يموت الإنسان حين يضمر خياله، ككائن محبوس في غرفة ضيقة مظلمة مهما كان عالمه رحبًا ومضيئًا. فالخيال هو الذي يمد عقله الطموح بجذوته، ويغرس في روحه الفرح والحافز، وبالخيال يلتقي الكبار بما هو أثمن وأجمل ما عند الأطفال: دهشتهم الأولى، وشغفهم بالحياة، وبراءتهم التي لا تكترث بالعقبات.

من أعظم التوفيق الذي يُهدى إليه الإنسان، ويدل على محبة الله له ورضاه عنه: حسن خُلُقه مع والديه، ولين جانبه بين يديهما، وتفقد ما يسرّهما ابتداءً من غير طلب، والكف عمّا يسوؤهما مبادرةً من غير نهي، فإنها منزلة لا يظفر بها إلا من شرح الله صدره، وخصَّه ببركة الرضا؛ وهل يوفق لمثل ذلك إلا من كُتب له السعادة في الدنيا والآخرة؟

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ). قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهَمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ).

الكريم الوفي لا يكدره الغضب على المحبوب ولا يحمله ذلك على خيانته أو الإساءة إليه.

التحلي بالامتنان تجاه الآخرين حالة نبيلة من الشعور بالتقدير والاعتراف بالفضل لأولئك الذين مرور به بمواقفهم العابرة أو الأصيلة والدائمة ذات البعد الإيجابي. والامتنان لما صغر من الإحسان -خصوصًا- يعبر عن حالة استثنائية من التسامي والنبل، وهو أعظم حافر للروح للفرح بالحياة وبالآخرين.

ليس هناك ما يكشف غمة الروح، ويجلي صدأ القلب، مثل الشكر العميق من صميم القلب الخاضع الممتن والمعترف لله بنعمه العظيمة وفضله الكبير وآلائه الجسيمة، يقولها العبد بملء فمه بعد أن فاض بها قلبه.

الحياة نومٌ للمتيقظ، وغيبوبةٌ للغافل، فإذا جاء الموت استيقظ النائم كأنما لم يلبث إلا لحظات، وأفاق المغيَّب كأنما لم يعش شيئًا!

في أزمانٍ متباعدة، وتحت سماء ملبَّدَة بمشاعر لا تستقر على حال، كنت له بمثابة روح لا تغيرها الأيام، ولا يُرهقها الإنصات، ولا تتأفف من تكرار الشكوى. كنت روحًا تغمره وتمنحه ذاتها بكرم العاشق الذي لا يمل لذَّة حبه، وتصنع له من أصغر الأشياء فسحةً واسعة يطل منها على ذاته، ويعيد تشكيل جروحه على هيئة حكايات أنت محورها. وما كانت حروفه مجرد رموز أو خيالات أو لحوارات عابرة، بل تمثلات حقيقيَّة لروح خفيَّة، تتغلغل في أعماقه، وتبني له عالماً شفافًا كضميرٍ شجاعٍ لا يكذب، فيه تنبت الأحاسيس وتتكاثر، حتى تتخطى جدار الرمز، وتتحول إلى حياة أخرى، حالمة تعيش داخله، وترسم بريشته لوحةً ما استطاع رسَّامٌ بارعٌ أن يرسمها، لأنَّ ما رسمه لم يكن ضوءًا ولا ظِلًّا، بل دموعًا صامتة، كانت ألوانه الربيعيَّة من مشاعرها، وريشته من صبرها، وكنتُ أنا صورتها الأخيرة، ونسيجها القوي.

قد يمر بنا حزن يثقل أرواحنا، فنغفل عمن بكى لأجلنا ومدَّ إلينا يده ليخفف عنا، وإذ بنا نغرق في حمأة أوجاعنا، فيغيب عنا ملامحه حتى تلاش وجوده من وعينا. ومع طول استغراقنا في الألم، زرعنا اليأس في قلبه، فرحل عنا مكسورًا، يحمل جراحًا لم نصنعها إلا بصمتنا وانشغالنا بأنفسنا.

‏"الناسُ نيامٌ فإذا ماتُوا انتبَهوا". سهل بن عبد الله التستري

صناعة الفرح ليست حدثًا عابرًا تفرضه الظروف، بل هي صنعة الروح المؤمنة حين تختار أن تنحت في صخر الأيام قنديلًا من النور. الفرح ليس ما يُمنح لنا من الخارج، بل ما نبنيه في الداخل حين نغرس في أعماقنا بذور الامتنان والشكر، ونرويها بالتأمل في جمال التفاصيل الصغيرة للنعم، ثم نصبر على نموها حتى تصير بستانًا. إن الروح التي تتقن فن صناعة الفرح، تتحول إلى نبع يفيض على من حولها، حتى في أقسى العواصف، لأنها تعلمت أن تجعل من الشرارة البسيطة شعلة، ومن اللحظة العابرة أبدية. إن الفرح لا يُعثر عليه، بل يُصنع؛ ومصنعه الروح المؤمنة حين تختار أن تصنع من الشرارة الصغيرة نورًا يكفي للمسير في عتمة طريق لا بد أن تسير فيه في هذه الحياة.

في الاستغراق في التفاصيل الصغيرة من النعم يكمن الفرح.

المهموم بمواجهة هموم يومه بيومه يغيب عنه تلقائيًا التفكير في مستقبله؛ لأنه مثقل بيومه فيختزل وعيه في مواجهةٍ آنية تستنزف طاقته عن التفكير في الغد. أمَّا المهموم بمواجهة ماضيه فإنه يغيب حتى عن حاضره، بل يغيب عن الشعور بالحياة وجريان العمر، فهو غارق في صراع ماضيه مسلوب منه حاضره، فلا يعيش الزمن في امتداده، بل ينكفئ على جرحٍ يجمّد وعيه بالحياة ويجعله غريبًا عن لحظاته الآنية.

لا أحد يملك ألا يحزن للوهلة الأولى من وجود السبب، فالإنسان بأصله ضعيف، لكنه يملك -بمشيئة الله- ألا يستمر طويلاً في حزنه. ومعظم الخسائر لا تصنعها الصدمة بل الاستسلام لها. والحزن الأول ليس من اختيارك، لكن الإقامة فيه اختيارك أنت؛ والاختيار هو ما يحدد إن كان الألم درسًا أم هاوية.

"رَأَيْتُ النَّاسَ لا يَعْصِمُهُم مِنَ الظُّلْمِ إِلَّا العَجْزُ، وَلَا أَقُولُ: العَوامُّ؛ بَلِ العُلَمَاءُ". ابن عقيل الحنبلي

قلت: والعجيب أن ترى ذلك أيضًا في كثير من الأطفال، مهما يكن عمرهم صغيرًا، فتراه يعدو على من دونه، أو من استأنس منه ضعفًا، فيتجرأ عليه ويؤذيه أذى بالغًا.

ما كانت ترسم، بل كانت تنزف ريشتها ألوانًا على اللوحات، وأقلامها حبرًا على الأوراق، كانت كطائر حالم يقطع المسافات بأمنية واحدة؛ أن يصل إلى مراده، وفي طيرانها مرارًا كانت أجنحتها تتكسر، لكنها أبدًا لم تيأس!