لماذا لا توجد هذه الإساءات لأهل البيت إلا في تواريخ الشيعة وكتبهم؟
العقل الشيعي الإمامي يتمحور حول قصة الطف ومقتل الحسين، حتى لكأن تلك الأيام القليلة كانت قروناً، وما أكثر أبحاثهم الجزئية في هذا الموضوع.
ومقتل الحسين في عامته مداره على لوط بن يحيى، وحاله معروف من الوهن وله شيوخ عامتهم إما لا يُعرفون أو يُعرفون بشرّ، هم من ذكروا تفاصيل القصة.
ومن أولئك الشخصيات: حميد بن مسلم، الذي كان مع جيش أعداء الحسين، هذا الشخص اختلف فيه الشيعة، فمنهم من قال نقبل من رواياته ما يمدح أهل البيت ويُبيِّن ظلم أعدائهم، ومنهم من نسبه إلى توبة ومع ذلك هو مجهول العدالة عندهم، ومنهم من تشكك في أمره وزعم أن في رواياته إساءات خفيَّة لأهل البيت، وهؤلاء القوم الذين حديثي معهم اليوم.
كتب المعمم الشيعي مقالاً بعنوان: "نماذج من أكاذيب وإساءات حميد بن مسلم للسيدة زينب الكبرى -عليها السلام- في كربلاء".
تكلم في هذا المقال عن هذه الرواية: "وخرجت زينب بنت علي -عليه السلام- وقرطاها يجولان بين اذنيها وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الارض، ياعمر بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ ودموع عمر تسيل على خديه ولحيته، وهو يصرف وجهه عنها، والحسين عليه السلام جالس، وعليه جبة خز، وقد تحاماه الناس".
وهي رواية منتشرة بين الخطباء الشيعة، وقد استنكرها الحمداني جداً، بحجة أنها تُظهر زينب متساهلة بالحجاب وتكشف أجزاءً من جسمها يبصرها الرجال الغرباء والأعداء السفلة الذين وصفهم في مقاله بـ"30 ألف مجرم داعشي أموي".
وكلامه تفصيلاً: "السادس: هل يعقل ان زينب العقيلة -عليها السلام- وهي ملكة الحجاب والعفة والشرف تقدم على الاستهانة بالحجاب امام 30 ألف مجرم داعشي أموي وان تترك وضعها كما في الخيمة ويخرج شعرها وتظهر اجزاء من جسمها امام هؤلاء حتى ينظر الغرباء الاجانب الى اذنيها واقراطها!!! ..لماذ كل هذا التجني على سيدة العفة العلوية زينب -عليها السلام- ؟؟؟!!".
وهناك رواية أخرى قبلها الحمداني نفسه وينكرها جماعة من الأخبارية، وهي أن علي زين العابدين كان مصاباً يوم كربلاء بداء الذرب وهو الإسهال الشديد (وهذه الرواية ذكرها عن حميد بن مسلم ابن النعمان المفيد في «الإرشاد» [2/114]) (ويرون أن رواية مبطون التي في «الكافي» لا تفيد معنى الذرب الإسهال الشديد).
وهنا عدة أسئلة لمن يستقبح هذه الروايات:
أولها: لماذا هذه الروايات لا توجد إلا في كتب الشيعة ولا يوجد لها رائحة ذكر في كتب أهل السنة الذين تسمونهم نواصب ويفترض أنهم هم نقلة أكاذيب الأمويين على أهل البيت في زعمكم؟
وقد رووا أخبار حميد بن مسلم.
ثانيها: لماذا تحمّلون حميد بن مسلم الحمالة ولا يوجد إسناد يتصل به لرواية هذه الروايات؟ فالمقاتل المشهورة عنه لا تذكر شيئاً من هذا، فأما رواية الذرب فانفرد بها المفيد، وبين وفاته ووفاة حميد مئات السنين، ولو رواها المفيد بسند صحيح لكانت رواية شاذة، لكونها زيادة على ما في المقاتل المعروفة؛ ولكن لما كان علم الحديث عند الشيعة بدائي فلا يعرفون مثل هذه المباحث، وأما رواية حجاب زينب فهي أسوأ حالاً.
ثالثها: هذه الإساءات بقيت تردَّد على المنابر مئات السنين حتى جاء بعض المعاصرين ونقدها، فما أغنى المعصوم عن شيعته وأهل بيته، أليس وجوده من باب اللطف ليحمي شيعته من الضلال؟ وكم من مرة زعموا ظهوره لجماعة من محبيه يقظةً أو مناماً، فهلا نبههم على مثل هذه البلايا المنتشرة بينهم؟
وأخيراً: العقل الشيعي رغبوي بامتياز، يرسم صورة في ذهنه عن أهل البيت ثم ما يوافقها يقبله وما لا يوافقها يرفضه، دون أي منهجية واضحة.
العقل الشيعي الإمامي يتمحور حول قصة الطف ومقتل الحسين، حتى لكأن تلك الأيام القليلة كانت قروناً، وما أكثر أبحاثهم الجزئية في هذا الموضوع.
ومقتل الحسين في عامته مداره على لوط بن يحيى، وحاله معروف من الوهن وله شيوخ عامتهم إما لا يُعرفون أو يُعرفون بشرّ، هم من ذكروا تفاصيل القصة.
ومن أولئك الشخصيات: حميد بن مسلم، الذي كان مع جيش أعداء الحسين، هذا الشخص اختلف فيه الشيعة، فمنهم من قال نقبل من رواياته ما يمدح أهل البيت ويُبيِّن ظلم أعدائهم، ومنهم من نسبه إلى توبة ومع ذلك هو مجهول العدالة عندهم، ومنهم من تشكك في أمره وزعم أن في رواياته إساءات خفيَّة لأهل البيت، وهؤلاء القوم الذين حديثي معهم اليوم.
كتب المعمم الشيعي مقالاً بعنوان: "نماذج من أكاذيب وإساءات حميد بن مسلم للسيدة زينب الكبرى -عليها السلام- في كربلاء".
تكلم في هذا المقال عن هذه الرواية: "وخرجت زينب بنت علي -عليه السلام- وقرطاها يجولان بين اذنيها وهي تقول: ليت السماء انطبقت على الارض، ياعمر بن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ ودموع عمر تسيل على خديه ولحيته، وهو يصرف وجهه عنها، والحسين عليه السلام جالس، وعليه جبة خز، وقد تحاماه الناس".
وهي رواية منتشرة بين الخطباء الشيعة، وقد استنكرها الحمداني جداً، بحجة أنها تُظهر زينب متساهلة بالحجاب وتكشف أجزاءً من جسمها يبصرها الرجال الغرباء والأعداء السفلة الذين وصفهم في مقاله بـ"30 ألف مجرم داعشي أموي".
وكلامه تفصيلاً: "السادس: هل يعقل ان زينب العقيلة -عليها السلام- وهي ملكة الحجاب والعفة والشرف تقدم على الاستهانة بالحجاب امام 30 ألف مجرم داعشي أموي وان تترك وضعها كما في الخيمة ويخرج شعرها وتظهر اجزاء من جسمها امام هؤلاء حتى ينظر الغرباء الاجانب الى اذنيها واقراطها!!! ..لماذ كل هذا التجني على سيدة العفة العلوية زينب -عليها السلام- ؟؟؟!!".
وهناك رواية أخرى قبلها الحمداني نفسه وينكرها جماعة من الأخبارية، وهي أن علي زين العابدين كان مصاباً يوم كربلاء بداء الذرب وهو الإسهال الشديد (وهذه الرواية ذكرها عن حميد بن مسلم ابن النعمان المفيد في «الإرشاد» [2/114]) (ويرون أن رواية مبطون التي في «الكافي» لا تفيد معنى الذرب الإسهال الشديد).
وهنا عدة أسئلة لمن يستقبح هذه الروايات:
أولها: لماذا هذه الروايات لا توجد إلا في كتب الشيعة ولا يوجد لها رائحة ذكر في كتب أهل السنة الذين تسمونهم نواصب ويفترض أنهم هم نقلة أكاذيب الأمويين على أهل البيت في زعمكم؟
وقد رووا أخبار حميد بن مسلم.
ثانيها: لماذا تحمّلون حميد بن مسلم الحمالة ولا يوجد إسناد يتصل به لرواية هذه الروايات؟ فالمقاتل المشهورة عنه لا تذكر شيئاً من هذا، فأما رواية الذرب فانفرد بها المفيد، وبين وفاته ووفاة حميد مئات السنين، ولو رواها المفيد بسند صحيح لكانت رواية شاذة، لكونها زيادة على ما في المقاتل المعروفة؛ ولكن لما كان علم الحديث عند الشيعة بدائي فلا يعرفون مثل هذه المباحث، وأما رواية حجاب زينب فهي أسوأ حالاً.
ثالثها: هذه الإساءات بقيت تردَّد على المنابر مئات السنين حتى جاء بعض المعاصرين ونقدها، فما أغنى المعصوم عن شيعته وأهل بيته، أليس وجوده من باب اللطف ليحمي شيعته من الضلال؟ وكم من مرة زعموا ظهوره لجماعة من محبيه يقظةً أو مناماً، فهلا نبههم على مثل هذه البلايا المنتشرة بينهم؟
وأخيراً: العقل الشيعي رغبوي بامتياز، يرسم صورة في ذهنه عن أهل البيت ثم ما يوافقها يقبله وما لا يوافقها يرفضه، دون أي منهجية واضحة.
ما علمه يوسف بن تاشفين وجهله أهل الجشع...
جاء في كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لشهاب الدين الجعفري [2/60]: "وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغه من قاصية شرق الأندلس وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يوما طولا وفي العرض ما يقرب من ذلك
وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان
ولم ير في بلد من بلاده ولا عمل من أعماله على طول أيامه رسم مكس ولا خراج لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم
وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يجيبه أحد قبله يقال إنه وجد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الورق وخمسة آلاف وأربعون ربعا من مطبوع الذهب
وكان رحمه الله زاهدا في زينة الدنيا وزهرتها ورعا متقشفا لباسه الصوف لم يلبس قط غيره ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرا على ذلك لم ينقل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوله من نعمة الدنيا وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة وكان محبا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرما لهم صادرا عن رأيهم يجري عليهم أرزاقهم من بيت المال وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعا كثير الحياء جامعا لخصال الخير رحمه الله تعالى ورضي عنه".
أقول: الكلام هنا عن يوسف بن تاشفين.
تأمل أنه ما كان يأخذ المكوس (الضرائب) ولا يأخذ من الناس إلا ما أذن به الشرع، ومع ذلك اجتمع في بيت ماله ما لم يجتمع في بيت مال ملك قبله.
فكيف هذا؟
الجواب: أن ذلك بسبب زهده، فكثير من الولاة يضيِّقون على الناس بسبب سرفهم وسرف حاشيتهم ودخولهم في التوسع في المباحات بل والمحرمات، ويكون الأمر مثل النار التي ما رميتَ بها أكلته، هكذا هو جشع من أدمن السرف في المحرمات.
وهذا ليس مختصاً بالولاة، بل عموم الناس في سياسة الأموال عليهم أن يراعوا هذا المعنى: أن كثيراً من العنت المالي إنما يأتي من التوسع في المباحات، كما أن الدخول في المحرمات يمحق البركة.
ومن هاهنا يُتسامح في الشبهات، ثم يدخلون في المحرمات الصريحة ولا يجدون الراحة.
وقد قيل قديماً: ما عال من اقتصد (يعني لم يفتقر من اقتصد في مأكله ومشربه وملبسه ولم يسرف).
ثم إن العدل له بركة معنوية وبركة مشاهدة مِن ضعفِ حركات التمرد، لضعف حججها، ومن ثَمّ تقل الحاجة إلى الإنفاق العسكري العظيم.
فإن كثيراً من الظلمة يضطرون إلى الإفراط في الإنفاق الأمني وإرضاء حواشيهم ليدوم لهم الأمر.
جاء في كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لشهاب الدين الجعفري [2/60]: "وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغه من قاصية شرق الأندلس وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يوما طولا وفي العرض ما يقرب من ذلك
وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان
ولم ير في بلد من بلاده ولا عمل من أعماله على طول أيامه رسم مكس ولا خراج لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم
وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يجيبه أحد قبله يقال إنه وجد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الورق وخمسة آلاف وأربعون ربعا من مطبوع الذهب
وكان رحمه الله زاهدا في زينة الدنيا وزهرتها ورعا متقشفا لباسه الصوف لم يلبس قط غيره ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرا على ذلك لم ينقل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوله من نعمة الدنيا وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة وكان محبا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرما لهم صادرا عن رأيهم يجري عليهم أرزاقهم من بيت المال وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعا كثير الحياء جامعا لخصال الخير رحمه الله تعالى ورضي عنه".
أقول: الكلام هنا عن يوسف بن تاشفين.
تأمل أنه ما كان يأخذ المكوس (الضرائب) ولا يأخذ من الناس إلا ما أذن به الشرع، ومع ذلك اجتمع في بيت ماله ما لم يجتمع في بيت مال ملك قبله.
فكيف هذا؟
الجواب: أن ذلك بسبب زهده، فكثير من الولاة يضيِّقون على الناس بسبب سرفهم وسرف حاشيتهم ودخولهم في التوسع في المباحات بل والمحرمات، ويكون الأمر مثل النار التي ما رميتَ بها أكلته، هكذا هو جشع من أدمن السرف في المحرمات.
وهذا ليس مختصاً بالولاة، بل عموم الناس في سياسة الأموال عليهم أن يراعوا هذا المعنى: أن كثيراً من العنت المالي إنما يأتي من التوسع في المباحات، كما أن الدخول في المحرمات يمحق البركة.
ومن هاهنا يُتسامح في الشبهات، ثم يدخلون في المحرمات الصريحة ولا يجدون الراحة.
وقد قيل قديماً: ما عال من اقتصد (يعني لم يفتقر من اقتصد في مأكله ومشربه وملبسه ولم يسرف).
ثم إن العدل له بركة معنوية وبركة مشاهدة مِن ضعفِ حركات التمرد، لضعف حججها، ومن ثَمّ تقل الحاجة إلى الإنفاق العسكري العظيم.
فإن كثيراً من الظلمة يضطرون إلى الإفراط في الإنفاق الأمني وإرضاء حواشيهم ليدوم لهم الأمر.
فوائد وعبر من قصة بدر المطيري...
انتشر هذه الأيام بودكاست يتكلم فيه رجل اسمه بدر المطيري: شاب تعرّض للسجن ظلماً قبيل زفافه بأيام بتهمة تهريب المخدرات والهرب من السجن، وذلك لأن شخصاً انتحل شخصيته وارتكب هذا الجرم، حُكم ظلماً بالسجن 7 سنوات، فقد خطيبته وسمعته وصحته، واستمرت معاناته 18 عاماً حتى بعد أن أثبت براءته.
انتشرت مقاطعه وهو يبكي بحرقة وهو يتذكر المواقف المؤلمة التي مرت به، أرسلتُ مادته لعدد من الإخوة، فعامتهم كاشفوني بأن الحلقة أبكتهم بحرقة.
لا أريد أن أخلي المقام من عدة فوائد وعبر:
الأولى: أن الأزمات العظيمة تُحلُّ بالصبر والثبات، ولا صبر إلا بأمل، والأمل يتضمن شعوراً بالعدالة الإلهية ورجاءً ورغبةً، لذا فالإيمان خير معين على الوقوف أمام الصدمات العظيمة، لأنه يوفر العزاء بأن في ذلك كفارة وأن في الآخرة ثواباً وجزاءً، فلا يقنط المرء ولا ييأس.
قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين • الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون • أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
وفي الصحيحين من حديث عائشة: «ما من مرض أو وجع يصيب المؤمن إلا كان كفارة لذنوبه، حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها».
الثانية: "لا بد للناس من تنفيسات"، فتجد أن رب العالمين سخر لك في المصيبة العظيمة من يقف معك ويواسيك، كما ذكر بدر من قصة الرجل العماني الذي أعانه وربّت على كتفه في أشد ما يجد من المصيبة، والعطايا لا تُحصر بالمال فقد تأتي العطية على هيئة وفاء أو على هيئة مواساة في بلية عظيمة.
قال تعالى: {فإن مع العسر يسرا • إن مع العسر يسرا}.
الثالثة: الإيمان أمل (مرة أخرى).
في حديثه عن عنبر المحكومين بالإعدام وما صدر عنهم من مروءات، وكيف يعرفون أن أحدهم ذاهب إلى الإعدام إذا تحلل من أصحابه (يطلبهم براءة الذمة من حقوقهم عليه)، فهنا تظهر قيمة الإيمان، المحكوم بالإعدام هنا ينسى كل هذا الزخرف الذي لطالما أشغله عن آخرته ويتذكر فقط الآخرة، وأن هناك حقوقاً عليه للخلق، يريد أن يتخفف منها ويقابل الله عز وجل راجياً عفوه، كل واحد منهم يحلل صاحبه، لكي يحلله الآخرون، ولعلهم بعد ذلك يكونون إخواناً على سرر متقابلين، لقد فهموا من معاني الأخوّة الإيمانية ما يجهد المرء أن يشرحه للمتدينين ليرى أثره عليهم.
الرابعة: المنظومات الأبوية تأخذ وتعطي.
في عالم الليبرالية والفردانية مفهوم الأسرة وصلة الرحم والقبيلة كلها مفاهيم ممقوتة، ويُنظر إليها على أنها قيود تقيِّد المرء بأمور هو في غنى عنها؛ ولكن حين يصاب المرء بابتلاء ويرى هؤلاء واقفين معه = يفهم أن الغنم بالغرم وأن الشريعة ما أبقت على هذه الاعتبارات عبثاً، وحثّت على توطيدها، مع البعد عن النعرات الجاهلية.
الخامسة: "ويل لديَّان أهل الأرض من ديَّان أهل السماء".
تلك كلمة مأثورة عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يخوف بها نفسه، المنصب والتأمر على الناس قد يكون باب بطولة، تُنزل العقوبة بمن يستحق وتشفي صدور المؤمنين وتُنقذ أقواماً من الظلم والحيف، وقد يكون باباً من أبواب جهنم، ومن أكثر ما يخيف خبر: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار».
السادسة: العدل لا يستتم إلا يوم القيامة.
الرجل الذي انتحل شخصية صاحبنا لم يُقبض عليه، وقيل إنه توفي، وكثير ممن ظلم سلم، وذلك يدلك بداهةً على ضرورية الآخرة ليستتم العدل، وقد ذُكر لنا من العدل في ذلك اليوم: أن الشاة الجماء تقتص من الشاة القرناء، فهذا في البهائم العجماء فكيف بالبشر المكلفين؟
قال تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار • مهطعين مقنعي رءوسهم}.
افتتح البخاري "كتاب المظالم والغصب" من صحيحه بهذه الآية.
ولولا الاحتساب وتذكُّر يوم الحساب لمات بعض الناس كمداً من شدة ما وقع عليهم من الظلم.
السابعة: "اتقوا الله فيمن لا ناصر له إلا الله" قالها بلال بن سعد التابعي، وفي الحديث: «واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب».
ذكر المطيري أنه ما تحَسبن على أحد ممن ظلمه (قال حسبنا الله ونعم الوكيل) إلا ورأى له عاقبة سوء، حتى الرجل الذي انتحل شخصيته، اتصلوا به وأخبروه أنه عاش في ضنك وتوفي، ولم يكشفوا عن شخصيته.
وثمة معانٍ أخرى أكتفي بهذه اختصاراً، وحتى يتعود المرء أن يعتبر مما حوله ويثبت المعاني العقدية العظمى مما يشاهد من أحوال الناس.
انتشر هذه الأيام بودكاست يتكلم فيه رجل اسمه بدر المطيري: شاب تعرّض للسجن ظلماً قبيل زفافه بأيام بتهمة تهريب المخدرات والهرب من السجن، وذلك لأن شخصاً انتحل شخصيته وارتكب هذا الجرم، حُكم ظلماً بالسجن 7 سنوات، فقد خطيبته وسمعته وصحته، واستمرت معاناته 18 عاماً حتى بعد أن أثبت براءته.
انتشرت مقاطعه وهو يبكي بحرقة وهو يتذكر المواقف المؤلمة التي مرت به، أرسلتُ مادته لعدد من الإخوة، فعامتهم كاشفوني بأن الحلقة أبكتهم بحرقة.
لا أريد أن أخلي المقام من عدة فوائد وعبر:
الأولى: أن الأزمات العظيمة تُحلُّ بالصبر والثبات، ولا صبر إلا بأمل، والأمل يتضمن شعوراً بالعدالة الإلهية ورجاءً ورغبةً، لذا فالإيمان خير معين على الوقوف أمام الصدمات العظيمة، لأنه يوفر العزاء بأن في ذلك كفارة وأن في الآخرة ثواباً وجزاءً، فلا يقنط المرء ولا ييأس.
قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين • الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون • أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
وفي الصحيحين من حديث عائشة: «ما من مرض أو وجع يصيب المؤمن إلا كان كفارة لذنوبه، حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها».
الثانية: "لا بد للناس من تنفيسات"، فتجد أن رب العالمين سخر لك في المصيبة العظيمة من يقف معك ويواسيك، كما ذكر بدر من قصة الرجل العماني الذي أعانه وربّت على كتفه في أشد ما يجد من المصيبة، والعطايا لا تُحصر بالمال فقد تأتي العطية على هيئة وفاء أو على هيئة مواساة في بلية عظيمة.
قال تعالى: {فإن مع العسر يسرا • إن مع العسر يسرا}.
الثالثة: الإيمان أمل (مرة أخرى).
في حديثه عن عنبر المحكومين بالإعدام وما صدر عنهم من مروءات، وكيف يعرفون أن أحدهم ذاهب إلى الإعدام إذا تحلل من أصحابه (يطلبهم براءة الذمة من حقوقهم عليه)، فهنا تظهر قيمة الإيمان، المحكوم بالإعدام هنا ينسى كل هذا الزخرف الذي لطالما أشغله عن آخرته ويتذكر فقط الآخرة، وأن هناك حقوقاً عليه للخلق، يريد أن يتخفف منها ويقابل الله عز وجل راجياً عفوه، كل واحد منهم يحلل صاحبه، لكي يحلله الآخرون، ولعلهم بعد ذلك يكونون إخواناً على سرر متقابلين، لقد فهموا من معاني الأخوّة الإيمانية ما يجهد المرء أن يشرحه للمتدينين ليرى أثره عليهم.
الرابعة: المنظومات الأبوية تأخذ وتعطي.
في عالم الليبرالية والفردانية مفهوم الأسرة وصلة الرحم والقبيلة كلها مفاهيم ممقوتة، ويُنظر إليها على أنها قيود تقيِّد المرء بأمور هو في غنى عنها؛ ولكن حين يصاب المرء بابتلاء ويرى هؤلاء واقفين معه = يفهم أن الغنم بالغرم وأن الشريعة ما أبقت على هذه الاعتبارات عبثاً، وحثّت على توطيدها، مع البعد عن النعرات الجاهلية.
الخامسة: "ويل لديَّان أهل الأرض من ديَّان أهل السماء".
تلك كلمة مأثورة عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يخوف بها نفسه، المنصب والتأمر على الناس قد يكون باب بطولة، تُنزل العقوبة بمن يستحق وتشفي صدور المؤمنين وتُنقذ أقواماً من الظلم والحيف، وقد يكون باباً من أبواب جهنم، ومن أكثر ما يخيف خبر: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار».
السادسة: العدل لا يستتم إلا يوم القيامة.
الرجل الذي انتحل شخصية صاحبنا لم يُقبض عليه، وقيل إنه توفي، وكثير ممن ظلم سلم، وذلك يدلك بداهةً على ضرورية الآخرة ليستتم العدل، وقد ذُكر لنا من العدل في ذلك اليوم: أن الشاة الجماء تقتص من الشاة القرناء، فهذا في البهائم العجماء فكيف بالبشر المكلفين؟
قال تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار • مهطعين مقنعي رءوسهم}.
افتتح البخاري "كتاب المظالم والغصب" من صحيحه بهذه الآية.
ولولا الاحتساب وتذكُّر يوم الحساب لمات بعض الناس كمداً من شدة ما وقع عليهم من الظلم.
السابعة: "اتقوا الله فيمن لا ناصر له إلا الله" قالها بلال بن سعد التابعي، وفي الحديث: «واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب».
ذكر المطيري أنه ما تحَسبن على أحد ممن ظلمه (قال حسبنا الله ونعم الوكيل) إلا ورأى له عاقبة سوء، حتى الرجل الذي انتحل شخصيته، اتصلوا به وأخبروه أنه عاش في ضنك وتوفي، ولم يكشفوا عن شخصيته.
وثمة معانٍ أخرى أكتفي بهذه اختصاراً، وحتى يتعود المرء أن يعتبر مما حوله ويثبت المعاني العقدية العظمى مما يشاهد من أحوال الناس.
عالم الغيب يريد الغيب (مبحث الإخلاص وعلاقته بإثبات النبوة والرد على المرجئة)
حديث: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
كثيراً ما يُطرق وتُعدَّد فوائده، وعلى كثرة ما يتكلم عنه الناس تشعر أن فيه بقية إفادة مغفول عنها.
قال تعالى: {عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير} [الأنعام].
علم الغيب مع مبحث الإخلاص أعدُّه من دلائل النبوة، وذلك أن النبوات الكاذبة والفلسفات الإصلاحية يكون تركيزها على النتيجة الظاهرة فحسب، بينما الدين المنزل من الله عز وجل يكون حق الله فيه فوق كل شيء، فيُطلب الإخلاص من العبد وليس العمل الصالح فقط.
فلو تصدَّق رجل بألف دينار وكان مرائياً ما أُجر على ذلك، بل هو آثم ولو انتفع الفقير بصدقته.
ولو تصدَّق رجل بنصف دينار وهو مخلص أثيب على ذلك.
هذا فُرقانٌ بين ما جاء من الله، فالحق الأعظم فيه لله، وما جاء عن غير الله، فالحق الأعظم فيه لغير الله.
وكثير من الشبهات جاءت من غفلة عن هذا الأصل، وليس معنى هذا أنه لا حقوق للناس في الشرع، بل لهم حقوق ولا تحصل لهم حقوق بمثل الشرع، غير أن المراد: أن حق الله تبارك وتعالى أعظم، بل حق البشر متضمن في حقه سبحانه، ولا تستقل للبشر حقوق عن حقه، وله حقوق تستقل عن حقوق البشر، كأمر الصلاة.
والإخلاص معنى قلبي ودلت الشريعة على تفاوته في الناس، وفي هذا رد على المرجئة الذين أنكروا تفاضل التصديق القلبي، فإذا ثبت تفاوت الإخلاص ثبت تفاوت غيره من الأعمال القلبية.
فإن قيل: ما الدليل على تفاوت الإخلاص في القلب؟
فيقال: الدليل حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفيه «ورجل تصدق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
فهذا فضل صدقته على صدقات الآخرين -وإن كانت مقبولة- أنه كان أشد إخفاءً لها من غيره، وهذه زيادة إخلاص، وفي الحديث من الرد على المرجئة أيضاً: ثبوت تلازم الظاهر مع الباطن، فهذا شدة إخلاصه ظهرت على جوارحه.
ومن عقائد أهل السنة أنهم لا يشهدون على مسلم -مهما عظم صلاحه- بجنة ولا نار إلا من شُهد له بالنصوص، ومن مآخذ ذلك: أن الإخلاص لا يعلم به إلا الله، وذلك باب خفي يرفع الله به أقوام ويخفض به أقوام يوم القيامة، حتى الواعظ الذي يعظ الناس بالإخلاص لا يرى أثر دعوته كما لو دعاهم إلى أمور ظاهرة غير ذلك، وإنما يتلمَّس أثر ذلك تلمُّساً ولا يقف على يقين.
ومما استُدل به على المرجئة حديث: «الطهور شطر الإيمان» لأنه يُثبت التفاوت في الإيمان، وهذا له علاقة بالإخلاص، فالطهارة انتقاضها أمر خفي، فمن كان مرائياً قد ينتقض وضوءه ولا يجدِّده اتكالاً على أن الناس لا يعلمون، فاتصال الإخلاص بباب الإيمان عجيب.
حديث: «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
كثيراً ما يُطرق وتُعدَّد فوائده، وعلى كثرة ما يتكلم عنه الناس تشعر أن فيه بقية إفادة مغفول عنها.
قال تعالى: {عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير} [الأنعام].
علم الغيب مع مبحث الإخلاص أعدُّه من دلائل النبوة، وذلك أن النبوات الكاذبة والفلسفات الإصلاحية يكون تركيزها على النتيجة الظاهرة فحسب، بينما الدين المنزل من الله عز وجل يكون حق الله فيه فوق كل شيء، فيُطلب الإخلاص من العبد وليس العمل الصالح فقط.
فلو تصدَّق رجل بألف دينار وكان مرائياً ما أُجر على ذلك، بل هو آثم ولو انتفع الفقير بصدقته.
ولو تصدَّق رجل بنصف دينار وهو مخلص أثيب على ذلك.
هذا فُرقانٌ بين ما جاء من الله، فالحق الأعظم فيه لله، وما جاء عن غير الله، فالحق الأعظم فيه لغير الله.
وكثير من الشبهات جاءت من غفلة عن هذا الأصل، وليس معنى هذا أنه لا حقوق للناس في الشرع، بل لهم حقوق ولا تحصل لهم حقوق بمثل الشرع، غير أن المراد: أن حق الله تبارك وتعالى أعظم، بل حق البشر متضمن في حقه سبحانه، ولا تستقل للبشر حقوق عن حقه، وله حقوق تستقل عن حقوق البشر، كأمر الصلاة.
والإخلاص معنى قلبي ودلت الشريعة على تفاوته في الناس، وفي هذا رد على المرجئة الذين أنكروا تفاضل التصديق القلبي، فإذا ثبت تفاوت الإخلاص ثبت تفاوت غيره من الأعمال القلبية.
فإن قيل: ما الدليل على تفاوت الإخلاص في القلب؟
فيقال: الدليل حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفيه «ورجل تصدق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
فهذا فضل صدقته على صدقات الآخرين -وإن كانت مقبولة- أنه كان أشد إخفاءً لها من غيره، وهذه زيادة إخلاص، وفي الحديث من الرد على المرجئة أيضاً: ثبوت تلازم الظاهر مع الباطن، فهذا شدة إخلاصه ظهرت على جوارحه.
ومن عقائد أهل السنة أنهم لا يشهدون على مسلم -مهما عظم صلاحه- بجنة ولا نار إلا من شُهد له بالنصوص، ومن مآخذ ذلك: أن الإخلاص لا يعلم به إلا الله، وذلك باب خفي يرفع الله به أقوام ويخفض به أقوام يوم القيامة، حتى الواعظ الذي يعظ الناس بالإخلاص لا يرى أثر دعوته كما لو دعاهم إلى أمور ظاهرة غير ذلك، وإنما يتلمَّس أثر ذلك تلمُّساً ولا يقف على يقين.
ومما استُدل به على المرجئة حديث: «الطهور شطر الإيمان» لأنه يُثبت التفاوت في الإيمان، وهذا له علاقة بالإخلاص، فالطهارة انتقاضها أمر خفي، فمن كان مرائياً قد ينتقض وضوءه ولا يجدِّده اتكالاً على أن الناس لا يعلمون، فاتصال الإخلاص بباب الإيمان عجيب.
القوة العلمية والدعوة تحافظ على الإنجازات العسكرية.
جاء في كتاب «تاريخ الدولة العلية» لمحمد فريد بك صـ411: "ثورة اليونان وطلبها الاستقلال: قد علم المطالع من سياق هذا الكتاب أن الدولة العلية كانت كلما فتحت إقليما اكتفت من أهله بالخراج غير متعرضة لهم في دينهم أو لغتهم أو عوائدهم وأظهرنا مضار هذه الطريقة التي تحفظ بها كل أمة لغتها ورابطها وعصبيتها حتى إذا ساعدتها الظروف نشطت من عقالها وقامت من رقدتها طالبة نصيبها من شمس الاستقلال المنعشة".
أقول: هنا محمد فريد بك -وهو أحد مؤرخي الدولة العثمانية- يقول: إن أحد أهم أسباب خسارة الدولة العثمانية لكثير من الأراضي التي سيطرت عليها (هو ذكر اليونان هنا مثلاً ويقاس عليها غيرها) أن الدولة العثمانية كانت تتركهم على دينهم وعوائدهم ولغتهم، وتكتفي منهم بالجزية فحسب.
فيبقون على ما هم عليه من الدين والعوائد ثم يطالبون بالاستقلال والانشقاق في أقرب فرصة، ويضاف إلى ما قال: أن ولاءهم يكون مدخولاً.
وحديثه عن الدولة بصورتها المتأخرة.
فإن قيل: فهل يقترح إجبار الناس على تغيير دينهم أو لغتهم؟
الجواب: لا؛ ولكن يقترح دعوتهم للدين الصحيح كما فعلوا في الصدر الأول، وهذا الأمر تكون له نتائج إيجابية عظيمة؛ ولكن شرط ذلك أن يوجد العلم الصحيح، وكلما كان علم المرء أكبر وأقرب إلى الوحي كان أثره في الناس أحسن.
ولذلك ما يتوهمه الناس أن التمكين هو نهاية المطاف، وأن السلطة السياسية القوية قد تستغني عن جهود الدعوة، ذلك وهْم.
لهذا ما كان يفعله عبد الله بن مسعود ونظراؤه بعد الفتح لا يقل أهمية عما كان يفعله خالد بن الوليد ونظراؤه قبل الفتح، بل المقصد الأساسي من الفتوحات الأخذ بأيدي الناس إلى توحيد الله تبارك وتعالى.
وإلا فالانتصارات السياسية إن لم تكن مبنية على هذا الأساس فإنها مبدأ مصائب كبيرة، لأن الناس تُجبى إليهم أموال كثيرة ويُمكَّنون مع رقة الدين فينشأون في الترف، ويكون ذلك مبدأ الانحدار، مع تشوف الخصوم الذين هُزموا للانتقام، مع المكائد الداخلية.
واعتبر ذلك بحديث جبريل لما سأله النبي ﷺ عن أشراط الساعة قال: «أن تلد الأمةُ ربّتَها».
معظم الشراح فسروا الحديث بانتشار الفتوحات والسبي حتى تلد الأمة من سيدها سيدةً عليها أو سيداً.
والفتوحات من علامات الخير، فكيف جُعل ذلك في أشراط الساعة وآخر الزمان محل ذم؟
الذي يبدو والله أعلم أن المقصود بذلك الفتوحات التي يكون المقصد الأساسي فيها النصر السياسي دون نشر الدين، فيترتب عليها الترف مع رقة الدين، كما حصل في فترات من حقبة الدولة العثمانية، ويؤيد ذلك ربطها بتطاول الحفاة العراة بالبنيان، وذلك حال مذموم يدل على الركون إلى الدنيا، مع أن أصله قد يكون جاء من أسباب مشروعة، كتجارة أو غنائم.
وأشد ما يُخشى على أهل زماننا ممن جعلوا الوسيلة غاية والغاية وسيلة الدخول في هذا الأمر، خصوصاً من يجعل الدين أسمى غاياته تحقيق فردوس أرضي أو بعض مظاهره.
جاء في كتاب «تاريخ الدولة العلية» لمحمد فريد بك صـ411: "ثورة اليونان وطلبها الاستقلال: قد علم المطالع من سياق هذا الكتاب أن الدولة العلية كانت كلما فتحت إقليما اكتفت من أهله بالخراج غير متعرضة لهم في دينهم أو لغتهم أو عوائدهم وأظهرنا مضار هذه الطريقة التي تحفظ بها كل أمة لغتها ورابطها وعصبيتها حتى إذا ساعدتها الظروف نشطت من عقالها وقامت من رقدتها طالبة نصيبها من شمس الاستقلال المنعشة".
أقول: هنا محمد فريد بك -وهو أحد مؤرخي الدولة العثمانية- يقول: إن أحد أهم أسباب خسارة الدولة العثمانية لكثير من الأراضي التي سيطرت عليها (هو ذكر اليونان هنا مثلاً ويقاس عليها غيرها) أن الدولة العثمانية كانت تتركهم على دينهم وعوائدهم ولغتهم، وتكتفي منهم بالجزية فحسب.
فيبقون على ما هم عليه من الدين والعوائد ثم يطالبون بالاستقلال والانشقاق في أقرب فرصة، ويضاف إلى ما قال: أن ولاءهم يكون مدخولاً.
وحديثه عن الدولة بصورتها المتأخرة.
فإن قيل: فهل يقترح إجبار الناس على تغيير دينهم أو لغتهم؟
الجواب: لا؛ ولكن يقترح دعوتهم للدين الصحيح كما فعلوا في الصدر الأول، وهذا الأمر تكون له نتائج إيجابية عظيمة؛ ولكن شرط ذلك أن يوجد العلم الصحيح، وكلما كان علم المرء أكبر وأقرب إلى الوحي كان أثره في الناس أحسن.
ولذلك ما يتوهمه الناس أن التمكين هو نهاية المطاف، وأن السلطة السياسية القوية قد تستغني عن جهود الدعوة، ذلك وهْم.
لهذا ما كان يفعله عبد الله بن مسعود ونظراؤه بعد الفتح لا يقل أهمية عما كان يفعله خالد بن الوليد ونظراؤه قبل الفتح، بل المقصد الأساسي من الفتوحات الأخذ بأيدي الناس إلى توحيد الله تبارك وتعالى.
وإلا فالانتصارات السياسية إن لم تكن مبنية على هذا الأساس فإنها مبدأ مصائب كبيرة، لأن الناس تُجبى إليهم أموال كثيرة ويُمكَّنون مع رقة الدين فينشأون في الترف، ويكون ذلك مبدأ الانحدار، مع تشوف الخصوم الذين هُزموا للانتقام، مع المكائد الداخلية.
واعتبر ذلك بحديث جبريل لما سأله النبي ﷺ عن أشراط الساعة قال: «أن تلد الأمةُ ربّتَها».
معظم الشراح فسروا الحديث بانتشار الفتوحات والسبي حتى تلد الأمة من سيدها سيدةً عليها أو سيداً.
والفتوحات من علامات الخير، فكيف جُعل ذلك في أشراط الساعة وآخر الزمان محل ذم؟
الذي يبدو والله أعلم أن المقصود بذلك الفتوحات التي يكون المقصد الأساسي فيها النصر السياسي دون نشر الدين، فيترتب عليها الترف مع رقة الدين، كما حصل في فترات من حقبة الدولة العثمانية، ويؤيد ذلك ربطها بتطاول الحفاة العراة بالبنيان، وذلك حال مذموم يدل على الركون إلى الدنيا، مع أن أصله قد يكون جاء من أسباب مشروعة، كتجارة أو غنائم.
وأشد ما يُخشى على أهل زماننا ممن جعلوا الوسيلة غاية والغاية وسيلة الدخول في هذا الأمر، خصوصاً من يجعل الدين أسمى غاياته تحقيق فردوس أرضي أو بعض مظاهره.
«ما عال من اقتصد» من السُّنة…
من الأبواب التي ينبغي أن تطرق في دراسة الأحاديث النبوية باب: (حفظ المال) وهذا باب مهم في زمن الرأسمالية والهوس الاستهلاكي، وقد نهى النبي ﷺ عن إضاعة المال، غير أن حفظ المال مراتب، بعضها زائد على عدم التضييع.
خذ مثلاً الحديث الذي رواه البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- : «أن قدح النبي ﷺ انكسر، فاتخذ مكان الشَّعبِ سلسلةً من فضة».
أقول: هذا من حفظ المال، فاليوم لو كُسِر إناء أحدنا فإنه غالباً يُبدله ولا يُعنى بإصلاحه، إلا إذا كان غالي الثمن.
ففي هذا الحديث: سُنة الانتفاع بـ(المال) قدر المستطاع اقتصاداً (والمال كل ما يُملك، لا يختص ذلك بالنقود).
وفي هذا المعنى حديث: «إذا دُبِغ الإهاب فقد طهُر» والإهاب جلد الميتة، فانتُفع بجلدها بعد وفاتها من باب تَتْميم النفع بالمال.
قال قوام السنة الأصبهاني في «الترغيب والترهيب»: "١٢٢٦- أخبرنا محمد بن أحمد بن هارون، أنبأ أبو بكر بن مردويه، ثنا إبراهيم بن أبان بن أستة، ثنا أحمد بن يحيى بن خالد الرقي، ثنا هاشم بن القاسم الحراني، ثنا عبد الله بن وهب عن موسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يقول:
«لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي ولا أملُّ دابتي ما حملت رجلي، إن الملالة من سيء الأخلاق»".
أقول: تأمل قوله «لا أملُّ ثوبي ما وسعني» ومغايرته لحال أهل الزمان من سرعة الملل وحب التغيير، بفعل الانفتاح الاستهلاكي وكثرة الإعلانات التجارية المحفزة.
وفي حفظ المال فائدة: وهي أن يفيض عندك ما يمكن أن تتصدق به، فيكون باباً لتجارتك مع الله ونجاتك في الآخرة.
كما في الحديث المشهور بين الخطباء والوعاظ: «نِعم المال الصالح للمرء الصالح» رواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد».
وتأمَّل حال أبي بكر الصديق، فقد ورد فيه حديث: «ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مالُ أبي بكر».
ونفقته في السيرة مشهورة، ونزل فيه قوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ۖ وليعفوا وليصفحوا ۗ ألا تحبون أن يغفر الله لكم ۗ والله غفور رحيم} [النور].
لمَّا كان ينفق على مسطح وعزم على قطع النفقة لما كان منه في حادثة الإفك، فنزلت الآية تحثه على العفو.
فالشاهد أنه مقتصد غير مسرف ومنفق لأمواله بأوجه الخير؛ حتى نال عند الله منزلة عظيمة.
وكلمة «ما عال من اقتصد» رويت في الحديث ولا تصح، ورويت عن غير النبي ﷺ وجرت مجرى الأمثال، ومعناها: لا يفتقر من يحفظ ماله من السرف والتبذير.
وأما الصدقة: فتلك زيادة وبركة «ما نقص مالُ عبدٍ من صدقةٍ»، والزكاة سمِّيت زكاةً من التطهير (التزكية) ومن معنى النماء أيضاً.
من الأبواب التي ينبغي أن تطرق في دراسة الأحاديث النبوية باب: (حفظ المال) وهذا باب مهم في زمن الرأسمالية والهوس الاستهلاكي، وقد نهى النبي ﷺ عن إضاعة المال، غير أن حفظ المال مراتب، بعضها زائد على عدم التضييع.
خذ مثلاً الحديث الذي رواه البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- : «أن قدح النبي ﷺ انكسر، فاتخذ مكان الشَّعبِ سلسلةً من فضة».
أقول: هذا من حفظ المال، فاليوم لو كُسِر إناء أحدنا فإنه غالباً يُبدله ولا يُعنى بإصلاحه، إلا إذا كان غالي الثمن.
ففي هذا الحديث: سُنة الانتفاع بـ(المال) قدر المستطاع اقتصاداً (والمال كل ما يُملك، لا يختص ذلك بالنقود).
وفي هذا المعنى حديث: «إذا دُبِغ الإهاب فقد طهُر» والإهاب جلد الميتة، فانتُفع بجلدها بعد وفاتها من باب تَتْميم النفع بالمال.
قال قوام السنة الأصبهاني في «الترغيب والترهيب»: "١٢٢٦- أخبرنا محمد بن أحمد بن هارون، أنبأ أبو بكر بن مردويه، ثنا إبراهيم بن أبان بن أستة، ثنا أحمد بن يحيى بن خالد الرقي، ثنا هاشم بن القاسم الحراني، ثنا عبد الله بن وهب عن موسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يقول:
«لا أملُّ ثوبي ما وسعني، ولا أملُّ زوجتي ما أحسنت عشرتي ولا أملُّ دابتي ما حملت رجلي، إن الملالة من سيء الأخلاق»".
أقول: تأمل قوله «لا أملُّ ثوبي ما وسعني» ومغايرته لحال أهل الزمان من سرعة الملل وحب التغيير، بفعل الانفتاح الاستهلاكي وكثرة الإعلانات التجارية المحفزة.
وفي حفظ المال فائدة: وهي أن يفيض عندك ما يمكن أن تتصدق به، فيكون باباً لتجارتك مع الله ونجاتك في الآخرة.
كما في الحديث المشهور بين الخطباء والوعاظ: «نِعم المال الصالح للمرء الصالح» رواه أحمد والبخاري في «الأدب المفرد».
وتأمَّل حال أبي بكر الصديق، فقد ورد فيه حديث: «ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مالُ أبي بكر».
ونفقته في السيرة مشهورة، ونزل فيه قوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ۖ وليعفوا وليصفحوا ۗ ألا تحبون أن يغفر الله لكم ۗ والله غفور رحيم} [النور].
لمَّا كان ينفق على مسطح وعزم على قطع النفقة لما كان منه في حادثة الإفك، فنزلت الآية تحثه على العفو.
فالشاهد أنه مقتصد غير مسرف ومنفق لأمواله بأوجه الخير؛ حتى نال عند الله منزلة عظيمة.
وكلمة «ما عال من اقتصد» رويت في الحديث ولا تصح، ورويت عن غير النبي ﷺ وجرت مجرى الأمثال، ومعناها: لا يفتقر من يحفظ ماله من السرف والتبذير.
وأما الصدقة: فتلك زيادة وبركة «ما نقص مالُ عبدٍ من صدقةٍ»، والزكاة سمِّيت زكاةً من التطهير (التزكية) ومن معنى النماء أيضاً.
الذكاء وحده لا يكفي (سر الراسخين وعلاقة ذلك بحديث الافتراق)
قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (٧) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (٨) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (٩)} [آل عمران].
أقول: بعدما ذكر ربُّ العالمين الراسخين في العلم ذكر دعاءً: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}.
فكأنها إشارة إلى أن الرسوخ لا يُنال بالذكاء وحده، بل ليس الإفراط في الذكاء من شرطه، وإنما يُنال بالدعاء والتوفيق.
وفي ذلك حديث رسول الله ﷺ: «يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» هذا تطبيقٌ للآية.
قال ابن أبي شيبة في «المصنف»: "37145- أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال: «ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا الذي يدعو بدعاء كدعاء الغريق»".
وهذا إسناد صحيح إلى حذيفة، وكأنه يشير إلى آخر الزمان وغربة الدين وكثرة الملبِّسين (الدعاة على أبواب جهنم)، فقال: إنه لا ينجو إلا من يدعو كدعاء الغريق، يعني: يُكثر من الدعاء ويُلح كما يفعل الغريق إذا سأل الناس النجدة، فتأمَّل أنه ما ربط الأمر بالذكاء وإنما ربطه بالدعاء.
والكلام على قوم جاءتهم آيات وبيِّنات فيها محكم ومتشابه، فاتّبع قوم المتشابه وتركوا المحكم، وذلك يأتي إما من سوء في الفهم، وهذا علاجه بالدعاء والتواضع والرجوع إلى أهل العلم، وإما من سوء في القصد، وهذا علاجه بكثرة تذكّر الآخرة، لذا جاء الدعاء: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}، فكم من إنسان يغريه ذكاؤه أن يستخدمه للتحريف والتلبيس، كما فعل علماء أهل الكتاب، وأرادوا بذلك تحقيق مصالح دنيوية من رياسة ومال ونحو ذلك.
فإن قيل: ذكر الله الراسخين وذكر أهل الزيغ، فأين عوام أهل السنة وطلبة العلم ومن له سبب في العلم وليس راسخاً وأين الأتباع من أهل الضلال؟
فيقال: هؤلاء الرؤوس وكل له حكم متبوعه، لهذا كان بعض أهل العلم يقول: "الصغير إذا أخذ بقول رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين فهو كبير والشيخ الكبير إن أخذ بقول أبي حنيفة وترك السنن فهو صغير" كما رواه اللالكائي عن إبراهيم الحربي بإسناد قوي.
وهذا معنى قول بعض السلف: (الأصاغر أهل البدع) وجعل التماس العلم عندهم من أشراط الساعة كما روي في الخبر، وهذا مشاهد، فاليوم كثير من الناس إذا ذكر (علماء الإسلام) فإنما يريد أهل البدع الذين هو نفسه لا يعتقد اعتقادهم.
فهذا التماس العلم عند الأصاغر الذي روي أنه من أشراط الساعة.
فمن تبع الراسخين كان في حكمهم، ومن تبع الهالكين كان في حكمهم، هذا باعتبار الأصل وقد توجد استثناءات.
وهذا يشهد بالجملة لحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» فالراشدون هم رأس الراسخين.
وكذلك حديث الافتراق المروي، ففيه ذكر الفرقة الناجية (الراسخون ومن تبعهم) والفرق الهالكة (أهل الزيغ واتباع المتشابه ومن تبعهم).
قال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك} [هود].
هذه الآية جعلها ابن كثير شاهدة لحديث الافتراق، فالمستثنى {من رحم ربك} هم (الفرقة الناجية) وهذا المعنى مروي عن السلف.
وعليه: يكون قوله تعالى: {وهب لنا من لدنك رحمة} يعني اجعلنا من الناجين المتَّبعين لطريقة الراسخين.
قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (٧) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (٨) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (٩)} [آل عمران].
أقول: بعدما ذكر ربُّ العالمين الراسخين في العلم ذكر دعاءً: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}.
فكأنها إشارة إلى أن الرسوخ لا يُنال بالذكاء وحده، بل ليس الإفراط في الذكاء من شرطه، وإنما يُنال بالدعاء والتوفيق.
وفي ذلك حديث رسول الله ﷺ: «يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» هذا تطبيقٌ للآية.
قال ابن أبي شيبة في «المصنف»: "37145- أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال: «ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا الذي يدعو بدعاء كدعاء الغريق»".
وهذا إسناد صحيح إلى حذيفة، وكأنه يشير إلى آخر الزمان وغربة الدين وكثرة الملبِّسين (الدعاة على أبواب جهنم)، فقال: إنه لا ينجو إلا من يدعو كدعاء الغريق، يعني: يُكثر من الدعاء ويُلح كما يفعل الغريق إذا سأل الناس النجدة، فتأمَّل أنه ما ربط الأمر بالذكاء وإنما ربطه بالدعاء.
والكلام على قوم جاءتهم آيات وبيِّنات فيها محكم ومتشابه، فاتّبع قوم المتشابه وتركوا المحكم، وذلك يأتي إما من سوء في الفهم، وهذا علاجه بالدعاء والتواضع والرجوع إلى أهل العلم، وإما من سوء في القصد، وهذا علاجه بكثرة تذكّر الآخرة، لذا جاء الدعاء: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}، فكم من إنسان يغريه ذكاؤه أن يستخدمه للتحريف والتلبيس، كما فعل علماء أهل الكتاب، وأرادوا بذلك تحقيق مصالح دنيوية من رياسة ومال ونحو ذلك.
فإن قيل: ذكر الله الراسخين وذكر أهل الزيغ، فأين عوام أهل السنة وطلبة العلم ومن له سبب في العلم وليس راسخاً وأين الأتباع من أهل الضلال؟
فيقال: هؤلاء الرؤوس وكل له حكم متبوعه، لهذا كان بعض أهل العلم يقول: "الصغير إذا أخذ بقول رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين فهو كبير والشيخ الكبير إن أخذ بقول أبي حنيفة وترك السنن فهو صغير" كما رواه اللالكائي عن إبراهيم الحربي بإسناد قوي.
وهذا معنى قول بعض السلف: (الأصاغر أهل البدع) وجعل التماس العلم عندهم من أشراط الساعة كما روي في الخبر، وهذا مشاهد، فاليوم كثير من الناس إذا ذكر (علماء الإسلام) فإنما يريد أهل البدع الذين هو نفسه لا يعتقد اعتقادهم.
فهذا التماس العلم عند الأصاغر الذي روي أنه من أشراط الساعة.
فمن تبع الراسخين كان في حكمهم، ومن تبع الهالكين كان في حكمهم، هذا باعتبار الأصل وقد توجد استثناءات.
وهذا يشهد بالجملة لحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» فالراشدون هم رأس الراسخين.
وكذلك حديث الافتراق المروي، ففيه ذكر الفرقة الناجية (الراسخون ومن تبعهم) والفرق الهالكة (أهل الزيغ واتباع المتشابه ومن تبعهم).
قال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك} [هود].
هذه الآية جعلها ابن كثير شاهدة لحديث الافتراق، فالمستثنى {من رحم ربك} هم (الفرقة الناجية) وهذا المعنى مروي عن السلف.
وعليه: يكون قوله تعالى: {وهب لنا من لدنك رحمة} يعني اجعلنا من الناجين المتَّبعين لطريقة الراسخين.
هل كانوا يعلمون أنهم سيشرفون بطلحة؟
قال البخاري في «التاريخ الكبير»:
"1849- مَسعُود بْن حِراش.
له صحبة.
قال لي إسحاق: أخبرنا أبو أسامة، قال: حدثني طلحة بن يحيى، قال: أخبرني أبو بردة، عن مسعود بن حراش، قال: بينا أنا أطوف بين الصفا والمروة، إذا أناس كثير يتَّبعون إنسانًا فتًى شابًّا، موثَقًا يده إلى عنقه، قلت: ما شأنه؟ قالوا: هذا طلحة بن عبيد الله صَبَأَ، وامرأةٌ وراءه تذمُّه وتسبُّه، قالوا: هذه أمُّه الصعبة بنت الحضرمي".
أقول: هذا الخبر رجاله ثقات، غير أن طلحة بن يحيى فيه خلاف، والأكثر على توثيقه، واستنكر عليه أحمد حديثاً، والبخاري صاحب أشد عبارة فيه: "منكر الحديث" اعتمده هنا في إثبات صحبة مسعود بن حراش، على أن أبا حاتم خالف البخاري والأكثر تابعوا أبا حاتم.
وهذه رواية في السيرة، الخطب فيها هين، وليس في متنها ما يُستنكر.
تأمل كيف أن قوم طلحة عذبوه لإسلامه، وأمه كانت تسبُّه لذلك، وما كانوا يعلمون أنهم سيشرفون ويسيرون سادة الناس ويذكرهم الناس على مر التاريخ وفي كل الأقطار بالخير لأجل شأن أبي بكر وطلحة (فهما من بني تيم الله من قريش).
وأمه قد أسلمت لاحقاً، وأجر الآخرة خير من هذا كله.
وفي ذلك عبرة لكل شاب استقام ووجد أذية من أهله المقربين أن يصبر ولا ييأس منهم، فعامتهم مثل قوم طلحة لا يدرون ما في الدين من خير ويخشون من الاستقامة، كما كان أولئك يخشون من الإسلام لما يرون من الضرر اللاحق بمن يقول بذلك، ولا يدرون أن {العاقبة للمتقين} وأن {مع العسر يسراً}، وأن الأفكار النبيلة فضلاً عن الدين أهلها يبذلون لها، وكثيراً ما يجدون العواقب الحميدة لذلك.
وقد رأيت هذا كثيراً، كم من ابن أو ابنة يدعو والديه إلى الفوز برضا الرحمن وهم لا يريدون ذلك ويشددون عليه، ثم تكون العاقبة أن يُدركوا فضل هذا الأمر قريباً، {والآخرة خير وأبقى}، وحتى وإن لم يدركوا يكفي المرء أن سعى بالخير، ثم الهداية بيد الله، ولا يُذهب المرء نفسه حسرات.
والعكس موجود أيضاً وكثير، وإنما أنبِّه على هذه الصورة لبعدها عن أذهان كثيرين.
قال البخاري في «التاريخ الكبير»:
"1849- مَسعُود بْن حِراش.
له صحبة.
قال لي إسحاق: أخبرنا أبو أسامة، قال: حدثني طلحة بن يحيى، قال: أخبرني أبو بردة، عن مسعود بن حراش، قال: بينا أنا أطوف بين الصفا والمروة، إذا أناس كثير يتَّبعون إنسانًا فتًى شابًّا، موثَقًا يده إلى عنقه، قلت: ما شأنه؟ قالوا: هذا طلحة بن عبيد الله صَبَأَ، وامرأةٌ وراءه تذمُّه وتسبُّه، قالوا: هذه أمُّه الصعبة بنت الحضرمي".
أقول: هذا الخبر رجاله ثقات، غير أن طلحة بن يحيى فيه خلاف، والأكثر على توثيقه، واستنكر عليه أحمد حديثاً، والبخاري صاحب أشد عبارة فيه: "منكر الحديث" اعتمده هنا في إثبات صحبة مسعود بن حراش، على أن أبا حاتم خالف البخاري والأكثر تابعوا أبا حاتم.
وهذه رواية في السيرة، الخطب فيها هين، وليس في متنها ما يُستنكر.
تأمل كيف أن قوم طلحة عذبوه لإسلامه، وأمه كانت تسبُّه لذلك، وما كانوا يعلمون أنهم سيشرفون ويسيرون سادة الناس ويذكرهم الناس على مر التاريخ وفي كل الأقطار بالخير لأجل شأن أبي بكر وطلحة (فهما من بني تيم الله من قريش).
وأمه قد أسلمت لاحقاً، وأجر الآخرة خير من هذا كله.
وفي ذلك عبرة لكل شاب استقام ووجد أذية من أهله المقربين أن يصبر ولا ييأس منهم، فعامتهم مثل قوم طلحة لا يدرون ما في الدين من خير ويخشون من الاستقامة، كما كان أولئك يخشون من الإسلام لما يرون من الضرر اللاحق بمن يقول بذلك، ولا يدرون أن {العاقبة للمتقين} وأن {مع العسر يسراً}، وأن الأفكار النبيلة فضلاً عن الدين أهلها يبذلون لها، وكثيراً ما يجدون العواقب الحميدة لذلك.
وقد رأيت هذا كثيراً، كم من ابن أو ابنة يدعو والديه إلى الفوز برضا الرحمن وهم لا يريدون ذلك ويشددون عليه، ثم تكون العاقبة أن يُدركوا فضل هذا الأمر قريباً، {والآخرة خير وأبقى}، وحتى وإن لم يدركوا يكفي المرء أن سعى بالخير، ثم الهداية بيد الله، ولا يُذهب المرء نفسه حسرات.
والعكس موجود أيضاً وكثير، وإنما أنبِّه على هذه الصورة لبعدها عن أذهان كثيرين.