إسراءٌ

قُوّتانِ في الإنسانِ تُسيّرانه منذُ الأزل. تتجاذبان وجدانه، وتنحتان مصيرهُ ومصير العالمِ. ثمرتانِ من تفاعل صُلبه مع الكونِ هُما المعرفةُ والإرادة.

وليسَ ممثِّلُ الإرادةِ القلبُ دونَ العقلِ ضرورةً، كما أنه لا يمثل المعرفةَ العقلُ دون القلبِ ضرورةً..

ويُحسبُ أن الإرادة ما هي إلا معرفة عميقة، إذا استبطنت فاحتجبت عنْ عينِ مراقبها، وأنَّ المعرفة في الإنسانِ ما هي إلا معرفتهُ السطحية.
والقولُ بهذا يفسرُ نزعة القوتينِ الدئوبة للاتصال والتطابقِ ويشرعنها: فما كانَ من الجنسِ نفسه لا يسكنُ إلا باجتماعِ أجزائه واكتِمالِ جوهره..

ثم إن لِطواف مكنونهما بينهما تيارا واردا اتجاههُ من السطحِ للعُمق، هو التعلم والتطبعُ والاكتسابُ.
وتيارا آخر فوَّارا قويًّا ينطلقُ من العمقِ نحوَ السطحِ، هو التعبير والتغيير والفِعلُ. وقد جَازَ لنا بفعل هذه الميكانيكا النفسية العجيبة بل بفضل هذه السنن الدقيقة المعجزة أن نقول: تُهذِّبُ المعرفةُ الإرادةَ، وتُوجِّهُ الإرادة المعرفة. وتراهنُ المعرفةُ على الإرادة لأنها أشد منها وطئا وقوة ودواما وأعسرُ تشكُّلا وأصلبُ معدنا! ..

وإن المبادلات التي تحصل بفعل انصباب التيارينِ في نهايتيْهِما،
والأخذَ والعطاءَ، والقبض والإرسالَ ما بينهما، تُخبِرُ النفسَ عن النَّقصِ والازدِيادِ، والفِعلِ والانفِعالِ، وتفتحُ إذ ذاك باب المقارناتِ بين طبائع وخصائص المعرِفتينِ. لكنَّ انتباه صاحبها لإسرائها ومِعراجها يظلُّ شبيهَ انتباهه لسريان الكهرباء الدؤوب في جسده: مُجهِدًا عسيرًا.

والملحوظُ أن ازدِيادَ مَخزونِ السطحِ أسرعُ من ازدياد مخزون العمقِ، وتغيير مخزون السطح أيسرُ من تغيير مخزون العمقِ. وكأن مجازات خلق الانسان من تُرابٍ تفرِضُ نفسها ههنا، لتكون حركة المعرفة في النفسِ صعودا ونزولا كارتحالِ الماء في باطن الأرض، تتباطئ وتتناقص بفعل اختلاط الحامل بالمحمولِ وتعرجات المسير وجاذبية المركز ومسافاتِ الوصول.

#سنن
#أرأيت
#في_المعرفة_و_الإرادة

الشغوفُ بقراءة التاريخِ واستقراء كتبه هو ذاك الذي يفهمُ بعمقٍ معنى ألا تكون فقط ذاكرته الشخصيّة مُلحقًا صغيرا من ذاكرة العالم، بل وأن تكون ذاكرةُ العالمِ السابقةُ لوجودهِ جُزءًا مهما منقوصًا من ذاكرته هو!

#أرأيت
#جدوى

وبالرّغم من كل الإحباط الذي يتآكل أرواحنا. وفقدانِ الأشياءِ للمَعنَى شيئًا فشيئًا وصيْرُورَتِها لقوالِبَ جامدةٍ و صُوَرٍ باهتة -وقد كان المعنى مِنهاَ الرّوحَ المُحرِّكةَ و النُّورَ السّاطع- يتبقى لهُ عندنا مقامُ جمالٍ ننشدهُ، نستطربه و نقدسهُ حتى إذا لم نبلُغْ مطلب نفخِه في قوالب الأحياءِ.. إذ أن القوالب غالبًا قد أصبحت أبلى من أن تحويَ جلالهُ أو كذا يبدو لنا..

فأما الصديقُ،
اذا ما انعزلَ واعتكفَ يمنّي النفس برقيِّ معنى الصداقة. يحييهِ بمن بقي على الجمال من أصدقائه. فإن لم يتوفر له ذلك فمن جمرِ الذكريات المنير في ارجاء عقله، فإن لم يتوفر له ذلك فمن خيالهِ..
وإذا ما استوحشٙ غيابَ المعنى في قوالبِه ذبُلَتْ رُوحُهُ، ولعله خُيِّلَ لمن شاركهُ ذاتَ يومٍ ذات معنى أنه لم يعد من المؤمنينَ وأنّٙ مواتَ الروح قادمٌ لا محالة!

#في_استنطاق_الداء

"ما على هذه الدنيا أسف"

#مقتبس
اللوحة؛ ياسمين - سالفادور دالي

Adoration is the state furthest from understanding
ー Tite Kubo, Bleach

الانبِهارُ أنأَى المشاعرِ عن الفهمِ.

#مترجم

ويُنسب لعليٍّ بن أبي طالب - رضي اللّٰه عنهُ- أنه قال:

ليس من أحدٍ إلّا وفيه حُمقة، فبها يعيش.

إنَّ الجيل الذي يحدُّ أفقه الإنساني في سُنّة التوالد ويقصر شعوره بالإنجازِ الدنيوي على دوره في إنجاب الأجيال الجديدة ليس غالبا يفهمُ أن هذا الدورَ ينتهي بانتهاء مهمة التعليم والتربية. وأنه دورٌ بيولوجي دارجٌ لا يكفيهِ حاجَتهُ لتحقيقِ الذات وإشباع جوعِ الجدوى. ولا يرقى لمراتب تزكية النفسِ. تراهُ بعد فراغه منه يمدد صلاحياته بما يتيحُ لنفسه أكثر قدر ممكن من التأثير والتحكم في آفاق نسله وقد ينتهي به الأمرُ في الأثناء أن يشوه ما قد أنشأه سليما.. مثَلُهُ في ذلك كمثل الآلة تعمل في مادة لتصنعها فإذا لم تتلق أمرا بالتوقف عند حد معين شرعت تلقائيا في عملية التآكل والتدمير الذاتيِّ!

#في_استنطاق_الداء

شاهدت على وجه أبي ما تحول من السواد إلى البياض ومن الصفاء إلى التجاعيد. ولكن في كل مرة، كان ضوءُ عينيهِ وحدهُ الذي يخبرني سنَّهُ الحقيقي. لحظات هرمهِ الحقيقية وذلك الطفلِ المحفوظ عميقا المخبوء جيّدا عن أعينهم جميعا، كلمعة مخاتلة في البنيّ الصافي..

شيء غامض ما من أبي انتقل إليّ، بالإضافة إلى ملامحه، لا أدري إن كان عبر جيناته، أم حبه، أم عبر ابتسامته؟

#لحون_القلب

لأن مشيئة اللّٰهِ النافذةَ فيكَ، نفذت فاخترقت بك الحجب لا إليكَ ولا إلى شيءٍ إلا إليهِ، لأن ما شاءهُ الرب لك من بصرٍ وما دبرهُ فيك من هندسة نظرٍ شاءت إلهها لها مشهدا ومنظورا. وما كتب فيك من قصدٍ اختار ربه مقصودًا. وما شاءَ وضعه في عينيك من دوائرٍ وضعتهُ مركزها ومحل نواتها.

وما دبر من تناظرٍ وتماثل وتشابهٍ يهوى أن يجعل خالقه محوره ويصوغ منه مثالهُ ومُثُلَهُ. ولأنّ حلقاتِ عقلك ووصلاته وكهرباءه كلها تجري في إدراك جلاله وتحري ذكره وأثره وذاته العظيمة.
لأن المدبَّرَ جميعَهُ، جميعُهُ يتدبرُ. وتتخذ عندهُ الأشياءُ تراتيبها المقدرة، وتتم معهُ بلاغَ مقاصدها. لهذا وحسب، فإن العاديَّ المُتعوَّدَ عندكَ خوارقُ عندهم.

#أرأيت
#جدوى

"إن روحي خيرُ أُفقٍ فيهِ أنوارُك تظهرْ"

https://soundcloud.app.goo.gl/ghpaq

يا رب الحبِّ، ألست تعلمنا، أنه قبل كل عَملٍ، علينا أن نُريد!

#في_تشخيص_الدواء

من أنوارِهِ ﷺ ؛

والعقلُ المستخلفُ في مسائلِ الأرضِ المُكلَّفُ بإيجادِ المخرَج واستنباط الحل إذ يشرعُ في البحثِ عن آفاقِ المُحتملِ واستكشافِ فروعِ شجرة الممكنِ العظيمة فإنهُ -وبشدةٍ تتماهى مع كل من عظمة تكليفهِ وقُدرةِ عقلهِ- مُعرَّضٌ أن يتوهُ في اتساعها أو يرهقه ويعييهِ طولُ مداها.. ولعله يتعثرُ في التفرعاتِ فيعلقُ في ذلك السؤال الأزليّ، والذي هُو في الأصل من أدواتِ بحثه وسعيه للتحسينِ والارتقاء.

تراه يقفُ في كل مرة يسأل نفسه "ماذا لو؟" ...

ومحمدنا سبق وأن وجد نفسه في مواقف عديدة في سيرته وأمام تكليفه العظيمِ جدا وشعوره بثقل مسؤوليتهِ، واحتمالات وصولهِ أواستباق وصولهِ عالقا في هذا السؤال، ماذا لو؟ طنينٌ لحوحٌ يملئ أرجاء عقلهِ النبيِّ. يُجيبُهُ الله ويأتيهِ الوحيُ سديدًا ليعصمهُ من الجمودِ والخللِ "ولو كُنتَ فظا غليظ القلبِ لانفضوا من حولك!"
يا محمد لينُ قلبك هذا رزقك! يا محمد لينك ليسَ ضعفا منكَ ولو كنت شديدا ما استحكمت حلقتهم حولك! فامضِ ولا تتوقف.

"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" آل عمران ١٥٩

في الظلامِ الفاصل ما بينَ بقعتي ضوءٍ يأتي مرارا ذلك السؤال.. ماذا لو؟

وكان دوْمًا يعقبهُ جوابُهُ ليثبته فيهدأ ويطمئنّ..
"ما ودعك ربك وما قلى!"
..

#أرأيت

يا أيها المفتون بالظل الطويل
أنا لست ظلي ..

ما الأمرُ إلّا أنّني
صادفتُ وقت الفجر
شمساً تستفيقُ من الرُقادِ
فضاعفت
ببهائها الأخاذ
شوقي

أنا لست ظلي يا أخي
فدع انبهارك .. وانطلق
فهناك حيثُ نريدُ
لا تجدي الظلالُ
وليس تُغني

* مكرر ٢٠١٥

" تحلو مرارةُ عيشٍ في رِضاك "

لا تعلقْ بالباطلِ، ولا تخضع لأهلهِ.

وإنني كلما أبحرتُ في مغامرِ الكون على شراع فكرةٍ، ذهلتُ عن نفسي، وعن اسمي وما أفعل ومن أجاورُ وأين أقفُ.

وكنتُ إلى زمن قريبٍ أخالها حال الجميع إذا ما حملتهم الأفكارُ على ظهرها.

#حديث_الزمن

حُسنُ اختيار الرفيق من أَوْلى وأُولى معاركِ هذا العصر؛ لتدخُلَ حربك مع الجاهلية من أوسع الأبواب، وخلفكَ جيش من الذين " لا يسألونَ أخاهُم حينَ يندُبُهم. في النائباتِ على مَا قالَ بُرهَانَا"¹

جيشٌ في واحد، يؤمّن ظهرك، ولا يُسمِعُك صوتَ الحنينِ إلى الجاهلية داخل صفك، ولا يشتت همّك بين الداخل والخارج فينفرد عِقدُك ويتبعثرُ جُهدك؛ بل يكون رايتَك التي كلّما التفتَّ وجدتها منتصبة فتستميتُ في شق طريقك!

سأبقى دائما مُلهما بزواج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أمنا خديجة، لقد كان إعلان الحرب الصريح من معنى غريبٍ لم يَعُد وحده، على باطلٍ سائدٍ مضت أيام راحتِه؛ فقد احتوى الشُّعلةَ بيت، وحصلَت الطاقة على سَّكنٍ مُكثِّف، وظفر المعنى بمن يشايعه ويبايعه، وليس بعدَ البيت الأول إلا الحيُّ والعشيرة؛ ثم ويلٌ لقريش من شرٍ لم تقبَل خيره فأتى على بنيانها من الأُسس..

زواج لم يكن ولا كانَ توقيتُه عبثيا، بل أريد له أن يكون تكسيرا لصنمٍ صغير يبشّر بسيرٍ قادم نحو الأوثان الكبرى وأن عصرَ الدعاة المُهمَلين قد ولّى، وجاء عصر الدعاة المزاحمين؛ الذين إذا أسهرَهم وجَع تعذيبك، أسهرَك وجعُ إصرارهم، وأرّقك همّ اجتثاثهم؛ فصرتَ تألمُ كما يألمون.

كان زواجهما العظيم في شهرِ صفر، الشهر الذي تطيّرَ به بعض الجاهليين وتشاءَموا فيه²؛ فلا يتزوجون ولا يكتبون عقودَهم ولا يقضون فيه حاجاتهم الخطيرَة؛ فكان هذا الزواج عصيانا لآلهة المادة والدرهم أولا؛ باختيارا التسَامي والأمانة والخلُق؛ فلا هي اختارت نظيرها في الغنى، ولا هو طمع في مالها؛ إذ لو كان طامعا فيه لتربّح منه في تجارته به..

ثم كانَ انتصارا على الأوهام والهندسة النفسية الجاهلية، ولم يكن أي شيء من ذلك ليتحقّق أو يستمر لو لم يكن الشريكُ مُوافقا في السِّر مرافقا في السَّير. “

----
1 : بيتٌ لقريط بن أنيف، وقبلهُ : قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجِذَيهِ لهُم - طارُوا إليهِ زَرافاتٍ ووُحدانا.
2: كما أن من أهل العلم من يرى أن المقصود بحديثِ "وَلَا صَفَرْ" تطيّر الجاهليين بهذا الشهر.

| حسام السنوسي

وكنتُ أريدُك، أريدُك بكلّ ما في هذهِ الكلمةِ مِن طَلَب.

| غسان كنفاني