٢٠ يناير ٢٠١١
كأنني أسمع هذه الآية لأول مرة (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم).. حقا، لا أحد يجمع بين العلم والرحمة إلا الله، فمن رحمك رحمك لأنه يحسن الظن فيك، ومن علم أسرارك وسرائرك قسا عليك، فكيف بمن يعلم الحاضر والمستقبل = الغيب والشهادة.. لا إله إلا الله!!
كأنني أسمع هذه الآية لأول مرة (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم).. حقا، لا أحد يجمع بين العلم والرحمة إلا الله، فمن رحمك رحمك لأنه يحسن الظن فيك، ومن علم أسرارك وسرائرك قسا عليك، فكيف بمن يعلم الحاضر والمستقبل = الغيب والشهادة.. لا إله إلا الله!!
كيف غيرت الدولة الأموية وجه التاريخ بالفتوحات الواسعة، وكيف عجز العباسيون في خمسة قرون أن يحققوا ما حققه الأمويون في حوالي نصف قرن فقط.
كان بنو أمية يفتحون البلاد في أربع جهات على البرِّ، بخلاف فتح جزر البحر المتوسط، وبلغت دولة الإسلام أقصى اتِّساع لها -كدولة واحدة- في ظلِّ الأمويين، وكانت ذروة الفتوحات الإسلامية على أيدي هؤلاء القادة: تم فتح المغرب والأندلس على يد القادة: عقبة بن نافع، وحسان بن النعمان، وموسى بن نصير، ومن ورائها فرنسا على يد عبد العزيز بن موسى بن نصير، والسمح بن مالك الخولاني، وعبد الرحمن الغافقي، وسارت الفتوح في الشرق في بلاد ما وراء النهر حتى الصين بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي، وفي الجنوب الشرقي حتى السند بقيادة المهلب بن أبي صفرة، ومحمد بن القاسم، وفي الشمال وبلاد القوقاز بقيادة مسلمة بن عبد الملك، ومروان بن محمد. هؤلاء القادة هم الذين رسَّخُوا الوجود الإسلامي في تلك المناطق، وكانت فتوحاتهم تتميمًا وتكميلًا لما سبقها من فتوح في عهد الراشدين، وتأسيسًا لدخول هذه المناطق في الدولة الإسلامية بشكل نهائي.
وقد جرت في كل تلك الفتوح أعمال من أندر وأروع ما يمكن أن يكتب في تاريخ البطولة والأبطال، وقدَّم الفاتحون نماذج لا مثيل لها في الجهاد والبذل والتضحية والإخلاص، وكم من مجاهد مات في هذه الأرض البعيدة لا نعرف اسمه ولا قبيلته ولا شيئًا من حياته، ترك الدنيا كلها وذهب ليموت في تلك الأصقاع لا يرجو إلَّا الله والدار الآخرة، ستأتي هذه البلاد في ميزان حسناته يوم القيامة!
وما استطاع أحد بعد بني أمية أن يسطر في الفتوح تاريخًا كتاريخهم، ولا حتى تاريخًا يقاربهم!
وها هو المؤرِّخ الدكتور حسين مؤنس يَنْعَى على الدولة العباسية أنها لم تصنع شيئًا ذا بال في الفتوحات مقارنة بالدولة الأموية، يقول:
«إن الخلافة العباسية لو تنبَّهت إلى حقيقة وظيفتها كخلافة إسلامية، وهي نشر الإسلام لا مجرَّد المحافظة عليه كما وجدته، لو أنها قامت برسالتها وأدخلت كل الترك والمغول في الإسلام، لأدَّت للإسلام والحضارة الإنسانية أجَلَّ الخدمات، ولغيّرت صفحات التاريخ. وهكذا تكون الخلافة العباسية قد خذلت الإسلام في الشرق والغرب. فهي في الشرق لم تتقدَّم وتُدخل كل الأتراك والمغول في الإسلام، كما تمكَّنت الخلافة الأموية من إدخال الإيرانيين ومعظم الأتراك في الإسلام، وفتحت أبواب الهند لهذا الدين. وفي الغرب قعدت الخلافة العباسية عن فتح القسطنطينية؛ ولو أنها فعلت ذلك لدخل أجناس الصقالبة والخزر والبلغار الأتراك في الإسلام تبعًا لذلك؛ إذ لم تكن قد بقيت أمام هذه الأجناس أية ديانة سماوية أخرى يدخلونها، وهنا نُدرك الفرق الجسيم بين الخلافة الأموية والخلافة العباسية؛ فالأولى أوسعت للإسلام مكانًا في معظم أراضي الخلافة البيزنطية، وأدخلت أجناس البربر جميعًا في الإسلام، ثم انتزعت شبه جزيرة أيبيريا (الأندلس) من القوط الغربيين، ثم اقتحمت على الفرنجة والبرغنديين واللومبارد بلادهم بالإسلام، وحاولت ثلاث مرَّات الاستيلاء على القسطنطينية. أمَّا العباسيون فلم يُضيفوا -على الرغم من طول عمر دولتهم- إلى عالم الإسلام إلَّا القليل، ومعظمه في شرقي آسيا الصغرى».
وكما خفت الجهاد البري خفت -أيضًا- صوت الجهاد البحري، الذي كان يدوي من مواني الشام ومصر، وقلَّ الاهتمام بالبحر المتوسط، وتولَّت الإمارات الإسلامية في المغرب والأندلس مسئولية الدفاع عن حوض البحر المتوسط، وقلَّت الاشتباكات البحرية بالطابع الذي عرفه العصر الأموي
كان بنو أمية يفتحون البلاد في أربع جهات على البرِّ، بخلاف فتح جزر البحر المتوسط، وبلغت دولة الإسلام أقصى اتِّساع لها -كدولة واحدة- في ظلِّ الأمويين، وكانت ذروة الفتوحات الإسلامية على أيدي هؤلاء القادة: تم فتح المغرب والأندلس على يد القادة: عقبة بن نافع، وحسان بن النعمان، وموسى بن نصير، ومن ورائها فرنسا على يد عبد العزيز بن موسى بن نصير، والسمح بن مالك الخولاني، وعبد الرحمن الغافقي، وسارت الفتوح في الشرق في بلاد ما وراء النهر حتى الصين بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي، وفي الجنوب الشرقي حتى السند بقيادة المهلب بن أبي صفرة، ومحمد بن القاسم، وفي الشمال وبلاد القوقاز بقيادة مسلمة بن عبد الملك، ومروان بن محمد. هؤلاء القادة هم الذين رسَّخُوا الوجود الإسلامي في تلك المناطق، وكانت فتوحاتهم تتميمًا وتكميلًا لما سبقها من فتوح في عهد الراشدين، وتأسيسًا لدخول هذه المناطق في الدولة الإسلامية بشكل نهائي.
وقد جرت في كل تلك الفتوح أعمال من أندر وأروع ما يمكن أن يكتب في تاريخ البطولة والأبطال، وقدَّم الفاتحون نماذج لا مثيل لها في الجهاد والبذل والتضحية والإخلاص، وكم من مجاهد مات في هذه الأرض البعيدة لا نعرف اسمه ولا قبيلته ولا شيئًا من حياته، ترك الدنيا كلها وذهب ليموت في تلك الأصقاع لا يرجو إلَّا الله والدار الآخرة، ستأتي هذه البلاد في ميزان حسناته يوم القيامة!
وما استطاع أحد بعد بني أمية أن يسطر في الفتوح تاريخًا كتاريخهم، ولا حتى تاريخًا يقاربهم!
وها هو المؤرِّخ الدكتور حسين مؤنس يَنْعَى على الدولة العباسية أنها لم تصنع شيئًا ذا بال في الفتوحات مقارنة بالدولة الأموية، يقول:
«إن الخلافة العباسية لو تنبَّهت إلى حقيقة وظيفتها كخلافة إسلامية، وهي نشر الإسلام لا مجرَّد المحافظة عليه كما وجدته، لو أنها قامت برسالتها وأدخلت كل الترك والمغول في الإسلام، لأدَّت للإسلام والحضارة الإنسانية أجَلَّ الخدمات، ولغيّرت صفحات التاريخ. وهكذا تكون الخلافة العباسية قد خذلت الإسلام في الشرق والغرب. فهي في الشرق لم تتقدَّم وتُدخل كل الأتراك والمغول في الإسلام، كما تمكَّنت الخلافة الأموية من إدخال الإيرانيين ومعظم الأتراك في الإسلام، وفتحت أبواب الهند لهذا الدين. وفي الغرب قعدت الخلافة العباسية عن فتح القسطنطينية؛ ولو أنها فعلت ذلك لدخل أجناس الصقالبة والخزر والبلغار الأتراك في الإسلام تبعًا لذلك؛ إذ لم تكن قد بقيت أمام هذه الأجناس أية ديانة سماوية أخرى يدخلونها، وهنا نُدرك الفرق الجسيم بين الخلافة الأموية والخلافة العباسية؛ فالأولى أوسعت للإسلام مكانًا في معظم أراضي الخلافة البيزنطية، وأدخلت أجناس البربر جميعًا في الإسلام، ثم انتزعت شبه جزيرة أيبيريا (الأندلس) من القوط الغربيين، ثم اقتحمت على الفرنجة والبرغنديين واللومبارد بلادهم بالإسلام، وحاولت ثلاث مرَّات الاستيلاء على القسطنطينية. أمَّا العباسيون فلم يُضيفوا -على الرغم من طول عمر دولتهم- إلى عالم الإسلام إلَّا القليل، ومعظمه في شرقي آسيا الصغرى».
وكما خفت الجهاد البري خفت -أيضًا- صوت الجهاد البحري، الذي كان يدوي من مواني الشام ومصر، وقلَّ الاهتمام بالبحر المتوسط، وتولَّت الإمارات الإسلامية في المغرب والأندلس مسئولية الدفاع عن حوض البحر المتوسط، وقلَّت الاشتباكات البحرية بالطابع الذي عرفه العصر الأموي
قطر الندى.. المرأة التي اختزلت فيها قصة الدولة الطولونية
تلاقت الرغبتان، رغبة خمارويه بن أحمد بن طولون ورغبة المعتضد في إنهاء النزاع بين الدولة العباسية والطولونية، ولقد كان هذا سهلا فيما يخص الطولونيين، إذ إنهم ليسوا دولة دعوة كما هو الحال مع العلويين والخوارج، وليسوا من العرب فينافسون العباسيين على الخلافة، وإنما يناسبهم أن يكونوا كالأغالبة في إفريقية والطاهريين في خراسان والسامانيين فيما وراء النهر، دول تتمتع بحكم ذاتي مع الانضواء تحت راية الخلافة وربما دفع مبلغ من الأموال سنويا كدليل على هذا الانضواء وقياما بواجبها نحو السلطة المركزية.. كذلك لم يكن الخلاف بين الموفق وابن طولون أكثر من الخلاف السياسي، فليس بينهما ثارات شخصية أو حروب طويلة.
بادر خمارويه بإرسال الهدايا والتحف إلى المعتضد أول توليه الخلافة (279هـ)، وعرض على المعتضد بنته قطر الندى لتتزوج من ابن المعتضد، وبهذا العرض أراد خمارويه توثيقا للروابط وإنهاء للنزاع القديم وضمانة بألا يخالف خمارويه على المعتضد، فتلقى المعتضد كل هذا بالحفاوة والإكرام، وعاد الوزير بهذه الرسالة (25 ربيع الأول 280هـ) باتفاق يقتضي دفع مائتي ألف دينار للخلافة عن السنين الماضية، وثلاثمائة ألف دينار في كل سنة، واتخذ المعتضد قطر الندى زوجة له
بصداق مليون درهم كدليل على مزيد من التكريم.
وبدأ خمارويه في التجهيز الأسطوري لقطر الندى..
الزفاف الأسطوري
وقد فاضت كتب التاريخ بأنباء هذا الزفاف الأسطوري الذي صنعه خمارويه لابنته قطر الندى، حتى لقد شك بعض المؤرخين أن المعتضد قد يكون قَصَد إلى إفقار خمارويه وهو ما نستبعده بلا شك، ونرى أن هذا الإسراف إنما هو لغرض التفاخر والتباهي وبقائه كأسطورة على مر التاريخ.
لم يُبق خمارويه «خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها، فكان من جملته: دكة أربع قطع من ذهب، عليها قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هون من ذهب... وحمل معها ما لم يُرَ مثله، ولا يسمع به... ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته أمر فبنى لها على رأس كل مرحلة تنزل بها قصر، فيما بين مصر وبغداد... فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصرًا قد فرش فيه جميع ما يحتاج إليه، وعُلِّقت فيه الستور، وأعد فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة، كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس».
فرحة لم تكتمل!
وصلت قطر الندى إلى بغداد (281هـ)، في يوم من أيام بغداد، وكان الزفاف على المعتضد (5 ربيع الأول 282هـ)، وصفت العلاقة بين الخلافة والدولة الطولونية وبدا أن الصفحة قد طويت وأن الأيام القادمة هي أيام الهناء.
إلا أن شهورا معدودة حملت جديدا غير متوقع، ذلك أن خمارويه بن أحمد بن طولون قُتِل على فراشه على يد بعض خدمه (ذي الحجة 282هـ)، وتولى الأمر من بعده ابنه جيش، لكنه لم يكمل في الحكم إلا ستة أشهر ثم قتله أخوه هارون، وتولى مكانه، وكان هذا بداية اضطراب الدولة الطولونية، التي كانت قد بلغت شأوا عظيما، فانحدرت بسرعة غير متوقعة إلى الانهيار.
التزم هارون بن خمارويه بأداء مليون ونصف دينار إلى الخلافة كل عام، فأقره المعتضد على هذا، فتفرغ هارون لتثبيت أمره في الولايات التابعة له في مصر والشام، ثم تنازل هارون عن ولايات قنسرين والعواصم وسلمها للخلافة (286هـ) مقابل أن تقره الخلافة على ما في ملكه من مصر والشام، وعلى أن يدفع لها سنويا نحو نصف مليون دينار. وهذا في حد ذاته دليل على ضعف الدولة الطولونية.
في العام التالي (287هـ) توفيت قطر الندى بنت خمارويه، زوجة المعتضد، فكأن عُرسها كان عُرس العلاقة بين الخلافة ودولة أبيها، فلما انقضى العُرس انقضى زمانها!
وهكذا تفعل الدنيا بالملوك.. ينفقون ما استطاعوا لحفظ عروشهم ثم يأتيهم الغيب بما ينقض كل أحلامهم، فليس إلا أيام أو شهور حتى ينتقل من القصر إلى القبر، أو من العرش إلى السجن!!
تلاقت الرغبتان، رغبة خمارويه بن أحمد بن طولون ورغبة المعتضد في إنهاء النزاع بين الدولة العباسية والطولونية، ولقد كان هذا سهلا فيما يخص الطولونيين، إذ إنهم ليسوا دولة دعوة كما هو الحال مع العلويين والخوارج، وليسوا من العرب فينافسون العباسيين على الخلافة، وإنما يناسبهم أن يكونوا كالأغالبة في إفريقية والطاهريين في خراسان والسامانيين فيما وراء النهر، دول تتمتع بحكم ذاتي مع الانضواء تحت راية الخلافة وربما دفع مبلغ من الأموال سنويا كدليل على هذا الانضواء وقياما بواجبها نحو السلطة المركزية.. كذلك لم يكن الخلاف بين الموفق وابن طولون أكثر من الخلاف السياسي، فليس بينهما ثارات شخصية أو حروب طويلة.
بادر خمارويه بإرسال الهدايا والتحف إلى المعتضد أول توليه الخلافة (279هـ)، وعرض على المعتضد بنته قطر الندى لتتزوج من ابن المعتضد، وبهذا العرض أراد خمارويه توثيقا للروابط وإنهاء للنزاع القديم وضمانة بألا يخالف خمارويه على المعتضد، فتلقى المعتضد كل هذا بالحفاوة والإكرام، وعاد الوزير بهذه الرسالة (25 ربيع الأول 280هـ) باتفاق يقتضي دفع مائتي ألف دينار للخلافة عن السنين الماضية، وثلاثمائة ألف دينار في كل سنة، واتخذ المعتضد قطر الندى زوجة له
بصداق مليون درهم كدليل على مزيد من التكريم.
وبدأ خمارويه في التجهيز الأسطوري لقطر الندى..
الزفاف الأسطوري
وقد فاضت كتب التاريخ بأنباء هذا الزفاف الأسطوري الذي صنعه خمارويه لابنته قطر الندى، حتى لقد شك بعض المؤرخين أن المعتضد قد يكون قَصَد إلى إفقار خمارويه وهو ما نستبعده بلا شك، ونرى أن هذا الإسراف إنما هو لغرض التفاخر والتباهي وبقائه كأسطورة على مر التاريخ.
لم يُبق خمارويه «خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها، فكان من جملته: دكة أربع قطع من ذهب، عليها قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة، ومائة هون من ذهب... وحمل معها ما لم يُرَ مثله، ولا يسمع به... ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته أمر فبنى لها على رأس كل مرحلة تنزل بها قصر، فيما بين مصر وبغداد... فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد، فإذا وافت المنزل وجدت قصرًا قد فرش فيه جميع ما يحتاج إليه، وعُلِّقت فيه الستور، وأعد فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة، كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس».
فرحة لم تكتمل!
وصلت قطر الندى إلى بغداد (281هـ)، في يوم من أيام بغداد، وكان الزفاف على المعتضد (5 ربيع الأول 282هـ)، وصفت العلاقة بين الخلافة والدولة الطولونية وبدا أن الصفحة قد طويت وأن الأيام القادمة هي أيام الهناء.
إلا أن شهورا معدودة حملت جديدا غير متوقع، ذلك أن خمارويه بن أحمد بن طولون قُتِل على فراشه على يد بعض خدمه (ذي الحجة 282هـ)، وتولى الأمر من بعده ابنه جيش، لكنه لم يكمل في الحكم إلا ستة أشهر ثم قتله أخوه هارون، وتولى مكانه، وكان هذا بداية اضطراب الدولة الطولونية، التي كانت قد بلغت شأوا عظيما، فانحدرت بسرعة غير متوقعة إلى الانهيار.
التزم هارون بن خمارويه بأداء مليون ونصف دينار إلى الخلافة كل عام، فأقره المعتضد على هذا، فتفرغ هارون لتثبيت أمره في الولايات التابعة له في مصر والشام، ثم تنازل هارون عن ولايات قنسرين والعواصم وسلمها للخلافة (286هـ) مقابل أن تقره الخلافة على ما في ملكه من مصر والشام، وعلى أن يدفع لها سنويا نحو نصف مليون دينار. وهذا في حد ذاته دليل على ضعف الدولة الطولونية.
في العام التالي (287هـ) توفيت قطر الندى بنت خمارويه، زوجة المعتضد، فكأن عُرسها كان عُرس العلاقة بين الخلافة ودولة أبيها، فلما انقضى العُرس انقضى زمانها!
وهكذا تفعل الدنيا بالملوك.. ينفقون ما استطاعوا لحفظ عروشهم ثم يأتيهم الغيب بما ينقض كل أحلامهم، فليس إلا أيام أو شهور حتى ينتقل من القصر إلى القبر، أو من العرش إلى السجن!!
كيف بدأ حكم العسكر في التاريخ الإسلامي؟!
لقد كان الوضع أمام المعتصم كالآتي:
ثورة بابك في أذربيجان تستفحل ولا يكاد ينفع معها قائدٌ فارسٌ ولا جيشٌ باسلٌ، وقد زادت خطورتها بالتحالف الذي تم بين بابك وبين الروم، فصار هؤلاء يقتنصون فرصة انشغال أولئك بحرب المسلمين معهم فيهجموا من ناحيتهم، كذلك ثورة الزط في البصرة وما حولها لا تزال قائمة ولئن استمرت فإن بغداد ستدخل في حالة ركود تجاري وأزمة اقتصادية مؤثِّرة.. هذا على مستوى الاضطرابات.
وأما على مستوى رجال الدولة فقد «وجد المعتصم نفسه في وضع حرج، فقد خيَّب المأمون أمل الخراسانيين من جديد بنكبته لبني سهل وبتركه لمرو ورجوعه إلى بغداد، وكان العرب في وضع متضعضع بعد مقتل الأمين، وزاد الطين بلة التفاف قسم كبير من الخراسانيين وجندهم حول العباس بن المأمون ضد المعتصم، فنَكَّل بزعمائهم وأساء الظن بهم، وكانت الدولة مهددة بثورة بابك المستفحلة، وبخطر البيزنطيين على الحدود، وبتذمر أهل الشام ومصر، فكان المعتصم بحاجة إلى عنصر عسكري جديد يسند سلطانه، فالتجأ إلى عنصر بدأ يتوارد كرقيق إلى البلاد الإسلامية قبله، كما أخذ الإسلام ينتشر في بلاده بصورة بطيئة، وذلك هو عنصر الترك... وكانت خطوة المعتصم هذه بعيدة المدى بنتائجها، فالترك آنئذ شعب بدوي ميزته الوحيدة الشجاعة العسكرية، فهو لا يفهم الأسس المعنوية للدولة العباسية، ولا خبرة له بالإدارة، ومجرَّد من كل ثقافة».
على أنه ينبغي أن ننتبه إلى أن بداية الأتراك لم تكن من المعتصم، وإنما بدأت منذ المأمون، إلَّا أنَّ المعتصم استكثر منهم فزاد في شرائهم من بلادهم بل واشترى ما كان منهم مملوكا في بغداد من أصحابهم وجعل اعتماده عليهم حتى بلغ عددهم لديه أربعة آلاف ثم ما زالوا يزيدون حتى بلغوا نحوا من عشرين ألفًا، فشكلوا فرقة متميزة عن الجند وكانت أزياؤهم أرفع أنواع الديباج وعليها الأحزمة والزخارف المُذَهَبَّة.
ثم إن المعتصم بطبيعته الأقرب إلى العسكرية من المدنية ركز كل اهتمامه على تقوية الجانب العسكري فقيل في شأنه «ملك من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره»، وهو وإن استكثر من الأتراك واعتمد عليهم إلا أنه لم يهمل الآخرين تمامًا، بل كوَّن قسما آخر من الجيش سماه «المغاربة» وكان فيه جنود من حوف مصر وحوف اليمن وحوف قيس وغيرهم.
وهكذا، فلئن كان المأمون قد خاف من مساهمة الجند والأمراء في الانقلاب على أصحاب الخلافة كالأمين وإبراهيم بن المهدي فقد رأى المعتصم كيف كان هذا وشيكا عليه هو ذاته!
وإذن فقد كانت المزية الكبرى للأتراك متمثلة في قوتهم العسكرية مع خُلُوِّهم من الأفكار المتمردة كالشعوبية والعلوية والخارجية، فيما كانت المشكلة الكبرى أنهم قوم بلا حضارة، يغلب عليهم طابع الجفاء والغلظة، غير مستوعبين للمعاني المدنية الحضارية والأصول التي قامت عليها الخلافة العباسية.
وقد زرع الأتراك على هذين السبيلين أعمالًا مؤثِّرة، فلقد انتفعت الدولة والخلافة بقوتهم العسكرية أيما انتفاع ولكنها انتكست بعسكريتهم وبداوتهم وجهلهم بالحضارة والمدنية أسوأ انتكاس!
فعلى المستوى العسكري:
أنقذوا الدولة العباسية عسكريًّا، وحافظوا على بقائها، وحاربوا الثورات التي اشتعلت في الشرق والغرب والشمال والجنوب وأخمدوها، وبهم ظلت الخلافة العباسية كيانا يحتفظ بالقوة والصلابة والوجود.. وسيأتي هذا مفصلا في سياق استعراضنا لتاريخ الدولة العباسية، ولربما لو أن المعتصم لم يهتد لاستخدام الجند الأتراك لكانت الخلافة العباسية نسخة أخرى من الخلافة الأموية التي ما أكملت المائة عام حتى انهارت بعد أن أنهكتها الثورات وحركات التمرد.. لقد أعطى الأتراك دولة العباسيين مائة عام على الأقل من الحياة!
ولم تكن قوة الأتراك العسكرية كقوة الفارسيين بل كان التركي أقوى وأصبر على القتال بطبيعته البدوية حتى إنه إذا «سار التركي في غير عساكر الترك، فسار القوم عشرة أميال سار عشرين ميلًا؛ لأنه ينقطع عن العسكر يمنةً ويسرة، ويسرع في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية في طلب الصيد؛ وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع، (فإذا ضعف الناس عن المسير واستكانوا للراحة) ترى التركي في تلك الحال وقد سار ضعف ما ساروا وقد أتعب منكبيه كثرة النزع، يرى قرب المنزل عيرًا أو ظبيًا، أو عرض له ثعلب أو أرنب، فيركض ركض مبتدئ مستأنف، كأن الذي سار ذلك السير وتعب ذلك التعب غيره»، كما أن التركي -أيضًا- قليل التكلفة يقوم بشئونه، فهو «الراعي، وهو السائس وهو الراكض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو الفارس، والتركي الواحد أُمَّةٌ على حدة»، وهو يصنع سيفه بنفسه منذ إذابة الحديد وتشكيله وتحديده وصناعة مقبضه وغمده، وكذلك باقي السلاح دون أن يستعين بصانع.
لقد كان الوضع أمام المعتصم كالآتي:
ثورة بابك في أذربيجان تستفحل ولا يكاد ينفع معها قائدٌ فارسٌ ولا جيشٌ باسلٌ، وقد زادت خطورتها بالتحالف الذي تم بين بابك وبين الروم، فصار هؤلاء يقتنصون فرصة انشغال أولئك بحرب المسلمين معهم فيهجموا من ناحيتهم، كذلك ثورة الزط في البصرة وما حولها لا تزال قائمة ولئن استمرت فإن بغداد ستدخل في حالة ركود تجاري وأزمة اقتصادية مؤثِّرة.. هذا على مستوى الاضطرابات.
وأما على مستوى رجال الدولة فقد «وجد المعتصم نفسه في وضع حرج، فقد خيَّب المأمون أمل الخراسانيين من جديد بنكبته لبني سهل وبتركه لمرو ورجوعه إلى بغداد، وكان العرب في وضع متضعضع بعد مقتل الأمين، وزاد الطين بلة التفاف قسم كبير من الخراسانيين وجندهم حول العباس بن المأمون ضد المعتصم، فنَكَّل بزعمائهم وأساء الظن بهم، وكانت الدولة مهددة بثورة بابك المستفحلة، وبخطر البيزنطيين على الحدود، وبتذمر أهل الشام ومصر، فكان المعتصم بحاجة إلى عنصر عسكري جديد يسند سلطانه، فالتجأ إلى عنصر بدأ يتوارد كرقيق إلى البلاد الإسلامية قبله، كما أخذ الإسلام ينتشر في بلاده بصورة بطيئة، وذلك هو عنصر الترك... وكانت خطوة المعتصم هذه بعيدة المدى بنتائجها، فالترك آنئذ شعب بدوي ميزته الوحيدة الشجاعة العسكرية، فهو لا يفهم الأسس المعنوية للدولة العباسية، ولا خبرة له بالإدارة، ومجرَّد من كل ثقافة».
على أنه ينبغي أن ننتبه إلى أن بداية الأتراك لم تكن من المعتصم، وإنما بدأت منذ المأمون، إلَّا أنَّ المعتصم استكثر منهم فزاد في شرائهم من بلادهم بل واشترى ما كان منهم مملوكا في بغداد من أصحابهم وجعل اعتماده عليهم حتى بلغ عددهم لديه أربعة آلاف ثم ما زالوا يزيدون حتى بلغوا نحوا من عشرين ألفًا، فشكلوا فرقة متميزة عن الجند وكانت أزياؤهم أرفع أنواع الديباج وعليها الأحزمة والزخارف المُذَهَبَّة.
ثم إن المعتصم بطبيعته الأقرب إلى العسكرية من المدنية ركز كل اهتمامه على تقوية الجانب العسكري فقيل في شأنه «ملك من آلات الحرب والدواب ما لم يتفق لغيره»، وهو وإن استكثر من الأتراك واعتمد عليهم إلا أنه لم يهمل الآخرين تمامًا، بل كوَّن قسما آخر من الجيش سماه «المغاربة» وكان فيه جنود من حوف مصر وحوف اليمن وحوف قيس وغيرهم.
وهكذا، فلئن كان المأمون قد خاف من مساهمة الجند والأمراء في الانقلاب على أصحاب الخلافة كالأمين وإبراهيم بن المهدي فقد رأى المعتصم كيف كان هذا وشيكا عليه هو ذاته!
وإذن فقد كانت المزية الكبرى للأتراك متمثلة في قوتهم العسكرية مع خُلُوِّهم من الأفكار المتمردة كالشعوبية والعلوية والخارجية، فيما كانت المشكلة الكبرى أنهم قوم بلا حضارة، يغلب عليهم طابع الجفاء والغلظة، غير مستوعبين للمعاني المدنية الحضارية والأصول التي قامت عليها الخلافة العباسية.
وقد زرع الأتراك على هذين السبيلين أعمالًا مؤثِّرة، فلقد انتفعت الدولة والخلافة بقوتهم العسكرية أيما انتفاع ولكنها انتكست بعسكريتهم وبداوتهم وجهلهم بالحضارة والمدنية أسوأ انتكاس!
فعلى المستوى العسكري:
أنقذوا الدولة العباسية عسكريًّا، وحافظوا على بقائها، وحاربوا الثورات التي اشتعلت في الشرق والغرب والشمال والجنوب وأخمدوها، وبهم ظلت الخلافة العباسية كيانا يحتفظ بالقوة والصلابة والوجود.. وسيأتي هذا مفصلا في سياق استعراضنا لتاريخ الدولة العباسية، ولربما لو أن المعتصم لم يهتد لاستخدام الجند الأتراك لكانت الخلافة العباسية نسخة أخرى من الخلافة الأموية التي ما أكملت المائة عام حتى انهارت بعد أن أنهكتها الثورات وحركات التمرد.. لقد أعطى الأتراك دولة العباسيين مائة عام على الأقل من الحياة!
ولم تكن قوة الأتراك العسكرية كقوة الفارسيين بل كان التركي أقوى وأصبر على القتال بطبيعته البدوية حتى إنه إذا «سار التركي في غير عساكر الترك، فسار القوم عشرة أميال سار عشرين ميلًا؛ لأنه ينقطع عن العسكر يمنةً ويسرة، ويسرع في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية في طلب الصيد؛ وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع، (فإذا ضعف الناس عن المسير واستكانوا للراحة) ترى التركي في تلك الحال وقد سار ضعف ما ساروا وقد أتعب منكبيه كثرة النزع، يرى قرب المنزل عيرًا أو ظبيًا، أو عرض له ثعلب أو أرنب، فيركض ركض مبتدئ مستأنف، كأن الذي سار ذلك السير وتعب ذلك التعب غيره»، كما أن التركي -أيضًا- قليل التكلفة يقوم بشئونه، فهو «الراعي، وهو السائس وهو الراكض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو الفارس، والتركي الواحد أُمَّةٌ على حدة»، وهو يصنع سيفه بنفسه منذ إذابة الحديد وتشكيله وتحديده وصناعة مقبضه وغمده، وكذلك باقي السلاح دون أن يستعين بصانع.
وبالجملة: فالأتراك «في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة». وقد أكثر الجاحظ في نقل أقوال القادة وخبراء الحروب في قوة الترك وشجاعتهم ومواهبهم في القتال في رسالته «مناقب الترك».
وعلى مستوى البداوة والجهل بالمدنية والحضارة:
بدا واضحًا منذ اللحظة الأولى أن القوم عسكريون وبدو أقحاح، فنشبت بينهم وبين أهل بغداد الاشتباكات والمعارك فلا هؤلاء استوعبوا أنهم في عاصمة الدنيا ثقافة وحضارة ولا هؤلاء تحملوا بينهم قوما بأخلاق العسكر والصحراء.
وأدرك المعتصم نفسه الفارق بين الأتراك وبين الفارسيين، وبدا متحسرا وهو يسأل إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الطاهري -والي بغداد- في لحظة صفاء ومودة: «يا أبا الحسين، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك. فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين فإنما انا عبدك وابن عبدك: قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين فقد رأيت وسمعت وعبد الله بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله وأنت فأنت والله لا يتعارض السلطان منك أبدًا وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد، وأنا اصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره وأشناس ففشل آيه وإيتاخ فلا شيء ووصيف فلا مغنى فيه. فقلت: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أجيب على أمان من غضبك؟ قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها. قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب».
ومن الفوارق المهمَّة بين الفرس والأتراك أن علاقة العباسيين بالفارسيين كانت ثمرة دعاية طويلة كان الترك بعيدين عن تأثيرها، فلم يكن يربطهم بالخلفاء ولاء روحي أو تفاهم عقلي.
وبعد وفاة المعتصم استولى القادة الأتراك شيئًا فشيئًا على مقدرات الدولة، وعظم نفوذهم، ودخلت بهم الدولة الإسلامية لأول مرة في مرحلة «الحكم العسكري» بكل ما فيه من سلبيات وكوارث بالغة الضرر على الأُمَّة والخلافة والدولة، لقد طاولوا الخلفاء، بل جاوزوهم واستولوا عليهم، وصاروا يولون ويعزلون بل ويعاقبون ويقتلون، مما أذهب هيبة الخليفة كشخص وهيبة الخلافة كمنصب، فيما ظل كيان الخلافة قائما، وبدأت بسببهم ظاهرة جديدة في التاريخ الإسلامي، ظاهرة من يملك ولا يحكم، وهي ظاهرة يمثلها قول الخليفة المغلوب على أمره في لحظة طلب فيها مالا ولم يُعطه:
أليس من العجائب أن مثلي يــــــرى ما قلَّ ممتنعا عليه
وتُملك باسمه الدنيــــا جميعًا وما من ذاك شيء في يديه
وقد تحمل المعتصم على هذا المستوى نقدًا كثيرًا من المؤرِّخين، غير أن أحدًا -فيما أعلم- لم يقدم بديلا كان على المعتصم اتخاذه في هذه الظروف العصيبة التي استلم فيها أمر الخلافة! وما من الإنصاف أن يتحمل المعتصم مسئولية ضعف الخلفاء من بعده وتسلط الأتراك عليهم، فكم من مريد للخير لا يدركه، والحمد لله الذي لم يعاملنا بنتائج أعمالنا بل جعل للمجتهد المخطئ أجرًا!
ولم يكن اعتماد الخلافة العباسية على الأتراك من الأمور التي مرت بسهولة آنذاك، بل نلمح في رسالة الفتح بن خاقان -وزير الخليفة المتوكل فيما بعد- إلى الجاحظ رفضا للقول بأن الأتراك عرق غير الخراسانيين ومحاولة كلها إلحاح وإصرار -وربما قلنا استعانت بالتلفيق والتدليس- للتقريب بينهما على هذا النحو «الخراساني والتركي أَخَوَان، وأن الحيِّز واحد، وأن حكم ذلك الشرق، والقضية على ذلك الصُّقع متفق غير مختلف، ومتقارب غير متفاوت. وأن الأعراق في الأصل إن لم تكن كانت راسخة فقد كانت متشابهة، وحدود البلاد المشتملة عليهم إن لم تكن متساوية فإنها متناسبة، وكلهم خراساني في الجملة وإن تميزوا ببعض الخصائص، فافترقوا ببعض الوجوه.
وزَعَمْتَ أن اختلاف التركي والخراساني ليس كالاختلاف بين العجمي والعربي، ولا كالاختلاف بين الرومي والصقلي والزغبي والحبشي، فضلًا عما هو أبعد جوهرًا وأشد خلافًا. بل كاختلاف ما بين المكي والمدني، والبدوي والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال: أن هذيلًا أكراد العرب، وكاختلاف ما بين من نزل الحزون، وبين من نزل البطون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار.
وزعمتَ أن هؤلاء وإن اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضًا في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميمٍ، وسفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي أكثرها على خلاف لغة حِمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص...».
لكن الزمان أكمل مسيرته، فقد كان زمان الخراسانيين في إدبار وزمان الأتراك في إقبال، وما هي إلا أعوام حتى صار الأتراك رجال الدولة، بل ودخلت الخلافة العباسية ذاتها «عصر سيطرة الأتراك»!!
وعلى مستوى البداوة والجهل بالمدنية والحضارة:
بدا واضحًا منذ اللحظة الأولى أن القوم عسكريون وبدو أقحاح، فنشبت بينهم وبين أهل بغداد الاشتباكات والمعارك فلا هؤلاء استوعبوا أنهم في عاصمة الدنيا ثقافة وحضارة ولا هؤلاء تحملوا بينهم قوما بأخلاق العسكر والصحراء.
وأدرك المعتصم نفسه الفارق بين الأتراك وبين الفارسيين، وبدا متحسرا وهو يسأل إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الطاهري -والي بغداد- في لحظة صفاء ومودة: «يا أبا الحسين، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك. فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين فإنما انا عبدك وابن عبدك: قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين فقد رأيت وسمعت وعبد الله بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله وأنت فأنت والله لا يتعارض السلطان منك أبدًا وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد، وأنا اصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره وأشناس ففشل آيه وإيتاخ فلا شيء ووصيف فلا مغنى فيه. فقلت: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أجيب على أمان من غضبك؟ قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها. قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب».
ومن الفوارق المهمَّة بين الفرس والأتراك أن علاقة العباسيين بالفارسيين كانت ثمرة دعاية طويلة كان الترك بعيدين عن تأثيرها، فلم يكن يربطهم بالخلفاء ولاء روحي أو تفاهم عقلي.
وبعد وفاة المعتصم استولى القادة الأتراك شيئًا فشيئًا على مقدرات الدولة، وعظم نفوذهم، ودخلت بهم الدولة الإسلامية لأول مرة في مرحلة «الحكم العسكري» بكل ما فيه من سلبيات وكوارث بالغة الضرر على الأُمَّة والخلافة والدولة، لقد طاولوا الخلفاء، بل جاوزوهم واستولوا عليهم، وصاروا يولون ويعزلون بل ويعاقبون ويقتلون، مما أذهب هيبة الخليفة كشخص وهيبة الخلافة كمنصب، فيما ظل كيان الخلافة قائما، وبدأت بسببهم ظاهرة جديدة في التاريخ الإسلامي، ظاهرة من يملك ولا يحكم، وهي ظاهرة يمثلها قول الخليفة المغلوب على أمره في لحظة طلب فيها مالا ولم يُعطه:
أليس من العجائب أن مثلي يــــــرى ما قلَّ ممتنعا عليه
وتُملك باسمه الدنيــــا جميعًا وما من ذاك شيء في يديه
وقد تحمل المعتصم على هذا المستوى نقدًا كثيرًا من المؤرِّخين، غير أن أحدًا -فيما أعلم- لم يقدم بديلا كان على المعتصم اتخاذه في هذه الظروف العصيبة التي استلم فيها أمر الخلافة! وما من الإنصاف أن يتحمل المعتصم مسئولية ضعف الخلفاء من بعده وتسلط الأتراك عليهم، فكم من مريد للخير لا يدركه، والحمد لله الذي لم يعاملنا بنتائج أعمالنا بل جعل للمجتهد المخطئ أجرًا!
ولم يكن اعتماد الخلافة العباسية على الأتراك من الأمور التي مرت بسهولة آنذاك، بل نلمح في رسالة الفتح بن خاقان -وزير الخليفة المتوكل فيما بعد- إلى الجاحظ رفضا للقول بأن الأتراك عرق غير الخراسانيين ومحاولة كلها إلحاح وإصرار -وربما قلنا استعانت بالتلفيق والتدليس- للتقريب بينهما على هذا النحو «الخراساني والتركي أَخَوَان، وأن الحيِّز واحد، وأن حكم ذلك الشرق، والقضية على ذلك الصُّقع متفق غير مختلف، ومتقارب غير متفاوت. وأن الأعراق في الأصل إن لم تكن كانت راسخة فقد كانت متشابهة، وحدود البلاد المشتملة عليهم إن لم تكن متساوية فإنها متناسبة، وكلهم خراساني في الجملة وإن تميزوا ببعض الخصائص، فافترقوا ببعض الوجوه.
وزَعَمْتَ أن اختلاف التركي والخراساني ليس كالاختلاف بين العجمي والعربي، ولا كالاختلاف بين الرومي والصقلي والزغبي والحبشي، فضلًا عما هو أبعد جوهرًا وأشد خلافًا. بل كاختلاف ما بين المكي والمدني، والبدوي والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال: أن هذيلًا أكراد العرب، وكاختلاف ما بين من نزل الحزون، وبين من نزل البطون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار.
وزعمتَ أن هؤلاء وإن اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضًا في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميمٍ، وسفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي أكثرها على خلاف لغة حِمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص...».
لكن الزمان أكمل مسيرته، فقد كان زمان الخراسانيين في إدبار وزمان الأتراك في إقبال، وما هي إلا أعوام حتى صار الأتراك رجال الدولة، بل ودخلت الخلافة العباسية ذاتها «عصر سيطرة الأتراك»!!
عصر العسكر!!
حين نتتبع المسار التاريخي لانحراف الأمة عن الحكم الرشيد الذي مثله العصر النبوي والخلافة الراشدة سنضع أيدينا حتما على هذه المحطات:
1- ظهور المذهب الشيعي الذي يرى بأن الخلافة «حق» لعلي وآل البيت من بعده، وليست اختيارا حرا ترضاه الأمة فهي التي تنصب الخليفة وهي التي تعزله إن رأت منه اعوجاجا.
2- ظهور أول خليفة يحكم بالتغلب، وهو عبد الملك بن مروان، حيث بايعته الأمة بعد أن استطاع أن يوحد البلاد بالغلبة ويهزم عبد الله بن الزبير في مكة.
3- اعتقاد الأمويين أنهم أهل لهذه الخلافة بقدر الله وبما أثبتوا واقعيا أنهم الفئة الأقوى والأشد شوكة فيها، والأقدر على حكمها وإعادة مجدها.
4- قيام الدولة العباسية على الفكرة الشيعية التي تقول بأن الخلافة حق موروث، فتسمى صاحب الدعوة ثم الخليفة بلفظ «الإمام» بما له من مدلولات دينية، ثم السجال العباسي العلوي حول الأحقية «الدينية» بالخلافة، مما جعل منصب الخلافة وإن كان يُحَصَّل بالشورى نظريا إلا أنه محكوم أيضا باختيار من داخل البيت العباسي (من وجهة نظر العباسيين) أو من داخل البيت العلوي (من وجهة نظر العلويين).
5- وبالتداخل مع عوامل أخرى -من بينها الاحتكاك الحضاري بالأعاجم، وسيأتي الحديث عنه بعد قليل- ظهر الخليفة الضعيف الذي يحظى بهالة التعظيم والاحترام لكونه من البيت النبوي، لكنه ليس أهلا للخلافة، وتوافق هذا مع وجود طبقة عسكرية من الترك، وهم بالنسبة إلى العجم كالأعراب بالنسبة إلى العرب؛ قوم محاربون بلا حضارة، ففتح ضعف الخلافة الباب أمامهم لتأسيس أول حكم عسكري في تاريخ المسلمين.
ونحن إذ نتحدث الآن بعد أكثر من اثني عشر قرنا من تلك اللحظة التاريخية، فإنما يعني هذا أن التجربة الإنسانية من الحكم العسكري قد صارت في حكم الحقيقة التاريخية، ذلك أن اجتماع القوة والسلطة في يد طرف من الأطراف هو باب الاستبداد والفساد والإفساد.
ولذلك يكون الحكم العسكري بداية انهيار الأمة حضاريا ثم عسكريا، ومؤسسا لاستبداد عنيف يعاني منه الجميع، ثم تكون النهاية في العموم هو الاحتلال الأجنبي لهذه الأمة؛ احتلال يستغل ضعفها العسكري أولا ثم ضعفها الحضاري وضعف مقاومتها للاستبداد، وعند هذه النقطة تذوق الأمة ويلات الاحتلال التي أفرزتها ويلات الاستبداد حتى يخرج منها جيل جديد يستلهم أصوله ويبني حركة المقاومة والجهاد التي تكون بداية النصر وإعادة التأسيس من جديد بعد تضحيات عظيمة وهائلة.
والترك كانوا أحد هذه الأمثلة..
لقد بدأوا كجنود محترفين في ظل الدولة فأنقذوها من الانهيار العسكري بعد تسرب الضعف إلى العنصر العربي والفارسي منذ عهد المأمون، واستطاعوا بالفعل إعطاء دفعة جديدة وهائلة لحركة الجهاد، سواء جهاد الروم في الشمال الغربي أو الأرمن في الشمال أو الهنود والصينيين والأتراك فيما وراء النهر، وسطروا في هذه الصفحات تراثا بطوليا رائعا!
لكنهم ما إن خرجوا من حيز الجندية المحترفة وصاروا من رجال السلطة حتى تراجعت قوة الدولة كلها، فضعفت الخلافة وازدادت الاستقلالات في الأطراف وابتدأ الاضطراب في مواقع السلطة بعزل الخلفاء وقتلهم، وما كان الإصلاح يسيرا فإن الأتراك –وهم الذين لم يحتمل أهل بغداد وجودهم لما فيهم من طبع البداوة- كانوا أبعد الناس بحكم تنشئتهم العسكرية عن التفكير في سبيل غير القوة لحل المشكلات.
وطوال عصر سيطرة العسكر لم تعتدل أحوال الخلافة إلا حين ظهر القائد العربي القوي الذي له من الشرعية –وهي في ذلك الوقت: النسب العباسي- ما يجعل أحدا من العسكر الترك لا يجرؤ على منازعته ولا منافسته، وله من القوة العسكرية والبطولة في الحرب والقتال ما يجعله مهابا قويا في عيونهم ونفوسهم فخضع له العسكر الأتراك، فذلك هو الموفق بالله، وكذلك كان الحال في عصر ولده المعتضد، ثم عصر حفيده المكتفي!
فإذا خفتت هذه البطولة العسكرية في عهد المقتدر، عاد الصراع مرة أخرى بين الجناح المدني المتمثل في الخليفة والوزراء وبين الجناح العسكري المتمثل في العسكر الأتراك وقائدهم مؤنس وبعض القادة الآخرين، وصحيح أن مؤنسا كان يفهم ضرورة الشرعية وأنه انزعج لمقتل المقتدر إلا أنه كان وحيدا في إدراك هذا المعنى.. وهكذا، عاد الضعف إلى الخلافة والجناح المدني فعاد انهيار الدولة من جديد وواصلت الأيام سيرتها حتى أسلمها الحكم العسكري التركي إلى الاحتلال العسكري البويهي.
إن إصلاح الدولة العسكرية هو واحد من أصعب الأمور وأكثرها كلفة بالنسبة للشعوب، ونادرا ما استطاع شعب أن يتخلص من حكم عسكري قبل أن يصل إلى مرحلة الاحتلال الأجنبي، وهو إن استطاع هذا فبتضحيات عظيمة!
وحتى لحظة كتابة هذه السطور ما تزال دراسات العلاقات المدنية العسكرية تؤكد ضرورة خضوع القوة العسكرية للسلطة المدنية ذات الشرعية.
حين نتتبع المسار التاريخي لانحراف الأمة عن الحكم الرشيد الذي مثله العصر النبوي والخلافة الراشدة سنضع أيدينا حتما على هذه المحطات:
1- ظهور المذهب الشيعي الذي يرى بأن الخلافة «حق» لعلي وآل البيت من بعده، وليست اختيارا حرا ترضاه الأمة فهي التي تنصب الخليفة وهي التي تعزله إن رأت منه اعوجاجا.
2- ظهور أول خليفة يحكم بالتغلب، وهو عبد الملك بن مروان، حيث بايعته الأمة بعد أن استطاع أن يوحد البلاد بالغلبة ويهزم عبد الله بن الزبير في مكة.
3- اعتقاد الأمويين أنهم أهل لهذه الخلافة بقدر الله وبما أثبتوا واقعيا أنهم الفئة الأقوى والأشد شوكة فيها، والأقدر على حكمها وإعادة مجدها.
4- قيام الدولة العباسية على الفكرة الشيعية التي تقول بأن الخلافة حق موروث، فتسمى صاحب الدعوة ثم الخليفة بلفظ «الإمام» بما له من مدلولات دينية، ثم السجال العباسي العلوي حول الأحقية «الدينية» بالخلافة، مما جعل منصب الخلافة وإن كان يُحَصَّل بالشورى نظريا إلا أنه محكوم أيضا باختيار من داخل البيت العباسي (من وجهة نظر العباسيين) أو من داخل البيت العلوي (من وجهة نظر العلويين).
5- وبالتداخل مع عوامل أخرى -من بينها الاحتكاك الحضاري بالأعاجم، وسيأتي الحديث عنه بعد قليل- ظهر الخليفة الضعيف الذي يحظى بهالة التعظيم والاحترام لكونه من البيت النبوي، لكنه ليس أهلا للخلافة، وتوافق هذا مع وجود طبقة عسكرية من الترك، وهم بالنسبة إلى العجم كالأعراب بالنسبة إلى العرب؛ قوم محاربون بلا حضارة، ففتح ضعف الخلافة الباب أمامهم لتأسيس أول حكم عسكري في تاريخ المسلمين.
ونحن إذ نتحدث الآن بعد أكثر من اثني عشر قرنا من تلك اللحظة التاريخية، فإنما يعني هذا أن التجربة الإنسانية من الحكم العسكري قد صارت في حكم الحقيقة التاريخية، ذلك أن اجتماع القوة والسلطة في يد طرف من الأطراف هو باب الاستبداد والفساد والإفساد.
ولذلك يكون الحكم العسكري بداية انهيار الأمة حضاريا ثم عسكريا، ومؤسسا لاستبداد عنيف يعاني منه الجميع، ثم تكون النهاية في العموم هو الاحتلال الأجنبي لهذه الأمة؛ احتلال يستغل ضعفها العسكري أولا ثم ضعفها الحضاري وضعف مقاومتها للاستبداد، وعند هذه النقطة تذوق الأمة ويلات الاحتلال التي أفرزتها ويلات الاستبداد حتى يخرج منها جيل جديد يستلهم أصوله ويبني حركة المقاومة والجهاد التي تكون بداية النصر وإعادة التأسيس من جديد بعد تضحيات عظيمة وهائلة.
والترك كانوا أحد هذه الأمثلة..
لقد بدأوا كجنود محترفين في ظل الدولة فأنقذوها من الانهيار العسكري بعد تسرب الضعف إلى العنصر العربي والفارسي منذ عهد المأمون، واستطاعوا بالفعل إعطاء دفعة جديدة وهائلة لحركة الجهاد، سواء جهاد الروم في الشمال الغربي أو الأرمن في الشمال أو الهنود والصينيين والأتراك فيما وراء النهر، وسطروا في هذه الصفحات تراثا بطوليا رائعا!
لكنهم ما إن خرجوا من حيز الجندية المحترفة وصاروا من رجال السلطة حتى تراجعت قوة الدولة كلها، فضعفت الخلافة وازدادت الاستقلالات في الأطراف وابتدأ الاضطراب في مواقع السلطة بعزل الخلفاء وقتلهم، وما كان الإصلاح يسيرا فإن الأتراك –وهم الذين لم يحتمل أهل بغداد وجودهم لما فيهم من طبع البداوة- كانوا أبعد الناس بحكم تنشئتهم العسكرية عن التفكير في سبيل غير القوة لحل المشكلات.
وطوال عصر سيطرة العسكر لم تعتدل أحوال الخلافة إلا حين ظهر القائد العربي القوي الذي له من الشرعية –وهي في ذلك الوقت: النسب العباسي- ما يجعل أحدا من العسكر الترك لا يجرؤ على منازعته ولا منافسته، وله من القوة العسكرية والبطولة في الحرب والقتال ما يجعله مهابا قويا في عيونهم ونفوسهم فخضع له العسكر الأتراك، فذلك هو الموفق بالله، وكذلك كان الحال في عصر ولده المعتضد، ثم عصر حفيده المكتفي!
فإذا خفتت هذه البطولة العسكرية في عهد المقتدر، عاد الصراع مرة أخرى بين الجناح المدني المتمثل في الخليفة والوزراء وبين الجناح العسكري المتمثل في العسكر الأتراك وقائدهم مؤنس وبعض القادة الآخرين، وصحيح أن مؤنسا كان يفهم ضرورة الشرعية وأنه انزعج لمقتل المقتدر إلا أنه كان وحيدا في إدراك هذا المعنى.. وهكذا، عاد الضعف إلى الخلافة والجناح المدني فعاد انهيار الدولة من جديد وواصلت الأيام سيرتها حتى أسلمها الحكم العسكري التركي إلى الاحتلال العسكري البويهي.
إن إصلاح الدولة العسكرية هو واحد من أصعب الأمور وأكثرها كلفة بالنسبة للشعوب، ونادرا ما استطاع شعب أن يتخلص من حكم عسكري قبل أن يصل إلى مرحلة الاحتلال الأجنبي، وهو إن استطاع هذا فبتضحيات عظيمة!
وحتى لحظة كتابة هذه السطور ما تزال دراسات العلاقات المدنية العسكرية تؤكد ضرورة خضوع القوة العسكرية للسلطة المدنية ذات الشرعية.
إن طابع الإسلام المدني في الحكم والسياسة ظاهر بوضوح، ومن المؤسف أن يكون هذا جليا لمستشرق مثل جوستاف جرونيباوم –لدينا على إنتاجه ملاحظات وتحفظات- في الوقت الذي لا يكون ظاهرا لبعض أبناء الأمة الإسلامية، وقد رأينا أن ننقل من كلامه هذه الفقرة؛ قال بعد حديث عن الجهاد والشهادة في نظر المسلمين:
«ومع ذلك فإن الحضارة الإسلامية حضارة مدنية، فإن أَضْرُبًا مدنية من صور التطور الإنساني كالعالِم والولي والأديب قد اجتذبت إليها معظم طاقة الإسلام الخلاقة، والمدني يعلو على الجندي في ترتيب الطبقات الاجتماعي، والمفروض أن للوزير –وهو موظف مدني- حق الأسبقية على القائد، يدلك على ذلك أن ما عُقِد من الأبحاث على نظرية الحكم يبحث منصب الوزارة قبل إمارة الحرب، وكثيرا ما تولى الجند –بوصفهم طائفة- حكم الدولة الإسلامية، ولكن هذه السيادة الواقعية (غير الشرعية) لم تغير بأي حال «الإجماع» المنعقد على أن رئاسة الدولة وظيفة مدنية... ومهما يُكْثر الخلفاء من تولي الإمرة على جنده بشخصه، ومهما يكثر الشعراء من التغني بشجاعته، فإنه لم يكن إلا موظفا مدنيا أولا، وجنديا حين تلم المُلِمَّات. وصور الإنسانية المثالية التي هي من خواص الحضارة الإسلامية إنما تتمثل شخصية غير عسكرية وإن واصل القوم استحسان الفضائل العسكرية»
«ومع ذلك فإن الحضارة الإسلامية حضارة مدنية، فإن أَضْرُبًا مدنية من صور التطور الإنساني كالعالِم والولي والأديب قد اجتذبت إليها معظم طاقة الإسلام الخلاقة، والمدني يعلو على الجندي في ترتيب الطبقات الاجتماعي، والمفروض أن للوزير –وهو موظف مدني- حق الأسبقية على القائد، يدلك على ذلك أن ما عُقِد من الأبحاث على نظرية الحكم يبحث منصب الوزارة قبل إمارة الحرب، وكثيرا ما تولى الجند –بوصفهم طائفة- حكم الدولة الإسلامية، ولكن هذه السيادة الواقعية (غير الشرعية) لم تغير بأي حال «الإجماع» المنعقد على أن رئاسة الدولة وظيفة مدنية... ومهما يُكْثر الخلفاء من تولي الإمرة على جنده بشخصه، ومهما يكثر الشعراء من التغني بشجاعته، فإنه لم يكن إلا موظفا مدنيا أولا، وجنديا حين تلم المُلِمَّات. وصور الإنسانية المثالية التي هي من خواص الحضارة الإسلامية إنما تتمثل شخصية غير عسكرية وإن واصل القوم استحسان الفضائل العسكرية»
سلسلة #حكم_العسكر_في_التاريخ
مقدمة
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577203095655950
الحلقة 1
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577564252286501
الحلقة 2
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577567202286206
الحلقة 3
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577569692285957
الحلقة 4
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577575548952038
الحلقة 5
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/580035682039358
الحلقة 6
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/580041885372071
الحلقة 7
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/580976998611893
الحلقة 8
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/581272001915726
الحلقة 9
https://www.facebook.com/…/a.550279081681…/581287861914140/…
الحلقة 10
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/581311198578473
الحلقة 11
https://www.facebook.com/mohammad.elhamy/posts/10151526785286615
الحلقة 12
https://www.facebook.com/…/a.305044412871…/586446241398302/…
الحلقة 13
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/586469104729349
الحلقة 14
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/595223847187208
.. وما تزال السلسلة مستمرة إن شاء الله
مقدمة
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577203095655950
الحلقة 1
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577564252286501
الحلقة 2
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577567202286206
الحلقة 3
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577569692285957
الحلقة 4
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/577575548952038
الحلقة 5
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/580035682039358
الحلقة 6
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/580041885372071
الحلقة 7
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/580976998611893
الحلقة 8
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/581272001915726
الحلقة 9
https://www.facebook.com/…/a.550279081681…/581287861914140/…
الحلقة 10
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/581311198578473
الحلقة 11
https://www.facebook.com/mohammad.elhamy/posts/10151526785286615
الحلقة 12
https://www.facebook.com/…/a.305044412871…/586446241398302/…
الحلقة 13
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/586469104729349
الحلقة 14
https://www.facebook.com/Mohammad.Elhamy.page/posts/595223847187208
.. وما تزال السلسلة مستمرة إن شاء الله
Facebook
المؤرخ محمد إلهامي
بعد التأمل في أحوال التاريخ، وبالذات في فترات #حكم_العسكر، صرت على يقين بأن أفضل عهود حكم العسكر هي التي تنشيء البنيان وتدمر الإنسان.. ثم تزول تلك العهود بما أحدثت من مظالم ليأتي عقاب الله بالاحتلال...
تمزيق القوى من خلال إثارة القوميات..
كتاب جورج فريدمان "المائة عام القادمة" من أهم الكتب التي ينبغي قراءتها، وأستغرب حقيقة أنه لم يترجم حتى الآن رغم أهميته..
كنت قد أشرت إليه في أكثر من مقال [سأضعها في التعليقات] سابق، وكان أبرز ما لفت نظري إليه أن الكتاب الصادر في 2009 (قبل اندلاع الثورات العربية) توقع أن روسيا ستنزل إلى الشرق الأوسط منتصف العقد الثاني منه (وهو ما وقع بالفعل)!
ليس بالضرورة أن يصدق فريدمان ولا أن تصدق توقعاته، لكن أضعف الإيمان أن نقرأ كيف يفكر رجلٌ من أهم رجال الفكر والتنظير والبحث الاستشرافي الأمريكي، لا سيما وهو يحاول أن يحافظ على التفوق الأمريكي، فقصة الكتاب كله هي محاولة توقع خرائط النمو والتغير في العالم، وتقديم النصيحة: كيف تحافظ أمريكا على تفوقها.
في مؤتمر "السلطان عبد الحميد الثاني في الذاكرة العربية" الذي تشرفت بتنظيمه، طُرِحت في بعض الجلسات مسألة استشراف العلاقات العربية التركية، وفي تلك الجلسة ذكرتُ أن جورج فريدمان تحدث في هذا الكتاب عن أن أمريكا ستواجه الصعود التركي بدعم القوميات ومنها القومية العربية.
ومنذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة استسفسر مني عدد من الإخوة حول هذا الموضوع، ولعموم النفع، فقد فضَّلْتُ أن أضع هنا نص كلام فريدمان الذي يتحدث فيه عن أن دعم القوميات هو الوسيلة الأمريكية لتمزيق القوى المناهضة لها في الصين والهند وكوريا وروسيا وتركيا..
وفيما يخص تركيا فإن إثارة القوميات في البلقان والقومية العربية، ليس لأن أمريكا تريد نهضة قومية بل لأجل استنزاف الأتراك.
https://www.facebook.com/mohammad.elhamy/posts/10155900179386615
كتاب جورج فريدمان "المائة عام القادمة" من أهم الكتب التي ينبغي قراءتها، وأستغرب حقيقة أنه لم يترجم حتى الآن رغم أهميته..
كنت قد أشرت إليه في أكثر من مقال [سأضعها في التعليقات] سابق، وكان أبرز ما لفت نظري إليه أن الكتاب الصادر في 2009 (قبل اندلاع الثورات العربية) توقع أن روسيا ستنزل إلى الشرق الأوسط منتصف العقد الثاني منه (وهو ما وقع بالفعل)!
ليس بالضرورة أن يصدق فريدمان ولا أن تصدق توقعاته، لكن أضعف الإيمان أن نقرأ كيف يفكر رجلٌ من أهم رجال الفكر والتنظير والبحث الاستشرافي الأمريكي، لا سيما وهو يحاول أن يحافظ على التفوق الأمريكي، فقصة الكتاب كله هي محاولة توقع خرائط النمو والتغير في العالم، وتقديم النصيحة: كيف تحافظ أمريكا على تفوقها.
في مؤتمر "السلطان عبد الحميد الثاني في الذاكرة العربية" الذي تشرفت بتنظيمه، طُرِحت في بعض الجلسات مسألة استشراف العلاقات العربية التركية، وفي تلك الجلسة ذكرتُ أن جورج فريدمان تحدث في هذا الكتاب عن أن أمريكا ستواجه الصعود التركي بدعم القوميات ومنها القومية العربية.
ومنذ ذلك الوقت وحتى هذه اللحظة استسفسر مني عدد من الإخوة حول هذا الموضوع، ولعموم النفع، فقد فضَّلْتُ أن أضع هنا نص كلام فريدمان الذي يتحدث فيه عن أن دعم القوميات هو الوسيلة الأمريكية لتمزيق القوى المناهضة لها في الصين والهند وكوريا وروسيا وتركيا..
وفيما يخص تركيا فإن إثارة القوميات في البلقان والقومية العربية، ليس لأن أمريكا تريد نهضة قومية بل لأجل استنزاف الأتراك.
https://www.facebook.com/mohammad.elhamy/posts/10155900179386615
Facebook
Log in or sign up to view
See posts, photos and more on Facebook.
تعليق على كتاب «أخبار الدولة العباسية»:
مؤلفه مجهول، أُلِّف في منتصف القرن الثالث الهجري بحسب ما حقق د. عبد العزيز الدوري، وهذا الكتاب يؤرخ للحركة العباسية أيام كانت دعوة وتنظيمًا سريًا، وبدأ الكتاب بفضل العباسيين، وجاء فيه بكل ما استطاع من روايات ترفع من قدر العباسيين (العباس، عبد الله بن عباس، علي بن عبد الله بن عباس) وتضع من قدر غيرهم، أيًّا ما كان هؤلاء الآخرون: أمويين أو تابعين أو صحابة أو خلفاء راشدين أو أم المؤمنين عائشة، وتكاد كل هذه الروايات أن تكون ضعيفة وموضوعة ومكتوبة بنَفَس وغرض شيعي واضح الحقد والكذب، وفيها كل ملامح الرواية الضعيفة من الطول والإسهاب، وكثرة السب والشتم، وكثرة ألفاظ القسم، وهي تستهدف تثبيت القول بأن الإمامة حق لآل البيت لا يتعداهم إلى غيرهم، وهو قول أُلِّفَ لغرض السياسة؛ ليُؤَكِّد على أن خلافة العباسيين إنما تصحيح للوضع الخاطئ، فهو حافل بروايات تبادل السباب بين معاوية وابن عباس (رضي الله عنهما)، وفيها يستطيع ابن عباس –دائمًا- إفحام معاوية إفحاما مهينا!!
وأغلب الظن أن هذه الروايات وضعت في أوائل العصر العباسي، لا سيما عهد أبي جعفر المنصور، حيث كانت المعركة على شرعية الخلافة على أشدها بين العلويين والعباسيين، كما يمكن أن يكون بعضها وُضِع منذ أواخر العصر الأموي في إطار الأسلحة التي استخدمتها الدعوة العباسية لإثبات الأحقية في الخلافة لآل البيت، ولاشك أن مثل هذه الروايات هي التي ملأت النفوس بالحقد والثارات وجعلت ثورة العباسيين بهذه الدموية، وما وُضِع منها بعدئذٍ في عهد المنصور كان يساهم في تبرير هذه الدموية وإتاحة الأعذار لها.
إن مطالعة هذه الروايات تشرح حال زمنها وأفكار العباسيين فيها، ونعلم منها حقًّا أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله، قد هيَّأ الله الرجال الأفذاذ الذين وضعوا علم السند، وناقشوا صلاحية الرجال لرواية التاريخ، ولولا هذه النعمة على الأمة لكانت مصادرنا موضع التشكك والاضطراب والاختلاف.. فالحمد لله رب العالمين.
ويلاحظ في هذا الكتاب -أيضًا- كثرة النبوءات والعلامات والأحاديث المكذوبة التي تُبَشِّر بقدوم العباسيين وما إلى ذلك، لكنه على الرغم مما فيه يمثل المصدر الرئيسي في التأريخ لفترة الثورة العباسية حتى قيام الدولة، والمعلومات التي أوردها بهذا الخصوص لا توجد في غيره، وتمتاز بالتفصيل والشمول والتتبع الدقيق لمسارات الحركة العباسية.
مؤلفه مجهول، أُلِّف في منتصف القرن الثالث الهجري بحسب ما حقق د. عبد العزيز الدوري، وهذا الكتاب يؤرخ للحركة العباسية أيام كانت دعوة وتنظيمًا سريًا، وبدأ الكتاب بفضل العباسيين، وجاء فيه بكل ما استطاع من روايات ترفع من قدر العباسيين (العباس، عبد الله بن عباس، علي بن عبد الله بن عباس) وتضع من قدر غيرهم، أيًّا ما كان هؤلاء الآخرون: أمويين أو تابعين أو صحابة أو خلفاء راشدين أو أم المؤمنين عائشة، وتكاد كل هذه الروايات أن تكون ضعيفة وموضوعة ومكتوبة بنَفَس وغرض شيعي واضح الحقد والكذب، وفيها كل ملامح الرواية الضعيفة من الطول والإسهاب، وكثرة السب والشتم، وكثرة ألفاظ القسم، وهي تستهدف تثبيت القول بأن الإمامة حق لآل البيت لا يتعداهم إلى غيرهم، وهو قول أُلِّفَ لغرض السياسة؛ ليُؤَكِّد على أن خلافة العباسيين إنما تصحيح للوضع الخاطئ، فهو حافل بروايات تبادل السباب بين معاوية وابن عباس (رضي الله عنهما)، وفيها يستطيع ابن عباس –دائمًا- إفحام معاوية إفحاما مهينا!!
وأغلب الظن أن هذه الروايات وضعت في أوائل العصر العباسي، لا سيما عهد أبي جعفر المنصور، حيث كانت المعركة على شرعية الخلافة على أشدها بين العلويين والعباسيين، كما يمكن أن يكون بعضها وُضِع منذ أواخر العصر الأموي في إطار الأسلحة التي استخدمتها الدعوة العباسية لإثبات الأحقية في الخلافة لآل البيت، ولاشك أن مثل هذه الروايات هي التي ملأت النفوس بالحقد والثارات وجعلت ثورة العباسيين بهذه الدموية، وما وُضِع منها بعدئذٍ في عهد المنصور كان يساهم في تبرير هذه الدموية وإتاحة الأعذار لها.
إن مطالعة هذه الروايات تشرح حال زمنها وأفكار العباسيين فيها، ونعلم منها حقًّا أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله، قد هيَّأ الله الرجال الأفذاذ الذين وضعوا علم السند، وناقشوا صلاحية الرجال لرواية التاريخ، ولولا هذه النعمة على الأمة لكانت مصادرنا موضع التشكك والاضطراب والاختلاف.. فالحمد لله رب العالمين.
ويلاحظ في هذا الكتاب -أيضًا- كثرة النبوءات والعلامات والأحاديث المكذوبة التي تُبَشِّر بقدوم العباسيين وما إلى ذلك، لكنه على الرغم مما فيه يمثل المصدر الرئيسي في التأريخ لفترة الثورة العباسية حتى قيام الدولة، والمعلومات التي أوردها بهذا الخصوص لا توجد في غيره، وتمتاز بالتفصيل والشمول والتتبع الدقيق لمسارات الحركة العباسية.
وكان عصر سيطرة الترك فاتحة لسابقة جديدة في التاريخ الإسلامي، وهو سلطان العجم على العرب.. ولهذا مسار آخر، وقصة أخرى هذا موجزها:
1- لقد كانت بداوة العرب من أسرار نزول الرسالة عليهم، فهم القوم الذين لم يتلوثوا بعد بالعبودية لحاكم أو الخضوع لآداب امبراطورية تجعل منهم شعبا قابلا للمذلة، بل كانت بداوتهم تجعلهم أقرب إلى الفطرة؛ فنفوسهم تحمل الكرامة والعزة والأنفة ولا تقبل الذل لأحد، وعقولهم كانت تعيش الحياة ببساطتها ونقاوتها فلم تذهب في مضارب الفلسفات والأساطير، وأجسادهم تكتفي من الحياة بالضرورة ولم تتشرب الملذات والشهوات والكماليات كما هو الحال في الامبراطوريات والممالك.. كل هذا جعل العرب أقرب إلى الفطرة وأنسب لنزول الرسالة.
2- إن أسوأ ما في الامبراطوريات أنها تسلب من شعوبها العزة والأنفة والكبرياء، وقد أفرد ابن خلدون فصلا في هذا المعنى «أن معاناة أهل الحضر للأحكام (السلطانية) مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم»، ولهذا تجد التفرقة القرآنية الدقيقة بين «الشعوب والقبائل» في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ إذ قال المفسرون: «الشعوب للعجم، والقبائل للعرب».. ومن هنا جاء فيما بعد اسم «الشعوبية» للحركات التي تناصب العرب العداء.
3- ونظرة بسيطة إلى ما وصل إليه الحال في امبراطوريات العالم القديم تجعلنا لا نتردد في الحكم بأن هذه الشعوب قد خربت من كثرة ما نزل بها من استبداد وذل حتى لا يمكن أن تصلح لنزول الرسالة عليها؛ ففي فارس كان الأكاسرة يحكمون بالحق الإلهي وبالدماء المقدسة التي تجري في عروقهم فكانت تُقدَّم لهم القرابين، ثم إن الشعب منقسم بعنف إلى طبقات بحسب المهن والحرف، ولم يبعد الرومان عن هذا فالمجتمع منقسم إلى سادة وعبيد بل إن العبودية فلسفة أصَّل لها أفلاطون في الفلسفة اليونانية وكان الأباطرة يحكمون الأقوام بالحديد والنار، كذلك شهدت الهند أبشع نظام فصل عنصري طبقي يجعل الناس أربعة طبقات: نخبة وجنود وعمال وعبيد والتفكير في أن يتطلع أحد أفراد طبقة ما إلى التي فوقه جزاؤه العذاب الأليم المهين.
4- وعندما نزل الإسلام على العرب لم يحاول نسف القبلية وما بها من الاعتزاز والأنفة، وإنما كان الاهتمام على محاربة «التعصب للقبيلة بالحق والباطل» ولكنه استعمل محامد القبيلة في بناء الدولة، وفي مقاومة الظلم «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، وفي الدفاع عن الأمة فكان الجيش الإسلامي حتى عصر الفتوح يقاتل في كتائب تمثل القبائل، وفي التعاضد على الخير «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم ولو أدعى به فى الإسلام لأجبت».. وليس المقام للتفصيل.
5- وكان من معجزات الشريعة الإسلامية أنها صنعت نظاما يضع الأمة فوق السلطة، ويجعل الناس فوق الحاكم، ويجعل الحاكم وكيلا عنهم لا سيدا عليهم، لهم أن ينصبوه ويعزلوه، وليس له أن يقتحم بيوتهم أو يفتش في أسرارهم أو يقمع أفكارهم مهما خالفت رأيه أو كانت ضده، وللأمة أن تبني وتصنع حضارتها دون انتظار أو استئذان من الحاكم، وله عليهم الطاعة ما استقام لهم، فإن لم يفعل كان لهم أن يستبدلوا به غيره. وقد كان عصر النبي ﷺ ثم عصر الخلافة الراشدة التمثيل العملي للإسلام على هذا السبيل، فكان الخلفاء الراشدون خير أئمة لخير أمة في خير القرون.
6- بدأ الانحراف بسيطا كالعادة، وقد كانت بدايته حين بدأ الثوب الإسلامي يخرج من الصبغة العربية التي أنشأها الإسلام من البداوة النقية إلى الوحي الطاهر، وذلك حين بدأ الاحتكاك بالتيارات الحضارية القديمة، فلقد انزعج عمر بن الخطاب حين رأى معاوية يركب في موكب وله حاجب على بابه، غير أن معاوية اعتذر له بأنه «ببلاد كثر بها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العُدة والعدد، استخف بنا، وهجم علينا! وأما الحجاب، فإننا نخاف من الابتذال وجرأة الرعية».. والشاهد هو قوله «جرأة الرعية» فتلك الرعية هي التي اعتادت أن يكون ملوكها في مواكب وحراسات ودون الوصول إليهم أبواب وحُجَّاب وإلا سقط من نظرهم هيبة الوالي، وهو الأمر الذي لم يكن بالوسع تجاهله فأقره عُمَر وإن كان لم يفصل فيه برأي فقال له: «لا آمرك ولا أنهاك».
7- وحين سار الزمن وانتقلت العاصمة الإسلامية إلى الكوفة القريبة من فارس وحضارتها وتراثها الساساني كانت التربة خصبة للقبول بفكرة التشيع لعلي وآل البيت واستنبات فكرة العصمة والحق في الولاية بالوصية الإلهية والحق الموروث، وهو ما يخالف صحيح الإسلام الذي يجعل الحاكم وكيلا عن الأمة لا واليا عليها، يستمد شرعيته من اختيارها له لا بوصية إلهية أو بحق ديني.
1- لقد كانت بداوة العرب من أسرار نزول الرسالة عليهم، فهم القوم الذين لم يتلوثوا بعد بالعبودية لحاكم أو الخضوع لآداب امبراطورية تجعل منهم شعبا قابلا للمذلة، بل كانت بداوتهم تجعلهم أقرب إلى الفطرة؛ فنفوسهم تحمل الكرامة والعزة والأنفة ولا تقبل الذل لأحد، وعقولهم كانت تعيش الحياة ببساطتها ونقاوتها فلم تذهب في مضارب الفلسفات والأساطير، وأجسادهم تكتفي من الحياة بالضرورة ولم تتشرب الملذات والشهوات والكماليات كما هو الحال في الامبراطوريات والممالك.. كل هذا جعل العرب أقرب إلى الفطرة وأنسب لنزول الرسالة.
2- إن أسوأ ما في الامبراطوريات أنها تسلب من شعوبها العزة والأنفة والكبرياء، وقد أفرد ابن خلدون فصلا في هذا المعنى «أن معاناة أهل الحضر للأحكام (السلطانية) مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم»، ولهذا تجد التفرقة القرآنية الدقيقة بين «الشعوب والقبائل» في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ إذ قال المفسرون: «الشعوب للعجم، والقبائل للعرب».. ومن هنا جاء فيما بعد اسم «الشعوبية» للحركات التي تناصب العرب العداء.
3- ونظرة بسيطة إلى ما وصل إليه الحال في امبراطوريات العالم القديم تجعلنا لا نتردد في الحكم بأن هذه الشعوب قد خربت من كثرة ما نزل بها من استبداد وذل حتى لا يمكن أن تصلح لنزول الرسالة عليها؛ ففي فارس كان الأكاسرة يحكمون بالحق الإلهي وبالدماء المقدسة التي تجري في عروقهم فكانت تُقدَّم لهم القرابين، ثم إن الشعب منقسم بعنف إلى طبقات بحسب المهن والحرف، ولم يبعد الرومان عن هذا فالمجتمع منقسم إلى سادة وعبيد بل إن العبودية فلسفة أصَّل لها أفلاطون في الفلسفة اليونانية وكان الأباطرة يحكمون الأقوام بالحديد والنار، كذلك شهدت الهند أبشع نظام فصل عنصري طبقي يجعل الناس أربعة طبقات: نخبة وجنود وعمال وعبيد والتفكير في أن يتطلع أحد أفراد طبقة ما إلى التي فوقه جزاؤه العذاب الأليم المهين.
4- وعندما نزل الإسلام على العرب لم يحاول نسف القبلية وما بها من الاعتزاز والأنفة، وإنما كان الاهتمام على محاربة «التعصب للقبيلة بالحق والباطل» ولكنه استعمل محامد القبيلة في بناء الدولة، وفي مقاومة الظلم «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، وفي الدفاع عن الأمة فكان الجيش الإسلامي حتى عصر الفتوح يقاتل في كتائب تمثل القبائل، وفي التعاضد على الخير «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم ولو أدعى به فى الإسلام لأجبت».. وليس المقام للتفصيل.
5- وكان من معجزات الشريعة الإسلامية أنها صنعت نظاما يضع الأمة فوق السلطة، ويجعل الناس فوق الحاكم، ويجعل الحاكم وكيلا عنهم لا سيدا عليهم، لهم أن ينصبوه ويعزلوه، وليس له أن يقتحم بيوتهم أو يفتش في أسرارهم أو يقمع أفكارهم مهما خالفت رأيه أو كانت ضده، وللأمة أن تبني وتصنع حضارتها دون انتظار أو استئذان من الحاكم، وله عليهم الطاعة ما استقام لهم، فإن لم يفعل كان لهم أن يستبدلوا به غيره. وقد كان عصر النبي ﷺ ثم عصر الخلافة الراشدة التمثيل العملي للإسلام على هذا السبيل، فكان الخلفاء الراشدون خير أئمة لخير أمة في خير القرون.
6- بدأ الانحراف بسيطا كالعادة، وقد كانت بدايته حين بدأ الثوب الإسلامي يخرج من الصبغة العربية التي أنشأها الإسلام من البداوة النقية إلى الوحي الطاهر، وذلك حين بدأ الاحتكاك بالتيارات الحضارية القديمة، فلقد انزعج عمر بن الخطاب حين رأى معاوية يركب في موكب وله حاجب على بابه، غير أن معاوية اعتذر له بأنه «ببلاد كثر بها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العُدة والعدد، استخف بنا، وهجم علينا! وأما الحجاب، فإننا نخاف من الابتذال وجرأة الرعية».. والشاهد هو قوله «جرأة الرعية» فتلك الرعية هي التي اعتادت أن يكون ملوكها في مواكب وحراسات ودون الوصول إليهم أبواب وحُجَّاب وإلا سقط من نظرهم هيبة الوالي، وهو الأمر الذي لم يكن بالوسع تجاهله فأقره عُمَر وإن كان لم يفصل فيه برأي فقال له: «لا آمرك ولا أنهاك».
7- وحين سار الزمن وانتقلت العاصمة الإسلامية إلى الكوفة القريبة من فارس وحضارتها وتراثها الساساني كانت التربة خصبة للقبول بفكرة التشيع لعلي وآل البيت واستنبات فكرة العصمة والحق في الولاية بالوصية الإلهية والحق الموروث، وهو ما يخالف صحيح الإسلام الذي يجعل الحاكم وكيلا عن الأمة لا واليا عليها، يستمد شرعيته من اختيارها له لا بوصية إلهية أو بحق ديني.
8- وفي عام الجماعة انتقلت العاصمة الإسلامية إلى دمشق –ذي التراث الروماني والفلسفة اليونانية- وابتعدت الدولة الإسلامية أكثر عن النقاوة العربية البدوية، وأحب أهل الشام –العرب الذين استقروا هناك والذين أسلموا- معاويةَ وأسرته الأموية حبا كبيرا وتعلقوا به تعلقا جما، وصاروا عماد دولتهم، ولا ريب في أن تعلقهم هذا كان أحد عوامل تفكير معاوية في البيعة لولده لمصلحة الأمة في ألا تقتتل من بعده، وقد سانده أهل الشام في هذا الاختيار وكانوا أسبق الناس لبيعة يزيد، وهو الأمر الذي انزعج له المعارضون في مكة والمدينة ورأوا أنها «سنة كسرى وقيصر»! وليس المقام الآن مقام تحليل هذا القرار ومدى صوابه من خطئه، بل متابعة تأثير الاحتكاك الحضاري على انحراف المسيرة الإسلامية.
9- وحين استطاع الأمويون بما لهم من شوكة وإصرار وصبر استعادة وحدة البلاد الإسلامية بعد أن انهارت الدولة الأموية الأولى بعد تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة واختلاف الناس على مروان بن الحكم، حين استطاعوا استعادة البلاد مرة أخرى على يد مروان وابنه عبد الملك ثبت عمليا لهم ولغيرهم أنهم الأقدر على حكم البلاد، رأوا أن هذا حق لهم بشرعية الواقع، واستمر العهد بالخلافة في عصر الأمويين يعهد الخليفة السابق إلى اللاحق حتى انهارت الدولة وغربت شمسها.
10- على أن الدولة الأموية ظلت من مبدأ أمرها حتى منتهاه دولة عربية، فلم يكن فيها بلاط ملكي أو آداب سلطانية، ولم يبن خلفاؤها مدنا ملكية، ولم يكن أحدهم يقبل أيديهم أو أقدامهم أو الأرض أمامهم، ولم يكن أحد ملزما بمخاطبتهم بـ«سيدي» أو «مولاي» أو ما شابه، ولم يكونوا هم يخاطبون الناس أو الولاة بمثل هذا!
11- كل هذا تغير على يد الدولة العباسية التي قامت على أكتاف ثورة نشأت في خراسان، وكان رجالها من الخراسانيين الذين تشيعوا لآل البيت وآمنوا بحقهم في الإمامة دينًا، لذا فقد كانت الطبقة التي تدير الخلافة العباسية من الذين استقر فيهم إنزال الخلفاء منزلة كسرى فارس، وكان التشيع أسهل انتشارا في هذه المناطق وهذه النفوس.
12- لقد أعادت الحاشية إنتاج البلاط الفارسي الكسروي بما فيه من آداب سلطانية (بروتوكول) ومظاهر فخامة وتعظيم وخضوع للخلفاء، وقد تم هذا عمليا لأن كثيرا من البلاط العباسي كان من ذوي الأصول الفارسية الذين بلغوا ذروتهم مع الأسرة البرمكية في عهد الرشيد وآل سهل في عهد المأمون، ثم عُضِّد هذا الإنتاج العملي بالتأصيل النظري عن طريقين؛ الأول: الكُتَّاب والمفكرين ذوي الأصول الفارسية من أمثال ابن المقفع والجهشياري الذين كتبوا وترجموا الأدب السلطاني الفارسي، والثاني: الترجمات عن الفلسفات القديمة اليونانية والرومانية والهندية وغيرها والتي بلغت ذروتها في عهد المأمون، فتلك أيضا نقلت التراث القيصري إلى البلاط العباسي بما تسبغه من عظمة وفخامة على القيصر!
13- في تلك الفترة نشأ التعامل مع الحكام باعتبارهم «قضاء وقدر»، وأسرف البلاط في مظاهر الجلالة والمهابة والزينة، ونشأت آداب تقبيل اليد والخطاب بالمولى والسيد، وبدأت كذلك بذور الفقه الذي يرى أن هذا من ضرورات الدولة لاستقرارها والتمكين لهيبة خلفائها، وهو الأمر الذي لم يحاول أحد أن يؤسس له في عصر الخلافة الراشدة.
هكذا كان الاحتكاك بالأعاجم وتأثيرهم سببا في انحراف المسيرة الحضارية عن طبيعتها الأولى، ونشوء السلطان والمظاهر السلطانية، ولذا نجد سعيا متكررا من الفرس لنصرة ذا العرق الفارسي كالمأمون على الأمين، ومحاولة نصرة أبي العباس بن المأمون على عمه المعتصم بالله، وهي المحاولة التي كانت بداية إقصاء الفرس والتمكين للأتراك..
وعلى كل حال، فلم تظهر في عصر الترك آثار سلطان العجم بل كان عصرهم عصر البداية والتأسيس ثم سنجد آثار هذا واضحة في العهود التالية: البويهيين والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين!
ومن المثير للأسى أن كل هؤلاء جمعوا بين كونهم: عسكريين، وعجما! وكل هؤلاء كان لهم إنجازاتهم الرائعة الخالدة طالما وجهوا طاقتهم للجهاد ومقاومة العدو، ولكن الدول التي أسسوها لم تخرج عن قاعدة الدولة العسكرية التي تبدأ بالنهضة ثم تسوق الأمة نحو الضعف والاستبداد حتى تنتهي على يد الاحتلال! وهو ما يكون ويتحقق بعد ذهاب القادة العظماء الذين يحملون رسالة التحرير والتعمير ثم يخلفهم من لم يرث منهم غير الطابع العسكري فيهدم ما بناه أجداده!
9- وحين استطاع الأمويون بما لهم من شوكة وإصرار وصبر استعادة وحدة البلاد الإسلامية بعد أن انهارت الدولة الأموية الأولى بعد تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة واختلاف الناس على مروان بن الحكم، حين استطاعوا استعادة البلاد مرة أخرى على يد مروان وابنه عبد الملك ثبت عمليا لهم ولغيرهم أنهم الأقدر على حكم البلاد، رأوا أن هذا حق لهم بشرعية الواقع، واستمر العهد بالخلافة في عصر الأمويين يعهد الخليفة السابق إلى اللاحق حتى انهارت الدولة وغربت شمسها.
10- على أن الدولة الأموية ظلت من مبدأ أمرها حتى منتهاه دولة عربية، فلم يكن فيها بلاط ملكي أو آداب سلطانية، ولم يبن خلفاؤها مدنا ملكية، ولم يكن أحدهم يقبل أيديهم أو أقدامهم أو الأرض أمامهم، ولم يكن أحد ملزما بمخاطبتهم بـ«سيدي» أو «مولاي» أو ما شابه، ولم يكونوا هم يخاطبون الناس أو الولاة بمثل هذا!
11- كل هذا تغير على يد الدولة العباسية التي قامت على أكتاف ثورة نشأت في خراسان، وكان رجالها من الخراسانيين الذين تشيعوا لآل البيت وآمنوا بحقهم في الإمامة دينًا، لذا فقد كانت الطبقة التي تدير الخلافة العباسية من الذين استقر فيهم إنزال الخلفاء منزلة كسرى فارس، وكان التشيع أسهل انتشارا في هذه المناطق وهذه النفوس.
12- لقد أعادت الحاشية إنتاج البلاط الفارسي الكسروي بما فيه من آداب سلطانية (بروتوكول) ومظاهر فخامة وتعظيم وخضوع للخلفاء، وقد تم هذا عمليا لأن كثيرا من البلاط العباسي كان من ذوي الأصول الفارسية الذين بلغوا ذروتهم مع الأسرة البرمكية في عهد الرشيد وآل سهل في عهد المأمون، ثم عُضِّد هذا الإنتاج العملي بالتأصيل النظري عن طريقين؛ الأول: الكُتَّاب والمفكرين ذوي الأصول الفارسية من أمثال ابن المقفع والجهشياري الذين كتبوا وترجموا الأدب السلطاني الفارسي، والثاني: الترجمات عن الفلسفات القديمة اليونانية والرومانية والهندية وغيرها والتي بلغت ذروتها في عهد المأمون، فتلك أيضا نقلت التراث القيصري إلى البلاط العباسي بما تسبغه من عظمة وفخامة على القيصر!
13- في تلك الفترة نشأ التعامل مع الحكام باعتبارهم «قضاء وقدر»، وأسرف البلاط في مظاهر الجلالة والمهابة والزينة، ونشأت آداب تقبيل اليد والخطاب بالمولى والسيد، وبدأت كذلك بذور الفقه الذي يرى أن هذا من ضرورات الدولة لاستقرارها والتمكين لهيبة خلفائها، وهو الأمر الذي لم يحاول أحد أن يؤسس له في عصر الخلافة الراشدة.
هكذا كان الاحتكاك بالأعاجم وتأثيرهم سببا في انحراف المسيرة الحضارية عن طبيعتها الأولى، ونشوء السلطان والمظاهر السلطانية، ولذا نجد سعيا متكررا من الفرس لنصرة ذا العرق الفارسي كالمأمون على الأمين، ومحاولة نصرة أبي العباس بن المأمون على عمه المعتصم بالله، وهي المحاولة التي كانت بداية إقصاء الفرس والتمكين للأتراك..
وعلى كل حال، فلم تظهر في عصر الترك آثار سلطان العجم بل كان عصرهم عصر البداية والتأسيس ثم سنجد آثار هذا واضحة في العهود التالية: البويهيين والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين!
ومن المثير للأسى أن كل هؤلاء جمعوا بين كونهم: عسكريين، وعجما! وكل هؤلاء كان لهم إنجازاتهم الرائعة الخالدة طالما وجهوا طاقتهم للجهاد ومقاومة العدو، ولكن الدول التي أسسوها لم تخرج عن قاعدة الدولة العسكرية التي تبدأ بالنهضة ثم تسوق الأمة نحو الضعف والاستبداد حتى تنتهي على يد الاحتلال! وهو ما يكون ويتحقق بعد ذهاب القادة العظماء الذين يحملون رسالة التحرير والتعمير ثم يخلفهم من لم يرث منهم غير الطابع العسكري فيهدم ما بناه أجداده!