قناة د. محمد علي يوسف
13.8K subscribers
192 photos
96 videos
26 files
1.37K links
خواطر ومقالات ومقتطفات فكرية ودعوية من كتب ومنشورات وحلقات د. محمد علي يوسف
Download Telegram
في خضمّ أيامنا العادية حيث تسير الحياة بإيقاعٍ ثابت رتيب، وحين نظن أن سفينتنا تبحر في بحرٍ آمن، تأتي أحياناً موجةٌ عاتية من حيث لا نحتسب.
موجةٌ من مرضٍ، أو فقدٍ، أو ضيق رزقٍ، أو خذلان قريب.
موجةٌ تهزّ أركان طمأنينتنا، وتُلقي بنا في لُجّة الألم والحيرة.
نسميها بأسماء كثيرة متنوعة
"ابتلاءً"، "مصيبة"، "محنة"...
كلماتٌ ثقيلة، تحمل في طياتها رائحة العقوبة أو هكذا يظن أغلبنا لأول وهلة.

لكن ماذا لو يكن كل بلاء هكذا بالضرورة؟
ماذا لو لم يكن علامةً على غضبٍ إلهيٍّ نزل بك، بل رسالة من السماء توجهك أو تصلح عيبا لم تنتبه إليه..
ماذا لو كانت درساً خاصاً أُعدّ لك وحدك لتتعلم ما لا يمكن أن يُعلّمك إياه الرخاء؟

نعم هذه هي الحقيقة التي ربما لا يدركها البعض والمفهوم الذي يغيب عن كثيرين ومنهم أفاضل كرام لا أعيب عليهم دينا ولا ورعا ولكن قد أخالفهم فهما.

البلاء الخاص ليس دائما عقوبة..
ليس شرطا أن يكون نتيجةً لذنبٍ اقترفته، وليس في كل مرة علامةً على غضبٍ إلهيٍ نزل بك..
"ما نزل بلاء إلا بذنب"
هذه العبارة ليست حديثا أصلا فضلا أن يكون ضعيفا أو موضوعا
هي مجرد عبارة منسوبة لبعض السلف..
ربما يكون لها وجه في البلاء العام..
لكن هل يجرؤ أحد على إنزالها على كل مبتلى؟
عندئذ سيُسأل عمن ابتلي من الأنبياء والصالحين
ماذا عنهم؟
هل هم أيضا يعاقبون بتلك البلاءات؟
أظن أن الإجابة واضحة وترسخ لهذا الذي نصححه في هذه السطور

كثيرا ما يكون البلاء رسالة تربوية من السماء تُعيد ترتيبك من الداخل..
تُهذّبك
تُعلّمك ما لا يُعلّمك إياه الرخاء.
عموم الناس يظنون أن الابتلاء يُقصَد به دائما الإيلام، لكن الحقيقة أنه غالبا يُقصَد به الإيقاظ.
أن تُوقظ من غفلتك، وأن تُعيد النظر في أولوياتك التي بعثرتها الدنيا، وأن تُدرك أن ما كنت تظنه ثابتاً وقوياً ومتيناً في حياتك (صحتك، مالك، أحبابك...) قد لا يكون كذلك، وأن ما كنت تظنه هامشياً وضعيفاً (صلتك بالله، رصيدك من الصبر، يقينك برحمته...) إنما هو الأصل..
هو المرساة الوحيدة التي تُثبّت سفينتك حين تعصف بها الأنواء.

وطبعا البلاء يُربّي فيك الصبر..
لكن ليس ذلك الصبر الجاف النظري الذي نتحدث عنه في المجالس، ولا ذلك الذي نكتبه في منشورات وسائل التواصل لنبدو أكثر حكمة.
بل هو ذلك الصبر الحقيقي..
صبر يصاغ في ميادين عملية ويتشكل في عتمة الليل، حين لا يراك أحد، ولا يسمع أنينك أحد، إلا من تتصبر به.
الصبر الذي هو حوارٌ صامتٌ بين قلبك المكلوم وبين رحمة ربك الواسعة.

"وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ...".
هكذا قال الله مبينا أن هذا واقع بتفاوت لكن بلا استثناء..
شيء من...
كل على قدر ما يعلمه الله من قدرته وهو لا يكلف نفسا إلا وسعها..
لقد عدّدت الآية ألوان البلاء التي لابد أن نمرّ بها ثم لم يقل بعدها "فانتظروا الفرج" أو "فاعلموا أني سأعوضكم"، بل قال: "...وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ".
كأن "البشرى" ليست في مجرد زوال البلاء، ولكن في القدرة على الصبر عليه!
أو كأن الصبر في حد ذاته هو الفرج، والثبات هو النصر..
إذاً البلاء ليس مجرد اختبارٍ ولكنه بابٌ يُفتح لنا لندخل منه إلى مقامات أعلى ربما لم نكن لنصل إليها في غفلات الترف والرخاء

وهو واقع لا محالة
{ لَتُبۡلَوُنَّ فِیۤ أَمۡوَ ٰ⁠لِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ أَذࣰى كَثِیرࣰاۚ وَإِن تَصۡبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ذَ ٰ⁠لِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ }[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١٨٦]
هذه الآية لها خصوصية دقيقة في الباب الذي نتكلم فيه
آية تبدأ بتأكيد محكم لا يحتمل التردد..
﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾
الآية لا تُخاطبك كمن يُخبرك بشيء قد يقع، ولكن كمن يُسلّمك ورقة تؤكد الدخول إلى مدرسة البلاء، ويقول لك: هذا منهجك، شئت أم أبيت.
اللام والنون المشددة ليستا زينة بلاغية، بل مطرقة توقظ الغافل وتُربّي المتردد.
والبلاء هنا ليس مجرد عقوبة، بل غربال، يمايز ويفاضل ويُنقّي القلوب، ويُفرز المعادن، ويكشف الزيف من الصدق.

في المال، يُختبر تعلقك: هل هو وسيلة أم وثن؟
يُبتلى رزقك بالنقص، بالزكاة، بالصدقة، بالحرمان، بالخسارة، بالإنفاق الذي يُشبه اقتلاع جزءٍ من القلب.
وكلما مسّ المال، اهتز القلب، وظهر ما فيه من يقين أو قلق.

وفي النفس، يُختبر صبرك: بالمرض، وبالفقد، بالخوف، وبالخذلان، وبالوحدة،.
بكل ما يُمسّ جسدك أو روحك، يُنقّب في أعماقك عن إيمانٍ راسخ، أو عياذا بالله شكٍ دفين.
الحياة إذاً ليست حديقة، بل ساحة فرز، و لن تخرج منها كما دخلت.
5👍3
ثم يأتي في الآية بلاء من نوعٍ آخر، لا يُصيب الجسد ولا الجيب، ولكن يُصيب السمع، ويخدش الكرامة، ويُربك اليقين.
﴿وَلَتَسْمَعُنَّ﴾،
لا من جهة واحدة، بل من كل جبهات الجحود والتكذيب
سيسمعونكم. "أذى كثيرًا"
لن تكون مجرد كلمات عابرة،
ربما تكون سيلا من الشتائم، والسخرية، والطعن، والتشكيك، والتشويه، والتهم، والشبهات.

والكلمة، حين تُوجّه إلى القلب، قد تكون أشد من السنان، وأعمق من الجراح.

وكأن الآية ليست فقط إخبارًا، بل تدريبًا نفسيًا على التحمّل.
ورد أن هذه الآية نزلت تسلية للمسلمين قبل أن يُؤمروا بالقتال..

ثم تأتي الوصفة، لا لتُسكّن الألم، بل لتُعلّمك كيف تُحسن الوقوف وسط العاصفة.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾
الصبر إذاً ليس بلادة، بل رباطة جأش، والتقوى ليست انكماشًا، بل ضبطٌ للنفس، وردٌ بالحكمة، وتمسّكٌ بالحق دون انفعال.
الصبر يحملك على تحمل المكاره، والتقوى تحملك على لزوم الأمر واجتناب النهي وكأنهما جناحان لا يُحلّق المؤمن إلا بهما.

لكن الصبر وحده لا يكفي، والتقوى وحدها لا تصمد. الصبر بلا تقوى يُحوّلك إلى متبلّد، والتقوى بلا صبر تُنهكك.
الجمع بينهما هو ما يُنتج شخصية ربانية، لا تُهزم، ولا تتلوّن، ولا تذوب في زحام الإيذاء.
وهذا هو العزم

﴿فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
هذا الطريق، بكل ما فيه من بلاء، وأذى، وصبر، وتقوى، ليس طريق العابرين، بل طريق أصحاب الهمم العالية، والقلوب الصادقة، والنفوس التي لا تُباع في مزادات الراحة والدعة.

هذه الآية ومثلها آية البقرة ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع" = ليست مجرد إخبار؟ولكن إعداد نفسي، وتربية وجدانية، وتوجيه عملي.
تُخبرك أن الطريق أحيانا يكون صعبا.. نعم، لكنه واضح.
الأذى كثير، نعم، لكنه متوقع.
و العلاج ليس في الانسحاب، بل في الصبر والتقوى.
و من يصبر ويتقي، فهو من أهل العزائم، من أهل الله، من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

وأعظم هؤلاء هم الأنبياء
وهم من علّمونا تلك المعاني بأفعالهم قبل أقوالهم..
علمونا في كل حركة وسكنة أن الألم لا يُقصد به الكسر، بل البناء.
أن يُبنى فيك شيءٌ ثمين في كل مرة تختبر..
شيءٌ لا يمكن أن يُبنى إلا في أتون الابتلاء.

سيدنا أيوب عليه السلام، صاحب النموذج الأشهر من البلاء وتعدد ألوانه من فقد صحة ومال وبنين
لم يكن الاختبار في جسده الذي أنهكه المرض فقط أو فقر أو فقد ولكن كان في قلبه هل سيظلّ ينبض باليقين وحسن الظن؟
ولقد فعل
"أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ".
لم يقل "اشفني"، بل عرض حاله ثم قال "وأنت أرحم الراحمين".
كأنه يقول: يا رب، إنما أطلب تجلي رحمتك فيّ، سواء كان بالشفاء أو بغيره.
الثقة برحمة الله كانت عنده أهم من زوال الألم.
وكانت تلك هي رسالة البلاء في مشهد الخالد

سيدنا يعقوب عليه السلام أيضا كان له نصيب من تلك الجرعة المهمة
فقد ابنه والأحب ثم أخاه الأصغر..
ثم فقد بصره من فرط الحزن، لكنه لم يفقد "بصيرة" قلبه أبداً.
لم يذهب ليشكو بثه وحزنه للناس، فيجد عندهم شفقةً عابرة أو لوماً قاسياً. ولكن اتجه مباشرةً إلى مصدر القوة والعزاء الحقيقي
" إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ".
لقد كان يعلم أن الابتلاء لا يُفهم إلا في معية الله، ولا يُصبر عليه إلا بقربه.
وكانت هذه رسالة بلاء يعقوب عليه السلام

وسيدنا يوسف عليه السلام، تلك القصة التي هي ملحمة البلايا المفصلة..
منذ الطفولة وحتى الشباب.
ابتُلي بكيد الإخوة، وظلمة البئر، وذلّ العبودية، وفتنة الشهوة، وظلم السجن... لكنه لم يفقد قلبه.
لقد ظل قلبا نقياً، محسناً، شاكراً، لا يلحظ في كل مرحلة إلا تمام النعمة
حتى قال في ذروة تمكينه
"وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ...".
كأن كل ما مرّ به من "مُرٍّ" كان مجرد "تعليمٍ" وتدريبٍ وإعدادٍ إلهيٍّ، رزقٌ من نوعٍ آخر لم يكن ليحصل عليه في لذة النعيم ومتعة الاستقرار .

أن عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فحدث ولا حرج
نبينا الذي اجتمعت عليه كل ألوان البلاء.
في أهله، في أصحابه، في وطنه، في جسده، في دعوته...
لكن روحه ظلت للنهاية تُضيء كالشمس، حتى قال في أحلك لحظات الطائف، وهو مُدمى القدمين، مطرودٌ من سفهاء القوم، تلك الكلمات الوضيئة التي هي دستور الصابرين
"إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أُبالي".
كأن ألم الجسد وألم الناس كله يهون ما دام القلب مطمئناً إلى رضا الله.
لذا قال عند فقد ولده "ولا نقول إلا ما يرضي ربنا"
وتلك كانت رسالة ذلك البلاء الحقيقي..

ذلك الذي لا يُقصد به أن تُعاقب، بل أن تُطهّر من ذنوبك..
👍42
أن تُربّى على الصبر والرضا، وأن تُصقل كجوهرةٍ خام لتُصبح أكثر لمعاناً ونقاءً. ثم تُعيد النظر في كل شيء: في نفسك، في علاقتك بالله، في معنى الحياة والغاية من وجودك.
لذلك لا تجهد قلبك في طلب طريق بلا بلاء، ولكن اطلب قلبًا لا ينكسر، ونفسًا لا تتراجع، وعزيمة لا تذوب.
هذا هو طريق الأنبياء، وطريق الصادقين
طريق الذين قال الله عنهم: ﴿فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.

وإذا زارك يوما ذلك "الضيف الذي يبدو ثقيلا"، فلا تستقبله بالجزع والسؤال الساخط: "لماذا أنا؟".
استقبله بقلبٍ متأمل، واسأل نفسك: "ماذا يُراد بي؟
ما الذي يُراد أن أتعلمه من هذا الدرس؟
ما الذي يُراد بي أن أُتطهّر منه؟
ما الذي يُراد أن يُبنى في روحي من جديد؟".

ولا تظن أن البلايا دائماً تكمن في الفقد والحرمان. بل أحياناً يكون في العطاء الذي يُطغيك، في النعمة التي تُنسيك، في الصحة والراحة التي تُغريك..

والمبتلى ليس فقط من يتألم، بل قد يكون أيضاً من يتنعم... لكنه لا يفهم، ولا يشكر.

إن البلاء مدرسة ضخمة والألم مُعلمٌ (يشتد أحياناً لكن لا يخلو من حكمة)
وإن الصبر هو شهادة تخرجك، والرضا هو مرتبة الشرف، والثبات مقام الكرام،

والقرب من الله...هو الجائزة الكبرى التي لا تُقدّر بثمن.

فإذا ابتُليت، فلا تقل بيأس: "لماذا أنا ومتى أنجو؟". ولكن قل برجاءٍ ويقين: "متى أفهم؟
متى أتطهر؟
متى أتربّى؟
ومتى أقترب؟

#مفاهيم
19👍5👏1
أحب مراقبة السماء شتاءً، وأزعم أن تراكيب السحب في ذلك الفصل الجميل تمثل لوحات أروع بمسافات شاسعة من أعظم ما ترسمه ريشة أعظم الفنانين التشكيليين.
لكن السماء في ذلك اليوم كانت مختلفة!
لم تكن ترسم، بل كانت تُنذر.
لقد كان يومًا لا يُشبه سائر الأيام المعتادة…
كان يبدو كأنه لقطة مقبضة من فيلم رعب قديم، حين يتوقف كل شيء فجأة، وتُصبح الطبيعة هي من يتكلم.

غيوم السماء بدت كأنها ظل قاتم يزحف فوق الأرض، ببطء ليُطبق عليها قبضته المحكمة.
السحب لم تكن بيضاء، ولا حتى رمادية، بل كانت سوداء كثيفة، كأنها دخان معركةٍ حربية قاسية انقضت وتركت آثارها معلقةً فوق الرؤوس.
كانت تزحف في الأفق ببطءٍ مريب، لتبتلع ما تبقى من ضوء الشمس المحتضرة، التي تنازع لتبعث أي شعاع هزيل يقاوم الظلام المقترب بخطى حثيثة، تخطوها كل غيمة وكأنها يد غليظة تُطفئ أنوار المسرح قبل أن يُرفع الستار عن العرض الكوني العظيم.

في ذلك اليوم، كنت على سفر، في طريقٍ مقفر، وكل شيء حولي بدا في البدء ساكنًا.
لا صوت يتعالى إلا صوت محرك السيارة، مختلطًا باحتكاك الإطارات على الأسفلت، ومن آنٍ لآخر، يتعالى نفير سيارة مسرعة تريد التخطي، كأنها تُقاوم السكون بالصخب.
كنت أراقب المشهد بهدوء من خلف زجاج السيارة، فلم أكن أقود في ذلك اليوم، وكنت آمل أن أستمتع بجمال السماء الشتوية، خصوصًا قرب الغروب، وعبر المساحات المفتوحة التي يوفرها طريق السفر.
فجأة تغير المشهد تماما
لقد التمع البرق.
لم يكن ضوءًا عاديا ولكن بدا شقًّا في جدار السماء انفتح للحظة ليُريك ما وراءه، ثم أُغلق بسرعة، وكأنه تراجع عن فكرة الكشف.
لم تمض ثوان حتى جاء الصوت الهادر.
ليس صوتا مألوفا ولكنه زئير غاضب، أو انفجار عملاق وكأن جبلًا قد انهار في مكانٍ ما من الملكوت.
إنه صوت الرعد في أشد مرة تسمعه أذناي!
اهتز زجاج النافذة، وارتجفت الأرض، وسرت في ظهري تلك القشعريرة التي لا تُخطئها مشاعر!
إنه ذلك الخوف الفطري الذي لا يحتاج إلى تفسير، لأنه أقدم من اللغة.
في خضم المشاعر المتضاربة التي تضرعنا أثناءها بكل ما تذكرناه من أدعية "اللَّهُمَّ حَوالَيْنا ولا علَيْنا، اللَّهُمَّ على الآكامِ والظِّرابِ، وبُطونِ الأوديةِ، ومَنابِتِ الشَّجرِ"
نطق الشهادتين بعض من كانوا في السيارة وسمعت أصوات ارتطام البَرَد بالجسد المعدني والتي أضافت للمشهد بعدا آخر من ضجيج غير مفهوم!
شعرنا لوهلة أن الكون كله يرتجف هلعا وأننا لن ننجو من هذا الموقف العصيب

في تلك اللحظة، لم أكن أرى مجرد عاصفة عابرة دامت لدقائق توقفت فيها جميع السيارات لا تدري ماذا يحدث؟
كنتُ أرى سورة "الرعد" تُتلى أمامي، لا بصوتٍ بشري، ولكن بصوت الكون نفسه.
كنتُ أرى الصواعق تُرسل كجنودٍ لا تُخطئ، والسحاب الثقال يُبنى كقلاعٍ مائية شاهقة، وكنتُ "أسمع" في ذلك الدويّ الهادر ما هو أعمق من اهتزاز الهواء… كنتُ أسمع تسبيحًا.
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾
هذا الصوت المخيف يخبرنا ربنا أنه تسبيح مخلوق!
وتشاركه الملائكة
والكل يعظم خيفةً من الله..
ومع كل ذلك الجلال والرهبة هناك ذلك الكائن الصغير، الهشّ..
الإنسان...
يجلس في مكانٍ ما، ربما في دفء بيته أو في صخب مجلسه
ثم ويُجادل!
﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾
أي نشازٍ هذا؟
أي غفلةٍ تلك التي تجعل من صوت الإنسان هو المخلوق الأرضي الوحيد الذي لا ينسجم مع منظومة الكون الخاشعة؟
من هنا، بدأت رحلتي الحقيقية مع هذه السورة المهيبة.
سورةٌ ليست فقط تُخيف وترهب، ولكن تُعرِّف..
تُعرّفنا سورة الرعد بعظمة من نعبد، لا عبر سردٍ نظري، ولكن عبر مشاهد كونيٍّة حيٍّة تجعلنا نرى ونسمع ونرتجف.
تُريك كيف أن كل شيء في هذا الكون، من السحب إلى الصواعق، ومن الرعد إلى الملائكة، يعيش في حالة خشوعٍ دائم، وتسبيحٍ لا ينقطع.

ثم تُريك المفارقة..
الإنسان، هذا الكائن الهشّ، هو الوحيد الذي يُجادل.
تُعلّمك أن الطمأنينة الحقيقية لا تُؤخذ من صمت الطبيعة، بل من ذكر من يُسبّح الرعد بحمده.

في خضمّ رحلتنا عبر سور القرآن الكريم، وبعد أن نترك خلفنا قصص الأنبياء المؤثرة في سور يونس وهود ويوسف، تلك القصص التي تُثبّت الفؤاد، وتُعلّم الصبر، وتُبشّر بالتمكين، نصل إلى هذه السورة ذات الوقع المختلف.
سورةٌ يبدأ جلالها من اسمها ذاته: الرعد.
إن هذه السورة، التي اختار الله لها اسمًا لا يُشبه أسماء السور الأخرى، لا تبدأ بكلمةٍ عابرة، ولكن بزلزلةٍ لغوية، كأنها تُهيّئك منذ اللحظة الأولى لأجواءٍ من القوة قد تخلع القلب من مكانه، تمامًا كما يفعل صوت الرعد حين يجلجل في عنان السماء فيُذكّرك أن السماء ليست صامتة، وأنها حين تتكلم، لا تُجامل.
7👏1
هي من تلك السور التي ما إن تتأملها أو تتلوها، حتى تستشعر في حناياها قدرا هائلا من المهابة والجلال.
الكلمة نفسها، بوقعها الصوتي، تحمل ظلالًا من القوة والرهبة.
صوتٌ مزمجرٌ شديد، يخترق سكون الكون، ويملأ الأجواء برهبةٍ لا تُخطئها الأذن، ولا يُخطئها القلب.

أليس لافتًا أن وقع كلمة "الرعد" في اللغة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالارتجاف والرهبة؟

يُقال عن الخائف المرتعد إنه "رِعديد"، ويُسمّى الارتجاف من الخوف "ارتعادًا"..

وكأن الكلمة نفسها تحمل في طياتها أثرها. فالسورة، منذ عنوانها، لا تُخبرك فقط عن موضوعها، بل تُدخلك إليه.
تفتح أمامك ستارة مسرحٍ كونيٍّ مهيب، أبطاله جنود الله، وموضوعه عظمة الخالق في مواجهة جحود المخلوق.

حتى لو تساءلت: ما هو الرعد هذا الذي سُميت به السورة؟
هل هو مجرد صوتٍ في السماء أم هو شيءٌ أعظم؟
ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد، حين سُئل النبي ﷺ عن الرعد، قال:
"ملكٌ من الملائكة، موكّلٌ بالسحاب، معه مخاريق من نار، يسوق بها السحاب حيث شاء الله"
فالرعد، إذًا، ليس مجرد ظاهرة كونية أو بعض الاهتزاز في طبقات الجو..
هو مَلَكٌ مهيب!
جنديٌ من جنود الله يسوق السحاب، ويُنفّذ الأمر، ويُرعب القلوب، لا لأنه غاضب، ولكن لأنه مأمور.
المفاجأة الأكبر، والصدمة الوجدانية التي تُحدثها السورة، لا تأتي من تعريف الرعد نفسه ولكن من وظيفته الروحية:
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾
سيدنا عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه، كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال:
"سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته" ثم يقول:
>"إن هذا لوعيدٌ شديدٌ لأهل الأرض"
هو هنا لا يسمع صوتًا، ولكن وعيدًا..
إنذارًا..
تسبيحًا لا يُقال بالألفاظ، ولكن بالاهتزاز، بالزئير، بالرجفة التي تُصيب القلب قبل أن تُصيب الأذن.
إذاً فالرعد.. ذلك الصوت الذي في لحظات معينة حين يبلغ أشد درجاته؛ يرتجف منه أشجع الشجعان = هو نفسه خائفٌ من الله، مُسبّحٌ مع الملائكة، تلك الكائنات النورانية التي لا تعصي؛ تسبّح من خيفته!
فإذا كان هذا حال الرعد، ذلك حال الملائكة، فكيف تكون قدرة الخالق الذي تخافه تلك المخلوقات؟
وكيف يكون جُرم من يُجادله؟
﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾
وفي هذا السياق تكمن المهابة الحقيقية التي تسكبها السورة في قلب قارئها.
هنا، لا يُطلب منك أن تستسلم فقط، بل أن ترتجف. ولا أن تُجادل وتتمرد، بل أن تُسبّح وتخضع.
سورة الرعد لا تُخاطبك كمجرد قارئ، ولكن ككائنٍ صغيرٍ في كونٍ هائل.
تُعيد ترتيبك في سلم الوجود، وتُذكّرك أن الطمأنينة ليست في السيطرة، بل في التسليم وأن القوة ليست في الجدل، بل في الخشوع وأن الرعد، ذلك الصوت الذي يُرعبك، هو نفسه صوت التسبيح، صوت الخضوع، صوت العبادة.

هل قرأتها من قبل عبر هذا المنطلق؟
هل فتحت هذا الباب السماوي الذي انشقّ للحظة عند التماع البرق؟
هل سمعت الرعد كما ينبغي أن يُسمع لا كصوتٍ في السماء، ولكن كآيةٍ تؤثر على القلب أو كنداءٍ علوي، يُعيد ترتيب ما في داخلك؟
من خلال هذا المنطلق، تنقسم السورة إلى محورين كبيرين متكاملين..

المحور الأول هو عرضٌ باهرٌ لهذه العظمة الإلهية في آفاق الكون والأنفس والوحي.

المحور الثاني هو توجيهٌ مباشر لما ينبغي أن يكون عليه حال الإنسان الذي يستقبل هذه العظمة.
هل يطمئن؟
هل يخشع؟
هل يُسلّم؟
أم يُجادل؟

فلنشرع في جولة حول بعض التفصيل لتلك المحاور

المحور الأول: تجليات القدرة والعلم والقوة

تبدأ سورة الرعد كما بدأت أخواتها من السور التي سبقتها: يونس، هود، يوسف…
تبدأ لا بتمهيدٍ تاريخي ولا بعرضٍ قصصي، بل بإشارةٍ واضحة إلى أحد أعظم تجليات القدرة الإلهية:
الكتاب.
ذلك الوحي الذي يدرك من يسمعه ويتدبره بقلب منفتح أنه دليل العظمة والكمال
الوحي الذي لا يُقرأ فقط، بل يُتذوّق، ويهزّ القلب إذا كان حيًّا.
النص الذي لا يُفسَّر فقط، بل يُحسّ، ويُخاطب فيك من التعظيم ما لا تُخاطبه الكلمات الأخرى.

لكن سورة الرعد لا تكتفي بالإشارة إلى هذه العظمة، بل تُضيف إليها نبرة تحدٍّ، ولمسة يقين، وإقرارًا بالحقيقة التي لا تُنكر إلا عند من أُغلق قلبه، أو أُطفئت مصابيح الفطرة فيه:
> ﴿الۤمۤرۚ تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱلۡكِتَـٰبِۗ وَٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یُؤۡمِنُونَ﴾

الكتاب حق، لكن المشكلة ليست في النص، بل في النفوس.
ليست في الوحي، بل في الوعي.
هي تلك المفارقة التي تتكرر في كل عصر:
من الناس من يخشع قلبه للوحي ويُسلّم، ويطمئن بذكر الله،
ومنهم من يُجادل ويُعرض ويُكذّب، وكأن في قلبه صخرة لا تنفذ إليها الآيات.
2
ثم تنطلق السورة، ليس فقط لتُخبرك، ولكن لتُريك
لا لتُلقّن، بل لتُبهر.
ترسم لمتدبرها بآياتها لوحةً بانورامية، لا تُعرض على جدار جامد، بل تُعرض على صفحة الوجود نفسه، لتُريك تجليات القدرة الإلهية، وتُوقظ فيك العين والقلب معًا.

تبدأ السورة بمشهدٍ كونيٍّ مهيب، وكأنك تقف على شرفة الوجود.. تتأمل:
﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾
هنا لا تُعرض السماء كزينة، بل كبرهان. لا ترى أعمدة، ومع ذلك لا تنهار.
ثم تنتقل الآية بخفة إلى مشهدٍ آخر:
> ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾
وكأنك تُرفع من الأرض إلى العرش، لتُدرك أن التدبير ليس من تحت، بل من فوق.

ثم تأتي حركة الشمس والقمر، لا كظواهر فلكية، ولكن كجنودٍ مأمورة:
> ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾
وهنا لا يُكتفى بالخلق، بل يُضاف إليه التسخير، التوقيت، النظام.

ثم تأتي اللمسة التربوية العظيمة :
> ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾
وكأن كل هذا العرض الكوني ليس للدهشة فقط، بل لليقين.
ثم تنزل الآيات إلى الأرض لتُكمل المشهد المبهر
﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا﴾
هنا الأرض ليست مجرد بساط، ولكن مسرحا للتنوع، وللتثبيت..
للحياة...
في هذه الآيات لا تُعرض القدرة كفكرة مجردة، ولكن كمشهدٍ حيٍّ، وكأنك تُساق في جولةٍ كونية لترى القدرة ليس فقط من منظور الإعجاز ولكن أيضا من منظور الجمال..
جمال تلك القدرة الإلهية
﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ، وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ، وَزَرْعٌ، وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ، يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ﴾
تأمل في هذا المشهد الجميل وانظر إلى ذلك التباين المذهل، رغم وحدة السُقيا.
كأن الأرض تخبرك عمليا: "أنا واحدة، والماء واحد، لكن الثمرة لا تُشبه أختها."
هذه حلوة، وتلك حمضية.
هذه تُبهج العين، وتلك تُوقظ اللسان.
هذا التباين، رغم وحدة الأصل، هو توقيعٌ على لوحة الخلق، وشهادةٌ صامتة أن المشيئة لا تُقيدها قوانين المادة، بل تُحرّكها إرادةٌ لا تُحد.
﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
ثم تنتقل السورة إلى مشهدٍ آخر من مشاهد القدرة، لا يُعرض في صورة الخلق، بل في صورة التدبير، الضبط، التنسيق.
القدرة هنا لا تُقاس فقط بما يُخلق، ولكن فيما يُضبط ويُنسّق...
القدرة الحقيقية لا تظهر فقط في الإيجاد، ولكن في التحكم الدقيق في الأضداد، وجمعها في نظامٍ لا يختل.
وسورة الرعد تحتفي بهذه القدرة بشكلٍ فريد، فتُقدّم عرضًا مذهلًا لها ليس عبر مشهدٍ واحد، ولكن عبر عشرات الظواهر المتناقضة، تجتمع تحت سلطان الله الواحد:
﴿سواء منكم مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾
الهمس والصراخ الجهوري متناقضان كما ترى لكن كلا منهما في سجلّ القدرة يستويان.
﴿ومن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾
هنا مع التناقض بين المستخفي ليلا والسائر علانية نهارا فإن الأمر سيان والليل لا يُخفي شيئا عليه، ولا النهار يفعل.
وتتوالى المتناقضات
﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾
مشاعرٌ متناقضة، تُدار تحت سمع وبصر واحد.
﴿طَوْعًا وَكَرْهًا﴾
الانقياد والممانعة، كلاهما في قبضته. ﴿الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ﴾
﴿الظُّلُمَاتِ وَالنُّورُ﴾
﴿الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ﴾
﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيَقْدِرُ﴾
﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾
تتوالى كما ترى الأضداد في سلاسة لا يجمع كلا منهما سويا إلا تلك القدرة
كل شيء يُدار، يُوزن، يُحفظ، يُمحى، ويُثبت.
وهذه فقط عينات من ضمن ما يزيد عن ثلاثين متناقض جمعتهم السورة سويا وكأنها تقول: لا شيء يُفلت من قبضته، لا النور ولا الظلمة، لا الغيب ولا الشهادة، لا الرغبة ولا الرهبة.
وهذا الجمع بين الأضداد ليس عبثًا، بل هو هندسةٌ دقيقة محكمة، تُريك أن الله لا يُعجزه شيء، وأنه الفعّال لما يريد، وأنه يُدير التناقضات كما يُدير التناغم، ويُنسّق الفوضى كما يُنسّق النظام.

كذلك تتجلى في السورة سعة علم الله المحيط كمشهد آخر من مشاهد قدرته المطلقة وسلطانه الشامل
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ، وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾
هنا الغيب ليس غامضًا، بل معلومٌ عنده غاض وقل أو فاض وازداد..
و لا يُقال "يعلم ما وُلد"، بل "يعلم ما تحمل"، أي قبل أن يُخلق، قبل أن يُصوّر، قبل أن يُدرك.
يعلم ما يغيب في الأرحام، وما يزداد، وما ينقص، وما يُكتب له أن يكون، وما يُمحى قبل أن يُرى.
2🤔1
وكل شيء، كل شيء، عنده بمقدار.
لا شيء يُترك للصدفة، ولا لحساباتٍ عمياء، ولا لتفاعلاتٍ كيميائية بلا توجيه.
كل نبضة، كل خلية، كل قطرة، كل لحظة… موزونة، محسوبة، مقدّرة.
وهكذا تجد متناقضين آخرين يجمع بينهما بسهولة ويسر وكأن ليس بينهما أي اختلاف لكن هذه المرة يتجلى من خلال هذا الجمع سعة العلم الإلهي الذي لا يغيب عنه شيء
وكأن سورة الرعد، بعد أن عرضت مشاهد القدرة الكونية، أرادت أن تُقرّب الصورة أكثر..
أن تُنزلها من السماء إلى الأرحام، ومن المجرات إلى الخلايا، لتُريك أن سلطان الله لا يقتصر على رفع السماوات ولا على تسخير الأفلاك، بل يمتد إلى ما لا تراه عين، ولا تُدركه أجهزة، ولا تبلغه علوم البشر مهما بلغت.

ثم تأتي الآية التالية، وكأنها تُعطيك تعريفًا بالله من زاوية العلم:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾
الغيب والشهادة، كلاهما في علمه.
ما خفي عنك، وما ظهر لك، ما دار في قلبك، وما نطقت به شفتاك، ما حدث في الماضي، وما سيحدث في الغد…
كل ذلك في علمه، لا يُغيب عنه شيء، ولا يُعجزه شيء.

وهذا العلم، لا يُراقبك من بعيد، كما تفعل كاميرات المراقبة، بل يُحيط بك من كل الجهات.
قبل أن تُخلق، وأثناء خلقك، وبعد أن تُخلق.
علمٌ لا يُسجّل فقط، بل يحفظ، ويُدبّر، ويُرافقك في كل خطوة.
> ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾
أنت إذاً لست متروكًا، بل محفوظٌ، مُراقبٌ، مُقدّرٌ لك كل شيء.
حتى ما تظنه صدفة، هو عنده بمقدار.
حتى تلك اللحظة التي ظننت أنها عشوائية، كانت مكتوبة، مرسومة، مُحاطةٌ بعينٍ لا تنام، وبعلمٍ لا يغيب.
هذه هي ببساطة طلاقة العلم الإلهي التي تعرضها سورة الرعد، لا كتعريفٍ نظري، بل كحضورٍ شعوري، يُشعرك أنك لست وحدك، وأنك لست في فوضى، وأنك في قبضة علمٍ لا يُخطئ، ورحمةٍ لا تحد، وقدرةٍ لا يعجزها شيء.

ثم تأتي بعد ذلك مشاهد القوة في سورة الرعد، لا لتُفزعك بلا جدوى، ولكن لتُربّي فيك الوجل الجميل الذي لا يُطفئ القلب، بل يُنيره.
تُريك أن هذا الكون، الذي يبدو ساكنًا في لحظات الصفاء، هو في الحقيقة نابضٌ بجنودٍ لا تنام، تُسبّح وتُنفّذ، وتتحرك بأمرٍ لا يُرد، وبإرادةٍ لا تُخطئ.
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ﴾
الرعد الذي فصلنا الكلام عنه في مقدمة هذا الفصل..
ذلك الصوت الذي اعتدنا أن نسمعه فنظنه لأول وهلة ارتطاما مفزعا بلا معنى، هو في الحقيقة تسبيحٌ كوني، نغمةٌ من نغمات الخلق، تُعلن الحمد في السماء، وتُوقظ الغافلين في الأرض.
ليس ضجيجًا، بل ترنيمةٌ سماوية، تُنشدها السحب حين تُمرّر الأمر الإلهي.

والملائكة، تلك الكائنات التي لا تُرى، تُسبّح أيضًا، لكن من خيفته.
خوفٌ لا ييئس، بل يُعلق القلب بالله.
خشية لا تُطفئ الفؤاد، بل يُشعل فيه نور الطاعة.
خشوع لا يُقعد، بل يُحرّك في تنفيذ الأوامر، وفي حفظ الخلق، وفي حمل الرسائل، وفي تنفيذ المقادير.

ثم تأتي الصواعق، لا كظواهر جوية، ولكن كجنودٍ دقيقة، تُرسل إلى من شاء الله أن يُصيبهم بها.
ليست عشوائية، ولا طائشة، بل رسائلٌ مشفّرة، لا تُخطئ طريقها، ولا تُرسل عبثًا.

البرق، السحاب، الرعد، الصواعق…
كلها جنودٌ لله، لا تُعصى، ولا تتردد، ولا تتخلّف.
جنودٌ لا تُرى إلا حين يُؤذن لها، ولا تُسمع إلا حين يُراد لها أن تُوقظ.

وهكذا تُعلّمك السورة أن القوة الإلهية ليست فقط في الخلق، بل في الحركة، في الصوت، في الرسائل، في الجنود التي تُنفّذ دون أن تُناقش، وتُسبّح دون أن تُملّ، وتُصيب دون أن تُخطئ.

هذا هو الكون حين يُرى بعين الإيمان:
لا فوضى فيه، بل نظامٌ يُدار من ملك مهيمن لا يعزب عنه شيء
ولا صمت فيه، بل تسبيحٌ لا ينقطع،
ولا عشوائية فيه، بل إرادةٌ تُنفّذ، وجنودٌ تتحرك، وقوةٌ لا تُقهر.

--------
بعد كل هذا العرض البديع لمظاهر القدرة الإلهية، وبعد أن سارت بك السورة في موكبٍ من الآيات، تُريك فيها السماء بلا عمد، والأرض ممدودة، والثمار متباينة، والجنود تسبّح، والقدرة تُدير الأضداد، والعلم يُحيط بكل شيء…
وبعد أن خشع القلب، وارتجف العقل، وانحنى الوعي أمام هذا الجلال…

وهنا تأتي المفارقة التي تُشبه صفعةً على وجه العقل، أو كأن أحدهم صرخ نشازًا في أثناء تناغم أنشودة سماوية بديعة..

﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ، وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾
يا للعجب!
بعد كل هذا العرض الكوني البديع
بعد أن رأوا السماء بلا عمد، والأرض ممدودة، والرعد يُسبّح، والملائكة ترتجف، لا يزال هناك من يُجادل في الله.
كأنما يُنكر الشمس وهو يتصبّب عرقًا منها،
أو يُنكر المطر وهو يبلل ثيابه،
أو يمدّ كفيه إلى بئرٍ سحيق، يظن أنه سيشرب، ولا يدري أن الماء بعيد، وأن يده لا تبلغ، وأن الرجاء في غير الله لا يُثمر.
3👍1
هكذا تضرب السورة مثالًا لمن شذّ عن مسار الكون المتناغم،
ذلك الذي ترك دعوة الحق، وعلّق قلبه على من لا يملك له نفعًا ولا ضرًّا.
﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ﴾
أي أن الله وحده هو الذي يُستجاب له،
> ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ﴾
وهنا يأتي المثال الذي يجسده ذلك المشهد التخيلي العجيب، لتقريب الصورة
كأن أحدهم يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه،
لكن الماء لا يقترب،
والكف المبسوطة لا تقبض على على شيء،
وحتى لو قبضت، فلن يمكث فيها ماء سائل..
وحتى لو أمسكت، فلن يصل إلى الفم،
لأنه لم يزل على حال البسط، لا حال التناول.
﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾
مشهدٌ يُجسّد حال من يدعو غير الله،
رجاءٌ في فراغ،
طلبٌ بلا مجيب،
تعلّقٌ لا يُثمر،
ودعاءٌ لا يُسمع.
> ﴿وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ﴾
دعاؤهم لا يُهتدى به، ولا يُثمر، ولا يُردّ عليه، لأنهم ببساطة تركوا من بيده الأمر، وذهبوا إلى من لا يملك شيئًا.

ثم تأتي الخاتمة الحاسمة:
﴿لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ، وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾
من يُعرض عن الله، لا يجد في الدنيا إلا ضيقًا، ولا شيء له في الآخرة إلا شدةً،
ولا يجد في أي وقتٍ من يقيه من الله،
لأن الوقاية لا تكون إلا بالرجوع، لا بالهروب.

دعاؤه لغير الله، كمن يُنادي في فراغ، أو كمن يُراهن على سراب..
كمن يُلقي برسالة في البحر ويظن أن الموج سيقرأها.
يُقيم حوارًا مع الصمت، ويُنازع الحقيقة وهي تملأ الأفق.
يُجادل في وجود الضوء، وهو يقرأ كتابًا في وضح النهار.

هنا لا يُقال فقط إنهم يُخطئون، بل يُقال إنهم يُجادلون، أي يُصرّون و يُكرّرون، يُدافعون عن وهمٍ لا يسنده عقل، ولا يُبرّره واقع، ولا يُطيقه منطق.

في المقابل ربهم الذي تعاملوا معه بهذه الطريقة الشنيعة؛ "شديد المحال"
شديد القوة.. شديد الأخذ.. شديد التدبير، لا يُغلب، ولا يُراوغ، ولا يُخدع.

فأي عقلٍ هذا الذي يُجادل في من لا يُجادَل؟
وأي قلبٍ هذا الذي يُعرض عن من لا يُعرض عنه؟
وأي جدالٍ هذا الذي يُقام في حضرة من خلق لسانه نفسه؟
إنها المفارقة التي لعلك أدركت لماذا شبهتها منذ سطور بصوت نشاز يقطع تناغم في أنشودة الخشوع الكونية البديعة
كأن أحدهم قرر أن يُطفئ الشمس بمنشور، أو أن يُسكت الرعد بتغريدة.

لكن السورة لا تُطيل الوقوف عند هذا النشاز، بل تُكمل جمالها،
تُكمل عرضها،
تُكمل دعوتها،
لعلّ من يُجادل اليوم، يخشع غدًا،
ولعلّ من يُنكر الآن، يُبصر لاحقًا،
ولعلّ من يُراهن على السراب، يُدرك يومًا أن الماء لا ينزل إلا من السماء.
وأن الزبد لا محالة سيذهب... جفاء

هنا تأتي الآية التي تُشبه ضوءًا كاشفًا، يُسلّط على المشهد ليُفرز ما يبقى وما يزول، وما ينفع وما يُخدّر، ما يُثمر وما يُذهب جفاء
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾
﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾

هنا لا يُعرض الحق والباطل كفكرة مجردة، بل كمشهدٍ حيٍّ، كمادةٍ تُختبر في معمل الوجود.
الحق، في هذا المثال، ثمينٌ وغالٍ، كنفيس المعادن التي تُبتغى منها الحلية، وكالماء الذي يُحيي الأرض، وكالحديد الذي يُبنى به المتاع.
هو راسخ، ماكث، لا يزول، وإن اختفى أحيانًا تحت طبقات الزبد المتراكمة.
هو لا يُعلَن دائمًا، لكنه لا يُمحى.
لا يصرخ، لكنه يُثمر.

أما الزبد، فهو على النقيض تمامًا.
زهيدٌ، لا قيمة له، وإن علا في الأرض وظهر.
هشٌّ، وإن تزيّن على السطح.
لا يُرتجى منه نفع، ولا يُنتظر منه خير، ولا يُبنى عليه شيء.
هو زائل، مصيره إلى الجفاء، ومآله إلى الاختفاء.

وكذلك الباطل وأهله أصحاب النغمة النشاز في كل زمان.
ينتفشون، يعلو صوتهم، يملؤون المشهد، يختالون بزينةٍ لا تصمد، ويُلقون على الأعين بأوهامٍ تُشوّه البصيرة، حتى ترى الكبير صغيرًا، والصغير كبيرًا، والزيف صدقًا، والصدق زيفًا.

لكن الزبد يسقط في النهاية، والحق يعلو ولا يُعلى عليه.
وما ينفع الناس يمكث في الأرض، لا لأنه صاخب، بل لأنه صادق.
ومهمة الصادق ليست أن يُصرخ، بل أن يُزيح طبقات الزبد، ليصل إلى النبع
إلى الجوهر، إلى ماكث الحق الذي لا يُطفئه الزيف، ولا يُغطيه الرغو.

هذا المثال القرآني ليس مجرد تشبيه، بل هو قانونٌ كوني، يُحكم به على كل فكرة، وكل دعوة، وكل قلب.

من هنا تفهم المجور الثاني الذي ترسخه سورة الرعد بعد هذا العرض المبهر لآيات القدرة
محور التوجيه...
ماذا بعد أن عرفت؟
بعد أن تُقيم السورة الحجة بهذه القوة، وتُعرّفك بعظمة ربك، وتُريك الكون وهو يسجد، والرعد وهو يُسبّح، والملائكة وهي ترتجف، لا تتركك معلّقًا في رهبة المشهد، ولا غارقًا في تأملات العظمة وحسب، ولكن تنتقل بك إلى السؤال الأهم
2
السؤال الذي لا يُطرح من خارجك، بل ينبثق من أعماقك:
ماذا عني؟
ماذا ينبغي أن يكون حالي؟
أنا الذي رأيت، وسمعت، وعقلت… هل سأجادل؟ أم سأستجيب؟
هل سأظل مراقبا المشهد من بعيد، أم سأتدخل فيه؟
هل سأبقى مندهشا من صوت الرعد، أم سأسبّح معه؟
تدور تلك الفكرة في سورة الرعد حول أربعة توجيهات رئيسية

أولًا: التوجيه للاستجابة... حيث لا خيار في مقام العظمة

إن الرد الطبيعي والمنطقي على هذه العظمة التي تواترت بها آيات السورة ليس التردد، ولا التفاوض، ولا التأجيل.
بل هو الانحناء ركوعا وخضوعا
السمع والطاعة بلا قيد أو شرط
الانحياز الكامل، لا الجزئي وإعلان الولاء المطلق..
تلخص ذلك كله كلمة واحدة.
الاستجابة..
﴿لِّلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ، لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ، لَافْتَدَوْا بِهِ﴾

الاستجابة هنا ليست مجرد طاعة، بل هي مفترق طرقٍ بين الجنة والنار..
بين من قال "سمعنا وأطعنا"، ومن رفض وتمرد ولسان حاله "سمعنا وعصينا"
الاستجابة هي اختيارٌ للوجهة، وإعلانٌ للانتماء الخالص إلى شريعة ربٍّ يُدبّر الأمر، ويُفصّل الآيات، ويُسبّح له الرعد.

ومن لم يستجب، لن يُنقذه مالٌ، ولا جاهٌ، ولا فداءٌ، ولو امتلك الأرض وما عليها.
لأن القضية ليست في الثمن، بل في الاتجاه.
ومن هنا ينطلق التوجيه الثاني في السورة

ثانيًا: توحيد الوجهة...
إن من عرف الله حق المعرفة، لا يمكن أن يُعلّق قلبه بغيره.
من رأى الكون وهو يُسبّح، لا يليق به أن يُنازع الله في وجهته، ولا أن يُشرك معه أحدًا في خوفه أو رجائه.
من عرف الله حق المعرفة وأحصى أسماءه وصفاته ومننه وألاءه وأحبه وامتلأت نفسه بتعظيمه وإجلاله = ستكون النتيجة الطبيعية لتلك المعرفة أن يخلص وجهته له وحده فلا تأوِي النفس إلا إليه، ولا ترغب إلا فيه، ولا ترهب إلا إياه، ولا يكد القلب يشهد إلا آثار أفعاله وتجليات أسمائه وصفاته
بعد ذلك ستجد كل أعماله موجهة له وحده..
وهذا ما تغرسه السورة بوضوح عبر هذا التوجيه
لذلك تتكرر في السورة تلك العبارات التي تُصفّي الاتجاه، وتُنقي البوصلة، وتُعيد ترتيب القلب
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}
تأمل ... ما أمر الله به
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}
يخشونه هو .. وحده
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ}
ابتغاء وجه مَن؟؟
نفس الوجهة.. الله وحده
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}
{وَإِلَيْهِ مَتَابِ}
{إِلَيْهِ أَدْعُو}
{وَإِلَيْهِ مَآبِ}
عليه وإليه ..
وحده
كل الأفعال كما ترى عائدة إليه.... وحده
التوكل عليه وحده، التوبة إليه وحده، الدعاء له وحده، المرجع إليه وحده.
كأن السورة تقول لك: لا تُقسم قلبك بين جهات، لا تُوزّع روحك على احتمالات،
لا تُعلّق نجاتك على بشر، ولا تُراهن على غير سبيل الله جل وعلا
من عرف الله حقا سهل عليه ذلك التوجيه فلا ينظر إلى مخلوق ولا يجعل اعتبار لفانٍ ...
فقط الخالق وحسب
وهذا هو الإخلاص الذي هو فرع عن العلم بالله وعلى ذلك تقوم الأعمال الصالحة
حين تكون لله وحده وليست لشخص أو لراية أو لغاية عاجلة يعتبرها البعض البوابة الوحيدة للوصول للمقصد..
ولعل ذلك الدعاء الجامع للنبى صلى الله عليه وسلم حين تعوذ برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته وبه منه يعد تجسيدًا واقعيًّا لتلك الحالة من توحيد الوجهة بشكل مطلق
ويكأنه ﷺ لا يرى في الكون إلا أثرًا لأفعاله فلا يعلق قلبه إلا به
وحده..

إنها تصفية القلب من كل شريك، وتوجيه البوصلة نحو طريق الله فقط.
من عرف أن الرعد يُسبّح، والملائكة ترتجف، لا يليق به أن يُشرك، ولا أن يتردد، ولا أن يلتفت.
عندئذ تنبثق السكينة وتزدهر الطمأنينة وذلك هو التوجيه الثالث

ثالثًا: الطمأنينة بذكر الله... والسكينة التي لا تُشترى بالمال وإنما بالأعمال..

هذه هي النتيجة الحتمية لهذا التوحيد الخالص للوجهة..
الطمأنينة
ذلك الشعور الذي لا يُصنع، ولا يُشترى، ولا يُؤخذ من أحد.
الطمأنينة التي لا تأتي من المال، ولا من المنصب، ولا من كثرة الأتباع..
فقط من ذكر الله.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾

القلب الذي عرف أن الله هو القوي القادر، الحكيم العليم، المدبر لكل شيء، كيف يقلق؟
القلب الذي رأى الكون يسجد ويسبح، كيف يستوحش؟
القلب الذي علم أن الباطل زبدٌ يذهب جفاءً، وأن الحق ماكثٌ في الأرض، كيف ييأس؟

الطمأنينة هنا ليست مجرد هدوء ولكن يقين راسخ وعقيدة ثابتة
ليست غياب الخوف، بل حضور الثقة.
ليست سكونًا عن الذكر، بل انسجامًا مع الكون الذي يُسبّح، ومع النفس التي عرفت وجهتها.
2
سورة الرعد ترسخ في نفسك أن من عرف ربه فإنه يتقلب في حدائق الاطمئنان بذكره {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ}
ويستظل بوارف أشجار التوكل عليه وهو يردد {هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}
وهو يتنعم بنسيم اليقين فيما عنده ويثق بـأن {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ}
وإنه على علمه وتقواه فإنه يخافه ويخشاه {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}
لكنه ما إن يتذكر واسع فضله وجنات جوده وغيث إحسانه حتى يسارع إلى رحابه ويعجل إلى خلوة به يطمئن فيها إليه وبه
هنا تظهر خاتمة الآية التوجيهية لا كإغلاق لجملة بديعة ولكن كشعار حياة ومبدأ لا يغفل عنه المؤمن
{أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
وكيف لا يطمئن وقد عرفه وعرف قوته وغناه وشديد بأسه بمن عصاه وحسن مآب من والاه
لكن البداية أن يعرف
ومن ذاق عرف
ومن عرف اغترف.
ومن ثم تغير..
وهنا ننتقل إلى التوجيه الرابع

رابعًا: إدراك محل التغيير الحقيقي.... القرآن

سورة الرعد تبث بوضوح ذلك اليقين بقوة القرآن التغييرية...
تُذكّرك بأن أعظم وسيلة تغيير، وثبات، وطمأنينة، هي بين يديك:
القرآن.
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ﴾
هذه من أهم آيات القرآن التي تتحدث عن قدرته التغييرية المذهلة..
تأمل الأفعال العملاقة في الآية
تسيير الجبال الراسية..
تقطيع الأرض المستقرة الراسخة..
تكليم الموتى وإسماع أهل القبور ..
أمور معجزات وأفعال على المخلوقين من المستحيلات
تأمل ذلك المخلوق الهائل المذكور هاهنا..
الجبال
تلك التي غالبًا ما تذكر في القرآن خلال سياقات الرسوخ والثبات
الجبل الضخم الذي جعله الله رواسي للأرض، يحول بينها وبين أن تميد، لو أُنزل عليه القرآن، لتبدّل حاله، لخشع، وتصدّع، وتهاوى من خشية الله.
ولتحرك وسار
سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ
فما بالك بالقلب؟
إذا كان هذا هو أثر القرآن على الجبال، فكيف لا يتأثر به قلبك؟
لو أن هناك كتابا يكلم الموتى أو يقطع الأرض نفسها
لو أن كتابا يقوم بهذا لكان هذا الكتاب الذي بين أيدينا
لكان القرآن
هذا هو تقدير الكلام في الآية
هذا الكتاب، الذي تقرؤه في مصلاك، يملك قوةً كونيةً هائلة.
يُحرّك الجبال، يُفلق الأرض، يُحيي الموتى.
فهل يُعجزه أن يُغيّر قلبك؟
هل يُعجزه أن يُصلح حياتك؟
هل يُعجزه أن يُثبّت فؤادك؟
هو محركٌ للتغيير، ومنبعٌ للقوة، ومصدرٌ للطمانينة.
هو الكتاب الذي يُعيد ترتيبك، يُعيد تعريفك، يُعيد بناءك من الداخل.
فإن كانت تلك قدرته التغييرية على تلك الكائنات المهيبة والأفعال الكونية الجسيمة بل وما هو أعظم منها فما بالك بقدرته التغييرية على قلبك ونفسك وواقعك؟!
كتاب تسير له الجبال بل تخشع وتتصدع من خشية الله إذا أنزله عليها كيف يكون تأثيره على روحك وفؤادك؟!
كم من قلوب كانت متشحة بالسواد ونفوس كانت ميتة قد أحياها الله بهذا الكتاب
كم من بعيد عن الله مسرف على نفسه متبع لهواه هداه الله بتلك الروح من أمره
وكم من أناس تغير واقعهم وتبدلت أحوالهم حين جعلوه أمامهم ولم يلقوه خلفهم..
هذا القرآن كتاب تغييري أنزله الله لأجل تلك الغاية..
ليغيرك..
وليغير واقعك..
السورة توجهك لأن تنظر إليه هذه النظرة وتذر تلك النظرة القاصرة المحدودة للقرآن على أنه فقط وسيلة لتحصيل الثواب بتلاوته دون فهم أو عمل
القرآن كتابٌ تغييري.. أُنزل ليُغيّرك،
ليُعيد بناءك من الداخل،
ليُبدّل واقعك، لا ليُزيّن رفوف بيتك.

إنه الكتاب الذي لو أُنزل على جبلٍ لتصدّع،
فهل آن لقلبك أن يتصدّع؟
هل آن لنفسك أن تخشع؟
هل آن لك أن تُعيد النظر، وتفتح الأقفال، وتسلك طريق التدبر؟
هكذا توجهك السورة إلى تلك السؤالات المفصلية مؤكدة أنك إن أردت أن يتغيّر قلبك، فابدأ من هنا.
من هذا الكتاب المغير..
إنك إن فعلت، تأثّرت.
وإن تأثّرت، تغيّرت.
وإن تغيّرت، نجوت.

خاتمة...
في سورة الرعد، لا يُطلب منك أن تُؤمن فقط، بل أن تُعيد ترتيبك من الداخل.
أن تُنصت للرعد، لا كضجيج سماوي، بل كنداءٍ في القلب.
أن ترى الجبال، لا كأحجارٍ صامتة، بل ككائناتٍ ترتجف من خشيته.
أن تُدرك أن الكون كله في حالة سجود، وأنت وحدك الذي يُخيّر.
في سورة الرعد، لا تُقاس النجاة بما تملك، بل بما تشعر .
ولا يُقاس القرب فقط بما تفعل، بل بما تعتقد..
ولا يُقاس الإيمان بما تُعلن، بل بما يهمس به قلبك حين يخلو.

فإذا استجبت، تغيّر كل شيء.
يتحوّل الخوف إلى أمن وبرد يقين، والقلق إلى طمأنينة، والشتات إلى وجهة واحدة: إليه.
تُصبح الحياة كلها دعاءً، وتوبةً، وصبرًا ابتغاء وجهه، وتوكلًا عليه، وعودةً لا تنقطع. وكأنها سجدة طويلة تمتد امتداد أجلك المكتوب..

وإذا لم تستجب، فحتى لو امتلكت الأرض وما عليها، ومثلها معها، ما افتديت نفسك.
لأن القضية ليست في ما تملك، بل في من يملك قلبك.
2🤔1
والقرآن، في هذه السورة، لا يُخاطب العقل فقط، بل يُخاطب القلب الذي تعب من التعلق، والروح التي ضلّت الطريق، والنفس التي تبحث عن مأوى.
يقول لك:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
فلا تُرهق قلبك في غيره، ولا تُبعثر وجهتك بين الخلق، ولا تُؤجل الاستجابة.

سورة الرعد ليست مجرد آيات، بل هي صوتٌ كونيٌّ يُناديك:
هل آن لك أن تسجد؟
لا خوفًا فقط، بل حبًا وتعظيما؟
هل آن لقلبك أن يطمئن؟ لا بالناس، بل بالله؟
هل آن لوجهتك أن تُوحّد؟ لا بالهوى، بل بالهدى؟

سورة الرعد تجعلك جزءا من ذلك المشهد المهيب للكون العابد.
الرعد يُسبّح، والملائكة ترتجف، والكون كله في حالة انتظار.
ينتظر منك سجدة خضوع وتسبيحة حب تشاركه فيها العبودية
فإن سجدت، سكنت.
وإن سكنت، نجوت.
وإن نجوت، فكأن كل ما في الكون يسعد بك
، لأنك أخيرًا… عدت..

الفصل الثالث عشر من
#قبل_أن_تتلو
4👍2
كان يجلس في شرفته الضيقة، يُقلّب في صفحات كتابٍ لم يقرأ منه حرفاً، وعيناه تائهتان في زحام المدينة الصاخب بالأسفل.
يشعر بذلك الضيف الثقيل الذي يزوره كثيراً مؤخراً..
ضيفٌ لا اسم له، لكنه يترك في الروح طعماً مراً كالعلقم، وشعوراً بالاختناق كأن الهواء نفسه أصبح شحيحاً.
كل شيءٍ يبدو ناقصاً..
كل فرحةٍ تبدو مبتورة..
كل نجاحٍ يبدو باهتاً.
كان يملك الكثير مما يتمناه الآخرون، لكنه كان يفتقد شيئاً واحداً لا يعرف كيف يشتريه أو من أين يأتي به..
شيئا يقال له: "الرضا".

يسمع الكلمة تتردد كثيراً..
يستعملها الدعاة في خطب الجمعة، وتُكتب في منشورات "فيسبوك" المُنمقة.
"ارضَ بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس". جملةٌ جميلة، رنانة، لكنها كانت تبدو له بعيدة، مثالية، ككوكبٍ لامعٍ في سماءٍ سحيقة؛ جميلٌ للنظر، لكنه مستحيل الوصول.
كيف يرضى وقلبه يشتعل بنار "المقارنة"؟ كيف يرضى وهو يرى ما فُقد منه، لا ما وُهِب له؟
كيف يرضى والهموم تُحاصره كجند قساة لعدو لا يرحم؟

في خضمّ هذا الحوار الداخلي البائس، إذا بصوت المذياع يتعالى من متجر مجاور ويتصاعد صوت القاريء المتقن يتلو آية من سورة طه بدت له عجيبة وكأنه لم يسمعها من قبل..
لم تكن تحوي أمراً مباشرا بالرضا..
كانت وعداً به.
"فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ"

"لعلك ترضى"!
يا لله!
ما أعجبها من جملة!
ما لفت نظره ليس مجرد الوعد بالرضا، ولكن فيمن يريده للمخلوق..
العادة أن يسعى الأدنى لإرضاء الأعلى.. الابن يطلب رضا والديه، والموظف يطلب رضا رئيسه في العمل..
والعبد يطلب رضا ربه.
لكن أن يكون "رضا العبد" نفسه مقصدا يريده الرب الكريم..
أن يسأل الأعلى من هو أدنى منه عن رضاه، فهذا ما يعجز العقل عن تفسيره، ويذوب القلب له تأثراً وإجلالاً.

حين يسأل المولى أهل جنته: "يا أهل الجنة، هل رضيتم؟"
وحين يُخاطب آخرهم دخولاً فيقول: "عبدي، أترضى أن يكون لك مثل ملكِ ملكٍ من ملوك الدنيا؟"...
هنا هو لا يُخاطبهم من منطلق السيد والعبد فقط، ولكن بمنطق المحب والحبيب.
لا يُكرمهم بالنعيم فقط، بل يُريد لهم أن يتلذذوا بهذا النعيم، وأن تستقر أرواحهم في أعلى مقامات السكينة
يريد لهم أن "يرضوا".
ثم يحل عليهم الرضوان جزاء من جنس عملهم كما ورد كل حرف مما سبق في الآيات والأحاديث الصحيحة.
عندئذ لا يملك العبد إلا أن يردد بكل ذرة منه كلمة أهل الجنة: "قد رَضِينَا عَنْكَ فَارْضَ عَنَّا".
هذه الخيرات في الدنيا والآخرة لا تنال بمجرد الكلام والشعارات، ولا يجد حلاوتها من يكتفون عند سماعها بمصمصة الشفاه وهز الرؤوس اقتناعاً أو أداءً لواجب.
إنها لا تُنال إلا بفهمٍ عميقٍ ثم تطبيقٍ عمليٍّ يُصبح جزءاً من نسيج حياتك اليومية.

هذا هو مفهوم الرضا الذي ينبغي أن يطلب المرء منا وصولا إليه باذلا الغالي والنفيس في سبيل إدراكه..
ليس مجرد قبولٍ سلبيٍّ بالواقع، ولا تبريراً للعجز والكسل، ولا قناعاً يُخفي السخط والجزع.
بل مقامٌ إيمانيٌّ رفيع، وجنةٌ دنيوية يعيشها القلب قبل أن تطأ الأقدام جنة الآخرة.
إنه ذلك الطعم (الحلو) التي تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً".

أن ترضى بالله رباً.. أن تقبل بأفعاله وتدبيره، وأن تُسلّم لحكمه..
أن تُقرّ بملكه وتصريفه، وأن تعترف عملياً أنك عبدٌ وهو الرب، فتقبل بأمره الكوني القدري، وتمتثل لأمره الشرعي.

وأن ترضى بالإسلام ديناً... أن تقبل به شرعة ومنهاجاً، وأن تسير على صراطه، وتحفظ حدوده، وألا تجد في قلبك حرجاً من شرعه، ولا ضيقاً من أمره أو نهيه.

وأن ترضى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً..
أن تقبله قدوةً وإماماً، وأن تجعله نبراساً، تهتدي بهديه، وتقتفي أثره، وتستن بسنته.

حين تتحقق هذه الشروط الثلاثة في القلب، وينضح ذلك على السلوك والأقوال والأفعال= حينها فقط، تلج تلك الجنة المنسية، وتتذوق تلك الحلاوة التي لا تُضاهيها حلاوة.

لكن الشيطان، يا صديقي، خبيرٌ في سرقة هذه الحلاوة.
هو دائماً يلعب على وتر "تعظيم المفقود".
يُسلّط ضوءاً كاشفاً على ما ليس في يديك، ويُعمي عينيك عما بين يديك.
يُهمس لك: تلك الوظيفة التي لم تحصل عليها، كانت هي مفتاح السعادة!
ذلك الشخص الذي رحل، كان هو توأم روحك الذي لا يُعوّض ولن يعوض..
ذلك المال الذي خسرته، كان هو ضمان مستقبلك!
يُحوّل "المفقود" في عينيك إلى فردوسٍ ضائع، ويُحوّل "الموجود" إلى جحيمٍ لا يُطاق.
6👍1👌1
وهذا هو عكس الرضا تماماً.
بل هو متصل برضا مذموم!
تخيل أن ثمة رضا يذم في القرآن!
نعم.. رضا هو عين الهلاك
"إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا..." (يونس: 7).
نعم.. هذا هو عين الهلاك، لأنه ليس رضا بالمقسوم، بل اكتفاءٌ وانتهاءٌ بالفانية عن الباقية.
هؤلاء لم يرضوا بقضاء الله، بل رضوا بالدنيا نفسها كغايةٍ ومنتهى، كصنمٍ يعكفون عليه. اكتفوا بالفانية عن الباقية، واطمأنوا لأسبابها الزائلة.
اطمأنوا لأسبابها المادية، وظنوا أن "من معه قرش يساوي قرشاً"، ونسوا أن الأسباب قد تتخلى وأن الأقدار بيد الله.

وهذا الرضا القاصر هو الذي يُورث "الضنك".. ذلك الضيق والاختناق الذي يشعر به من أعرض عن ذكر الله، مهما بدا عليه من مظاهر المرح الزائف..
ببساطة لأنه دائما سيكون رضا منقوصا لا يتم أبدا كما لا تتم الدنيا لأحد
فمادام مبتدا ومنتهى رضاه الدنيا وزينتها وغاية اطمئنانه لا يكون إلا بأسبابها فستظل النتيجة = صفرا كبيرا
الدنيا دائما يشوبها الكبد ويعتريها الدنو أسبابها منقوصة ومتعها مؤقتة ومحدودة
لذلك يشعر من ربط رضاه بها دائما بانقطاع ويفاجأ أنه لا يطمئن قط

وهنا يجب أن نُميّز بدقةٍ بين "الرضا" و"الصبر". إنه فرقٌ دقيق لكنه عميق.
الصبر أن تتحمل الألم والحزن والابتلاء
أن تُمسك نفسك عن الجزع والسخط، وهذا مقامٌ عظيم.
لكن الرضا هو أن ترتقي درجةً أعلى، أن ترى في قلب الألم "الخير"، أن تشعر في عزّ همك بأن قلبك مرتاحٌ وصافٍ، لأنك تثق ثقةً مطلقة بأن هذا هو تدبير الحكيم العليم، وأنه يعلم وأنت لا تعلم وأنت ترضا به ربا حكيما مدبرا ومن ثم يورث رضاك به رضا بتقديره وحكمه..
فإن لم تستطع أن تحقق ذلك المقام تلجأ للمقام الآخر..
التصبر
"ومن يتصبر يصبره الله"
ويكون ذلك الصبر بإذن الله هو الطريق إلى الرضا.

والرضا الحقيقي ليس تواكلاً أو تبريراً للفشل.
من يُبرر كسله بالرضا، ومن يُزين عجزه بالتسليم، فهو يضع مساحيق تجميلٍ زائفة على وجه الحقيقة القبيح.
الرضا لا ينافي العمل وإنما يأتي بعد بذل الجهد، والأخذ بالأسباب المتاحة، ثم تفويض الأمر كله لله، والقبول بنتيجته مهما كانت، موقنا بأن الخير فيما اختاره الله.
فإذا زارك ذلك الضيف الثقيل، ضيف الضيق والهمّ وانعدام الرضا...
لا تُغلق في وجهه الباب مباشرة وأيضا لا تبالغ في الترحيب به.
فقط اعترف بوجوده..
لا تُنكر حضوره، ولا تُجبر نفسك على طرده.
انظر إليه، وافهم رسالته.
ربما جاء ليُخبرك أن شيئًا ما في داخلك يحتاج إلى مراجعة، إلى تصالح، إلى سكينةٍ ضائعة.
صافحه، ثم دلّه على طريق الخروج.
افتح نافذةً صغيرةً في قلبك، ولو كانت بالكاد تتّسع لنَفَسٍ واحد.
قد تكون سجدةً لا يسمعها أحد، أو دمعةً لا يراها أحد، أو كلمةً صادقةً في لحظة صدقٍ نادرة. وقد تكون ابتسامةً في وجه من تحب..
المهم أن تبحث عن تلك اللحظة التي تقول فيها لربك: "أنا لا أفهم، لكنني أثق بك وأرضى بما قدرت".
الرضا لا يأتي كقرارٍ يُتخذ، ولكن كنسيمٍ يتسلل حين تهدأ العاصفة.
يأتيك حين تتوقف عن الركض خلف ما لا يُدرك، وتبدأ في احتضان ما بين يديك.
حين تُدرك أن الله لا يُريد منك أن تُجيد التمثيل، بل أن تكون صادقًا، ولو في ضعفك.
حينها، فقط حينها، سيبدأ الرضا بالتسلل إليك، لا كضيفٍ ثقيل ولكن كصديقٍ قديمٍ نسيته، وجاء ليذكّرك أنك ما زلت حيًّا، وما زلت قادرًا على أن تحيا بقلبٍ مطمئن.
عندئذ ستُصبح الأرض أوسع، والهواء ألين، والروح أخف.
وسيُصبح قلبك إلى ربك أقرب، ثم يرضى عنك... لأنك رضيت به، وبما قسم، وبما شاء، وبما أخّر، وبما أعطى، وبما منع.
الرضا يا صديقي ليس درسًا يُحفظ، ولا شعارًا يُعلّق.
إنه حالةٌ تُعاش، تُتذوّق، تُبنى ببطء، وتُسقى بالصدق.
فإذا طرق بابك، فلا تتردّد هذه المرة في فتحه فإن الذي أرسله إليك أخير رب لا يُريد لك الضنك
رب يُريد لك أن ترضى...
ليرضى عنك،
ثم لتدخل جنته راضياً... ومرضيًّا.

#مفاهيم
6👍2
الكبر ليس مجرد شعور بالتفوق، بل هو مرضٌ روحيٌ عميق، يُصيب البصيرة قبل أن يُصيب السلوك، ويُحجب القلب عن رؤية الحق، ويُعمي العين عن التقاط النور، ويُغلق أبواب الهداية حتى لو كانت مشرعة.

هو ذلك الصوت الداخلي الذي يهمس لك:

"أنا لا أجلس مع هؤلاء..."
"أنا لا أُصافحهم، لا أُخالطهم، لا أُساويهم بنفسي..."
باختصار... "أنا خيرٌ منه..."
هو ذلك الشعور الذي يجعل صاحبه يظن أن الكون يدور حوله، وأن الخلق وُجدوا ليخدموا ذاته المتضخمة، وأنه وحده من يستحق التقدير، والاحترام، والنجاة.

رأيت هذا الشعور القميء يتجلى في صورٍ كثيرة..
بعضها في قاعات المحاضرات، وبعضها في بيوت الله، وبعضها في تصرفات من يحسبون على أهل الديانة والفضل، فإذا بهم يحقرون من دونهم، ويقسمون رحمة الله كأنها ملكٌ خاصٌ لهم.
سمعت أحدهم يقول:
"لو دخل هؤلاء الأوباش الجنة، فسيدخلوها فقط ليكنسوها لنا!"
قالها طبيب فذ يعد في تخصصه عالما مخضرما لطالما أذهلنا في قاعات المحاضرات بعلمه، وأبهرنا بفهمه..
لكنه في ذلك اليوم صدمنا بكبره..
أما العلم الذي يحمله فلم يُنقِ قلبه، بل زاد من غطرسته، وأسكره بنشوة التفوق.
وهكذا يفعل الكِبر بصاحبه:
يجعله يرى نفسه فوق الناس، وفوق الحق، وفوق الهداية.
يؤدي به إلى أن يأنف من الجلوس على الأرض، لا لعلةٍ في بدنه، بل لعلةٍ في نفسه.
يرفض مصافحة أهل المساجد، لا لأنهم يؤذونه، بل لأنهم لا يليقون بمقامه.
في نهاية أمره يظن أن الله لا يهدي إلا من يحمل نسبًا فخمًا، أو منصبًا ضخمًا، أو ثراءً فاحشًا.
أو أن يكون من يستحق هو أقرب صورة لما يرى عليه نفسه
وما الكِبر إلا هذا..
رؤية النفس، وتضخم الذات، وتعاظم الأنا حتى تبتلع كل شيء حولها.
تلك الذات التي تبهر صاحبها وتشعره أن واجب الخلق الرئيسي؛ أن ينبهروا بها مثله، وأن يقفوا إلى جواره مشدوهين أثناء تأملهم روعته الفائقة وعبقريته الفذة.

هي ببساطة "ذات" تعاظمت، و"أنا" تضخمت، لدرجة ابتلعت معها كل الذوات والأشياء المحيطة، التي اقتصر دورها في نظر المتكبر على "التخديم" على تلميع تلك الذات، وإنزالها منزلتها المرجوة، وإعطائها قدرها الهائل في نظره.

ذلك هو الدور المنتظر من كل من سواه.
لذلك تجد المبتلى بهذه الذات المتضخمة لا ينظر إلى أي شخص أو موقف أو حدث إلا من منطلق رأيه وتصوراته، ثم إمكانية الانتفاع بذلك الموقف أو الحدث في الاستزادة من التقدير لذاته..
وإن لم يكن ذلك ممكنًا ستجده تلقائيًا يتحول إلى الاستطالة على الخلق أو الإهانة والهجوم على ذلك الشيء أو الشخص الذي لم يستطع الانتفاع منه.
تجلٍ واضح للتعريف النبوي للكبر بشقيه

في الحديث: «الكِبْر بَطَر الحقِّ وَغَمْط الناس»
والغمط هو إنكار الفضل والاستهانة بالآخرين. ووضعهم دون منزلتهم واحتقارهم وانتقاص حقوقهم.

ولأجل تحقق ذلك ستجده يسارع كثيرا إلى المقارنات الهجومية التي تكون رسالتها الضمنية دوما: انظروا إلى عظمتي وجمال شخصيتي وبديع صنعي مقارنة بأولئك الرعاع الحمقى…
أما آن الأوان لتنزلوني منزلتي وتقدروني حق قدري مقارنة بأولئك الأوباش غير المستحقين؟!
هكذا لسان حاله ودوما، وأحيانًا لسان مقاله!
المهم أن تكون ذاته المتضخمة و(الأنا) المتعاظمة حاضرة بقوة في كل مقام ومقال، وقائمة في كل جملة مفيدة أو غير مفيدة.
طائفة من الخلق أسميهم "الذاتيون" الذين أدمنوا التواجد دوما في دائرة الضوء، حتى صارت هي منتهى آمالهم وغاية أحلامهم.
صار الواحد منهم لا يملك البعد عن تلك الدائرة، ولا يطيق حياة يكون فيها خامل الذكر، لا تتمحور الأحداث حوله، ولا تدور الأخبار والحوادث في فلكه.

ولأجل ذلك البقاء في دائرة الضوء ومركز الحدث، تجده على استعداد لأن يرتقي أصعب مرتقىً، ويختار أعجب الأقوال والأفعال وأكثرها غرابة ولامنطقية، ليستثير بها مشاعر الخلق بأي سبيل.

كل هذا ليظل مستقرا في تلك الدائرة التي أدمن المكث بداخلها….
دائرة الضوء.

وحقيقة حرص ذلك النمط البشري على البقاء في تلك الدائرة لا تقتصر على لذة الشهرة وحلاوة تسلط الأنظار، فتلك أمور ثانوية إلى جوار المشكلة الحقيقية التي تتلخص في كلمة واحدة:
أنا…
هذه هي كلمة السر ومفتاح الشخصية، وكل الأفكار والأفعال والمواقف ستدور حولها.
ولخطورة تلك الآفة ستجد اعتناء القرآن بالتحذير منها ولفت الانتباه إلى خطورتها بشكل مكثف جدا
من أوضح تلك المواضع القرآنية التي فصل فيها الحديث عن الكبر وأهله ما ورد في سورة الأعراف
تكاد تكون هذه السورة هي أطول عرض قرآني متصل لمرض الكِبر، لا بوصفه خُلقًا مذمومًا فحسب، ولكن كـ"عائق وجودي" يحول بين الإنسان وبين الهداية.. ويباعد بين القلب وبين القرآن بل بين الإنسان ودخول الجنة.

ما يزيد عن عشرة مواضع تقريبًا في السورة حدثنا الله فيها عن الكِبر، وحذّر من عاقبته ومآله، وبيّن طريقة المتكبرين، وأسلوب تفكيرهم، وانحراف نظرتهم، وتشوه منطقهم، وتصلب قلوبهم.
4
تبدأ السورة بمعصية إبليس، حين سأله الله عن سبب امتناعه عن السجود، رغم العلة المركزية التي لا يملك معها مخلوق أن يرفض:
﴿إِذْ أَمَرْتُكَ﴾
هكذا ختم الله سؤاله:
﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾
الله يأمرك، وأنت تعرفه، وتدرك جلاله وعظمته، فأنت كنت تعبده يومًا مع الملائكة، ورغم ذلك تأبى أن تمتثل!
إنه الكِبر في أبشع صوره.
"أنا خير منه"
هكذا كانت الإجابة دائما ، وكذلك كان قياس الفاسد الذي جسّد تلك المشاعر البشعة:
مشاعر الكِبر، ورؤية النفس، والشعور بالخيرية، والإحساس بالغرور المقيت.

عندها تبدأ رحلة الهبوط والصغار:
﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾
هنا كانت العقوبة، والمعاملة بنقيض القصد..

الصغار في مقابلة الاستكبار، والهبوط في مواجهة العلو.

فما يكون لك أن تتكبر فيها…
تلك هي القاعدة.
هنالك لا مكان للمتكبرين.
الجنة دار المتواضعين، الهينين، اللينين.
هاهنا ليس ثمة مكان للكِبر.
الجنة ليست دارًا للمتكبرين.

ثم تستمر سورة الأعراف في بيان عاقبة من سار على منهج إبليس:
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾
الاستكبار عن الآيات، التعالي على البينات الواضحات، بطر الحق ورده حين يأتي،
ومن ثم يكون المصير واضحا:
نار وطرد، ومنع من أي فرصة لدخول الجنة، إلا في حالة واحدة:
" إِنَّ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَ ٰ⁠بُ ٱلسَّمَاۤءِ وَلَا یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ یَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِی سَمِّ ٱلۡخِیَاطِۚ وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُجۡرِمِینَ"
أن يدخل الجمل - الحبل الغليظ - في سم الخياط أي ثقب الإبرة.
أي أن الأمر مستحيل كما ترى.
وقد حسمه رسول الله ﷺ بقوله:
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".
وسوف يرى أهل الأعراف تلك الأمارات يوم القيامة، حين يتعرفون على سيما أناس كانوا يعرفونهم في الدنيا،
يصطرخون في النار، لكن نداء أهل الأعراف قد بلغهم:
﴿مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾
تأمل الصفة التي تذكرهم بها أهل الأعراف:
إنه الكِبر مرة أخرى..
غمط الناس، والتعالي على الخلق، وازدراؤهم.
﴿أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ﴾
الإشارة هنا للجهة الأخرى: لأهل الجنة، الذين كان الأولون يستضعفونهم، ويستعلون عليهم، ويغمطونهم.
الآن تأتيهم البشرى:
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾
ولقد كان هذا دأب جل أعداء الأنبياء، والصفة المشتركة التي أظهرتها السورة في أغلب قصصها:
الملأ المستكبرون.
هذا ما أُطلق على ثمود قوم صالح عليه السلام، وعلى أهل مدين في مواجهة شعيب، وعلى فرعون وآله حين قابلوا آيات الله.
مشترك لفظي واحد لا يتغير:
استكبروا.
وليس شرطًا أن يأتي بلفظه، بل يفهم أحيانا ضمن سياق ما فعلوه، وقابلوا به دعوة الأنبياء.

﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ﴾
تتكرر تلك الجملة التي تُبين أصل الكِبر في رفض الأقوام لأنبيائهم.
جملة تشي بما يعتمل في الصدور:
مجرد رجل يذكرنا ويعظنا؟
طبعا لم تقبل القلوب المتكبرة ذلك وكان الرفض والجحود الذي أساسه دوما هذا المرض... الكبر.
لذلك قد لا تجد خطيئة بعد الكفر بالله والشرك به أشد بغضًا في قلوب الخلائق كالكِبر، وأهل الكِبر.
أولئك الذين تقطر حروفهم ومواقفهم بالعلو، وتنضح نظراتهم واختياراتهم بالغرور، والشعور بالفضل، ورؤية النفس.
من لسان حالهم دوما:
أيها الناس، قد أكرمكم الله بوجودنا بينكم، وامتنّ عليكم بأعظم نعمه حين وُلدتم في عصر يتشرف أن عشنا فيه!
قوم لا ينقصهم إلا أن يصرّحوا باستحقاقهم عبودية غيرهم، ويطالبوا الخلق ألا يفتروا لحظة عن التسبيح بحمدهم وذكر فضائلهم!
والعجب العُجاب أنهم قليلًا ما يشعرون بما تصرخ به كل حركة وكل سكنة تصدر عنهم…
قليلًا ما يدركون كونهم يتبغضون إلى ربهم بأول خطيئة عُصي بها فيما نعلم:
خطيئة إبليس
بعد ذلك تبدأ سورة الأعراف في ذكر عقوبات الكِبر العاجلة، وأولها:
الطبع على القلب.
ذلك القلب القاسي الغليظ، الذي قُدَّ من صخور الكِبر، وكُسي بِرَانِ العلو، وأحاطت به أسوار الغرور.
مثل هذا القلب يُطبع عليه، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، ولا يتلذذ بنعمة الأخوة والمحبة.
والأخطر أنه يُصرف عن طريق الحق.
6
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾
يالها من عقوبة!
أن يصرف الله المتكبر عن طريقه..
أن تعمى عينه عن رؤية الحقائق الجلية..
أن يختار دوما سبل الشر، ويرفض باستمرار ولوج أي سبيل خير ورشد.
ثم يُمسخ قلبه في الدنيا، ويُحشر في الآخرة كالذر، يُطؤه الناس بأقدامهم، كما في وصف النبي ﷺ:
"يُحشَرُ المتكبِّرون يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجالِ يغشاهم الذُّلُّ من كلِّ مكان"

من ذلك كله يفهم أن الكِبر ليس مجرد خطيئة، بل هو "حجاب وجودي" يحول بين الإنسان وبين كل خير، ويصرفه عن كل آية، ويمنعه من كل نور، ويُغلق في وجهه أبواب السماء، ويُحشره في الآخرة كأصغر ما يكون، ويُسقى من أذل ما يُسقى.

هو ليس فقط ما يُظهره المتكبر من تعالٍ على الناس، بل ما يُخفيه من تعالٍ على الحق، ورفضٍ للآيات، واستكبارٍ عن التوجيه، واستعلاءٍ على الوحي، وتضخمٍ للذات حتى تُصبح هي المعيار، وهي المقياس حتى تصل إلى درجة وثن الخفي الذي يُعبد من دون الله.

الكِبر هو القاسم المشترك بين إبليس وفرعون، وبين قوم نوح وقوم صالح وقوم شعيب، وبين كل من كذّبوا بآيات الله واستكبروا عنها، وبين كل من ظنوا أن الجنة لا تليق إلا بمن يشبههم، وأن الرحمة لا تُمنح إلا لمن يرضون عنه.
في سورة الأعراف التي تحدثت عن الكبر ليس كأي سورة من حيث الكثافة والتركيز والشمول؛ ختمها الله بسجدة..
وهذا له دلالة
سجدة تُعلن أن من كان عند ربه لا يستكبر عن عبادته، ولا يتعالى عن السجود له، ولا يرى نفسه خيرًا من غيره، بل يرى نفسه عبدًا محتاجًا، فقيرًا، ذليلًا، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا.
{ إِنَّ ٱلَّذِینَ عِندَ رَبِّكَ لَا یَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَیُسَبِّحُونَهُۥ وَلَهُۥ یَسۡجُدُونَ ۩ }
[سُورَةُ الأَعۡرَافِ: ٢٠٦]
تلك السجدة هي مفتاح النجاة، وهي بوابة الجنة، وهي علامة التواضع، وهي نقيض الكِبر، وهي ما ينبغي أن يختم به كل فصل من فصول الحياة، وكل لحظة من لحظات السير إلى الله.

فإن أردت أن تُفتح لك أبواب السماء، وأن تيسر لك آيات القرآن، وأن تضيء لك دروب الهداية، وأن تُسقى من أنهار الجنة،
ابدأ بتواضع..
وابدأ باعتراف أنك لست محور الكون، ولا مركز الوجود، ولا معيار الحق، ولا مرجع الخلق.
ابدأ بإقرار أنك عبد، وأنك فقير، وأنك محتاج، وأنك لا تملك شيئًا، وأنك لا تستحق شيئًا و لا تنجو إلا برحمة الله، لا بفضل نفسك، ولا بعظمة ذاتك، ولا بعلو مقامك.
ابدأ بإحساس راسخ أنك لست خيرًا من أحد، وأنك لا تزدري أحدًا، وأنك لا ترد حقًا، ولا تتعالى على آية، ولا تأنف من توجيه، ولا ترفض نصيحة، ولا تحتقر خلقًا، ولا تُعظم نفسك.
ابدأ بسجدة…
فإنها أول الطريق، وآخره، وأوسطه، هي ما يُبغض إبليس أن يراك فيه.
وهي ما يُحب ربك أن يراك عليه..
يراك حين تقوم... وتقلبك في الساجدين.

#مفاهيم
5
خطبة سابقة 👆
4