الدُّرّ النَّثِير
27.8K subscribers
2.65K photos
690 videos
309 files
516 links
Download Telegram
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
رُوَّاد مَدرسة التلاوة المصرية كالفاكهة، كل واحدٍ منهم له طَعم ولون ورائحة، ولكل منهم نمَطُه الخاص وروحانيته الذاتية، تستمتع مع كل واحد منهم بجَنّته الخاصة وسرِّه الفريد، حتى يأتي مصطفى إسماعيل فيُنسيك كل هؤلاء جميعا وينسَخ ما علِقَ بسمْعك من أنغامهم، ويكون لسانُ حالك معه:

لا تَذْكُرِ الكُتبَ السَّوالِفَ عندَهُ
طَلَعَ النَّهارُ فأَطْفِئِ القِنْدِيلا.

محدّش يعمل اللي بيعمله دا والله أبدا:
من فصيح العوام :

ما يَتَزحْلَقُ عليه الصبيان أثناء لَعِبهم يسمَّى في العربية : زُحْلوق، وزُحلوقة، قال علقمة الفحل :

وبَهوٌ هواءٌ تحتَ صُلبٍ كأنَّهُ ...
من الهضبة الخلقاء زُحلُوق مَلعبِ.

وعلى هذا فقول عوام المصريين: زُحلِيقة، له أصل في العربية.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لا حول ولا قوة إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة".

- قال ابن سِيْدَهْ الأندلسي: الحَوْلُ: الحِذْق وجَودة النظر والقُدرة على دِقَّة التصرُّف.

وهذه المعاني يجمعها لفظُ " التوفيق" فالمعنى أنه لا توفيق ولا إصابة في شيء من الأقوال والأفعال إلا بقوة الله وعونه وتدبيره ومشيئته.

- وقال ابن الأثير: الحَولُ هاهنا: الحركة، يقال: حال الشخص يحُول، إذا تحرَّك، والمعنى: لا حركةَ ولا قوةَ إلا بمشيئة الله تعالى.

- وقال الحافظ ابن حجر: معناه: لا تحويل للعبد عن معصية الله إلا بعصمةِ الله، ولا قوةَ له على طاعة الله إلا بتوفيقِ الله، ونُسب هذا التفسير إلى ابن مسعود - رضي الله عنه-.

- وقيل: معناه لا حولَ في دفعِ شَرٍّ، ولا قوةَ في تحصيلِ خيرٍ إلا بالله.

وهذه الكلمة الشريفة لها أثرٌ بالغٌ ومجرَّب في تفريج الكُروب وزوال الهُموم والغُموم؛ لأنَّ فيها استسلاما وخضوعًا وتجرُّدًا وخروجًا عن التكلُّف في رعاية الأسباب والمبالغة في التدبير إلى تفويض الأمور كلها في مبدَئها ومنتهاها إلى المُسبِّب - عز وجل- ففيها شهادةٌ بأنه الفاعل وأنه الصانع، ولعلَّ هذه الجملة الكريمة أوجز بيانٍ وأصدقُ قولٍ في التعبير عن معنى" التوكُّل"؛ فخُذْ بحظِّك منها.
[على هامش الكلام على حديث "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم"]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..

فإن كاتب المنشور الذي علّقت عليه قريبًا - أصلحه الله وعافاه ووقاه والمسلمين شر نفسه - قد أغضبه كلامي، وأخذ يعاتب أصحابه على الإعراض عن الدفع عنه والتصدي لمقالي، فذكر في أثناء ذلك أشياء تتعلق بي أحببت التعليق عليها، منها:

• أني أستنكف أن أسميه باسمه، وليس كذلك، وليس في تسمية المردود عليه ضِعَة للذاكر أو رفعة للمذكور لكي يُستنكف من مثل هذا! .. وإنما أفعل ذلك مع الكاتب وغيره لأني لا أحب التشاغل بالأشخاص عن تجريد النظر في الكلام المنقود أو المنهج المردود، ولكيلا ينشغل أُناس بما لا يعرفون أو يُحسنون، فمن كان يعرف الكاتب فقد فطن إلى القول فيه، ومن كان لا يعرفه لكن تعرّض لمثل هذا الكلام ولجنس ذلك المسلك فيكفيه رد الكلام والمسلك، ومن لم يكن من أهل ذلك الشأن فتحجزه التعمية عن اقتحام ما لا يحسن والتدثّر بثياب الأولتراس والهَتّيفة والمصقفتيّة والانتصار للقائلين لا المقالات من غير بيّنة، أما من أخذ في البحث والتنقير وأشغل نفسه بما لم يُشغَل به فهو من جنى على نفسه، وحتى لا تُعقَد على ضفاف النقود العلمية مجالس التعزية وتطييب الخواطر وشدّ الأزر وإصلاح ذات البين كما هو حاصل في التعليقات عند الكاتب، وكأننا نتنازع في أكل ميراث، لا في شأن متعلق بدين الله والكلام فيه، ولطالما نهيت في العام والخاص عن أن يُفعل معي نحو هذا!

• وقد ذكر الكاتب أن أصحابي قد سارعوا إلى فعل كذا وكذا، وأخذ يتعوذ من شرّي وشر أصحابي، وليس لي أصحاب بهذا المعنى الذي ظاهره التحزب والشللية والانتصار بالهوى والمتابعة العمياء، بل أنا أنهى عن ذلك شديدًا، ولا أحب أن يُهلِك عاميّ نفسه بالتورط في مثل ذلك، ولا أن ينشغل طالب علم عمّا هو فيه من تكاليف رتبته بما لم يُضطر إليه، ولستُ ممن يتوسّل بمقامي عند أقوام لكي يدفعوا عني ويردوا قول من نقدني، أو ممن يُرهِب أصحابه إذا أمكن أنهم آبوا إلى اختيار قد حسبوه أسدّ وأجود!

• وقد ذكر الكاتب أني كان في قلبي شيء فأظهرت بعض ما كان فيه، ثم أخذ يسأل الله أن يصرف عنه شري، وهذا الكلام قد يُفهم منه أني كنت أُبطن خلاف ما أُظهر، وليس كذلك، بل قد علّقت على كلام لنفس الكاتب منذ سنتين أو أكثر بكلام هو من جنس ما ذكرته في تعليقي الأخير، وحالي يُغني عن مقالي في البراءة من مثل ذلك المسلك الفاسد، وأيضًا قد يُفهَم من الكلام أني أضمر للكاتب نفسه سوءًا، وأنه ما نهزني إلا ذلك، وأنا لا أعرفه أصلًا ولا أعرف إلا كتاباته ولا يعنيني شيء سواها، ولو كنت أعرفه وبيني وبينه مودة فليس ذلك مانعٌ من الرد بمثل ما رددت به أو أشد، بل ذلك أدعى عندي للبدار إلى إنكار المنكر والبراءة من الباطل إن لم أجد من ذلك بدًا، وأنا لا أوادّ أحدًا على شرط ترك التخطئة والإنكار وموافقة الحق حيثما لاح، ولو أن أبي أحياه الله فسلك مسلكًا أرى فيها الإضرار بالديانة والشريعة لما رأيت لي مندوحة عن الأخذ على يده إن ضاقت المسالك عمّا سوى ذلك، فالصادق لا يحتاج إلى سبق إبطان لكي ينكر المنكر وقتما يتفوّه به صاحبه!

• وقد ذكر الكاتب أني قلت إن طريقته تُفسد اللسان والإيمان والعقل والفقه، وقد صدق، وإني امرؤ أتروّى فيما أقول قدر طاقتي، وأجتهد في ألا أتكلم بما أحب أني سكتُّ عنه، وليس في ذلك الحرف شيء بالغت فيه حيث استخفني الغضب، بل كل لفظة من الأربع مرادة مقصودة تحتها من التفصيل والبيّنة ما ليس تحت أختها، وهذا ونحوه ليس سُبابًا أو خطابة أو تشاغلًا بشخص الكاتب، بل هو وصفٌ صادق وتنبيهٌ واجب على مآل هذه الطريقة أيّا كان سالكها!

• وقد ذكر الكاتب أني لا أذمه فقط، بل أذم في حقيقة الأمر من يقبل كلام مثله ويأخذ به، وقد صدق، وعندي أن الكاتب صاحب بدعة، متجرّي على ما لا يطيق من أبواب الديانة، مستخفٌ من هم مثله أو دونه، وعندي أن كلام مثله بمثل هذا منكر، وأن موافِقَه عليه أو مزيّنه له معاونٌ له على الإثم والعدوان، وهذا الكاتب لا ينفك يلمز الشافعي وأحمد والطبري وأضرابهم، وأهل الفقه واللغة والأصول وغيرهم، بل طال الاستخفاف كلام بعض الصحابة والتابعين، ولو أحيا الله جميع هؤلاء لكان لسان حالهم مع ذلك: لو أن ذات سوار لطمتني، فالكاتب يتقحّم كل ذلك بفهم سقيم وبيان ركيك وادّعاء عريض وانتفاخ عجيب وجرأة تنادي على صاحبها بالخفة! .. فضلًا عمّا يؤول إليه هذا المسلك من إماتة علوم الدين والعبث بها وتجرية كل أحدٍ عليها، وما في باطن كلام الكاتب من ذلك أكثر مما في ظاهره .. فمن كان يجهل ذلك ولا يتبيّنه فيسعه السكوت، ومن كان يعلمه ويتبينه فلا أدري ما أقول، وأما من كان يتأول ويزين لنفسه فلا أدري أيضًا أينفعه ذلك عند الله أم لا، أرجو!
وها هو الكاتب قد استوثب أصحابه وعتب عليهم ترك رد عاديتي عليه، فلا أغفر أنا لنفسي أن أقعد عن رد عاديته هو على الشريعة وعلومها وأهلها، فهم أصحابي دونه ومن سواه، وليهنأ كل امرئ بأصحابه!

وبعد، فإن تفصيل الكاتب في الأسانيد فيه جمع جيد وفيه مجازفات وقلة فقه أيضًا، ولعلي أنشغل بهذا أو جنسه يومًا ما إن شاء الله، وأما كلامه في المتن فإني منتظرٌ فراغه مني وتفرّغي له لآتي على كل حرفٍ فيه وأبين ما فيه من الفساد والخلل، لأن الشأن ههنا أعظم، فإن في قواعد الإسناد ما قد يُلجم عن بعض الفلتات، أما أن يُقال لو صح الإسناد لرُد الأثر من حيث نكارة المتن ثم يُتوسّل لهذا الخطر الجليل بذلك الهَذَر = فهذا لا يسكت عنه ذو ديانة!

وأسأل الله العفو والهدى والصلاح لي وللكاتب ولجميع المسلمين!

- الشيخ كريم حلمي -
فائدة:
-----

إطلاقات مصطلح" العربية" والفرق بينه وبين مصطلح " اللغة":

١- أما العربية فإن لِلعُلماء فيما تُطلق عليه ثلاثةَ أقوال:
- أحدها: أنها الإعراب.
- والثاني: أنها الألفاظ العربية من حيث هي ألفاظ العرب
- والثالث: أنها اللغة العربية من حيث اختصاصها بأحوالٍ هي الإعراب لا توجد في غيرها من اللغات.

٢- والفرق بينها وبين اللغة : وقوعُ " العربية" على أحوال كل مفردٍ ومركب، و" اللغة" لا تُطلق على أحوال المركب، بل اللغة عبارة عن ضبط المفردات على ما تكلمتْ به العرب وشرْح معانيها.

- من الفاخر في شرح جُمل عبد القاهر، لأبي الفتح البعلي ت709هـ -

وفي شرح ابن يعيش أن العربية أعمُّ من اللغة؛ لأن العربية تقال على المفرد والمركب، واللغة تقال على المركب.
الدُّرّ النَّثِير
Photo
لمَّا نُقلت كتب أرسطو إلى بلاد العرب وتُرجمت في عهد الدولة العباسية، استفاد منها علماء المسلمين، وأخذوا منها وتركوا، ولكن لم تكن الترجمة عن اللغة اليونانية دقيقةً في بعض الأحيان؛ فلم تنقل مراد أرسطو تامًّا، وقد نبَّه الصفديّ على هذا في " شرح لامية العجم" وذكر هناك الفرقَ بين الترجمة الصحيحة والفاسدة، وهذا التفاوت مُغتفر خصوصا أن هذه كانت تجربة جديدة عند المسلمين.

ثم اشتهر من شرَّاح أرسطو: أبو نصر الفارابي، ثم ابن سينا، ثم ابن رشد، ومن عَجب أن العلامة الكبير أنور شاه الكشميريّ كان يرى أن شروح ابن رشد أدقُّ من كتب ابن سينا وأنه يَفهم مراد أرسطو أكثر منه.

وثَمَّة رجلٌ آخر عالِمٌ من علماء الدولة العثمانية، أعاد ترجمة كتب أرسطو من اليونانية إلى العربية مرةً أخرى، ولكنه لم يشتهر كشهرة هؤلاء، وهو أسعد أفندي بن علي بن عثمان اليانيوي ت1143هـ، وكان عالما بالفلك والفلسفة والرياضيات، إضافةً إلى عِلمه بالعلوم العربية والشرعية.

وقد ذَكر أنه لما اشتغل عليه أصحابه بالعلوم العقلية بعد إحكامهم للعلوم الشرعية ووجد أن الكتب المترجمة عن اليونانية فيها كثير من التحريف وإحالة الكلام عن وجهه الصحيح = أعاد ترجمة هذه الكتب مرةً أخرى، وأعانه على ذلك بعضُ اليونانيين المقيمين في الدولة العثمانية، حتى انتهى من ترجمة أعمال أرسطو وشرَحها أيضا.

وكتبه متوفرةٌ - مخطوطة - في المكتبات التركية، ومنها عدة نسخ، وأحسب أنها لو طُبعت واعتنى بها الباحثون لظهرتْ لنا فوائد كثيرة واختلافات بين عمله وعمل غيره، والله أعلم.
من الأذكار النبوية:" اللهمَّ فاطرَ السمواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادة، ربَّ كلِّ شيءٍ ومليكَهُ، أعوذُ بكَ من شرِّ نفسي ومنْ شرِّ الشيطانِ وشركه، وأنْ أقترفَ على نفسي سوءًا أو أجرَّهُ إلى مسلم".

قوله " وشركه" فيه وجهان:

الأول: أن يُقرأ بكسر الشين، وسكون الراء " وشِرْكه" وفي توجيهه قولان:

1 - أن يكون اسمَ مصدرٍ، بمعنى الإشراك بالله، وحينئذ فعطفُه على ما قبله من قبيل عطفِ الخاصّ على العام، ويكون المعنى: أنه يستعيذ بالله من شر الشيطان ومن إشراكه بالله، وذلك لأن الشرك بالله هو أخطَرُ ما يُوسوِس به الشيطان لابن آدم.

2 - أن يكون اسمًا بمعنى " الشَرِيك" وهو أحد ما يمكن أن يُفسَّر به قراءةُ نافعٍ ومَن معه في قوله تعالى " فلما آتاهما صالحا جعلا له شِرْكًا فيما آتاهما" أي: شريكا، ويكون المقصود الاستعاذة من وسوسة الشيطان ووسوسة شريكه فيها، وهم صحبة السوء من الإنس مثلا؛ فإن الشياطين يُوحون إلى أوليائهم من الإنس ليُفسدوا المؤمنين ويُضلُّوهم عن دينهم.

الثاني: أن يُقرَأ بفتح الشين والراء " وشَرَكِه" وتوجيهه أنه اسم جنس جمعي واحده شَرَكَةٌ، وهو الشَبَكة التي تُنصَب للطائر، والشَّرَك: حبائل الصيد، وما يُنصب للطائر ليقع فيه، وفي وصفِ ابن عباس لعُمر - رضي الله عنهم - قال : "كان كالطَّائر الحَذِر يرى أن له في كل موضعٍ شَرَكًا"، يعني: أنه كان شديد الحَذر مما يخاف سوء عاقبته، وإضافة الشرَك لضمير الشيطان واضح. والله أعلم.
اللهم آمين يارب
ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة!
------

ذكَر الحافظُ ابن عساكر - رحمه الله- في "تاريخ دمشق" قال: اجتمعتُ أنا وأبو عامر العبدري يوما عند أبي القاسم ابن السمرقندي في قراءة كتاب" الكامل" لابن عديّ، فحكى ابن عدي حكاية عن السعدي.

فقال: يكذبُ ابن عديّ؛ إنما هذا قول إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني.

فقلت له: السعدي هو الجوزجاني، ثم قلتُ: إلى كم نحتمل منك سوء الأدب! تقول في إبراهيم النخعي كذا، وفي مالك كذا، وفي أبي عبيد كذا، وفي ابن عدي كذا، فغضبَ وأخذته الرِّعدة، وقال: كان البرداني وابن الخاضبة وغيرهما يخافونني وآل الأمر إلى أن تقول لي هذا !!

فقال له ابن السمرقندي: هذا بذاك.

وقلتُ أنا له:" إنما نحترمك ما احترمتَ الأئمة، فإذا أطلقتَ القول فيهم فما نحترمك".
إنَّ في ذلك لعبرةً لمَن يخشى:
-----

ذكر العلامة الناصري ت ١٢٣٩هـ في رحلته: أن شيخه العلامة الكبير الإمام أبا عبد الله بن سودة الفاسي لمَّا رجع من الحج ودخل مصر طُلِب منه تدريسُ الموطأ للإمام مالك - رضي الله عنه- بالجامع الأزهر، فاجتمع في هذا الدرس معظم علماء الأزهر في ذلك الوقت.

قال الناصري:

فكان في مبدأ افتتاح الكتاب ذَكر تراجم الأئمة الأربعة، وقال في الشافعي: إنه ليس بحافظ، فأنكَر عليه ذلك مَن حضَره من أئمة الشافعية حتى انقطَع عنه بعضهم بسبب ذلك .

ثم لمَّا اجتمع الشيخ ابن سودة مع بعض المنقطعين لامَه على الانقطاع عنه، فأبدَى سببَه من قوله إن الشافعي ليس بحافظ.

فقال: ليس قصدي ما تفهمون، وإنما القصد أنه غير حافظ على طريقة أرباب المصطلح من أن الرجل لا يقال فيه حافظ إلا بعد أن يحفظ ما يزيد على مائة ألف حديث بأسانيدها وعللها وتراجم رجالها، ولسنا نرى في ترجمة الإمام الشافعي هذا الحفظ، ولا له مؤلف كبير ينحو نحو مسند أحمد بن حنبل وصحيحي البخاري ومسلم وأضرابهم من الحفاظ .

ثم إن الإمام ابن سودة - من صلاحه وحسن اعتقاده – لم يطمئن لذلك ولا وقَف عنده، بل ذهب مع الشيخ اللبان رحمه الله - حسبما حدَّثني بذلك - إلى ضريح الإمام الشافعي بالقرافة، وتعلَّق بشُبَّاك قبره والتزمَه وهو يبكي ويستغفر الله تعالى من مقالته تلك، وإن كانت على الصواب وكان لسان حاله يُنشد:

إن السلامة من سلمى وجارتها
أن لا تمـُرَّ عـلى حـالٍ بِوَادِيهـا

لا تسلُكنَّ طريقا لستَ تعرفهـا
بلا دليلٍ فتهـوِي فـي مَهاويهـا.

انتهى.

قارن بين هذا والجرأة الغريبة من البعض على مقامات هؤلاء السادة بلا علم ولا عقل ولا ذوق، وإنما هي الدعاوى الفارغة والكلام المُرسل على عواهنه، حتى بلغَ الحالُ ببعضهم أنْ يجزم بخطأ الشافعي رضي الله تعالى عنه في اللسان والبيان بعد تقريرهم من ألف عام أنه حُجةٌ فيهما، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
من الأذكار النبوية:" اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ... إلخ".

قوله" الحزن" فيه لغتان: الحَزَن، بفتحتين، والحُزْن، بضم وسكون:

- فقيل: هما لغتان بمعنى واحد، مثل العَدَم والعُدْم، وقد امتنَّ الله على المؤمنين بأنهم لا يُصيبهم في الجنة هَمٌّ ولا حزن، فقال:" وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" فهو والحُزن سواء.

- وقيل: الحُزْن هو نقيض الفرَح والسرور، وهو ناشئ عن تذكُّر آلام الماضي، وذِكرُه بعد الهمّ مناسب؛ لأن الهمّ يكون بسبب الخوف من المستقبل، أي: خوف فوات محبوبٍ منه أو وقوع مكروه فيه، فتكون الاستعاذة من انشغال القلب بالتفكُّر في الماضي الأليم وانشغال النفس بالخوف من حوادث المستقبل المظنونة أو المجهولة، وهذا من شأنه أن يصرف الإنسان عن واجباته ويُضعِف قلبه وعزيمته، وهو من أحبّ الأشياء إلى الشيطان، كما قال الله تعالى" إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارّهم شيئا إلا بإذن الله ".

والحَزَن: خُشونة العَيش وشِدّته، وأصله ما غلُظ من الأرض وصلُب منها.

ولم يرِد الحديث الشريف - بحسب علمي - إلا برواية الفتحتين، ولعل ذلك لرعاية التناسق اللفظي بينها وبين كلمة" الكسَل" في الجملة التي بعدها، والله أعلم.
الدُّرّ النَّثِير
Photo
هذا نموذج لتهوُّر هذا الصّحفي على ما لم يُحط به علما، واقتحامه سبيلا ليس من أهلها.

هو هنا في هذا النص المصوَّر أمامكم يخطّئ الزمخشري- رحمه الله- وليس ذلك هو المشكلة، فما زال الناس يستدرك اللاحق منهم على السابق ويردُّ بعضهم على بعض، وإنما البأس في أمور:

١ - انعدام الاستقراء الذي يزعمه له بعضُ دراويشه ممن يقول إنه مستقرئ واسع الاطلاع، وسيظهر لك أن هذه دعوى باطلة لا حقيقة لها.

٢ - سوء الظن بأهل العلم الذين اتفقتْ كلمةُ الأمة على تعديلهم وقَبول روايتهم والإذعان لحُسن نظرهم في العلم خصوصا اللغة والبيان وأحكام اللسان.

٣ - قلة تحصيله وجهله بمناهج العلماء في التصنيف.

٤- أنَّ ما يقوله هنا في حق الزمخشري من تكذيبه ورمْيه بالزور والباطل وزعْمه أنه اخترع هذه القراءة من عند نفسه هي أمور ناشئة من سوء ظنه به لكونه معتزليا؛ مع أن بدعة الاعتزال لا علاقة لها بصدق النقل أو كذبه، وما زال أئمة الإسلام ينقلون عن بعض ما عُرف صِدقه وأمانته في النقل؛ من الخوارج والشيعة وغيرهم، وصحيح الإمام البخاري فيه أمثلة من ذلك معروفة للدارسين.

ومما يدلك على تسرُّعه وتهوُّره وانعدام استقرائه أن الزمخشري - رحمه الله تعالى- حكى في قوله تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " ثلاث قراءات غير قراءة الجمهور، هي: لُسُن- بضمتين- ولُسْن- بضم وسكون- ولِسْن - بكسر وسكون.

فقام هذا الرجل الصحفي وانتفض وزعم أن هذه القراءات غير معروفة ولم يقرأ بها أحد من المتقدمين، وأن الزمخشري أحدَثها من عند نفسه!!

ووالله يا جماعة الخير بمجرد أن فتحتُ البحر المحيط لأبي حيان على الآية في سورة إبراهيم حتى وجدته يقول : " وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَأَبُو الْجَوْزَاءِ وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ : ( بِلِسْنِ ) بِإِسْكَانِ السِّينِ".

ثم قال : " وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ وَالْجَحْدَرِيُّ : ( لُسُنِ ) بِضَمِّ اللَّامِ وَالسِّينِ ".

ونظرتُ سريعا في " الكامل" للهُذلي فوجدته ينسب قراءة ضم اللام وسكون السين" لُسْن" إلى أبي السمّال.

وكل هؤلاء القراء من السلف، بل بعضهم من التابعين، فكيف يقول هذا الصحفي إنه لم يقرأ بها أحد من القراء المتقدمين !!

وتخريج القراءات الثلاث ونِسبتها إلى أصحابها والله على طرف الثمام، ليس أمرا صعبا ولا شاقا، بل قد خرَّجتُها وأنا في جلسة سمر مع أحد أصدقائي نتبادل أطراف الحديث، فأيُّ استقراء هذا الذي يُكلّمنا عنه دروايشه ومسحوروه!

فإن كان هذا الصحفيّ يريد أن هذه القراءات الثلاث لم يقرأ بها أحد من القراء العشرة أصحاب القراءات المتواترة.

قلنا: ليس هذا من شرط الزمخشري في كتابه، ولا تصح محاكمته إلى شيء لم يشترطه، وما زال المفسرون والمصنفون في القراءات يذكرون المتواتر والشاذ والتفسيريّ في كلامهم على الآيات، ولم يقل الزمخشري أصلا إن هذه الكيفيات الأدائية لهذه الحروف هي من القرآن، بل هو على عادة المفسرين يذكر القراءة الشاذة لبيان صحة وجهها في العربية وفصاحتها في اللسان فحسب؛ لأن هذا يُستعان به في أصول الفقه وفي البلاغة ونحو ذلك.

وبعد، فليس هذا كل هو ما عند هذا الرجل حتى لا يقال لا يضر الخطأ والخطآن، وإنما هو نموذج واحد من فساد نظره وسوء منهجه وانعدام استقرائه واستهانته بأقدار أهل العلم وتقحُّمه ساحةً هو عنها أجنبيّ وفيها غريبُ الوجه واليد واللسان - كما قال المتنبي - ولو شاء المرء أن يُعلق على كل ما عنده لاتسع الخرق على الراتق؛ فإن الرجل لا تكاد تجد له شيئا مستقيما أصلا على ثرثرته وركاكة كلامه، وكثير من كلامه يكفي في فساده حكايتُه، وحسبُك من شرٍّ سماعُه، وحسبنا الله ورسوله والمؤمنون.

واللوم ليس على هذا الرجل الصحفي، فقد كان مجهولا لدينا حتى رأينا بعض المُغيَّبين وضعاف العقول والفهوم يُشيد به ويشارك منشوراته، ذاهلا عن مقتضيات كلامه الباطل أوجاهلا بمسلكه الفاسد في النظر والمفسد لجميع العلوم والمعارف العربية والإسلامية، ولله الأمر من قبل ومن بعد
فهذا ما ظَهر لي في كلام الزمخشري بعد أن أشكَل على جماعة من الفضلاء ... وكم له مِثلُ هذا مما يدلُّ على قوة فهمه وتدقيقه وإشارته بالكلام اليسير إلى المعنى الكثير الغامض، ولكن في عبارته هنا قصور عن مراده... وقد فتَح الله عليَّ بِحَلِّه، وصارت صعوبته كأن لم تكن، وهكذا العلم ينفتح بأدنى شيء، وإني لَأُسَرُّ بما منحَني الله من ذلك وأراه خيرا من الدنيا وما فيها، لا يَعدِله مُلك ولا مال، وأعوذ بالله من أن أُعجَب به أو يَحصُل لي في نفسي منه كِبر، لكني أراه فضلا من الله عليَّ مع ضعفي وعجزي وقِلّة حِيلتي واعترافي بفضل الزمخشري.

- تقي الدين السبكي تـ756هــ -
الدُّرّ النَّثِير
Photo
هنا يستدرك الصحفيّ على إمام الصناعة بهذا النظر الساذج.

يقول إن لغة بني سليم في إجراء القول مُجرى الظن مطلقا ليست حَسنة ..

لماذا لا يا ترى ؟

لا نعرف؛ لكنَّ عنده قاعدةً اخترعها من تلقاء نفسه لم يسبقه إليها أحد من أهل العلم، وما كان ينبغي لهم أن يفعلوا لأنهم أعقل من ذلك؛ وهي أن كل كلمة أو لغة لم تأتِ في القرآن فهي لغو وليست صوابا، وقد أماتها القرآن وحَكم عليها بالفناء، هذا هو وجه حُكمه على لغة بني سليم في هذه المسألة بأنها باطلة وأنها ليست حَسنة.

طيب، ما الدليل على أن القرآن قد أبطَله؟

لا شيء عنده سوى عدم وروده في القرآن؛ ولا يخفى عند من له أدنى تحصيل من العلوم أن هذا لا يُفيد مطلوبه في شيء؛ وإلا فإن باب المفعول معه وهو فصلٌ تام من علم النحو لم يأتِ منه شيء في القرآن بيقين بحيث لا يحتمل غيره كما نص ابن هشام وغيره، فهل نُسقِط هذا النوع من الكلام وندّعي أنه باطل وأن النحاة اخترعوه وتقوَّلوه على العرب وأن من تكلم به يكون قد هجَر القرآن إلى غيره !.

هذا المسلك خطير جدا، ويترتب عليه سقوط الكثير من ألفاظ العرب، وهدْم الكثير من دواوينهم وأشعارهم ولغاتهم وثقافتهم، بل هو عبثٌ يُفضي إلى سقوط أبواب كاملة وفصول تامة من علم النحو والصرف والبلاغة وسائر علوم اللسان؛ فإن القرآن الكريم لم يستوعب جميع لغات العرب، وكثير من مباحث هذه الفنون لا توجد له شواهد في القرآن الكريم مع إطباق الكافَّة من العلماء على استخراجها من الشعر والكلام المأثور عن الفصحاء، هذه العلوم خادمة بلا شك للقرآن والسنة ويجب أن تبقى كذلك، لكنها مع ذلك مُستمدَّة من ثقافة العرب ومن معارفهم وإهدار هذا كله خبال وسوء رأي.
كان ابن الطراوة جريئا على تخطئة العلماء، وقد خطَّأ سيبويه في مواضع، لم يُسلّمها العلماء له ولم يرتضوا مَسلكه فيها حتى قال الدماميني مُعلِّقًا على مزاعمه:

" هذه جُرأة من الزاعِم المذكور على منصبِ إمام أئمة العربية، ورئيسهم المُقتَدى به، الذي أُلْقِيَتْ إليه مقاليدُ الرياسة فيها غيرَ مدافع، حَسْبُ ابنِ الطراوة وحَسْبُ مَن هو أجَلُّ منه أن يَفهم ظواهر كلام سيبويه، لا جَرَم أنَّ جُرأةَ هذا المُعترِض أوجَبَتْ اطِّرَاحَ الناسِ له، فقلَّما تَرى أحدا يَعبأ بكلامه، أو يَلْتَفِتُ إليه، ولم يَتَحَلَّ الإنسانُ بأحسنَ من الاعتراف بالفضلِ لأهله.

ولقد حضرتُ يوما مجلسَ شيخنا قاضي القضاة ولي الدين ابن خَلدون رحمه الله، وكان شديدَ التغالي في الثناء على ابن هشام مُصنِّف هذا الكتاب ( المغني) ذَاهِبًا في تفضيله وتفضيل كتابه هذا كلَّ مَذهب، فقال للشيخ مُحب الدين وَلَدِ المصنِّف - وكان حاضرا في ذلك المجلس - : لو عاش سيبويه لم يُمكِنْهُ إلا التلمذةُ لوالدك والقراءةُ عليه، فَتَغَيَّرَ وجهُ الشيخ مُحِبّ الدين، وقال له: يا سيدي، إذا فَهِمَ الوالدُ بعضَ كلام سيبويه كفاه ذلك شرفًا، رحم الله الجميع". انتهى.