"ينتقل الناس من طموح إلى آخر، وبعد النضال ضد المعاملة السيئة، يعملون على إيقاعها بغيرهم".
(مطارحات مكيافيلي، نيقولا مكيافيلي، تعريب خيري حمَّاد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة، بيروت، شباط (فبراير) 1982م، ص369)
(مطارحات مكيافيلي، نيقولا مكيافيلي، تعريب خيري حمَّاد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة، بيروت، شباط (فبراير) 1982م، ص369)
باسم بشينية
Photo
عروبة الحِميَريِّين، ولغتهم [1]
أمس رأيت تعليقات ومنشورات حول مسألة بني حِميَر، ولغتهم، على أنَّهم ليسوا عربًا، وأنَّ لغتهم ليست عربيَّة، وكان الأمر على ما فيه من فكاهة، قد تخلَّلته لغة قطعيَّة، فقيل أنه ألَّا خلاف في عدم عروبة حِميَر. وربَّما يمرُّ الكلام لو كان غرضه مجرَّد الاصطفاف الأيديولوجي، ولكن أن يتحيَّن قول كهذا الرقيَّ ليمرَّ عبر قناة البحث، فدون ذلك خرط القتاد.
واحدة من بين العبارات التي وردت في تعليقات عدَّة، ما روي عن أبي عمرو العلاء (154هـ) أنَّه قال "ما لسان حِميَر بِلسَانِنا، ولا لغتُهم بلُغتِنا" ومسألة الاستدلال بقول أبي عمرو قديمة، ليست وليدة اليوم، لكن المشكلة أن البحث العلمي في الجذور، يكلِّفنا الكثير، فقد يُثار جدلٌ حول قول أبي عمرو، ثم نكتشِف أن القول لا وجود له أصلًا، فما العمل حينئذٍ مع اعتبار قوله قطعيًا في نفي عروبة حِميَر؟
أول من قال أنه "قد روي عن أبي عمرو العلاء أنَّه كان يقول ما لسان حِميَر بلسانِنا، ولا لغتهم بلغتنا" [1] هو طه حسين، في كتابَيه: في الشعر الجاهلي (1926م)/ في الأدب الجاهلي (1927م).
وقد كان طه تحريفيًا يراهن على كسل قرَّاءه من بعده، والأنكى، أنَّه أحال الاقتباس عن أبي عمرو، لكتاب طبقات فحول الشعراء لمؤلِّفه ابن سلَّام (232هـ) والكتاب مطبوع. وهو في الحقيقة يقول:
"وقال أبو عمرو بن العلاء في ذلك: ما لسان حِميَر وأقاصِى اليَمن اليوم بلسَاننا ولا عربيَّتهم بعربيَّتنا" [2] وعلى حدِّ علمي، ليست العبارة المنسوبة لأبي عمرو، موجودة في غير طبقات فحول الشُّعراء، فهو مصدرها الوحيد.
فالعبارة المنقولة عن أبي عمرو، مع أنَّها بلا سندٍ، إلا أنَّ فيها أمرين، أنه قال عن حِميَر "عربيَّتُهم" فهو يثبت لهم اللِّسان العربيَّ، بل أردفهم في الحكم بسكَّان أقاصي اليَمَنِ في أيَّامه، وهم عربٌ، إلَّا أنَّ عربيَّتهم ليست كعربيَّة أبي عمرو، وهو يقصد عربيَّة قريش.
فهو يقرُّ باختلافٍ في اللسان العربيِّ بين الحِميَريِّين، وبين عربيَّته، وحِميرٌ في اليمن، إلَّا أنَّ طه حسين، كان تحريفيًا، يسوِّغ لنفسه الكذِب، لأجل الأيديولوجيا.
وقد مرَّت تحريفيَّة طه حسين على كثرٍ، وتناقلتها كتبٌ، فبعض ما نُقِلَ جاء بصيغة الاقتباس من كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، أنه كتب "وقال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" [3] فهذه بواسطة طه حسين.
لكن جواد علي نفسه، ينقل عن أبي عمرو في غير موضع بواسطة المرجع الأصلي (ابن سلَّام) قائلًا:
"وليس في قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا [يحيل هنا لابن سلَّام] ما يدل على ازدراء شأن الحميرية أو الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد" [4] لاحظ قوله: لا يجادل في عربيَّة حِميَر أحدٌ! وهذا في نفس المجلَّد الذي نقل فيه جواد قولَ أبي عمرو بواسطة طه حسين، لكن البعض يرغب في الاكتفاء بالانتقائيَّة، هذا على فرض وصولهم، إلى المجلَّد السادس عشر قراءةً.
أمس رأيت تعليقات ومنشورات حول مسألة بني حِميَر، ولغتهم، على أنَّهم ليسوا عربًا، وأنَّ لغتهم ليست عربيَّة، وكان الأمر على ما فيه من فكاهة، قد تخلَّلته لغة قطعيَّة، فقيل أنه ألَّا خلاف في عدم عروبة حِميَر. وربَّما يمرُّ الكلام لو كان غرضه مجرَّد الاصطفاف الأيديولوجي، ولكن أن يتحيَّن قول كهذا الرقيَّ ليمرَّ عبر قناة البحث، فدون ذلك خرط القتاد.
واحدة من بين العبارات التي وردت في تعليقات عدَّة، ما روي عن أبي عمرو العلاء (154هـ) أنَّه قال "ما لسان حِميَر بِلسَانِنا، ولا لغتُهم بلُغتِنا" ومسألة الاستدلال بقول أبي عمرو قديمة، ليست وليدة اليوم، لكن المشكلة أن البحث العلمي في الجذور، يكلِّفنا الكثير، فقد يُثار جدلٌ حول قول أبي عمرو، ثم نكتشِف أن القول لا وجود له أصلًا، فما العمل حينئذٍ مع اعتبار قوله قطعيًا في نفي عروبة حِميَر؟
أول من قال أنه "قد روي عن أبي عمرو العلاء أنَّه كان يقول ما لسان حِميَر بلسانِنا، ولا لغتهم بلغتنا" [1] هو طه حسين، في كتابَيه: في الشعر الجاهلي (1926م)/ في الأدب الجاهلي (1927م).
وقد كان طه تحريفيًا يراهن على كسل قرَّاءه من بعده، والأنكى، أنَّه أحال الاقتباس عن أبي عمرو، لكتاب طبقات فحول الشعراء لمؤلِّفه ابن سلَّام (232هـ) والكتاب مطبوع. وهو في الحقيقة يقول:
"وقال أبو عمرو بن العلاء في ذلك: ما لسان حِميَر وأقاصِى اليَمن اليوم بلسَاننا ولا عربيَّتهم بعربيَّتنا" [2] وعلى حدِّ علمي، ليست العبارة المنسوبة لأبي عمرو، موجودة في غير طبقات فحول الشُّعراء، فهو مصدرها الوحيد.
فالعبارة المنقولة عن أبي عمرو، مع أنَّها بلا سندٍ، إلا أنَّ فيها أمرين، أنه قال عن حِميَر "عربيَّتُهم" فهو يثبت لهم اللِّسان العربيَّ، بل أردفهم في الحكم بسكَّان أقاصي اليَمَنِ في أيَّامه، وهم عربٌ، إلَّا أنَّ عربيَّتهم ليست كعربيَّة أبي عمرو، وهو يقصد عربيَّة قريش.
فهو يقرُّ باختلافٍ في اللسان العربيِّ بين الحِميَريِّين، وبين عربيَّته، وحِميرٌ في اليمن، إلَّا أنَّ طه حسين، كان تحريفيًا، يسوِّغ لنفسه الكذِب، لأجل الأيديولوجيا.
وقد مرَّت تحريفيَّة طه حسين على كثرٍ، وتناقلتها كتبٌ، فبعض ما نُقِلَ جاء بصيغة الاقتباس من كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، أنه كتب "وقال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" [3] فهذه بواسطة طه حسين.
لكن جواد علي نفسه، ينقل عن أبي عمرو في غير موضع بواسطة المرجع الأصلي (ابن سلَّام) قائلًا:
"وليس في قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا [يحيل هنا لابن سلَّام] ما يدل على ازدراء شأن الحميرية أو الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد" [4] لاحظ قوله: لا يجادل في عربيَّة حِميَر أحدٌ! وهذا في نفس المجلَّد الذي نقل فيه جواد قولَ أبي عمرو بواسطة طه حسين، لكن البعض يرغب في الاكتفاء بالانتقائيَّة، هذا على فرض وصولهم، إلى المجلَّد السادس عشر قراءةً.
باسم بشينية
Photo
عروبة الحِميَريِّين، ولغتهم [2]
ودون الأعمال الكلاسيكيَّة، كابن خلدون، وابن حزم، ونحوهم من المؤرخين، الذين حكموا بعروبة حِميَر، بلا خلاف، حتى قال ابن خلدون: حِميَر من الطبقة الثانية من العرب، فمسألة عروبتهم تكاد تكون محلَّ إجماع في الأكاديديمَّة الغربيَّة، وقد طالعت في كتاب هويلاند، في نسخته الأصلية، أنَّ ملوك حِميَر عربٌ قدماء، وأورد قرائن وشواهد، وبعض الكتب ناقشت الآثار، وقابلتها بالعربيَّة، وخلصت لنفس النتائج.
على أنَّ مؤرخي الرومان واليونان قبل وبعد الميلاد، مثل ما تجده في كتاب ستاربون (64 ق.م)، من اليونان المؤرخين في العهد الرُّوماني، أنَّ "أوَّل من سكن سوريا من بلاد العرب السعيدة [اليمن] هم الأنباط والسبئيُّون" [5] وحِميَر ورثة نسبهم المباشرين بل حِميَر بن سبأ، وغير سترابون، مثل ديدور الصِّقلِّي (القرن 1 ق.م)، وبطليموس (القرن 2 ق.م)، كتبوا أنَّ اليمن الأرض العربيَّة السَّعيدة، وهي تشمل أساسًا أراضي ممالك الحِميَريِّين.
مثلًا بلينيوس (79م) قسَّم الأراضي العربيَّة إلى البتراء، والصَّحراويَّة، والسعيدة، وهي اليمن، وامتدح خصوبتها، وقد جاء في كتابه، التَّاريخ الطبيعي:
" As for Arabia itself, it is a peninsula, running out between the Red and the Persian Seas; and it is by a kind of design, apparently on the part of nature, that it is surrounded by the sea in such a manner as to resemble very much the form and size6 of Italy" [6]
التَّعريب: "أما شبه الجزيرة العربيَّة نفسها، فهي شبه جزيرة تمتدُّ بين البحر الأحمر والخليج الفارسي؛ ومن خلال تصميمٍ ما، يبدو وكأنه من صنع الطَّبيعة، فقد أحيطت بالبَحر بطريقة تجعلها تشبه إلى حدٍّ كبير شكل وحجم إيطاليا"
فإنَّ بلينيوس (79م) يقول أنَّ شبه الجزيرة العربيَّة، تقع بين البحرين، الأحمر والفارسي، لكنَّ هذه الصورة لا تكتمل، ولا تنطبق بدقَّة، إلا إذا أخذ بعين الاعتبار جنوب الجزيرة العربيَّة، أي اليمن، ولا تتحقَّق مقارنتها بإيطاليا دون اليمن تحديدًا، فهي تشكِّل رأس القدم في الاستعارة الجغرافيَّة، التي تجعل الجزيرة كأنَّها إيطاليا أخرى.
وهذا التشبيه لا ينطبق لا على نجد، ولا الحجاز، ولا الرُّبع الخالي، والرومان لم يصفوا غير اليمن بالخصوبة، فغيرها من أراضي العرب قاحلة، والأحرى أنَّ كلمة (السعيدة) وهي ترجمة لكلمة (FELIX) تعني كلمة (خصبة).
وفي كتاب التاريخ الروماني لكاسيوس (155م)، تحدَّث عن حملة الرومان إلى ما أسماه بالبلاد المسمَّاة "العربيَّة السَّعيدة" [7] وهي حملة غالوس إلى اليمن، وقد جاء في كتابه:
"While this was going on, another and a new campaign had at once its beginning and its end. It was conducted by Aelius Gallus, the governor of Egypt, against the country called Arabia Felix" [6]
التعريب: "وبينما كان هذا مستمرًا، كانت هناك حملة أخرى جديدة لها بدايتها ونهايتها في آن واحد. وقد قادها إيليوس غالوس، حاكم مصر، ضد البلاد التي تدعى العربية السعيدة". وهي حملته على اليمن.
دمتم.
---------------------------
[1] في الأدب الجاهلي، طه حسين، ص67
[2] طبقات فحول الشعراء، ابن سلَّام، تحقيق: محمود شاكر، دار المدني، ج1، ص11، الفقرة 13.
[3] المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ج16، ص196.
[4] المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ج16، ص274
[5] The geography of strabo, Book 16, Chapter 4, Section: 21
[6] https://www.perseus.tufts.edu/hopper/text?doc=Perseus%3Atext%3A1999.02.0137%3Abook%3D6%3Achapter%3D32
[7] https://lexundria.com/dio/53.29/cy
الصورة لأحد الملوك الحميرييين قبل الإسلام، عثر عليه في شبه الحزيرة، كنقشٍ بارز على الحجر في ظفار، اليمن.
ودون الأعمال الكلاسيكيَّة، كابن خلدون، وابن حزم، ونحوهم من المؤرخين، الذين حكموا بعروبة حِميَر، بلا خلاف، حتى قال ابن خلدون: حِميَر من الطبقة الثانية من العرب، فمسألة عروبتهم تكاد تكون محلَّ إجماع في الأكاديديمَّة الغربيَّة، وقد طالعت في كتاب هويلاند، في نسخته الأصلية، أنَّ ملوك حِميَر عربٌ قدماء، وأورد قرائن وشواهد، وبعض الكتب ناقشت الآثار، وقابلتها بالعربيَّة، وخلصت لنفس النتائج.
على أنَّ مؤرخي الرومان واليونان قبل وبعد الميلاد، مثل ما تجده في كتاب ستاربون (64 ق.م)، من اليونان المؤرخين في العهد الرُّوماني، أنَّ "أوَّل من سكن سوريا من بلاد العرب السعيدة [اليمن] هم الأنباط والسبئيُّون" [5] وحِميَر ورثة نسبهم المباشرين بل حِميَر بن سبأ، وغير سترابون، مثل ديدور الصِّقلِّي (القرن 1 ق.م)، وبطليموس (القرن 2 ق.م)، كتبوا أنَّ اليمن الأرض العربيَّة السَّعيدة، وهي تشمل أساسًا أراضي ممالك الحِميَريِّين.
مثلًا بلينيوس (79م) قسَّم الأراضي العربيَّة إلى البتراء، والصَّحراويَّة، والسعيدة، وهي اليمن، وامتدح خصوبتها، وقد جاء في كتابه، التَّاريخ الطبيعي:
" As for Arabia itself, it is a peninsula, running out between the Red and the Persian Seas; and it is by a kind of design, apparently on the part of nature, that it is surrounded by the sea in such a manner as to resemble very much the form and size6 of Italy" [6]
التَّعريب: "أما شبه الجزيرة العربيَّة نفسها، فهي شبه جزيرة تمتدُّ بين البحر الأحمر والخليج الفارسي؛ ومن خلال تصميمٍ ما، يبدو وكأنه من صنع الطَّبيعة، فقد أحيطت بالبَحر بطريقة تجعلها تشبه إلى حدٍّ كبير شكل وحجم إيطاليا"
فإنَّ بلينيوس (79م) يقول أنَّ شبه الجزيرة العربيَّة، تقع بين البحرين، الأحمر والفارسي، لكنَّ هذه الصورة لا تكتمل، ولا تنطبق بدقَّة، إلا إذا أخذ بعين الاعتبار جنوب الجزيرة العربيَّة، أي اليمن، ولا تتحقَّق مقارنتها بإيطاليا دون اليمن تحديدًا، فهي تشكِّل رأس القدم في الاستعارة الجغرافيَّة، التي تجعل الجزيرة كأنَّها إيطاليا أخرى.
وهذا التشبيه لا ينطبق لا على نجد، ولا الحجاز، ولا الرُّبع الخالي، والرومان لم يصفوا غير اليمن بالخصوبة، فغيرها من أراضي العرب قاحلة، والأحرى أنَّ كلمة (السعيدة) وهي ترجمة لكلمة (FELIX) تعني كلمة (خصبة).
وفي كتاب التاريخ الروماني لكاسيوس (155م)، تحدَّث عن حملة الرومان إلى ما أسماه بالبلاد المسمَّاة "العربيَّة السَّعيدة" [7] وهي حملة غالوس إلى اليمن، وقد جاء في كتابه:
"While this was going on, another and a new campaign had at once its beginning and its end. It was conducted by Aelius Gallus, the governor of Egypt, against the country called Arabia Felix" [6]
التعريب: "وبينما كان هذا مستمرًا، كانت هناك حملة أخرى جديدة لها بدايتها ونهايتها في آن واحد. وقد قادها إيليوس غالوس، حاكم مصر، ضد البلاد التي تدعى العربية السعيدة". وهي حملته على اليمن.
دمتم.
---------------------------
[1] في الأدب الجاهلي، طه حسين، ص67
[2] طبقات فحول الشعراء، ابن سلَّام، تحقيق: محمود شاكر، دار المدني، ج1، ص11، الفقرة 13.
[3] المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ج16، ص196.
[4] المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، ج16، ص274
[5] The geography of strabo, Book 16, Chapter 4, Section: 21
[6] https://www.perseus.tufts.edu/hopper/text?doc=Perseus%3Atext%3A1999.02.0137%3Abook%3D6%3Achapter%3D32
[7] https://lexundria.com/dio/53.29/cy
الصورة لأحد الملوك الحميرييين قبل الإسلام، عثر عليه في شبه الحزيرة، كنقشٍ بارز على الحجر في ظفار، اليمن.
"لا قيمة للجماهير بلا زعيم لها".
(مطارحات مكيافيلي، نيقولا مكيافيلي، تعريب خيري حمَّاد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة، بيروت، شباط (فبراير) 1982م، ص364)
(مطارحات مكيافيلي، نيقولا مكيافيلي، تعريب خيري حمَّاد، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثالثة، بيروت، شباط (فبراير) 1982م، ص364)
باسم بشينية
Photo
"عائلة أوغسطين، وإذ كانت تنتمي إلى الطبقة العليا من المواطنين الرومان، فقد كانت العائلة مرومنة تمامًا وخاضعة بشدَّة للتأثيرات الثقافية الرومانية، خصوصًا أن العائلة كانت تتحدث اللاتينية فقط"
المرجع، واحدة من أحدث الدراسات الأجنبية حول أوغسطين:
(Marc Grenier, Augustine Looks at Ecclesiastes from Within ‘The City of God’, The American Journal of Biblical Theology, Vol. 24(15), April 14, 2024, p. 4)
النص الأصلي:
"Belonging to the upper crust of roman citizens, the family was entirely Romanized and strongly subject to Roman cultural influences especially as the family spoke only Latin."
بالمناسبة، من يقرأ لأوغسطين، يعرف أنَّه كان يعظِّم الرومان الوافدين، يتحدَّث لغتهم، ويعظِّمها، وفي تعليقه على مقولة بولس (أنا مواطن روماني) التي نقلها معجبًا بها، كان يحيل لها كمعيار مدني ومرجعيَّة محترمة، سواء له أو لسامعيه، يتبنى كل رموزها.
ومن يقرأ لأوغسطين، يعلم أيضًا أنه كان يوبِّخ كلَّ من يهزأ بالأسماء المحليَّة التي يسميها (البونيقيَّة)، أنها هي الأسماء المحليَّة لا غيرها، وهي أسماء الذين هاجروا إلى شمال أفريقيا، وأسسوا موستوطنات في مثل قرطاج.
في رسالة له، وهي رسالة أوغسطين إلى مكسيمس، تحدَّث عن شيء جوهري، كان مكسيمس، يحتقر الأسماء البونيقيَّة، وقد وبَّخه أوغسطين قائلًا: "أنت أفريقي، ونحن نعيش في أفريقيا، ومع ذلك تسخر من الأسماء البونية (الفينيقية)" وهي العبارة التي تشرح إلى أي حيِّز يمكن أن ننسب الأسماء المحليَّة في عصر أوغسطين.
وعند حديثه عن اللغات، يلاحظ أنه علَّق على اللغة اليونانيَّة بمرارة، أنَّه أجبر على تعلُّم الأدب اليوناني، لكن لم يتعلَّم اليونانيَّة، وحرص على تقييد هذا، تقييد ما لم يتعلَّمه من لغات كانت في عصره، وهذا في الاعترافات. وهو كلام مطبوع، مشاع لكل من أراد أن يقرأ! لكن بعضهم ألف سرقة سرقة ما للغير، إلى سرقة الغير!
أمَّا البونيَّة، فتعلُّمه لها، كان لأنها لغة العوام، لا لغة النُّخبة، وقد كان أسقفًا، وكان ضروريًا أن يتعلَّمها ليخاطب بها العامَّة. إلا أنه هو وعائلته، لم يتحدَّثوا سوى اللاتينية، ولم يتكلم عن غير هذا.
المرجع، واحدة من أحدث الدراسات الأجنبية حول أوغسطين:
(Marc Grenier, Augustine Looks at Ecclesiastes from Within ‘The City of God’, The American Journal of Biblical Theology, Vol. 24(15), April 14, 2024, p. 4)
النص الأصلي:
"Belonging to the upper crust of roman citizens, the family was entirely Romanized and strongly subject to Roman cultural influences especially as the family spoke only Latin."
بالمناسبة، من يقرأ لأوغسطين، يعرف أنَّه كان يعظِّم الرومان الوافدين، يتحدَّث لغتهم، ويعظِّمها، وفي تعليقه على مقولة بولس (أنا مواطن روماني) التي نقلها معجبًا بها، كان يحيل لها كمعيار مدني ومرجعيَّة محترمة، سواء له أو لسامعيه، يتبنى كل رموزها.
ومن يقرأ لأوغسطين، يعلم أيضًا أنه كان يوبِّخ كلَّ من يهزأ بالأسماء المحليَّة التي يسميها (البونيقيَّة)، أنها هي الأسماء المحليَّة لا غيرها، وهي أسماء الذين هاجروا إلى شمال أفريقيا، وأسسوا موستوطنات في مثل قرطاج.
في رسالة له، وهي رسالة أوغسطين إلى مكسيمس، تحدَّث عن شيء جوهري، كان مكسيمس، يحتقر الأسماء البونيقيَّة، وقد وبَّخه أوغسطين قائلًا: "أنت أفريقي، ونحن نعيش في أفريقيا، ومع ذلك تسخر من الأسماء البونية (الفينيقية)" وهي العبارة التي تشرح إلى أي حيِّز يمكن أن ننسب الأسماء المحليَّة في عصر أوغسطين.
وعند حديثه عن اللغات، يلاحظ أنه علَّق على اللغة اليونانيَّة بمرارة، أنَّه أجبر على تعلُّم الأدب اليوناني، لكن لم يتعلَّم اليونانيَّة، وحرص على تقييد هذا، تقييد ما لم يتعلَّمه من لغات كانت في عصره، وهذا في الاعترافات. وهو كلام مطبوع، مشاع لكل من أراد أن يقرأ! لكن بعضهم ألف سرقة سرقة ما للغير، إلى سرقة الغير!
أمَّا البونيَّة، فتعلُّمه لها، كان لأنها لغة العوام، لا لغة النُّخبة، وقد كان أسقفًا، وكان ضروريًا أن يتعلَّمها ليخاطب بها العامَّة. إلا أنه هو وعائلته، لم يتحدَّثوا سوى اللاتينية، ولم يتكلم عن غير هذا.
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
(أنا وياكم!)
ذكرني المقطع بشخصيَّة شبث بن ربعي (٧٠ه) أسلم ثم لحق بسجاح اليربوعية حوالي (١١ه) فكان مؤذِّنها، ثم عاد إلى الإسلام، وخالف عثمان بن عفان مع من كانوا ضدَّه، ثم التحق في معركة الجمل بجيش طلحة والزبير، ثم صار بعدها إلى صف علي، ثم عارض التَّحكيم أيام صفِّين، ثم التحق بالخوارج، ثم ترك الخوارج، ورجع إلى جانب علي وقاتلَهم في النهروان، وبعد مقتل علي، همَّ بقتال معاوية بعد الصلح مع الحسن، ثم صار مع معاوية بعد الصلح، ثم راسل الحسين كي يتجَّهز ضد يزيد، لكن ختم المسار بالمشاركة في مقتل الحسين، ثم راسل المختار الثقفي ليثأر للحسين إلا أنَّ المختار لم يجبه، فذهب إلى ابن الزبير يحرِّضه على المختار، ثم شارك في مقتل المختار (٦٧ه) ثم مات بعدها بثلاث سنوات. الطريف أن شبث بن ربعي من بادية العراق.
ذكرني المقطع بشخصيَّة شبث بن ربعي (٧٠ه) أسلم ثم لحق بسجاح اليربوعية حوالي (١١ه) فكان مؤذِّنها، ثم عاد إلى الإسلام، وخالف عثمان بن عفان مع من كانوا ضدَّه، ثم التحق في معركة الجمل بجيش طلحة والزبير، ثم صار بعدها إلى صف علي، ثم عارض التَّحكيم أيام صفِّين، ثم التحق بالخوارج، ثم ترك الخوارج، ورجع إلى جانب علي وقاتلَهم في النهروان، وبعد مقتل علي، همَّ بقتال معاوية بعد الصلح مع الحسن، ثم صار مع معاوية بعد الصلح، ثم راسل الحسين كي يتجَّهز ضد يزيد، لكن ختم المسار بالمشاركة في مقتل الحسين، ثم راسل المختار الثقفي ليثأر للحسين إلا أنَّ المختار لم يجبه، فذهب إلى ابن الزبير يحرِّضه على المختار، ثم شارك في مقتل المختار (٦٧ه) ثم مات بعدها بثلاث سنوات. الطريف أن شبث بن ربعي من بادية العراق.
Forwarded from باسم بشينية (باسم)
قبل نشوء أي حدث سياسي، أو عند ساعاته الأولى، يرمي بكل ثقل أيديلوجيَّته في الوسط، من دون أي اعتبار، كأن يحدِّثك عن خلافة أمميَّة، ودولة إسلاميَّة تبرز فيها مظاهر عدَّة مما يتمنَّاه، يحدِّثك عن قبح النظام الانتخابي، يرى في الفكر الجمهوري شرًا مطلقًا، ويشيع أن ما يجري في مكان ما، هو تأسيس لنظام يدور في رأسه، تتَّخذ فيه السلطة بمنطق البيعات، ويحاول أن يقدم خطابًا، يجعلك تنظر لأي شيء على أن أفكاره تتخذ تجسيدًا بطريقة ما.
وما أن تتحرَّك العوامل على خلاف المألوف من كلامه، هل ينعزل عما لا مشاركة له فيه فيكتفي بالمراقبة وتحليل المشهد؟ كلا، يواصل الاشراف، بأي طريقة كانت، يواصل مدَّ بعد الأبوية الروحية على المشهد، يبدأ التبرير، قد يشرح لك الكثير من مبتغاه، على أن ما يعن لخاطره هو ما يفكر فيه الفاعلون، بأن هذه بدائل سياسيَّة، لعبة دعائيَّة، وعندما يختلفون مع أيديولوجيته التي ألبسها لهم متسرعًا، يطلع لك رأيًا من الدرج الثاني: المسألة خلافيَّة. يستحضر لك كل التراث الفقهي، الإسلامي، والبشري، ويستحيل أن يتنازل، ويقر بأن الواقع منعزل عنه.
وما أن تتحرَّك العوامل على خلاف المألوف من كلامه، هل ينعزل عما لا مشاركة له فيه فيكتفي بالمراقبة وتحليل المشهد؟ كلا، يواصل الاشراف، بأي طريقة كانت، يواصل مدَّ بعد الأبوية الروحية على المشهد، يبدأ التبرير، قد يشرح لك الكثير من مبتغاه، على أن ما يعن لخاطره هو ما يفكر فيه الفاعلون، بأن هذه بدائل سياسيَّة، لعبة دعائيَّة، وعندما يختلفون مع أيديولوجيته التي ألبسها لهم متسرعًا، يطلع لك رأيًا من الدرج الثاني: المسألة خلافيَّة. يستحضر لك كل التراث الفقهي، الإسلامي، والبشري، ويستحيل أن يتنازل، ويقر بأن الواقع منعزل عنه.
باسم بشينية
Photo
الهِبَةُ حلال، ولكنَّ الصَّفقة حرام!
في مذكرات الدعوة والدَّاعية، لحسن البنا، جاء فصل يحمل عنوان "هبة شركة القنال"، وهو يحكي بالتفصيل كيف جرى تمويله من قبل شركة استعمارية بريطانية في مصر، بمبلغ خمسمائة جنيه، في لحظة كانت جماعة الإخوان تبني فيها مسجدًا ومدرسة ودارًا. ورغم أن البنا أبدى امتعاضًا من ضآلة المبلغ الذي قدمته الشركة مقارنة بما تنفقه على الكنائس، فقد قبِل الهبة دون أي تعفُّف، جلس في مكتب البارون، وقبل ترحيبه، وشكره على الهبة، ثم نادى أمين صندوق الإخوان، ليستلم المبلغ. يقول في مذكراته:
"وقبل أن يتم بناء المسجد بقليل، وقد أوشكت النقود المجموعة أن تنفد، وأمامنا بعد مشروع المسجد مشروع المدرسة والدار وهي من تمامه، بل كلها مشروع واحد، تصادف أن مرَّ البارون دي بنوا مدير شركة القنال ومعه سكرتيره المسييو بلوم فرأى البناء، فسأل عنه وأخذ عنه معلومات موجزة.
وبينما أنا في المدرسة إذ جاءني أحد الموظفين يدعوني لمقابلة البارون بمكتبه بالشركة، فذهبت إليه وتحدثت إليَّ عن طريق مترجم، لأنه رأى البناء، وهو يود أن يساعدنا بمبلغ مالي، وهو لهذا يطلب منا رسمًا ومذكرة للمشروع، فشكرت له ذلك وانصرفت، ووافقت بعد ذلك بيوم على طلبه.
ومضى على ذلك شهور كدنا ننسى فيها البارون ووعده، ولكني فوجئت بعد ذلك بدعوة ثانية منه إلى مكتبه. فذهبت إليه فرحب بي، ثم ذكر لي أن الشركة اعتمدت مبلغ خمسمائة جنيه مصري للمشروع، فشكرت له ذلك، وأفهمته أن هذا المبلغ قليل جدًّا، ولم يكن منتظرًا من الشركة تقديره لأنها في الوقت الذي تبني فيه على نفقتها كنيسة نموذجية تكلفها 500000 خمسمائة ألف جنيه، لا يصح أن تعطي المسجد خمسمائة فقط!
فاقتنع بوجهة نظري، وأظهر مشاركته فيها ولكنه أسِف لأن هذا هو القرار، ورجاني قبول المبلغ على أنه إذا استطاع أن يفعل بعد ذلك شيئًا فلن يتأخر، وشكرته له مرة ثانية، وقلت إن تسلُّم المبلغ ليس من اختصاصي ولكنه من اختصاص أمين الصندوق الشيخ محمد حسين الميرغني الذي تبرع وحده بما تبرعت به الشركة وسأعرضه ليحضر لتسلَُمه، وقد كان. وتسلم أمين الصندوق المبلغ. وطبعًا لم يفكر البارون في عمل شيء آخر، ولم نفكر نحن في أن نطلب منه شيئًا كذلك" [١]
وبعد أن امتعض النَّاس من هذا، وقالوا أن حسن البنا يبني المسجد بمال الاستعمار، كتب أنَّ هذا "فقه أعوج" [٢] وأن هذا "فتوى باطلة ممن يعلم وممن لا يعلم" [٣] وأخذ يقنع الناس بأن "هذا مالنا، لا مال الخواجات" [٤] مع أنه كتب أن المال أصلًا كان "هبة" من شركة استعمارية، لا أنه ماله. ثم وضح بأن المسجد "لم توضع فيه أموال الخواجات، ووضت في دار الإخوان المسلمين بالذات" [٥] أي أن مالهم قد يكون حلالًا بنظره إذا صب لأجل دار، بخلاف ما لو صب لأجل مسجد فقد يحرمه.
وبعض الناس يتعامل بذاكرة انتقائية، عندما يرى نظيرًا يجري صفقات لأجل غرض شبيه، يتصرف بنفس المنطق الذي اعتبره البنا "أعوجًا"، مع أن البنا أبدى شكرًا للشركة الاستعمارية، على هبة ٥٠٠ جنيه، وقد يقيم لها تأويلات عدَّة لا تنتهي لكي يخرج الرجل بمظهر الشريف، لكن نفس التبريرات قد تنعكس إذا تغير الرمز، أو الرجل، أو أبدى إهمالًا لبروتوكولات الإسلاميين، التي صارت منكشفة.
[١] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٨.
[٢] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٩.
[٣] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٩.
[٤] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٩.
[٥] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٩.
في مذكرات الدعوة والدَّاعية، لحسن البنا، جاء فصل يحمل عنوان "هبة شركة القنال"، وهو يحكي بالتفصيل كيف جرى تمويله من قبل شركة استعمارية بريطانية في مصر، بمبلغ خمسمائة جنيه، في لحظة كانت جماعة الإخوان تبني فيها مسجدًا ومدرسة ودارًا. ورغم أن البنا أبدى امتعاضًا من ضآلة المبلغ الذي قدمته الشركة مقارنة بما تنفقه على الكنائس، فقد قبِل الهبة دون أي تعفُّف، جلس في مكتب البارون، وقبل ترحيبه، وشكره على الهبة، ثم نادى أمين صندوق الإخوان، ليستلم المبلغ. يقول في مذكراته:
"وقبل أن يتم بناء المسجد بقليل، وقد أوشكت النقود المجموعة أن تنفد، وأمامنا بعد مشروع المسجد مشروع المدرسة والدار وهي من تمامه، بل كلها مشروع واحد، تصادف أن مرَّ البارون دي بنوا مدير شركة القنال ومعه سكرتيره المسييو بلوم فرأى البناء، فسأل عنه وأخذ عنه معلومات موجزة.
وبينما أنا في المدرسة إذ جاءني أحد الموظفين يدعوني لمقابلة البارون بمكتبه بالشركة، فذهبت إليه وتحدثت إليَّ عن طريق مترجم، لأنه رأى البناء، وهو يود أن يساعدنا بمبلغ مالي، وهو لهذا يطلب منا رسمًا ومذكرة للمشروع، فشكرت له ذلك وانصرفت، ووافقت بعد ذلك بيوم على طلبه.
ومضى على ذلك شهور كدنا ننسى فيها البارون ووعده، ولكني فوجئت بعد ذلك بدعوة ثانية منه إلى مكتبه. فذهبت إليه فرحب بي، ثم ذكر لي أن الشركة اعتمدت مبلغ خمسمائة جنيه مصري للمشروع، فشكرت له ذلك، وأفهمته أن هذا المبلغ قليل جدًّا، ولم يكن منتظرًا من الشركة تقديره لأنها في الوقت الذي تبني فيه على نفقتها كنيسة نموذجية تكلفها 500000 خمسمائة ألف جنيه، لا يصح أن تعطي المسجد خمسمائة فقط!
فاقتنع بوجهة نظري، وأظهر مشاركته فيها ولكنه أسِف لأن هذا هو القرار، ورجاني قبول المبلغ على أنه إذا استطاع أن يفعل بعد ذلك شيئًا فلن يتأخر، وشكرته له مرة ثانية، وقلت إن تسلُّم المبلغ ليس من اختصاصي ولكنه من اختصاص أمين الصندوق الشيخ محمد حسين الميرغني الذي تبرع وحده بما تبرعت به الشركة وسأعرضه ليحضر لتسلَُمه، وقد كان. وتسلم أمين الصندوق المبلغ. وطبعًا لم يفكر البارون في عمل شيء آخر، ولم نفكر نحن في أن نطلب منه شيئًا كذلك" [١]
وبعد أن امتعض النَّاس من هذا، وقالوا أن حسن البنا يبني المسجد بمال الاستعمار، كتب أنَّ هذا "فقه أعوج" [٢] وأن هذا "فتوى باطلة ممن يعلم وممن لا يعلم" [٣] وأخذ يقنع الناس بأن "هذا مالنا، لا مال الخواجات" [٤] مع أنه كتب أن المال أصلًا كان "هبة" من شركة استعمارية، لا أنه ماله. ثم وضح بأن المسجد "لم توضع فيه أموال الخواجات، ووضت في دار الإخوان المسلمين بالذات" [٥] أي أن مالهم قد يكون حلالًا بنظره إذا صب لأجل دار، بخلاف ما لو صب لأجل مسجد فقد يحرمه.
وبعض الناس يتعامل بذاكرة انتقائية، عندما يرى نظيرًا يجري صفقات لأجل غرض شبيه، يتصرف بنفس المنطق الذي اعتبره البنا "أعوجًا"، مع أن البنا أبدى شكرًا للشركة الاستعمارية، على هبة ٥٠٠ جنيه، وقد يقيم لها تأويلات عدَّة لا تنتهي لكي يخرج الرجل بمظهر الشريف، لكن نفس التبريرات قد تنعكس إذا تغير الرمز، أو الرجل، أو أبدى إهمالًا لبروتوكولات الإسلاميين، التي صارت منكشفة.
[١] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٨.
[٢] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٩.
[٣] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٩.
[٤] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٩.
[٥] مذكرات الدعوة والداعية، حسن البنا، ص١٠٩.
باسم بشينية
Photo
السياسة سيناريو!
من يفكر في الشؤون السياسية، بمنطق الحتميات واليقينيات، لن يفكر يومًا في ما يسمى "سيناريو". لا يوجد شيء فج في النفرة من التمثيل الديبلوماسي أمام الغرب، أكثر من الاتحاد السوفييتي، كان منذ انتصار البلاشفة يصدِّر خطابًا ووعيًا وواقعًا يشرح أن البلشفي يتغذى من عداء أيديولوجي وطبقي وتاريخي صارم ضد الغرب، وهو ما أسماه تشرشل بالتحصن خلف الستار الحديدي، أي تشكيل مجتمع ودولة، تتغذى من رفض كل أشكال الاختراق الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي الغربي.
قامت سياسة السوفييت دومًا، في الخطب، والدعاية، والكاريكاتور، والفن، والأغاني، والتعليم، والاقتصاد، والمجتمع، على عداء شامل لكل ما هو رأسمالي، وبطبيعة الحال: لكل ما هو غربي، وكل من يشير أدنى إشارة، لإنصاف الغرب، كان يلقى الإعدام، وأشهر حوادث كان لشخصيات مثل نيكولاي بوخارين وأندريه بلاتونوف، أعدم الأول في حملة التطهير، بتهمة التعاطف مع البرجوازية الغربية، مع أنه من أبرز منظري الحزب الشيوعي، والثاني تعرض لعقوبات لتأثره بالعبثية، مجرد فلسفة غربيَّة، وبلغت الحدَّة التي تنطلق من منطق الحتمي واليقيني، أن حكم بالسجن والإعدام، على مجرد الاستماع للجاز، أو اقتناء كتب أجنبية، منعت حتى روايات مثل روبرسن كروزو، وشكسبير، هذا في مرحلة ستالين، بدعوى محاربة التحلل الرأسمالي، وأنشأ السوفييت مجلس الكوميكون كبديل للشراكة الاقتصادية الغربية، وحلف وارسو مقابل حلف الناتو، ونحو ذلك.
لكن ستالين نفسه، والذي وصف مرارًا بالرجل الحديدي، والذي طبق تلك الاصلاحات، إن صح التعبير، بل والذي لم يكن يتصف بكثير من المرونة، وقَّع في النهاية على اتفاقيَّة يالطا، التي جمعته مع روزفلت (أمريكا) ومع تشرتشل (بريطانيا) وانتهت في الختام بتحرير فرنسا من (الإستعمار الألماني) وهو ما افتخر به السوفييت لاحقًا، وشكرهم لأجله ديغول، مع أن فرنسا موَّلت لآخر لحظة ما عرف بالجيش الأبيض الذي حارب البلاشفة أول سيطرتهم على روسيا!
كانت اتفاقية يالطا متوَّجة بصورة ثلاثية تجمع كل من روزفلت وستالين وتشرشل، مع أن محاكم التفتيش في أمريكا ضدَّ الشيوعيين كانت على قدم وساق، نفس الأمر كان يحصل في روسيا مع من يتهم بخدمة الميول الرأسمالية، لكن شكَّل الثلاثة (حلفًا) مشتركًا، فيما عرف بحرب الحلفاء ضدَّ المحور، الذي جمع ألمانيا وإيطاليا واليابان، لأن سيناريو الاحتلال الألماني لموسكو، ومقتل ٣٠ مليون سوفييتي، وضع الحتميات السياسية على الرَّف، وبدى الانصياع للسيناريو، بديلًا حتميًا لها، والتقطت صورة للثلاثة كان ستالين يبدو فيها مبتسمًا، والطريف أنَّ تشرشل، بعد اللقاء معه، كان يصفه بالهدوء، والود، والوضوح، والبعد عن الهستيريا، فالطاولة المستديرة، غير الطاولة الهرميَّة.
من يفكر في الشؤون السياسية، بمنطق الحتميات واليقينيات، لن يفكر يومًا في ما يسمى "سيناريو". لا يوجد شيء فج في النفرة من التمثيل الديبلوماسي أمام الغرب، أكثر من الاتحاد السوفييتي، كان منذ انتصار البلاشفة يصدِّر خطابًا ووعيًا وواقعًا يشرح أن البلشفي يتغذى من عداء أيديولوجي وطبقي وتاريخي صارم ضد الغرب، وهو ما أسماه تشرشل بالتحصن خلف الستار الحديدي، أي تشكيل مجتمع ودولة، تتغذى من رفض كل أشكال الاختراق الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي الغربي.
قامت سياسة السوفييت دومًا، في الخطب، والدعاية، والكاريكاتور، والفن، والأغاني، والتعليم، والاقتصاد، والمجتمع، على عداء شامل لكل ما هو رأسمالي، وبطبيعة الحال: لكل ما هو غربي، وكل من يشير أدنى إشارة، لإنصاف الغرب، كان يلقى الإعدام، وأشهر حوادث كان لشخصيات مثل نيكولاي بوخارين وأندريه بلاتونوف، أعدم الأول في حملة التطهير، بتهمة التعاطف مع البرجوازية الغربية، مع أنه من أبرز منظري الحزب الشيوعي، والثاني تعرض لعقوبات لتأثره بالعبثية، مجرد فلسفة غربيَّة، وبلغت الحدَّة التي تنطلق من منطق الحتمي واليقيني، أن حكم بالسجن والإعدام، على مجرد الاستماع للجاز، أو اقتناء كتب أجنبية، منعت حتى روايات مثل روبرسن كروزو، وشكسبير، هذا في مرحلة ستالين، بدعوى محاربة التحلل الرأسمالي، وأنشأ السوفييت مجلس الكوميكون كبديل للشراكة الاقتصادية الغربية، وحلف وارسو مقابل حلف الناتو، ونحو ذلك.
لكن ستالين نفسه، والذي وصف مرارًا بالرجل الحديدي، والذي طبق تلك الاصلاحات، إن صح التعبير، بل والذي لم يكن يتصف بكثير من المرونة، وقَّع في النهاية على اتفاقيَّة يالطا، التي جمعته مع روزفلت (أمريكا) ومع تشرتشل (بريطانيا) وانتهت في الختام بتحرير فرنسا من (الإستعمار الألماني) وهو ما افتخر به السوفييت لاحقًا، وشكرهم لأجله ديغول، مع أن فرنسا موَّلت لآخر لحظة ما عرف بالجيش الأبيض الذي حارب البلاشفة أول سيطرتهم على روسيا!
كانت اتفاقية يالطا متوَّجة بصورة ثلاثية تجمع كل من روزفلت وستالين وتشرشل، مع أن محاكم التفتيش في أمريكا ضدَّ الشيوعيين كانت على قدم وساق، نفس الأمر كان يحصل في روسيا مع من يتهم بخدمة الميول الرأسمالية، لكن شكَّل الثلاثة (حلفًا) مشتركًا، فيما عرف بحرب الحلفاء ضدَّ المحور، الذي جمع ألمانيا وإيطاليا واليابان، لأن سيناريو الاحتلال الألماني لموسكو، ومقتل ٣٠ مليون سوفييتي، وضع الحتميات السياسية على الرَّف، وبدى الانصياع للسيناريو، بديلًا حتميًا لها، والتقطت صورة للثلاثة كان ستالين يبدو فيها مبتسمًا، والطريف أنَّ تشرشل، بعد اللقاء معه، كان يصفه بالهدوء، والود، والوضوح، والبعد عن الهستيريا، فالطاولة المستديرة، غير الطاولة الهرميَّة.
Forwarded from باسم بشينية (باسم)
علاقة الساحر بالراقي هي أقرب ما تكون للعلاقة التكاملية نظريًا، رغم الصراع الذي لا ينتهي، يمثل الطرفان مصدر ثروة لبعضهما البعض، فالساحر يعيش على سمعته المتمثلة في "جودة" الخدمات التي يقدمها، والتي لا يتمكن وفق دعواه أي راقي على إبطالها، وفي المقابل يعيش الراقي ويتكسَّب ويجمع ثروة، بناء على السمعة التي يبنيها خلال حربه ضد السحرة، فالطرفين، وجهان لعملة واحدة، يعيش كل منهما على كتف الثاني.
لذلك لا تكاد تجد راقيًا يتكسب بامتهانه مثل هذه الصنعة، يفكر في التشكيك يومًا في وجود سحر ما، أو في نجاعته، إن ذلك التشكيك يمثل خطوة عملية في تقليص نفوذه على الزبائن، فبث الشك في مصداقية السحرة، هو بطريقة ما، خطوة مرعبة للراقي، إنها خطوة نحو تقليص دائرة ثروته، المبنية من حيث الأساس على ثبوت صدق السحرة غير المتناهي.
فلا تجد في الغالب شخصا يمتهن صنعة الرقية، ويتكسب منها، قد يشكك في مصداقية ساحر ما في عمله، وعندما تكون هذه الثنائية بالغة أعالي توهجها، ومثارا لإغماض التفكير، ينتج لك مجتمع يسهل عليه التشكيك في مصداقية ونجاعة عمل الطبيب، والدكتور، والممرض، والأستاذ، والصيدلي، رغم ما عليهم من رقابة، وحمولة اجتماعية ومهنية تتمثل في السمعة، فهم أشخاص معروفون بمهنهم، ومعرضون لشتى أنواع الرقابة قانونيا، واجتماعيا.
لكنه لا يشكك أبدًا في مصداقية أي "ساحر" رغم أنه يأخذ في المخيال الشعبي شكل الرجل الغامض الذي يعيش في قبو، مع الظلام، لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالصدق، ولا يتعرض لأي من أنواع الرقابة، ذلك أن الوعي الذي شارك في تكوينه مجتمع الرقاة، كان بالدرجة الأولى يمثل حماية غير مباشرة لموثوقية الساحر فيما يدعي عمله.
لذلك لا تكاد تجد راقيًا يتكسب بامتهانه مثل هذه الصنعة، يفكر في التشكيك يومًا في وجود سحر ما، أو في نجاعته، إن ذلك التشكيك يمثل خطوة عملية في تقليص نفوذه على الزبائن، فبث الشك في مصداقية السحرة، هو بطريقة ما، خطوة مرعبة للراقي، إنها خطوة نحو تقليص دائرة ثروته، المبنية من حيث الأساس على ثبوت صدق السحرة غير المتناهي.
فلا تجد في الغالب شخصا يمتهن صنعة الرقية، ويتكسب منها، قد يشكك في مصداقية ساحر ما في عمله، وعندما تكون هذه الثنائية بالغة أعالي توهجها، ومثارا لإغماض التفكير، ينتج لك مجتمع يسهل عليه التشكيك في مصداقية ونجاعة عمل الطبيب، والدكتور، والممرض، والأستاذ، والصيدلي، رغم ما عليهم من رقابة، وحمولة اجتماعية ومهنية تتمثل في السمعة، فهم أشخاص معروفون بمهنهم، ومعرضون لشتى أنواع الرقابة قانونيا، واجتماعيا.
لكنه لا يشكك أبدًا في مصداقية أي "ساحر" رغم أنه يأخذ في المخيال الشعبي شكل الرجل الغامض الذي يعيش في قبو، مع الظلام، لا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالصدق، ولا يتعرض لأي من أنواع الرقابة، ذلك أن الوعي الذي شارك في تكوينه مجتمع الرقاة، كان بالدرجة الأولى يمثل حماية غير مباشرة لموثوقية الساحر فيما يدعي عمله.
كان ميكيافيلي يتحدث دائمًا أن النجاح كثيرًا ما رهن بالصمت، هو الظل الذي يقي ضعفك ويستر درجة الفراغ في إنائك، وهو في المقابل يشرح أن الثرثرة، دليل توتر، دليل فراغ، ودليل ضياع. كان دائما يشير أنَّ الذكاء في حسن توقيت الصدمة، لا في كثرة الوعود قبلها. لو كان لرجل مشروع، كان يدفنه في صدره، ليظهره في الفعل، ولو كان لرجل طموح، ما كان ليبيعه لمن يصفِّق، فيكون هو سلعةً يتندَّر بها، ولو كان رجل ملكًا، لما ذكَّر الناس مرارًا بأنه ملك، ولو كان لرجل ثروة لكان عطاؤه لا دَينُه، متردِّدًا على الألسن، والناس تعطي الجدارة لمن آمن الناس به، لا لمن لوَّح كلما شعر بالملل أنه يؤمن بنفسه.
يرسخ في وعي الكثيرين أن تأثير كل من السحر والشعوذة، والعين، والتابعة، ومختلف هذه الأمور، يفوق أثر الإله في حياتهم، يتصورها دومًا كقوة، شيطانية، توازي قوة الإله، وفي أحيان كثيرة يعتقد أنها تتفوق عليها، أو أن الإله (محرك لا يتحرك) بخلاف قوى الشر، تتحرك دومًا، وتفعل، وتؤثر، وتقضي مصالحًا على قدر قرب الساحر من ذلك الشيطان، وهي فاعلة بنظره، لا منفعلة، في المقابل، يعتقد نفس الشخص أن هذه القوة، يجب أن تقاوم بقوة الراقي، وهو شخص في أغلب الأحيان يشاطر الساحر أن لقمة العيش صعبة والواحد منا يكمل الآخر، وهذا صراع، وقوده مال الزبون، وبتعبير الآخر صدقة المريض، صاحب الحالة.
وهو نفسه، التكملة الأكثر سخرية، لحلقة الشخصية الاستهلاكية، التي تاقت لاستهلاك كل ما أنتجه الآخر، وقد يضحى ناقدًا إذا ما تعلق الأمر بالمنتوج المحلي مقابل المستورد، لكن فجأة، يكتشف نفس الشخص أن المنتوج الأكثر استهلاكًا حتى أنه ليرافق الميت من الناس إلى القبر، صورة عليها شيء من الطلامس، وهي المنتوج المحلي الذي أصبح المجتمع على يقين أنه الوحيد الذي لا تُشتَكى جودته! ولا تُشتَكى جودة من يعامله، حتى تعدَّى الطموح قضايا (المجتمع) ليصعد لمستوى التَّصنيع، والتَّقدم العلمي، والسِّياسي ربما، أين صار الراقي يثير أن تقدُّم أمة علميًا وتكنلوجيًا، إنما هو نتاج شعوذة، لعله يظفر بوزارة على مقاسه، ليقاوم تمكُّن أمم شنقت آخر ملك بأمعاء "آخر قسِّيس" برقية أو تميمة، تعيدها إلى ما قبل التصنيع بهذا، وتجعله في مقدمة الأمم!
وهو نفسه، التكملة الأكثر سخرية، لحلقة الشخصية الاستهلاكية، التي تاقت لاستهلاك كل ما أنتجه الآخر، وقد يضحى ناقدًا إذا ما تعلق الأمر بالمنتوج المحلي مقابل المستورد، لكن فجأة، يكتشف نفس الشخص أن المنتوج الأكثر استهلاكًا حتى أنه ليرافق الميت من الناس إلى القبر، صورة عليها شيء من الطلامس، وهي المنتوج المحلي الذي أصبح المجتمع على يقين أنه الوحيد الذي لا تُشتَكى جودته! ولا تُشتَكى جودة من يعامله، حتى تعدَّى الطموح قضايا (المجتمع) ليصعد لمستوى التَّصنيع، والتَّقدم العلمي، والسِّياسي ربما، أين صار الراقي يثير أن تقدُّم أمة علميًا وتكنلوجيًا، إنما هو نتاج شعوذة، لعله يظفر بوزارة على مقاسه، ليقاوم تمكُّن أمم شنقت آخر ملك بأمعاء "آخر قسِّيس" برقية أو تميمة، تعيدها إلى ما قبل التصنيع بهذا، وتجعله في مقدمة الأمم!
شعبنا العجيب! من أسبوع متوَّج بتراند نبش القبور، الشعوذة، السحر، والراقي المغوار، وقصص الغباء الطبيعي، مباشرة إلى تراند المطالبة بالرقمنة والنقد الساخر المتعالي، الذي يشعرك أنه شعب وُضِعَ أين لا يليق به! أخي الكريم، النسيج يأتي على مقاسك، ولا يمكن في يومين متتالين، تنتقل من الريف إلى العاصمة! وإلا أضحت الرقمنة بنظرك مرفوعة لمواضيع احتساب نسبة الحسد والعين وحجم التابعة بالبايت، وتنصيب مضاد فيروس، عفوا، أقصد سحر، هاجم نظام حياتك وعطلها. لا تنس أن قنواتك، التي تنقل لك أن رقمنة مجرد امتحان، باتت بالفشل، كنتَ قبل يومين تضع لايكات على بثِّها وهي تستجلب شخصيَّات دجالة، تشرح أن التقدُّم العلمي في الغرب كان رهين الاستعانة بمثل شمس المعارف! وفي نظرية المعرفة قيل: الوعي انعكاس للواقع، مع هذا يشعرك بعضهم أن هذا الواقع أقل بكثير من درجة الوعي التي هو عليها عندما يتحدث عن مثل مواضيع الرقمنة في فيسبوك، لكنه، سبحان الله، في المقهى يتحدث عن امكانية تفسير نظام حياته المهترئ بأمل إيجاد صورته في مقبرة ما!
الزهد يحسم كل الموضوع!
واحدة من الحلول الذي استقدمت من العالَم الصوفي، لدى طه عبد الرحمن، تجاه ما يشمل موضوع "الرقمنة" هو أن يكتسب المسلم صفة الزهد تجاه المؤسسات العلمية والتكنلوجية، لأنها بنظره، سلبت الإنسان جوهره، وهذه من الفلسفات، إن صح التعبير، التي شكلت بنية ذهنية لطريقة تفكير الكهل العربي بشكل عام تجاه الإدارة، والمؤسسات، ومسائل القوة والتغيير! كان طه سنة ٢٠٠٦ يكتب:
"نجد من القيم التي يتعيَّن إحياؤها اليوم قيمة الزهد التي خبرها المؤاخي بما لم يخبرها غيره، فلا بد أن يقع الزهد في بعض المباحث والمؤسسات العلمية، أيضا في بعض أسباب القوة والتغيير" [١] في كتاب يحمل عنوان [روح الحداثة] وهو ما يشرح لك مدى تعلُّق النخب العربية بالرجعية الإدارية والمؤسساتية، وجو التصوف والهرطقة، في مسارها الرومانسي ضد الحداثة، على أساس أنه قادر على تحصيل تلك الأدوات، لكنه "يزهد" فيها.
[١] روح الحداثة، طه عبد الرحمن، ص٢٣٤.
واحدة من الحلول الذي استقدمت من العالَم الصوفي، لدى طه عبد الرحمن، تجاه ما يشمل موضوع "الرقمنة" هو أن يكتسب المسلم صفة الزهد تجاه المؤسسات العلمية والتكنلوجية، لأنها بنظره، سلبت الإنسان جوهره، وهذه من الفلسفات، إن صح التعبير، التي شكلت بنية ذهنية لطريقة تفكير الكهل العربي بشكل عام تجاه الإدارة، والمؤسسات، ومسائل القوة والتغيير! كان طه سنة ٢٠٠٦ يكتب:
"نجد من القيم التي يتعيَّن إحياؤها اليوم قيمة الزهد التي خبرها المؤاخي بما لم يخبرها غيره، فلا بد أن يقع الزهد في بعض المباحث والمؤسسات العلمية، أيضا في بعض أسباب القوة والتغيير" [١] في كتاب يحمل عنوان [روح الحداثة] وهو ما يشرح لك مدى تعلُّق النخب العربية بالرجعية الإدارية والمؤسساتية، وجو التصوف والهرطقة، في مسارها الرومانسي ضد الحداثة، على أساس أنه قادر على تحصيل تلك الأدوات، لكنه "يزهد" فيها.
[١] روح الحداثة، طه عبد الرحمن، ص٢٣٤.
أوفيسيال؟!
علَّق بعضهم ظاهرة الاعتداء على منقبة على أساس أنها "ساحرة"، بوجود شخص "بولحية" وسطهم، أخبرهم أن ما بين يديها هو كتاب سحر، سأله بعض الحضور "أوفيسيال" فردَّ عليه "إيه، أوفيسيال" أي قطعًا هذا كتاب سحر. جرى تصويرها، والتشهير بها، ونزع بعض من لباسها، ثم تبيَّن أنها مغتربة، تمسك كتابا يشرح معاني الكلمات العربية، وليس لها أي علاقة بالسحر.
بعض من يريد حماية التيار المشيخي، أخذ يشرح أنَّ هذا من نتائج دخول هذه العيِّنة إلى كليات الشريعة بمعدَّل نجاح أدنى في البكالوريا، على أساس أن التيار الذي دخل كلية شريعة، بمعدلات عالية، معصوم عن هذه الطريقة في التفكير أو السلوك!
ونفس من يطرح فكرة رفع الحد الأدنى من معدَّل القبول في كليات الشريعة، كان ممن أطنب زمنًا وهو يتغزَّل بشخصيَّة "المغيلي"، ذلك الذي قال ذات يوم أن وصفة الطبيب، لا تساوي شيئا أمام حجاب الولي، ومقطعه موجود على اليوتيوب.
وهو ما سيعيد إنتاج هذه الظواهر إلى ما لا نهاية وحتى لو كان الحد الأدنى للقبول في كليات الشريعة ٢٠/٢٠، فكثيرًا ما نجد دكتورًا أو طبيبًا أو جرَّاحًا حتى، يتأثر بقصص الرقاة، ويرى فيهم نوع ولاية، أو ضربًا من القوى التي لم تقع لغيره من المسلمين، يتمكن من خلالها -إذا ما قرأ القرآن- أن يعالج المجنون!
وعلَّة هذه الظواهر عميقة تاريخيًا لا يعالجها رفع معدَّل القبول، بل كليَّات الشريعة التي باتت وظيفية حتى لو ارتفع مستوى المقبل عليها سلفًا، لا تفيد بأي شيء في المجتمع، بل تنتج تيارات تمتص خزينة الدولة بدون أي منتوج، لا خدماتي، ولا فكري، ولا صناعي، على خلاف كليات أخرى، وهو ما استدعى تحولها من قطر إلى قطر إلى مجرد مفرخة لتطبيق سياسات بعيدة عن استيعابها.
ثم باتت هي التيارات المكرِّسة لأبشع أنواع الرجعية في كل عصر، مع أول ظهور للطابعة، تهددت مكاسب التيار، متمثلة في النسخ اليدوي، فوقع تحريمها، ثم مع وجود الراديو حصل نفس الشيء، وبعد شيوع الكتب على النت، وسهولة الوصول لها أضحى تهديدًا أن ينكفئ المتعلِّم على ما يتوفر في الفضاء الرَّقمي، فشُدِّدَ على ذلك بمقولات تحطُّ من قدر من لا شيخ له، أو من يتعلم دون أن يثني ركبه لدى شيخ، فمن سيأتيه يومها؟ سيغلق الدكان، ويتجه للحياة العملية!
وهكذا حصل مع علم النفس، ومختلف العلوم الإنسانية، أما العلوم الطبيعية، ومن ضمنها علم الطب الحديث، فآخر من نال لقب "شيخ الإسلام" في الدولة العثمانية كان يسميها بـ "علوم الكفر" على أنَّ علم فك الطلاسم، والقراءة على التمائم، والحجب، ومسح الوجه ببصاق الشيخ، يأتي في مقدمة ما يرتضيه علمًا إيمانيًا!
إنَّ المشكلة بعيدة عن مجرد التعلق بأن رفع معدل البكالوريا هو مما يحل الموضوع، ففي الهند كثيرا ما ترى بروفيسورًا يعبد فأرًا، أو بقرة، وإنما تكمن في الذهنية المنغلقة التي تنشئها المؤسسات التقليدية، وتعيد تدويرها داخل فضاءها المشيخي المعزول عن أي مساءلة، لأنه باختصار يحتكر إنتاج هذه المعرفة، فيمتنع أن تنهض كليات الشريعة بأي دور إنتاجي، ما دامت مجرد جهاز أيديولوجي يعيق التأهيل لأي منتوج حقيقي.
بل مع ظهور أي منتوج صناعي أو تقني، يأخذ دور البرلمان الذي يدرس شرعيتها، ثم يختلف بين محل ومحرم، ثم ينتهي به المطاف إلى الانصياع لها كمستهلك فج! الطابعة، الراديو، السيارة، الطب، البارودة، الذكاء الاصطناعي، الهاتف، البلوتوث، التلفزيون، الإنترنت، الفيسبوك...إلخ.
وإنما آخر محطاته الاجتماعية تدور في نفس الحلقة: سحر وهمي، رقية شعبية، وشهادة جامعية لا تنقذ حاملها من الوقوع في تقديس من يحتقر العلاج الطبي لصالح العلاج بالحجب والتمائم.
علَّق بعضهم ظاهرة الاعتداء على منقبة على أساس أنها "ساحرة"، بوجود شخص "بولحية" وسطهم، أخبرهم أن ما بين يديها هو كتاب سحر، سأله بعض الحضور "أوفيسيال" فردَّ عليه "إيه، أوفيسيال" أي قطعًا هذا كتاب سحر. جرى تصويرها، والتشهير بها، ونزع بعض من لباسها، ثم تبيَّن أنها مغتربة، تمسك كتابا يشرح معاني الكلمات العربية، وليس لها أي علاقة بالسحر.
بعض من يريد حماية التيار المشيخي، أخذ يشرح أنَّ هذا من نتائج دخول هذه العيِّنة إلى كليات الشريعة بمعدَّل نجاح أدنى في البكالوريا، على أساس أن التيار الذي دخل كلية شريعة، بمعدلات عالية، معصوم عن هذه الطريقة في التفكير أو السلوك!
ونفس من يطرح فكرة رفع الحد الأدنى من معدَّل القبول في كليات الشريعة، كان ممن أطنب زمنًا وهو يتغزَّل بشخصيَّة "المغيلي"، ذلك الذي قال ذات يوم أن وصفة الطبيب، لا تساوي شيئا أمام حجاب الولي، ومقطعه موجود على اليوتيوب.
وهو ما سيعيد إنتاج هذه الظواهر إلى ما لا نهاية وحتى لو كان الحد الأدنى للقبول في كليات الشريعة ٢٠/٢٠، فكثيرًا ما نجد دكتورًا أو طبيبًا أو جرَّاحًا حتى، يتأثر بقصص الرقاة، ويرى فيهم نوع ولاية، أو ضربًا من القوى التي لم تقع لغيره من المسلمين، يتمكن من خلالها -إذا ما قرأ القرآن- أن يعالج المجنون!
وعلَّة هذه الظواهر عميقة تاريخيًا لا يعالجها رفع معدَّل القبول، بل كليَّات الشريعة التي باتت وظيفية حتى لو ارتفع مستوى المقبل عليها سلفًا، لا تفيد بأي شيء في المجتمع، بل تنتج تيارات تمتص خزينة الدولة بدون أي منتوج، لا خدماتي، ولا فكري، ولا صناعي، على خلاف كليات أخرى، وهو ما استدعى تحولها من قطر إلى قطر إلى مجرد مفرخة لتطبيق سياسات بعيدة عن استيعابها.
ثم باتت هي التيارات المكرِّسة لأبشع أنواع الرجعية في كل عصر، مع أول ظهور للطابعة، تهددت مكاسب التيار، متمثلة في النسخ اليدوي، فوقع تحريمها، ثم مع وجود الراديو حصل نفس الشيء، وبعد شيوع الكتب على النت، وسهولة الوصول لها أضحى تهديدًا أن ينكفئ المتعلِّم على ما يتوفر في الفضاء الرَّقمي، فشُدِّدَ على ذلك بمقولات تحطُّ من قدر من لا شيخ له، أو من يتعلم دون أن يثني ركبه لدى شيخ، فمن سيأتيه يومها؟ سيغلق الدكان، ويتجه للحياة العملية!
وهكذا حصل مع علم النفس، ومختلف العلوم الإنسانية، أما العلوم الطبيعية، ومن ضمنها علم الطب الحديث، فآخر من نال لقب "شيخ الإسلام" في الدولة العثمانية كان يسميها بـ "علوم الكفر" على أنَّ علم فك الطلاسم، والقراءة على التمائم، والحجب، ومسح الوجه ببصاق الشيخ، يأتي في مقدمة ما يرتضيه علمًا إيمانيًا!
إنَّ المشكلة بعيدة عن مجرد التعلق بأن رفع معدل البكالوريا هو مما يحل الموضوع، ففي الهند كثيرا ما ترى بروفيسورًا يعبد فأرًا، أو بقرة، وإنما تكمن في الذهنية المنغلقة التي تنشئها المؤسسات التقليدية، وتعيد تدويرها داخل فضاءها المشيخي المعزول عن أي مساءلة، لأنه باختصار يحتكر إنتاج هذه المعرفة، فيمتنع أن تنهض كليات الشريعة بأي دور إنتاجي، ما دامت مجرد جهاز أيديولوجي يعيق التأهيل لأي منتوج حقيقي.
بل مع ظهور أي منتوج صناعي أو تقني، يأخذ دور البرلمان الذي يدرس شرعيتها، ثم يختلف بين محل ومحرم، ثم ينتهي به المطاف إلى الانصياع لها كمستهلك فج! الطابعة، الراديو، السيارة، الطب، البارودة، الذكاء الاصطناعي، الهاتف، البلوتوث، التلفزيون، الإنترنت، الفيسبوك...إلخ.
وإنما آخر محطاته الاجتماعية تدور في نفس الحلقة: سحر وهمي، رقية شعبية، وشهادة جامعية لا تنقذ حاملها من الوقوع في تقديس من يحتقر العلاج الطبي لصالح العلاج بالحجب والتمائم.