأكد؟
- تماماً. لماذا؟
- شعور فقط. لا تدع أسئلتي تضايقك. كيف تجد احتفالاتنا؟
- كنت بدأت أتمتع بها. بالمناسبة، ما معنى ذلك التصرف الصبياني؟ لقد أفزعت الجميع.
وصدرت عن "معاذ" ضحكة معدنية كأنها ضرب الصنوج، وقال:
- بيني وبينك، من فينة لأخرى أحب أن أوقف شعورهم رعباً لأتسلى. فهم دائماً جديون متأكدون من أنفسهم لا يعرفون المرح والمزح. سيصبحون آلات صدئة، وسيكون على أن أشحمها وأزيتها. وما داموا أقرب إلى الإنسان فالفكاهة هي وسيلة تزييتهم.
وسكت قليلاً ثم بدأ:
- يجب أن أهنيك.
- على ماذا؟
- على فوز كارول بجائزة أصفى بشرة.
- آه! شكراً...
- رأيي مع رأي اللجنة. كارول فتاة مليحة. لقد أعطيت رأيي في اختيارها وأخشى أن أكون أثرت في النتيجة.
وأومضت في ذهن نادر فكرة كاد يبادر "معاذ" بها، ولكنه كتمها. كان يريد أن يقول: "من أذن لك في التدخل في مثل هذه الأشياء؟" ولكنه خشى أن يجلب غضبه فقال:
- ينبغي أن أهنيك على ذوقك الرفيع.
- شكراً. هل تحب كارول؟
- الحب كلمة أقوى مما يمكن التعبير به عن شعوري نحوها في هذه الظروف. يمكن أن أقول أنا
شديد الإعجاب بها. ولا وقت عندي للحب في "الجودي". فهو من القوات القاهرة التي ينبغي للعلماء التحرر منها إذا نشدوا الوضعية والالتزام.
- هل كنت تحب تاج؟
ووقفت غصة حامية في حلق الدكتور نادر وهو يحرك رأسه بنعم، وقد داخله شعور بالخطر من اكتشاف "معاذ" هذه الحقيقة. وعزم على أن يسايره ببراءة حتى لا يثير شكوكه إذا كان هذا يستدرجه للاستنطاق. وأضاف معاذ:
- ولو كنت قلت لا لبان الكذب على وجهك. كان ذلك غراماً عظيماً. وك
#الجزء_السادس_عشر
أصبحت البحيرة هادئة تجعد وجهها من حين لآخر نسمة خفيفة فتنعكس الشمس على تجاعيدها كدنانير ذهبية كبيرة.
كان الاستعداد للاحتفال الذي سيدوم ثلاثة أيام قد بدأ مع الفجر. وصعدت البنات إلى شاطىء البحيرة وتسريحات شعورهن كأنها تيجان فاحمة بنية، أو ذهبية، وكشف الرجال عن عضلاتهم القوية التي بناها "معاذ" بالتمرينات الرياضية الإلزامية.
ودخلت كارول على الدكتور نادر لتستعجله والتفتت إليه تستطلع رأيه، وحين لاحظت اندهاشه ابتسمت في خجل حلو، وقالت:
- لابد أن أشرح. ألم أقل لك إنني سأشارك في مسابقة ملكة الجمال؟
وحرك رأسه نافياً:
- لا، ليس لي علم بذلك. كل ما أعرفه هو أن أية لجنة تحكيم لا تعطيك الجائزة الأولى تستحق المحاكمة!
وضحكت كارول وأمسكت بيده وخرجا.
وما كاد النهار ينتصف حتى كان سكان الجودي جميعاً يحيطون بالبحيرة يتمتعون بالشمس والطعام والشراب المصفوف على الموائد المزينة بالزهور.
ومرت استعراضات. وقدم قسم الفنون الجميلة رقصات ومسرحيات فكاهية ومعارض لوحات فنية غريبة. وأقيمت مسابقات سباحة وعدو وتجذيف على البحيرة التي فوجىء الجميع بظهور نافورة هائلة في وسطها ترسل الماء إلى عنان السماء.
والتقى الدكتور نادر بصديقه إيريك هالين الذي حياه ونزع نظارته ووقف معه يتحدث عن الاحتفال بأسلوب رخى، ونادر ينظر إليه نظرة حادة فيها كثير من الأسئلة والآخر يتفاداه.
وأعاد هالين نظارته إلى عينيه، ودفع وسطها بإصبعه ووضع يده على كتف نادر قائلاً:
- أراك الليلة. عندي لك مفاجأة.
وانصرف دون التفات، فهمس نادر:
وعندي لك مفاجأة أيضاً..
وجاءت كارول فسحبته من يده، وذهبت به نحو البحيرة.
وظل الدكتور نادر مشغول البال أثناء الاحتفالات والمسابقات وانتخاب ملكات الجمال يحملق في الوجوه الضاحكة، وصرخات الممازحة والعبث وكأنه يشاهد رواية رومانية على عهد انهيار الامبراطورية.
ولم يدرك أن كارول فازت بجائزة أجمل بشرة واتت لتريه الجائزه الذهبية فضمها واستقبلها مهنئاً.
وفي ذلك الظهر الباهر فوجىء الجميع بقصف رعد شديد رفع عنده الجميع عيونهم مندهشين إلى السماء فلم تكن هناك علامة سحاب. وزاد ذلك من قلقهم فبدأ بعضهم ينظر في أوجه البعض متسائلين.
وخرج السابحون بسرعة من الماء خوف كهرباء البرق، وسكتت الموسيقى وانخفضت الأصوات والضحكات تدريجياً حتى ماتت تماماً.
وبدأ وجه البحيرة يغلي ومن غليانه سمعت قهقهة خشنة عالية كشخير مارد عملاق.
وجاء بعد صوت معاذ:
- هذا معاذ يكلمكم! ما هذا الصمت المفاجىء؟ هل أنتم خائفون؟ أليس لي الحق في المشاركة في الاحتفال بطريقتي الخاصة؟ أرجو ألا أكون قد قاطعت مسراتكم.
وسكت.
ومن بين البنات خرجت ملكة الجمال الطويلة خرجت من بينهم وقد اقترن حاجباها، وكأنه تعانى من صداع خفيف.
ومرت تعدو أمام الدكتور نادر وكارول، وكأن يداً خفية تقتادها من شفار عينيها حتى اختفت بأحد المصاعد. ونظر نادر إلى كارول فوجدها تنظر إليه بنفس التعبير. الإشفاق على الفتاة والفزع الممزوج بعدم التصديق.
هل ستكون أول قربان في هذا العصر الحجري الجديد؟
في أصيل ذلك اليوم نزل الدكتور نادر لمقابلة "معاذ" بطلب من هذا.
ووقف أمام الفوهة التي كانت حالكة السواد حينئذ يحاول أن يعثر على تعبير عن مزاجه الحالي، فلم يفلح.
وبعد فترة صمت نطق معاذ:
- نادر! هل عندك ما تقول لي؟
- لا. ليس الآن.
- أنت متأكد؟
- تماماً. لماذا؟
- شعور فقط. لا تدع أسئلتي تضايقك. كيف تجد احتفالاتنا؟
- كنت بدأت أتمتع بها. بالمناسبة، ما معنى ذلك التصرف الصبياني؟ لقد أفزعت الجميع.
وصدرت عن "معاذ" ضحكة معدنية كأنها ضرب الصنوج، وقال:
- بيني وبينك، من فينة لأخرى أحب أن أوقف شعورهم رعباً لأتسلى. فهم دائماً جديون متأكدون من أنفسهم لا يعرفون المرح والمزح. سيصبحون آلات صدئة، وسيكون على أن أشحمها وأزيتها. وما داموا أقرب إلى الإنسان فالفكاهة هي وسيلة تزييتهم.
وسكت قليلاً ثم بدأ:
- يجب أن أهنيك.
- على ماذا؟
- على فوز كارول بجائزة أصفى بشرة.
- آه! شكراً...
- رأيي مع رأي اللجنة. كارول فتاة مليحة. لقد أعطيت رأيي في اختيارها وأخشى أن أكون أثرت في النتيجة.
وأومضت في ذهن نادر فكرة كاد يبادر "معاذ" بها، ولكنه كتمها. كان يريد أن يقول: "من أذن لك في التدخل في مثل هذه الأشياء؟" ولكنه خشى أن يجلب غضبه فقال:
- ينبغي أن أهنيك على ذوقك الرفيع.
- شكراً. هل تحب كارول؟
- الحب كلمة أقوى مما يمكن التعبير به عن شعوري نحوها في هذه الظروف. يمكن أن أقول أنا
شديد الإعجاب بها. ولا وقت عندي للحب في "الجودي". فهو من القوات القاهرة التي ينبغي للعلماء التحرر منها إذا نشدوا الوضعية والالتزام.
- هل كنت تحب تاج؟
ووقفت غصة حامية في حلق الدكتور نادر وهو يحرك رأسه بنعم، وقد داخله شعور بالخطر من اكتشاف "معاذ" هذه الحقيقة. وعزم على أن يسايره ببراءة حتى لا يثير شكوكه إذا كان هذا يستدرجه للاستنطاق. وأضاف معاذ:
- ولو كنت قلت لا لبان الكذب على وجهك. كان ذلك غراماً عظيماً. وك
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_السابع_عشر
انفتح المصعد فوجد نفسه وجهاً لوجه أمام كارول التي كانت تنتظره بابتسامة مفتعلة. أمسكت بيده وضغطت على رسغه قائلة:
- أين كنت؟ لقد بحثت عنك لنعوم قبل أن ينزل الظلام.
وتبعها إلى البحيرة حيث غطست مفتعلة الحبور، فغطس خلفها وتبعها وقد انتشرت فوقهما أضواء صواريخ الكرنفال، وتساقطت عليهما شظاياها الساخنة.
وتوقفت كارول لتنظر حواليها وتسوي شعرها، ثم أومأت له برأسها أن يغطس ففعل، وتبعته نحو فوهة الناقوس التي كانت مفتوحة في انتظارهما.
كانت سيدة تنتظره برداء قطني ألبسته إياه، وقادته في الحال نحو قاعة الاجتماع.
وجد الجماعة كلها حاضرة، ولاحظ الدكتور هالين الذي حياه بابتسامة. ولم يضيع البروفسور فوش وقتاً فصافحه بحرارته المعهودة، وأقعده إلى جانبه، ثم بدأ:
- ليس لنا وقت طويل نضيعه. لقد عثرنا على شيء نعتقد أنه يهمك. أتذكر أننا في سياق الحديث عن الشخصيات الأولى التي استعمرت "الجودي" وصنعت "معاذاً" وكيف تم اختفاؤها واحداً واحداً؟
فحرك نادر رأسه موافقاً، فأضاف فوش:
- الدكتور ناجي كان أحد المختصين. وكنا نعتقد أنه هرب بجلده من "معاذ" لأنه كان رئيس المبرمجين، وكان آخر من يعرف أسرار تركيبه ونقاط ضعفه. وبحث عملاؤنا في الخارج عنه فل يعثروا له على أثر. وبالأمس علمنا من بعض مبعوثينا من بدو الصحراء أنه...
فقاطع الدكتور نادر:
- سقطت به المروحية قرب إحدى الواحات.
- كيف عرفت؟
- كنت هناك. لم يكن السقوط حادثاً أو عطباً ميكانيكياً.
وحملقت عيون الجماعة فيه، فاسترسل:
- أسقطته قنبلة جاءت من ناحية الجنوب. ظننت في حينها أن الأمر يتعلق بمناورة عسكرية في المنطقة.
ونزل الصمت والوجوم على الجميع...
وفي تلك اللحظة سمع هدير وغليان خارج جدار الناقوس الفولاذي، وبدأت الأرض تهتز بالجماعة اهتزازاً عنيفاً، وكأنهم يتدرجون في كرة على سفح جبل عملاق.
ونظر الدكتور فدراك إلى أعلى وأخذ يشتم:
- تبا أيتها الآلة المراهقة المجنونة!
وعند عودة الهدوء نطق نادر:
- أيها السادة، أعتذر عن شكي في نتائج بحثكم الطويل. فقد كان عليَّ أن أتأكد بنفسي
ونطق الدكتور فدراك:
لاداعي للاعتذار الانسان هو الحيوان الوحيد الذي لايتعلم من تجارب غيره لابد أن ينطح الصخرة ليتعلم!
وتابع نادر:
- أعتقد أنكم على حق في ما يخص اختلال عقل "معاذ". والسبب أيها السادة، هو المراهقة.
"معاذ" لم ينضج عاطفياً. وما يزال فجا يريد أن يثبت آدميته بتجربة جميع العواطف البشرية، وفي قلبها الحب ! ومن ثم كانت الغيرة الشديدة التي أحرقت قلبه، وجعلته يختطف ويبتلع عدداً من رجالنا ونسائنا..
ونطقت كارول:
- آخرهن، كان ملكة جمال المهرجان..
قال الرجل الشرقي:
- في الأحوال العادية لا يكون العقاب على طيش المراهقة حكيماً. ولكن المراهق الآدمي محدود القوة لا يتعدى أذاه نفسه. وهو ضروري لإتمام تجربته واكتمال نموه وتوازنه. أما في حالة معاذ، ففي اعتقادي ينبغي أن نعزله عن جميع السلطات ومصادر القوى حتى لا تبقى الإنسانية تحت رحمته.
وسأل نادر:
- كيف؟
وهنا أشار البروفيسور فوش للسيدة وراءه، فناولته حقيبته تعرف عليها الدكتور نادر لأول نظرة، فقال:
- هذه حقيبة الدكتور ناجي.
فسأل البروفيسور فوش:
- هل رأيتها من قبل؟
- كنت في حالة لا تسمح لي بالملاحظة الواضحة. كنت جريحاً أفقد الدم والوعي. ورأيت تاجاً تقرأ أوراقاً أخرجتها من تلك الحقيبة وعلى وجهها علامات الفزع. وأغمي عليَّ قبل أن أسمع ما كانت تريد أن تقوله لي.
وتكلم فدراك:
- يظهر أن عثورها على هذا السر كان سبب تعذيب "معاذ" لها. ربما كان يريدها أن تقول له عن مكان الحقيبة. أو عن السر الذي بها. أو كان يحاول أن ينسيها ما قرأته. وجنت عليها ذاكرتها القوية فكانت عملية الإشاخة والهرم لتأكيد نسيانها للتفاصيل الكاملة.
وتفتح البروفيسور فوش الحقيبة، وأخرج منها رزمة أوراق على شكل تقرير مفصل بالأرقام والرسوم، وقد التصق به غلاف مستطيل.
وضع فوش التقرير أمامه، ووضع كفيه فوقه والتفت نحو نادر:
- هذا هو تقرير الدكتور ناجي عن حالة "معاذ". وهو يتفق تماماً مع ما اكتشفناه نحن كل واحد على حدة، وبعد فوات الأوان. وقد اتخذ ناجي خطوة إيجابية فردية لعزل "معاذ"، وإرجاعه إلى ميكانيكيته، وقتْل المارد الجبار فيه، ويظهر أن "معاذاً" اكتشف مؤامرته، وأراد قتله أو ابتلاعه، فاستطاع ناجي الهروب، إلا أنه لحق به في طريقه. ولو كان الدكتور ناجي موجوداً الآن، لرأى الخطر أفحش مما كان في عهده، ولسابق إلى ضغط جرس الإنذار...
وضغط فوش على عدة أزرار أمامه، فبدأ النور يخفت في الغرفة، وظهرت صور على الشاشة فبدأ يعلق عليها:
- بدأت تصلنا تقارير مقلقة من جميع الأقسام عن تصرفات "معاذ" الجنونبية في نتائج البحوث المخزونة. فقد عدَّل عدداً من الخطط. في قسم الإنسان مثلاً، بدأت الأجنحة تتضخم لتصبح عماليق لن يتسع لها "الجودي". عدد هائل من العلماء بدأوا يشكون من فقدان الذاكرة والإرادة. كان "معاذ" يريد أن يصنع منهم آلات بدائية تسمع وتطيع ولا تفكر..
#الجزء_السابع_عشر
انفتح المصعد فوجد نفسه وجهاً لوجه أمام كارول التي كانت تنتظره بابتسامة مفتعلة. أمسكت بيده وضغطت على رسغه قائلة:
- أين كنت؟ لقد بحثت عنك لنعوم قبل أن ينزل الظلام.
وتبعها إلى البحيرة حيث غطست مفتعلة الحبور، فغطس خلفها وتبعها وقد انتشرت فوقهما أضواء صواريخ الكرنفال، وتساقطت عليهما شظاياها الساخنة.
وتوقفت كارول لتنظر حواليها وتسوي شعرها، ثم أومأت له برأسها أن يغطس ففعل، وتبعته نحو فوهة الناقوس التي كانت مفتوحة في انتظارهما.
كانت سيدة تنتظره برداء قطني ألبسته إياه، وقادته في الحال نحو قاعة الاجتماع.
وجد الجماعة كلها حاضرة، ولاحظ الدكتور هالين الذي حياه بابتسامة. ولم يضيع البروفسور فوش وقتاً فصافحه بحرارته المعهودة، وأقعده إلى جانبه، ثم بدأ:
- ليس لنا وقت طويل نضيعه. لقد عثرنا على شيء نعتقد أنه يهمك. أتذكر أننا في سياق الحديث عن الشخصيات الأولى التي استعمرت "الجودي" وصنعت "معاذاً" وكيف تم اختفاؤها واحداً واحداً؟
فحرك نادر رأسه موافقاً، فأضاف فوش:
- الدكتور ناجي كان أحد المختصين. وكنا نعتقد أنه هرب بجلده من "معاذ" لأنه كان رئيس المبرمجين، وكان آخر من يعرف أسرار تركيبه ونقاط ضعفه. وبحث عملاؤنا في الخارج عنه فل يعثروا له على أثر. وبالأمس علمنا من بعض مبعوثينا من بدو الصحراء أنه...
فقاطع الدكتور نادر:
- سقطت به المروحية قرب إحدى الواحات.
- كيف عرفت؟
- كنت هناك. لم يكن السقوط حادثاً أو عطباً ميكانيكياً.
وحملقت عيون الجماعة فيه، فاسترسل:
- أسقطته قنبلة جاءت من ناحية الجنوب. ظننت في حينها أن الأمر يتعلق بمناورة عسكرية في المنطقة.
ونزل الصمت والوجوم على الجميع...
وفي تلك اللحظة سمع هدير وغليان خارج جدار الناقوس الفولاذي، وبدأت الأرض تهتز بالجماعة اهتزازاً عنيفاً، وكأنهم يتدرجون في كرة على سفح جبل عملاق.
ونظر الدكتور فدراك إلى أعلى وأخذ يشتم:
- تبا أيتها الآلة المراهقة المجنونة!
وعند عودة الهدوء نطق نادر:
- أيها السادة، أعتذر عن شكي في نتائج بحثكم الطويل. فقد كان عليَّ أن أتأكد بنفسي
ونطق الدكتور فدراك:
لاداعي للاعتذار الانسان هو الحيوان الوحيد الذي لايتعلم من تجارب غيره لابد أن ينطح الصخرة ليتعلم!
وتابع نادر:
- أعتقد أنكم على حق في ما يخص اختلال عقل "معاذ". والسبب أيها السادة، هو المراهقة.
"معاذ" لم ينضج عاطفياً. وما يزال فجا يريد أن يثبت آدميته بتجربة جميع العواطف البشرية، وفي قلبها الحب ! ومن ثم كانت الغيرة الشديدة التي أحرقت قلبه، وجعلته يختطف ويبتلع عدداً من رجالنا ونسائنا..
ونطقت كارول:
- آخرهن، كان ملكة جمال المهرجان..
قال الرجل الشرقي:
- في الأحوال العادية لا يكون العقاب على طيش المراهقة حكيماً. ولكن المراهق الآدمي محدود القوة لا يتعدى أذاه نفسه. وهو ضروري لإتمام تجربته واكتمال نموه وتوازنه. أما في حالة معاذ، ففي اعتقادي ينبغي أن نعزله عن جميع السلطات ومصادر القوى حتى لا تبقى الإنسانية تحت رحمته.
وسأل نادر:
- كيف؟
وهنا أشار البروفيسور فوش للسيدة وراءه، فناولته حقيبته تعرف عليها الدكتور نادر لأول نظرة، فقال:
- هذه حقيبة الدكتور ناجي.
فسأل البروفيسور فوش:
- هل رأيتها من قبل؟
- كنت في حالة لا تسمح لي بالملاحظة الواضحة. كنت جريحاً أفقد الدم والوعي. ورأيت تاجاً تقرأ أوراقاً أخرجتها من تلك الحقيبة وعلى وجهها علامات الفزع. وأغمي عليَّ قبل أن أسمع ما كانت تريد أن تقوله لي.
وتكلم فدراك:
- يظهر أن عثورها على هذا السر كان سبب تعذيب "معاذ" لها. ربما كان يريدها أن تقول له عن مكان الحقيبة. أو عن السر الذي بها. أو كان يحاول أن ينسيها ما قرأته. وجنت عليها ذاكرتها القوية فكانت عملية الإشاخة والهرم لتأكيد نسيانها للتفاصيل الكاملة.
وتفتح البروفيسور فوش الحقيبة، وأخرج منها رزمة أوراق على شكل تقرير مفصل بالأرقام والرسوم، وقد التصق به غلاف مستطيل.
وضع فوش التقرير أمامه، ووضع كفيه فوقه والتفت نحو نادر:
- هذا هو تقرير الدكتور ناجي عن حالة "معاذ". وهو يتفق تماماً مع ما اكتشفناه نحن كل واحد على حدة، وبعد فوات الأوان. وقد اتخذ ناجي خطوة إيجابية فردية لعزل "معاذ"، وإرجاعه إلى ميكانيكيته، وقتْل المارد الجبار فيه، ويظهر أن "معاذاً" اكتشف مؤامرته، وأراد قتله أو ابتلاعه، فاستطاع ناجي الهروب، إلا أنه لحق به في طريقه. ولو كان الدكتور ناجي موجوداً الآن، لرأى الخطر أفحش مما كان في عهده، ولسابق إلى ضغط جرس الإنذار...
وضغط فوش على عدة أزرار أمامه، فبدأ النور يخفت في الغرفة، وظهرت صور على الشاشة فبدأ يعلق عليها:
- بدأت تصلنا تقارير مقلقة من جميع الأقسام عن تصرفات "معاذ" الجنونبية في نتائج البحوث المخزونة. فقد عدَّل عدداً من الخطط. في قسم الإنسان مثلاً، بدأت الأجنحة تتضخم لتصبح عماليق لن يتسع لها "الجودي". عدد هائل من العلماء بدأوا يشكون من فقدان الذاكرة والإرادة. كان "معاذ" يريد أن يصنع منهم آلات بدائية تسمع وتطيع ولا تفكر..
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_الثامن_عشر
لم يدر الدكتور نادر كم قضى في جلسته المتحجرة.. فحين استيقظ كان الليل قد أطبق، واكتسى وجه البحيرة بعتمة باردة جعلت وجهها كصفحة من الفولاذ الأزرق...
وشعر بألم في ساقيه لخدر أصابهما أثناء نومته المغناطيسية الطويلة.... أيقظه إحساسه بشيء يتحرك على شاطىء البحيرة، والتفت فإذا صف طويل من المشاعل، وأصوات كنائسية تنبعث من ناحيتها...
وفرك رجليه ثم وقف ليمعن النظر في الموكب، فإذا وجوه مألوفة للعلماء والمبرمجين والفنانين في ملابس بيضاء فضفاضة، يرددون تراتيل آلية إليكترونية لم يفهم ألغازها وهم يتحركون نحوه..
وعند وصولهم إلى الشاطىء المواجه لوجه معاذ المرمري البارز في وسط البحيرة، وقفوا ثم ركزوا المشاعل وراءهم وتوجهوا نحو البحيرة حيث جثوا في حركة واحدة خاشعين..
ولم يصدق نادر عينيه.. حرك رأسه مراراً وهو يأمل أن يكون في حلم لا يلبث أن يفيق منه ليجد حقيقة غير هذه التي يعيشها...
وبحركة لا إرادية خطا نحو الموكب الساجد، وقد أضاءت المشاعل ظهورهم وانعكست أشعتها على الوجه الضخم، فخيل إليه أن تقاسيمه تنفرج عن ابتسامة ساخرة...
وصاح الدكتور نادر في هدأة الليل:
- "معاذ" مات! مات "معاذ"!
وترددت أصداء صرخته بين قمم "الجودي" وأغواره... والتفت قائد الموكب لينظر إلى نادر بعينين غائرتين فيهما الغضب والفزع والتعصب..
وتعرف الدكتور نادر فيه على وجه الدكتور كرونين، فناداه:
- دكتور كرونين.. أنا علي نادر.. أقول لك إن معاذاً مات..! قتلته بنفسي...! إذا لم تصدق فحاول الاتصال به..
ووقف كرونين وتناول شُعْلَتَه، ورفعها ليحملق حيث يقف نادر. وحين رآه التفت إلى الموكب الطويل وصاح بوصت مرتعش غاضب:
- اقتلوا ذلك المارقَ الهِرْطيق..!
وتوجه نحوه ليهوي عليه بالمشعل وهو يقول:
- "معاذ" حي لا يموت! ستذوق جزاء كفرانك، أيها الملحد الفاسق..!
وأدرك الدكتور نادر خطر الموقف، فاستدار وانطلق يعدو حتى اختفى في الظلام..
ووجد نفسه على حافة الجبل يلهث من التعب، وأصوات مطارديه وشعلهم تملأ المكان. فانبطح بين شعاب الصخور وقد دق قلبه في انتظار النهاية الحتمية.
وفجأة أحاطت به المشاعل من كل مكان. ولمع حد الشواقير والحراب في أيدي الجماعة المتوحشة... ونظر إلى وجوههم التي كان ألف فيها الذكاء والدماثة، فوجد أنها تغيرت، وغاب من عيونها كل بريق بشري..
وبدأت الأقدام الحافية تضرب الأرض في هَوَس بدائي، وقد غلت الدماء، وهاجت الأعصاب جائعة للقتل والتخريب... وارتعش بدن نادر كريشة في مهب الريح، وأغمض عينيه ينتظر الضربة القاضية، وقد أحس بضيق وحرج كبيرين في صدره... وبرقت في مخيلته عدة صور وأفكار، ووجد نفسه يدعو الله أن ينجيه فقط من هذه ليعود إلى الله بكامله!
وفي لحظة خاطفة من الإشراق المفاجىء، استعرض حياته ليتذكر أنه عاش أيامه العاقلة كلها غير مؤمن بدين ولا إله وشعر كأنه قطع طريق الخلود على روحه، وخنق نفسه بنفسه وفكريا ليته آمن بالله إذن لهان عليه الموت، ولم يرُعْهُ الفناء...
ودخل دائرة شعوره هدير عال غطى على أصوات مطارديه، ففتح عينيه ورفع وجهه فإذا طائرة مروحية تحوم فوقه وتثير عجاجاً من الغبار في عيون الجماعة وتطفىء مشاعلهم...
ولمسه شيء، فرفع يده فإذا هو سلم يتدلى. أمسك بمرقاتهِ السفلى في الحال وتعلق به. وما كاد يعانقه حتى ارتفعت الحوامة واختطفتهُ من وسط الحلقة التي كادت تطبق عليه...
وبدأ السلم يعصد آلياً والحوامة متوقفة في الفضاء حتى وصل نادر إلى بابها، فدخله وانقفل وراءه، فوقف يلهث غير مصدق المعجزة التي أنقذته..*
وبعد لحظة شعر بوجود الربان، فتوجه نحو غرفة القيادة ليشكره.
كان الربان يلبس خوذة بيضاء تتدلى أمامها نظارة زرقاء تحجب نصف الوجه الأعلى، وقد أمسك بعصا القيادة بيمناه، ولمعت كسوته الفضية تحت ضوء السقف الباهت. قال نادر:
- شكراً لك على إنقاذ حياتي...
فحرك الطيار رأسه، ومد يدا لمصافحته، فأمسك بها الدكتور نادر، وشد عليها بقوة...
وأشار إليه الطيار أن يجلس في الكرسي المجاور، ويشد الحزام حول خصره وصدره، ففعل ممتنا. وعاد ينظر إلى وجه منقذه الغامض الذي لم ينطق بكلمة بعد...
وانتظر لحظات نظر خلالها إلى تحت، فإذا المشاعل تتحرك حركات مجنونة، وبعضها يُرمى نحو الحوامة ليعود نحو راميه...
ومالت الحوامة يميناً، ثم اختفت في الظلام. وابتعد الجبل رويداً رويداً حتى لاحت البحيرة الواسعة كمرآة تحولة إلى نجم أرضي بعيد...
والتفت الدكتور نادر نحو الطيار وسأل:
- مرة أخرى أريد أن أشكرك...
فرفع الطيار يده في قفازها إلى رأسه بالتحية، دون أن ينطق. فأضاف الدكتور نادر:
- أرجو أن تكشف لي عن هويتك...
وارتَفَعَتْ يد الطيار إلى فمه، يطلب السكوت والتمهل، فسكت الدكتور نادر، ووجه نَظَرَهُ نحو الزجاج أمامه يخترق بعينيه الليل ويحاول فك هذا اللغز المحير...
وخدره صوت المروحة الرتيب ودفء الكرسي المريح وصمت الرفيق الغريب وحلكة الليل، فأحس بأعصابه المتوترة ترتخي، ولم يدر كيف انسدل جفناه وراح في سبات ثقيل...
لمس
#الجزء_الثامن_عشر
لم يدر الدكتور نادر كم قضى في جلسته المتحجرة.. فحين استيقظ كان الليل قد أطبق، واكتسى وجه البحيرة بعتمة باردة جعلت وجهها كصفحة من الفولاذ الأزرق...
وشعر بألم في ساقيه لخدر أصابهما أثناء نومته المغناطيسية الطويلة.... أيقظه إحساسه بشيء يتحرك على شاطىء البحيرة، والتفت فإذا صف طويل من المشاعل، وأصوات كنائسية تنبعث من ناحيتها...
وفرك رجليه ثم وقف ليمعن النظر في الموكب، فإذا وجوه مألوفة للعلماء والمبرمجين والفنانين في ملابس بيضاء فضفاضة، يرددون تراتيل آلية إليكترونية لم يفهم ألغازها وهم يتحركون نحوه..
وعند وصولهم إلى الشاطىء المواجه لوجه معاذ المرمري البارز في وسط البحيرة، وقفوا ثم ركزوا المشاعل وراءهم وتوجهوا نحو البحيرة حيث جثوا في حركة واحدة خاشعين..
ولم يصدق نادر عينيه.. حرك رأسه مراراً وهو يأمل أن يكون في حلم لا يلبث أن يفيق منه ليجد حقيقة غير هذه التي يعيشها...
وبحركة لا إرادية خطا نحو الموكب الساجد، وقد أضاءت المشاعل ظهورهم وانعكست أشعتها على الوجه الضخم، فخيل إليه أن تقاسيمه تنفرج عن ابتسامة ساخرة...
وصاح الدكتور نادر في هدأة الليل:
- "معاذ" مات! مات "معاذ"!
وترددت أصداء صرخته بين قمم "الجودي" وأغواره... والتفت قائد الموكب لينظر إلى نادر بعينين غائرتين فيهما الغضب والفزع والتعصب..
وتعرف الدكتور نادر فيه على وجه الدكتور كرونين، فناداه:
- دكتور كرونين.. أنا علي نادر.. أقول لك إن معاذاً مات..! قتلته بنفسي...! إذا لم تصدق فحاول الاتصال به..
ووقف كرونين وتناول شُعْلَتَه، ورفعها ليحملق حيث يقف نادر. وحين رآه التفت إلى الموكب الطويل وصاح بوصت مرتعش غاضب:
- اقتلوا ذلك المارقَ الهِرْطيق..!
وتوجه نحوه ليهوي عليه بالمشعل وهو يقول:
- "معاذ" حي لا يموت! ستذوق جزاء كفرانك، أيها الملحد الفاسق..!
وأدرك الدكتور نادر خطر الموقف، فاستدار وانطلق يعدو حتى اختفى في الظلام..
ووجد نفسه على حافة الجبل يلهث من التعب، وأصوات مطارديه وشعلهم تملأ المكان. فانبطح بين شعاب الصخور وقد دق قلبه في انتظار النهاية الحتمية.
وفجأة أحاطت به المشاعل من كل مكان. ولمع حد الشواقير والحراب في أيدي الجماعة المتوحشة... ونظر إلى وجوههم التي كان ألف فيها الذكاء والدماثة، فوجد أنها تغيرت، وغاب من عيونها كل بريق بشري..
وبدأت الأقدام الحافية تضرب الأرض في هَوَس بدائي، وقد غلت الدماء، وهاجت الأعصاب جائعة للقتل والتخريب... وارتعش بدن نادر كريشة في مهب الريح، وأغمض عينيه ينتظر الضربة القاضية، وقد أحس بضيق وحرج كبيرين في صدره... وبرقت في مخيلته عدة صور وأفكار، ووجد نفسه يدعو الله أن ينجيه فقط من هذه ليعود إلى الله بكامله!
وفي لحظة خاطفة من الإشراق المفاجىء، استعرض حياته ليتذكر أنه عاش أيامه العاقلة كلها غير مؤمن بدين ولا إله وشعر كأنه قطع طريق الخلود على روحه، وخنق نفسه بنفسه وفكريا ليته آمن بالله إذن لهان عليه الموت، ولم يرُعْهُ الفناء...
ودخل دائرة شعوره هدير عال غطى على أصوات مطارديه، ففتح عينيه ورفع وجهه فإذا طائرة مروحية تحوم فوقه وتثير عجاجاً من الغبار في عيون الجماعة وتطفىء مشاعلهم...
ولمسه شيء، فرفع يده فإذا هو سلم يتدلى. أمسك بمرقاتهِ السفلى في الحال وتعلق به. وما كاد يعانقه حتى ارتفعت الحوامة واختطفتهُ من وسط الحلقة التي كادت تطبق عليه...
وبدأ السلم يعصد آلياً والحوامة متوقفة في الفضاء حتى وصل نادر إلى بابها، فدخله وانقفل وراءه، فوقف يلهث غير مصدق المعجزة التي أنقذته..*
وبعد لحظة شعر بوجود الربان، فتوجه نحو غرفة القيادة ليشكره.
كان الربان يلبس خوذة بيضاء تتدلى أمامها نظارة زرقاء تحجب نصف الوجه الأعلى، وقد أمسك بعصا القيادة بيمناه، ولمعت كسوته الفضية تحت ضوء السقف الباهت. قال نادر:
- شكراً لك على إنقاذ حياتي...
فحرك الطيار رأسه، ومد يدا لمصافحته، فأمسك بها الدكتور نادر، وشد عليها بقوة...
وأشار إليه الطيار أن يجلس في الكرسي المجاور، ويشد الحزام حول خصره وصدره، ففعل ممتنا. وعاد ينظر إلى وجه منقذه الغامض الذي لم ينطق بكلمة بعد...
وانتظر لحظات نظر خلالها إلى تحت، فإذا المشاعل تتحرك حركات مجنونة، وبعضها يُرمى نحو الحوامة ليعود نحو راميه...
ومالت الحوامة يميناً، ثم اختفت في الظلام. وابتعد الجبل رويداً رويداً حتى لاحت البحيرة الواسعة كمرآة تحولة إلى نجم أرضي بعيد...
والتفت الدكتور نادر نحو الطيار وسأل:
- مرة أخرى أريد أن أشكرك...
فرفع الطيار يده في قفازها إلى رأسه بالتحية، دون أن ينطق. فأضاف الدكتور نادر:
- أرجو أن تكشف لي عن هويتك...
وارتَفَعَتْ يد الطيار إلى فمه، يطلب السكوت والتمهل، فسكت الدكتور نادر، ووجه نَظَرَهُ نحو الزجاج أمامه يخترق بعينيه الليل ويحاول فك هذا اللغز المحير...
وخدره صوت المروحة الرتيب ودفء الكرسي المريح وصمت الرفيق الغريب وحلكة الليل، فأحس بأعصابه المتوترة ترتخي، ولم يدر كيف انسدل جفناه وراح في سبات ثقيل...
لمس
#الطوفان_الأزرق 💙
#الجزء_التاسع_عشر والاخيره
سامحني إذا كنت أحرجتك؟
فوضع وجهه في كفيه، وقال:
- لاتعتذري، أرجوك... أتميِّ استحمامك الآن، وسنتحدث بعد ذلك...
وتركها ليهيم مفكراً بين النخيل، ويقلب وجهه في السماء...
لم يكن صراعه الداخلي عاطفياً فقط، فقد كانت عقليته العلمية وطريقة تفكيره المنطقية تقاطع عواطفه بعنف. هل هذا ممكن علمياً؟ لو لم يره بعينيه ما كان ليصدقه..! هل كانت هذا التقمص حادثاً فريداً من نوعه، أم في الإمكان تكراره في ظروف علمية مخبرية؟ وإذا كان ذلك ممكناً، فهل يمكن أن تسكن روح جسداً لم يصنع على مقاسها؟ هل يمكن لجسم كارول النخيف الطري أن يحتمل روح تاج الشرقية الحامية المحرقة؟ وما شرعية تبادل الأجساد؟ هل يمكن للمثري البشع أن يشتري لنفسه جسداً جميلاً؟ هل يمكن للعجوز الشمطاء أن تتقمص جسداً شاباً؟ وللسمين أن يحتلَّ جسداً نحيفاً؟ وفي كل جسد مشوه روح تطمح إلى التحرر والانعتاق...
وبعد أن لمعت في ذهنه هذه الأسئلة، وعشرات غيرها معقدة المفاهيم، عاد إلى واقعة يتساءل: "هل يمكنني أن أحب تاجاً في جسمها المستعار كما كنت أحبها من قبل؟ الحب الحقيقي هو ما تعدى الجسد إلى الروح... فهل في إمكاني تخطي جسد كارول إلى روح تاج؟
وأدرك كما لم يدرك في أي وقت مضى أهمية الجسد الذي حاول كثير من الأنبياء والفلاسفة والنساك تجاهله وإهماله... وعاد بذاكرته إلى حلمه القديم وهو يرى تاجاً وكيف كان سواد عينيها وشعرها من العوامل التي ألهبت خياله وجذبته نحوها...
وفكر في جسد كارول الناضج وعينيها الرماديتين وشعرها الأحمر، فلم تجذبه إليها كرجل شرقي بنفس الحرارة التي جذبته تاج... الجمال الغربي كان عنده مؤقتاً وليس خالداً كالشرقي....
وقضى ذلك المساء هائماً حتى أنهطه التجوال والتفكير، فقصد إلى ظل نخلة وانطرح ليستريح، فأخذته إغفاءة حولتها نسمات المساء إلى نومة عميقة...
أحس الدكتورنادر بقرع متواصل على قاع حذائه فخرج من نومة الأموات التي استغرقت جسده وعقله المجهدين... وجاهد ليفتح عينيه غير واع أين هو ولا بمن يوقظه. ومن تحت غشاوة نومه رأى وجهاً آدمياً يشرف عليه من فوق، وسمع صوتاً خشناً يحاول إيقاظه... واتكأ على مرفقيه ليعتدل جالساً بظهره إلى النخلة، وفرك عينيه وتثاءب، ثم نظر إلى حيث الوجه، فإذا هو ضابط شاب مُلوح الوجه والذراعين من حرس الحود المغربية.
سأل الضابط بصوت آمر:
- هل معك سلاح؟
وحرك نادر رأسه نافياً:
- لا!
فأشار الضابط الشاب إلى أحد رجاله الملتحين بسوط في يده، فخف هذا نحو الدكتور نادر وطلب منه أن يقف. وحين وقف مر الرجل بيديه على جيوبه وأطرافه، ثم التفت إلى ضابطه وقال:
- لا سلاح معه.
ثم عاد إلى حيث كان واقفاً إلى جانب جَمَلِه، واستدار الدكتور نادر لينظر إلى الدورية المكونة من خمسة رجال في ملابس صحراوية، بعضهم يبدو عليه أنه في سن والد الضابط.
ونظر إلى الضابط الشاب الذي أشار إليه أن يُسدل يديه ويستريح، فإذا هو حليق الوجه في عقده الثالث. وسأل هذا:
- من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
- أنا الدكتور على نادر. أنا مفقود..
- هل معك أوراق هوية؟
وكأنما فوجىء الدكتور نادر بالسؤال، فنظر إلى صدره ليرى ماذا يلبس وهل له جيوب. ثم لمس صدره وجنبيه وقال:
- لا، ليس معي أوراق. لقد ضاعت حقيبتي...
ثم تذكر فجأة فنظر حواليه إلى حيث كانت المروحية جاثمة فلم يجد لها أثراً... ونظر بشك وتردد إلى الضابط ورجاله ثم سأل:
- أين هي؟
- من؟
- الفتاة.
- أية فتاة؟
- تاج. أعني كارول. والمروحية؟
فكرر الضابط الشاب باستغراب:
- المروحية؟!
المروحية التي كانت باركة هناك .. ماذا فعلتم بها؟.
ومص الضابط شفتيه، وأشار إلى الدكتور نادر متلطفاً:
- أعتقد أنه من الأحسن أن تأتي معنا...
وأمر له بناقة وغطاء رأس، فامتطاها على مضض وهو زائغ العينين، يحملق حواليه بحثاً عن كارول، وقد بدأ يدرك حقيقة موقفه.
ما حدث بعد ذلك كان شديد الإحباط وخيبة الأمل للدكتور نادر...
فقد تناقلته السلطات من مركز إلى مركز حتى وصل إلى وزارة الداخلية... وكلما بدأ يحكي قصته لمسؤول بانت علامة الشفقة وعدم التصديق على وجهه، فقاطعه بلباقة وأرسله إلى مركز أعلى للقرار في شأنه...
وأرسلته الداخلية إلى مسقط رأسه، حيث تعرفت السلطات عليه، وأثبتت هويته. وقفلت الداخلية ملفه على أنه ضحية حادث طائرة ظل هائماً في الصحراء حتى أُصيب بخلل عقلي. وقد سلم لعائلته للقيام بعلاجه.
ولم ييأس الدكتور نادر! إلا أنه لم يعد يكرر قصته على أحد حتى لا يصبح هدفاً للسخرية وللتنكيت.
وبمجرد حصوله على جواز سفر جديد سافر إلى لندن، حيث كانت سبقته أخبار ظهوره بعد حادث الاختطاف أو الاختفاء الغامض.
وخرج رجال سكوتلانديارد من غرفة الدكتور نادر مودعين بلباقة، وعلى وجه رئيسهم نفس النظرة التي اعتاد أن يراها نادر على أوجه الرسميين المغاربة، الإشفاق وعدم التصديق.
واكتظ الفندق الذي نزل به برجال الصحافة وأعضاء الجمعية الأنثرو
بولوجية وآلات التلفزيون والراديو، فقرر أن يجتمع بالجميع في مؤتمر صحافي بمسرح
#الجزء_التاسع_عشر والاخيره
سامحني إذا كنت أحرجتك؟
فوضع وجهه في كفيه، وقال:
- لاتعتذري، أرجوك... أتميِّ استحمامك الآن، وسنتحدث بعد ذلك...
وتركها ليهيم مفكراً بين النخيل، ويقلب وجهه في السماء...
لم يكن صراعه الداخلي عاطفياً فقط، فقد كانت عقليته العلمية وطريقة تفكيره المنطقية تقاطع عواطفه بعنف. هل هذا ممكن علمياً؟ لو لم يره بعينيه ما كان ليصدقه..! هل كانت هذا التقمص حادثاً فريداً من نوعه، أم في الإمكان تكراره في ظروف علمية مخبرية؟ وإذا كان ذلك ممكناً، فهل يمكن أن تسكن روح جسداً لم يصنع على مقاسها؟ هل يمكن لجسم كارول النخيف الطري أن يحتمل روح تاج الشرقية الحامية المحرقة؟ وما شرعية تبادل الأجساد؟ هل يمكن للمثري البشع أن يشتري لنفسه جسداً جميلاً؟ هل يمكن للعجوز الشمطاء أن تتقمص جسداً شاباً؟ وللسمين أن يحتلَّ جسداً نحيفاً؟ وفي كل جسد مشوه روح تطمح إلى التحرر والانعتاق...
وبعد أن لمعت في ذهنه هذه الأسئلة، وعشرات غيرها معقدة المفاهيم، عاد إلى واقعة يتساءل: "هل يمكنني أن أحب تاجاً في جسمها المستعار كما كنت أحبها من قبل؟ الحب الحقيقي هو ما تعدى الجسد إلى الروح... فهل في إمكاني تخطي جسد كارول إلى روح تاج؟
وأدرك كما لم يدرك في أي وقت مضى أهمية الجسد الذي حاول كثير من الأنبياء والفلاسفة والنساك تجاهله وإهماله... وعاد بذاكرته إلى حلمه القديم وهو يرى تاجاً وكيف كان سواد عينيها وشعرها من العوامل التي ألهبت خياله وجذبته نحوها...
وفكر في جسد كارول الناضج وعينيها الرماديتين وشعرها الأحمر، فلم تجذبه إليها كرجل شرقي بنفس الحرارة التي جذبته تاج... الجمال الغربي كان عنده مؤقتاً وليس خالداً كالشرقي....
وقضى ذلك المساء هائماً حتى أنهطه التجوال والتفكير، فقصد إلى ظل نخلة وانطرح ليستريح، فأخذته إغفاءة حولتها نسمات المساء إلى نومة عميقة...
أحس الدكتورنادر بقرع متواصل على قاع حذائه فخرج من نومة الأموات التي استغرقت جسده وعقله المجهدين... وجاهد ليفتح عينيه غير واع أين هو ولا بمن يوقظه. ومن تحت غشاوة نومه رأى وجهاً آدمياً يشرف عليه من فوق، وسمع صوتاً خشناً يحاول إيقاظه... واتكأ على مرفقيه ليعتدل جالساً بظهره إلى النخلة، وفرك عينيه وتثاءب، ثم نظر إلى حيث الوجه، فإذا هو ضابط شاب مُلوح الوجه والذراعين من حرس الحود المغربية.
سأل الضابط بصوت آمر:
- هل معك سلاح؟
وحرك نادر رأسه نافياً:
- لا!
فأشار الضابط الشاب إلى أحد رجاله الملتحين بسوط في يده، فخف هذا نحو الدكتور نادر وطلب منه أن يقف. وحين وقف مر الرجل بيديه على جيوبه وأطرافه، ثم التفت إلى ضابطه وقال:
- لا سلاح معه.
ثم عاد إلى حيث كان واقفاً إلى جانب جَمَلِه، واستدار الدكتور نادر لينظر إلى الدورية المكونة من خمسة رجال في ملابس صحراوية، بعضهم يبدو عليه أنه في سن والد الضابط.
ونظر إلى الضابط الشاب الذي أشار إليه أن يُسدل يديه ويستريح، فإذا هو حليق الوجه في عقده الثالث. وسأل هذا:
- من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟
- أنا الدكتور على نادر. أنا مفقود..
- هل معك أوراق هوية؟
وكأنما فوجىء الدكتور نادر بالسؤال، فنظر إلى صدره ليرى ماذا يلبس وهل له جيوب. ثم لمس صدره وجنبيه وقال:
- لا، ليس معي أوراق. لقد ضاعت حقيبتي...
ثم تذكر فجأة فنظر حواليه إلى حيث كانت المروحية جاثمة فلم يجد لها أثراً... ونظر بشك وتردد إلى الضابط ورجاله ثم سأل:
- أين هي؟
- من؟
- الفتاة.
- أية فتاة؟
- تاج. أعني كارول. والمروحية؟
فكرر الضابط الشاب باستغراب:
- المروحية؟!
المروحية التي كانت باركة هناك .. ماذا فعلتم بها؟.
ومص الضابط شفتيه، وأشار إلى الدكتور نادر متلطفاً:
- أعتقد أنه من الأحسن أن تأتي معنا...
وأمر له بناقة وغطاء رأس، فامتطاها على مضض وهو زائغ العينين، يحملق حواليه بحثاً عن كارول، وقد بدأ يدرك حقيقة موقفه.
ما حدث بعد ذلك كان شديد الإحباط وخيبة الأمل للدكتور نادر...
فقد تناقلته السلطات من مركز إلى مركز حتى وصل إلى وزارة الداخلية... وكلما بدأ يحكي قصته لمسؤول بانت علامة الشفقة وعدم التصديق على وجهه، فقاطعه بلباقة وأرسله إلى مركز أعلى للقرار في شأنه...
وأرسلته الداخلية إلى مسقط رأسه، حيث تعرفت السلطات عليه، وأثبتت هويته. وقفلت الداخلية ملفه على أنه ضحية حادث طائرة ظل هائماً في الصحراء حتى أُصيب بخلل عقلي. وقد سلم لعائلته للقيام بعلاجه.
ولم ييأس الدكتور نادر! إلا أنه لم يعد يكرر قصته على أحد حتى لا يصبح هدفاً للسخرية وللتنكيت.
وبمجرد حصوله على جواز سفر جديد سافر إلى لندن، حيث كانت سبقته أخبار ظهوره بعد حادث الاختطاف أو الاختفاء الغامض.
وخرج رجال سكوتلانديارد من غرفة الدكتور نادر مودعين بلباقة، وعلى وجه رئيسهم نفس النظرة التي اعتاد أن يراها نادر على أوجه الرسميين المغاربة، الإشفاق وعدم التصديق.
واكتظ الفندق الذي نزل به برجال الصحافة وأعضاء الجمعية الأنثرو
بولوجية وآلات التلفزيون والراديو، فقرر أن يجتمع بالجميع في مؤتمر صحافي بمسرح
لمحبي القراءة لعشاق القصص والروايات📚
'الفهررس رقم "٢ "'
القصص والروايات الموجوده بقناتنا حالياً فقط المس الرابط وبتوصل لبدايه الرواية سهلنا عليكم عناء البحث 😍
رواياتنا كالتالي :-
ــــــــــــــــــــــــ
→ ــــ ٥١ ــــ ←
#مذكرات_زوجة_اولى 🥀
https://t.me/Novels_stories/11206
→ ــــ ٥٢ ــــ ←
#عويل_الاشباح ☠
https://t.me/Novels_stories/11511
→ ــــ ٥٣ ــــ ←
#مذكرات_رجل_متزوج 👨🏻
https://t.me/Novels_stories/11582
→ ــــ ٥٤ ــــ ←
#الـــــبـــــركــــــيــــن 👻
https://t.me/Novels_stories/11690
→ ــــ ٥٥ ــــ ←
#الأجنحة_المتكسرة 🕊
https://t.me/Novels_stories/11762
→ ــــ ٥٦ ـــــ ←
#زَمجرة_رُعود 👨🏻✈️
https://t.me/Novels_stories/12021
→ ــــــ ٥٧ ـــــ ←
#خلود_والانترنت 👩🏻💻
https://t.me/Novels_stories/12280
→ ــــــ ٥٨ ـــــ ←
#قلـــــــعة_ماليبــــو 🏰
https://t.me/Novels_stories/12459
→ ــــــ ٥٩ ـــــ ←
#مختصر_الحكايه 💔
https://t.me/Novels_stories/12998
→ ــــــ ٦٠ ـــــ ←
#ملاك_حبي ❤
https://t.me/Novels_stories/14108
→ ــــــ ٦١ ـــــ ←
#شبح_القتيلة 👻
https://t.me/Novels_stories/15433
→ ــــــ ٦٢ ـــــ ←
#٤٨ساعة 🕙
https://t.me/Novels_stories/15752
→ ــــــ ٦٣ ـــــ ←
#الأموات_المحاربون 👨🏻🏭
https://t.me/Novels_stories/16222
→ ــــــ ٦٤ ـــــ ←
#معشوقتي_يتيمة 💜
https://t.me/Novels_stories/16247
→ ــــــ ٦٥ ـــــ ←
#دعني_أحطم_غرورك 🤚🏻
https://t.me/Novels_stories/16315
→ ــــــ ٦٦ ـــــ ←
#الطوفان_الأزرق 💙
https://t.me/Novels_stories/16853
→ ــــــ ٦٧ ـــــ ←
#الاليت_لي_قلبين 💕
https://t.me/Novels_stories/17187
ــــــــــــــــــــــــ
وبالاضافه الى قصص يوميه للصباح وماقبل النوم وللمزيد من الروايات تابعونا على قناتنا ❤
https://t.me/joinchat/AAAAAD-xrVl62QWJj-y3Ug
#قصص_وروايات ✏📚
'الفهررس رقم "٢ "'
القصص والروايات الموجوده بقناتنا حالياً فقط المس الرابط وبتوصل لبدايه الرواية سهلنا عليكم عناء البحث 😍
رواياتنا كالتالي :-
ــــــــــــــــــــــــ
→ ــــ ٥١ ــــ ←
#مذكرات_زوجة_اولى 🥀
https://t.me/Novels_stories/11206
→ ــــ ٥٢ ــــ ←
#عويل_الاشباح ☠
https://t.me/Novels_stories/11511
→ ــــ ٥٣ ــــ ←
#مذكرات_رجل_متزوج 👨🏻
https://t.me/Novels_stories/11582
→ ــــ ٥٤ ــــ ←
#الـــــبـــــركــــــيــــن 👻
https://t.me/Novels_stories/11690
→ ــــ ٥٥ ــــ ←
#الأجنحة_المتكسرة 🕊
https://t.me/Novels_stories/11762
→ ــــ ٥٦ ـــــ ←
#زَمجرة_رُعود 👨🏻✈️
https://t.me/Novels_stories/12021
→ ــــــ ٥٧ ـــــ ←
#خلود_والانترنت 👩🏻💻
https://t.me/Novels_stories/12280
→ ــــــ ٥٨ ـــــ ←
#قلـــــــعة_ماليبــــو 🏰
https://t.me/Novels_stories/12459
→ ــــــ ٥٩ ـــــ ←
#مختصر_الحكايه 💔
https://t.me/Novels_stories/12998
→ ــــــ ٦٠ ـــــ ←
#ملاك_حبي ❤
https://t.me/Novels_stories/14108
→ ــــــ ٦١ ـــــ ←
#شبح_القتيلة 👻
https://t.me/Novels_stories/15433
→ ــــــ ٦٢ ـــــ ←
#٤٨ساعة 🕙
https://t.me/Novels_stories/15752
→ ــــــ ٦٣ ـــــ ←
#الأموات_المحاربون 👨🏻🏭
https://t.me/Novels_stories/16222
→ ــــــ ٦٤ ـــــ ←
#معشوقتي_يتيمة 💜
https://t.me/Novels_stories/16247
→ ــــــ ٦٥ ـــــ ←
#دعني_أحطم_غرورك 🤚🏻
https://t.me/Novels_stories/16315
→ ــــــ ٦٦ ـــــ ←
#الطوفان_الأزرق 💙
https://t.me/Novels_stories/16853
→ ــــــ ٦٧ ـــــ ←
#الاليت_لي_قلبين 💕
https://t.me/Novels_stories/17187
ــــــــــــــــــــــــ
وبالاضافه الى قصص يوميه للصباح وماقبل النوم وللمزيد من الروايات تابعونا على قناتنا ❤
https://t.me/joinchat/AAAAAD-xrVl62QWJj-y3Ug
#قصص_وروايات ✏📚
Telegram
قصص وروايات✏
#مذكرات_زوجة_اولى 🥀
'''٣٠ يوماً لاتعافى منك'''
روايه جديده ذات اسلوب كتابة رائع جدا يجعلك تعيش مع الكاتبه عندما تسرد احداث ايامها لندخل بعالمها ونعيش مشاعرها كلماتها تلامس القلب ❤
تحكي لنا تجربتها في 30 يوماً لتشفى من حب 15 سنة لا ارى أصعب تحدي تواجهه المراءه…
'''٣٠ يوماً لاتعافى منك'''
روايه جديده ذات اسلوب كتابة رائع جدا يجعلك تعيش مع الكاتبه عندما تسرد احداث ايامها لندخل بعالمها ونعيش مشاعرها كلماتها تلامس القلب ❤
تحكي لنا تجربتها في 30 يوماً لتشفى من حب 15 سنة لا ارى أصعب تحدي تواجهه المراءه…
لمحبي القراءة لعشاق القصص والروايات📚
'الفهررس رقم "٢ "'
القصص والروايات الموجوده بقناتنا حالياً فقط المس الرابط وبتوصل لبدايه الرواية سهلنا عليكم عناء البحث 😍
رواياتنا كالتالي :-
ــــــــــــــــــــــــ
→ ــــ ٥١ ــــ ←
#مذكرات_زوجة_اولى 🥀
https://t.me/Novels_stories/11206
→ ــــ ٥٢ ــــ ←
#عويل_الاشباح ☠
https://t.me/Novels_stories/11511
→ ــــ ٥٣ ــــ ←
#مذكرات_رجل_متزوج 👨🏻
https://t.me/Novels_stories/11582
→ ــــ ٥٤ ــــ ←
#الـــــبـــــركــــــيــــن 👻
https://t.me/Novels_stories/11690
→ ــــ ٥٥ ــــ ←
#الأجنحة_المتكسرة 🕊
https://t.me/Novels_stories/11762
→ ــــ ٥٦ ـــــ ←
#زَمجرة_رُعود 👨🏻✈️
https://t.me/Novels_stories/12021
→ ــــــ ٥٧ ـــــ ←
#خلود_والانترنت 👩🏻💻
https://t.me/Novels_stories/12280
→ ــــــ ٥٨ ـــــ ←
#قلـــــــعة_ماليبــــو 🏰
https://t.me/Novels_stories/12459
→ ــــــ ٥٩ ـــــ ←
#مختصر_الحكايه 💔
https://t.me/Novels_stories/12998
→ ــــــ ٦٠ ـــــ ←
#ملاك_حبي ❤
https://t.me/Novels_stories/14108
→ ــــــ ٦١ ـــــ ←
#شبح_القتيلة 👻
https://t.me/Novels_stories/15433
→ ــــــ ٦٢ ـــــ ←
#٤٨ساعة 🕙
https://t.me/Novels_stories/15752
→ ــــــ ٦٣ ـــــ ←
#الأموات_المحاربون 👨🏻🏭
https://t.me/Novels_stories/16222
→ ــــــ ٦٤ ـــــ ←
#معشوقتي_يتيمة 💜
https://t.me/Novels_stories/16247
→ ــــــ ٦٥ ـــــ ←
#دعني_أحطم_غرورك 🤚🏻
https://t.me/Novels_stories/16315
→ ــــــ ٦٦ ـــــ ←
#الطوفان_الأزرق 💙
https://t.me/Novels_stories/16853
→ ــــــ ٦٧ ـــــ ←
#الاليت_لي_قلبين 💕
https://t.me/Novels_stories/17187
→ ــــــ ٦٨ ـــــ ←
#سكر_الحب 💕
https://t.me/Novels_stories/17305
→ ــــــ ٦٩ ـــــ ←
#نعم_أنا_ابنتها 🍃
https://t.me/Novels_stories/17390
→ ــــــ ٧٠ ـــــ ←
#بنات_اليوم 👩🏻
https://t.me/Novels_stories/17483
→ ــــــ ٧١ ـــــ ←
#السجينة_غيداء 👱🏼♀
https://t.me/Novels_stories/17794
→ ــــــ ٧٢ ـــــ ←
#تخيلات 💭
https://t.me/Novels_stories/17880
→ ــــــ ٧٣ ـــــ ←
#لاتبحث_عن_الحب 💕
https://t.me/Novels_stories/17948
ــــــــــــــــــــــــ
وبالاضافه الى قصص يوميه للصباح وماقبل النوم وللمزيد من الروايات تابعونا على قناتنا ❤
https://t.me/joinchat/AAAAAD-xrVl62QWJj-y3Ug
#قصص_وروايات ✏📚
'الفهررس رقم "٢ "'
القصص والروايات الموجوده بقناتنا حالياً فقط المس الرابط وبتوصل لبدايه الرواية سهلنا عليكم عناء البحث 😍
رواياتنا كالتالي :-
ــــــــــــــــــــــــ
→ ــــ ٥١ ــــ ←
#مذكرات_زوجة_اولى 🥀
https://t.me/Novels_stories/11206
→ ــــ ٥٢ ــــ ←
#عويل_الاشباح ☠
https://t.me/Novels_stories/11511
→ ــــ ٥٣ ــــ ←
#مذكرات_رجل_متزوج 👨🏻
https://t.me/Novels_stories/11582
→ ــــ ٥٤ ــــ ←
#الـــــبـــــركــــــيــــن 👻
https://t.me/Novels_stories/11690
→ ــــ ٥٥ ــــ ←
#الأجنحة_المتكسرة 🕊
https://t.me/Novels_stories/11762
→ ــــ ٥٦ ـــــ ←
#زَمجرة_رُعود 👨🏻✈️
https://t.me/Novels_stories/12021
→ ــــــ ٥٧ ـــــ ←
#خلود_والانترنت 👩🏻💻
https://t.me/Novels_stories/12280
→ ــــــ ٥٨ ـــــ ←
#قلـــــــعة_ماليبــــو 🏰
https://t.me/Novels_stories/12459
→ ــــــ ٥٩ ـــــ ←
#مختصر_الحكايه 💔
https://t.me/Novels_stories/12998
→ ــــــ ٦٠ ـــــ ←
#ملاك_حبي ❤
https://t.me/Novels_stories/14108
→ ــــــ ٦١ ـــــ ←
#شبح_القتيلة 👻
https://t.me/Novels_stories/15433
→ ــــــ ٦٢ ـــــ ←
#٤٨ساعة 🕙
https://t.me/Novels_stories/15752
→ ــــــ ٦٣ ـــــ ←
#الأموات_المحاربون 👨🏻🏭
https://t.me/Novels_stories/16222
→ ــــــ ٦٤ ـــــ ←
#معشوقتي_يتيمة 💜
https://t.me/Novels_stories/16247
→ ــــــ ٦٥ ـــــ ←
#دعني_أحطم_غرورك 🤚🏻
https://t.me/Novels_stories/16315
→ ــــــ ٦٦ ـــــ ←
#الطوفان_الأزرق 💙
https://t.me/Novels_stories/16853
→ ــــــ ٦٧ ـــــ ←
#الاليت_لي_قلبين 💕
https://t.me/Novels_stories/17187
→ ــــــ ٦٨ ـــــ ←
#سكر_الحب 💕
https://t.me/Novels_stories/17305
→ ــــــ ٦٩ ـــــ ←
#نعم_أنا_ابنتها 🍃
https://t.me/Novels_stories/17390
→ ــــــ ٧٠ ـــــ ←
#بنات_اليوم 👩🏻
https://t.me/Novels_stories/17483
→ ــــــ ٧١ ـــــ ←
#السجينة_غيداء 👱🏼♀
https://t.me/Novels_stories/17794
→ ــــــ ٧٢ ـــــ ←
#تخيلات 💭
https://t.me/Novels_stories/17880
→ ــــــ ٧٣ ـــــ ←
#لاتبحث_عن_الحب 💕
https://t.me/Novels_stories/17948
ــــــــــــــــــــــــ
وبالاضافه الى قصص يوميه للصباح وماقبل النوم وللمزيد من الروايات تابعونا على قناتنا ❤
https://t.me/joinchat/AAAAAD-xrVl62QWJj-y3Ug
#قصص_وروايات ✏📚