والأحياء أعقد المركبات نشأت اتفاقًا على ما قال أنبادوقليس وديموقريطس، وبقي الأصلح وثبت نوعه، والنفس الإنسانية جسم حار لطيف للغاية تتألف مع الجسم وتنحل بانحلاله، وهي اثنتان أو لها وظيفتان: إحداهما حيوية هي بث الحياة في الجسم، والأخرى وجدانية هي الشعور والفكر والإرادة، وتؤدي النفس الوظيفة الأولى بجواهرَ لطيفةٍ متحركة حارة منتشرة في الجسم كله، وتؤدي الوظيفة الثانية بجواهرَ ألطفَ محلها القلب، الأولى شرط الثانية والجسم شرط النفس كلها، فإن الجسم إذا انفصلت جواهره انطلقت النفس وتبددت جواهرها، والنفس الحيوية تتألم بألم الجسم، أما النفس المفكرة أو «نفس النفس» فإن لها من الاستقلال ما تستطيع معه أن تكون سعيدة مهما يكن من حال الجسم. ويفسر الإحساس بأن «قشورًا» رقيقة غاية الرقة تنبعث باستمرار من سطح الأشياء وتتحرك بسرعة في الهواء محتفظة بصور الأشياء المنبعثة عنها — فهي «أشباه» لها — حتى إذا ما صادفت الحواس وبلغت إلى القلب أحدثت الإحساس، وفي الهواء أشباه لا يحصيها العد متطايرة ليس فقط من الأشياء القريبة بل أيضًا من الأشياء البعيدة والماضية، وهذه أصل خيالات المنام واليقظة: فالمخيلة تجري على نسق الحس تمامًا، والخيالات إحساسات لا صور مستعادة، ولو توهمنا عكس ذلك من أننا نتخيل ما نشاء، فالحقيقة أن ألوفًا من الأشباه تزدحم على الفكر في كل وقت، فلا يتأثر الفكر إلا بالتي يوجه إليها انتباهه، فنظن أننا نستعيد صورًا ماضية، وهذه الأشباه عرضة لأن يختلط بعضها ببعض في مجاريها أو تلتوي أو تنقسم، وهذا أصل أخطاء الحواس كرؤية البرج المربع مستديرًا، وهذا أصل تصورنا في المنام الحيوانات الخرافية التي لم توجد قط، وإذن فلا موجب للخوف مما يبدو لنا في الأحلام ولا إلى اعتباره نذيرًا من لدن الآلهة.
(د) والآلهة موجودون، يدل على وجودهم أولًا: أنهم موضوع «فكرة سابقة» شائعة في الإنسانية جمعاء، والفكرة السابقة تتكون بتكرار الإحساس وكل إحساس فهو صادق، وأساس هذه الفكرة السابقة الخيالات التي تتراءى لنا في المنام وفي اليقظة، والتي لا بد أن تكون منبعثة عن الآلهة أنفسهم. ثانيًا: عندنا فكرة وجود دائم سعيد، والآلهة يقابلون هذه الفكرة. ثالثًا: لكل شيء ضده يحقق المعادلة في الوجود، فلا بد أن يقابل الوجود الفاني المتألم وجود دائم سعيد. ويجب أن نتصور الآلهة على حسب أحسن شيء فينا: أجسامهم لطيفة غاية اللطافة متحركة أبدًا بين العوالم بمعزل عنها، فلا ينالهم ما ينالها من دثور ولكنهم مخلدون، ولما كانوا سعداء بعيدين عن العوالم كما قلنا فهم لا يعنون بنا ولا يكدرون صفوهم بشئوننا ولا يعلنون عن إرادتهم بالنُّذُر كما تعتقد العامة، هذه المعتقدات وما يتفرع عليها من خرافات مثل تقديم القرابين للآلهة — وأحيانًا القرابين البشرية — لطلب مددهم ورضائهم، تناقض الفكرة السابقة عنهم؛ إذ يستحيل أن يكون الآلهة سعداء مطمئنين مع ما نضيفه إليهم من عواطفَ وشواغلَ، فعلينا أن نطمئن نحن من جهتهم وأن ننفي عن نفوسنا الخوف منهم. ولقد كان هذا الخوف عظيمًا في اليونان بما توارثوه من أساطيرَ عن القدر يعبث بالبشر عبثًا، وبما حشدت هذه الأساطير في العالم الآخر من حيوانات هائلة وعذاب أليم، فأراد أبيقوروس أن يرفع عنهم هذا الكابوس وكان في وسعه أن يحول أنظارهم إلى جنات أفلاطون فآثر أن يمحوَ الجنة والجحيم جميعًا بهذا المذهب المتهافت السخيف، ومع اعتقاده هذا في الآلهة فقد كان يختلف إلى المعابد ويشارك في الشعائر، ولعله كان يفعل ذلك؛ استرضاءً للعامة، وتفاديًا من الخصومة معهم، وهو فيلسوف الراحة والطمأنينة كما سنرى.
4
(د) والآلهة موجودون، يدل على وجودهم أولًا: أنهم موضوع «فكرة سابقة» شائعة في الإنسانية جمعاء، والفكرة السابقة تتكون بتكرار الإحساس وكل إحساس فهو صادق، وأساس هذه الفكرة السابقة الخيالات التي تتراءى لنا في المنام وفي اليقظة، والتي لا بد أن تكون منبعثة عن الآلهة أنفسهم. ثانيًا: عندنا فكرة وجود دائم سعيد، والآلهة يقابلون هذه الفكرة. ثالثًا: لكل شيء ضده يحقق المعادلة في الوجود، فلا بد أن يقابل الوجود الفاني المتألم وجود دائم سعيد. ويجب أن نتصور الآلهة على حسب أحسن شيء فينا: أجسامهم لطيفة غاية اللطافة متحركة أبدًا بين العوالم بمعزل عنها، فلا ينالهم ما ينالها من دثور ولكنهم مخلدون، ولما كانوا سعداء بعيدين عن العوالم كما قلنا فهم لا يعنون بنا ولا يكدرون صفوهم بشئوننا ولا يعلنون عن إرادتهم بالنُّذُر كما تعتقد العامة، هذه المعتقدات وما يتفرع عليها من خرافات مثل تقديم القرابين للآلهة — وأحيانًا القرابين البشرية — لطلب مددهم ورضائهم، تناقض الفكرة السابقة عنهم؛ إذ يستحيل أن يكون الآلهة سعداء مطمئنين مع ما نضيفه إليهم من عواطفَ وشواغلَ، فعلينا أن نطمئن نحن من جهتهم وأن ننفي عن نفوسنا الخوف منهم. ولقد كان هذا الخوف عظيمًا في اليونان بما توارثوه من أساطيرَ عن القدر يعبث بالبشر عبثًا، وبما حشدت هذه الأساطير في العالم الآخر من حيوانات هائلة وعذاب أليم، فأراد أبيقوروس أن يرفع عنهم هذا الكابوس وكان في وسعه أن يحول أنظارهم إلى جنات أفلاطون فآثر أن يمحوَ الجنة والجحيم جميعًا بهذا المذهب المتهافت السخيف، ومع اعتقاده هذا في الآلهة فقد كان يختلف إلى المعابد ويشارك في الشعائر، ولعله كان يفعل ذلك؛ استرضاءً للعامة، وتفاديًا من الخصومة معهم، وهو فيلسوف الراحة والطمأنينة كما سنرى.
4
الأخلاق
(أ) في هذا المذهب السعادة هي اللذة الجسمية من حيث إنه لا يعترف بغير المادة، وفي الواقع يقرر أبيقورس أن غاية الحياة اللذة، ولكنه لا يتابع أرستبوس بل يعالج فكرة اللذة بحذق ومنطق حتى يحيلها نوعًا من السعادة الروحية ويستبقي الفضائل المعروفة ويستبعد الرذائل، مما يجعل لمذهبه الخلقي مكانًا خاصًّا بين المذاهب، يقول: تشهد التجربة أننا نطلب اللذة وأن الحيوان يطلبها مثلنا بدافع الطبيعة دون تفكير ولا تعليم، فالطبيعة هي التي تحكم بما يلائمها لا العقل الذي هو في الحقيقة عاجز عن تصور خير مجرد من كل عنصر حسي، وكيف يستطيع ذلك وجميع أفكارنا ترجع إلى إحساسات ومن ثَمة إلى لذات وآلام، وإذا نحن استبعدنا الحس من الإنسان فليس يبقى شيء. ومتى تقرر أن اللذة غاية لزم أن الوسيلة إليها فضيلة، وأن العقل والعلم والحكمة تقوم في تدبير الوسائل وتوجيهها إلى الغاية المنشودة، وهي الحياة اللذيذة السعيدة، فليس من الحق وصف اللذة بأنها جميلة أو قبيحة، شريفة أو خسيسة؛ فإن كل لذة خير وكل وسيلة إلى اللذة خير كذلك، بشرط أن تكون اللذة لذة وأن تكون الوسيلة مؤدية إلى لذة، ومعنى هذا الشرط أن للذة عواقبَ وقد لا تكون جميع عواقبها خيرًا؛ فإن الشره مثلًا يورث المرض، فيجب تعديل اللذة بالألم واجتناب اللذة التي تجر ألمًا واعتبارها وسيلة سيئة للسعادة، وللألم عواقب كذلك وقد لا تكون جميعها شرًّا فيجب تعديل الألم باللذة وتقبل الألم الذي يجر لذة أعظم، وبهذا يستحيل مذهب اللذة إلى مذهب المنفعة، لقد كان أرستبوس يرد كل لذة إلى اللذة الحاضرة؛ مخافةَ أن يفوتنا المستقبل وأن ينقلب حسبان العواقب قيدًا وعبودية، ولكن أليس في محاولة التحرر من المستقبل عبودية للحاضر؟ إن السعي لغاية بعينها طول الحياة يعود بحرية أوسع من حرية مجاراة الأهواء على ما يتفق، وإذن فما يجب طلبه هو أكبر مجموع ممكن من اللذات مدى الحياة.
(ب) ويستتبع هذا الموقف تصنيف اللذات، وقد كان أرستبوس يدعي أنها جميعًا سواء، وربما صح هذا إذا نظرنا إليها في أنفسها على أنها لذات، أما إذا اعتبرنا صلتها بالطبيعة وعواقبها في الحياة بأكملها وجدناها تتفاوت، وفي الواقع يمكن ردها إلى طوائف ثلاث؛ الأولى: لذات صادرة عن نزعات طبيعية وضرورية وهي تلك التي تسكن آلامًا طبيعية مثل لذة الطعام والشراب عند الجوع والعطش، والثانية: لذات صادرة عن نزعات طبيعية ولكنها غير ضرورية وهي تلك التي تنوِّع اللذة فقط ولا ترمي إلى تسكين ألم طبيعي مثل لذة الأغذية المترفة، والثالثة: لذات صادرة عن نزعات ليست طبيعية ولا ضرورية ولكنها تقوم في النفس بناءً على ظن باطل مثل لذة المال والكرامات الاجتماعية، فالحكيم يصغي دائمًا إلى نزعات الطائفة الأولى، وهي أبسط النزعات وألزمها تقوم بذاتها وتقوم النزعات الأخرى عليها، وإرضاؤها سهل ميسور، والحكيم يقهر نزعات الطائفة الثالثة ويرفض لذائذها بالكلية، أما نزعات الطائفة الثانية فينظر إن كان يرضيها أم يقمعها، ويرجع هذا النظر إلى الحكمة العملية فإن حكمت بقبولها أرضاها بتؤدة؛ خشية أن يحولها بالشغف إلى نزعات ضرورية فينقلب عبدًا لها.
5
(أ) في هذا المذهب السعادة هي اللذة الجسمية من حيث إنه لا يعترف بغير المادة، وفي الواقع يقرر أبيقورس أن غاية الحياة اللذة، ولكنه لا يتابع أرستبوس بل يعالج فكرة اللذة بحذق ومنطق حتى يحيلها نوعًا من السعادة الروحية ويستبقي الفضائل المعروفة ويستبعد الرذائل، مما يجعل لمذهبه الخلقي مكانًا خاصًّا بين المذاهب، يقول: تشهد التجربة أننا نطلب اللذة وأن الحيوان يطلبها مثلنا بدافع الطبيعة دون تفكير ولا تعليم، فالطبيعة هي التي تحكم بما يلائمها لا العقل الذي هو في الحقيقة عاجز عن تصور خير مجرد من كل عنصر حسي، وكيف يستطيع ذلك وجميع أفكارنا ترجع إلى إحساسات ومن ثَمة إلى لذات وآلام، وإذا نحن استبعدنا الحس من الإنسان فليس يبقى شيء. ومتى تقرر أن اللذة غاية لزم أن الوسيلة إليها فضيلة، وأن العقل والعلم والحكمة تقوم في تدبير الوسائل وتوجيهها إلى الغاية المنشودة، وهي الحياة اللذيذة السعيدة، فليس من الحق وصف اللذة بأنها جميلة أو قبيحة، شريفة أو خسيسة؛ فإن كل لذة خير وكل وسيلة إلى اللذة خير كذلك، بشرط أن تكون اللذة لذة وأن تكون الوسيلة مؤدية إلى لذة، ومعنى هذا الشرط أن للذة عواقبَ وقد لا تكون جميع عواقبها خيرًا؛ فإن الشره مثلًا يورث المرض، فيجب تعديل اللذة بالألم واجتناب اللذة التي تجر ألمًا واعتبارها وسيلة سيئة للسعادة، وللألم عواقب كذلك وقد لا تكون جميعها شرًّا فيجب تعديل الألم باللذة وتقبل الألم الذي يجر لذة أعظم، وبهذا يستحيل مذهب اللذة إلى مذهب المنفعة، لقد كان أرستبوس يرد كل لذة إلى اللذة الحاضرة؛ مخافةَ أن يفوتنا المستقبل وأن ينقلب حسبان العواقب قيدًا وعبودية، ولكن أليس في محاولة التحرر من المستقبل عبودية للحاضر؟ إن السعي لغاية بعينها طول الحياة يعود بحرية أوسع من حرية مجاراة الأهواء على ما يتفق، وإذن فما يجب طلبه هو أكبر مجموع ممكن من اللذات مدى الحياة.
(ب) ويستتبع هذا الموقف تصنيف اللذات، وقد كان أرستبوس يدعي أنها جميعًا سواء، وربما صح هذا إذا نظرنا إليها في أنفسها على أنها لذات، أما إذا اعتبرنا صلتها بالطبيعة وعواقبها في الحياة بأكملها وجدناها تتفاوت، وفي الواقع يمكن ردها إلى طوائف ثلاث؛ الأولى: لذات صادرة عن نزعات طبيعية وضرورية وهي تلك التي تسكن آلامًا طبيعية مثل لذة الطعام والشراب عند الجوع والعطش، والثانية: لذات صادرة عن نزعات طبيعية ولكنها غير ضرورية وهي تلك التي تنوِّع اللذة فقط ولا ترمي إلى تسكين ألم طبيعي مثل لذة الأغذية المترفة، والثالثة: لذات صادرة عن نزعات ليست طبيعية ولا ضرورية ولكنها تقوم في النفس بناءً على ظن باطل مثل لذة المال والكرامات الاجتماعية، فالحكيم يصغي دائمًا إلى نزعات الطائفة الأولى، وهي أبسط النزعات وألزمها تقوم بذاتها وتقوم النزعات الأخرى عليها، وإرضاؤها سهل ميسور، والحكيم يقهر نزعات الطائفة الثالثة ويرفض لذائذها بالكلية، أما نزعات الطائفة الثانية فينظر إن كان يرضيها أم يقمعها، ويرجع هذا النظر إلى الحكمة العملية فإن حكمت بقبولها أرضاها بتؤدة؛ خشية أن يحولها بالشغف إلى نزعات ضرورية فينقلب عبدًا لها.
5
وإنما تنشأ النزعات من اختلال توازن الجسم فإذا استعاد الجسم توازنه زال ألمه فاطمأن وسكن، هذه الطمأنينة هي اللذة تنتهي ويعود الألم إذا عاد الجسم إلى الاختلال، فالنزوع وسط بين سكونين، هو حركة يريد بها الكائن الحي أن يدفع الألم عن نفسه؛ أي أنْ يستعيد توازنه وسكونه، وليس السكون فراغًا من اللذة أو حالة شبيهة بالنوم أو بالموت، فإن مثل هذه الحالة ليس سعادة، ولكنه هو اللذة بعينها، هو الاستمتاع بالتوازن، فإن اللذة تنشأ حالما يزول الألم، وإذا انتفى كل ألم فهناك اللذة العظمى، وإذن فغايتنا القصوى يجب أن تكون التوازن التام والطمأنينة التامة بمأمن من كل اختلال واضطراب، ولكن الجسم عرضة للألم دائمًا، فمن هذه الجهة تبدو غايتنا مستحيلة، غير أننا نستطيع دائمًا أن نوجد إلى جانب الألم الجسمي لذة عقلية نلطفه بها مهما اشتد ونحقق الطمأنينة؛ ذلك بأن النفس تلذ باللذة الحاضرة وبذكرى اللذة الماضية وبرجاء اللذة المستقبلة فتستطيع في الوقت الذي تألم فيه أن تذكر اللذة المضادة لألمها وأن ترجوها، وعلى ذلك تكون لذة اللذة مستقلة عن الظروف الخارجية مستطاعة للنفس دائمًا، فسعادتنا تتوقف على النفس ويجب أن يتوجه جهدنا إلى توفير الطمأنينة للنفس كما نحاول أن نوفر للجسم توازنه، وأول أسباب اضطراب النفس الجهل بالطبيعة وما يلزم عنه من خرافات، أما الحكيم فيعلم أن الأشياء متمشية على نظام ثابت فهو لا يخاف الظواهر الجوية ولا القدر ولا الآلهة، بل لا يخاف الموت فإن خوف الموت من فعل المخيلة؛ يتخيل الإنسان أن هذا الجسم الممدود هو هو ويضيف إليه حساسيته فيأخذه الرعب من ظلام القبر وتعفن الجسم، أما الحكيم فيعلم أن الموت فناء تام؛ هو يعلم أنه حين نوجد فليس يوجد الموت، وحين يوجد الموت ننعدم، لذلك يبطل خوفه منه، وهو يعلم أن الخلود مستحيل فلا يفكر فيه ولا يتحسر عليه، إن المهم في السعادة قوة اللذة لا مدتها؛ إذ إن المدة لا تزيد في اللذة، ولكن أبيقوروس كان قد قال عكس ذلك لما خالف أرستبوس وآثر اللذة المتصلة مدى الحياة، فإذا كانت اللذة هي الغاية وكان كل شيء ينتهي عند الموت فما هو الفيصل بين المذهبين؟ ولِمَ تفضُل الحياة الطويلة الخفيفة اللذة الحياة القصيرة القوية اللذة؟ وقال أبيقوروس عكس ذلك أيضًا لما عرف لرجاء اللذة أثره في النفس، فإذا كان هذا الرجاء لاذًّا إلى حد تلطيف ألم جسمي محسوس فإن رجاء استمرار اللذة يزيد فيها من غير شك، وإن توقع انقضاءها ينقصها ويلاشيها، ولقد كان أبيقوروس بارعًا في انتقاله من اللذة إلى المنفعة، ثم انتقاله من لذة الحواس إلى لذة النفس بواسطة الذاكرة والمخيلة دون أن يضع بين الحس والنفس فرقًا جوهريًّا، ودون أن يغير معنى اللذة، ولكن المذهب لا يكمل ولا يتوطد إلا بالانتقال من المنفعة إلى الخير وبالاعتراف للنفس بقيمة خاصة وحياة خالدة وإلا كانت الأخلاق لغوًا وكان الموقف المعقول أن نطلب اللذة ما وسعنا الطلب على قول أرستبوس، حتى إذا ما نالنا الإعياء وأصابنا المرض أو أدركتنا الشيخوخة انتحرنا على قول هجسياس
6
6
(د) قلنا: إن أبيقوروس يستبقي الفضائل المعروفة، والحقيقة التي وضحت الآن أنه لا يستبقيها إلا في الظاهر وإلى الحد الذي يتفق مع المنفعة ويكفل الطمأنينة، فالعفة تقتصر على اللذات الطبيعية الضرورية وتقنع منها بمقدار خشية الاضطراب والألم، وترجع الشجاعة إلى تحمل الألم في سبيل اللذة والتسليم بما لا مفر منه، والصداقة نافعة لذيذة فالحكيم يتعدها كوسيلة للسعادة، ولكنه يتجنب الحب؛ لأنه مصدر اضطراب للنفس، كذلك لا يتزوج الحكيم في الأكثر لما يجره الزواج من شواغلَ متعددةٍ، وللسبب عينه ينبذ الحكيم المناصب الحكومية وينفض يديه من الشئون العامة، أما العدالة فموضوعها ألا يضر بعضنا بعضًا؛ مخافة رد الفعل، وهي في الأصل تعاقد قائم على المنفعة بحيث لو انتفى التعاقد أو تعارضت معه المنفعة أصبحنا في حل من هذه العدالة.
وبعبارة أخرى أننا نقبل القانون لنحتمي من العدوان لا أكثر، فإذا رأينا في الخروج على القانون منفعة لنا وأمكننا أن نخرج عليه دون أن ينالنا أذى فلنا ذلك ونحن بمأمن من حكم الضمير، ولنا أن نستوحي المنفعة من باب أولى حين لا يكون هناك عقد؛ إذ لا حق لمن لا يستطيع أو لا يريد التعاقد، فردًا كان أو شعبًا، فلا عدالة ولا ظلم، ولكننا في الغالب لا نأمن انتقام الغير، فالحكيم يرعى العدالة ليضمن لنفسه السلامة من الانتقام ومن خوف الانتقام وليحتفظ بالطمأنينة وهي خيره الأعظم، وكل هذا منطقي في المذهب الحسي، قال به السوفسطائيون قبل أبيقوروس، وقال به من بعده الحسيون المحدثون، وغاية ما فعله فيلسوفنا أنه احتال على مبادئه حتى طابق بينها وبين الطبيعة الإنسانية كما تفهمها فطرة العقل فاعترف بهذه الطبيعة من حيث لم يرد، غير أن هذه المطابقة ظاهرية فقط كما أسلفنا، فلم تقوَ طويلًا على منطق المبادئ، ولم يلبث الأبيقوريون أن شابهوا القورينائيين، حتى اتخذ العرف اسم أبيقوروس عنوانًا لمذهب اللذة والاستهتار فظلمه شخصيًّا، ولكنه أنصف مذهبه في جوهره وفي سيرة أتباعه وقد تعاقبوا أجيالًا إلى ما بعد المسيحية؛ يعيشون عيشة «اللذة السهلة».
7
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
وبعبارة أخرى أننا نقبل القانون لنحتمي من العدوان لا أكثر، فإذا رأينا في الخروج على القانون منفعة لنا وأمكننا أن نخرج عليه دون أن ينالنا أذى فلنا ذلك ونحن بمأمن من حكم الضمير، ولنا أن نستوحي المنفعة من باب أولى حين لا يكون هناك عقد؛ إذ لا حق لمن لا يستطيع أو لا يريد التعاقد، فردًا كان أو شعبًا، فلا عدالة ولا ظلم، ولكننا في الغالب لا نأمن انتقام الغير، فالحكيم يرعى العدالة ليضمن لنفسه السلامة من الانتقام ومن خوف الانتقام وليحتفظ بالطمأنينة وهي خيره الأعظم، وكل هذا منطقي في المذهب الحسي، قال به السوفسطائيون قبل أبيقوروس، وقال به من بعده الحسيون المحدثون، وغاية ما فعله فيلسوفنا أنه احتال على مبادئه حتى طابق بينها وبين الطبيعة الإنسانية كما تفهمها فطرة العقل فاعترف بهذه الطبيعة من حيث لم يرد، غير أن هذه المطابقة ظاهرية فقط كما أسلفنا، فلم تقوَ طويلًا على منطق المبادئ، ولم يلبث الأبيقوريون أن شابهوا القورينائيين، حتى اتخذ العرف اسم أبيقوروس عنوانًا لمذهب اللذة والاستهتار فظلمه شخصيًّا، ولكنه أنصف مذهبه في جوهره وفي سيرة أتباعه وقد تعاقبوا أجيالًا إلى ما بعد المسيحية؛ يعيشون عيشة «اللذة السهلة».
7
الفيلسوف الجديد
@Newphilosopher
أبيقور_الفيلسوف_الجديد_تيليجرام.pdf
141.8 KB
10 صفحات - أبيقور
▪ الحركة الأناركية ( الفوضوية) – فلسفتها وروادها
▪ عدنان عباس
لا شك في أن الكثيرين منا يفكرون، حينما يتناهى إلى سمعهم أسم "فوضوي" بشخص يُحدث البلبلةَ ويَخُلُ بنظام الأمور، ويمارس الفوضى.
ومع تسليمنا بصواب هذا التصور، إلا أن علينا أن نأخذ بالاعتبار أيضاً، أن الحركة الفوضوية حركة سياسية تسعى إلى تحقيق المجتمع المنشود، مجتمع الحرية والعدالة، حالها في ذلك حال الحركات الإصلاحية والاشتراكية، التي سادت الساحة السياسية والاجتماعية، في نهاية القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر.
والفوضوية ليست مذهباً اشتراكياً صرفاً، وإن كانت تلتقي مع الفكر الاشتراكي في رفض النظام الرأسمالي القائم وتدافع عن حقوق الطبقة المظلومة، الطبقة الكادحة. كما أنها ليست مذهباً ليبرالياً خالصاً بالرغم من التقائها مع الفكر الليبرالي في تمجيد الفرد والحرية الفردية.
ونقطة البداية في الفكر الفوضوي هو ما نادت به فلسفة التنوير من إعلاء لشأن الفرد وتمجيد للعقل وتحريم لتدخل الدولة في شؤون الإنسان العاقل بطبيعته، والذي لا يطوي في داخله أي شر عدا تلك الشرور المكتسبة، من وسطه الاجتماعي، لأن الشر ليس جزءاً أصيلاً، من النفس البشرية.
ونالت هذه المبادئ دفعاً جديداً في أعقاب الثورة الفرنسية الكبرى، حين نادت هذه الثورة بفكرة حقوق الإنسان، وأكدت على المساواة بين كل الأفراد، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي، وحين حاولت تحويل هذه المبادئ، إلى برنامج عمل سياسي يقوم عليه المجتمع. فالفكر الفوضوي آمن إيماناً عميقاً بهذه المبادئ، وجعل منها، مشعلاً يضيء له الطريق. وهو إلى هذا القدر لا يختلف كثيراً عن حركة التنوير والفلسفة الليبرالية.
إلا أن ما كان بالنسبة لهؤلاء مجرد مبادئ فاضلة، إنسانية، يحلمون بتحقيقها في الحياة العملية، أصبح بالنسبة للفوضويين مطلباً يرمون لتحقيقه فوراً ودون أي انتظار، فهم لا يؤمنون بفكرة الانتظار إلى حين نضوج العوامل الكفيلة. فهم يعتقدون أن الإطاحة الفورية بالهياكل الاجتماعية السائدة، أمر ممكن تحققه الآن، وليس على شكل مراحل، وأنه سرعان ما يتم، فسيبزغ فجر الأخوة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية والحرية المطلقة.
1
▪ عدنان عباس
لا شك في أن الكثيرين منا يفكرون، حينما يتناهى إلى سمعهم أسم "فوضوي" بشخص يُحدث البلبلةَ ويَخُلُ بنظام الأمور، ويمارس الفوضى.
ومع تسليمنا بصواب هذا التصور، إلا أن علينا أن نأخذ بالاعتبار أيضاً، أن الحركة الفوضوية حركة سياسية تسعى إلى تحقيق المجتمع المنشود، مجتمع الحرية والعدالة، حالها في ذلك حال الحركات الإصلاحية والاشتراكية، التي سادت الساحة السياسية والاجتماعية، في نهاية القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر.
والفوضوية ليست مذهباً اشتراكياً صرفاً، وإن كانت تلتقي مع الفكر الاشتراكي في رفض النظام الرأسمالي القائم وتدافع عن حقوق الطبقة المظلومة، الطبقة الكادحة. كما أنها ليست مذهباً ليبرالياً خالصاً بالرغم من التقائها مع الفكر الليبرالي في تمجيد الفرد والحرية الفردية.
ونقطة البداية في الفكر الفوضوي هو ما نادت به فلسفة التنوير من إعلاء لشأن الفرد وتمجيد للعقل وتحريم لتدخل الدولة في شؤون الإنسان العاقل بطبيعته، والذي لا يطوي في داخله أي شر عدا تلك الشرور المكتسبة، من وسطه الاجتماعي، لأن الشر ليس جزءاً أصيلاً، من النفس البشرية.
ونالت هذه المبادئ دفعاً جديداً في أعقاب الثورة الفرنسية الكبرى، حين نادت هذه الثورة بفكرة حقوق الإنسان، وأكدت على المساواة بين كل الأفراد، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي، وحين حاولت تحويل هذه المبادئ، إلى برنامج عمل سياسي يقوم عليه المجتمع. فالفكر الفوضوي آمن إيماناً عميقاً بهذه المبادئ، وجعل منها، مشعلاً يضيء له الطريق. وهو إلى هذا القدر لا يختلف كثيراً عن حركة التنوير والفلسفة الليبرالية.
إلا أن ما كان بالنسبة لهؤلاء مجرد مبادئ فاضلة، إنسانية، يحلمون بتحقيقها في الحياة العملية، أصبح بالنسبة للفوضويين مطلباً يرمون لتحقيقه فوراً ودون أي انتظار، فهم لا يؤمنون بفكرة الانتظار إلى حين نضوج العوامل الكفيلة. فهم يعتقدون أن الإطاحة الفورية بالهياكل الاجتماعية السائدة، أمر ممكن تحققه الآن، وليس على شكل مراحل، وأنه سرعان ما يتم، فسيبزغ فجر الأخوة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية والحرية المطلقة.
1
وتتمثل الهياكل الاجتماعية التي يرمي الفوضويون للإطاحة بها:
أولاً، بالمِلكية الفردية، التي هي وسيلة للسيطرة الاقتصادية، بحسب وجهة نظرهم،
وثانياً، بالدولة، التي هي أداة تسلط سياسية،
وثالثاً، بالقانون على اعتبار أنه الوسيلة التي تعتمد عليها الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج لتبرير مِلكيتها وحمايتها.
وكبديل لهذه الهياكل الاجتماعية يقترح الفوضويون إحلال الاتفاق الحر بين الأفراد على إقامة حياة اجتماعية تعتمد على أهداف ومصالح إقليمية ومحلية وإنتاجية كبديل عن الدولة.
هذا وتبين لنا دراسة الفكر الفوضوي وتطوره عبر التأريخ أن هناك اتجاهين رئيسيين:
الاتجاه الأول، والذي غالباً ما يسمى بـ"الفردية المتطرفة" وهو في الواقع التطبيق المغالي للفلسفة الاقتصادية والسياسية الليبرالية. إذ يرى هذا الاتجاه أن الذات أو "الأنا" هي الحقيقة الوحيدة في هذا العالم وأن كل ما عداها من أفكار كالأخلاق والدولة والمجتمع والإنسانية، لا تعدو أن تكون سوى تجريدات وهمية خلقها الإنسان ذاته وجعلها مثلاً عليا يخضع لها طيلة حياته مستبدة على مقدراته ومحددة لسلوكه. ومن هذه النظرة اشتق هذا الاتجاه الحق المطلق وغير المحدود لكل فرد في أن "يتمتع بذاته" وبمعزل عن المجتمع وبدون أي ارتباط به. ولربما تفسر لنا هذه النظرة للفرد أسباب عجز هذا الاتجاه عن تكوين حركة اجتماعية متناسقة. إذ كان كل مفكر من هؤلاء الفوضويين يعيش لذاته فقط ولا يريد أن يقيم أي نوع من العلاقات الفكرية والانتماءات الإيديولوجية. ولعل خير ممثل لهذا الاتجاه هو ماكس شترنر (Max Stirner) (1806-1853) الألماني وويليام غودوين الإنجليزي. إلا أننا سنهمل في عرضنا اللاحق ماكس شترنر، على الرغم من أهمية آرائه بالنسبة لهذا الاتجاه وكلنا أمل أن نفلح في تناول آرائه في مقالة مخصصة له فقط.
أما الاتجاه الآخر فهو ما جرت العادة على تسميته بـ"الفوضوية الثورية". إن هذا الاتجاه رافق هو الآخر مساعي الطبقات المظلومة ونضالها من أجل تحقيق تطلعاتها المشروعة، إلا أنه ظل في الواقع العنصر الفوضوي في الحركة الاشتراكية. ولقد تبلور هذا الاتجاه في روسيا وفرنسا في بادئ الأمر ولا تزال بذوره موجودة إلى يومنا هذا في بعض الأقطار الأوربية مثل إسبانيا وإيطاليا، كما أنه لا يزال على درجة من الأهمية في الحركة الاجتماعية في أمريكا الجنوبية. ومن أهم منظري هذا الاتجاه هم برودون الفرنسي وباكونين وكروبوتكين الروسيان.
2
أولاً، بالمِلكية الفردية، التي هي وسيلة للسيطرة الاقتصادية، بحسب وجهة نظرهم،
وثانياً، بالدولة، التي هي أداة تسلط سياسية،
وثالثاً، بالقانون على اعتبار أنه الوسيلة التي تعتمد عليها الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج لتبرير مِلكيتها وحمايتها.
وكبديل لهذه الهياكل الاجتماعية يقترح الفوضويون إحلال الاتفاق الحر بين الأفراد على إقامة حياة اجتماعية تعتمد على أهداف ومصالح إقليمية ومحلية وإنتاجية كبديل عن الدولة.
هذا وتبين لنا دراسة الفكر الفوضوي وتطوره عبر التأريخ أن هناك اتجاهين رئيسيين:
الاتجاه الأول، والذي غالباً ما يسمى بـ"الفردية المتطرفة" وهو في الواقع التطبيق المغالي للفلسفة الاقتصادية والسياسية الليبرالية. إذ يرى هذا الاتجاه أن الذات أو "الأنا" هي الحقيقة الوحيدة في هذا العالم وأن كل ما عداها من أفكار كالأخلاق والدولة والمجتمع والإنسانية، لا تعدو أن تكون سوى تجريدات وهمية خلقها الإنسان ذاته وجعلها مثلاً عليا يخضع لها طيلة حياته مستبدة على مقدراته ومحددة لسلوكه. ومن هذه النظرة اشتق هذا الاتجاه الحق المطلق وغير المحدود لكل فرد في أن "يتمتع بذاته" وبمعزل عن المجتمع وبدون أي ارتباط به. ولربما تفسر لنا هذه النظرة للفرد أسباب عجز هذا الاتجاه عن تكوين حركة اجتماعية متناسقة. إذ كان كل مفكر من هؤلاء الفوضويين يعيش لذاته فقط ولا يريد أن يقيم أي نوع من العلاقات الفكرية والانتماءات الإيديولوجية. ولعل خير ممثل لهذا الاتجاه هو ماكس شترنر (Max Stirner) (1806-1853) الألماني وويليام غودوين الإنجليزي. إلا أننا سنهمل في عرضنا اللاحق ماكس شترنر، على الرغم من أهمية آرائه بالنسبة لهذا الاتجاه وكلنا أمل أن نفلح في تناول آرائه في مقالة مخصصة له فقط.
أما الاتجاه الآخر فهو ما جرت العادة على تسميته بـ"الفوضوية الثورية". إن هذا الاتجاه رافق هو الآخر مساعي الطبقات المظلومة ونضالها من أجل تحقيق تطلعاتها المشروعة، إلا أنه ظل في الواقع العنصر الفوضوي في الحركة الاشتراكية. ولقد تبلور هذا الاتجاه في روسيا وفرنسا في بادئ الأمر ولا تزال بذوره موجودة إلى يومنا هذا في بعض الأقطار الأوربية مثل إسبانيا وإيطاليا، كما أنه لا يزال على درجة من الأهمية في الحركة الاجتماعية في أمريكا الجنوبية. ومن أهم منظري هذا الاتجاه هم برودون الفرنسي وباكونين وكروبوتكين الروسيان.
2
أولاً: وليم غودوين (William Godwin)
عاش وليم غودوين في إنجلترا عام 1756. وكان في بادئ الأمر رجل دين إلا أنه انشق عن الكنيسة وأصبح في نهاية المطاف ملحداً منكراً لوجود الخالق تعالى. وكان للثورة الفرنسية تأثير كبير عليه فأيدها بحماس وناصرها بوحي من المبادئ التي نادت بها، كما أنها ألهمته أهم كتبه "بحث في العدالة السياسية" الذي نشره عام 1793.
لقد جلب له هذا الكتاب شهرة لم يكن يحلم بها أبداً. ويصف ماكس بير في كتابه القيم "تأريخ الاشتراكية البريطانية" الشهرة التي حظي بها غودوين بعدئذ، حيث يقول "واستيقظ غودوين ذات صباح فجأة ليجد نفسه أشهر فلاسفة عصره الاجتماعيين. وكان شباب الشعراء من مثال كولردج وردزورت - وكلهم من طلاب الجامعات - ينظرون إلى دراستهم الجامعية كأنها كومة تراب لا قيمة لها، في حين يقرؤون غودوين في نهم."
وأُتِهِمَ كتابُ غودوين هذا بالتطرف في نقد النظام الرأسمالي السائد وفي المطالبة بالمساواة الكاملة وإقامة الشيوعية الفوضوية، مما تسبب في التساؤل عما إذا كان يسمح بنشره أم لا. ولقد كُلِفَت لجنةٌ للنظر في هذا الأمر. إلا أن هذه اللجنة وافقت في نهاية الأمر على نشره مبررة ذلك بأن كتاباً يباع بثلاثة وستين شلناً لن يُشترى من الطبقات الكادحة ومن ثم فإنه لن يُحدث الثورة التي يسعى لتفجيرها.
وفي الفترة اللاحقة كتب غودوين الكثير من المؤلفات. إلا أنه لم يستطع أن يحقق شيئاً من شهرته التي نالها إثر كتابه الأول. وهكذا ظل غودوين في وظيفة متواضعة لدى الحكومة حتى وفاته عام 1836.
وفي الواقع لم يدعو غودوين في كتابه هذا للثورة، كما لم يطالب بإلغاء حق المِلكية الفردية. ومن هنا فإنه لم يكن داعية لنسف النظام الرأسمالي من جذوره بقدر ما كان مصلحاً يحاول توجيه أنظار مجتمعه للمشاكل التي يضمها هذا المجتمع في أحشائه وسبل علاجها.
3
عاش وليم غودوين في إنجلترا عام 1756. وكان في بادئ الأمر رجل دين إلا أنه انشق عن الكنيسة وأصبح في نهاية المطاف ملحداً منكراً لوجود الخالق تعالى. وكان للثورة الفرنسية تأثير كبير عليه فأيدها بحماس وناصرها بوحي من المبادئ التي نادت بها، كما أنها ألهمته أهم كتبه "بحث في العدالة السياسية" الذي نشره عام 1793.
لقد جلب له هذا الكتاب شهرة لم يكن يحلم بها أبداً. ويصف ماكس بير في كتابه القيم "تأريخ الاشتراكية البريطانية" الشهرة التي حظي بها غودوين بعدئذ، حيث يقول "واستيقظ غودوين ذات صباح فجأة ليجد نفسه أشهر فلاسفة عصره الاجتماعيين. وكان شباب الشعراء من مثال كولردج وردزورت - وكلهم من طلاب الجامعات - ينظرون إلى دراستهم الجامعية كأنها كومة تراب لا قيمة لها، في حين يقرؤون غودوين في نهم."
وأُتِهِمَ كتابُ غودوين هذا بالتطرف في نقد النظام الرأسمالي السائد وفي المطالبة بالمساواة الكاملة وإقامة الشيوعية الفوضوية، مما تسبب في التساؤل عما إذا كان يسمح بنشره أم لا. ولقد كُلِفَت لجنةٌ للنظر في هذا الأمر. إلا أن هذه اللجنة وافقت في نهاية الأمر على نشره مبررة ذلك بأن كتاباً يباع بثلاثة وستين شلناً لن يُشترى من الطبقات الكادحة ومن ثم فإنه لن يُحدث الثورة التي يسعى لتفجيرها.
وفي الفترة اللاحقة كتب غودوين الكثير من المؤلفات. إلا أنه لم يستطع أن يحقق شيئاً من شهرته التي نالها إثر كتابه الأول. وهكذا ظل غودوين في وظيفة متواضعة لدى الحكومة حتى وفاته عام 1836.
وفي الواقع لم يدعو غودوين في كتابه هذا للثورة، كما لم يطالب بإلغاء حق المِلكية الفردية. ومن هنا فإنه لم يكن داعية لنسف النظام الرأسمالي من جذوره بقدر ما كان مصلحاً يحاول توجيه أنظار مجتمعه للمشاكل التي يضمها هذا المجتمع في أحشائه وسبل علاجها.
3
إن الفكرة الأساسية التي يدور حولها تفكير غودوين هي أن زيادة حجم السكان ليست خطراً يهدد المجتمعات البشرية، فحجم السكان بإمكانه أن يزداد بدون حدود إذا ما تم إجراء التغيرات المناسبة على النظام الاجتماعي السائد وعلى صرح الدولة التي يعيش في كنفها الأفراد.
ولربما تجدر الإشارة هنا إلى أن من المحتمل أن روبرت مالثوس ما كان قد جاء بنظريته المشهورة في السكان، لو لم يؤكد غودوين على أن بإمكان الإنتاج الزراعي أن ينمو بنفس السرعة التي ينمو بها حجم السكان وأن الفقر والبؤس اللذين تعاني من وطأتهما الطبقات المسحوقة هما ليسا حصيلة قوانين طبيعية، إنما النتيجة المنطقية لعدم العدالة ولفقدان العقلانية في توزيع الدخل القومي على طبقات المجتمع المختلفة.
فالمطلوب برأي غودوين هو إذن إعادة توزيع الدخل القومي على طبقات المجتمع المختلفة بحيث تتحرر الطبقات المسحوقة من وطأة الفقر والمعاناة.
وكما فعل المفكرون المعاصرون له، فإن غودوين ينطلق هو الآخر من فلسفة بنتام ومبدئه القائل: "أكبر سعادة ممكنة لأكبر عدد من الأفراد" للتأكيد على أن إعادة توزيع الدخل القومي لصالح المحرومين لن تحقق العيش الكريم لهؤلاء فحسب، إنما سترفع من رفاهية المجتمع ككل. إن نفس الكمية من السلع في يد العامل البائس الفقير تمن عليه بسعادة أكبر من تلك السعادة التي يجنيها أبناء الطبقة المرفهة من هذه الكمية. وهذا يعني أن إعادة التوزيع ستكون حسب رأي غودوين خير وسيلة لتعظيم الرفاهية الاقتصادية للمجتمع.
وهذه هي نواة الفكرة التي واجهناها عند مفكرين آخرين عاصروا غودوين والتي ستتعمق في السنين اللاحقة من خلال تبيني المدرسة الحديثة لها بحيث أصبحت الفكرة الأساسية لنظرية الرفاهية الاقتصادية في القرن العشرين.
وهكذا يمكننا إيجاز الأسس التي سيقوم عليها نظام توزيع الدخل القومي على أفراد المجتمع طبقاً للعاملين التاليين: أولاً، بحسب حاجة الفرد إلى السلع والمنتجات وثانياً، طبقاً للعمل الذي يبذله الفرد في عملية الإنتاج.
4
ولربما تجدر الإشارة هنا إلى أن من المحتمل أن روبرت مالثوس ما كان قد جاء بنظريته المشهورة في السكان، لو لم يؤكد غودوين على أن بإمكان الإنتاج الزراعي أن ينمو بنفس السرعة التي ينمو بها حجم السكان وأن الفقر والبؤس اللذين تعاني من وطأتهما الطبقات المسحوقة هما ليسا حصيلة قوانين طبيعية، إنما النتيجة المنطقية لعدم العدالة ولفقدان العقلانية في توزيع الدخل القومي على طبقات المجتمع المختلفة.
فالمطلوب برأي غودوين هو إذن إعادة توزيع الدخل القومي على طبقات المجتمع المختلفة بحيث تتحرر الطبقات المسحوقة من وطأة الفقر والمعاناة.
وكما فعل المفكرون المعاصرون له، فإن غودوين ينطلق هو الآخر من فلسفة بنتام ومبدئه القائل: "أكبر سعادة ممكنة لأكبر عدد من الأفراد" للتأكيد على أن إعادة توزيع الدخل القومي لصالح المحرومين لن تحقق العيش الكريم لهؤلاء فحسب، إنما سترفع من رفاهية المجتمع ككل. إن نفس الكمية من السلع في يد العامل البائس الفقير تمن عليه بسعادة أكبر من تلك السعادة التي يجنيها أبناء الطبقة المرفهة من هذه الكمية. وهذا يعني أن إعادة التوزيع ستكون حسب رأي غودوين خير وسيلة لتعظيم الرفاهية الاقتصادية للمجتمع.
وهذه هي نواة الفكرة التي واجهناها عند مفكرين آخرين عاصروا غودوين والتي ستتعمق في السنين اللاحقة من خلال تبيني المدرسة الحديثة لها بحيث أصبحت الفكرة الأساسية لنظرية الرفاهية الاقتصادية في القرن العشرين.
وهكذا يمكننا إيجاز الأسس التي سيقوم عليها نظام توزيع الدخل القومي على أفراد المجتمع طبقاً للعاملين التاليين: أولاً، بحسب حاجة الفرد إلى السلع والمنتجات وثانياً، طبقاً للعمل الذي يبذله الفرد في عملية الإنتاج.
4
أما المجتمع المثالي الذي يتصوره غودوين فإنه مجتمع يقوم على جماعات صغيرة مستقلة الواحدة عن الأخرى بقدر الإمكان وحسب ما تتطلبه ضروريات الحاجة والتبادل. وتفضيل غودوين للجماعات الصغيرة يتأتى من اعتقاده بأن العدالة والمساواة لا يتحققان إلا ضمن فئات محدودة العدد من الأفراد.
وفي سياق هذه الفكرة لا يرى غودوين ضرورة حتمية لوجود الدولة، لا بل على العكس فإن هذا التنظيم سيجعل من وجود الدولة أمراً ليس ذي جدوى، وغير ضروري، وإن وجدت الدولة فما ذلك إلا لغرض منع محاولات الاعتداء التي يقوم بها أحد الأفراد ضد أفراد آخرين من المجموعة التي يعيش في كنفها ومن أجل صد الاعتداءات الخارجية.
ثانياً: جوزيف برودون (Pierre Joseph Proudhon)
كان جوزيف برودون ولا يزال إلى يومنا هذا من أكثر الاشتراكيين الفرنسيين مدعاة للنقاش والمجادلة. وسبب هذا يعود إلى أنه لم يوجه نقده اللاذع للنظام الرأسمالي والمِلكية الخاصة التي يقوم عليها هذا النظام فحسب، إنما شن هجوماً لا يقل عنفاً على النظريات التي كانت تدعو إلى إقامة الحياة الشيوعية، ناقداً كل النظريات والمناهج الاشتراكية معتبراً إياها تسلطية وأضغاث أحلام لا غير.
أضف إلى هذا، أن مؤلفاته الكثيرة، ما كانت نقاشات علمية، بل كانت مساجلات غلبت عليها صفة الحروب الكلامية، واتسمت بطابع المعالجة الذكية للقضايا اليومية أكثر من طابع التحليل العلمي الموضوعي والنظرة البعيدة القائمة على دراسة الماضي والحاضر للتعرف على اتجاهات المستقبل. وغني عن البيان أن غلبة هذا الطابع على كتاباته لم يكن عاملاً مساعداً على دفع معاصريه لأن يروا فيه مفكراً من مفكري القرن التاسع عشر.
ومما عزز من هذا الشعور لدى معاصريه كثرة التناقضات التي كان يتخبط بها، كما سنوضح ذلك فيما بعد. أى أن الأمر الأهم الذي يتميز به برودون، هو أنه كان - إذا استثنينا بلانكي - الاشتراكي الفرنسي الوحيد الذي ظل يلعب دوراً مهماً في الحركة الاشتراكية بعد ثورة عام 1848 ومناوئاً لا يلين لكارل ماركس مما جلب له لعنة ماركس التي لا زال اسم برودون يئن تحت وطأتها إلى يومنا هذا.
5
وفي سياق هذه الفكرة لا يرى غودوين ضرورة حتمية لوجود الدولة، لا بل على العكس فإن هذا التنظيم سيجعل من وجود الدولة أمراً ليس ذي جدوى، وغير ضروري، وإن وجدت الدولة فما ذلك إلا لغرض منع محاولات الاعتداء التي يقوم بها أحد الأفراد ضد أفراد آخرين من المجموعة التي يعيش في كنفها ومن أجل صد الاعتداءات الخارجية.
ثانياً: جوزيف برودون (Pierre Joseph Proudhon)
كان جوزيف برودون ولا يزال إلى يومنا هذا من أكثر الاشتراكيين الفرنسيين مدعاة للنقاش والمجادلة. وسبب هذا يعود إلى أنه لم يوجه نقده اللاذع للنظام الرأسمالي والمِلكية الخاصة التي يقوم عليها هذا النظام فحسب، إنما شن هجوماً لا يقل عنفاً على النظريات التي كانت تدعو إلى إقامة الحياة الشيوعية، ناقداً كل النظريات والمناهج الاشتراكية معتبراً إياها تسلطية وأضغاث أحلام لا غير.
أضف إلى هذا، أن مؤلفاته الكثيرة، ما كانت نقاشات علمية، بل كانت مساجلات غلبت عليها صفة الحروب الكلامية، واتسمت بطابع المعالجة الذكية للقضايا اليومية أكثر من طابع التحليل العلمي الموضوعي والنظرة البعيدة القائمة على دراسة الماضي والحاضر للتعرف على اتجاهات المستقبل. وغني عن البيان أن غلبة هذا الطابع على كتاباته لم يكن عاملاً مساعداً على دفع معاصريه لأن يروا فيه مفكراً من مفكري القرن التاسع عشر.
ومما عزز من هذا الشعور لدى معاصريه كثرة التناقضات التي كان يتخبط بها، كما سنوضح ذلك فيما بعد. أى أن الأمر الأهم الذي يتميز به برودون، هو أنه كان - إذا استثنينا بلانكي - الاشتراكي الفرنسي الوحيد الذي ظل يلعب دوراً مهماً في الحركة الاشتراكية بعد ثورة عام 1848 ومناوئاً لا يلين لكارل ماركس مما جلب له لعنة ماركس التي لا زال اسم برودون يئن تحت وطأتها إلى يومنا هذا.
5
وإذا ما تتبعنا حياة برودون وانتمائه العائلي وقارنا ذلك بحياة الاشتراكيين الآخرين وانتماءاتهم العائلية، فسيمكننا القول وبدون أدنى شك أن برودون كان الاشتراكي الوحيد الذي يمكن اعتباره من أبناء الطبقة البروليتارية فعلاً. فبرودون ولد عام 1809 في بيزانسون الفرنسية، موطن فورييه، لأبوين معدمين حيث كان والده عاملاً في صناعة الجعة وأمه تعمل طباخة. فأضطر وهو لا يزال صبياً أن يكسب عيشه من خلال العمل اليدوي، فرعى في بادئ الأمر الماشية ثم اشتغل نادلاً في أحد المطاعم واستمر على هذا العمل حتى حل به المطاف في العمل لدى أحد المطابع.
وفي أثناء هذا كله كان برودون طالباً مجداً في المدرسة ويواصل تثقيف نفسه بنفسه بالقراءة المتواصلة. وتميزه هذا بين أقرانه مكنه، بعدَ اجتيازه امتحان البكلوريا، من الحصول على منحة دراسية لدراسة الفلسفة والاقتصاد السياسي في أكاديمية بيزانسون على مدار ثلاث سنوات. ولقد أغدقت عليه هذه المنحة الاستقرار والأمان ومكنته من أن يخصص جزءاً أكبر من وقته للدراسة والتعلم. بعد ذلك ترك برودون بيزانسون متوجهاً إلى باريس للمشاركة في كتابة الموسوعة الكاثوليكية التي كانت الكنيسة تعمل على إخراجها. وفي هذه الفترة طرأ أمرٌ كان له تأثير على حياة برودون اللاحقة. إذ طلبت أكاديمية بيزانسون من مثقفي فرنسا ومفكريها المشاركة في مسابقة حول السؤال عن "ما هي المِلكية؟" وشارك برودون بهذه المسابقة بكتيب يحمل نفس العنوان. ونال هذا الكتيب شهرة واسعة في أوساط المثقفين الفرنسيين وجعل من بردون بين ليلة وضحاها علماً في الوسط الثقافي الفرنسي. لا بل حتى كارل ماركس نفسه، الذي سيتحول بعد فترة وجيزة من الزمن إلى عدو لدود لبرودون، لم يبخل بإغداق عبارات مديح وتقدير كان يحلم بها برودون، إذ أنه وصفه بأنه "بيان يعبر عن خلجات البروليتاريا الفرنسية."
6
وفي أثناء هذا كله كان برودون طالباً مجداً في المدرسة ويواصل تثقيف نفسه بنفسه بالقراءة المتواصلة. وتميزه هذا بين أقرانه مكنه، بعدَ اجتيازه امتحان البكلوريا، من الحصول على منحة دراسية لدراسة الفلسفة والاقتصاد السياسي في أكاديمية بيزانسون على مدار ثلاث سنوات. ولقد أغدقت عليه هذه المنحة الاستقرار والأمان ومكنته من أن يخصص جزءاً أكبر من وقته للدراسة والتعلم. بعد ذلك ترك برودون بيزانسون متوجهاً إلى باريس للمشاركة في كتابة الموسوعة الكاثوليكية التي كانت الكنيسة تعمل على إخراجها. وفي هذه الفترة طرأ أمرٌ كان له تأثير على حياة برودون اللاحقة. إذ طلبت أكاديمية بيزانسون من مثقفي فرنسا ومفكريها المشاركة في مسابقة حول السؤال عن "ما هي المِلكية؟" وشارك برودون بهذه المسابقة بكتيب يحمل نفس العنوان. ونال هذا الكتيب شهرة واسعة في أوساط المثقفين الفرنسيين وجعل من بردون بين ليلة وضحاها علماً في الوسط الثقافي الفرنسي. لا بل حتى كارل ماركس نفسه، الذي سيتحول بعد فترة وجيزة من الزمن إلى عدو لدود لبرودون، لم يبخل بإغداق عبارات مديح وتقدير كان يحلم بها برودون، إذ أنه وصفه بأنه "بيان يعبر عن خلجات البروليتاريا الفرنسية."
6
وبعد الشهرة العريضة التي نالها، أصدر برودون كتابه الثاني "فلسفة البؤس" وذلك في عام 1946. وهذا الكتاب، الذي رد عليه ماركس بكتابه الشهير "بؤس الفلسفة"، وهو رد كلفه صداقة برودون لما تضمنه من هجوم قاس وعنيف، وفي الواقع محق، على برودون.
توفي برودون عام 1856 بعد أن نال شهرة واسعة تعدت حدود فرنسا.
ومن هذين الكتابين تتضح لنا أفكار برودون برمتها، ويتبين لنا ميله الطبيعي إلى التأمل الفلسفي وحبه للجدل تماماً مثلما يظهر لنا تأثره الكبير بالفلسفة الألمانية وخاصة فلسفة هيجل التي تبحر بها بتأثير من ماركس.
كتيبه الأول "ما هي المِلكية؟" يتضمن عبارته الشهيرة والتي أدخلته التأريخ والتي كثيراً ما افتخر بها مدعياً أنه عرف المِلكية بكلمتين لا غير، لكن مثل هاتين الكلمتين لا تقالان إلا كل ألف عام: "المِلكية سرقة".
وبعد أن عرف المِلكية بهذا الإيجاز، راح يسعى بكل ذكائه لتحطيم وتفنيد الحجتين اللتين كان الاقتصاديون يستخدمونها لتبرير حق المِلكية: أولهما الحيازة وثانيهما العمل.
فحسب رأيه لا يوجد أي منطق سليم وراء هاتين الحجتين. فلو أخذنا حق الحيازة كقاعدة لتبرير حق المِلكية، فإن هذا سيعني أن بإمكان كل فرد أن يضع يده على كل شيء لا يخص أحداً من الناس ويحوله إلى ملك خاص به، وبالتالي فإن هذا سيعني بالضرورة أن ما سيمتلكه الفرد يعتمد على عامل الصدفة، صدفة الجيل الذي ينتمي إليه. فما دامت هناك أرض لا تزال غير مستولى عليها، فسيكون بإمكان من يشاء أن يمتلكها. ولكن كيف ستكون الأمور إذا كانت الأرض بأسرها قد تم الاستيلاء عليها؟ كيف ستتمكن من العيش الأجيال اللاحقة، التي ستولد في عصور قد تم بها الاستيلاء على الأرض؟
كما أن المبرر الثاني، الذي يرى أن العمل هو أساس المِلكية وهو الذي يضفي عليها الشرعية، لا يمكن الأخذ به كسبب منطقي كما يرى برودون. فمثلما يعطي اصطياد السمك الحق للصياد بالسمكة التي اصطادها فقط وليس بالبحر، كذلك فإن العمل يثبت الحق بتملك الإنتاج وليس بأداة الإنتاج. ونفس الأمر ينطبق على الأرض. ولذا فإنه يقرر، مستنتجاً من نظرية العمل ذاتها، أن المنطق القائم على نظرية العمل يتطلب إلغاء المِلكية وليس الاعتراف بشرعيتها حتى يتيسر لكل فرد الحصول على الأرض وعلى وسائل الإنتاج الأخرى التي يحتاجها في عملية الإنتاج.
7
توفي برودون عام 1856 بعد أن نال شهرة واسعة تعدت حدود فرنسا.
ومن هذين الكتابين تتضح لنا أفكار برودون برمتها، ويتبين لنا ميله الطبيعي إلى التأمل الفلسفي وحبه للجدل تماماً مثلما يظهر لنا تأثره الكبير بالفلسفة الألمانية وخاصة فلسفة هيجل التي تبحر بها بتأثير من ماركس.
كتيبه الأول "ما هي المِلكية؟" يتضمن عبارته الشهيرة والتي أدخلته التأريخ والتي كثيراً ما افتخر بها مدعياً أنه عرف المِلكية بكلمتين لا غير، لكن مثل هاتين الكلمتين لا تقالان إلا كل ألف عام: "المِلكية سرقة".
وبعد أن عرف المِلكية بهذا الإيجاز، راح يسعى بكل ذكائه لتحطيم وتفنيد الحجتين اللتين كان الاقتصاديون يستخدمونها لتبرير حق المِلكية: أولهما الحيازة وثانيهما العمل.
فحسب رأيه لا يوجد أي منطق سليم وراء هاتين الحجتين. فلو أخذنا حق الحيازة كقاعدة لتبرير حق المِلكية، فإن هذا سيعني أن بإمكان كل فرد أن يضع يده على كل شيء لا يخص أحداً من الناس ويحوله إلى ملك خاص به، وبالتالي فإن هذا سيعني بالضرورة أن ما سيمتلكه الفرد يعتمد على عامل الصدفة، صدفة الجيل الذي ينتمي إليه. فما دامت هناك أرض لا تزال غير مستولى عليها، فسيكون بإمكان من يشاء أن يمتلكها. ولكن كيف ستكون الأمور إذا كانت الأرض بأسرها قد تم الاستيلاء عليها؟ كيف ستتمكن من العيش الأجيال اللاحقة، التي ستولد في عصور قد تم بها الاستيلاء على الأرض؟
كما أن المبرر الثاني، الذي يرى أن العمل هو أساس المِلكية وهو الذي يضفي عليها الشرعية، لا يمكن الأخذ به كسبب منطقي كما يرى برودون. فمثلما يعطي اصطياد السمك الحق للصياد بالسمكة التي اصطادها فقط وليس بالبحر، كذلك فإن العمل يثبت الحق بتملك الإنتاج وليس بأداة الإنتاج. ونفس الأمر ينطبق على الأرض. ولذا فإنه يقرر، مستنتجاً من نظرية العمل ذاتها، أن المنطق القائم على نظرية العمل يتطلب إلغاء المِلكية وليس الاعتراف بشرعيتها حتى يتيسر لكل فرد الحصول على الأرض وعلى وسائل الإنتاج الأخرى التي يحتاجها في عملية الإنتاج.
7
ولكن وعلى الرغم من كل هذا الهجوم الذي يشنه برودون على المِلكية الفردية، فإنه لا يسعى لإلغائها نهائياً، إنما ظل متمسكاً بها. وتمسكه بالمِلكية ينبع من رفضه الشديد للشيوعية والرأسمالية على السواء. فكلا النظامين يقودان، باعتقاده، إلى مجتمعات استبدادية، وهذا ما لا يتفق مع أسس مجتمعه المنشود، مجتمع الحرية والعدالة.
فالشيوعية حسب رأيه بعيدة عن العلم، خيالية، وعلاوة على هذا منافية للحياة العائلية، وهي بالتالي ليست أفضل من الرأسمالية حيث تفقد الغالبية من أفراد المجتمع حريتها لصالح الفئة الضئيلة التي تمتلك وسائل الإنتاج وتبسط سيطرتها وتفرض استبدادها على هؤلاء.
إن المجتمع المنشود لا بد أن يوازن بين النظامين، ومن هنا فإنه لا بد أن يحتفظ بالمِلكية الفردية ولكن مجردة من عيوبها ومن طابعها العدواني. وهذا سيتم إذا ما جعلنا المِلكية في متناول الجميع، أي إذا اعترفنا بحق حيازة كل فرد لوسائل الإنتاج التي يحتاجها: عندئذ سيصبح المزارع حراً وسيداً على أرضه التي يستغلها بنفسه ويتصرف بمنتجاتها دون قيود، والعامل سيحصل على القيمة الكلية لنتاج عمله دون أن يستغله الرأسمالي.
إلا أن ثمة تناقضاً في آراء برودون. فهو يطالب بتجزئة المِلكية وتولي عدد كبير من صغار المنتجين النشاطات الزراعية والصناعية. ولكن حتى وإن أهملنا أن نشاطات صغار المنتجين لم تعد تتفق مع طبيعة تقسيم العمل في إطار أساليب الإنتاج الصناعية الحديثة، فإن هؤلاء المنتجين الصغار لن يكون حظهم أفضل من حظ أقرانهم في السنين الماضية. فكما توصل برودون نفسه في سياق تحليله للطريقة التي حطم بها الإنتاج الصناعي الرأسمالي صغار المنتجين في العصور الماضية، فإن تركز رأس المال من جديد لا بد أن يقود إلى نفس النتيجة التي انتهت إليها الأمور في السابق، إذ سيتحطم عالم المنتجين الصغار ثانية.
إن عفوية هذا التطور لن يكون في الإمكان كسر طوقها وإلغاء مفعولها إلا إذا كانت ثمة دولة، أي حكومة قوية ومسيطرة ولها القابلية على الحركة والتدخل في النشاطات الاقتصادية بحيث يمكنها تحييد مفعول القوى العفوية التي ترافق عملية التطور الصناعي والتي تقود إلى تركز المِلكية، وهذا لا يتفق مع آراء برودون. فالفوضوي برودون يطالب أساساً بإلغاء الدولة.
فبحسب اعتقاده، فإن إلغاء الدولة شرط أساسي لتحقيق الحرية. فالكفاح ضد وسائل السيطرة الاقتصادية لن يحقق الحرية الكاملة، الحرية التامة، إنما لا بد من استكماله بالقضاء على كل الأساليب الاستبدادية وصور السيطرة السياسية أيضاً، وهذا لن يتحقق كما يعتقد برودون إلا إذا قام المجتمع الخال من الحكومة، إذ في إطار مثل هذا المجتمع فقط ستتخلص البشرية من الظلم الناتج عن سيطرة الإنسان، أي الحاكم، على الإنسان الآخر. إن الفوضى، أي عدم وجود السيد أو الحاكم الآمر الناهي، هي صيغة الحكم الأمثل الذي يجب على الأفراد الكفاح من أجل تحقيقها.
وإذا كان ماركس قد تطلع إلى قيام النظام الاشتراكي من خلال سيطرة الطبقة البروليتارية على مقاليد الحكم وفرضها الدكتاتورية البروليتارية، فإن برودون يرفض الدكتاتورية وكل أنواع السيطرة السياسية والاقتصادية طبعاً، سواء كان مصدرها الطبقة العاملة أو أية طبقة اجتماعية أخرى.
وإذا كان ماركس عل اعتقاد بأن قيام النظام المتحرر، العادل، يشترط مسبقاً فرض الدكتاتورية البروليتارية، فإن برودون كان يرى أن هذا النظام سرعان ما سيتحقق بمجرد إلغاء الدولة وقيام الاقتصاد الذي يقر بحق المنتجين الصغار بحيازة وسائل الإنتاج التي يحتاجونها في عملية الإنتاج ويضمن خلق علاقات مترابطة بين هؤلاء المنتجين ذات طابع الند للند وليست هرمية.
إن إلغاء العلاقات الهرمية السائدة وتحقق العلاقات المترابطة بين الأنداد لن تتحقق حسب ما يعتقد برودون، إلا من خلال تحرير المبادلات الاقتصادية من سيطرة النقود، أي من سيطرة رأس المال النقدي وإنشاء بنك التداول.
وتنطوي فكرة بنك التداول على خلق مؤسسة تجارية تقوم باستلام كل السلع التي أنتجها المنتجون الصغار وحسب أسعار يتم تحديدها من قبل البنك. بيد أن هذا البنك لا يعطي المنتجين نقوداً بدل السلع التي استلمها منهم، إنما شهادة إقرار تخول حاملها الحصول على سلع تتجسد بها نفس القيمة التي كانت تتجسد في السلع التي سلمها لبنك التداول.
لقد اعتقد برودون أن هذه هي خير وسيلة لإلغاء الربح التجاري كما أنها أفضل السبل لخلق نظام تعاوني تنمو وتزدهر في ظله العلاقات المترابطة بين المنتجين.
8
فالشيوعية حسب رأيه بعيدة عن العلم، خيالية، وعلاوة على هذا منافية للحياة العائلية، وهي بالتالي ليست أفضل من الرأسمالية حيث تفقد الغالبية من أفراد المجتمع حريتها لصالح الفئة الضئيلة التي تمتلك وسائل الإنتاج وتبسط سيطرتها وتفرض استبدادها على هؤلاء.
إن المجتمع المنشود لا بد أن يوازن بين النظامين، ومن هنا فإنه لا بد أن يحتفظ بالمِلكية الفردية ولكن مجردة من عيوبها ومن طابعها العدواني. وهذا سيتم إذا ما جعلنا المِلكية في متناول الجميع، أي إذا اعترفنا بحق حيازة كل فرد لوسائل الإنتاج التي يحتاجها: عندئذ سيصبح المزارع حراً وسيداً على أرضه التي يستغلها بنفسه ويتصرف بمنتجاتها دون قيود، والعامل سيحصل على القيمة الكلية لنتاج عمله دون أن يستغله الرأسمالي.
إلا أن ثمة تناقضاً في آراء برودون. فهو يطالب بتجزئة المِلكية وتولي عدد كبير من صغار المنتجين النشاطات الزراعية والصناعية. ولكن حتى وإن أهملنا أن نشاطات صغار المنتجين لم تعد تتفق مع طبيعة تقسيم العمل في إطار أساليب الإنتاج الصناعية الحديثة، فإن هؤلاء المنتجين الصغار لن يكون حظهم أفضل من حظ أقرانهم في السنين الماضية. فكما توصل برودون نفسه في سياق تحليله للطريقة التي حطم بها الإنتاج الصناعي الرأسمالي صغار المنتجين في العصور الماضية، فإن تركز رأس المال من جديد لا بد أن يقود إلى نفس النتيجة التي انتهت إليها الأمور في السابق، إذ سيتحطم عالم المنتجين الصغار ثانية.
إن عفوية هذا التطور لن يكون في الإمكان كسر طوقها وإلغاء مفعولها إلا إذا كانت ثمة دولة، أي حكومة قوية ومسيطرة ولها القابلية على الحركة والتدخل في النشاطات الاقتصادية بحيث يمكنها تحييد مفعول القوى العفوية التي ترافق عملية التطور الصناعي والتي تقود إلى تركز المِلكية، وهذا لا يتفق مع آراء برودون. فالفوضوي برودون يطالب أساساً بإلغاء الدولة.
فبحسب اعتقاده، فإن إلغاء الدولة شرط أساسي لتحقيق الحرية. فالكفاح ضد وسائل السيطرة الاقتصادية لن يحقق الحرية الكاملة، الحرية التامة، إنما لا بد من استكماله بالقضاء على كل الأساليب الاستبدادية وصور السيطرة السياسية أيضاً، وهذا لن يتحقق كما يعتقد برودون إلا إذا قام المجتمع الخال من الحكومة، إذ في إطار مثل هذا المجتمع فقط ستتخلص البشرية من الظلم الناتج عن سيطرة الإنسان، أي الحاكم، على الإنسان الآخر. إن الفوضى، أي عدم وجود السيد أو الحاكم الآمر الناهي، هي صيغة الحكم الأمثل الذي يجب على الأفراد الكفاح من أجل تحقيقها.
وإذا كان ماركس قد تطلع إلى قيام النظام الاشتراكي من خلال سيطرة الطبقة البروليتارية على مقاليد الحكم وفرضها الدكتاتورية البروليتارية، فإن برودون يرفض الدكتاتورية وكل أنواع السيطرة السياسية والاقتصادية طبعاً، سواء كان مصدرها الطبقة العاملة أو أية طبقة اجتماعية أخرى.
وإذا كان ماركس عل اعتقاد بأن قيام النظام المتحرر، العادل، يشترط مسبقاً فرض الدكتاتورية البروليتارية، فإن برودون كان يرى أن هذا النظام سرعان ما سيتحقق بمجرد إلغاء الدولة وقيام الاقتصاد الذي يقر بحق المنتجين الصغار بحيازة وسائل الإنتاج التي يحتاجونها في عملية الإنتاج ويضمن خلق علاقات مترابطة بين هؤلاء المنتجين ذات طابع الند للند وليست هرمية.
إن إلغاء العلاقات الهرمية السائدة وتحقق العلاقات المترابطة بين الأنداد لن تتحقق حسب ما يعتقد برودون، إلا من خلال تحرير المبادلات الاقتصادية من سيطرة النقود، أي من سيطرة رأس المال النقدي وإنشاء بنك التداول.
وتنطوي فكرة بنك التداول على خلق مؤسسة تجارية تقوم باستلام كل السلع التي أنتجها المنتجون الصغار وحسب أسعار يتم تحديدها من قبل البنك. بيد أن هذا البنك لا يعطي المنتجين نقوداً بدل السلع التي استلمها منهم، إنما شهادة إقرار تخول حاملها الحصول على سلع تتجسد بها نفس القيمة التي كانت تتجسد في السلع التي سلمها لبنك التداول.
لقد اعتقد برودون أن هذه هي خير وسيلة لإلغاء الربح التجاري كما أنها أفضل السبل لخلق نظام تعاوني تنمو وتزدهر في ظله العلاقات المترابطة بين المنتجين.
8
ولما كان المجتمع الأمثل الذي يسعى برودون لتحقيقه يتكون أساساً من عدد كبير من صغار المنتجين، لذا يهمل برودون في منهجه موضوع الاستثمارات والطريقة التي تمول بها هذه الاستثمارات في اقتصاد يخلو من الربح. ولكي يتمكن العمال أيضاً من الخلاص من واقعهم البائس ويصبحوا منتجين صغاراً، لذا فإنه يتوجب على بنك التداول أن يمنحهم قروضاً بلا فائدة.
ومن هذا يتضح لنا في الواقع أن برودون كان يسعى للقضاء على العمل المأجور وجعل كل أفراد المجتمع يمتلكون، أو بتعبير أدق، حائزين على وسائل الإنتاج التي يحتاجونها في عملية الإنتاج.
وبعد هذا العرض لآراء برودون فإن من حق المرء أن يسأل عن المصادر التي ستزود بنك التداول بما يحتاجه من رؤوس أموال لإقراض صغار المنتجين. فإذا كان بنك التداول لا يحتسب فائدة على القروض التي يمنحها، فإنه لن يستطع استقطاب الودائع الضرورية لتمويل القروض التي سيمنحها، فالأفراد يفضلون إيداع ما لديهم من رؤوس أموال فائضة لدى البنوك المستعدة لإعطائهم فوائد على ودائعهم.
وثمة خطأ آخر في منهج برودون. فهو يطالب بإلغاء النقود عن طريق إصدار شهادات إقرار تخول صاحبها الحصول على سلع تتجسد بها نفس القيمة التي كانت تتجسد في السلع التي سلمها الأفراد إلى بنك التداول، متناسياً أن شهادات الإيداع هذه ستصبح هي الأخرى نقوداً أيضاً حالما تكون وسيلة للدفع. وما من شك في أنه سيكون بالإمكان أيضاً ادخار شهادات الإقرار هذه، أي النقود، مما سيعني تكون رأس مال نقدي جديد، يمكن إقراضه أيضاً لقاء فائدة معينة.
كما تخللت مؤلفاته تناقضات كثيرة. وكتابه "فلسفة البؤس" هو خير دليل على ذلك، وهذا هو الأمر الذي جعل منه أداة سهلة بيد ماركس للهجوم على برودون.
ففي هذا الكتاب يحاول برودون دراسة العديد من الظواهر الاجتماعية: القيمة والمنافسة والمِلكية والدولة وغير ذلك من المقولات الاجتماعية، محاولاً إظهار الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية لكل مقولة من هذه المقولات. إلا أنه وهو يحاول نقد هذه المقولات، لا يستطيع أكثر من نقد المظاهر التي تتجلى بها هذه المقولات وهذا ما يدفعه في الكثير من الحالات إلى الموافقة على الأسس العامة التي تقوم عليها المقولات ذاتها.
إن نقده الأدبي الخلاب وأسلوبه الرصين في التعبير لا يمكن أن يحجبان عنا أن نقده قد انصب على اسم الشيء أكثر من أن ينصب على الشيء ذاته. أضف إلى هذا، أن النتائج الأخيرة لنقده هذا كانت تنقض المحصلات التي توصل إليها هو نفسه. وما من شك في أن السبب في تناقضاته هذه كان يكمن أساساً في المنهجية الهيجلية التي اتبعها بصورة خاطئة. فهو حينما كان يسعى لدراسة الفكرة (Thesis) والفكرة المضادة (Antithesis) وذلك من أجل التوصل إلى الفكرة التوفيقية (Synthesis)، كان يقع في الكثير من التناقضات. فلم يتمكن مثلاً من دراسة السوق ووضع نظرية معقولة ومنطقية في القيمة السوقية. إلا أنه لم يجد القصور في منهجيته. ولذا وبدلاً من أن يقول أنه هو الأحمق راح بدعي أن "القيمة حمقاء".
وبرودون هو الذي أطلق مصطلح لغز أو مفارقات أو تناقض القيم على السؤال الذي سبق لآدم سمث أن طرحه من حيث أن ثمة سلعاً لها قيمة استعمالية كبيرة جداً إلا أن قيمتها التبادلية منخفضة، كالماء، وأن هناك سلعاً لها قيمة استعمالية منخفضة جداً إلا أن قيمتها التبادلية مرتفعة جداً كالذهب والأحجار الكريمة.
فالكلاسيك لم يتمكنوا أبداً من إيجاد الجواب الشافي والصحيح لهذا السؤال وظل لغزاً حتى ظهور الفكر الحدي.
9
ومن هذا يتضح لنا في الواقع أن برودون كان يسعى للقضاء على العمل المأجور وجعل كل أفراد المجتمع يمتلكون، أو بتعبير أدق، حائزين على وسائل الإنتاج التي يحتاجونها في عملية الإنتاج.
وبعد هذا العرض لآراء برودون فإن من حق المرء أن يسأل عن المصادر التي ستزود بنك التداول بما يحتاجه من رؤوس أموال لإقراض صغار المنتجين. فإذا كان بنك التداول لا يحتسب فائدة على القروض التي يمنحها، فإنه لن يستطع استقطاب الودائع الضرورية لتمويل القروض التي سيمنحها، فالأفراد يفضلون إيداع ما لديهم من رؤوس أموال فائضة لدى البنوك المستعدة لإعطائهم فوائد على ودائعهم.
وثمة خطأ آخر في منهج برودون. فهو يطالب بإلغاء النقود عن طريق إصدار شهادات إقرار تخول صاحبها الحصول على سلع تتجسد بها نفس القيمة التي كانت تتجسد في السلع التي سلمها الأفراد إلى بنك التداول، متناسياً أن شهادات الإيداع هذه ستصبح هي الأخرى نقوداً أيضاً حالما تكون وسيلة للدفع. وما من شك في أنه سيكون بالإمكان أيضاً ادخار شهادات الإقرار هذه، أي النقود، مما سيعني تكون رأس مال نقدي جديد، يمكن إقراضه أيضاً لقاء فائدة معينة.
كما تخللت مؤلفاته تناقضات كثيرة. وكتابه "فلسفة البؤس" هو خير دليل على ذلك، وهذا هو الأمر الذي جعل منه أداة سهلة بيد ماركس للهجوم على برودون.
ففي هذا الكتاب يحاول برودون دراسة العديد من الظواهر الاجتماعية: القيمة والمنافسة والمِلكية والدولة وغير ذلك من المقولات الاجتماعية، محاولاً إظهار الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية لكل مقولة من هذه المقولات. إلا أنه وهو يحاول نقد هذه المقولات، لا يستطيع أكثر من نقد المظاهر التي تتجلى بها هذه المقولات وهذا ما يدفعه في الكثير من الحالات إلى الموافقة على الأسس العامة التي تقوم عليها المقولات ذاتها.
إن نقده الأدبي الخلاب وأسلوبه الرصين في التعبير لا يمكن أن يحجبان عنا أن نقده قد انصب على اسم الشيء أكثر من أن ينصب على الشيء ذاته. أضف إلى هذا، أن النتائج الأخيرة لنقده هذا كانت تنقض المحصلات التي توصل إليها هو نفسه. وما من شك في أن السبب في تناقضاته هذه كان يكمن أساساً في المنهجية الهيجلية التي اتبعها بصورة خاطئة. فهو حينما كان يسعى لدراسة الفكرة (Thesis) والفكرة المضادة (Antithesis) وذلك من أجل التوصل إلى الفكرة التوفيقية (Synthesis)، كان يقع في الكثير من التناقضات. فلم يتمكن مثلاً من دراسة السوق ووضع نظرية معقولة ومنطقية في القيمة السوقية. إلا أنه لم يجد القصور في منهجيته. ولذا وبدلاً من أن يقول أنه هو الأحمق راح بدعي أن "القيمة حمقاء".
وبرودون هو الذي أطلق مصطلح لغز أو مفارقات أو تناقض القيم على السؤال الذي سبق لآدم سمث أن طرحه من حيث أن ثمة سلعاً لها قيمة استعمالية كبيرة جداً إلا أن قيمتها التبادلية منخفضة، كالماء، وأن هناك سلعاً لها قيمة استعمالية منخفضة جداً إلا أن قيمتها التبادلية مرتفعة جداً كالذهب والأحجار الكريمة.
فالكلاسيك لم يتمكنوا أبداً من إيجاد الجواب الشافي والصحيح لهذا السؤال وظل لغزاً حتى ظهور الفكر الحدي.
9
ثالثاً: باكونين (Bakunin)
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اتخذ المذهب الفوضوي طابعاً يختلف في العديد من جوانبه مع الفوضوية التي نادى بها برودون. فلم تعد الفوضوية حركة سلمية إنما انتهت أسلوباً ثورياً ونحت منحاً اشتراكياً أكثر مما كانت عليها الحال عند برودون. ففي حين كان برودون يطالب بإبقاء المِلكية الفردية سائدة، راحت الفوضوية في ثوبها الجديد تطالب بإقامة الحياة الجماعية. وكان من أشهر أقطاب هذا الإتجاه الفوضوي ميشيل باكونين.
وُلد ميشيل باكونين عام 1814 لأسرة نبيلة ومن كبار ملاكي الأراضي. ولقد التحق في طلع شبابه بالجيش الروسي، إلا أنه ما لبث أن استقال منه بعد فترة قصيرة من الزمن. بعد ذلك عكف على الدراسة المتأنية والقراءة المتواصلة وأصبح عضواً في جماعة أدبية كانت مغرمة بالمثالية الهيجلية. وحتى هذه الفترة كان باكونين لا يزال مخلصاً للقيصر. إلا أن سفرته إلى برلين في الأربعينات واتصاله بالشبان الهيجليين ووقوعه تحت تأثيرهم اليساري جعلت منه من الآن فصاعداً ثورياً ناقماً وفوضوياً متمرداً ليس على أبيه فقط، وإنما على القيصر وعلى كل أنواع الحكم أينما كانت، وهذا ما حدا بالقيصر الروسي نيقولا الأول أن يقول عنه "إنه شاب طيب القلب، إلا أنه إنسان خطر إلى أبعد مدى".
ولقد وصفه أحد الكتاب وصفاً دقيقاً حين قال عنه: "إن باكونين، بقامته الفارعة، وهيئته التي تبعث الهيبة في النفوس، وعبقريته في الخطابة الجماهيرية، كان يجب أن يكون كغاليباردي ومازيني، قائداً لقضية قومية عظيمة، ولكن في روسيا لم تكن هناك حركة قومية ليقودها، وفي الخارج لم يكن باستطاعته أن يجعل نفسه جزءاً من صميم الحركة القومية في البلاد الأخرى. لذلك فقد كان محكوماً عليه أن يبرر حياته في سلسلة من محاولات فاشلة في التدخل في الثورات الأجنبية."
فقد شارك في الثورات التي حدثت في أوربا في ذلك العصر ووهب نفسه لها. ودخل السجن العديد من المرات واستطاع أن يهرب منه. فلم يستقر به المقام في بلد واحد وظل يطبق التعاليم الفوضوية في حياته الخاصة وحتى وفاته في سويسرا عام 1879.
وكان باكونين في بداية الأمر عضواً فعالاً في الدولية الاشتراكية الأولى التي انتهى إليها عام 1869 وبلغ تأثيره على الحركة الاشتراكية إلى درجة أنه أصبح يشاطر ماركس قيادتها لا بل حتى أنه استطاع أن يقلل من نفوذ ماركس داخل الحركة.
وظل باكونين عضواً في الدولية الاشتراكية إلى أن اختلف مع ماركس عام 1872 حول القيادة التسلطية والاستبدادية التي انتهجها المجلس العام للدولية الذي كان يخضع لنفوذ ماركس. وفي المؤتمر الذي عقد في لاهاي في أيلول/سبتمبر من عام 1872 استطاع ماركس السيطرة على المؤتمر وحصل على قرار من المؤتمرين يطرد باكونين وأنصاره من الدولية الاشتراكية.
يمجد باكونين الحرية الفردية باعتبارها الغاية والوسيلة. والحرية عند باكونين مرادفة للكرامة الإنسانية. وتتحقق الحرية عندما لا يطيع إنسان إنساناً آخر وعندما لا يقوم بأي عمل إلا ما يمليه عليه ضميره. فإكراه الإنسان من قبل إنسان آخر على الطاعة أو قيام الإنسان بعمل لا يمليه عليه اعتقاده الخاص ولا ينبع من إرادته يعني تنازل هذا الفرد المكره عن نفسه ذاتها وتحوله إلى حياة العبودية. والحرية الفردية هذه لن تتحقق - كما يرى باكونين - طالما كان ثمة أفراد آخرون في المجتمع لم يستطيعوا أن ينالوا حريتهم الكاملة المطلقة. فحرية الآخرين هي شرط ضروري وتأكيد كامل للحرية.
وإذا كان باكونين يمجد الحرية الفردية ويرفعها إلى هذا القدر، فإنه لا بد وأن يرفض كل أشكال السلطة باعتبارها تهديداً خطيراً للحرية الفردية. وأول أشكال التسلط والاستبداد هي الدولة. فالدولة هي أداة قمع واضطهاد بيد فئة من الأفراد ضد باقي أفراد المجتمع، إنها وسيلة لتحجيم المستغَلين وإخضاعهم لمشيئة المالكين لوسائل الإنتاج. لا بل يتطرف باكونين أكثر ويدعي أن الدولة ستبقى أداة اضطهاد حتى وإن عملت الخير، ما دامت هي تستخدم قوتها في فرض هذا الخير على الأفراد. وهذا ينطبق على كل الأشكال التي تتخذها الحكومة، سواء كانت مَلَكية مطلقة أم دستورية جمهورية ديموقراطية أم أرستقراطية، فكل الحكومات تمثل تسلط الحاكم على رقاب الأفراد.
ومن هذا التقييم للدولة يستخلص باكونين أن الثورة الحقيقية هي الثورة التي تقضي على الحكومة القائمة وتهدم أسس السلطة والتسلط ذاتها.
10
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اتخذ المذهب الفوضوي طابعاً يختلف في العديد من جوانبه مع الفوضوية التي نادى بها برودون. فلم تعد الفوضوية حركة سلمية إنما انتهت أسلوباً ثورياً ونحت منحاً اشتراكياً أكثر مما كانت عليها الحال عند برودون. ففي حين كان برودون يطالب بإبقاء المِلكية الفردية سائدة، راحت الفوضوية في ثوبها الجديد تطالب بإقامة الحياة الجماعية. وكان من أشهر أقطاب هذا الإتجاه الفوضوي ميشيل باكونين.
وُلد ميشيل باكونين عام 1814 لأسرة نبيلة ومن كبار ملاكي الأراضي. ولقد التحق في طلع شبابه بالجيش الروسي، إلا أنه ما لبث أن استقال منه بعد فترة قصيرة من الزمن. بعد ذلك عكف على الدراسة المتأنية والقراءة المتواصلة وأصبح عضواً في جماعة أدبية كانت مغرمة بالمثالية الهيجلية. وحتى هذه الفترة كان باكونين لا يزال مخلصاً للقيصر. إلا أن سفرته إلى برلين في الأربعينات واتصاله بالشبان الهيجليين ووقوعه تحت تأثيرهم اليساري جعلت منه من الآن فصاعداً ثورياً ناقماً وفوضوياً متمرداً ليس على أبيه فقط، وإنما على القيصر وعلى كل أنواع الحكم أينما كانت، وهذا ما حدا بالقيصر الروسي نيقولا الأول أن يقول عنه "إنه شاب طيب القلب، إلا أنه إنسان خطر إلى أبعد مدى".
ولقد وصفه أحد الكتاب وصفاً دقيقاً حين قال عنه: "إن باكونين، بقامته الفارعة، وهيئته التي تبعث الهيبة في النفوس، وعبقريته في الخطابة الجماهيرية، كان يجب أن يكون كغاليباردي ومازيني، قائداً لقضية قومية عظيمة، ولكن في روسيا لم تكن هناك حركة قومية ليقودها، وفي الخارج لم يكن باستطاعته أن يجعل نفسه جزءاً من صميم الحركة القومية في البلاد الأخرى. لذلك فقد كان محكوماً عليه أن يبرر حياته في سلسلة من محاولات فاشلة في التدخل في الثورات الأجنبية."
فقد شارك في الثورات التي حدثت في أوربا في ذلك العصر ووهب نفسه لها. ودخل السجن العديد من المرات واستطاع أن يهرب منه. فلم يستقر به المقام في بلد واحد وظل يطبق التعاليم الفوضوية في حياته الخاصة وحتى وفاته في سويسرا عام 1879.
وكان باكونين في بداية الأمر عضواً فعالاً في الدولية الاشتراكية الأولى التي انتهى إليها عام 1869 وبلغ تأثيره على الحركة الاشتراكية إلى درجة أنه أصبح يشاطر ماركس قيادتها لا بل حتى أنه استطاع أن يقلل من نفوذ ماركس داخل الحركة.
وظل باكونين عضواً في الدولية الاشتراكية إلى أن اختلف مع ماركس عام 1872 حول القيادة التسلطية والاستبدادية التي انتهجها المجلس العام للدولية الذي كان يخضع لنفوذ ماركس. وفي المؤتمر الذي عقد في لاهاي في أيلول/سبتمبر من عام 1872 استطاع ماركس السيطرة على المؤتمر وحصل على قرار من المؤتمرين يطرد باكونين وأنصاره من الدولية الاشتراكية.
يمجد باكونين الحرية الفردية باعتبارها الغاية والوسيلة. والحرية عند باكونين مرادفة للكرامة الإنسانية. وتتحقق الحرية عندما لا يطيع إنسان إنساناً آخر وعندما لا يقوم بأي عمل إلا ما يمليه عليه ضميره. فإكراه الإنسان من قبل إنسان آخر على الطاعة أو قيام الإنسان بعمل لا يمليه عليه اعتقاده الخاص ولا ينبع من إرادته يعني تنازل هذا الفرد المكره عن نفسه ذاتها وتحوله إلى حياة العبودية. والحرية الفردية هذه لن تتحقق - كما يرى باكونين - طالما كان ثمة أفراد آخرون في المجتمع لم يستطيعوا أن ينالوا حريتهم الكاملة المطلقة. فحرية الآخرين هي شرط ضروري وتأكيد كامل للحرية.
وإذا كان باكونين يمجد الحرية الفردية ويرفعها إلى هذا القدر، فإنه لا بد وأن يرفض كل أشكال السلطة باعتبارها تهديداً خطيراً للحرية الفردية. وأول أشكال التسلط والاستبداد هي الدولة. فالدولة هي أداة قمع واضطهاد بيد فئة من الأفراد ضد باقي أفراد المجتمع، إنها وسيلة لتحجيم المستغَلين وإخضاعهم لمشيئة المالكين لوسائل الإنتاج. لا بل يتطرف باكونين أكثر ويدعي أن الدولة ستبقى أداة اضطهاد حتى وإن عملت الخير، ما دامت هي تستخدم قوتها في فرض هذا الخير على الأفراد. وهذا ينطبق على كل الأشكال التي تتخذها الحكومة، سواء كانت مَلَكية مطلقة أم دستورية جمهورية ديموقراطية أم أرستقراطية، فكل الحكومات تمثل تسلط الحاكم على رقاب الأفراد.
ومن هذا التقييم للدولة يستخلص باكونين أن الثورة الحقيقية هي الثورة التي تقضي على الحكومة القائمة وتهدم أسس السلطة والتسلط ذاتها.
10
ولما كانت الدولة ما هي إلا أداة لحماية المِلكية الفردية ضد رغبات وتطلعات المجردين من المِلكية، لذا يرى باكونين أن القضاء على المِلكية الخاصة شرط أساسي للقضاء على الدولة. فمتى ما تم القضاء على المِلكية الخاصة، فلن تكون هناك حاجة لوجود الدولة أساساً.
إن آراء باكونين هذه ستلعب دوراً مهماً في الفكر الماركسي، وستجد صداها ولو بصيغة معكوسة عند ستالين. فستالين كان قد قال فيما بعد وانطلاقاً من تفسير وتبرير هيجليان زائفين، أنه ومن أجل القضاء على الدولة، لا بد من تقوية الدولة في بادئ الأمر.
11
الفيلسوف الجديد
#الأناركية
#الفوضوية
@Newphilosopher
إن آراء باكونين هذه ستلعب دوراً مهماً في الفكر الماركسي، وستجد صداها ولو بصيغة معكوسة عند ستالين. فستالين كان قد قال فيما بعد وانطلاقاً من تفسير وتبرير هيجليان زائفين، أنه ومن أجل القضاء على الدولة، لا بد من تقوية الدولة في بادئ الأمر.
11
الفيلسوف الجديد
#الأناركية
#الفوضوية
@Newphilosopher
Forwarded from باروخ سبينوزا
▪ حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة.
▪الفيلسوف باروخ سبينوزا
وفيه نُبيِّن أن حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة.١
▪ لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يُمكن السيطرة على الألسنة، لَما وجدَتْ أية حكومة نفسها في خطر، ولَما احتاجَتْ أية سلطة لاستعمال العنف، ولَعاش كلُّ فردٍ وفقًا لهوى الحكام، ولَما أصدر حكمًا على حقٍّ أو باطل، على عدل أو ظلم إلَّا وفقًا لمشيئتهم. ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو كما لحظنا في أول الفصل السابع عشر، لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر؛ إذ لا يُمكن أن يُخوِّل أحد بإرادته أو رغمًا عنه إلى أي إنسان حقَّهُ الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحُر في كلِّ شيء. وعلى ذلك فإنَّ سُلطةً تدَّعي أنها تُسيطر على الأذهان إنما تُوصَف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكِمة ظالمة لرعاياها ومُغتصِبة لحقوقهم عندما تُحاول أن تفرِض على كلٍّ منهم ما يتعيَّن عليه قَبوله على أنه حق، وما يتعيَّن عليه رفضه على أنه باطل، وأن تفرِض عليه المُعتقدات التي تحثُّه على تقوى الله؛ ذلك لأنَّ هذه الأمور تُعدُّ حقًّا خاصًّا بكلِّ فرد، لا يُمكن لأحد — إن شاء — أن يسلُبَه إياه، وأنا أعترِف بأنَّ هناك أناسًا كثيرين لا يخضعون حقًّا خضوعًا مُباشرًا لسُلطة فردٍ آخر، ولكن ذِهنهم يحتشِد بقدْرٍ من الأفكار المُسبَقة العجيبة يجعلهم ينساقون وراء أفكار هذا الآخر، إلى حدٍّ نستطيع معه أن نَصِفهم بأنهم تابِعون له في فكره، ولكنه مهما كانت درجة الخضوع الذي يحصل عليه البعض بوسائل مُفتعلة، فمن المُحال أن نمنع الناس من الاعتقاد بأن آراءهم الخاصة أفضل من آراء الآخرين، وبأن اختلاف الأذهان لا يقلُّ عن اختلاف الأذواق؛ فمُوسى، الذي عرف كيف يكسِب ثقة شعبه، لا بالالتجاء إلى الخداع، بل بصفتِه الإلهية، حتى لقد اعتقد الناس أنَّ أفعاله وأقواله مُوحًى بها من الله؛ أقول: إنَّ موسى نفسه لم يَسلَم مع ذلك من الشُّبهات أو من التأويلات المُعارِضة له، فكيف يُسلِّم الملوك أنفسهم من ذلك؟ وفضلًا عن ذلك، فإذا كان مِن المُمكن تصوُّر عبودية الأذهان في النظام الملكي فإنَّ هذا الاحتمال مستبعد تمامًا في نظام الحكم الديمقراطي،٢ حيث يشارك الشعب كله أو مُعظمه في السلطة الجماعية، وأظنُّ أنَّ السبب في ذلك لا يخفى على أحد.
وإذن فمهما عظُم الحقُّ الذي تتمتَّع به السلطة العليا الحاكمة في جميع المجالات، ومهما ساد الاعتراف بها على أنها مُفسِّرة للقانون والتقوى فإنها لا تستطيع مَنْع الأفراد من إصدار أحكامهم في كلِّ شيءٍ طبقًا لآرائهم الخاصة أو الانفعال — على نحوٍ فردي — بهذا الشيء أو ذاك. صحيح أن من حقِّ هذه السلطة العليا اعتبار من لا يشاركونها في رأيها في كلِّ شيء أعداء، ولكننا لا نُناقش الآن حقَّها، بل نبحث فيما يُحقِّق مصلحتها. إنَّنا نُسلِّم بأنها تستطيع شرعًا الحكم بأعنف الطُّرق وإصدار أحكام الإعدام على المواطنين لأتفه الأسباب، ولكن الكلَّ مُجمعون على أنَّ هذا الأسلوب في الحُكم يُعارض العقل السليم، بل إنه لَمَّا كانت السلطة العليا لا تستطيع أن تحكم بهذا الأسلوب، دون أن تُعرِّض الدولة للخطر، فإننا نستطيع إنكار مَقدرتها على استعمال هذه الوسائل وما شابهها، وبالتالي إنكار حقِّها المُطلق في ذلك؛ لأننا نعلم أنَّ حقَّ السلطة العليا يتحدَّد حسب قُدرتها.
1
▪
وفيه نُبيِّن أن حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة.١
▪ لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يُمكن السيطرة على الألسنة، لَما وجدَتْ أية حكومة نفسها في خطر، ولَما احتاجَتْ أية سلطة لاستعمال العنف، ولَعاش كلُّ فردٍ وفقًا لهوى الحكام، ولَما أصدر حكمًا على حقٍّ أو باطل، على عدل أو ظلم إلَّا وفقًا لمشيئتهم. ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو كما لحظنا في أول الفصل السابع عشر، لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر؛ إذ لا يُمكن أن يُخوِّل أحد بإرادته أو رغمًا عنه إلى أي إنسان حقَّهُ الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحُر في كلِّ شيء. وعلى ذلك فإنَّ سُلطةً تدَّعي أنها تُسيطر على الأذهان إنما تُوصَف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكِمة ظالمة لرعاياها ومُغتصِبة لحقوقهم عندما تُحاول أن تفرِض على كلٍّ منهم ما يتعيَّن عليه قَبوله على أنه حق، وما يتعيَّن عليه رفضه على أنه باطل، وأن تفرِض عليه المُعتقدات التي تحثُّه على تقوى الله؛ ذلك لأنَّ هذه الأمور تُعدُّ حقًّا خاصًّا بكلِّ فرد، لا يُمكن لأحد — إن شاء — أن يسلُبَه إياه، وأنا أعترِف بأنَّ هناك أناسًا كثيرين لا يخضعون حقًّا خضوعًا مُباشرًا لسُلطة فردٍ آخر، ولكن ذِهنهم يحتشِد بقدْرٍ من الأفكار المُسبَقة العجيبة يجعلهم ينساقون وراء أفكار هذا الآخر، إلى حدٍّ نستطيع معه أن نَصِفهم بأنهم تابِعون له في فكره، ولكنه مهما كانت درجة الخضوع الذي يحصل عليه البعض بوسائل مُفتعلة، فمن المُحال أن نمنع الناس من الاعتقاد بأن آراءهم الخاصة أفضل من آراء الآخرين، وبأن اختلاف الأذهان لا يقلُّ عن اختلاف الأذواق؛ فمُوسى، الذي عرف كيف يكسِب ثقة شعبه، لا بالالتجاء إلى الخداع، بل بصفتِه الإلهية، حتى لقد اعتقد الناس أنَّ أفعاله وأقواله مُوحًى بها من الله؛ أقول: إنَّ موسى نفسه لم يَسلَم مع ذلك من الشُّبهات أو من التأويلات المُعارِضة له، فكيف يُسلِّم الملوك أنفسهم من ذلك؟ وفضلًا عن ذلك، فإذا كان مِن المُمكن تصوُّر عبودية الأذهان في النظام الملكي فإنَّ هذا الاحتمال مستبعد تمامًا في نظام الحكم الديمقراطي،٢ حيث يشارك الشعب كله أو مُعظمه في السلطة الجماعية، وأظنُّ أنَّ السبب في ذلك لا يخفى على أحد.
وإذن فمهما عظُم الحقُّ الذي تتمتَّع به السلطة العليا الحاكمة في جميع المجالات، ومهما ساد الاعتراف بها على أنها مُفسِّرة للقانون والتقوى فإنها لا تستطيع مَنْع الأفراد من إصدار أحكامهم في كلِّ شيءٍ طبقًا لآرائهم الخاصة أو الانفعال — على نحوٍ فردي — بهذا الشيء أو ذاك. صحيح أن من حقِّ هذه السلطة العليا اعتبار من لا يشاركونها في رأيها في كلِّ شيء أعداء، ولكننا لا نُناقش الآن حقَّها، بل نبحث فيما يُحقِّق مصلحتها. إنَّنا نُسلِّم بأنها تستطيع شرعًا الحكم بأعنف الطُّرق وإصدار أحكام الإعدام على المواطنين لأتفه الأسباب، ولكن الكلَّ مُجمعون على أنَّ هذا الأسلوب في الحُكم يُعارض العقل السليم، بل إنه لَمَّا كانت السلطة العليا لا تستطيع أن تحكم بهذا الأسلوب، دون أن تُعرِّض الدولة للخطر، فإننا نستطيع إنكار مَقدرتها على استعمال هذه الوسائل وما شابهها، وبالتالي إنكار حقِّها المُطلق في ذلك؛ لأننا نعلم أنَّ حقَّ السلطة العليا يتحدَّد حسب قُدرتها.
1
Forwarded from باروخ سبينوزا
وعلى ذلك، فإذا لم يكن من المُمكن أن يتخلَّى أحد عن حُريَّته في الرأي وفي التفكير كما يشاء، وإذا كان كلُّ فردٍ شيَّد تفكيره بناءً على حقٍّ طبيعي أسمى، فإنَّ أيةَ مُحاولةٍ لإرغام أناس ذوي آراء مُختلفة، بل ومُتعارضة، على ألَّا يقولوا إلَّا ما تُقرِّره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب، بل إن الأذكياء منهم — ناهيك بالعامة — لا يُمكِنهم أن يَلزَموا الصمت؛ ذلك لأنَّ من الأخطاء الشائعة بين الناس أنهم يَبُوحون بنواياهم للآخرين، حتى في الحالات التي يَحسُن فيها الكتمان. وعلى ذلك فإنَّ السلطة السياسية تكون أشدَّ عنفًا إذا أنكرَتْ على الفرد حقَّهُ في التفكير وفي الدعوة لِما يُفكِّر فيه، وعلى العكس تكون مُعتدلة إذا سلَّمَت له بهذه الحرية. ومع ذلك فنحن لا نُنكِر أنَّ سيادة الدولة يُمكن أن يُطعن فيها بالأقوال كما يُطعن فيها بالأفعال. وبالتالي فإذا كان من المُستحيل سلب الرعايا لحُريَّتِهم في التعبير كليةً، فإنَّ من الخطورة التسليم لهم بها كليةُ؛ لذلك سنحاول أن نُبيِّن إلى أي حدٍّ يمكن ويجب التسليم بهذه الحرية دون أن يكون في ذلك تهديد لسلامة الدولة أو لحق السلطة العليا، وهذا، كما أعلنت في أول الفصل السادس عشر، هو الموضوع الرئيس لهذا الكتاب.
يتبيَّن بوضوحٍ تام، من الأُسس التي تقوم عليها الدولة، والتي بيَّنَّاها من قبل، أنَّ الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلِهم يقعون تحت نَير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كلُّ فردٍ في أمانٍ بقدْر الإمكان، أي يحتفِظ بالقدْر المُستطاع بحقِّه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضَّرَر بالغَير. وأُكرِّر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيواناتٍ أو آلات صمَّاء، بل إنَّ المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كيما تقوم بوظائفها كاملةً في أمانٍ تام، بحيث يتسنَّى لهم أن يستخدموا عقولهم استخدامًا حُرًّا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معًا دون ظُلمٍ أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قِيام الدولة. وقد رأيْنا أيضًا أنَّ الشرط الوحيد الضروري لقيام الدولة هو أن تنبُع سُلطة إصدار القرار من الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فردٍ واحد. ولَمَّا كانت أحكام الناس، إذا ما تُركوا أحرارًا، تختلف فيما بينها كلَّ الاختلاف، ولَمَّا كان كلُّ فردٍ يظنُّ أنه وحده الذي يعلَم كلَّ شيء، ونظرًا إلى أن من المُستحيل أن يفكر الناس كلهم ويُعبِّروا عن أفكارهم بطريقةٍ واحدة، فإنهم ما كانوا ليعيشوا في سلام لو لم يتخلَّ كلُّ فردٍ عن حقِّه في أن يسلك وفقًا لِما يُمليه عليه قراره الشخصي. وعلى ذلك فإنَّ الحقَّ الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقُّه في أن يسلُك كما يشاء وليس حقُّه في التفكير والحكم. وعلى ذلك فإنَّ كل من يسلك ضِدَّ مشيئة السلطة العليا يُلحق بها الضرر، ولكن المرء يستطيع أن يفكر وأن يُصدر حكمه، ومن ثَم يستطيع الكلام أيضًا، بحرية تامة، بشرط ألَّا يتعدى حدود الكلام أو الدعوة، وأن يَعتمِد في ذلك على العقل وحده، لا على الخداع أو الغضب أو الحقد، ودون أن يكون في نِيَّته تغيير أي شيء في الدولة بمحض إرادته. فلنفرِض مثلًا أنَّ شخصًا قد بَيَّن تعارُض أحد القوانين مع العقل، وأعرب عن رأيه في ضرورة إلغائه، وفي الوقت نفسه عرَض رأيه على السلطة العليا لتحكم عليه لا لأنَّها وحدَها هي التي لها الحقُّ في إلغاء القوانين، وكفَّ في أثناء مُحاولته هذه عن أي مظهرٍ من مظاهر المُعارضة للقانون المذكور، فإنه يكون جديرًا بلَقَب المواطن الصالِح وبثناء الدولة عليه، أمَّا إذا كان الهدف من تدخُّله هو اتهام السلطات العامة بالظلم وجعلها مَثارًا للغضب، أو حاول إلغاء القانون رغمًا عن السلطات العامة عن طريق إثارة الفتن، فإنه يكون مُشاغبًا عاصيًا.
2
يتبيَّن بوضوحٍ تام، من الأُسس التي تقوم عليها الدولة، والتي بيَّنَّاها من قبل، أنَّ الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلِهم يقعون تحت نَير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كلُّ فردٍ في أمانٍ بقدْر الإمكان، أي يحتفِظ بالقدْر المُستطاع بحقِّه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضَّرَر بالغَير. وأُكرِّر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيواناتٍ أو آلات صمَّاء، بل إنَّ المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كيما تقوم بوظائفها كاملةً في أمانٍ تام، بحيث يتسنَّى لهم أن يستخدموا عقولهم استخدامًا حُرًّا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معًا دون ظُلمٍ أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قِيام الدولة. وقد رأيْنا أيضًا أنَّ الشرط الوحيد الضروري لقيام الدولة هو أن تنبُع سُلطة إصدار القرار من الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فردٍ واحد. ولَمَّا كانت أحكام الناس، إذا ما تُركوا أحرارًا، تختلف فيما بينها كلَّ الاختلاف، ولَمَّا كان كلُّ فردٍ يظنُّ أنه وحده الذي يعلَم كلَّ شيء، ونظرًا إلى أن من المُستحيل أن يفكر الناس كلهم ويُعبِّروا عن أفكارهم بطريقةٍ واحدة، فإنهم ما كانوا ليعيشوا في سلام لو لم يتخلَّ كلُّ فردٍ عن حقِّه في أن يسلك وفقًا لِما يُمليه عليه قراره الشخصي. وعلى ذلك فإنَّ الحقَّ الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقُّه في أن يسلُك كما يشاء وليس حقُّه في التفكير والحكم. وعلى ذلك فإنَّ كل من يسلك ضِدَّ مشيئة السلطة العليا يُلحق بها الضرر، ولكن المرء يستطيع أن يفكر وأن يُصدر حكمه، ومن ثَم يستطيع الكلام أيضًا، بحرية تامة، بشرط ألَّا يتعدى حدود الكلام أو الدعوة، وأن يَعتمِد في ذلك على العقل وحده، لا على الخداع أو الغضب أو الحقد، ودون أن يكون في نِيَّته تغيير أي شيء في الدولة بمحض إرادته. فلنفرِض مثلًا أنَّ شخصًا قد بَيَّن تعارُض أحد القوانين مع العقل، وأعرب عن رأيه في ضرورة إلغائه، وفي الوقت نفسه عرَض رأيه على السلطة العليا لتحكم عليه لا لأنَّها وحدَها هي التي لها الحقُّ في إلغاء القوانين، وكفَّ في أثناء مُحاولته هذه عن أي مظهرٍ من مظاهر المُعارضة للقانون المذكور، فإنه يكون جديرًا بلَقَب المواطن الصالِح وبثناء الدولة عليه، أمَّا إذا كان الهدف من تدخُّله هو اتهام السلطات العامة بالظلم وجعلها مَثارًا للغضب، أو حاول إلغاء القانون رغمًا عن السلطات العامة عن طريق إثارة الفتن، فإنه يكون مُشاغبًا عاصيًا.
2
Forwarded from باروخ سبينوزا
وهكذا تتَّضِح لنا الآن الشروط التي يستطيع بموجبها الفرد أن يُعبِّر عمَّا يُفكِّر فيه وأن يدعو له دون أن ينال من حقِّ السُّلطة العُليا أو من سُلطتها، أي دون تهديد للسلام الداخلي: يكفيه أن يترك للسلطة العليا مهمة اتخاذ القرارات العملية، وألَّا يقوم بأيِّ شيءٍ ضِدَّ هذه القرارات، حتى ولو اضطرَّ في كثيرٍ من الأحيان أن يسلك على نحوٍ مُخالف لرأيه الذي يُجاهر بِصوابه، حينئذٍ لا يُمثل سلوكه هذا أية خطورة على العدالة أو على التقوى، بل إني لأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأقول: إنَّ من واجبه أن يفعَلَ ذلك إن أراد أن يكون عادلًا تقيًّا؛ وذلك لأنَّ العدالة، كما بَيَّنَّا من قبل، تتعلَّق بمشيئة السُّلطة العُليا وحدَها، بحيث لا يُمكن لأحدٍ أن يَعدِل دون أن يكون سلوكه مُطابقًا لقراراتها. أما التقوى فإن أسمى مظاهرها هي تلك التي تؤدي إلى سلامة الدولة وأمنها الداخلي (وقد بيَّنَّا ذلك في الفصل السابق) وهو ما لا يتحقَّق لو عاش كل فردٍ وفقَ هواه، فمن الفسوق إذن أن يفعل المرء شيئًا طبقًا لرأيه الخاص ضِدَّ مشيئة السلطة العليا التي يُعدُّ هو أحد رعاياها؛ إذ إنه لو استباح الجميع لأنفسهم أن يفعلوا ذلك لأدى هذا إلى انهيار الدولة، بل إن الإنسان لا يعمل شيئًا مُطلقًا ضِدَّ ما يقضي به عقله وما يُقرِّره، ما دام يعمل طبقًا لمشيئة السلطة العليا، إذ إنَّ العقل ذاته هو الذي أقنعه بأنه يُخوِّل لها حقَّه في أن يحيا على هواه طبقًا لمشيئته الخاصة. ولو أن التجربة اليومية تُقدِّم إلينا دليلًا آخر على ذلك، ففي المجالس — سواء أكانت مجالس عالية أم مجالس ثانوية الأهمية — يندُر أن تَصدُر القرارات بإجماع الآراء، ومع ذلك يَصدُر كلُّ قرار مُعبِّرًا عن إرادة جميع الأعضاء، سواء منهم من صوَّتوا معه أو ضده.٣
ولكن، لنرجِع إلى موضوعنا الأصلي، فقد رأيْنا بعد الرجوع إلى الأُسُس التي تقوم عليها الدولة، ما هي الشروط التي يستعمل بها الفرد حريته في الرأي دون أن ينال من حقِّ السلطة العليا. ومِن السهل الآن تحديد الآراء التي يؤدي التصديق بها إلى الفتن في الدولة؛ فتلك هي الآراء التي تؤدِّي المُناداة بها إلى نقض العهد الذي تخلَّى به الفرد عن حقِّه في أن يفعل ما يشاء. ومن أمثلة ذلك، الرأي الذي يُنكر استقلال السلطة العليا من حيث المبدأ، أو الرأي الذي لا يُحتِّم على كلِّ فردٍ الوفاء بوعده، أو الذي يُوصي بأن يعيش كلٌّ على هواه، وما شابه ذلك من الآراء التي تتعارَض مع هذا العهد تَعارُضًا مباشرًا، والتي يكون مُعتنِقها داعية للفتنة، لا بسبب حُكمه أو رأيه في ذاته، بل بسبب السلوك المُترتِّب عليها؛ إذ إن اعتناق هذه الآراء يعني التخلَّي — ضِمنًا أو صراحة — عن الولاء للسلطة العليا، أما الآراء الأخرى التي لا تنطوي على مسلكٍ من نوع نقض العهد، أو الانتقام، أو الغضب … إلخ، فلا يُمكن أن توصف بأنها داعية للفتنة، ما لم يكن ذلك في دولة فاسدة؛ أي في دولة أحرَزَ فيها المُتعصِّبون الطامِعون الذين لا يُطيقون كلَّ من كان على خلقٍ قويم، نجاحًا جعلهم يشتهِرون بين العامَّة إلى حدٍّ أصبحت معه سُلطتهم تطغى على سلطة الحاكم. ومع ذلك فنحن لا نُنكر وجود بعض الآراء التي لا يكون من الأمانة عرضُها ونشرُها مع أنها تبدو وكأنها مُجرَّد آراء تحتمل الصواب والخطأ. وقد بَيَّنا في الفصل الخامس عشر٤ هذه الآراء، مع حِرصنا على ألَّا نحدَّ على أي نحوٍ من حُرية الفعل. وأخيرًا فإذا أدركنا أنَّ الأفعال، أي الإحسان للجار مثلًا، هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها كل فرد أن يثبت ولاءه للدولة، كما يُثبت ولاءه لله، اعترفنا بلا تردُّد بأن أفضل الدول هي تلك التي تُسلِّم للفرد بالحرية نفسها التي يُسلِّم له بها الإيمان. وإني لأعترف بأنَّ هذه الحرية قد تُسبِّب بعض المُضايقات ولكن هل هناك تنظيم وضعي يبلغ من الحكمة حدًّا يجعل من المستحيل أن تنشأ عنه بعض المضايقات؟ إن من يُريد تنظيم الحياة الإنسانية كلها بالقونين يزيد من حدَّة العيوب دون أن يُقوِّمها، ومن الأفضل السماح بما لا نستطيع منعه مهما كان الضَّرَر الناتج عن ذلك. إنَّنا نعلم العواقب الوخيمة المُترتِّبة على التَّرَف والحسد والشهوة والثَّمالة وما شابهها من الانفعالات، ومع ذلك نسمح بهذا كله لأنَّنا لا نستطيع إلغاءه بسلطة القانون، مع أنها رذائل فعلية، فالأَولى أن نسمح بحرية الحكم، التي هي فضيلة في الواقع، وألَّا نقضي عليها. ولنُضِف إلى ذلك أنه لا يُوجَد ضررٌ واحد ينتج عن حرية التفلسُف لا تستطيع السُّلطات العُليا أن تتجنَّبه (وسأُبرهن على ذلك الآن). وأخيرًا أليست الحرية شرطًا أساسيًّا لتقدُّم العلوم والفنون؟ إنَّ العلوم والفنون لا تتقدَّم تقدُّمًا ملموسًا إلَّا على أيدي أناس تخلَّصوا تمامًا من المخاوف وأصبحت لهم حُرية الحُكم.
3
ولكن، لنرجِع إلى موضوعنا الأصلي، فقد رأيْنا بعد الرجوع إلى الأُسُس التي تقوم عليها الدولة، ما هي الشروط التي يستعمل بها الفرد حريته في الرأي دون أن ينال من حقِّ السلطة العليا. ومِن السهل الآن تحديد الآراء التي يؤدي التصديق بها إلى الفتن في الدولة؛ فتلك هي الآراء التي تؤدِّي المُناداة بها إلى نقض العهد الذي تخلَّى به الفرد عن حقِّه في أن يفعل ما يشاء. ومن أمثلة ذلك، الرأي الذي يُنكر استقلال السلطة العليا من حيث المبدأ، أو الرأي الذي لا يُحتِّم على كلِّ فردٍ الوفاء بوعده، أو الذي يُوصي بأن يعيش كلٌّ على هواه، وما شابه ذلك من الآراء التي تتعارَض مع هذا العهد تَعارُضًا مباشرًا، والتي يكون مُعتنِقها داعية للفتنة، لا بسبب حُكمه أو رأيه في ذاته، بل بسبب السلوك المُترتِّب عليها؛ إذ إن اعتناق هذه الآراء يعني التخلَّي — ضِمنًا أو صراحة — عن الولاء للسلطة العليا، أما الآراء الأخرى التي لا تنطوي على مسلكٍ من نوع نقض العهد، أو الانتقام، أو الغضب … إلخ، فلا يُمكن أن توصف بأنها داعية للفتنة، ما لم يكن ذلك في دولة فاسدة؛ أي في دولة أحرَزَ فيها المُتعصِّبون الطامِعون الذين لا يُطيقون كلَّ من كان على خلقٍ قويم، نجاحًا جعلهم يشتهِرون بين العامَّة إلى حدٍّ أصبحت معه سُلطتهم تطغى على سلطة الحاكم. ومع ذلك فنحن لا نُنكر وجود بعض الآراء التي لا يكون من الأمانة عرضُها ونشرُها مع أنها تبدو وكأنها مُجرَّد آراء تحتمل الصواب والخطأ. وقد بَيَّنا في الفصل الخامس عشر٤ هذه الآراء، مع حِرصنا على ألَّا نحدَّ على أي نحوٍ من حُرية الفعل. وأخيرًا فإذا أدركنا أنَّ الأفعال، أي الإحسان للجار مثلًا، هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها كل فرد أن يثبت ولاءه للدولة، كما يُثبت ولاءه لله، اعترفنا بلا تردُّد بأن أفضل الدول هي تلك التي تُسلِّم للفرد بالحرية نفسها التي يُسلِّم له بها الإيمان. وإني لأعترف بأنَّ هذه الحرية قد تُسبِّب بعض المُضايقات ولكن هل هناك تنظيم وضعي يبلغ من الحكمة حدًّا يجعل من المستحيل أن تنشأ عنه بعض المضايقات؟ إن من يُريد تنظيم الحياة الإنسانية كلها بالقونين يزيد من حدَّة العيوب دون أن يُقوِّمها، ومن الأفضل السماح بما لا نستطيع منعه مهما كان الضَّرَر الناتج عن ذلك. إنَّنا نعلم العواقب الوخيمة المُترتِّبة على التَّرَف والحسد والشهوة والثَّمالة وما شابهها من الانفعالات، ومع ذلك نسمح بهذا كله لأنَّنا لا نستطيع إلغاءه بسلطة القانون، مع أنها رذائل فعلية، فالأَولى أن نسمح بحرية الحكم، التي هي فضيلة في الواقع، وألَّا نقضي عليها. ولنُضِف إلى ذلك أنه لا يُوجَد ضررٌ واحد ينتج عن حرية التفلسُف لا تستطيع السُّلطات العُليا أن تتجنَّبه (وسأُبرهن على ذلك الآن). وأخيرًا أليست الحرية شرطًا أساسيًّا لتقدُّم العلوم والفنون؟ إنَّ العلوم والفنون لا تتقدَّم تقدُّمًا ملموسًا إلَّا على أيدي أناس تخلَّصوا تمامًا من المخاوف وأصبحت لهم حُرية الحُكم.
3