فهد الدوخي
1 subscriber
16 photos
11 files
تتضمن كتابات فهد عنتر الدوخي الأدبية
Download Telegram
.......( أعيش في العش )
أعيش في العش مع عصفورتي
الكناري ..
عيناي تحدقان في السماء ،
وحيدة بين الجدران..
لا أرغب الغزل مع عصفورتي ..
هي أسيرة في القفص ،
وأنا أسيرة أفكاري ..).
مايميز أفكار شاعرتنا السيدة (روناك بابان) وفي معظم قصائدها هواستثمار عدستها الصافية التي تلتقط لنا صورا جميلة ومدهشة فهي لم تكتفي باشغال المتلقي بحروفها الندية المباشرة بل دعتنا لمرافقتها بجولة وهي تستكشف سمات الطبيعةوما درج عليها وسحرها الخلاب، (المطر، البلبل، القمر، الحقول، الزهور، الاشجار، العصفور، الشمس، الصباح، الجبال، الأنهار، الجداول، الفراشات....
...............
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
المنافي السعيدة




(رواية)
فهد عنتر الدوخي


















إن قدرة استيعاب الأحداث، و صعوبتها وعدم توقعها، دجنت الإنسان على استعباد الأفكار الخاملة والغبية في بيئة تحكمها أطراس الشياطين ,لذلك مرنت عقولنا على الإعتقاد بها وهكذا إنغمست الذات البشرية بغيبيات ليس لها سعة...
...












امواج.
..............
يرسمون على أراگيلهم،
صور الموتى،
ويلقون النكت الهابطة،
يشتمون كل رؤساء العالم،
من رأس القبيلة،
حتى آخر مسمى على كوكب الأرض،
يبكون خلسة،
بعيدا عن أعين الجلادين،
يداهمهم خطب الجوع،
والحرمان ومساءات الصيف الكفيفة،
وتنسل من قراهم،
ايام الفزع الأخيرة،
كانوا قد حكي لهم،
عن شارع (تاركوفر)،
الذي تحرقه نار المومسات،
وتعطر نسائمه نساء من مرمر،
ويرتمي على أرضه،
قمر ضل طريقة،
حتى هبط اضطراريا،
تقدم اليه نفر من أصحاب النفوذ،
ليرشوه بأجنحة كسيرة،
كانوا جميعهم مكبلين،
بحكاية مصدرها مجهول،
قد وقع فعلها،
أثناء تزوير العملة النقدية،
ولم يتداركوا الأمر،
أن الذكرى قد تداعت،
منذ أن غادر اللقلق أرض الحرام،
ومنذ ان صاح القطار صيحته الأخيرة،
وهو يودع القرى الذي رضع حليبها،
منذ أمد بليد،
والسينما هذا الكائن،
الذي نزف حتى الموت،
رأيت أوراقه متطايرة،
في شارع الحمراء،
إلى وقت قريب،
وانا احتفظ برسائل المدن الساذجة،
وتصعقني نغمة،
كانت موجعة وعنيدة،
(شاهين شو جابت لضعيتنا)،
ماالذي دعاك ان تتصفح،
ذكرياتك الهابطة؟.
وتودع دموعك لدى سمسار أخرس،
يتعقب خطى الفاتنات،
وتخذله إشارة خلاسية،
لم يدرك مصدرها،
ماذا دهاك أيها المفرط بالحب؟
لن يصدقك الذين وضعوا حقائبهم،
استعدادا لرحلة طويلة الأمد،
ارجوك ان تتحدث بما يثقل صدرك،
فإن للمرمى بابا مفتوحا،
يصغي لإستغاثة السفهاء بدون خجل،
أن كنت فارسا تفرش الأرض سحابا،
قد خذلك الانتظار،
وضحكت عليك طواويس الدنيا،
منذ الصغر وانا اضبط نبض قلبك،
كنت شغوفا ببساطتهم،
وهم يحتسون الحكايا،
عن زمن التكايا والدروايش،
والفوضى التي صدعت رؤوس الأشهاد،
هذه التي قرأ نبوءتها جاري الوحيد،
ولم اكترث لجنونه،
بعدئذ ادركت أنه الطائر الوحيد،
الذي حلق بعيدا عن مقص الرقيب...











المنفى الأول..
آه، كلما اتصفح خطوط الذاكرة، تستيقض في داخلي أسنة الندم، يا (بهار) أين كنتِ عندما كنت انا وحدي أحلق مع النجوم وأوزع نظري وشرودي على متاهات العالم؟ إذ لم أكن صيادا ماهرا، كما جال في خاطري هذا الأمر، سمعت أدعياء الصداقة، يتوجون، وجودي بينهم بنعوت بالية ورقى باهتة، الآن أيتها الجوهرة، التي مسها الضر وتداعت خفقة الجمال والفتنة في وجهها، ورغم تعثر السنين وآلام الرحيل التي حطت على هذا المنعطف، اريد أن أضع باقة الورد على رموس أحبة قد اضمحلت صفحاتهم وذكرياتهم وضحكاتهم، هل أنني كنت مخيرا أن أجدد رداء الأيام لأعيد لنظري تلك الابتسامة،؟ وعطر الوردة التي تشتعل في رأسي وهي ملقاة في طريقي وانا استجدي لفتة من عيون حارقة وخصلات شعر تتطاير أمامي، كموجة مشحونة بالحيوية والأمل باللقاء، كنت أوثق هذه اللحظات وكأن العالم سيرحل إلى كوكب منافس آخر في أقاصي الكون، حتى تتمادى أفكاري، وتغيب عني كل مديات الأمل، ربما سألحق بها عند عتبة موجة متخلفة عن عالمي الإفتراضي والذي يحاول دائما أن يروض جموحي الفائر، ويضع الأجوبة وهي محجوبة عن ادراكي، اذ لم تنشأ ببالي يوما ما أنني سأكون طائرا وحيدا يبحث عن ضالته في هذا الفضاء الفسيح، يناشد السحاب الهاطل مع الريح عن إسم توارى خلف هذه الغيوم (بهار) هي ذاكرة الأمس الوحيدة التي تداعب نومي الثقيل في الليالي الآفلات، حتى إذا تداعى حلمي وشرودي عن هذا العالم فإن وجهها الذي اقدسه ينكر عليَّ عقودا من الزمن قد اندثرت، ومازلت ابحث بين طيات هذه الذاكرة عن لون يرمز للوردة التي ربما ألقيت بمحض صدفة أمام ناظري حتى تعثرت بسيل دموع ماكرة ملوثة بنزق آثم،وعندما اتعقب مسارب هذه الأفكار وقد دوت في رأسي جنون الاستحواذ، لم يناصرني أحدا في هذا الفضاء الكسيح سوى الفراغ الذي يتسع كلما طافت روحي على اسمها وهو يشي لي بحقيقة تراجع مسحة الجمال والاشراق في وجهها الذابل، المشحون بالألم والمرارة، وحالما تعامدت قامتها الفارعة أمامي بعد تلك السنين ، قرأت عتبها الصامت الذي يبزغ من عينيها كشعاع خارق، ولم تقوى روحي على المطاولة أكثر، وفي كل طوفان على أعتاب اسمها في دفاتري تستيقظ عينيها، الجارحتين لتشتت صمتي ووحدتي، حتى إداري يأسي بقصيدة جوفاء تتراقص حروفها طربا بهزيمة متوقعة، غير أنني اعيد مراجعة فصول التصاقها بظلي الداكن منذ أن كانت يمامة وقد حطت على غصن يؤلمني، يقع بين ثنايا وجودي،وقلبي التي تأخذه هالة من الحنين الشارد مع عتبة غيابها، ينادي: يا (بهار) من أقاصي الارض أدعوك, ارزمي حقائب العمر وعودي طليقة، مري في ذاكرتي كنسمة باردة في صباح لاهب ، كما عرفتك منذ عقود خلت.
وهو في رحلته المضطربة، نحو مديات الغيب والمجهول، مازال اسمها يثقل أفكاره ، كعرجون يابس يتدلى من سقف تفتك به آفة القدم ، يحاول الوثوب نحو المعالي ليصدقه الناس، يسوق أفكاره الحبلى بالغموض ليجد أرضا راكدة، مستقرة ينشر على اديمها لوائحه، ورغم خيبة الأمل التي تلاحقه منذ أمد بعيد،إذ ليس بوسعه تجفيف منابع الندم والخذلان، وكان الأولى به أن يعبد طريق الهزيمة ليكفر عن نفسه هذا الإثم، هذا الذي ارتكبه بكامل وعيه، يضم بين دفاتر الايام، طفولة رتقت بمرارة عوز وحاجة لعينة، يراجع كابوسا قد إستبد بوعيه يصور أنباء سقوط مملكة تضم أشياءا قد ورثها عن أجداده، ليست بأهمية تذكر، وقد قرأ عنها، إنها كانت في أواخر وجودها تتخبطها فوضى عارمة ،تحوم حول جسدها الغربان، يناشد القمر ليحفظ له ماء الوجه،وهو يتابع سيره بضيائه، سنين قاحلة قضمها ومازال يبادل طائر السنونو حظه الجميل عندما تستقبله فتات عشه المهترىء الذي تركه سنوات، وقبل أن يطلق العنان لروحه أن تعشق لحظات بزوغ فجر حب يتيم لم تسعفه روحه أن يلحق بركب جيله حتى يصبح عنوانا مبهما غير مهم في رحلته هذه، كل الذكريات التي ورثها عن عقله البليد، لم تضمن له حياة طبيعية سوية، كان يتأمل شرود هذا الطائر عن فضائه، حتى تنسل من بين صمته وحزنه حكايات ومواسم غناء عاقرة، (كُلما وجهتُ عيني، نحوَ لمَّاح المُحَّيا
لم أجد في الأفق نجماً واحداً يرنو إليَّ).
منذ فجر ذاكرتي الأول ترسخت في نفسي أنني بارعا في إصطياد اللحظة وتدجينها وتفتيت معالمها وتسوية تضاريسها وسحقها إن شئت وحسب ظني أنني سأحفل بواحدة أحسن منها. لم تجف الفكرة ولم تذبل آمال كانت ومازالت لصيقة بي منذ عقود، حتى أيقنت أنه كلما جالت روحي في أماكن مضطربة ستجد بساطا وثيرا وسماءا حبلى بالسحاب، كنت أكتب أسماء النجوم في قعر الذاكرة وأوثق وجوه الجميلات بدهشة صبي، وأستل الأرقام الأولى التي توارت خلف حنين ساذج لأشهر به سلاحي الوحيد الذي عهدته مهادننا لموجات حطت على الاديم حينما أعلنت ظهور اسمي مع أصحاب المدينة الأوائل، هم أول دعاة الاغتراب كانوا يحثون الخطى نحو أبواب جامحة للريح حتى أدهشني رسمها منذ أن حلمت أن أكون راعيا لسرب الفراشات، كان حلمي صغيرا بحجم شهقة ولهفتي أن أجد قلبا متوجا بالرخام محفورا بمنقار عصفور لا يقوى على إحصاء من ترجل إلى المعاصي رغم أنفه، كانت حيلتي آنذاك أن أصاحب أمين الدير الذي قتله غروره حتى قلت لنفسي ما اتفه هذا الحلم الذي يخامر ذاكرتك رغم أن الحروف التي صاغها ذلك المعتوه الذي يحتفظ برسوم بائسة، يقال ان التاريخ قد خلدها قبل أن توشم برقم طينية، وأسفار كاذبة، وكتابات من عهود الطلاسم, والخرافات، و ظلمات البشر ونعيق الانكسارات، كل هذه الموجات المتلاحقة من العثرات كانت ترمي إلى استبداد آفة الحزن والخراب في مرابع محتها رياح داجنة، وعقول خربة قد تحجرت ورفعت من سجلات لم تأخذ من الظهور عنوانا أو واجهة لندرك مراميها، إنها الغربة مع النفس ، أو الاغتراب بعينه يا سادة.لابد أن نمرن طاقتنا لتستقبل الدروس الثقال، نودع بعض من همومنا لدى صديق، محب، يعي ثقل الامانة ،نمنحه الثقة لأنه يدرك قدسيتها ،المنزل ذاكرتنا الحية التي وثقت كل لقطات العمر بصفحاتها الأليمة تارة والطيبة تارة أخرى، حتى يراود مخيلتنا أن أركانه تحتفظ بأنفاسنا، وفضاءه مازال يستنعم بشذى ارديتنا، ونبعد الشك، هل بوسعنا أن نعاتبه؟..ايها المنزل الذي تحتضن كركراتنا واحلامنا، دعني أمر طيفا قد يلامس سماءك ،دعني أجدد اغنيتي التي طالما كنت تدندن معي وأنا افتح ذراعي للريح لأجد في شرفتك ملاذا جميلا للشمس وهي تخترق النافذة والباب نصف المؤصد، ايها العمر الذي مضى هاربا، كأنه ساعات، قد دون في دفاتر ايامنا، وهو ملقى على الطاولة في زاوية من حجرة غابت فيها احلامنا،،حتى غادرناه وقد أخذ منا عنوة...
قبل سنوات، طوى آخر صفحة من حلمه، ولم يصدق هذا الليل الكسيح ليركن إليه ويبث شكوى قاحلة في سواده، لأنه يعلم أنه هو وحده من يتقن لعبة الاختفاء، والتي أحاطت به وأوقعته ذليلا مع كل خيبات وجوده، وقبل أن تحدد مسارب الزمن ظهوره، رأى نفسه محاطا بغيمة شعثاء ولدت قبله، لتنذره، هذا هو قدرك، أين ستولي وجهك أيها الطريد؟ لقد غمرتك فجاج الأرض بترهاتها، وتعامدت عليك المسافات قبل أن ترزم حقائب السفر وقبل أن تقرأ لحظة وقوفك على سجل حضورك الغائب في هذا الفناء الداعر، لأنك آخر القادمين من الأزل، وأول المعاقين من سرب البدايات ,ما زلت أيها المسكون بالألم والخديعة تؤجل لحظة الاستسلام، وتروي عطشك للتي وضعت مكان اسمك نعشا، وأغنية باردة، تلوح لك بصريرها منذ ذلك التاريخ وحتى تلاشي الأمل الذي كان يلازم مكوثك وانت تجر أذيال النعاس هلعا، و هروبا، وصمتا مميتا، وهنا يجلس في مكانك صخب ثقيل، و إرث وقع عليك قبل أن تولد، لقد خامر نومك المخدوع أذناب ليل بهيم، بمن تودع اسرارك التي طفحت في فضاء قصي كحروف متناثرة؟ من يلملم أوراقك التي تطايرت كسرب فراشات؟ من يشهد لك؟ ومن يشهد عليك؟ وانت وحدك اللصيق بنوبات الأسى والندم ومديات الترحال إلى تلك المدن الموشمة بالجفاء والموت والخراب، أكتب ما شهدته روحك المسكينة يوم نزوحك القسري، يوم تعالت الغربان حتى ضربت وجه الأرض بنعيقها الذي يخدش حياء الشمس، ويطرد اليمامات من صوامع وجودها، لوتدرك أن وجودك في هذا الزمان يلازمه هذا الغثيان وهذا الألم والتداعي، لقلت لك، إمسح من ذاكرتك كل الاسماء التي علمها آدم وعرضها على الملائكة، لتقتفي أثر السعادة التي لم تشعر بها زائرة منذ أن وثق إسمك في مديات الغيب، ومنذ أن حط النهار بشموخه على الأرض, الزمن يعدو سريعا, وأنا ما زلت أنفض الغبارعن رداء الأيام, إذ لم أشهد يوما صافيا خاليا من العثرات, الزمن عباءة سوداء أكبر من مقاسنا لبسناها ونحن لاندرك اليوم الذي يضمنا, منذ سنين ونحن نتعثر بها تدوسها أقدامنا حتى تتعفر بالتراب, وتحت هذه العباءة كان الجو مشحونا نزقا, داعرا بغطرسة عفنة, والأنفاس تتهادى على ثقوب تمر من خلالها أشعة كونية تبشر بحرية قادمة, هذا ما كنا نقرأه في تراتيل مجهولة, جزعت أسماعنا من تكرارها, إفترشنا خارطة العالم عسى أن نقترب من قلوب قدغاب النبض فيها حتى إستحالت الى هياكل من رماد.
هذه الأرض التي تبعث الغربة في نفسي، التي تنز قهرا وندما وضياعا، هذا العالم القاحل الذي منحني فتات الفوضى والعبث بالأقدار والركض وراء رمية متعسرة، ركوب موجة الأماني بقارب واهن بليد، هل يدرك ذلك أحبتي الذين هجرت احضانهم خلسة دون أن يعلموا؟ كيف حالهم الآن؟ ماذا تدعوهم أفكارهم الغارقة بالوهم والتي شاخت بهم؟ كانوا يلقنون حياتهم حكايات خجولة عن عالم افتراضي ينعم به المغترب في أقاصي هذا الكوكب، وعندما يغيب شبح الطفولة، والمدينة والمدرسة والمنزل والمحلة والقرية، في ذاكرتهم تنتعش حمى الهروب في نفوسهم حتى يظل الوطن مجرد خارطة لاتسع لأي انتماء، لا تفضي إلى متنفس، إلى حرية كاملة، آه... ما أجمل مزاحكم أيها الصغار، صفاء قلوبكم وبراءتكم، كيف فرقتكم الايام وشاحت بجفائها على احلامكم؟ هل وجدتم جنة الفردوس وقد اشرعت أبوابها أمام تهافتكم للمضي في هذه الدروب الموحشة؟ هل تحلحلت عقدة الكفاف والعوز والتصحر الذي لازم حياتكم؟ منذ أن احتفت بكم امهاتكم، والأمنية ذاتها، حبيسة قنينة حليب باردة وفكرة أخرى ابرد، تتقزم كلما إلتمعت نصال الحروب وتعالى ضجيج المدن الجائرة... إن قدرة استيعاب الأحداث،و صعوبتها وعدم توقعها، دجنت الإنسان على استعباد الأفكار الخاملة والغبية في بيئة تحكمها اطراس الشياطين لذلك مرنت عقولنا على الاعتقاد بل الإيمان بها وهكذا إنغمست الذات البشرية بغيبيات ليس لها سعة.وعندما أحتفي أنا بذاكرة طفولة,يتقاطر الى خلدي هذا الإنسان الذي تلازمه حقيبته الجلدية المتسخة وقد إمتلأت بأوراق مختلفة الألوان والأشكال, تتهاوى في رأسه افكار عجيبة, يتوغل بين أفواج من الأجساد التي غطت مداخل المدينة,يمضي شارد الذهن حتى يصطدم بأسوار قلعة فتكت بها آفة القدم, تداعت في صمته تلك الأفكار وهو يحدق نحو أمم قد سقطت نحو العالم السفلي وأخرى نهضت, أقوام تجشمت عناء المسافات وطوت الزمن تحت عباءة الحروب والإنكسارات,إذ لم تحصد سوى الموت والبلاء, وفي قاموسها نقرأ طلاسم نشوءها وعبثها ونلحظ فضاضة رجالها وسفاهة نساءها, يمتطي هذا الرجل حافة القلعة بترقب مثير, يتحرك وفي داخله بركان من الذكريات والتساؤلات والإنفعالات, يصور نفسه رقما صعبا في أبجديات هذه الأمم, عاصرها قبل أن تؤسس ملامح وجه البشرية وضع لمساته على جنباتها بروحه الثائرة المتمردة, وحين داهمه الشك بأنه رحل الى عوالم أخرى طوى صفحة من تاريخه حتى أذعن لهيبة الأفكار التي تستبد به. وعندما تستيقظ في داخله المروءة يحاول تسفيه قيمة هذه الأفكار, ويتعاظم السؤال في نفسه, ولم يجد سوى آهات ترتطم بآمال مخبوءة,كان يحلم ويريد أن يهبط على أديم الحقيقة, تلومه زوجته كثيرا, يخشى ثرثرتها ويجند كل حواسه لتفاديها, تضعه تحت طائلة المراقبة, تستنكر كل طموحاته وتشيع بأنه رجل من مخلفات العصور الغابرة ويفكر بعقل أهلها, وماهذه الأفكار التي يروج لها وتعشعش في عقله إلا فلسفة ورثها عن أهله, ترعرع على حيثياتها ولم يجن منها سوى الضياع والتشرد حتى أمضى عمره تائها بين سطورها , تنعشه نبوءة جديدة يعتقد أنها في طور الظهور, وربما أدرك بأن خطوطها كانت مرسومة في عقله منذ الصغر, رقم طينية وكتابات بسماريه مضى عليها آلاف السنين, أساطير مصنوعة من حجر الصوان, حلي مطلية بألوان براقة تحكي ترف نساء تلك الأمم, قلاع, مشيدات في طريقها الى الإندثار, مقتنيات توحي الى إرتفاع قامة هذه الأمم وسطوتها على منابع التاريخ والتي لفها الزمن تحت طلاسمه, وعندما تداعت تخومها وإنحسرت الإشراقة فيها, آثر على نفسه الأ أن يعيد أمجادها بنفسه, ويذهب به الخيال الى أبعد من ذلك, يريد أن يلصق أسم أحد حكامها على نفسه, ويكمل ماجاء به الأوائل عندئذ سيجد متكأ جديدا ومسحة ظل يراوح عند مداخلها, حتى غدا بنظر الآخرين رجلا قد قذفته أمواج الزمن بقدمها لتجعله حاضرا بهذا الإندفاع حاملا لإرث أجداده بروحه التي تعشق السلطنة, وعندما تعوم ذاته في حلم متأخر في ليلة صاخبة يتوج نفسه فرعونا جديدا يزاول مهنة البحث عن مجد لم يوثق في جدار الزمن وتناشده كبرياءه للمضي قدما لإحداث زلزال لم تقرأه البشرية في تراثها ,ولم تتعرف على مديات حدوثه أمم الأرض من قبل..
وفي هذا الكون فإن زوجته الوحيدة التي تستطيع بعثرة ميوله وإضعاف عزمه وطموحه لذلك تتقزم قامات جنونه أمام هيجان بركانها حتى تتجمد كل خططه بوجودها, رغم أنها لم تلازمه سوى في ساعات النوم القليلة التي تجمعهما تحت سقف آيل للسقوط, وبشروده عن هذا العالم ,غالبا ماينحدر مبكرا بإتجاه القلعة والتي تخزن ذا كرته صورة تلك الموجات البشرية التي تتدافع عند صروحها, ولايصدق أن يجدها خاوية سوى من اشباح وتماثيل, وعندما يهزم السحر سواد الليل يصطدم بتلك الحقيقة المره ليجد نفسه وحيدا وأنفاسه تخترق الصمت الذي يخنق أركانها بجدارة, وينعش قلبه طائرا تائه يبحث عن ضالته في فضاءات مسومة بسحب خفيفة ولافائدة تذكر من هروبه بأتجاه المجهول, ويقرع جرس الكنيسة القريب ليوقضه من ترهاته ويعود يناشده صوت المؤذن(الله اكبر, الله اكبر)..تختلط الأوراق أمامه ويزداد أمله بلقاء صاحب الدير بوجهه التي تزينه بشاشة بهية وإتزان مهيب..وهنالك عن بعد, يضمر في صدره جذوة لازمته منذ أن أعتلى سلم الأبجدية يوزع صمته وإهتمامه وشروده بينها وبين أوراقه, ورغم أن الجميع يضع له صورة مؤطرة بتلك البساطة والعفوية والعبث أحيانا, ألا انه يوشم معظم كتاباته برموز ليس بوسعهم إكتشاف مضامينها, البعض يراه إنسانا أخرا ويبدي إهتماما أكبر عندما يشق طريقه بين واجهات وأسماء لها صداها ولايعير صبرا بما حوله, يحلق بأفكاره بفضاءاتهم بشراهة, ويستمد رؤاه من نظريات لاتصدق وثمة من يجد صعوبة في العثور على مصدرها, تسعفه كلمات وجمل كان قد دونها في مذكراته, يلقي بها على قارعة إهتمام الناس ويذهب الى أبعد من ذلك , نشوة اوحلم مؤجل وفي سره يعظم تلك السذاجة وتسري في روحه موجة من الفرح الموهوم كطفل يلهوا بلعبة صامتة ويحاول إراتداء لباس الشموخ بها, ولكن من يساومه على هضم تلك الأفكار والإهتداء بها اين يجده؟؟ يعيد شحن حواسه ليلتقط منها رؤسا قد طمرتها اتربة الغزوات ونصال الحروب وإنتهكتها عقولا جثمت على مسالك الزمن ووثقت طيشها بنقوش وكتابات وأساطير ورسوم على جلود البشروشيدت من عظامهم ثكنات وسدود ومعابر ووهبت لحومهم للظواري وحيوانات الزينة, هل إستطاع هذا الرجل أن يبوب مداخل التاريخ ؟؟وهويتوغل في أنقاض ممالك حرقت المسافات لتصبح أخيرا قلاعا نخرةوخرائب مرتعا للصمت ينافسه صهيل الرياح في الليالي المتربة, وقلما تجد من يقرأ خطوطها على خارطة الزمن عدا ذلك الرجل المأخوذ بهالة من الإعجاب والإدمان على مهادنة النفس والإستعلاء على عواطف الآخرين ومن تدعوهم الحاجة اللعينة على للحاق بركبه الغابرو إذ يتطاول تحت جنح المساء بقامته المتيبسة وينادي(اورنمو).. ياملك الخصب والنماء هذه الأرض الغرثى تستغيث, إجلب جندك وليضعوا سيوفهم جانبا وليحملوا معاولهم لإعمار الأرض وليجددوا رداءها الذي مزقه الجفاف وقطعت أوصاله شرور البشر وأنهكته مداسات الحكام, ولكن الرجل المهيب الذي يستظل برخاء الدير هو الوحيد الذي يقف بوجه تياره الهائج كسد منيع,يمنحه النصائح بمداد إيمان منقطع النظير.

بعد أن أيقن أخيرا أن الرجل الوسيم هو وحده الوصي على الدير وكل ماتعود اليه أسباب وجوده في هذا المكان, غير أن الضعف لازمه وهويوزع بصره على حافاته التي رممت حديثا, يسترد وعيه ويعود الى حقيقة وجوده وسط هذا الكم الهائل من الأجساد البشرية ويتعثر بالإجابة عن جدوى سيره بهذا المنعطف بعد أن خلف وراءه مجلدات من الخطوط والجمل والكلمات..ينهض مجددا يلازمه قلق يكاد يخنقه, يتحرر من عقدة مخبوءة, يصاحب نغمة مغمورة في دهاليز التاريخ يترنح في فلكها , حتى يبدوا أنه قد دخل في عالم الجن, تنتابه نوبات من البكاء المر حتى يقع مغشيا على الأرض, تتلقفه عيون المارة بإستنكار مريب, يعود اليه الرجل الوسيم وهو يعتلي الصومعة القديمة على كتف الدير كأنه هلالا خرج توا من سحابة داكنة, يغمره بدعائه وصلواته, ويدعوه للترجل سريعا حتى ذروتها, تندثر حواسه تدريجيا يترامى بين أسنة غيبوبة تعيده مأسورا كرمية هزيلة لا يشعرسوى بالحقيبة التي تلازمه منذ أن أدرك أن إستباحة الممنوع وحده قد يودي به الى النهاية, ولم يشارف على فهم وجوده في هذا الغيب المتهالك وإن الأساطير التي كانت تتقافز في ذهنه لازال مصرا بأنه أحد أبطالهاومن الأوصياء عليها...
...














ثانيا: منفى جديد
بعد كل المضايقات والملاحقات من قبل خفر السواحل, وهم يجوبون الشواطىء والغابات والأحراش القريبة من البحر,وهم يتصرفون كالشياطين, وكأن الإنسانية قد تبرأت منهم, دلفنا في عتبة غابة كئيبة مظلمة باردة موحلة, إذ أفقدتنا هدفنا وحلمنا أن نجتاز حدود اليونان مع مقدونيا المسورة بأسلاك شائكة لعينة وبعد ان فقدنا عزمنا وتصميمنا للمضي نحو المجهول , الأمر الذي جعل اليأس يستبد بنا وحتى الدليل علاء خانته ذاكرته ولم يعد متوازنا وكان يبحث عن جرعة يرخي بها عصبه المتوتر ونحن كقطيع مطارد من قبل حيوانات مفترسة, في هذا البرد القارس والسماء تنثر دعابتها من البرد الثقيل, توسدنا أمتعتنا الخفيفة التي لاتغني ولاتسمن من جوع,حتى تملكنا نعاس شديد في مستنقع هرم مرت عليه آلاف المداسات,وفي هذ ا الظلام الداكن لم نسمع سوى حفيف الهواء الممزوج بحركة الأشجار المتشابكة ببعضها,ولم نعر إهتماما لحيوان مفترس جائع في هذه الغابة اللعينة قد نكون وجبة لذيذة وسهلة له, كان ذلك بعيدا عن متناول تفكيرنا, وفي قرارة أنفسنا كنا نتمنى ان تنتهي بنا هذه المغامرة الى أحد مراكز البوليس لننعم بدفء موهوم ونعود الى أوطاننا منتصرين, ونتحمل كل لائمة , غير أن الإفصاح عن هذا الأمر يعد خيانة لمبدأ الرحلة, التي وضع بنودها صديقي صاحب الإرادة الفولاذية, علاء التي تداعت عند أول قفزة في القارب المطاطي في بحر( إيجة ) والذي لم يتمالك نفسه من الهلع حتى أخذ يبكي كالطفل الذي أبصر النور توا, الأمر الذي نال إستعطاف الجميع, ماعدا مجموعتنا التي انهالت علية بالسب والشتم حتى وصل الأمربنا لإحكام فمه بمنديل إمرأة عصف بها البكاء والنحيب, وهي تحضن إبنها الصبي الذي بات مذعورا من مشهد صاحبنا وهوينوح ويرتجف, ولم ينتهي الى مسامعه هذا الأمر حتى هدده قائد الرحلة بأن يرميه في البحر إذا ما واصل إستفزازه للمهاجرين, الذين يربو عددهم على العشرين راكبا في هذا القارب المطاطي الذي لايسع لأكثر من سبعة أشخاص كحد أعلى.. وبين نوم قلق ويقظة حذرة تداعت الساعات وكأنها دقائق, ثلاث ليالي مضت ونحن لم نذق طعم الراحة, أحذيتنا التي تلطخت بالطين وملابسنا التي ضاقت علينا التصقت على أجسادنا والتي إتسخت من جراء زحفنا تارة وعبور الموانع والجداول المائية تارة أخرى حتى بدت رثة ملطخة بألوان باهتة تنبعث منها روائح فجة, وفي ساعات الفجر الأولى والسحر أخذ يطارد موجات الظلام الكئيبة صحونا على أصوات الطيور وتغريداتها المموسقة, أخذ القلق يجدد ثيابه في خلدنا, ماذا نفعل؟ وأين سنتجه؟ ويداهم تفكيرنا صوت البوليس والدعامات الإسمنتية والعلامات التي تشير الى خطر الإقتراب منها, كل ذلك يراود تفكيرنا حتى بان الشفق الأحمر من بين الأشجار الكثيفة, وتوقف هطول المطر والبرد, وفي خضم هذا المشهد الرهيب , رأينا مسارا متعرجا, لا نعلم أين سيفضي بنا, أزفت لحظة الإنطلاق بعد أن إستعدنا بعض من راحتنا في ليلة بائسة جامدة, أخرج علاء من حقيبته بقايا( كليجة, معمول عراقي يحضر في الأعياد) متناثرة أسفل الحقيبة وهم بإلتهامها, حتى دعتنا الحاجة الى الإنقضاض عليها لتمنحنا شيء من القوة لمواصلة سيرنا بعد أن جزعت أنفسنا من البسكويت الجاف,أما الدليل الذي بدا أضعف عنصرا في مجموعتنا علاء, قد عطل القداحة الغازية بعد أن حاول أن يجمع شتات حطب مشرب بالماء ليصنع لنا موقدا يخفف من وطأة البرد علينا حتى نفذ غازها, ولم يذق طعم السيجارة ربما من الأمس, رغم أنه جلب معه مايكفيه من السجائر الأجنبية التي إبتاعها من مدينة أزمر التركية, كان هو الوحيد الذي أدمن التدخين, وقد لاحظنا نشوته الغامرة وسروره المنقطع النظير وهو يعب قناني البيرة في حانات مدينة أزمر التركية ونحن نضمر له الفخر والإعجاب وهو يحدثنا عن رحلته الماضية التي تكللت بالنجاح حتى وصل المانيا وعاد بعد أشهر الى العراق بطائرة إستجابة لدموع أمه التي تطارده في غربته ومنامه, وهو يسرد لنا قصة وصوله لألمانيا سالكا طريقنا الذي نحن فيه الآن دون عراقيل أو مضايقات رغم مروره بأكثر من أربع دول أوربية, كما أخبرنا, أثناء تحضيراتنا لمخر عباب البحر بواسطة( المهرب) الجشع الذي كاد أن يفرغ جيوبنا من الوريقات الخضر.
سويعات ونحن نتعثر بخطانا في هذه الغابة والنهار بدا صافيا كمرآة,إنتعشت الآمال في أفئدتنا بعد أن إبتعدنا عن خطر البوليس, غير أن الطرق المتعرجة التي سلكناها, تظهر إنها بكرإذ لم نر أثرا لمداس إنسان فيها, غير أن المحير في الأمر هو أننا لانعلم إتجاه سيرنا, حتى أنتهينا الى منحدر خارج الغابة, وكانت إجسادنا قد أصابها التعب والجوع,حتى إستجبنا لرغبة إستبدت بنا أن نأخذ قسطا من الراحة, أخذ كل منا يبدي أفكاره ثم يعترض عليه آخر ويعود الصمت يلف وجودنا ماعدا أصوات الطيورالتي تملأ المكان بضجيج جميل, وبعد أقل من ساعة راحة قلقة, إنحدرنا الى أرض وعرة,ونحن نطيل النظر الى هذه الأصقاع, وأمامنا مايشبه البيوتات الريفية وتخيل لنا ربما أن فيها رائحة بشر, لكن سرعان ماخابت آمالنا وتبين أنها صخور كبيرة ليست على شاكلة ماظننا, كانت الأرض يعتريها الإنجماد والأشجار تبدو جرداء من الخضرة, تتناثر هنا وهناك, ونحن,ثلاثة شبان أعمارنا متفاوتة, وثقافتنا لاتلتقي عند قاسم مشترك غير أن قلوبنا متحدة على هدف مرسوم في خاطرنا, وكل واحد منا رسمه بالطريقة التي يتصورها, مع كل هذه المصاعب والظروف التي أودت بنا أن نغامر ونودع مشاعرنا في حارة من حارات الوطن التي لوثته السياسات ولعبت به أهواء المنتفعون والوصوليون وتجار الحروب والأزمات, حتى شاخ في عرفنا المستقبل, الأمر الذي جعلنا مجرد كائنات حية ليست لها نفع, تعطلت طاقاتنا وإستبيحت أمانينا إذ لم يبقى لدينا سوى الفرار الى عالم آخر, غير واضح المعالم ويبقى الحظ وحده وماقدر لنا أن نستعيد حاضرنا ولتسطع أحلامنا في مدن تبعد عن ثقافتنا وتقاليدنا آلاف الأميال, ومن يعلم ماذا يخبئ لنا القدر؟ غير أن السائد هو من وصل وإجتاز هذه العقبات سينجو بعد أن عبرالحدود المترامية بهذه الطرق الملتوية, غير الشرعية, في دول قد ضاقت ذرعا من موجة المهاجرين الذين دلفوا اليها في سنوات التردي والضياع وموجة العنف والإحتقان الطائفي في مدن المشرق العربي التي أصبحت مدنه وحواضره مكبا لنفايات العالم ومستنقعات آسنة للخرافة والجهل لوطن كان له حضوره وإحترامه بين أمم الأرض, فإنه سيودع هؤلاء في معسكرات خاصة باللاجئين, وهنا سيلقى كل واحد منهم مصيره, وفي خضم هذه الأفكار والوساوس التي تعصف بنا, بدأ الضجر واليأس ينخر بقدرتنا على المطاولة, غيرأن جيوبنا مازالت مكتنزنة بنقود, تسعفنا للوصول الى أقاصي الأرض, حسب مشورة, الدليل, الذي لازمه الصمت من بداية رحلتنا بعد إن انتزعت الثقة منه بعدم قدرته على التكيف مع هذا الحال, خاصة أن هواتفنا المحمولة قد خرست, وأستنفذت البطاريات طاقتها, وحتى قبل هذا الحال كان صاحبنا علاء الذي لعب دور المرشد, الدليل, يتواصل بهاتفه المحمول مع أخرين, الغرض منه هو إسداء الإرشاد الى الطرق الآمنة والمجربة, ولكن كانت النتائج عكسية تماما, حتى تداعت أسس البنيان الذي ربط علاقتنا به والتي نشأت سريعا بحكم إلتقاء هدف رحلتنا, في ضواحي مدينة أزمير التركية في أسابيع معدودة, عراقيون كل له بيئته الخاصة من جنوب ووسط وشمال العراق, وما يوحدنا هو إسم العراق كعنوان فقط, حتى تلاشت العراقية كلهجة في تخاطبنا وأصبح المزاح الثقيل يطغى عليها , الأمرالذي أحدث شحنا لنعرات بائسة متخلفة فيما بينننا, لم تظهر عند لقائنا في أيامنا الأولى, والى هذا الحد فإن هنالك رابطة واحدة تحركنا وهي الحاجة الى الأمان في هذا المعترك الرهيب, غير أنني كنت الأكبر عمرا وتجربة وكياسة في المجموعة, أرفع البطاقة الصفراء كلما إشتد وطيس الخوف واليأس ليعيد وشائج الأمل إلينا وليعيد الثقة بقدرتنا على المواصلة زميلًيَ بعمر الشباب, ألاطفهم بكلام بائس قديم ونكت قد عفى عليها الزمن وأذكرهم بالحسناوات ذوات العيون الزرقاء والأجسام الفارعة الطويلة والوجوه التي تنير عتمة الليل كالقمر في منتصف دورته, في تلك المدن, والحدائق الغناء والشوارع الفارهة وأماكن اللهو, والمراقص والمنتديات الرياضية والإجتماعية والحرية الواسعة التي ليس لها حدود وماهي إلا ايام معدودة وستصبح ذكريات جميلة, وإن كل مهاجر يمر بهذه الصعاب, ويتعرض الى أقسى ما تعرضنا له ومازلنا في منتصف الطريق, لكننا ومن باب معرفتي البسيطة المتواضعة فإننا كلما تقدمنا بإتجاه هذه المنافي ستقترب الينا فضاءات السعادة ويتحقق حلمنا الذي لازمنا منذ الصغر, ومايهمنا الآن هو أن لايصيبنا الوهن وتخور عزائمنا ونهلك...
واصلنا سيرنا في هذه الأرض الموحشة والسماء تكاد تطبق على الأرض, الغيوم تتكاثر والشمس في منتصف النهار تغيب لدقائق وتظهر مجددا, تلاحقنا الجبال الشاهقة المخيفة, وفي سفح جبل أجرد كأنه حطام سفينة في قاع البحر,لكثرة ماعلق به من مكتنزات الطبيعة وإذا برجل يمتطي حصانا ويعتمر قبعة وتبدو هيئته كرجال أفلام (الكاوبوي) يقود قطيعا من المواشي تتعدا العشرات, ويلاطف كلبا صغيرا أبيض, يدور حول هذا القطيع, الرجل لم يبدي إهتماما لنا, رغم أننا تنفسنا الصعداء بوجوده وكأننا وجدنا الحياة وقد إبتسمت أمامنا, ولكنني كنت قلقا من أن يكون من رجال الشرطة أو قد يوشي الينا فنقع في الفخ, المهم في الأمر هو أن وراء هذا الرجل حياة, ربما محمية أو قرية وما شاكل وعلينا أن نشحذ مفردات الحذر في تعاملنا..إقتربنا منه, أومأ الينا بحركة يده أن نجلس على الأرض, وهوعلى ظهر الحصان وبجانبه بندقية صيد مثبتة بإحكام, عاد التوتر يحكم سيطرته على نفوسنا, غير أنه إبتسم مرحبا بنا بلغة لم نفك طلاسمها, بعد أن نزل من ظهر الحصان, نهضنا وبدت مراسيم التحايا بيننا ,أخرج من جعبته بعض الحبيبات من الفواكه وأسعفنا بها, يبدو أنه شعر بهزالة أجسادنا وجوعنا المفرط, وبعد أن إلتهمنا الفاكهة بشراهة, وهو يحدق بوجوهنا ويقرأ ملامح القلق والتعب فيها, حتى أدرك مقصدنا, وقبل أن نبادره بالسؤال عن مكان وجودنا, اخبرنا بان هذه الأسلاك الشائكة القريبة هي الحدود المقدونية,وقد إجتزتموها بسلام إطمأنت قلوبنا بعض الشيْ, واخذ هو يدندن ويرقص بحركات بسيطة وقد شاركناه رقصته رغم الوهن الذي أصابنا. سرنا معه والكلب الأمين أخذ دوره في توجيه القطيع معنا, الى قرية صغيرة, بيوتها مبعثرة بين أشجار جرداء كثيفة أصابها برد الشتاء, مضى يتكلم معنا, ومن خلال إشارات يده أدركنا بأن القرية فيها رجل يمتهن تهريب البشر عبر مسالك آمنة لقاء أجر, سار بنا حتى وصلنا أطراف هذه القرية, على سفح الجبل أوقف مواشيه بحذاء فناء كبير ومنزل تستبد به آفة القدم ,نزل من حصانه وهو يدندن بلحن هادئ, دلف الى المنزل وأومأ الينا بالإنتظار, ونحن على عتبة أمل ان نجد من يعبد لنا طريق الوصول الى المدن الفاضلة التي نحلم بها, تقدم الينا بصحبة رجل يتزين بملابس انيقة وتبدو عليه آثار الرفاه رغم تقدم سنه, وبإبتسامة عفوية نثر في وجوهنا هذا الشيخ مزيدا من كلمات الترحيب وبلغات العالم كله, وسرعان ماعادت الحياة الى اجسادنا الهزيلة, ولجنا الدار معهما واذا بها صالة بسيطة جميلة يتوسطها مطعما صغيرا, ورائحة الطعام تنفذ الى رؤوسنا بحرية, غادرنا الراعي بعد أن ودعنا بمصافحة ودودة وكأننا نعرفه منذ الأزل ,بدت معالم الفرح والسرور واضحة على محيا الرجل المسن الأنيق وراح هذا الشيخ يهيء لنا الطعام وقد أدرك ظروف وصولنا الى هذا المنفى وهي ليست بجديدة عليه, احضر شاحنة توائمت مع هاتف علاء الخلوي... كانت عيوننا مشدودة على نافذة مفتوحة بإتجاه المطبخ , إمرأة خمسينية يزين جسمها ثوبا ابيض, تشد على رأسها قطعة قماش بيضاء ,تبدو بجمال متواضع تعمل في المطبخ وهي لم تبالي بما تسقطه نظراتنا وافكارنا الغارقة في التأويل, في هذه الليلة الجميلة إستحال التعب والقلق والخوف الى أمل متجدد في نفوسنا وكأن الرحلة قد إنتهت توا في احدى العواصم الاوربية من فرط ما إسترخت به أدمغتنا وتناولنا فيها ماغاب عنا للايام التي خلت من قناني الجعة الهادئة ولجنا غرفة صغيرة تزينها تحف جميلة, وهياكل طيور برية محنطة, وثلاثة أسرة نظيفة, تفوح منها رائحة أثاث خفيفة, وبصيص ضوء يشع منها, وبعد ان انتشت نفوسنا في حمام ساخن خلعنا ثيابنا المتسخة التي انتهت الى الغسالة, وسرعان ما هطلت أجسادنا على هذه الأسرة وتوغلنا في نوم عميق, تسمرت أجسادنا في هذه الغرفة ولم يخدش صمتها سوى موسيقى هجينة باهتة من شهيق خشن, وزفير متذبذب حتى أدركنا الصباح على وقع خطى المرأة التي شغلت ابصارنا ليلة أمس وهي تشح عن وجهها الذي رأيناه بحلة جديدة مشرقة هذا اليوم وهي تمسح واجهات نوافذ الغرفة, ولم يشغلها شيء سوى عملها, و في هذه اللحظات قد تعالت الغيوم, تمهد لسحاب غزير قادم لامحالة, وبعد أقل من ساعة قد جهزت الفطور الذي يتكون من قطع جبن شهية وعسل طبيعي وحليب طازج وخبز تصنعه بيدها وهي توزع الإبتسامات والمجاملات بيننا بعدالة, تحيينا دائما بكلمة ترحيب باللغة المقدونية(زدرافو), غير أن عبدالحميد الذي ينحدر من احدى قرى شمال شرق مدينة ديالى يتقن اللغة التركمانية والذي استطاع ان يفكك معظم شفرات الكلام والحوارات واللقاءات في مدينة ازمير التركية, وكانت هذه المرأة تردد بعض الكلمات التركية التي تعالت بها معنويات عبد الحميد حتى إنفرجت أساريره وهو
يخاطب علاء: اتمنى ان يطول مكوثنا في هذا المكان الساحر,
يجيبه علاء بتهكم: ولم العجلة اذا"؟ نحن جئنا لنعمل رعاة مواشي في هذه الجبال الكسيحة.
توزعت نظراتي على شرفات الجبال والاشجار المعمرة التي تشكو من عبث البشر بها والاماكن الوعرة التي تحيط بالمكان, وجالت في خاطري أسئلة نمطية, كيف يتكيف البشر مع هذه الطبيعة الصعبة؟ ولكن حوار عبدالحميد وعلاء في اطواره الساخنة.
علاء: ربما لا نجد حتى هذه المهنة في نهاية رحلتنا, عندما يصل بنا المطاف الى معسكر اللاجئين.
عبد الحميد: هذا حلمي الذي يؤرقني منذ امد بعيد, أحلم ان اقيم معرضي وسط الناس, في مخيم, اوعلى قارعة الطريق في اي مكان يعتني بالفنون والثقافة ويقدس مواهب البشر.
علاء: ساخرا, هل تتصور ان معسكرات اللاجئين هي فنادق خمس نجوم؟ إذا حصلت على سرير أولقمة تأكلها بيسر فانك ذو حظ عظيم.
عبد الحميد: ولماذا تحملت كل هذ العناء وعدت تكرر تجربة الهجرة؟ وهل ان ظروف الحياة متشابهة بين المهاجرين؟
علاء: يا أخي من خلال سفري وتجربتي الشخصية, اقول لابد ان نستعد لنواجه أسوأ الظروف حتى إذا انتهى بنا المطاف في أي دولة اوربية متقدمة , فهذ يتطلب منا التكيف سريعا مع القوانين والأنظمة الحياتية هناك.
لقد عكر مزاجنا علاء بأفكاره المتشائمة, بعد ان كانت شحنات الأمل تتضاعف لنجد من يقلنا عبر الحدود المقدونية, وفي هذه اللحظة والسكينة تستبد بالمكان, جاءنا الرجل الكهل الأنيق بوجهه الباسم والذي أضفى علينا سرورا بكلماته التي امتزجت فيها التركية, مع اشارات يديه, ادركنا بأننا سنمضي بضعة ايام هنا حتى يأتي الرجل الذي سيقلنا الى محطات أخرى.
ونحن في خضم هذه التجاذبات, كنا نرصد حركة الناس والزحام الذي اخذ من هذا المكان الذي يشبه مقاهي ايام زمان في بلدنا, والذي ابعدنا عن الأفكار الوسخة المتشائمة, الجميع كانوا يسوقون نظراتهم الينا وفي خلدهم عشرات الأسئلة المتطفلة, هذا ماكنا نضمره في عقولنا, وعندما كنا نتهامس بيننا ونحن في عزلتنا, أدرك الجميع أننا غرباء ,الأمر الذي شجع المتطفلون ان يقرب المسافة الينا ويمد يد التواصل, ورغم حذري من أن يكون من بين هؤلاء من يعمل في سلك الشرطة, اومن يشي علينا ونقع فريسة بيد السلطات المقدونية التي ضاقت ذرعا من ظاهرة وجود الغرباء الذين لايحملون إثباتات رسمية أوجوازات سفر والفوضى التي احدثتها موجات الهجرة المتزايدة, ورغم تطمينات صاحب المقهى الرجل الذي يسدي لنا النصائح والافكار, لم نأمن جوانب التقرب من سكان القرية الذين تبدو على محياهم السعادة والبساطة رغم مظاهر الفقر والعوز لأن مصادر عيشهم تتركز على الرعي والزراعة, وتجارة الأخشاب بشكل بسيط, انفرجت اساريرنا مجددا بعد ان ادركنا ان سكان هذه القرية قد إعتادوا التعامل مع حالات الغرباء الوافدين من مدن الشرق, رغم ان صاحبنا الرجل الكهل قد اقنع بعض الفضوليين منهم, أننا من ضمن الفرق البحثية الصحافية الوافدة الى صربيا للتحقق من تجارة الكلاب الجائرة مع دول اوربا وخاصة سويسرا والتي تصلها هذه الكلاب بأوراق صحية وفحوصات وجوازات سفر مزيفة, وهي تعاني من أمراض وراثية بسبب طرق التربية المتعسفة والمعنفة للكلاب من خلال حبسها في أقفاص حديدية وتكاثرها من سلالتها, الأمر الذي جعلها تحمل جينات وراثية متشابهة, علاوة على مرض( الكلب) الذي يشكل خطرا محدقا بحياة الناس, هذا ما اخبرنا به وهو يتباهى بمجالستنا ويشاركنا اجواء هدوءنا هذه, ورغم اننا لانعلم مدة مكوثنا هنا والتي لم تكلفنا إلا النزر القليل من النقود, مع كل هذه الاجواء الساحرة التي تحيط بالمكان والذي تعمره نفوس طيبة هادئة, تراودني افكارا سوداء وقلق مشحون بخوف, غير أن تناول قنينة من الشراب المحلي المصنع لديهم يفك أسر التفاؤل بأننا ماضون الى حياة اجمل.


ثالثا: منفى قديم...
يعتقد بعض الناس أن الماضي بكل ما يحتويه من أحداث, يضم صفحات بيضاء واخرى ملونة جميلة ومدهشة, وإن الأمكنة على بساطتها وقدمها تمنحنا ذلك الشعور الجميل الخفي إذ لايستطيع المرء تفسير هذا الأمر إلا لشعوره بتقادم العمر وان الماضي كله طفولة وشباب.. لذلك عندما تقفز ذاكرتنا فوق مديات السنين نعثر على مواقف وأحداث مؤلمة, ربما صنعتها أنفسنا أو فرضت علينا, وطالما سجلت ذاكرتنا الايام الجميلة ووثقتها بشكل راسخ لأنها قليلة, قياسا لعقود من الزمن وقد تداعت وإنفرط عقدها لقساوتها وصعوبة مرورها في حياتنا, والسؤال البديهي الذي نتقن الإجابة عليه, هو هل أن الماضي كان جنة الفردوس التي فقدناها في حاضرنا؟ كيف تجسد نبض القلب وترسم طيف احساس يداهمك في يوم تخلو فيه من الهموم؟ ويحل ضيفا نبيلا، وانت تلتقي بأحبة قد فارقتهم منذ ثلاثة عقود ونصف من الزمن جاءوا ليحتفوا بك، وتترك كل الأسئلة التي تجول في خاطرك... ياه كم تباعدت ملامح وجوههم وهم يدلفون من باب الصالة التي شاءت الأقدار أن تجمعهم بعد كل هذا الفراق ، كما ألفت حضورهم في قعر الذاكرة ، أحبتي لقد إضمحلت كل مصطلحات الوصف، وجفت محابر الكلام، أعد تلك الأيام إلى ذاكرتك، وتصفح الساعات والدقائق وانت تدعو صديقا أن يُعَرِّف نفسه لك قبل أن تعانقه لتجدد صلة الأخوة والمحبة التي ظلت ماكثة في عقلك ولم تتداعى رغم كل قساوة الزمن وجور المنافي وصعوبة العيش ...
حرك علاء جسده المترهل عن الكرسي الخشبي الأنيق ونهض بصعوبة بالغة ,تغطي نصف وجهه نظارات سوداء تفضل أخي:
من باب الصالة ,دلف صديقه وجاره الذي لم يره منذ سنين,
همس النادل من مقربة منه عرف نفسك؟
إذ لم تتكون أجزاء الصورة في ذهنه بعد, الأمر الذي دعاه أن يقابله بلغة كأنه يتذكره..
سلام الراغب...
صاح الجميع بلغة واحدة وبشاشة طفحت على الوجوه:
أهلا, أهلا عبد الحميد, الحمدلله على السلامة..
يبدوأن أغلب الحضور قد تمكن من إستعادة ملامح وجه (سلام الراغب) الرجل الذي لم تأخذ منه السنين العجاف كما اخذت منهم..
صافح الجميع مع عناق محتدم إلا إمرأة واحدة قابلته ببرود فاتر, تصفح ذاكرته سريعا, ياااه, إنها (بهار), ومع كلمات الترحيب التي دوت في فضاء الصالة, ولم يتدارك نفسه حتى سحب يدها وقبلها وقد إبتلت بدموعه ونفسه قد طافت على ذكريات آسرة, غير أن الموسيقى الصاخبة والإيقاعات التي إستبدت بفضاء القاعة, قد أفسدت لذة اللقاء, رغم طلب البعض أن يلغوا هذه الفقرات التي لاطائل منها سوى الضوضاء الذي يصدع الرأس, وقد اخذ الدهر منهم في مدن الإغتراب, حتى جالت لدى البعض أفكار العودة الى الوطن والتبرك بترابه الخشن,

ذاكرتنا التي لوثتها السنين العجاف، و تداعت هموم الدنيا في صفائحنا حتى غدونا كسراب في ليل كسير معتم، تطالعك الوجوه الجميلة البغدادية التي تشحن ذاكرتك بأعوام الخير والصدق والعفاف، زميلاتي الفضليات ، الأساتيذ وجوهكم ربما يجمعنا بها حب مدينة السلام،,والإعتقاد الراسخ في اذهاننا أننا سنلتقي ذات يوم رغم مرور عقود من الزمن ,لكن اين نخفي صور الأحفاد؟ اين نخفي تجاعيد الوجه,وقد غابت عنها اشراقة الشباب,واستبد بياض الشعروالصلع برؤسنا, وفي ذاكرتنا الغبية تتداعى صورنا التي تركناها عند آخر لقاء في مراسيم تخرجنا من الجامعة.
في المهجر,يداهمك شعور اللقاء حت ترتقي نفسك إلى سعادة ليس بوسعك فك شفرتها، شعور غريب يزين روحك حتى نتوغل بذاك الزمن، تحلق بلحظات وكأنك في قاعة المحاضرات أو في السنتر أو في النادي، يداهمك صوت فيروز... على جسر اللوزيه... يبعثر تفكيرك هرج زملاء يلقون النكت الصباحية تسامر وجوه الزميلات عفاف طاغي ومدنية راقية، والزي الموحد، لباس العلم والحضارة والسمو، والعطور منثورة في ممرات ومداخل الجامعة ممزوجة بنسائم زاكية... هذه الرحلة، تطوف بها ذاكرتك وانت تلتقي بزميلات اخوات وزملاء قد ودعتهم قبل ثلاثة عقود ونصف من الزمن... انه فرح وشعور لم يوثق في ذاكرة المجتمعات...... خذلنا الشوق واستبدت بنا سنين الفراق خمسة وثلاثون من السنوات العجاف حتى تماهت واختلطت في خلدنا ملامح الزميلات والزملاء، الأخوات والإخوان، وقبل سويعات اللقاء كنا قد تخيلنا صور الأحبة التي تشرق وجوههم في ذاكرتنا، حتى تدارك افئدتنا هذا الاحساس الغريب الجميل، المدهش وانت تدور حول موائدهم وتسامرهم بأحاديث السنوات الثقال، تعود نفسك إلى ذلك الزمن وكأنك تبصر المدى الطويل وانت تنتظر لحظة تجديد حضورهم، وهم، وهن أمامك مثل كواكب متلئلئة في ليل قصي، هذه الأفكار التي تمني نفسك بها كيف تصنعها؟ يأتيه السؤال من فراغ قد تركه في حقبة وجوده في سنوات الضياع في مدينته التي انهكها الارهاب وقوض فرص المدنية في ذاكرتها حتى يخلد لنفسه ليجد ان الدموع تهطل من رأسه المثقل بالأسئلة التي ليس لها جواب شافي, حتى تتعالى صرخات زملاءه في هذه الرحلة, الى اين وصلت ؟وماهذه الدموع التي تتصب من رأسك, عد الينا يا أخي,أجبر خواطرنا بتغريدة تفاؤل,ليس بوسعنا التفكير بما يعكر صفو مشروعنا ونحن نبحث عن منفذ نغير فيه خارطة وجودنا في هذا العالم الغريب,وعلى جانب قصي من مكوثهم في هذه القرية هنالك شجرة معمرة وصخور يلجأ اليها بعض المتسكعين وقد نحتت هذه الصخور بشكل تلقائي على هيئة مقاعد يلوذ بها,عشاق, اومدمنون على الوحدة, تحاكي نفوسهم الضمأى أصوات الرياح الهازجة بتأثير الجبال وطيور آمنة تتغازل على أغصان هذه الشجرة, الأمر الذي يمنحهم شيئا من الأمل, ويبعث في نفوسهم شحنات من التفاؤل, وأحيانا ترتمي انظارهم على جمع من اهل هذا المكان وهم يحتفون بمناسبة زواج,أوربما يكون لقاءا اجتماعيا عابرا في عطلة نهاية الأسبوع, ليتسع افق مداركهم ان الحياة مازالت بخير, وان لكل شيء نهاية, وماهي الا ايام معدودة وستنتهي هذه المعاناة, غير أن شبح الخوف من المجهول سرعان مايعود بقوة بعد أن يدلهم الليل المعتم على المكان وتنفض اللقاءات المعتادة فيه, وتتوارى السحب البيضاء في السماءوتخلد الطيور الى مخادعها ليحل معها صمت مطبق ثقيل لايداويه سوى هذا الشيخ ونادلته وهما يتوددان الى هذه الثلة ليضعا قناني من الجعة على طاولتهم وبأثمان باهظة.
علاء, هذا الكائن المضطرب احيانا, يستبد به الأرق يراجع ايامه التي امضاها في ألمانيا,يستعير افكار زميله عبد الحميد الموهوب بالرسم الانطباعي, تأخذه غيبوبة بين نوم مرتبك ويقظة وجلة,يقطن شقة فارهة, في مدينة (ميونخ)وصاحبته العجوز في آخر حلقات وعيها والتي ارتضت به كرجل شرقي والتي تفضل كلبها المدلل عليه احيانا, غير أن حاجتها لأنيس يزين سنوات عمرها الأخيرة دفعها لترتبط به,وعلاء المضطر للحصول على الجنسية الألمانية بواسطتها, عقد مع هذه العجوز صفقة زواج غير متكافئة,الأمر الذي دعاه ليرسم وجه إمرأة جميلة ويقنع العجوز أن يضع هذه الرسمة على وجهها أثناء المعاشرة الزوجية ,حتى لاقت هذه الفكرة استحسانهما, وكلما اجبرته نفسه للمعاشرة, احضر مشغله الفني ليرسم وجها آخرا, ليقنعها أنها كانت أجمل من هذه الرسوم, وقد أعانه ارشيف العجوز من صورها الفوتوغرافية في شبابها, حتى نجح في اتقان ملامح وجهها وهي في عز الشباب, ثم توغل في نوم عميق بعد هذه الرحلة التي طاف بها على ذكرياته وأيامه الجميلة في مدينة ميونخ, الأمر الذي ازعجه نباح كلبها الحزين والذي كان يجوب الدار بحثا عن صاحبته العجوز حتى أيقظه من حلمه وهو يسترق النظر من نافذة الغرفة,وقد دلفت منها أشعة شمس مقدونيا في صباح بارد,ودارت نظراته على ثلته وهما يغطان في نوم عميق.وهو يراجع ذاكرته التي تخذله أحيانا وترمي به الى حظه الذي يجده عاثرا دائما, وكلما تسلل نظره على مرامي المكان يستعيد انفاسه بتفاؤل حذر,لتمر من أمامه فصول حكايات, كان اللاعب الرئيس فيها (بهار) سنوات ثقال تطبق على ذاكرته,الأمر
رواية (مهرجان الببغاوات), للكاتبة ملاك الاحمد , حرفة سردية جديرة بالدراسة
كتابة: فهد عنتر الدوخي
من نسيج مدينة كركوك المتين, حملت هموم الكتابة بسرد غزير محكم ولغة عالية الاتقان وعبرت عن ضائقة النخب وتردي حال الجيل الذي اتقن لعبة( الأركيلة) ولم يعرف كيف يفكك شفرة أي كتاب قد يقع بين يديه, وحتى الكتاب المدرسي, حلت محله( الملزمة)سيئة الصيت, لانذهب بعيدا عن رواية( مهرجان الببغاوات) للروائية الانيقة الاستاذة (ملاك الاحمد)..
من خلال قرائتي المتأنية لهذه الرواية والتي وظفت فيها الكاتبة, افكارا تتوائم مع حرفة السرد الحديثة وبنيان القص الجميل المدهش, إذ ابتدعت رؤى وبيئات وامكنة افتراضية وحتى توفقت في استنساخ الزمن وعكس معطيات واحداث موثقة في اديم الادب واجناسه,إخترعت زمنا من عندياتها تحاكي فيه اعلاما من ادبنا العروبي المعاصر,( بدر شاكر السياب, لميعة عباس عمارة , عبد الرزاق عبد الواحد, نازك الملائكة, نزار قباني) وآخرون, استطاعت الروائية( ملاك الأحمد) أن تجدد رداء حقب زمنية عاشها هؤلاء من خلال شخصية خيالية غريبة متمردة , متصعلكة, اسماعيل, البطل الذي جاب فصول الرواية بحضور مكثف وهو يلبس ادوارهم, إذ أن الأمر لم يقتصر على ابراز نجوميتهم وأنما حشر نفسه بفضول وتطفل, وهو يصنع مشاهد اجتماعية وحياتية وعلاقات عمل وكتابة ونشر ودراسة, ومحاضرات, وأساتيذ, وملتقيات, ومهرجانات, وكانت ردت فعل الكاتبة التي صنعت هذه الشخصية بعنوان الرواية(مهرجان الببغاوات) وقد أفلحت في هذا الإختيار,إذ يعد انتفاضة على ظاهرة تردي الملتقيات الأدبية والاجتماعية التي تسيطر عليها الكتابات الرخيصة التي لاترقى الى مستوى الخلق والابداع الذي تحتمه ثقافة الملتقيات هذه, حتى تؤكذ ذلك من خلال مادونته على الغلاف الأخير للرواية..(أريد الأبتعاد عن مهرجانات الأقنعة والببغاوات والرياء, اريد التفرد كالنوارس والرحيل ال قمم الجبال, بعيدا جدا عن هذا الصخب المصطنع, اريد التمعق والتجول بين مكتبات العالم واسرار الكتب وعلم القلم وغابات الأدب, اريد السفر لحقبة زمنية خاصة, حيث شخوصها هم الشغوفون فقط حيث لا مجال للتصنع والرياء, اناس يتنفسون الحروف لهم اعين ذات عدسات مكبرة, خلقت لتقرأ وشفاه تنطق باللغة العربية الفصحى فقط, واذرع طويلة تحمل اصبعا اضافيا لكل كف اليمنى للكتابة تكون على شكل قلم والاخرى للرسم تكون على شكل فرشاة, وإذنا على شكل نوتة موسيقية تستمع للموسيقى العذبة واقداما,لالا يمتلكون اقداما بل اجنحة تحط بهم اينما شاءت رغباتهم)..
رواية( مهرجان الببغاوات) للكاتبة الروائية ملاك الاحمد صدرت في بداية هذا العام 2022 عن دار السماوات للنشر والتوزيع قام الشاعروالمهندس احمد كلكتين بتصميم الغلاف, تقع الرواية ب(146) صفحة من القطع المتوسط .
من البديهي ان كتابة الرواية تخضع لمعايير كثيرة, وشروط وعناصر, ليس من السهولة الألمام بها, أي أن الدراسة الأكاديمية ليست كافية لتجعل السارد يشمر عن ساعديه ليصنع عملا روائيا مقبولا ما لم يصاحب ذلك موهبة ورغبة ودراسة وعناية ومتابعة, ودقة في استخدام مفردات اللغة وتنويع مصادر الفكرة, وقد فرضت على الرواية كجنس ادبي صعب المراس قوانين متغيرة مع تغيير بنى المجتمع مراحل تطور حياة الانسان وتأثيره الفاعل في حركة التقدم العالمية,رواية(مهرجان الببغاوات) كتاب يستحق الدراسة والعناية به, لقد لفت عنايتي اسلوب الكاتبة المتقن وهي تصنع الاحداث وتوظفها بلغة راقية جدا, الامر الذي جعلها تتقن لعبة الحداثة بشكل ذكي ومثابر, وهي تتجول بوصف عالي الدقة للظرف المفعول فيه,حتى اخذت المتلقي برحلة مكثفة بالافكار,واعتنت بالبناء الانشائي السردي بحكمة ودراية وخبرة, وجدنا توظيفا لافتا لكلمات ومصطلحات غير نمطية قد دعمت الجملة السردية وعضدت حداثة الفكرة, نقرأ في الصفحة(64)...
(كان صاحب الصوت رجلا خمسينيا يتقدمه صفا , يرتدي بدلة بيضاء تناسب الطقم, وجهه يبدو مترهلا بعض الشيء مع شاربين رفيعين بلون كستنائي, ربما قد صبغهما إكراما للحفل وتجلس بالقرب منه فتاة عشرينية جميلة الطلة بهية وطازجة متوردة الخدين, رفيعة الحاجبين مقوسة من الاعلى مع شعر بني محمر منسدل بنعومة يلامس كتفيها الناعمين, كانت تبدو عليها علامات التوتر حتى انها تحمل منديلا ورقيا تمسح جبينها المتعرق بين الحين والاخر, ولكن نظرات الرجل ذي البدلة البيضاء كانت لاترحم قلقها او منديلها المبلل وكلماته التي صارت تذهب لإتجاه آخر شيئا بعد شيء, بعد أن كانت مجرد تلميحات, صارات واقعا ملموسا مثل كفه السمراء التي باتت تنزلق فوق التنورة الملساء ذات اللون الأزرق, وكلما إشتدت لمساته واقعا, كلما اشتدت حروفه.سأجعلك تكونين من كاتبات الصف الاول....الخ)...
اضاءة...
ملاك احمد خورشيد الاحمد
موظفة لدى ‏دائرة صحة كركوك‏
درست في ‏جامعة الكتاب‏.
لديها اهتمات في الاخراج التلفازي, اخرجت بعض الافلام وعرضت في مسابقات دولية.
تكتب القصة القصيرة والمقال, ولديها محاولات في كتابة القصيدة الحرة,
نشرت كتاباتها في الصحف والمواقع الالكترونية.
The account of the user that owns this channel has been inactive for the last 1 month. If it remains inactive in the next 8 days, that account will self-destruct and this channel may no longer have an owner.