فتاوى الشيخ فركوس
14K subscribers
15 photos
2 videos
1 file
550 links
قال ابن القيم رحمه الله :
‏و تبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو .(بدائع التفسير (2/416)
Download Telegram

الفتوى رقم: ١٠٩٠
الصنف: فتاوى الأسرة - عقد الزواج - آداب الزواج
في حكم التصديرة
السؤال:
كثيرٌ مِن النِّساء في يوم زِفافِهنَّ يَقُمْنَ بما يُسمَّى: «التصديرة»، ويُوجَدُ معها عادةً «الحِنَّاء»، وقد اجتمعت في هذه العادةِ أمورٌ كثيرةٌ منها: اعتقاد أنَّه إذا لم تُحَنَّ العروسُ فلن تُنْجِبَ الذرِّيَّة، وبعد انتهاء «الحِنَّاء» يجب إخفاءُ الإناء الذي مُزِجَتْ فيه «الحِنَّاء» لكي لا يقع في أيادٍ خبيثةٍ حاسدةٍ تستخدمه في السحر وإلحاقِ الضرر بالعروس، وكذا «الحِنَّاء» التي في يد العروس يجب أن لا تقع في يدِ أحَدٍ فيستعملَها في السحر ـ والعياذ بالله ـ، وتُمْزَج الحنَّاءُ أحيانًا بالبيض اعتقادًا منهنَّ أنَّ البيض مِن علامات الإنجاب والولادة وجلبِ السعادة للزوجين.
فبعد سَرْد هذه المعتقَدات حول هذه العادةِ فما حكمُها؟ مع العلم أنَّ النساء يُنْكِرنَ وجودَ هذه الاعتقادات، ويَتَحَجَّجْنَ بأنَّها عادةٌ وعلامةُ فرحٍ، ونيَّتُهنَّ صافيةٌ، وإذا طُلِب منهنَّ عدمُ القيام بها بناءً على أنَّها مجرَّدُ عادةٍ، وأنَّه لا يضرُّ إن لم تُفْعَل؛ أَبَيْنَ وأَصْرَرْنَ عليها. وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالتصديرة ـ وإن كان المرادُ منها مُباحًا وهو أن تتصدَّر المرأةُ على مِنَصَّةٍ مُرْتفِعةٍ تعلو جَمْعَ النساء اللواتي يُحِطْنَ بها على وجهِ البروز إكرامًا لها ـ إلَّا أنَّ حُكْمَها يتغيَّر بوجودِ المحاذيرِ الشرعية الواردةِ في السؤال، منها:
أَوَّلًا: «التصديرة» فيها إسرافٌ وتبذيرٌ في الفساتين التي تَلْبَسُها العروسُ يومَ عُرسها، والتي تدفع عليها ثمنًا باهضًا، ومُعْظَمُها لا يُستعمَل بعد ذلك، كما أنَّ فيها مَدْعاةً للافتخار والمباهاة، كما أنَّ العروس تُضْطَرُّ لكشفِ عورتِها أمام مَن تُعِينُها على ارتداءِ وتغييرِ ملابسها على التَّكرار، وإذا تَضمَّنَتْ هذه المحاذيرَ مع الإسراف والتبذيرِ فلا شكَّ أنَّه لا يجوز؛ لأنَّ الله تعالى نهانا عن التبذير حيث قال ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧﴾ [الإسراء].
ثانيًا: أمَّا عن صفةِ «الحنَّاء» الواردةِ في السؤال فالجوابُ أنَّ «النِّيَّةَ الحَسَنَةَ لَا تُبَرِّرُ الحَرَامَ بِحَالٍ»؛ فإذا كانت هذه العادةُ ممزوجةً بتلك الاعتقاداتِ فإنَّ القيامَ بفعلها ضربٌ مِن الشِّرك الذي يَزْجُرُ عنه الشرعُ، وفي الحديث عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»(١)، وفي حديثٍ آخَرَ: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ»(٢)، وفي حديثٍ مرفوعٍ: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»(٣).
فكلُّ عادةٍ مُحرَّمةِ الأصلِ فالتذرُّعُ بتحكيمها باطلٌ في الشرع؛ إذ إنَّ «العُرْفَ أَوِ العَادَةَ إِذَا كَانَ يُحَرِّمُ حَلَالًا أَوْ يُحِلُّ حَرَامًا فَهُوَ فَاسِدٌ وَبَاطِلٌ»، والاعتدادُ به غيرُ جائزٍ شرعًا، وآثِمٌ صاحِبُه، وما دام اعتقادُه على هذا الوجهِ المنهيِّ عنه متفشِّيًا عند عامَّةِ الناس فإنَّ نَفْيَ بعضِهم لقصدِ هذا الاعتقادِ لا يُصيِّرُ هذا الفعلَ حلالًا؛ لأنَّ الأصل معروفٌ بهذا الاعتقادِ المحرَّم، والتَّمَسُّكُ بإرادة التزيُّن والتجمُّل لا ينفي بقاءَ المعتقَدِ الفاسد في آحادِ الناس؛ فيكون العملُ به بهذه الصورةِ إعانةً على الباطل والإثم، حيث قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ﴾ [المائدة: ٢].
لذلك يُمْنَع الطريقُ المؤدِّي إلى الفساد مُطْلَقًا عملًا بمبدإ «سَدِّ الذرائع»، ولأنَّ دَفْعَ مفسدةِ الاعتقاد المحَرَّم أَوْلى مِن جَلْبِ مصلحةِ التجمُّل والتزيُّن كما هو مُقرَّرٌ في قواعدِ مَصالِحِ الأنام، أمَّا تزيُّنُ المرأة بالحنَّاء لزوجها فمعلومٌ جوازُه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٨ شعبان ١٤١٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٧ ديسمبر ١٩٩٨م
(١) أخرجه أبو داود في «الطبِّ» بابٌ في تعليق التمائم (٣٨٨٣)، وابن ماجه في «الطبِّ» باب تعليق التمائم (٣٥٣٠)، وأحمد (٣٦١٥)، مِن حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «الصحيحة» (٣٣١) وفي «صحيح الجامع» (١٦٣٢).
(٢) أخرجه أحمد (١٧٤٢٢)، والحاكم في «المستدرك» (٧٥٠١) ولفظه: «مَنْ عَلَّقَ فَقَدْ أَشْرَكَ»، مِن حديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «الصحيحة» (٤٩٢).
(٣) أخرجه الترمذيُّ في «الطبِّ» بابُ ما جاء في كراهية التعليق (٢٠٧٢)، وأحمد (١٨٧٨١)، والحاكم (٧٥٠٣)، مِن حديث عبد الله بن عُكَيْمٍ رضي الله عنه، والنسائيُّ في «تحريم الدم» باب الحكم في السحرة (٤٠٧٩) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب» (٣٤٥٦)، ومحقِّقو «مسند أحمد» طبعة الرسالة (٣١/ ٧٨).
فتاوى الشيخ فركوس:

قناة سلفية تعتني بنشر فتاوى الشيخ فركوس
https://telegram.me/ferkouss

الفتوى رقم: ١٠٨٩
الصنف: فتاوى الأسرة - عقد الزواج - آداب الزواج
في شرطية الإشهاد في النكاح ولزومِ توثيقه
السؤال:
تبعًا لِما ذكرتم في فتوى «حكم التكسُّب بضربِ الدفِّ في الأعراس»، فهل يجوزُ إقامةُ الأعراس بدون ضربِ الدفِّ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فيجوز إقامةُ عُرْسٍ بدون الإعلان عنه إذا ما تحقَّق الإشهادُ مع بقيَّةِ شروط النكاح في مجلس العقد؛ لأنَّ الإشهادَ بشاهدَيْ عدلٍ هو القَدْرُ المشروطُ في صحَّة النكاح؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ»(١)، وبالإشهاد يتميَّز النكاحُ عن السفاح؛ لذلك كان توثيقُ الشهادة في عقود النكاح وتدوينُها في سِجِلِّ الحالات المدنية أمرًا حتميًّا، حفاظًا على حقوق الزوجة، وإثباتًا للفراش عند الجحود، وتأمينًا لحقِّ الولد مِن تضييعِ نَسَبِه.
أمَّا إعلانُ النكاح فمُستحَبٌّ عند الجمهور خلافًا لمالكٍ وابنِ تيمية ـ رحمهم الله ـ(٢)، وقد يتأكَّد الإعلانُ عن النكاح فيما إذا شَهِد عليه الشهودُ ولم يُعْلنوه للناس، ويدلُّ على آكِدِيَّتِه ـ في هذه الحالِ ـ قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ»(٣)، ويتمُّ ذلك بأيَّةِ وسيلةٍ تُخْرِج النكاحَ مِن سرِّيَّتِه ليتميَّزَ عن الزنا، غيرَ أنه يُسْتَحْسَنُ أَنْ يكون الإعلانُ بضربِ الدفِّ لكونه أَبْلَغَ في الإعلان، وقد ثَبَتَ في ذلك أحاديثُ نبويةٌ منها قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ: الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ»(٤).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٢ صفر ١٤٣٢ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٦ جانفي ٢٠١١م
 
(١) أخرجه ابن حبَّان في «صحيحه» (٤٠٧٥)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٧/ ١٢٥)، مِن حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٧٥٥٧).
(٢) انظر: «المغني» لابن قدامة (٦/ ٤٥٠)، «عارضة الأحوذي» لابن العربي (٥/ ١٨ ـ ١٩)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٧/ ٢٣٩، ٣٢/ ٣٥، ١٢٧ـ ١٢٩).
(٣) أخرجه ابن حبَّان (٤٠٦٦)، وأحمد (١٦١٣٠)، والبيهقيُّ (١٥٠٥٢)، مِن حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما مرفوعًا. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «آداب الزفاف» (١٨٤) وفي «صحيح الجامع» (١٠٧٢).
(٤) أخرجه الترمذيُّ في «النكاح» بابُ ما جاء في إعلان النكاح (١٠٨٨)، والنسائيُّ في «النكاح» بابُ إعلان النكاح بالصوت وضربِ الدفِّ (٣٣٦٩)، وابن ماجه في «النكاح» باب إعلان النكاح (١٨٩٦)، وأحمد في «مسنده» (١٥٤٥١)، مِن حديث محمَّد بن حاطبٍ رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «الإرواء» (٧/ ٥٠) رقم: (١٩٩٤) وفي «آداب الزفاف» (١١١).

فتاوى الشيخ فركوس:

قناة سلفية تعتني بنشر فتاوى الشيخ فركوس
https://telegram.me/ferkouss

الفتوى رقم: ١٠٨٥
الصنف: فتاوى الأسرة - عقد الزواج - آداب الزواج
في حكم التكسُّب بضرب الدفِّ في الأعراس
السؤال:
هل يجوز أخذُ مُقابِلٍ ماليٍّ على الضَّرب بالدُّفِّ؟ وهل هو مِنْ باب الإجارة أو الجُعْلِ؟ وهل يَحْسُن بطالبةِ علمٍ أَنْ تضربَ به إذا كانَتْ محتاجةً حَتَّى لا تتكفَّفَ الناسَ، أم تختصُّ الرُّخصةُ فيه بالإماءِ الجواري والبناتِ الصغيرات؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فضربُ النِّساءِ الدُّفَّ في مُناسَبةِ أيَّامِ العيد أوِ العُرس ونحوِ ذلك لإشاعة الفرح وإدخالِ السُّرور وترويحِ النَّفس جائزٌ دون سائرِ آلاتِ اللَّهو والمعازف؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: مِزْمَارٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ وَرَنَّةٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ»(١)، ويجوز أَنْ يكون الدُّفُّ مصحوبًا بغنائهنَّ إذا خَلَتْ كلماتُه مِنْ فُحْشٍ أو تحريضٍ على إثمٍ أو ذِكْرِ محرَّمٍ، وبصوتٍ في محيطهنَّ بحيث يحصل معه الأمنُ مِنَ الفتنة؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الحَرَامِ وَالحَلَالِ: الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ»(٢)، والمرادُ بالدُّفِّ هو ما كان في زمنِ المتقدِّمين خاليًا مِنَ الجلاجل، ويدخل في الصَّوتِ: الغناءُ المُباحُ، وصوتُ الحاضرين بالتهنئة، والنَّغمةُ في إنشاد الشِّعر المباح(٣).
والمعلومُ أنَّ الأحاديث الصحيحة الواردةَ في ضربِ الدُّفِّ والغناءِ إنَّما فيها الإذنُ للنساء، وخُصَّ بهنَّ فلا يَلْتَحق بهنَّ الرجالُ لعموم النهيِ عن التشبُّه بهنَّ(٤).
ولا يُشترَطُ في ضربِ الدُّفِّ عند إعلان النكاح ونحوِه سنٌّ مُعيَّنةٌ ـ في حدودِ علمي ـ لأنَّ وقوعَه مِنْ بناتِ الأنصار غيرِ البالغات في حديث الرُّبَيِّع بنتِ مُعوِّذٍ رضي الله عنهما(٥) لا يَلْزَمُ منه مَنْعُه عن البالغات، وقد ثَبَتَ مِنْ حديثِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قال: «خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى»، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلَّا فَلَا»»(٦)، وله شاهدٌ مِنْ حديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنه: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ»، قَالَ: «أَوْفِي بِنَذْرِكِ»»(٧).
هذا، وإذا كان الدُّفُّ للنِّساءِ مُباحًا استثناءً مِنْ عمومِ المعازف المحرَّمة في الإسلام فإنَّ التكسُّبَ به فرعٌ عن مشروعيَّتِه؛ فالضربُ بالدُّفِّ للنساء فعلٌ يُحتاج إليه في إعلان النكاح ونحوِه ومأذونٌ فيه شرعًا، ولا يَختصُّ الإذنُ بأَنْ يكونَ فاعلُه مِنْ أهلِ القُربة؛ فجاز الاستئجارُ عليه بدفعِ المال للدَّفَّافات لأنَّه عملٌ مُباحٌ، وقد اتَّفق الفقهاءُ على جوازِ استئجار الإنسان على الأفعال المباحة(٨).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٦ من المحرَّم ١٤٣٢ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٢ ديسمبر ٢٠١٠م
 
(١) أخرجه البزَّار في «مسنده» (٧٥١٣)، والضياءُ في «الأحاديث المختارة» (٢٢٠٠)، مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه. وقال الهيثميُّ في «مَجْمَع الزوائد» (٣/ ١٠٠): «رجالُه ثِقاتٌ». والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٧٩٠) رقم: (٤٢٧).
(٢) أخرجه الترمذيُّ في «النكاح» بابُ ما جاء في إعلان النكاح (١٠٨٨)، والنسائيُّ في «النكاح» بابُ إعلان النكاح بالصوت وضربِ الدفِّ (٣٣٦٩)، وابنُ ماجه في «النكاح» بابُ إعلانِ النكاح (١٨٩٦)، وأحمد في «مسنده» (١٥٤٥١)، مِنْ حديثِ محمَّد بنِ حاطبٍ الجُمَحيِّ رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «الإرواء» (٧/ ٥٠) رقم: (١٩٩٤) وفي «آداب الزفاف» (١١١).
(٣) انظر: «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (٤/ ٢٠٩).
(٤) لحديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ»، أخرجه البخاريُّ في «اللباس» باب: المتشبِّهون بالنِّساء والمتشبِّهاتُ بالرِّجال (٥٨٨٥). وانظر: «فتح الباري» لابن حجر (٩/ ٢٢٦)، «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (٤/ ٢١٠).
(٥) أخرجه البخاريُّ في «النكاح» بابُ ضربِ الدُّفِّ في النكاح والوليمة (٥١٤٧) عن الرُّبَيِّعِ بنتِ مُعوِّذٍ رضي الله عنهما قالت: «جَاءَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: «وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ»، فَقَالَ: «دَعِي هَذِهِ، وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ»».
(٦) أخرجه الترمذيُّ في «المناقب» بابٌ في مناقبِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه (٣٦٩٠)، وأحمد في «مسنده» (٢٣٠١١)، مِنْ حديثِ بُرَيْدة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٥/ ٣٣٠) رقم: (٢٢٦١).
(٧) أخرجه أبو داود في «الأيمان والنذور» بابُ ما يُؤْمَرُ به مِنَ الوفاء بالنذر (٣٣١٢). والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٨/ ٢١٣) رقم: (٢٥٨٨).
(٨) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (٢/ ٢٢٠ ـ ٢٢١).
فتاوى الشيخ فركوس:

قناة سلفية تعتني بنشر فتاوى الشيخ فركوس
https://telegram.me/ferkouss
‏ألّف الإخنائيّ رسالة ردّ فيها على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في نهيه عن شدّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتهجم عليه وغلَط في حقّه, وافترى عليه ما لم يقله, ووصفه بالضلال.
ومما قاله في ردّه: "لقد ضلّ صاحب هذه المقالة وأضلّ، وركب طريق الجهالة واستقل، وحاد في دعواه عن الحق وما جاد، وجاهر بعداوة الأنبياء وأظهر لهم العناد، فحرّم السفر لزيارة قبره وسائر القبور، وخالف في ذلك الخبر الصحيح المأثور، وهو ما ورد عنه صلى الله عليه وسلّم في الصحيح أنه قال: "زوروا القبور".. وقال: وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلّم استأذن ربه في زيارة قبر أمّه فأذن له، وأجيب في ذلك لما سأله, فعلام يحمل هذا القائل زيارته لقبر أمه ومشيه الذي منه صدر؟ فإن حمله على التحريم فقد ضلّ وكفر، وإن حمله على الجواز والنَّدْب فقد لزمتْه الحجة والتقم الحجر".
فكان جواب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "نحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه، كما أمر الله تعالى؛ فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار، فقال سبحانه وتعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}, فكيف بإخواننا المسلمين، والمسلمون إخوة، والله يغفر له ويسدّده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين".
فانظر إلى إنصافه وعدله بل ودعائه لمن جاهره بالعداوة, وخالفه في العقيدة, فكيف يسوغ لمسلم أن يعادي أخاه في العقيدة, ويُبغضه ويسبّه! ويبدأه بالخصام والعداء، فبأي حجة يلقى الله يوم القيامة في عداء وبغض مسلم لم يهجره ولم يسبّه ولم يعتد عليه!

الفتوى رقم: ٨٨٥
الصنف: فتاوى الأشربة والأطعمة - الأضحية
في حكم الأضحية في الشرع
السؤال:
ما حكم الأضحية في الشرع؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقَدِ اختلف العلماءُ في حكم الأضحية، فمذهبُ الجمهور استحبابُها خلافًا لمذهب القائلين بوجوبها على المُوسِر الذي يقدر عليها فاضلًا عن حوائجه الأصلية، وبه قال الأحنافُ وبعضُ المالكية(١)، وهو الأظهرُ ـ عندي ـ لِمَا رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا»(٢)، فالحديث نهى المُوسِرَ عن قربان المصلَّى إذا لم يُضَحِّ، فدلَّ على أنه تَرَك واجبًا باللزوم، فكأنَّ الصلاةَ عديمةُ الفائدةِ مع تركِ هذا الواجب، ويؤيِّده ما رواه مِخْنَفُ بنُ سُلَيْمٍ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال بعَرَفةَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَةً وَعَتِيرَةً»(٣)، وقد نُسِخَتِ العتيرةُ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ»(٤)، ولا يَلْزَم مِنْ نسخِ العتيرةِ نسخُ الأضحية؛ إذ لا تلازُمَ بين الحكمين حتَّى يَلْزَم مِنْ رفعِ أحَدِ الحكمين رفعُ الآخَر، وممَّا يرجِّح هذا القولَ ما رواه جُنْدبُ بنُ سفيان البَجَليُّ رضي الله عنه قال: «شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ»»(٥)، وهو ظاهرُ الوجوب، لاسيَّما مع الأمر بالإعادة(٦).
هذا، وقد استدلَّ الجمهورُ بحديثِ أمِّ سَلَمةَ رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الحِجَّةِ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ»(٧)، فإنَّ الحديث ـ عندهم ـ لا يدلُّ على وجوب الأضحية، بل غايةُ ما يدلُّ عليه استحبابُها؛ لأنَّ الواجب لا يُعَلَّق بالإرادة، كما استدلُّوا بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الوَتْرُ وَالنَّحْرُ وَصَلَاةُ الضُّحَى»(٨)، وصرفوا أدلَّةَ المُوجِبين بحديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما قال: «شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأَضْحَى بِالمُصَلَّى، فَلَمَّا قَضَى خُطْبَتَهُ نَزَلَ عَنْ مِنْبَرِهِ، فَأُتِيَ بِكَبْشٍ، فَذَبَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بِيَدِهِ وَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي»»(٩)، كما استدلُّوا بالآثار المرويَّة عن أبي بكرٍ وعمر وأبي مسعودٍ رضي الله عنهم، فقَدْ أخرج عبد الرزَّاق والبيهقيُّ عن أبي سُرَيْحَةَ قال: «رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَا يُضَحِّيَانِ»(١٠)، وعن أبي وائلٍ قال: قال أبو مسعودٍ الأنصاريُّ رضي الله عنه: «إِنِّي لَأَدَعُ الأَضْحَى ـ وَإِنِّي لَمُوسِرٌ ـ مَخَافَةَ أَنْ يَرَى جِيرَانِي أَنَّهُ حَتْمٌ عَلَيَّ»(١١).
وما تَمسَّك به الجمهورُ مِنْ أدلَّةٍ لا يصلح لصَرْفِ أدلَّة المُخالِفين عن الوجوب، فقَدْ أجاب ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ على نُفاةِ الوجوب بقوله: «وأمَّا الأضحية فالأظهرُ وجوبُها أيضًا، فإنَّها مِنْ أعظمِ شعائر الإسلام، وهي النُّسُكُ العامُّ في جميع الأمصار، والنُّسُكُ مقرونٌ بالصلاة في قوله: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢﴾ [الأنعام]، وقد قال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر]، فأَمَر بالنَّحر كما أَمَر بالصلاة...»، ثمَّ قال: «ونُفاةُ الوجوب ليس معهم نصٌّ؛ فإنَّ عمدتهم قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ العَشْرُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ»، قالوا: والواجبُ لا يُعلَّق بالإرادة. وهذا كلامٌ مُجْمَلٌ؛ فإنَّ الواجب لا يُوكَلُ إلى إرادة العبد فيقالَ: إِنْ شئتَ فافْعَلْه، بل قد يُعلَّق الواجبُ بالشرط لبيانِ حكمٍ مِنَ الأحكام كقوله: ﴿إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ ﴾ [المائدة: ٦]، وقد قدَّروا فيه: «إذا أردتم القيامَ»، وقدَّروا: «إذا أرَدْتَ القراءةَ فاسْتَعِذْ»، والطهارةُ واجبةٌ والقراءةُ في الصلاة واجبةٌ، وقد قال: ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٢٧ لِمَن شَآءَ مِنكُمۡ أَن يَسۡتَقِيمَ ٢٨﴾ [التكوير]، ومشيئةُ الاستقامةِ واجبةٌ»(١٢).
أمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما فضعيفٌ، وله طُرُقٌ أخرى كُلُّها ضعيفةٌ لا تصلح للاحتجاج، فضلًا عن كونها مُعارِضةً للأحاديث الثابتة المرفوعة.
وحديثُ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما يَسَعُ معه الجمعُ بأَنْ تُحْمَل تضحيةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على كونها عن غير المُوسِرين مِنْ أُمَّته كما يُفيدُه قولُه: «مَنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي» مع قوله: «.. عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَةً ..».
وأمَّا الاستدلال بالآثار المرويَّة عن أبي بكرٍ وعمر وأبي مسعودٍ رضي الله عنهم في سقوطِ وجوبِ الأضحية فإنَّ الصحابة اختلفوا في حُكْمِها، والواجبُ التخيُّرُ مِنْ أقوالهم ما يُوافِقه الدليلُ وتدعِّمه الحُجَّة، وهي تشهد للقائلين بالوجوب على المُوسِر، ومِنْ جهةٍ أخرى فإنَّ الآثار المرويَّةَ موقوفةٌ مُعارِضةٌ للنصوص المرفوعة المتقدِّمة، و«المَرْفُوعُ مُقَدَّمٌ عَلَى المَوْقُوفِ» على ما هو مقرَّرٌ أُصوليًّا.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٣٠ ربيع الأوَّل ١٤٢٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٦/ ٠٤/ ٢٠٠٨م
 
(١) انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (١/ ٤٢٩)، «المحلَّى» لابن حزم (٧/ ٣٥٥)، «المغني» لابن قدامة (٨/ ٦١٧)، «المجموع» للنووي (٨/ ٣٨٥)، «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٣)، «شرح فتح القدير» لقاضي زادة (٩/ ٥١٩)، «سُبُل السلام» للصنعاني (٤/ ١٧٨).
(٢) أخرجه ابنُ ماجه في «الأضاحي» باب الأضاحي: واجبةٌ هي أم لا؟ (٣١٢٣)، وأحمد في «المسند» (٨٢٧٣)، والحاكم (٧٥٦٥) وصحَّح إسنادَه ووافقه الذهبيُّ، وحسَّنه الألبانيُّ في «تخريج مشكلة الفقر» (١٠٢)، وصحَّحه في «صحيح الجامع» (٦٤٩٠)، وانظر: «نصب الراية» للزيلعي (٤/ ٢٠٧).
(٣) أخرجه أبو داود في «الضحايا» بابُ ما جاء في إيجاب الأضاحي (٢٧٨٨)، والترمذيُّ في «الأضاحي» (١٥١٨)، والنسائيُّ في «الفَرَع والعتيرة» (٤٢٢٤)، وابنُ ماجه في «الأضاحي» باب الأضاحي: واجبةٌ هي أم لا؟ (٣١٢٥)، مِنْ حديثِ مِخْنَف بنِ سُلَيْمٍ رضي الله عنه. وقوَّاه ابنُ حجرٍ في «الفتح» (٩/ ٥٩٧)، والأرناؤوط في تحقيق «جامع الأصول» (٣/ ٣١٦)، وحسَّنه الألبانيُّ في «المشكاة» ـ التحقيق الثاني ـ (١٤٧٨).
(٤) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «العقيقة» باب الفَرَع (٥٤٧٣)، ومسلمٌ في «الأضاحي» (١٩٧٦)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الأضاحي» باب: مَنْ ذَبَح قبل الصلاةِ أعاد (٥٥٦٢)، ومسلمٌ في «الأضاحي» (١٩٦٠)، مِنْ حديث جُندب بنِ سفيان البَجَليِّ رضي الله عنه.
(٦) «السيل الجرَّار» للشوكاني (٤/ ٧٤).
(٧) أخرجه مسلمٌ في «الأضاحي» (١٩٧٧) مِنْ حديثِ أمِّ سَلَمة رضي الله عنها.
(٨) أخرجه أحمد (٢٠٥٠)، والبيهقيُّ في «الكبرى» (٤٤٥٩). قال ابنُ حجرٍ في «التلخيص الحبير» (٢/ ٤٥): «وأطلق الأئمَّةُ على هذا الحديثِ الضعفَ كأحمد والبيهقيِّ وابنِ الصلاح وابنِ الجوزيِّ والنوويِّ وغيرِهم»، وانظر: «السلسلة الضعيفة» للألباني (٦/ ٤٩٤).
(٩) أخرجه أبو داود في «الضحايا» بابٌ في الشاة يُضحَّى بها عن جماعةٍ (٢٨١٠)، والترمذيُّ في «الأضاحي» (١٥٢١)، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما. وحسَّنه ابنُ حجرٍ في «المطالب العالية» (٣/ ٣٢)، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (١١٣٨).
(١٠) أخرجه عبد الرزَّاق (٨١٣٩)، والبيهقيُّ (١٩٠٣٦).
(١١) أخرجه عبد الرزَّاق (٨١٤٩)، والبيهقيُّ (١٩٠٣٨).
(١٢) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٣/ ١٦٢ ـ ١٦٣).فتاوى الشيخ فركوس:

قناة سلفية تعتني بنشر فتاوى الشيخ فركوس
https://telegram.me/ferkouss

الفتوى رقم: ١١٦٢
الصنف: فتاوى الأشربة والأطعمة - الأضحية
في أفضل الأنعام في الأضحية
السؤال:
هل تجوز الأضحية بالمعز؟ وما هو الأفضلُ في الأضحية؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا يجزئ في الأضحية إلَّا بهيمةُ الأنعام؛ لقوله تعالى: ﴿لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰم﴾ [الحج: ٣٤]، وهي أزواجٌ ثمانيةٌ تصحُّ مِنَ الجنسين(١)، متمثِّلةً في: الجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والعنز، ولكِنْ لا يجزئ مِنَ المعز إلَّا الثنيُّ وهو ما له سنةٌ فما فوقه؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ»(٢)، وأمَّا الجَذَعُ مِنَ المعز فقَدْ نَقَل ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ إجماعَ العلماء على عدمِ إجزائها في الأضحية(٣).
وأفضلُ الضحايا ـ عند الجمهور ـ يظهر على هذا الترتيب: الإبل ثمَّ البقر ثمَّ الغنم، وهذا الأخير على نوعين: الضأن ويليه المعز، وممَّا استدلُّوا به قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، ..»(٤)، وعلَّلوا الأفضليةَ بغلاء الثمن وهي علَّةٌ منصوصةٌ في حديثِ أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنه قال للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟» قَالَ: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»(٥)، ولا يخفى أنَّ الإبل والبقر أعلى ثمنًا وَأكثرُ نفعًا وأكبرُ أجسامًا وأعودُ فائدةً: حُمولةً وطعمًا.
وخالَفَ في ذلك المالكيةُ ورتَّبوا الأفضليةَ على علَّة طِيب اللحم، فكان أفضلُها: الضأنَ ثمَّ البقر ثمَّ الإبل، واستدلُّوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ ١٠٧﴾ [الصافَّات]، أي: بكبشٍ عظيمٍ، ولأنَّ: «النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ..»(٦)، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم لا يفعل إلَّا الأفضل.
والظاهر ـ عندي ـ أنَّ مذهب الجمهور أقوى تقديمًا لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على فعلِه، ولأنه ـ بغضِّ النظر عن استدلالهم بالدليل المبيِّن لمَقامِ الأفضلية بين بهيمة الأنعام ـ فقد علَّلوا أفضليةَ الترتيب بعلَّةٍ منصوصٍ عليها، بينما المالكية علَّلوا بعلَّةٍ مُستنبَطةٍ، وما هو مقرَّرٌ ـ أصوليًّا ـ في بابِ قواعدِ الترجيح بالمعاني أنَّ العلَّة المنصوص عليها مقدَّمةٌ على غير المنصوص عليها؛ لأنَّ نصَّ صاحبِ الشرع عليها دليلٌ على صحَّتها وتنبيهٌ على لزوم اتِّباعها، ولأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد يترك الأفضلَ لبيانِ الجواز أو لِفِعْلِ الأيسر، ولكِنْ يمكن توجيهُ مذهب المالكية على أنَّ المضحِّيَ بالضأن أفضلُ مِنَ الشريك المُقاسِمِ في الإبل أو في البقر، وهو رأيٌ له اعتبارُه ووجاهتُه.
هذا، وإذا كان الأفضلُ في أنواع بهيمة الأنعام ما رتَّبه الجمهورُ، وتقرَّرَتْ صحَّةُ الأضحية مِنَ الجنسين إلَّا أنَّ التضحية بالذَّكَر أفضلُ منها بالأنثى؛ لعمومِ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم في أفضل الرِّقاب: «أَغْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا».
أمَّا لون الأضحية فأفضلُها البيضاء (العفراء) وهي أفضلُ مِنَ السوداء؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ضحَّى بكبشين أملحين، والأملح: الأبيض الخالص البياض(٧)، وإذا كان السوادُ حول عينيها وفمِها وفي رجلَيْها أَشْبَهَتْ أضحيةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم(٨)، قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «أفضلُها البيضاء ثمَّ الصفراء ثمَّ الغبراء ـ وهي التي لا يصفو بياضُها ـ ثمَّ البلقاء ـ وهي التي بعضُها أبيضُ وبعضها أسودُ ـ ثمَّ السوداء، وأمَّا قولُه في الحديث الآخَرِ: «يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ»(٩) فمعناه أنَّ قوائمه وبطنَه وما حول عينيه أسودُ»(١٠).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: ١٣ رمضان ١٤٣٤ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٢ جويلية ٢٠١٣م
 
(١) لقوله تعالى: ﴿ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ نَبِّ‍ُٔونِي بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١٤٣وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ
ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَٰذَا﴾[الأنعام: ١٤٣ـ ١٤٤]. هذا، وليس في ترتيب الضأن والمعز قبل الإبل والبقر في الآية تقديم أفضلية لنوعها، وإنما هو أسلوبٌ قرآنيٌّ بديعٌ يتجلَّى فيه الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى.
(٢) أخرجه مسلمٌ في «الأضاحي» (١٩٦٣) مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.
(٣) انظر: «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٢٣/ ١٨٥).
(٤) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجمعة» بابُ فضلِ الجمعة (٨٨١)، ومسلمٌ في «الجمعة» (٨٥٠)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥) أخرجه أحمد (٢١٥٠٠)مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (١١٠٥)، وفي روايةٍ: «أَعْلَاهَا ثَمَنًا...»: أخرجها البخاريُّ في «العتق» باب: أيُّ الرِّقاب أفضلُ؟ (٢٥١٨)، وفي أخرى: «وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا..»: أخرجها مسلمٌ في «الإيمان» (٨٤).
(٦) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الأضاحي» بابُ وضعِ القدم على صَفْحِ الذبيحة (٥٥٦٤)، ومسلمٌ في «الأضاحي» (١٩٦٦)، مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه.
(٧) انظر: «شرح مسلم» للنووي (١٣/ ١٢٠).
(٨) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٦/ ٣٠٨).
(٩) أخرجه مسلمٌ في «الأضاحي» (١٩٦٧) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.
(١٠) «شرح مسلم» للنووي (١٣/ ١٢٠).
فتاوى الشيخ فركوس:

قناة سلفية تعتني بنشر فتاوى الشيخ فركوس
https://telegram.me/ferkouss
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM

الفتوى رقم: ١٠٨٤
الصنف: فتاوى الأسرة - انتهاء عقد الزواج - الطلاق
في حكم المسكن والنفقة للمطلَّقة ثلاثًا
السؤال:
بعد أنْ عرفْنا -شيخَنا المحترمَ- مِن خلالِ فتواكم رقم: (١٠٨٠)، الموسومةِ بـ«في عدّةِ المطلّقةِ ثلاثًا» أنّه يجب على المرأةِ المطلّقةِ ثلاثًا عدّةٌ كحالِها فِي الطّلقةِ الأولى والثّانيةِ بلا فرقٍ، ظهر لنا أنْ نسألَكم عن حكمِ هذه المطلّقةِ في الثّالثةِ: هل لها حقٌّ في المسكنِ والنّفقةِ -أيضًا-؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فالمطلّقةُ طلاقًا بائنًا -وهي غيرُ حاملٍ- ليس لها سكنى ولا نفقةٌ على أرجحِ مذاهبِ أهلِ العلمِ، وهو مذهبُ أحمدَ في روايةٍ وداودَ وسائرِ أهلِ الحديثِ، وبه قال ابنُ عبّاسٍ وجابرٌ وطائفةٌ مِنَ السّلفِ، لأنّ المرأةَ إذا بانتْ مِن زوجِها فهي في حكمِ الأجنبيّاتِ، لا يجب في حقِّها نفقةٌ؛ لانتفاءِ التّمكّنِ مِنَ الاستمتاعِ بها بعد البينونةِ، فلم يبق عليها سوى اعتدادِها منه؛ لمكانِ النّصِّ القاضي بوجوبِ العدّةِ عليها -كما تقدّم في الفتوى السّابقةِ-.
ويؤيّد هذا المذهبَ حديثُ فاطمةَ بنتِ قيسٍ رضي اللهُ عنها: «أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا ألبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ»(١)، وفي روايةٍ: «لاَ نَفَقَةَ لَكِ وَلاَ سُكْنَى»(٢)، ولا يخفى أنّ الحديثَ صريحٌ في محلِّ النّزاعِ، وقد جاء عن فاطمةَ بنتِ قيسٍ رضي اللهُ عنها أنّها قالت: «فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةً، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ»(٣).
وهذا الحكمُ فيما إذا لم تكنِ المبتوتةُ حاملاً، فإنْ كانتْ على هذه الحالِ فإنّه تجب لها النّفقةُ؛ لقولِه تعالى: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطّلاق: ٦]، فالآيةُ تفيد بعمومِها وجوبَ النّفقةِ للحاملِ سواء كانتْ في عدّةِ طلاقٍ رجعيٍّ أو كانتْ بائنًا، ويقوّي هذا المعنى قولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم لفاطمةَ بنتِ قيسٍ رضي اللهُ عنها: «لاَ نَفَقَةَ  لَكِ إِلاَّ أَنْ تَكُونِي حَامِلاً»(٤).
ولا يعارِض ظاهرُ القرآنِ الكريمِ حديثَ فاطمةَ بنتِ قيسٍ رضي اللهُ عنها في قولِه تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا. فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ، ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطّلاق: ١-٢].
لأنّ القرائنَ السّياقيّةَ تدلّ على أنّ الآيةَ تناولتِ المطلّقةَ الرّجعيّةَ وحْدَها، ومِن هذه القرائنِ قولُه تعالى: ﴿لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾، والمعلومُ أنّ الأمرَ الذي يُحدثه اللهُ تعالى بعد الطّلاقِ وأثناءَ العدّةِ في بيتِ الزّوجيّةِ إنّما هو الرّجعةُ لمن له الحقُّ فيها دون المبتوتةِ فلا رجعةَ لها(٥)، ولقرينةِ الإمساكِ والتّسريحِ في قولِه تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾، ولقرينةِ الإشهادِ على الرّجعةِ لقولِه تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ﴾، فهذه الأحكامُ المذكورةُ المتتاليةُ خاصّةٌ بالمطلّقةِ الرّجعيّةِ وحْدَها.
وسياقُ قولِه تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطّلاق: ٦] في الرّجعيّةِ -أيضًا- كما بيّنه ابنُ القيّمِ -رحمه الله-(٦).
وأمّا حديثُ فاطمةَ بنتِ قيسٍ رضي اللهُ عنها فمختصٌّ بالمبتوتةِ، فلا نفقةَ لها ولا سكنى ما لم تكنْ حاملاً، وبهذا ينتفي التّعارضُ خاصّةً مع وضوحِ القرائنِ السّياقيّةِ لمن تدبّرها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: ١٣ من المحرَّم ١٤٣٢ﻫ
الموافق ﻟ: ١٩ ديسمبر ٢٠١٠م
(١) أخرجه مسلم في «الطّلاق»، باب المطّلقة ثلاثا لا نفقة لها (٢/ ٦٨٦) رقم (١٤٨٠)، وأبو داود في «الطّلاق»، باب في نفقة المبتوتة (٢٢٨٤)، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
(٢) أخرجه مسلم في «الطّلاق»، باب المطلّقة ثلاثا لا نفقة لها (٢/ ٦٨٦) رقم (١٤٨٠)، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
(٣) أخرجه مسلم في «الطّلاق»، باب المطلّقة ثلاثا لا نفقة لها (٢/ ٦٨٨) رقم (١٤٨٠)، والنّسائيّ في «الطّلاق» باب الرخصة في خروج المبتوتة من بيتها في عدّتها لسكناها (٣٥٤٨)، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
(٤) أخرجه أبو داود في «الطّلاق»، باب في نفقة المبتوتة (٢٢٩٠)، وأحمد في «مسنده» (٦/ ٦١٤)، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وصحّحه الألبانيّ في «الإرواء» (٧/ ٢٢٨) رقم (٢١٦٠).
(٥) وقد احتجّت بها فاطمةُ بنتُ قيسٍ على مروانَ بنِ الحَكَمِ لمّا قال: «إِنْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الحَدِيثَ إِلاَّ مِنِ امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا»، بقولِها: «فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمْ القُرْآنُ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطّلاق: ١]»، قالت: «هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلاَثِ؟ فَكَيْفَ تَقُولُونَ: لاَ نَفَقَةَ لَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً؟ فَعَلاَمَ تَحْبِسُونَهَا» [أخرجه مسلم في «الطّلاق»، باب المطّلقة ثلاثًا لا نفقة لها (٢/ ٦٨٨) رقم (١٤٨٠)].
(٦) انظر: «تهذيب السّنن» لابن القيّم مع «عون المعبود» (٦/ ٢٧٨).
فتاوى الشيخ فركوس:

قناة سلفية تعتني بنشر فتاوى الشيخ فركوس
https://telegram.me/ferkouss
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM

الفتوى رقم: ١٠٨٠
الصنف: فتاوى الأسرة - انتهاء عقد الزواج - العدّة
في عِدَّة المطلَّقة ثلاثًا
السؤال:
امرأةٌ طلّقها زوجُها ثلاثَ تطليقاتٍ، فهل تعتدّ في الطّلقةِ الثّالثةِ بثلاثِ حِيَضٍ أم تستبرئ بحَيْضةٍ واحدةٍ؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمرأةُ المطلَّقةُ تعتدّ في الطّلقةِ الثّالثةِ بثلاثةِ قروءٍ كحالِها في الطّلقةِ الأولى والثّانيةِ بلا فرقٍ؛ لقولِه تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، فإنّ ظاهرَ الآيةِ عامٌّ في المطلَّقةِ ثلاثًا وفيما دونها؛ لعدمِ وجودِ المخصِّصِ الشّرعيِّ الموجِبِ لاستبرائِها بحَيْضةٍ، كما أنّ الآيةَ عامّةٌ في كلِّ مطلَّقةٍ إلاّ ما خصّه القرآنُ الكريمُ كالآيسةِ والصّغيرةِ بالأشهرِ، والحاملِ بالوضعِ؛ لقولِه تعالى: ﴿وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطّلاق: ٤].
وخُصّ منها التي لم يُدْخَلْ بها، لقولِه تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: ٤٩]، كما خُصّتِ الأَمَةُ بالإجماعِ؛ فإنّ عِدّتَها حَيْضتان(١).
واعتدادُ المطلَّقةِ ثلاثًا بثلاثةِ قروءٍ هو قولُ عامّةِ الفقهاءِ مِن أصحابِ المذاهبِ، ونقل الجصّاصُ عدمَ الخلافِ في ذلك(٢) وهو الصّحيحُ الرّاجحُ، مع اختلافِهم في معنى القرءِ(٣).
أمّا القولُ باستبرائِها بحَيْضةٍ فهو اختيارُ ابنِ تيميّةَ –رحمه الله-، وقد بنى تأسيسَه على الاستدلالِ بأنّ العدّةَ في مقابَلةِ استحقاقِ الرّجعةِ؛ عملاً بالاستقراءِ حيث قال بعد ذكرِ حديثِ فاطمةَ بنتِ قيسٍ رضي الله عنها: «.. والحديثُ -وإنْ لم يكن في لفظِه أنْ تعتدَّ ثلاثَ حِيَضٍ- فهذا هو المعروفُ عند مَنْ بَلَغَنا قولُه مِنَ العلماءِ؛ فإنْ كان هذا إجماعًا فهو الحقُّ، والأمّةُ لا تجتمع على ضلالةٍ، وإن كان مِنَ العلماءِ مَن قال: إنّ المطلَّقةَ ثلاثًا إنّما عليها الاستبراءُ لا الاعتدادُ بثلاثِ حِيَضٍ فهذا له وجهٌ قويٌّ بأنْ يكونَ طولُ العدّةِ في مقابَلةِ استحقاقِ الرّجعةِ، وهذا هو السّببُ في كونِها جُعلتْ ثلاثةَ قروءٍ، فمَن لا رجعةَ عليها لا تتربّص ثلاثةَ قروءٍ، وليس في ظاهرِ القرآنِ إلاّ ما يوافق هذا القولَ؛ لا يخالفه وكذلك ليس في ظاهرِه إلاّ ما يوافق القولَ المعروفَ لا يخالفه. فأيُّ القولين قضَتِ السّنّةُ كان حقًّا موافقًا لظاهرِ القرآنِ، والمعروفُ عند العلماءِ هو الأوّلُ»(٤).
ولا يخفى أنّ الاستدلالَ العقليَّ الذي قوّى به ابنُ تيميّةَ –رحمه الله- الاستبراءَ على الاعتدادِ بثلاثِ حِيَضٍ معارِضٌ لظاهرِ نصِّ الآيةِ أوّلاً، ولأنّ تأسيسَ علّةِ العدّةِ على استحقاقِ الرّجعةِ منتقِضٌ بعدّةِ المتوفّى عنها زوجُها ثانيًا، فإنّ المتوفّى عنها زوجُها تعتدّ مع أنّه لا رجعةَ عليها؛ لقولِه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]، لذلك كان الأَوْلى بالصّوابِ أنْ تعلَّلَ العدّةُ بالطّلاقِ أو الوفاةِ لمناسَبتِها للحكمِ مِن جهةٍ، ولِتَحقُّقِ دورانِ العلّةِ مع المعلولِ وجودًا وعدمًا مِن جهةٍ أخرى، فمتى وُجد الطّلاقُ أوِ الوفاةُ وُجدتِ العدّةُ تكليفًا شرعيًّا لازمًا بثلاثةِ قروءٍ أو أربعةِ أشهرٍ وعشرٍ، ومتى انتفى الطّلاقُ أوِ الوفاةُ انتفتِ العدّةُ وانعدم لزومُها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: ١٩ من ذي الحجَّة ١٤٣١ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٤ نـوفمـبـر ٢٠١٠م
(١) انظر: «أحكام القرآن» لابن العربيّ: (١/ ١٨٥).
(٢) انظر: «أحكام القرآن» للجصّاص: (٢/ ٦٧)، وقال ابن الجوزيّ: «﴿وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ﴾ عامٌّ في المبتوتات والرّجعيات، وقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ خاصّ في الرّجعيات» [«زاد المسير» لابن الجوزيّ: (١/ ١٦٠)].
(٣) انظر الاختلاف في معنى القرء في: «بداية المجتهد» لابن رشد: (٢/ ٨٩)، «رؤوس المسائل الخلافيّة» للعكبريّ: (٤/ ٣٣٤)، «تكملة المجموع»: (١٨/ ١٣٣)، «المغني» لابن قدامة: (٧/ ٣٥٢).
(٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيميّة: (٣٢/ ٣٤٢).
فتاوى الشيخ فركوس:

قناة سلفية تعتني بنشر فتاوى الشيخ فركوس
https://telegram.me/ferkouss

الفتوى رقم: ١٠٤٤
الصنف: فتاوى الأسرة - عقد الزواج - آداب الزواج
في مداراة الرجل زوجتَه باليمين الكاذبة
السؤال:
هل يجوز للزوج أن يحلف بالله كذبًا على زوجته من أجل الإصلاح إذا ما اضطر إلى ذلك؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمعلوم أنَّ الأصل في الكذب أنه حرام في ذاته، إذا كان لجلب نفعٍ مجرَّدٍ، وهو من الكبائر لكونه متوعدًا بلعنة، قال تعالى: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: ٦١]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: ١٠٥]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ»(١).
فإن انضمَّ إليه حلف بالله صارت اليمين غموسًا، وسُمِّيت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثمَّ في النار، وقد جاء في الحديث: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: المُسْبِلُ وَالمَنَّانُ وَالمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بالحلفِ الكَاذِبِ»(٢).
أمَّا إذا كان الكذب لغرض إصلاح ذات البين أو لدفع ظُلمٍ أو ضررٍ أعظمَ من الكذب مفسدةً فقد ثبت من حديث أُمِّ كلثومٍ بنتِ عقبة بن أبي مُعَيْطٍ رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا»(٣)، وفي رواية مسلم زيادة، قالت: «وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ النَّاسُ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الحربُ، والإصلاحُ بين الناس، وحديثُ الرجل امرأتَه وحديثُ المرأة زوجها»(٤).
قال ابن حزم -رحمه الله- : «واتَّفقوا على تحريم الكذب في غيرِ الحرب وغيرِ مداراة الرجل امرأته وإصلاحٍ بين اثنين ودفعِ مظلمة»(٥).
غير أنَّ العلماء يختلفون في الكذب الوارد في الحديث: أهو الكذب الصريح أم مجرد التورية(٦)، باعتبارها كذبًا للإخبار بها بخلاف ما قصد إفهامه للمخاطب ولو قصد بها المتكلِّم معنىً صحيحًا في ذاته على نحو ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُ عَنِ الشَّفَاعَةِ بِأَنَّهُ كَذَبَ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ »(٧) علما بأن إبراهيم عليه السلام ورَّى ولم يكذب الكذب الصريح، وسَمَّى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم التوريةَ كذبًا؛ لأنَّ كلامه كان على خلاف ظاهره بالنسبة إلى الإفهام.
وفي تقديري أنَّ أقربَ القولين صحةً هو أنَّ المرادَ بالكذب في الحديث التوريةُ لا الكذبُ الصريح، قال ابن القيم -رحمه الله- في مَعْرِض ردِّه على من يقول: «يَحْسُنُ الكذبُ إذا تضمَّن عصمةَ نَبِيٍّ أو مسلمٍ» ما نصه: «لا نسلّم أنه يَحْسُنُ الكذبُ فضلاً عن أنه يجب، بل لا يكون الكذبُ إلاَّ قُبحًا، وأمَّا الذي يحسن فالتعريضُ والتوريةُ، كما وردت به السُّنة النبوية، وكما عَرَّض إبراهيم للملكِ الظَّالم بقوله: «هَذِهِ أُخْتِي» لزوجته، وكما قال: «إِنِّي سَقِيمٌ» فعرَّض بأنه سقيمٌ قلبُه من شركهم، أو سيَسْقَمُ يومًا ما، وكما فعل في قوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣](٨)، فإنَّ الخبرَ والطَّلَبَ كلاهما معلَّق بالشرط، والشرط متصل بهما، ومع هذا فسمَّاها صلى الله عليه وسلم ثلاثَ كذِبات، وامتنع بها من مقام الشفاعة، فكيف يصحّ دعواكم أنّ الكذب يجب إذا تضمن عصمة مسلم مع ذلك؟
فإن قيل: «كيف سمَّاها إبراهيم كذبات وهي تورية وتعريض صحيح؟»
فنقول: الكلام له نِسبتان، نسبةٌ إلى المتكلِّم وقصده وإرادته، ونسبة إلى السَّامع وإفهام المتكلمِ إيَّاه مضمونَه، فإذا أخبر المتكلِّم بخبرٍ مطابقٍ للواقع وقصد إفهامَ المخاطَب فهو صِدْقٌ، وإن قصد خلاف الواقع وقصد مع ذلك إفهامَ المخاطَب خلاف ما قصد، بل معنًى ثالثًا لا هو الواقع ولا هو المراد، فهو كذبٌ من الجهتين بالنسبتين معًا.
وإن قصد معنًى مطابقا صحيحًا وقصد مع ذلك التعمية على المخاطَب، وإفهامَه خلاف ما قصده فهو صدق بالنسبة إلى قصده، كذب بالنسبة إلى إفهامه.
ومن هذا الباب التَّوريةُ والمعاريضُ، وبهذا أطلق عليها إبراهيمُ الخليلُ عليه السلام اسم الكذب، مع أنه الصَّادقُ في خبره، ولم يخبر إلاَّ صدقًا.
فتأمَّل هذا الموضع الذي أشكل على الناس، وقد ظهر بهذا أنَّ الكذب لا يكون قَطُّ إلاَّ قبيحًا، وأنَّ الذي يحسن ويجب إنما هو التورية، وهي صِدقٌ، وقد يطلق عليها الكذب بالنسبة إلى الإفهام لا إلى العناية»(٩).