كُلَّما رأيت الناس يتغزَّلون وينعون الدهر عند رؤية صورة لفتاةٍ ما، فتاةٌ جميلة، لاجئةٌ في مخيمٍ سوريٍّ مثلًا، أو مناضلةٌ شابة للاحتلال الصهيوني؛ مثل ما حدث مع قصة عهد التميمي التي أبهرت قصتها الملايين، ينتابني هنا شعور بالنفور والغثيان.
وذلك الشعور ليس من فراغ، بل لوجود مغالطة منطقية يقع فيها الكثيرين. تلك المغالطة تكمن في كم التناقض عند الناس والعنصريَّة والفطرة غير السوية، عند التعاطف مع تلك النماذج فقط لمجرد أنهنَّ جميلات الخلقة بعيونٍ ملونةٍ أو شعرٍ أشقر.
فيظهر لك سخافة الأمر في اختزال كل الدمار والخراب والظلم الذي لا يقع إلا على هؤلاء، ونغضُّ الطرف عن الآلاف بل الملايين الأخرى من المستضعفين والأرامل والشيوخ والأطفال، فقط لأننا لا نعرف عنهم شيئًا، أو بالأحرى نعرف كُلَّ شيء؛ لكن يمنعهم جمالهم العادي وأجسادهم البالية من التصدر؛ فالعدسة هنا لا تلتقطُ إلا الحَسْناوات.
وذلك الشعور ليس من فراغ، بل لوجود مغالطة منطقية يقع فيها الكثيرين. تلك المغالطة تكمن في كم التناقض عند الناس والعنصريَّة والفطرة غير السوية، عند التعاطف مع تلك النماذج فقط لمجرد أنهنَّ جميلات الخلقة بعيونٍ ملونةٍ أو شعرٍ أشقر.
فيظهر لك سخافة الأمر في اختزال كل الدمار والخراب والظلم الذي لا يقع إلا على هؤلاء، ونغضُّ الطرف عن الآلاف بل الملايين الأخرى من المستضعفين والأرامل والشيوخ والأطفال، فقط لأننا لا نعرف عنهم شيئًا، أو بالأحرى نعرف كُلَّ شيء؛ لكن يمنعهم جمالهم العادي وأجسادهم البالية من التصدر؛ فالعدسة هنا لا تلتقطُ إلا الحَسْناوات.
سَألتُها عن مُفرَدِ خَوَازِيقْ؟
فأجَابتنِي: ”مالهاش مُفرَد، ده عرض بيجي على بعضه.“
صَدَقَتْ، وهِي من النَّاصِحِين.
فأجَابتنِي: ”مالهاش مُفرَد، ده عرض بيجي على بعضه.“
صَدَقَتْ، وهِي من النَّاصِحِين.
وكَأنَّي مثلُ حَرفِي مثلُ قَلبِي
مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ الحُزنِ مُكْتَحِلُ
يَغشَىٰ السَّوَادُ عليَّ إذ يُطَارحُنِي
في مُقْلَتَيَّ كَثِيبٌ مِنه مُنْتَهِلُ
[الأبياتُ لي، وأنا حَاضِنُها].
مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ الحُزنِ مُكْتَحِلُ
يَغشَىٰ السَّوَادُ عليَّ إذ يُطَارحُنِي
في مُقْلَتَيَّ كَثِيبٌ مِنه مُنْتَهِلُ
[الأبياتُ لي، وأنا حَاضِنُها].
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أجد نفسي عابر سبيلٍ قد مرَّ بالحياة، طرقت أبوابها بابًا بابًا، وعبرت أراضيها أرضًا أرضًا، وأخذتُ منها وتركت، فلم أجد إلَّا اليأس والحزن والضجر.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، دائمًا أحارب شخصًا ما داخلي، أشقُّ بطنه بالسيف، ويرشق صدري بالسهام، وأطرحه أرضًا ويطرحني، ثم يعلن كلانا الهدنة على وقف النزيف، ليواجه كل منَّا حقيقة -أخيه- الآخر.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أقول قول اليوم وأغفل عنه غدًا، وأُريح جسدي حيث يجب أن يقوم، وأترك الهوىٰ خشيةَ اللّٰه فأجد نفسي أسيرَ هوىًٰ آخر؛ كأني غريق بحرٍ يوجِّهني موجه المتلاطم كيف يشاء.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أجدني حائرًا بين أمرين، كلاهما يشبه الآخر، والأبرع يخرج مُنسلًّا فيُغويني بحقيقته؛ وأنا منهما كتائهٍ في غابةٍ فتعثَّر في طريقين، ولا يعلم أيُّهما الصحيح للخروج من الهاوية.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أراني لستُ بعالمٍ ولا صالحٍ، بعيدٌ جدًّا عن الصفتين، وجاهلٌ أكثر بما لا يُجهل، ولا أجيد أشياء يحسنها الكثير من الناس، وأخشى أن أُرفع فوق قدري فأنساه، وأرجو أن أبقى في زمرة البسطاء المجهولين حتَّىٰ ألقى اللّٰه فأُحشر معهم في جنَّته.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، لا أرانِي إلَّا وأنا أنا، عقلي وقلبي، نفسي وهواها، وبداخلي بعض ساقطاتٍ صغيراتٍ يعبثُ بهنَّ الشيطان باسم الحكمة والتَّفلسف والحنكة والدهاء؛ وأنا فارغٌ منهنَّ جميعًا. حتى إذا ضاقت بي السبل، واشتدت العقد، أهرب إلى صلاتي ساجدًا للّٰه، أسأله عفوًا عما اقترفَته يداي، وبصيرةً كلَّما ضللت الطريق، ورحمةً تجمعني حين يشُقُّ عليَّ القوم ويذهبوا عنِّي.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، لم أجد الخلاص حتَّىٰ أفرغتُ جُعبتي من الناس، ومن القيل والقال، وتزيين المقال، وتبرير نواياي، وتلقيح السعادة داخل أصلابهم، وتبيين ما يُحسنونه فيَّ، وما يسوؤهم منِّي، وبعد هدوءٍ نسبيٍّ على ضفاف الذَّات، وجدتُ روحي أخيرًا؛ وجدتها وقد اشتاقت إليَّ، بعد إذ فرَّقنا الهجر، وجَرَت الوحشَةُ داخلنا، وحالَ بيننا البُعد فكنت من الظالمين.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أدعوكَ ربِّي ولا أملُّ دعواك: أن ترزقني الرضا بالقليل الكثير، والصبر على المكاره، وكرامةَ العُسر لا ندالة اليُسر، وأشكرك ربِّي على تدابيرك، وحسنُ ظنِّك بي حين أسأتُ أنا، وعلى ذنبي حين تعفو فتمحوه، وعلى ردِّ المواقف ولو بعد حين. والشكر كل الشكر على ما أعطيت، والحمد كل الحمد على كل شيءٍ قدَّرته وقضيت، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، دائمًا وأبدًا.
ثم توفَّني راضيًا، لأمضي بسلام.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، دائمًا أحارب شخصًا ما داخلي، أشقُّ بطنه بالسيف، ويرشق صدري بالسهام، وأطرحه أرضًا ويطرحني، ثم يعلن كلانا الهدنة على وقف النزيف، ليواجه كل منَّا حقيقة -أخيه- الآخر.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أقول قول اليوم وأغفل عنه غدًا، وأُريح جسدي حيث يجب أن يقوم، وأترك الهوىٰ خشيةَ اللّٰه فأجد نفسي أسيرَ هوىًٰ آخر؛ كأني غريق بحرٍ يوجِّهني موجه المتلاطم كيف يشاء.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أجدني حائرًا بين أمرين، كلاهما يشبه الآخر، والأبرع يخرج مُنسلًّا فيُغويني بحقيقته؛ وأنا منهما كتائهٍ في غابةٍ فتعثَّر في طريقين، ولا يعلم أيُّهما الصحيح للخروج من الهاوية.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أراني لستُ بعالمٍ ولا صالحٍ، بعيدٌ جدًّا عن الصفتين، وجاهلٌ أكثر بما لا يُجهل، ولا أجيد أشياء يحسنها الكثير من الناس، وأخشى أن أُرفع فوق قدري فأنساه، وأرجو أن أبقى في زمرة البسطاء المجهولين حتَّىٰ ألقى اللّٰه فأُحشر معهم في جنَّته.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، لا أرانِي إلَّا وأنا أنا، عقلي وقلبي، نفسي وهواها، وبداخلي بعض ساقطاتٍ صغيراتٍ يعبثُ بهنَّ الشيطان باسم الحكمة والتَّفلسف والحنكة والدهاء؛ وأنا فارغٌ منهنَّ جميعًا. حتى إذا ضاقت بي السبل، واشتدت العقد، أهرب إلى صلاتي ساجدًا للّٰه، أسأله عفوًا عما اقترفَته يداي، وبصيرةً كلَّما ضللت الطريق، ورحمةً تجمعني حين يشُقُّ عليَّ القوم ويذهبوا عنِّي.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، لم أجد الخلاص حتَّىٰ أفرغتُ جُعبتي من الناس، ومن القيل والقال، وتزيين المقال، وتبرير نواياي، وتلقيح السعادة داخل أصلابهم، وتبيين ما يُحسنونه فيَّ، وما يسوؤهم منِّي، وبعد هدوءٍ نسبيٍّ على ضفاف الذَّات، وجدتُ روحي أخيرًا؛ وجدتها وقد اشتاقت إليَّ، بعد إذ فرَّقنا الهجر، وجَرَت الوحشَةُ داخلنا، وحالَ بيننا البُعد فكنت من الظالمين.
إلى أبعد ما تصلُ بي الذاكرة، أدعوكَ ربِّي ولا أملُّ دعواك: أن ترزقني الرضا بالقليل الكثير، والصبر على المكاره، وكرامةَ العُسر لا ندالة اليُسر، وأشكرك ربِّي على تدابيرك، وحسنُ ظنِّك بي حين أسأتُ أنا، وعلى ذنبي حين تعفو فتمحوه، وعلى ردِّ المواقف ولو بعد حين. والشكر كل الشكر على ما أعطيت، والحمد كل الحمد على كل شيءٍ قدَّرته وقضيت، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، دائمًا وأبدًا.
ثم توفَّني راضيًا، لأمضي بسلام.
عند القيام باستدلال منطقي، أي استدلال، لابد من الرجوع إلى مبدأ -مسلم- ضروري أولي؛ فإما كنت فاعلًا وإلا كنت مجنونًا، أو كمن يتخبَّطُه الشيطانُ من المَسِّ. وعليه فإن تلك المبادئ -المسلَّمات- الضرورية لا تستدعي بذاتها استدلالًا عقليًّا؛ وإلا بطلت ضروريتها، فهي ضرورة أوليَّة صادقة في أصلها، لا تحتاج إلى دليلٍ أو برهان، وإنما يُستدل بها لا عليها.
"والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان، لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث، ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، بل: إذا كان جاحدًا معاندًا، عوقب حتى يعترف بالحق. وإن كان غالطًا -إما لفساد عرض لحسه أو عقله، لعجزه عن فهم تلك العلوم، وإما لنحو ذلك- فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له، وانتفاء موانعه (يعني يُعلَّم، وتزال الموانع التي منعت حواسه من إدراك الحقائق على وجهها)، فإن عجز عن ذلك. لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية، أو بالدعاء والرقى والتوجه ونحو ذلك، وإلَّا تُرك.
ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال، وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية، وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها، فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادرًا على النظر، لم تمكن مخاطبتة بالنظر والاستدلال." [درء التعارض: ٣/٣١٠]
وهنا لا أرى بيانًا أوضح مما ذكره ابن تيمية أنَّه من يوسوس في العلوم الضرورية والحسية بسبب فساد طبيعته (مرض في مزاجه، وتركيبته النفسية)، يعالج بالأدوية الطبيعية! ولا أدري بعد هذا لِمَ يستنكر الناسُ -بحجةِ الدين- حقيقة الأمراض النفسية، وتناول الأدوية المعالجة لها؟!
"والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان، لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث، ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر، بل: إذا كان جاحدًا معاندًا، عوقب حتى يعترف بالحق. وإن كان غالطًا -إما لفساد عرض لحسه أو عقله، لعجزه عن فهم تلك العلوم، وإما لنحو ذلك- فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له، وانتفاء موانعه (يعني يُعلَّم، وتزال الموانع التي منعت حواسه من إدراك الحقائق على وجهها)، فإن عجز عن ذلك. لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية، أو بالدعاء والرقى والتوجه ونحو ذلك، وإلَّا تُرك.
ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال، وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية، وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها، فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادرًا على النظر، لم تمكن مخاطبتة بالنظر والاستدلال." [درء التعارض: ٣/٣١٠]
وهنا لا أرى بيانًا أوضح مما ذكره ابن تيمية أنَّه من يوسوس في العلوم الضرورية والحسية بسبب فساد طبيعته (مرض في مزاجه، وتركيبته النفسية)، يعالج بالأدوية الطبيعية! ولا أدري بعد هذا لِمَ يستنكر الناسُ -بحجةِ الدين- حقيقة الأمراض النفسية، وتناول الأدوية المعالجة لها؟!
من كافكا إلى ميلينا:
دو يو لاڨـ مي، دو يو دو يو!
دو يو نيد مي، دو يو دو يو!
دو يو لاڨـ مي، دو يو دو يو!
دو يو نيد مي، دو يو دو يو!
كيف حالك يا صاحِبي؟ أرجو أن تكون بخيرٍ، وعلى خُطى الأولين سَائر. ما بال القوم، عَمَّ يَتساءلُون؟ عن النَّبَإِ العظِيم؟ اجلس هاهُنا لأقصَّ عليك منه ما قد بُلِّغتُ عِلما. ربما لا أجدُ في جعبتي -بعد اعتزالِ الناس إلَّا من خير، ومرافقةِ الخليل الصالح، ومشاورة الذين يخافون اللّٰه- ما أنصحُ به وأنا أشدُّ الناس حاجةً للنصح.
فالكلام هاهُنا معادٌ مِائةَ مرة، والصدرُ ضاقَ بما فيه، وليس له غير القرآن مُنقذًا، والدنيا زائلةٌ لا محالة، والموت هو الحقيقة الوحيدة التي يُهرب منها وإليها، والنفس تميلُ إلى من يحسنُ قبولها على ما هي عليه، والقلب بين فتورٍ وسُرور، والصابرُ على البلاء له أجران: أجر الصبرِ وأجرُ الرضا، والدنيا لا تعطي الكثير، فاجعل حُلمك على قدر حَملك؛ فلا طاقةَ للمرء على ما لا يحتمل، وشيئانٍ أقربُ للنفس في هذا الزمان: الأصدقاء والكتب؛ نكتفي من الأولى بقدر المستطاع، ونكثرُ من الثانية على قدر الوسع.
واتخذ من القلمِ خليلًا، ومن العزلةِ مجلسًا، ومن القراءة جسرًا تعبر به إليه. والصمت هو الفضيلة التي يغفل الناس عنها؛ ليكن لك نصيبٌ منه. والحبُّ والكره وجهان لعملةٍ واحدة، فتمسَّك بالوجهِ الأول ما استطعت إليه سبيلًا. والفراغ هو آفةُ الزمان، اقتله؛ انتصرت. وخُذ من الآخرين ما يسُّدُ الجوع، ولا تركن إلى صنفٍ واحد، ودع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك.
واعلم أنَّ قيمةَ الأشياء تُدرك عند فُقدانها، وعند الحاجة إليها، وبعضها نحبُّها ونتمناها، ولكن لا نصِلُها، وبعضها ما أن نألفها، لا نستشعر نعمة الله فيها؛ واذكُر ربَّكَ إِذا نسِيتَ وقُل عَسىٰ أن يَهدِينِ ربِّي لأقْرَبَ من هَٰذا رَشدًا. والنفس هي أعزُّ ما نملك، فلا نبسطها كل البسط فتميلُ مع الهوى لهلاكِها، ولا نُمسِكها حدَّ العنق فنحتقرُ ما خلقه الله فأحسنَ صوره. وللحبِّ درجات فلا نصعدُ واحدةً قبل أخرى؛ وأعلاها تعلوها الكرامة. والكذبُ هلاكُ المرء، والمروءةُ هي سِلاحه، والشجاعة تولدُ من رحم الصعاب؛ أو كما قالوا. والفقرُ هو فقر الأمان في الوطن، وما الغربة إلَّا الاغتراب في النفس، والغنا غنا القلب ولا يصل إليه إلَّا من رحِم ربِّي. وأُوْصَيكَ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتَ حَيًّا.
واعذر جهلي، وقلة حيلتي، وادعُ لي يا صاحبي فيما سيأتي.
فالكلام هاهُنا معادٌ مِائةَ مرة، والصدرُ ضاقَ بما فيه، وليس له غير القرآن مُنقذًا، والدنيا زائلةٌ لا محالة، والموت هو الحقيقة الوحيدة التي يُهرب منها وإليها، والنفس تميلُ إلى من يحسنُ قبولها على ما هي عليه، والقلب بين فتورٍ وسُرور، والصابرُ على البلاء له أجران: أجر الصبرِ وأجرُ الرضا، والدنيا لا تعطي الكثير، فاجعل حُلمك على قدر حَملك؛ فلا طاقةَ للمرء على ما لا يحتمل، وشيئانٍ أقربُ للنفس في هذا الزمان: الأصدقاء والكتب؛ نكتفي من الأولى بقدر المستطاع، ونكثرُ من الثانية على قدر الوسع.
واتخذ من القلمِ خليلًا، ومن العزلةِ مجلسًا، ومن القراءة جسرًا تعبر به إليه. والصمت هو الفضيلة التي يغفل الناس عنها؛ ليكن لك نصيبٌ منه. والحبُّ والكره وجهان لعملةٍ واحدة، فتمسَّك بالوجهِ الأول ما استطعت إليه سبيلًا. والفراغ هو آفةُ الزمان، اقتله؛ انتصرت. وخُذ من الآخرين ما يسُّدُ الجوع، ولا تركن إلى صنفٍ واحد، ودع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك.
واعلم أنَّ قيمةَ الأشياء تُدرك عند فُقدانها، وعند الحاجة إليها، وبعضها نحبُّها ونتمناها، ولكن لا نصِلُها، وبعضها ما أن نألفها، لا نستشعر نعمة الله فيها؛ واذكُر ربَّكَ إِذا نسِيتَ وقُل عَسىٰ أن يَهدِينِ ربِّي لأقْرَبَ من هَٰذا رَشدًا. والنفس هي أعزُّ ما نملك، فلا نبسطها كل البسط فتميلُ مع الهوى لهلاكِها، ولا نُمسِكها حدَّ العنق فنحتقرُ ما خلقه الله فأحسنَ صوره. وللحبِّ درجات فلا نصعدُ واحدةً قبل أخرى؛ وأعلاها تعلوها الكرامة. والكذبُ هلاكُ المرء، والمروءةُ هي سِلاحه، والشجاعة تولدُ من رحم الصعاب؛ أو كما قالوا. والفقرُ هو فقر الأمان في الوطن، وما الغربة إلَّا الاغتراب في النفس، والغنا غنا القلب ولا يصل إليه إلَّا من رحِم ربِّي. وأُوْصَيكَ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما دُمْتَ حَيًّا.
واعذر جهلي، وقلة حيلتي، وادعُ لي يا صاحبي فيما سيأتي.
آرَاؤُكَ ليسَت وَحيًا؛ لا تقع في حُبِّ فَرضيَّتك.
”الليل كما الليل، لا يتغيَّر، نفس النجوم، قمرٌ منير، وبعض السحب الهائمة التي تنتقل وينتقل معها نسيم الذكريات.“ كهذا تمتمت سيدةٌ عجوزٌ بينما ننتظر جميعًا القطار المحمٍّل بالركاب، وبجانبنا بضعُ أشخاصٍ يستمعون إليها. تداركت الأمر سريعًا، ثم تساءلت بيني وبين نفسي: أحيانًا أفكِّر لماذا يهرب المرء من ذاته إلى ذاتٍ أخرى؟ لماذا يبحث -معظم الوقت- في قلاعِ الآخرين عن ملجأٍ له؟ قد لا يُعرف السبب تمامًا فنحن نختلف باختلاف ذواتنا، ولكنَّه حتمًا يعوِّض نقصًا لديه، في هروبه هذا، ربما في قتالِه المستمر بعض الوحدة التي تحيط به -قهرًا لا حبًا- لذا يفضِّل أن يشارك الآخرين معاركه.
فكلنَّا عُرجٌ مَكاسِير، نترنَّح بين شعورٍ وآخر، نستندُ إلى الذكريات، ونلعنُ طقوس الماضي، ونغرقُ في حواشي الحزن، ونتعلَّق بأحبالِ الصبر، وندع الباب مواربًا لكيلا نعلقَ في المنتصف. حياتنا شقوقٌ وتعرجات، كنتوءاتٍ في جبلٍ صلب، كمدٍ وجذرٍ في بحرٍ شاسِع، ونحن نتقلَّب ذهابًا وإيابًا، بين هذا وذاك، وما أن يستقيم الخط، وتنفَرِج العقدة، حينها فقط سنشعر باللا شيء؛ غفوةٌ ثم حشرٌ يومئذٍ عظيم.
قاطع أفكاري شابٌ عشرينيُّ، وقال: ”الألمٌ نُسبي، نسبيٌّ جدًا، يختلف من سببٍ إلى آخر، ومن تحمُّل شخصٍ إلى شخص، والأهمُّ من حجمِ الألم مصدره، والأهمُّ من العلاج احتسابُ الأجر، والصَّبرُ بداية الجبر، والانشغال روحُ النسيان، والمواجهة أفضل من الهروب، والتعلُّم هو جائزة التجربة. وحيث لا يوجد أقسَى من كسر القلوب، فالقرآن هو خير دواء، والصحبةُ الصالحة هي الذراعُ الأيمن، والدعاء هو سيِّد الفرجِ وإصلاح وترميم ما ثُقِبَ وانهار. هكذا حدَّثني أبي: اعلم أنَّ الدنيا لا تستقيم أبدًا ولا تميل أبدًا، فدع ما يريبك ينصرف، وغضَّ الطرف عن الأذى واستقم، واستقبل الحزن في مكانِه المستحقّ ثمَّ ودِّعه متبسِّمًا، ولا تستعجلنَّ الشفاء حتَّى يلتئم الجرح.“
تتبَّعتُ دمعةً انسالت خفيَةً منه إلى أن توارت، وكأنه يجاري عقله في ذكرى مروريَّةٍ حزينة، وهنا انتزعت فتاةٌ في مثل عُمرِهِ صمام الصَّمت وبادرت: ”نحن متشابهون جدًا، غرباء مفطورون على الظهور، على المشاركة، على الوُدِّ، على وداعِ الآخرين وانتظار عودتهم إلينا، تبهرنا النظراتُ وكلماتُ الثَّناء، والدعوات الخفيَّة، ونحزن على الغريبِ القريب، والقريب المغترب، تبهرنا أصغر الأشياء وأدقُّها، ونسعى كثيرًا لأن نحِبَّ ونُحَبّ، أن يرانا الآخرون من الزوايا الحرجة والثغور الضيِّقة، ونميل إلى كسبِ التعاطف ولو بعد حين، ونلتمِسُ التقدير والحفاوة ربما أكثر من أي مكسبٍ ماديٍّ آخر، ونتستَّر خلف الزحام كثيرًا؛ نمارس ذات الطقوس مراتٍ عديدة.“
نظر الشاب -الذي بالكاد يمنع دموعه من الخروج علنًا إلينا- إلى صديقه بتعجبٍّ، وهمس له بصوتٍ ضعيف: ”وأنت هناك أيضًا؛ تشعر بالعجزِ عندما تبتعد الأضواء عنك قليلًا، حينما ينطفئُ وميض البدايات ويغادر الجميع المشهد، فتعلن عن وجودك المستحقّ بينهم، عندما يتصدَّر التجاهل فلا يلاحِظ وجودك أحد، ولا يتحدث إليك الناس كما اعتادوا، كأنَّك تعيش في فراغٍ من الجميع، فتُقتَل كثيرًا في اليوم والليلة، وتشيِّد قبور الحزن داخلك، وتعود غريبًا في وحدتِك.“
أمَّا أنا فتبسٍّمتُ قليلًا وابتعدت تاركًا إياهم، ربما أشعرُ الآن بعقلي يتأرجحُ خوفًا وقلقًا، وقلبي بطبعِه يتبعه حائرًا متأفِّفًا؛ فلا حيلةَ له في الأمر ولا قرار. لقد أنكرتها مرارًا -وأنكرها- ولكنها الحقيقة: أنا أخافُ كثيرًا وأبكي، ربما أبكي الآن تواضعًا لحرمةِ الشعور الذي أخطُّه وآتاني فجأة، فتبًا لتلك الدمعة التي تنسلُّ وحدها دافئةً على جبيني وتنساق ورائها الأخرياتُ تباعًا وببطء، إلى أن تستقرَّ أخيرًا على وسادتي التي امتلأت بها وفاضت، ولو قُدِّر لها التأفُّف لما ادخرت جهدًا. في كثير من الأحيان أخافُ الفقد والثقب الذي يخرقه ويرحل، وأخافُ التعلُّق بأحدهم -بغير حولٍ منِّي ولا قوة- حيثُ يشبهني وهو ليس لي، وأخاف الموت كثيرًا كثيرًا؛ فأي أحمقٍ أنا حتَّىٰ لا أخافه! أخافُ أن أصلَ متأخرًا جدًا عما يفترض أن يكون، وأخاف ألَّا أصل نهائيًا فأقفُ تائهًا في المنتصف، والخوف كلُّ الخوف أن أصل إلى الدربِ الخطأ بعد أن خارت قواى كلها وانتهت. أخافُ الآخرين وعليهم أكثر، وأخافُ عليَّ من نفسي فتجهز عليَّ بدمٍ بارد، وأخافُ أن ينطفئ قلبي فينبتُ شوكًا في النهاية. ربما أخاف الحياة بما تعبثُ بالناس وتغيِّر فيهم وفي معتقداتِهم وأفكارهِم، والقيم التي يعتنقوها ويسيروا بها، وأخافُ النيِّة التي انتويت وصِدقُ باطنها وصلاح آثارها، وأخافُ الذنب الذي أميِّزه ويصغر في عيني، فأقدِم عليه ولا أبالي.
في النهاية أنا بخيرٍ تمامًا وكُلِّي نعمٌ أغرقني اللَّه ومنَّ عليَّ بها، وربما هذا ما أخافُه حقًا في النهاية؛ أخافُ أن يفوتني القطار، كما فاتني هذه المرَّة.
يبدو أنَّ الرحلةَ قد انتهت، يبدو أنَّني مُسافِرٌ لن يَصِل.
فكلنَّا عُرجٌ مَكاسِير، نترنَّح بين شعورٍ وآخر، نستندُ إلى الذكريات، ونلعنُ طقوس الماضي، ونغرقُ في حواشي الحزن، ونتعلَّق بأحبالِ الصبر، وندع الباب مواربًا لكيلا نعلقَ في المنتصف. حياتنا شقوقٌ وتعرجات، كنتوءاتٍ في جبلٍ صلب، كمدٍ وجذرٍ في بحرٍ شاسِع، ونحن نتقلَّب ذهابًا وإيابًا، بين هذا وذاك، وما أن يستقيم الخط، وتنفَرِج العقدة، حينها فقط سنشعر باللا شيء؛ غفوةٌ ثم حشرٌ يومئذٍ عظيم.
قاطع أفكاري شابٌ عشرينيُّ، وقال: ”الألمٌ نُسبي، نسبيٌّ جدًا، يختلف من سببٍ إلى آخر، ومن تحمُّل شخصٍ إلى شخص، والأهمُّ من حجمِ الألم مصدره، والأهمُّ من العلاج احتسابُ الأجر، والصَّبرُ بداية الجبر، والانشغال روحُ النسيان، والمواجهة أفضل من الهروب، والتعلُّم هو جائزة التجربة. وحيث لا يوجد أقسَى من كسر القلوب، فالقرآن هو خير دواء، والصحبةُ الصالحة هي الذراعُ الأيمن، والدعاء هو سيِّد الفرجِ وإصلاح وترميم ما ثُقِبَ وانهار. هكذا حدَّثني أبي: اعلم أنَّ الدنيا لا تستقيم أبدًا ولا تميل أبدًا، فدع ما يريبك ينصرف، وغضَّ الطرف عن الأذى واستقم، واستقبل الحزن في مكانِه المستحقّ ثمَّ ودِّعه متبسِّمًا، ولا تستعجلنَّ الشفاء حتَّى يلتئم الجرح.“
تتبَّعتُ دمعةً انسالت خفيَةً منه إلى أن توارت، وكأنه يجاري عقله في ذكرى مروريَّةٍ حزينة، وهنا انتزعت فتاةٌ في مثل عُمرِهِ صمام الصَّمت وبادرت: ”نحن متشابهون جدًا، غرباء مفطورون على الظهور، على المشاركة، على الوُدِّ، على وداعِ الآخرين وانتظار عودتهم إلينا، تبهرنا النظراتُ وكلماتُ الثَّناء، والدعوات الخفيَّة، ونحزن على الغريبِ القريب، والقريب المغترب، تبهرنا أصغر الأشياء وأدقُّها، ونسعى كثيرًا لأن نحِبَّ ونُحَبّ، أن يرانا الآخرون من الزوايا الحرجة والثغور الضيِّقة، ونميل إلى كسبِ التعاطف ولو بعد حين، ونلتمِسُ التقدير والحفاوة ربما أكثر من أي مكسبٍ ماديٍّ آخر، ونتستَّر خلف الزحام كثيرًا؛ نمارس ذات الطقوس مراتٍ عديدة.“
نظر الشاب -الذي بالكاد يمنع دموعه من الخروج علنًا إلينا- إلى صديقه بتعجبٍّ، وهمس له بصوتٍ ضعيف: ”وأنت هناك أيضًا؛ تشعر بالعجزِ عندما تبتعد الأضواء عنك قليلًا، حينما ينطفئُ وميض البدايات ويغادر الجميع المشهد، فتعلن عن وجودك المستحقّ بينهم، عندما يتصدَّر التجاهل فلا يلاحِظ وجودك أحد، ولا يتحدث إليك الناس كما اعتادوا، كأنَّك تعيش في فراغٍ من الجميع، فتُقتَل كثيرًا في اليوم والليلة، وتشيِّد قبور الحزن داخلك، وتعود غريبًا في وحدتِك.“
أمَّا أنا فتبسٍّمتُ قليلًا وابتعدت تاركًا إياهم، ربما أشعرُ الآن بعقلي يتأرجحُ خوفًا وقلقًا، وقلبي بطبعِه يتبعه حائرًا متأفِّفًا؛ فلا حيلةَ له في الأمر ولا قرار. لقد أنكرتها مرارًا -وأنكرها- ولكنها الحقيقة: أنا أخافُ كثيرًا وأبكي، ربما أبكي الآن تواضعًا لحرمةِ الشعور الذي أخطُّه وآتاني فجأة، فتبًا لتلك الدمعة التي تنسلُّ وحدها دافئةً على جبيني وتنساق ورائها الأخرياتُ تباعًا وببطء، إلى أن تستقرَّ أخيرًا على وسادتي التي امتلأت بها وفاضت، ولو قُدِّر لها التأفُّف لما ادخرت جهدًا. في كثير من الأحيان أخافُ الفقد والثقب الذي يخرقه ويرحل، وأخافُ التعلُّق بأحدهم -بغير حولٍ منِّي ولا قوة- حيثُ يشبهني وهو ليس لي، وأخاف الموت كثيرًا كثيرًا؛ فأي أحمقٍ أنا حتَّىٰ لا أخافه! أخافُ أن أصلَ متأخرًا جدًا عما يفترض أن يكون، وأخاف ألَّا أصل نهائيًا فأقفُ تائهًا في المنتصف، والخوف كلُّ الخوف أن أصل إلى الدربِ الخطأ بعد أن خارت قواى كلها وانتهت. أخافُ الآخرين وعليهم أكثر، وأخافُ عليَّ من نفسي فتجهز عليَّ بدمٍ بارد، وأخافُ أن ينطفئ قلبي فينبتُ شوكًا في النهاية. ربما أخاف الحياة بما تعبثُ بالناس وتغيِّر فيهم وفي معتقداتِهم وأفكارهِم، والقيم التي يعتنقوها ويسيروا بها، وأخافُ النيِّة التي انتويت وصِدقُ باطنها وصلاح آثارها، وأخافُ الذنب الذي أميِّزه ويصغر في عيني، فأقدِم عليه ولا أبالي.
في النهاية أنا بخيرٍ تمامًا وكُلِّي نعمٌ أغرقني اللَّه ومنَّ عليَّ بها، وربما هذا ما أخافُه حقًا في النهاية؛ أخافُ أن يفوتني القطار، كما فاتني هذه المرَّة.
يبدو أنَّ الرحلةَ قد انتهت، يبدو أنَّني مُسافِرٌ لن يَصِل.
عزيزي السيِّد هُدهد، سلامُ اللّٰه عليك؛
إنِّي لأخجل من نفسي أن يَتَّخذَ حيوانٌ أو طيرٌ بفطرَةِ اللّٰهِ التي جُبِلَ عليها، فينامُ باللَّيلِ ويقوم بالنهار، فيرْتفعَ ثُمَّ يجِيءُ على ذلك، ولا أسْتَحيي أن أفعلَ مثله وقد ميَّزني اللّٰه عقلًّا وحكمةً، فانْقلبَ هاهُنا ليلِي نهارًا ونهاري ليلًا، وانحرفتُ عن شِرعةِ اللّٰه التي أحكمَ صورها: ”وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا.“ حتى طُبِعتُ على ذلك كما يُطْبعُ السيفُ إذا كثُر الصَّدَأُ عليه.
فبادئٌ ذي بِدء، إنِّي لأنصرفُ بنفسي من اليوم، وفي مطلعِ عامٍ هجريٍّ جديد، من عادةٍ سيِّئةٍ قد اعتدَّتُها إلى أخرى حَسنة، ومن الخضوعِ تحت قدمِ هواي إلى إخضاعِه، وكفى بالمرءِ سوءًا أن يلُفَّ عينه سوادُ الأرَق، وترتجفَ الرُّموشُ من الإرهاق، ويتصدَّعَ العقلُ من أثرِ التفكير.
كيف بعاقلٍ -إذا عقلِ- أن يُفوِّتَ على نفسه نسيم الصَّباح، ودعاء شروق الشمس، ونداء الطيور لبعضها -لربِّها- على مقربةٍ منه، وقد اهْتدَى إلى ذلك العقلاءُ، وانصرفَ إليه الأسوياء. ثُمَّ إنِّي لأجدُ في ضبطِ العاداتِ وحسنِ التلبُّس بها، شيءٌ من الخيرِ، وسعةٌ في الوقتِ، وبركةٌ في العملِ، وجمالُ في الصِّحةِ والجسد.
وأعوذُ باللَّهِ أن أذكِّر به غيري وأنسَاه.
إنِّي لأخجل من نفسي أن يَتَّخذَ حيوانٌ أو طيرٌ بفطرَةِ اللّٰهِ التي جُبِلَ عليها، فينامُ باللَّيلِ ويقوم بالنهار، فيرْتفعَ ثُمَّ يجِيءُ على ذلك، ولا أسْتَحيي أن أفعلَ مثله وقد ميَّزني اللّٰه عقلًّا وحكمةً، فانْقلبَ هاهُنا ليلِي نهارًا ونهاري ليلًا، وانحرفتُ عن شِرعةِ اللّٰه التي أحكمَ صورها: ”وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا.“ حتى طُبِعتُ على ذلك كما يُطْبعُ السيفُ إذا كثُر الصَّدَأُ عليه.
فبادئٌ ذي بِدء، إنِّي لأنصرفُ بنفسي من اليوم، وفي مطلعِ عامٍ هجريٍّ جديد، من عادةٍ سيِّئةٍ قد اعتدَّتُها إلى أخرى حَسنة، ومن الخضوعِ تحت قدمِ هواي إلى إخضاعِه، وكفى بالمرءِ سوءًا أن يلُفَّ عينه سوادُ الأرَق، وترتجفَ الرُّموشُ من الإرهاق، ويتصدَّعَ العقلُ من أثرِ التفكير.
كيف بعاقلٍ -إذا عقلِ- أن يُفوِّتَ على نفسه نسيم الصَّباح، ودعاء شروق الشمس، ونداء الطيور لبعضها -لربِّها- على مقربةٍ منه، وقد اهْتدَى إلى ذلك العقلاءُ، وانصرفَ إليه الأسوياء. ثُمَّ إنِّي لأجدُ في ضبطِ العاداتِ وحسنِ التلبُّس بها، شيءٌ من الخيرِ، وسعةٌ في الوقتِ، وبركةٌ في العملِ، وجمالُ في الصِّحةِ والجسد.
وأعوذُ باللَّهِ أن أذكِّر به غيري وأنسَاه.
Forwarded from عبد الرحمن القلاوي
سلامٌ عليكم،
سؤال سريع، خفيف، بعيد عن المقررات، ويناسب درجات الحرارة والمرارة في آنٍ واحد.
هل الدراسة في البناء المنهجي سيتعارض مع أكاديمية زاد من حيث القدرة والكيفيَّة؟ هل سيشكل عبئًا إضافيًّا كونه أضخم وأعمق وأشدُّ تفصيلًا؟ أم يمكن التوافق بينهم بإذن الله؟ مع الأخذ بعين الاعتبار حديث التخرج والبحث عن عمل وتجهيز سفر وهيك أمور.
وإذا كانت هناك صعوبة، ولابد من التخلي عن أحدهما، فما الأفضل: التخلي عن زاد، أم البناء؟
أريجاتو جوزايماس؛ شكرًا بالعربية.
سؤال سريع، خفيف، بعيد عن المقررات، ويناسب درجات الحرارة والمرارة في آنٍ واحد.
هل الدراسة في البناء المنهجي سيتعارض مع أكاديمية زاد من حيث القدرة والكيفيَّة؟ هل سيشكل عبئًا إضافيًّا كونه أضخم وأعمق وأشدُّ تفصيلًا؟ أم يمكن التوافق بينهم بإذن الله؟ مع الأخذ بعين الاعتبار حديث التخرج والبحث عن عمل وتجهيز سفر وهيك أمور.
وإذا كانت هناك صعوبة، ولابد من التخلي عن أحدهما، فما الأفضل: التخلي عن زاد، أم البناء؟
أريجاتو جوزايماس؛ شكرًا بالعربية.
من الدروس التي تطرَّق اليها أبي الباشمهندس/ أيمن عبد الرحيم، والتي نَخرت في صدري، وشَعُرت على إثرها بالعجز على ما نحن فيه، هي أنَّ حتميَّة وجود فترة مراهقة يمارس فيها الشخص ممارساتً صبيانيَّةً طائشةً من جهة، أو تساهل في تكليفاتِ الدين من جهة أخرى، بحجَّةِ صغر السن، هي محضُ بدعةٍ وجَدَت طريقها عبر الخلل الاجتماعي المتواتر بين الناس، ومع اختلاف الحضارات وتباين ظروف الحياة خلالها، أو كما قال الإمام مالك: "يُحدَثُ للناسِ من القضايا، بقدرِ ما أحْدَثوا من الفُجور."
فالأصل في الإنسان هو المسؤوليَّة الاجتماعيَّة والدينيَّة منذ البلوغ، والعكس هو من الخطأ والإفساد في الاجتماع البشري. ففي مكانٍ ما، عبر زمانٍ ما، حَمَلت فتاة لم تتجاوز العقد الثاني كل أعباء بيتها على كاهِلها؛ مأكلٍ وملبسٍ وتربية أبناء وأحيانًا ترحال عبر الصحارى والغابات للصيد وجلب الموارد، في حين يقوم الزوج في الجهة المقابلة، الذي لم يتجاوز عمره الخامسة عشرة، بقيادة الجيوش وزعامة القبائل واتخاذ القرارات بكافة أنواعها وربما المخاطر الناتجة عنها. قياسًا على ذلك، فنفس الجيل -والجيل الذي يليه ويليه- من الشباب اليوم، لا يتقن مخيط ثوبه فضلًا عن صنع قراره بيديه، منغمسًا في اللَّهو والعربدة، وأصغر شوكة يُشاكها تقلب حياته رأسًا على عقب.
إذن ذلك النضج العقلي والجسدي الرهيب، كما يعرِّفه الأنثروبولوجي، قد تواتر عبر الأجيال والأحداث والخَلل والعِلل والفساد والإفساد والبعد عن الفطرة السليمة واعتناق الأفكار والقيم البالية، حتَّىٰ أودى بمن نحن فيه اليوم. جُلّ الاضطرابات والصراعات النفسيَّة والسلوكيَّة، وانعدام الخبرات والتجارب، وتَفشِّي الاعتماديَّة والنفعيَّة، قد تضاعفت عمَّا كانت عليه في السابق بسبب انحراف الناس عن الفطرة والدين الصحيحين.
لكن هناك سؤال وُجب طرحه هنا: هل يستشري الكبت والقلق النفسي، وكذا باقي أفرع شجرة الأمراض النفسية في يومنا هذا، بسبب إلقاء الضوء عليهم وتشخصيهم بنسبة أكبر ممَّا كانت عليه في السابق؟ أم أنَّ التكنولوجيا الحديثة وسرعة الحياة اليومية وصعوبتها وانحراف العقائد والأفكار، هي التي صعَّدت من حدَّة تلك الاضرابات والأمراض (باعتبار أنَّ الحياة البدائيَّة كانت تميل إلى البساطة، وأكثر تحلُّلًا وابتعادًا عن التعقيد والتفكير الذي يتبعه)؟
وهاهُنا قد انتهى خاطري، وبقي سؤالٌ أنتظر إجابته.
فالأصل في الإنسان هو المسؤوليَّة الاجتماعيَّة والدينيَّة منذ البلوغ، والعكس هو من الخطأ والإفساد في الاجتماع البشري. ففي مكانٍ ما، عبر زمانٍ ما، حَمَلت فتاة لم تتجاوز العقد الثاني كل أعباء بيتها على كاهِلها؛ مأكلٍ وملبسٍ وتربية أبناء وأحيانًا ترحال عبر الصحارى والغابات للصيد وجلب الموارد، في حين يقوم الزوج في الجهة المقابلة، الذي لم يتجاوز عمره الخامسة عشرة، بقيادة الجيوش وزعامة القبائل واتخاذ القرارات بكافة أنواعها وربما المخاطر الناتجة عنها. قياسًا على ذلك، فنفس الجيل -والجيل الذي يليه ويليه- من الشباب اليوم، لا يتقن مخيط ثوبه فضلًا عن صنع قراره بيديه، منغمسًا في اللَّهو والعربدة، وأصغر شوكة يُشاكها تقلب حياته رأسًا على عقب.
إذن ذلك النضج العقلي والجسدي الرهيب، كما يعرِّفه الأنثروبولوجي، قد تواتر عبر الأجيال والأحداث والخَلل والعِلل والفساد والإفساد والبعد عن الفطرة السليمة واعتناق الأفكار والقيم البالية، حتَّىٰ أودى بمن نحن فيه اليوم. جُلّ الاضطرابات والصراعات النفسيَّة والسلوكيَّة، وانعدام الخبرات والتجارب، وتَفشِّي الاعتماديَّة والنفعيَّة، قد تضاعفت عمَّا كانت عليه في السابق بسبب انحراف الناس عن الفطرة والدين الصحيحين.
لكن هناك سؤال وُجب طرحه هنا: هل يستشري الكبت والقلق النفسي، وكذا باقي أفرع شجرة الأمراض النفسية في يومنا هذا، بسبب إلقاء الضوء عليهم وتشخصيهم بنسبة أكبر ممَّا كانت عليه في السابق؟ أم أنَّ التكنولوجيا الحديثة وسرعة الحياة اليومية وصعوبتها وانحراف العقائد والأفكار، هي التي صعَّدت من حدَّة تلك الاضرابات والأمراض (باعتبار أنَّ الحياة البدائيَّة كانت تميل إلى البساطة، وأكثر تحلُّلًا وابتعادًا عن التعقيد والتفكير الذي يتبعه)؟
وهاهُنا قد انتهى خاطري، وبقي سؤالٌ أنتظر إجابته.
لحرفي السهلِ الذي لم يعد سهلًا، ولا أهلًا، وصارَ كهلًا، ووهَنَ العظمُ منه واشتعَلَ الرَّأسُ شَيبًا، نَم واستَرح؛ تلك بِضاعتُهم رُدَّت إِليهم وليس لي فيها كَيْلُ بَعِيرٍ.
لقد مات حرفي يوم أمس -أو قبله لا أذكر- إثر نزِيفٍ حادٍّ في القلب، هكذا أخبرنا الأطباء: لَفظَ آخر أنفاسه في رسالةٍ قد بُعِثت لأحدهم؛ ويبدو أنها لم تكتمل لنقصٍ في التفاصيل. غُسِّلَ وكُفِّنَ وشَيَّع جنازَته أربعةُ أحرفٍ أخرى، وفاصِلتين، وعلامة تعجبٍ لا غير.
مات حرفي بالأمسِ موتَتهُ الأخيرة، وماتت روحه من قبل مرَّاتٍ عِدَّة، مات وانفضَّ عنه القوم على بكرةِ أبيهم، بعد أن كانوا كالبنيانِ المرصوصِ بعضهم في إثرِ بعضٍ، لا يتخلَّف منهم أحد، وكأنَّه لم يكن يومًا حرفًا مثلهم؛ لم يتحدَّث بلسانهم، ولم يسرِ على الورقِ مَسراه كبني جلدتهم، فوقع فيه ما وقَع، وهلكَ وحِيدًا في غُربته.
مات حرفي ثم نقشتُ رِثائي على جدارِ قبرِه الصغير:
وكَأنَّي مثلُ حَرفِي مثلُ قَلبِي
مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ الحُزنِ مُكْتَحِلُ
يَغشَىٰ السَّوَادُ عليَّ إذ يُطَارحُنِي
في مُقْلَتَيَّ كَثِيبٌ مِنه مُنْتَهِلُ
ارقد بسلامٍ يا -قلبي- حرفي.
لقد مات حرفي يوم أمس -أو قبله لا أذكر- إثر نزِيفٍ حادٍّ في القلب، هكذا أخبرنا الأطباء: لَفظَ آخر أنفاسه في رسالةٍ قد بُعِثت لأحدهم؛ ويبدو أنها لم تكتمل لنقصٍ في التفاصيل. غُسِّلَ وكُفِّنَ وشَيَّع جنازَته أربعةُ أحرفٍ أخرى، وفاصِلتين، وعلامة تعجبٍ لا غير.
مات حرفي بالأمسِ موتَتهُ الأخيرة، وماتت روحه من قبل مرَّاتٍ عِدَّة، مات وانفضَّ عنه القوم على بكرةِ أبيهم، بعد أن كانوا كالبنيانِ المرصوصِ بعضهم في إثرِ بعضٍ، لا يتخلَّف منهم أحد، وكأنَّه لم يكن يومًا حرفًا مثلهم؛ لم يتحدَّث بلسانهم، ولم يسرِ على الورقِ مَسراه كبني جلدتهم، فوقع فيه ما وقَع، وهلكَ وحِيدًا في غُربته.
مات حرفي ثم نقشتُ رِثائي على جدارِ قبرِه الصغير:
وكَأنَّي مثلُ حَرفِي مثلُ قَلبِي
مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ الحُزنِ مُكْتَحِلُ
يَغشَىٰ السَّوَادُ عليَّ إذ يُطَارحُنِي
في مُقْلَتَيَّ كَثِيبٌ مِنه مُنْتَهِلُ
ارقد بسلامٍ يا -قلبي- حرفي.
The Internet is where every single white supremacist mass shooter is being radicalized, But platforms and governments are not taking it seriously.
”أنا هعيد السنة لتالت مرة في أسنان ومقولتش لأهلي عشان كنت وعدتهم السنة اللي فاتت هجيب تقدير، لكن السنادي اتعمل محضر غش ظلم والله بسبب اللي قدامي، واتحرمت من المواد ومعرفش أعمل إيه؟! حاسه إن عمري ومستقبلي ضاعوا، وكل ما أشوف أمي أعيط لوحدي. ضيعت ثقه أهلي فيَّ ومش قادرة أهون على نفسي!“ سألتني إحداهنَّ، وتذكَّرت حالي حينها.
وقلت: أعتقد ٦ أيام من سؤالك كافية إنك تكوني هديتِ ومستعدة تتلقي الإجابة بعقلانيَّة. أعتقد إنك بتهزي رأسك دلالة على الموافقة، فهدخل بدوري في الكلام على طول.
حضرتك قررتِ، تخيُّلًا يعني، إنك تخرجي مع صديقتك شادية للترفيه لمدة ساعتين فقط. خلال الساعتين قدامك اختيارين: تدخلوا سينما، أو تتمشوا على كورنيش إسكندرية. شادية أقنعتك بمشاهدة فيلم مصري جديد وعامل ضجة، وبالفعل اخترتم دخول الفيلم. دفعتوا ٤٠٠ جنيه لأنه حصري والسينما في محطة الرمل وفيه باد بويز جوه كتير. لكن الفيلم وا أسفاه طلع ممل، وده شيء بديهي معروف سببه؛ إن أي شيء متعلق بمصر فهو فاشل. وبعد صبر ساعة، لقيتِ نفسك مش مستقرة ومتنرفزة وعايزة تخبطي شادية في الكرسي اللي قدامك؛ وأتمنى يكون حصل.
المعطيات كده اتغيرت: فاضلكم ساعة فسحة بدل ساعتين، وتم دفع الفلوس بالفعل. والسؤال المطروح: نخرج بره السينما ونستغل الساعة الباقية في المشي، ولا نفضل عشان الفلوس ماتروحش علينا؟
الأغلبية هيقولوا: "٤٠٠ جنيه مقابل فيلم سيء، أفضل من ٤٠٠ مقابل «نص» فيلم سيء." ودي واقعيًّا مغالطة منطقية شهيرة معروفة بـ Sunk-Cost fallacy. ودي معلومة إثرائية من فريد عمارة.
واختصارًا: في كل مرة يواجه فيها المرء قرارًا خاصًّا لديه، يقع تأثير هذا القرار على مستقبله لا على ماضيه، وفي حين أن بعض القرارات «تعطي معنىً للماضي»، لكنها لا تغيِّره. لكنها، وبكل تأكيد، ستغير المستقبل.
الحقيقة إن الـ ٤٠٠ جنيه اندفعوا ومش هيرجعوا، والاختيار الصح دلوقت: "بين النص الثاني من الفيلم السيء، ولا نتمشى على الكورنيش؟" والصيغة دي ألطف بكتير.
الثلاث سنوات اللي سقطتِ فيهم راحوا خلاص، والقرار المتاح أمامك الآن أصبح في اللي جاي مش اللي راح. ده لا يعني بالضرورة أن القرار الأمثل هو دفعي لكِ لتغيري المجال وتحويلك لكلية أخرى -خاصةً لو كنتِ في سنواتكِ الأخيرة- لإن مش شرط التخصص اللي ماجربتيهوش أفضل من اللي جربتيه. بل جائز رسوبك زي ما قلتِ لأسباب خارجية بعيدة عن ألم الأسنان وفهمك لطبيعة مواد الطب. لكن إذا كان المانع الحقيقي خوفكِ من الثلاث سنوات ولقب دكتورة والبرستيج اللي هيضيع ونظرة أهلك ليكِ؛ فتوكلي على اللّٰه وانقذي اللي جاي أحسن.
وأخيرًا، بالنسبة للمواجهة، فعاجلًا أم آجلًا أهلك هيعرفوا، ولا أظن أن خوفكِ من المستقبل أهون عندك من خوفكِ من الأهل؛ وإلا يبقى عندك مشكلة ثقة داخلية ولازم تعالجيها. أنا كان عندي نفس المشكلة دي، وواجهتهم برضه، بس للأسف كان متأخر شوية، وضيعت بدل التلاتة خمسة.
فأرجوكِ سيدتي، ماتغلطيش غلطتي.
وقلت: أعتقد ٦ أيام من سؤالك كافية إنك تكوني هديتِ ومستعدة تتلقي الإجابة بعقلانيَّة. أعتقد إنك بتهزي رأسك دلالة على الموافقة، فهدخل بدوري في الكلام على طول.
حضرتك قررتِ، تخيُّلًا يعني، إنك تخرجي مع صديقتك شادية للترفيه لمدة ساعتين فقط. خلال الساعتين قدامك اختيارين: تدخلوا سينما، أو تتمشوا على كورنيش إسكندرية. شادية أقنعتك بمشاهدة فيلم مصري جديد وعامل ضجة، وبالفعل اخترتم دخول الفيلم. دفعتوا ٤٠٠ جنيه لأنه حصري والسينما في محطة الرمل وفيه باد بويز جوه كتير. لكن الفيلم وا أسفاه طلع ممل، وده شيء بديهي معروف سببه؛ إن أي شيء متعلق بمصر فهو فاشل. وبعد صبر ساعة، لقيتِ نفسك مش مستقرة ومتنرفزة وعايزة تخبطي شادية في الكرسي اللي قدامك؛ وأتمنى يكون حصل.
المعطيات كده اتغيرت: فاضلكم ساعة فسحة بدل ساعتين، وتم دفع الفلوس بالفعل. والسؤال المطروح: نخرج بره السينما ونستغل الساعة الباقية في المشي، ولا نفضل عشان الفلوس ماتروحش علينا؟
الأغلبية هيقولوا: "٤٠٠ جنيه مقابل فيلم سيء، أفضل من ٤٠٠ مقابل «نص» فيلم سيء." ودي واقعيًّا مغالطة منطقية شهيرة معروفة بـ Sunk-Cost fallacy. ودي معلومة إثرائية من فريد عمارة.
واختصارًا: في كل مرة يواجه فيها المرء قرارًا خاصًّا لديه، يقع تأثير هذا القرار على مستقبله لا على ماضيه، وفي حين أن بعض القرارات «تعطي معنىً للماضي»، لكنها لا تغيِّره. لكنها، وبكل تأكيد، ستغير المستقبل.
الحقيقة إن الـ ٤٠٠ جنيه اندفعوا ومش هيرجعوا، والاختيار الصح دلوقت: "بين النص الثاني من الفيلم السيء، ولا نتمشى على الكورنيش؟" والصيغة دي ألطف بكتير.
الثلاث سنوات اللي سقطتِ فيهم راحوا خلاص، والقرار المتاح أمامك الآن أصبح في اللي جاي مش اللي راح. ده لا يعني بالضرورة أن القرار الأمثل هو دفعي لكِ لتغيري المجال وتحويلك لكلية أخرى -خاصةً لو كنتِ في سنواتكِ الأخيرة- لإن مش شرط التخصص اللي ماجربتيهوش أفضل من اللي جربتيه. بل جائز رسوبك زي ما قلتِ لأسباب خارجية بعيدة عن ألم الأسنان وفهمك لطبيعة مواد الطب. لكن إذا كان المانع الحقيقي خوفكِ من الثلاث سنوات ولقب دكتورة والبرستيج اللي هيضيع ونظرة أهلك ليكِ؛ فتوكلي على اللّٰه وانقذي اللي جاي أحسن.
وأخيرًا، بالنسبة للمواجهة، فعاجلًا أم آجلًا أهلك هيعرفوا، ولا أظن أن خوفكِ من المستقبل أهون عندك من خوفكِ من الأهل؛ وإلا يبقى عندك مشكلة ثقة داخلية ولازم تعالجيها. أنا كان عندي نفس المشكلة دي، وواجهتهم برضه، بس للأسف كان متأخر شوية، وضيعت بدل التلاتة خمسة.
فأرجوكِ سيدتي، ماتغلطيش غلطتي.
دخل ربعيٌّ بن عامرٍ على عظيم فارس، فقال له: “إن اللّٰه ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادةِ العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيقِ الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينِه إلى خلقِه لندعوهم إليه، فمن قَبِلَ ذلك قبِلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبَى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله.” ويا نِعْمَ ما قال.
هكذا أفصح الصحابي، وهكذا كانت عقيدته، وهو ما هو؛ مبعوثٌ لا يملك من الدنيا إلا ثوبه وسيفه وبعيره الذي يركبه، لكن قلبه مُستَغنٍ بالله مُستعْلٍ بالحق متعلِّق بالآخرة. وإني لأحسبُ أنَّه لما جاء الإسلام، وتغلغل في شبه جزيرة العرب، حيث البادية والجاهليَّة والقبائل شيعٌ متفرِّقون، انتقل بالناس من عبثيَّة الفكرة إلى مركزيَّة العقيدة، ومن سطحيَّة المعتقد إلى رسوخ القيم، ومن الجهل بالنفس وتحقيرها وإفسادِ فِطرتها إلى تنزيهها وإحكام سيرها وتنوير ظلمتها، ثم إخضاعها لأمر إلهٍ حكيمٍ قادرٍ لا شريك له في ملكه وخلقه وجبروته. ثم هداهم اللّٰه وجعلَ لهم شِرعةً ومنهاجًا، وطارئقَ عددًا، وجمع شملهم تحت رايةٍ واحدةٍ فيها العربيُّ والأعجميُّ على حدٍّ سواء؛ لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح. ولا يفصلنَّ بينهم حدودٌ ولا أقطار، ولا يمتاز فيهم لونٌ عن لونٍ ولا عرق عن عرق، ففتحوا البلاد، ووحَّدوا العباد، وناطحوا بسيوفهم وإيمانهم أباطرةَ الروم والفرس والعجم والبربر، حتَّىٰ اسْتَشْرَى الإسلام وتغلغل، وتمدَّدت أوصاله وحواشيه.
وما أن مُكِّن لهم في الأرض، وعلت شوكَتهم، حتَّى خلعوا عنهم رداءَ العقيدة، وتلبَّسوا بالتنوير، وانصهروا بأفكار غيرهم ومعتقداتهم انصهار الحديد في النار. ثم بُهِتوا على ذلك بُهتانًا عظيمًا، وارتدُّوا على أدْبارهم، وتفرَّق شملهم من بعد جمع، وأُطيح بتراثهم من بعد مجد، وشُلَّتْ عقولهم وأقلامهم من بعد عزٍّ وريادةٍ وتمكين. وما أن استشرى داخلهم طاعون الفساد والضعف والعجز، كُبكِبوا على وجوهم خاسرين متفرِّقين شيعًا، يناطحهم الغرباء والغاصبين من كل حدبٍ وصوب، يكيدون لهم كيدًا عند كل مقام، ويزرعون بينهم أنصارًا لهم ينفثون سموم الخيانة والغدر والظلم، وتقهقروا داخل حدودٍ رُسمت لهم فلا يقربوها، وأخذوا في حُبِّها والدفاع عن فسادها وضلالتها؛ فنسوا كيف تؤكل الشاة حين تَضِلُّ القطيع.
“جاءَ الإسلامُ فخلعَ على العرب هُويَّةً أكبر وأعظم من هُويَّةً العِرق والنسب والانتماء لجغرافيا معينة. فمن قدَّمَ العروبة أو الوطنيَّة أو القبليَّة على تلك الهُويَّة، فقد قدَّمَ ما أخَّره اللّٰه، وأخَّرَ ما قدَّمهُ اللّٰه.”
وصدق الفريد علي حين قال:
كل الطرقِ تؤدِّي إلى الأشْعَثِ الأغبَر.
هكذا أفصح الصحابي، وهكذا كانت عقيدته، وهو ما هو؛ مبعوثٌ لا يملك من الدنيا إلا ثوبه وسيفه وبعيره الذي يركبه، لكن قلبه مُستَغنٍ بالله مُستعْلٍ بالحق متعلِّق بالآخرة. وإني لأحسبُ أنَّه لما جاء الإسلام، وتغلغل في شبه جزيرة العرب، حيث البادية والجاهليَّة والقبائل شيعٌ متفرِّقون، انتقل بالناس من عبثيَّة الفكرة إلى مركزيَّة العقيدة، ومن سطحيَّة المعتقد إلى رسوخ القيم، ومن الجهل بالنفس وتحقيرها وإفسادِ فِطرتها إلى تنزيهها وإحكام سيرها وتنوير ظلمتها، ثم إخضاعها لأمر إلهٍ حكيمٍ قادرٍ لا شريك له في ملكه وخلقه وجبروته. ثم هداهم اللّٰه وجعلَ لهم شِرعةً ومنهاجًا، وطارئقَ عددًا، وجمع شملهم تحت رايةٍ واحدةٍ فيها العربيُّ والأعجميُّ على حدٍّ سواء؛ لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح. ولا يفصلنَّ بينهم حدودٌ ولا أقطار، ولا يمتاز فيهم لونٌ عن لونٍ ولا عرق عن عرق، ففتحوا البلاد، ووحَّدوا العباد، وناطحوا بسيوفهم وإيمانهم أباطرةَ الروم والفرس والعجم والبربر، حتَّىٰ اسْتَشْرَى الإسلام وتغلغل، وتمدَّدت أوصاله وحواشيه.
وما أن مُكِّن لهم في الأرض، وعلت شوكَتهم، حتَّى خلعوا عنهم رداءَ العقيدة، وتلبَّسوا بالتنوير، وانصهروا بأفكار غيرهم ومعتقداتهم انصهار الحديد في النار. ثم بُهِتوا على ذلك بُهتانًا عظيمًا، وارتدُّوا على أدْبارهم، وتفرَّق شملهم من بعد جمع، وأُطيح بتراثهم من بعد مجد، وشُلَّتْ عقولهم وأقلامهم من بعد عزٍّ وريادةٍ وتمكين. وما أن استشرى داخلهم طاعون الفساد والضعف والعجز، كُبكِبوا على وجوهم خاسرين متفرِّقين شيعًا، يناطحهم الغرباء والغاصبين من كل حدبٍ وصوب، يكيدون لهم كيدًا عند كل مقام، ويزرعون بينهم أنصارًا لهم ينفثون سموم الخيانة والغدر والظلم، وتقهقروا داخل حدودٍ رُسمت لهم فلا يقربوها، وأخذوا في حُبِّها والدفاع عن فسادها وضلالتها؛ فنسوا كيف تؤكل الشاة حين تَضِلُّ القطيع.
“جاءَ الإسلامُ فخلعَ على العرب هُويَّةً أكبر وأعظم من هُويَّةً العِرق والنسب والانتماء لجغرافيا معينة. فمن قدَّمَ العروبة أو الوطنيَّة أو القبليَّة على تلك الهُويَّة، فقد قدَّمَ ما أخَّره اللّٰه، وأخَّرَ ما قدَّمهُ اللّٰه.”
وصدق الفريد علي حين قال:
كل الطرقِ تؤدِّي إلى الأشْعَثِ الأغبَر.
سرِّي صغيرٌ كنملةٍ عرجاءٍ فقدت أثر القطيع من أثر التعب، وبقيت على حالها هائمة حتى هلكت. سرِّي كبيرٌ حد السماء، بل أكبر إن لزم الأمر، لا يسعه كتفُ امرئٍ لحمل أوزاره التي أثقلت صاحبه. سرِّي بسيطٌ، غريبٌ، مريبٌ، فيه من الحزن صاعين، ومن الحبِّ طعنة، ومن الخوف عشرًا، ومن الصبر الكفاية، ومن الرضا الكفاف. سرِّي رهيفٌ، مخيفٌ، حتى أنا أخافه شخصيًّا، وأراه أحيانًا كسرِّ امرئٍ آخر غيري، وأحايين أخرى أفرُّ منه فرار الخلاص. سرِّي، عسيرٌ، كثيرٌ، كسيرٌ ككسرِ صاحبه؛ يتألم به ويداوي به ويهرب منه إليه. سرِّي سرى مسراه من الرفاق إلى الفراق، ومن القريب إلى الغريب، ومن السليم إلى السقيم، ومنِّي إلى مولاى؛ وهنا استقر.
تتمحور حياتنا هذه حول حقيقتان جوهريتان لا مناص منهما: الموت، وفقه العلاقات. فأمَّا ذكر الأولى؛ فلا يغفل عنها إلا غافل. وأمَّا في ذكر الثانية؛ فهناك ترتيبٌ دقيقٌ يضبط قواعدها من أدركه أراح واستراح: اللّٰه، النفس، ثم الآخر. أي خللٍ في هذا الترتيب باطِل. أي علاقةٍ بشريةٍ نعظِّم فيها الآخر دون النفس، أو نعظِّم فيها النفس دون اللّٰه فاسدة. كل زوجةٍ تربطها علاقةٌ مرضيةٌ بزوجها، فتحيدها -ولو قليلًا- عن علاقتها بربِّها فقد هلكت حيث أرادت النجاة. كل والدٍ يقدِّم تربية الولد عن تربية النفس وتزكيتها فقد ضَلَّ وأضَلّ. كل حبيبن، صديقين، خليلين، يقدمان رضا المخلوق عن رضا الخالق، فقد قدَّما ما أخَّره اللّٰه، وأخَّرا ما قد قدَّمه اللّٰه؛ فسخط اللّٰه عليهم، وأسخط من قدَّموهم عليه. فمن أدرك تلك العلاقة بحذافيرها وفَقِهَ ترتيبها، واعتزل الناس إلى ربِّ الناس، واستئنس بمن يطيب معه الأُنس والراحة والطمأنينة، فقد حِيزت له الدنيا وغَنِمَ الآخرة؛ ولا أدرى أي غنيمة بعد تلك يتمناها ابن آدم. واللّٰه أعلى وأعلم.