انصحني للّٰه.
- “Do you never worry?”
- “Would it help?” (In a tone that is politely curious)
في ملحمة Bridge of Spies الرائعة، ذُكرت الجملتين دول أكثر من مرة -مع اختلاف المكان والحدث- بين المحامي الأمريكي James Donovan وموكله الجاسوس الروسي Rudolf Abel.
لو فكرت شوية في رد فعل الجاسوس -الذي قد وجهت إليه تهمة الخيانة- عندما سأله المحامي ليحاول تقصى حالته النفسية الهادئة بغرابة عن المعتاد، هتحس إن دي اللحظة الوحيدة اللي المفروض ترتعد فيها فرائص المرء من الخوف والقلق والتوتر. ولم لا؟ وهو على مشارف الموت -أو المؤبد على أقل تقدير- وحيدًا غريبًا عن أهله ووطنه.
لكن كان رده مثاليًّا صادمًا: هل سيجدي ذلك نفعًا؟! هل قلقي هيغير من الأمر شيء؟ هل سيتبدل الحكم نظرًا لقطرات العرق الذي يتصبب مني؟ بالطبع الإجابة لا. قضاء اللّٰه وقدره نافذان لا محالة. إذن التهويل والخوف والهلع لن يغيروا في الأمر شيء. هذا ما تعلمته وترسَّخ بي خلال الفترة الراهنة، وهذا ما فطنته بعد العديد والعديد من الشدائد والأزمات التي لحقت بي: لا تفرط في الخوف من المقدور؛ فلا عاصم من قدر اللّٰه إلا بقدر اللّٰه.
عَن أُبَيِّ بنِ كعبٍ قال: إنَّ اللَّهَ لو عذَّبَ أهلَ سماواتِهِ وأهلَ أرضهِ لعذَّبَهم وهوَ غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحِمَهم لكانَت رحمتُهُ خيرًا لهم من أعمالِهم، ولو أنفقتَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما قِبلَ اللَّهُ منكَ حتَّى تؤمنَ بالقدَرِ، وتعلمَ أنَّ ما أصابَكَ لم يكن ليخطئَكَ، وما أخطأكَ لم يكُن ليصيبَكَ، ولو متَّ على غيرِ ذلك لكنتَ من أهلِ النَّار.
ولا حول ولا قوة إلا باللّٰه؛ فلا حول عن معصية اللّٰه إلا باللّٰه، ولا قوة على طاعته إلا به.
وتلك هي نصيحتي لك.
- “Do you never worry?”
- “Would it help?” (In a tone that is politely curious)
في ملحمة Bridge of Spies الرائعة، ذُكرت الجملتين دول أكثر من مرة -مع اختلاف المكان والحدث- بين المحامي الأمريكي James Donovan وموكله الجاسوس الروسي Rudolf Abel.
لو فكرت شوية في رد فعل الجاسوس -الذي قد وجهت إليه تهمة الخيانة- عندما سأله المحامي ليحاول تقصى حالته النفسية الهادئة بغرابة عن المعتاد، هتحس إن دي اللحظة الوحيدة اللي المفروض ترتعد فيها فرائص المرء من الخوف والقلق والتوتر. ولم لا؟ وهو على مشارف الموت -أو المؤبد على أقل تقدير- وحيدًا غريبًا عن أهله ووطنه.
لكن كان رده مثاليًّا صادمًا: هل سيجدي ذلك نفعًا؟! هل قلقي هيغير من الأمر شيء؟ هل سيتبدل الحكم نظرًا لقطرات العرق الذي يتصبب مني؟ بالطبع الإجابة لا. قضاء اللّٰه وقدره نافذان لا محالة. إذن التهويل والخوف والهلع لن يغيروا في الأمر شيء. هذا ما تعلمته وترسَّخ بي خلال الفترة الراهنة، وهذا ما فطنته بعد العديد والعديد من الشدائد والأزمات التي لحقت بي: لا تفرط في الخوف من المقدور؛ فلا عاصم من قدر اللّٰه إلا بقدر اللّٰه.
عَن أُبَيِّ بنِ كعبٍ قال: إنَّ اللَّهَ لو عذَّبَ أهلَ سماواتِهِ وأهلَ أرضهِ لعذَّبَهم وهوَ غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحِمَهم لكانَت رحمتُهُ خيرًا لهم من أعمالِهم، ولو أنفقتَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما قِبلَ اللَّهُ منكَ حتَّى تؤمنَ بالقدَرِ، وتعلمَ أنَّ ما أصابَكَ لم يكن ليخطئَكَ، وما أخطأكَ لم يكُن ليصيبَكَ، ولو متَّ على غيرِ ذلك لكنتَ من أهلِ النَّار.
ولا حول ولا قوة إلا باللّٰه؛ فلا حول عن معصية اللّٰه إلا باللّٰه، ولا قوة على طاعته إلا به.
وتلك هي نصيحتي لك.
تاللّٰهِ فوق عرشه، وبحقِّ الحبِّ الذي أضمره، والاكتفاء الذي أدَّعيه، ما أخشى عليكِ شيئًا أعظم منِّ نفسي التي بين جنبَيَّ، من خوفي الدائم وقلقي الدميم، من حزني الذي تلبَّس بي دهرًا فأرهق كاهلي؛ أن ينتهي بنا الحال صراعًا نتخبَّط من المسِّ، نتساءل: من أشدُّ بأسًا بيننا في تحمُّل شقاء الآخر؟ فبؤسًا للحزن الحقير.
فاجئني اليوم تذكيرٌ من إدارة "الفيس بوك" بأحد خيارين، وعليَّ الاختيار بينهما: نقل ملكية صفحتي الشخصية إلى صديقٍ أو عزيزٍ مقرَّبٍ ليتولى إدارتها بعد رحيلي، أو حذفها نهائيًّا من الوجود وكأنها لم تكن لها قائمة.
ثم تساءلت: هل أصبح وجود المرء مرهونًا في ذاكرة الآخرين بضغطةِ زرٍّ لعينة؟ أليس لكم الصور والحروف التي يخطُّها، والذكريات التي ينسجها، والإنجازات الشخصية التي اكتسبها، والمقامات الاجتماعية التي اعتلاها، والدرجات العلمية التي اكتسبها ويتشدُّق بها أي أثرٍ في دنياه البائسة الرخيصة تلك؟ وهل ستكون شفيعًا له أم عليه في عليِّين، عن ربِّ قديرٍ حكيم؟
أحيانًا قد تختنق حروفي كما أفكاري وهواجِسِي، فلا أجد متنفَّسًا لها ولي، ولا أجدُنِي منها إلَّا كعجوزٍ قد وهنَ العظمُ منه واشْتعلَ الرأسُ شَيبًا، ولا ينتظر شيئًا من الدنيا بقدرِ ما ينتظر الرحيل عنها. وما رجائي فيها إلا بعض الصبر الذي أصبح ثقيلًا في حدِّ ذاته.
ذكرت سابقًا -وما زلت على حالي- أني أخافُ الموتَ كثيرًا، ربما أكثر من أي وقتٍ مضَى، أراه يقترب منِّي كظلِّي، كليثٍ في البراري على مقربةٍ من رأسِ فريسته. فلم يعد يفارقني طيفه، حضرًا أو سفرًا، وحدي أو مع آخرين. فما الموت إلَّا حقيقةٌ مؤجلةٌ يخشاها الناس بقدر إيمانهم بها، أو تغافلهم عنها. وهذا صعب وقاسٍ جدًا في حقيقة الأمر، وعليَّ القبول بهذا شئت أم أبيت.
أخبرني صاحبي مرةً: "إنني لا أخاف الموت لذاته، ولكني أخاف توابعه. فأي أحمقٍ أنا حتَّىٰ لا أخاف، وأي مسكينٍ أنا حين ينفضّ الناس عنِّي!" لقد كان محقًّا فيما قال. في الغالب، ومن بابِ الدِقّة والبيان، أنا مثله؛ ربما لا أخشَى قدومه -فهو آتٍ لا مَحالة- بقدرِ الحال الذي سيأتيني عليه، ومتى سيحين ذلك؟ أفِي طريقٍ يتخطَّفني، أم على سريرٍ ينتظرني؟ لقد كنت الصاحب ذاته الذي أخبرني.
والحقيقة أنَّنِي لم أترك شيئًا ورائي قابلًا للذكر، ربما كلمةً أو اثنتين شاركتها مع أحدهم، وربما خططت بقلمي بعضُ حروفٍ عن شيءٍ ما قد آمنت به، وربما تركت أثرًا حسنًا في صدور البعض، وربما العكس ولم أدرى، وأحيانًا لا أهتم كثيرًا. فالبشر على حدٍّ سواء، أغلب الظن، يتناسون بعضهم بين ليلةٍ وضحاها، والبعض يتذكر أكثر من هذا بقليل، وآخرون قد يؤثروك في دعائهم؛ كالأم مثلًا. لكن في النهاية، رويدًا رويدًا، ستصبح ذكرى مرورية في طور النسيان؛ تلك فطرة البشر، وعليها جبلوا وعاشوا.
فيا موت: واللَّه إنِّي لأخشى ما أخشاه أن يكلني اللَّه إلى نفسِي فتهلكني، وأن أنافسَ الدنيا فأنسَى بها الآخرة، وألا ينظُر اللَّه لي بعين الرضا فأخسر هذه وتلك.
والعقبىٰ لمن أدرك قبل أن يُستدرك.
ثم تساءلت: هل أصبح وجود المرء مرهونًا في ذاكرة الآخرين بضغطةِ زرٍّ لعينة؟ أليس لكم الصور والحروف التي يخطُّها، والذكريات التي ينسجها، والإنجازات الشخصية التي اكتسبها، والمقامات الاجتماعية التي اعتلاها، والدرجات العلمية التي اكتسبها ويتشدُّق بها أي أثرٍ في دنياه البائسة الرخيصة تلك؟ وهل ستكون شفيعًا له أم عليه في عليِّين، عن ربِّ قديرٍ حكيم؟
أحيانًا قد تختنق حروفي كما أفكاري وهواجِسِي، فلا أجد متنفَّسًا لها ولي، ولا أجدُنِي منها إلَّا كعجوزٍ قد وهنَ العظمُ منه واشْتعلَ الرأسُ شَيبًا، ولا ينتظر شيئًا من الدنيا بقدرِ ما ينتظر الرحيل عنها. وما رجائي فيها إلا بعض الصبر الذي أصبح ثقيلًا في حدِّ ذاته.
ذكرت سابقًا -وما زلت على حالي- أني أخافُ الموتَ كثيرًا، ربما أكثر من أي وقتٍ مضَى، أراه يقترب منِّي كظلِّي، كليثٍ في البراري على مقربةٍ من رأسِ فريسته. فلم يعد يفارقني طيفه، حضرًا أو سفرًا، وحدي أو مع آخرين. فما الموت إلَّا حقيقةٌ مؤجلةٌ يخشاها الناس بقدر إيمانهم بها، أو تغافلهم عنها. وهذا صعب وقاسٍ جدًا في حقيقة الأمر، وعليَّ القبول بهذا شئت أم أبيت.
أخبرني صاحبي مرةً: "إنني لا أخاف الموت لذاته، ولكني أخاف توابعه. فأي أحمقٍ أنا حتَّىٰ لا أخاف، وأي مسكينٍ أنا حين ينفضّ الناس عنِّي!" لقد كان محقًّا فيما قال. في الغالب، ومن بابِ الدِقّة والبيان، أنا مثله؛ ربما لا أخشَى قدومه -فهو آتٍ لا مَحالة- بقدرِ الحال الذي سيأتيني عليه، ومتى سيحين ذلك؟ أفِي طريقٍ يتخطَّفني، أم على سريرٍ ينتظرني؟ لقد كنت الصاحب ذاته الذي أخبرني.
والحقيقة أنَّنِي لم أترك شيئًا ورائي قابلًا للذكر، ربما كلمةً أو اثنتين شاركتها مع أحدهم، وربما خططت بقلمي بعضُ حروفٍ عن شيءٍ ما قد آمنت به، وربما تركت أثرًا حسنًا في صدور البعض، وربما العكس ولم أدرى، وأحيانًا لا أهتم كثيرًا. فالبشر على حدٍّ سواء، أغلب الظن، يتناسون بعضهم بين ليلةٍ وضحاها، والبعض يتذكر أكثر من هذا بقليل، وآخرون قد يؤثروك في دعائهم؛ كالأم مثلًا. لكن في النهاية، رويدًا رويدًا، ستصبح ذكرى مرورية في طور النسيان؛ تلك فطرة البشر، وعليها جبلوا وعاشوا.
فيا موت: واللَّه إنِّي لأخشى ما أخشاه أن يكلني اللَّه إلى نفسِي فتهلكني، وأن أنافسَ الدنيا فأنسَى بها الآخرة، وألا ينظُر اللَّه لي بعين الرضا فأخسر هذه وتلك.
والعقبىٰ لمن أدرك قبل أن يُستدرك.
انصحني نصيحةً لمن في عمر الثامنة عشرة.
• لا تتعمق في مساحات الآخرين فيصيبك ما لا تحتمل. واترك الحبل غير آسفٍ إذا ما اشتد طرفه الذي في يمينك وارتخى عنك الآخر. والناس على أعقابهم؛ فلتكن راحتك في عزلتك إذا ما انفضُّوا عنك. وصلاتك نجاتك؛ فرِّط فيما سواها ولا تقربها. وذكرُ اللّٰه دائمًا خير. ولست أدري بعد ذلك شيئًا أسألك عنه.
• لا تتعمق في مساحات الآخرين فيصيبك ما لا تحتمل. واترك الحبل غير آسفٍ إذا ما اشتد طرفه الذي في يمينك وارتخى عنك الآخر. والناس على أعقابهم؛ فلتكن راحتك في عزلتك إذا ما انفضُّوا عنك. وصلاتك نجاتك؛ فرِّط فيما سواها ولا تقربها. وذكرُ اللّٰه دائمًا خير. ولست أدري بعد ذلك شيئًا أسألك عنه.
أنا وحيدة ومغتربة للدراسة وبعيدة عن أهلي ومش قادرة أذاكر وعندي امتحانات والحياة حلوة؛ انصحني.
= بصي يا بنت الناس. أكتر بنات الناس، وشبان الناس، مغتربين عن أهاليهم لسببٍ أو لآخر. فاكس الشباب دلوقت. فاكس الشباب عشان إحنا بغال، وناضجين، ومهما اشتد الأمر فمش هيجي جنب غربة الجيش أو السفر للخارج يعني؛ وده لأنه منوط بينا وسنة من سنن الحياة عادي. فخلينا فيكن أنتم كبنات.
الأمر صعب. أنا عارف ومتأكد. يزيد من الصعوبة إذا كانت الإقامة وحشة، أو شلة البنات اللي ساكنين معكِ مش نفس ميولك ولا اتجاهاتك وفيهم من السوء البدع ولبستِ فيهم غصب عنك. أو لو المذاكرة نفسها بعافية شوية، وبتدرسي في كلية عملية رخمة فيها عك كتير وكويزات أكتر وامتحانات وهم أسود غامق. هو الأسود غامق بطبعه عمومًا. وآخر حاجة داخلة الشتا والفراغ العاطفي والجو العام البائس، والليل الحزين، البعيد عن اليوسفي والبرتقال والعدس ولمة العيلة أمام فيلم درامي شيق ولذيذ.
أنا عارف ومتأكد من كل ده. ودي تاني مرة أأكد على معرفتي بهول الوضع ومآلاته. لكن يا سيدتي أنتِ تقدري تعدي وتتجاوزي عشان تنقلي للي بعده وتخلصي. أكيد عايزة تخلصي. كل واحد فينا عايز يخلص من شيء. كل واحد فينا بيواجه محنة أو بلاء بيقف دايمًا أمام أحد طريقين: التأقلم مع الوضع الراهن لغاية ما يعدي، أو الاستسلام واليأس والقنوط وارتداء رداء الضعف والهبد والندب لغاية ما يعدي برضه.
مش هقدر أنصحك بالطريق بالتاني لأنه حلقة مفرغة سخيفة مافيش مخرج منها. فقط معاناة وتعب ومرض نفسي وتلقيح كلام من الأهل بلا داعي وشفقة من الغير. وفي النهاية خسارة درجات، وخسارة نفسية، وخسارة الدوري نفسه.
لكن أقدر جدًّا أنصحك إنك تشقي الطريق الأول. حتى ولو مجرد تعكز على الصبر في جنباته. ساعتها هتوصلي. ساعتها هتحسي إن الأمر أحيانا بيكون كبير بسبب تهويلنا الشخصي له. وإننا لو غيرنا نظرتنا وتعاملنا بس واستعوضنا ربنا وأخلصنا النية للّٰه ولطلب العلم، هنحس فعلًا بالراحة والرضا حتى لو المحيط العام مايشجعش على شيء.
أنا مش بقولك لازم تعاني. رغم أن المعاناة هي سمة الحياة الدنيا. بس بحاول أدفعك إنك تحوِّلي المعاناة المحيطة بيكِ لأشياء تدخل السرور على قلبك: اخرجي اتمشي على أي كورنيش وكلي آيس كريم. كلي آيس كريم يا أفندم. كلمي أهلك كل يوم شوية، فودافون بتقدم دقائق مجاني لو جيبك منفض زيي. تعرفي على صديقة محترمة بنت ناس ومش بتخرج شعرها من الطرحة فتقلل احساسك بالغربة. روحي مسجد الكلية أو مكتبة عامة واشغلي وقتك بالقراءة أو بجلسة تزكية مع النفس. اتشقلبي في الأوضة وخلي الجيران يهاجروا ويسيبوا الشقة خالص وتبقي بنت أبوكي بجد. اتصرفي يا مدموزيل كأنك داخلة على زواج وعيال ومسؤولية بالظبط. اتصرفي كأنك فتاة أمازيغية تطارد ذئبًا في البراري يأكل أخاه. لازم تشعري بالمسؤولية لأنها مفروضة عليكِ عاجلًا أم آجلًا. وبس كده.
مطرًا غزيرًا جميلًا على قلبك.
= بصي يا بنت الناس. أكتر بنات الناس، وشبان الناس، مغتربين عن أهاليهم لسببٍ أو لآخر. فاكس الشباب دلوقت. فاكس الشباب عشان إحنا بغال، وناضجين، ومهما اشتد الأمر فمش هيجي جنب غربة الجيش أو السفر للخارج يعني؛ وده لأنه منوط بينا وسنة من سنن الحياة عادي. فخلينا فيكن أنتم كبنات.
الأمر صعب. أنا عارف ومتأكد. يزيد من الصعوبة إذا كانت الإقامة وحشة، أو شلة البنات اللي ساكنين معكِ مش نفس ميولك ولا اتجاهاتك وفيهم من السوء البدع ولبستِ فيهم غصب عنك. أو لو المذاكرة نفسها بعافية شوية، وبتدرسي في كلية عملية رخمة فيها عك كتير وكويزات أكتر وامتحانات وهم أسود غامق. هو الأسود غامق بطبعه عمومًا. وآخر حاجة داخلة الشتا والفراغ العاطفي والجو العام البائس، والليل الحزين، البعيد عن اليوسفي والبرتقال والعدس ولمة العيلة أمام فيلم درامي شيق ولذيذ.
أنا عارف ومتأكد من كل ده. ودي تاني مرة أأكد على معرفتي بهول الوضع ومآلاته. لكن يا سيدتي أنتِ تقدري تعدي وتتجاوزي عشان تنقلي للي بعده وتخلصي. أكيد عايزة تخلصي. كل واحد فينا عايز يخلص من شيء. كل واحد فينا بيواجه محنة أو بلاء بيقف دايمًا أمام أحد طريقين: التأقلم مع الوضع الراهن لغاية ما يعدي، أو الاستسلام واليأس والقنوط وارتداء رداء الضعف والهبد والندب لغاية ما يعدي برضه.
مش هقدر أنصحك بالطريق بالتاني لأنه حلقة مفرغة سخيفة مافيش مخرج منها. فقط معاناة وتعب ومرض نفسي وتلقيح كلام من الأهل بلا داعي وشفقة من الغير. وفي النهاية خسارة درجات، وخسارة نفسية، وخسارة الدوري نفسه.
لكن أقدر جدًّا أنصحك إنك تشقي الطريق الأول. حتى ولو مجرد تعكز على الصبر في جنباته. ساعتها هتوصلي. ساعتها هتحسي إن الأمر أحيانا بيكون كبير بسبب تهويلنا الشخصي له. وإننا لو غيرنا نظرتنا وتعاملنا بس واستعوضنا ربنا وأخلصنا النية للّٰه ولطلب العلم، هنحس فعلًا بالراحة والرضا حتى لو المحيط العام مايشجعش على شيء.
أنا مش بقولك لازم تعاني. رغم أن المعاناة هي سمة الحياة الدنيا. بس بحاول أدفعك إنك تحوِّلي المعاناة المحيطة بيكِ لأشياء تدخل السرور على قلبك: اخرجي اتمشي على أي كورنيش وكلي آيس كريم. كلي آيس كريم يا أفندم. كلمي أهلك كل يوم شوية، فودافون بتقدم دقائق مجاني لو جيبك منفض زيي. تعرفي على صديقة محترمة بنت ناس ومش بتخرج شعرها من الطرحة فتقلل احساسك بالغربة. روحي مسجد الكلية أو مكتبة عامة واشغلي وقتك بالقراءة أو بجلسة تزكية مع النفس. اتشقلبي في الأوضة وخلي الجيران يهاجروا ويسيبوا الشقة خالص وتبقي بنت أبوكي بجد. اتصرفي يا مدموزيل كأنك داخلة على زواج وعيال ومسؤولية بالظبط. اتصرفي كأنك فتاة أمازيغية تطارد ذئبًا في البراري يأكل أخاه. لازم تشعري بالمسؤولية لأنها مفروضة عليكِ عاجلًا أم آجلًا. وبس كده.
مطرًا غزيرًا جميلًا على قلبك.
أمَّا قبل؛
فهل أتاكَ نَبأ قُدُومها يا عَمّ؟ هي فتاةٌ دخلت بيتنا عُنْوَة؛ فلا هي التي اسْتأذنَت، ولا هي التي سكنت دون ضجيج. حَصانٌ، رَزانٌ، أعادت ترتيبَ المكان بساكِنيه، وأفرغت كُلَّ متاعها هاهُنا ثُمَّ رحلت حاملةً منه كِفْلين على كفَّيها: عقلي وقلبي؛ أشيائي الصغيرة التي أملِكها أو تملكني هي. رحلت ولم تترك لأصحابِ الدَّار إلَّا الفوضى، وليس لفوضى القلوبِ مَناصٌ من السَّهر والحُمَّىٰ.
يا عمّ، هي فتاةٌ كالسيفِ أو كصانعِه؛ تقطعُ مني بعضًا بيدٍ، وتكوي مُهَجَ الجروح باليدِ الأخرى. هي فتاةٌ كالورد، ورحيقه، وأشواكه؛ تترك في يدي شوكةً، فتنبت في قلبي زهرة. هي فتاةٌ فُتاتٌ حبُّها، أصابني منه شذرٌ، فتُهتُ في أمرى، وانقلبت على أعقابي، وولَّيتُ مدبرًا منها إليها. بل هي فتاةٌ رأيتُ الجمال شاخصًا في عينيها كأنه مُلْك سليمان، وما ملكت أنا إلَّا الخضوع في حضرته؛ لا يهتز لي جفنٌ، ولا يتمتمُ لي لسان.
يا عَمّ، قُصَّ عليَّ من نبئِها لعلِّي أهتدي، إني لقِيتُ من أمري هذا نَصبًا، وخبِّرني: كيف لفتىً مثلي، بسيطُ الهيئةِ، غريب الأطوار، لم يفارق الحبُّ محراب قلبه مُذ فَطِن الدنيا، أن يقع أسيرًا في قبضة أنثى مثلها؟!
أمَّا بعد؛
سيدتي وعزيزتي وقرَّة عيني، أما أن لنا حديثٌ آخر؛ بالعزمِ عقدناه، وإلى العزم عُقد.
فهل أتاكَ نَبأ قُدُومها يا عَمّ؟ هي فتاةٌ دخلت بيتنا عُنْوَة؛ فلا هي التي اسْتأذنَت، ولا هي التي سكنت دون ضجيج. حَصانٌ، رَزانٌ، أعادت ترتيبَ المكان بساكِنيه، وأفرغت كُلَّ متاعها هاهُنا ثُمَّ رحلت حاملةً منه كِفْلين على كفَّيها: عقلي وقلبي؛ أشيائي الصغيرة التي أملِكها أو تملكني هي. رحلت ولم تترك لأصحابِ الدَّار إلَّا الفوضى، وليس لفوضى القلوبِ مَناصٌ من السَّهر والحُمَّىٰ.
يا عمّ، هي فتاةٌ كالسيفِ أو كصانعِه؛ تقطعُ مني بعضًا بيدٍ، وتكوي مُهَجَ الجروح باليدِ الأخرى. هي فتاةٌ كالورد، ورحيقه، وأشواكه؛ تترك في يدي شوكةً، فتنبت في قلبي زهرة. هي فتاةٌ فُتاتٌ حبُّها، أصابني منه شذرٌ، فتُهتُ في أمرى، وانقلبت على أعقابي، وولَّيتُ مدبرًا منها إليها. بل هي فتاةٌ رأيتُ الجمال شاخصًا في عينيها كأنه مُلْك سليمان، وما ملكت أنا إلَّا الخضوع في حضرته؛ لا يهتز لي جفنٌ، ولا يتمتمُ لي لسان.
يا عَمّ، قُصَّ عليَّ من نبئِها لعلِّي أهتدي، إني لقِيتُ من أمري هذا نَصبًا، وخبِّرني: كيف لفتىً مثلي، بسيطُ الهيئةِ، غريب الأطوار، لم يفارق الحبُّ محراب قلبه مُذ فَطِن الدنيا، أن يقع أسيرًا في قبضة أنثى مثلها؟!
أمَّا بعد؛
سيدتي وعزيزتي وقرَّة عيني، أما أن لنا حديثٌ آخر؛ بالعزمِ عقدناه، وإلى العزم عُقد.
I have generalized a shaking symptoms out of my control, and taking place deep inside my mind. This tremors that make me feel intensely fearful, caused by only one devilish monster, and not at all delicate monster as it is; anxiety disorder. My brain is subjected to stress. It goes into fight -or- flight mode. Holes of depression. And once I've admitted, once I've accepted that I'm having a panic or overthinking attack, fighting against my symptoms might make them last longer. But finally, pain is temporary, and always will be.
منذ عامٍ مضى، كنت أصحو وأنام على وميض شاشتي الصغيرة، وسط رنين الإشعارات المتتابع الذي يطرب أذني، ويدغدغ أوصالي، "وكأنه حلم مواطن مصري غلبان بدبلة الخطوبة." كنت أعرف وقتها أني أسيرٌ بالفعل -وقلبي مطاوعني- داخل هذا العالم الافتراضي الذي يعكس الحقيقة الواقعية للحياة؛ "كلنا عارفين إن الواقع مُرّ وسكره قليل."
الإشعارات والأحداث كانت وما زالت هي وقود التواصل الاجتماعي لدى الإنسان. عداد المتابعين والأصدقاء يمثل للمرء حالة من النشوة والمتعة اللحظية والمتجددة. اللايك والقلب الأحمر على صوره الشخصية والتعلقيات المتناثرة على حروفه ومنشوراته يشعرانه فورًا بدائرة بالأمان، بأنه شخصٌ مرغوبٌ فيه، "وإن الدنيا لسه بخير"، وأن العالم ينتظر بلهفة لأن يدلو بدلوه في كل منقلبٍ وعند كل مقام.
السوشيال ميديا، للأسف، هي ملاذ المحبطين واليائسين وكل هائمٍ منكبٍ على وجهه أثقله الفراغ أو هموم الواقع بشتى أنواعها. هنا تحديدًا، يستطيع المرء أن يصبح عالمًا وناقدًا ومحلِّلًا ومفكِّرًا سياسيًّا وأديبًا مُحنَّكًا وداعيةً مخضرمًا ألمَّ بعلم من سبوقه، وفاق علمًا من عاصروه. هنا تحديدًا، يتخلص المرء من نقصه المرير ويتجاوز حدود قدرته التي لا يسعه تجاوزها واقعيًا أمام أناس حقيقيين. لا مجال هاهنا للمناقشة والبحث والتحليل والتقصي، ولا يتطلب الأمر إجازةً أو شهادة خبرة أو منصبًا إداريًّا للتصدر، وليس هناك عيون تحدق إليك وأنت تهذي وتنطق وتناقش. يكفيك فقط هاتفًا محمولًا، وبعض آلافٍ من قطيع المتابعين، ويدًا لا تمل الكتابة، أو فمًا يحسن التفوُّه.
منذ عامٍ مضى كنت أصحو وأنام على جسر متهالكٍ في عالمٍ افتراضي، يشبه كثيرًا تلك العوالم الرقمية التي اعتدت المرور بها داخل ألعابي الإلكترونية العجيبة. هنا شيدت -جاهلًا- قصورًا عاجيةً من العلم والحكمة والفخر والنجاح، وأصابني كذلك الاكتئاب والقلق وفرط التفكير وبراثن الفتن، ورأيت غيري من المرضى الغارقين في نفس القاع لا يودون الخروج منه، أو بالأحرى لا يستطيعون. هنا انفتحت على مِصْراعي عقلي مئات الأسئلة الوجودية، وأثقلت كاهلي حيوات الآخرين ومشاغلهم، وأصابت قلبي شذرات لم أكن أدري لها سبيلًا قط إلا في الكتبِ والروايات.
الآن، وبعد عامٍ مضى، جاهدت نفسي كثيرًا لأعبر الجسر المتهالك وأمضي بنفسي إلى الجهة الأخرى؛ إلى العالم الواقعي الذي تؤلمني حقيقته، لكنها الحقيقة.
وقد عبرت.
الإشعارات والأحداث كانت وما زالت هي وقود التواصل الاجتماعي لدى الإنسان. عداد المتابعين والأصدقاء يمثل للمرء حالة من النشوة والمتعة اللحظية والمتجددة. اللايك والقلب الأحمر على صوره الشخصية والتعلقيات المتناثرة على حروفه ومنشوراته يشعرانه فورًا بدائرة بالأمان، بأنه شخصٌ مرغوبٌ فيه، "وإن الدنيا لسه بخير"، وأن العالم ينتظر بلهفة لأن يدلو بدلوه في كل منقلبٍ وعند كل مقام.
السوشيال ميديا، للأسف، هي ملاذ المحبطين واليائسين وكل هائمٍ منكبٍ على وجهه أثقله الفراغ أو هموم الواقع بشتى أنواعها. هنا تحديدًا، يستطيع المرء أن يصبح عالمًا وناقدًا ومحلِّلًا ومفكِّرًا سياسيًّا وأديبًا مُحنَّكًا وداعيةً مخضرمًا ألمَّ بعلم من سبوقه، وفاق علمًا من عاصروه. هنا تحديدًا، يتخلص المرء من نقصه المرير ويتجاوز حدود قدرته التي لا يسعه تجاوزها واقعيًا أمام أناس حقيقيين. لا مجال هاهنا للمناقشة والبحث والتحليل والتقصي، ولا يتطلب الأمر إجازةً أو شهادة خبرة أو منصبًا إداريًّا للتصدر، وليس هناك عيون تحدق إليك وأنت تهذي وتنطق وتناقش. يكفيك فقط هاتفًا محمولًا، وبعض آلافٍ من قطيع المتابعين، ويدًا لا تمل الكتابة، أو فمًا يحسن التفوُّه.
منذ عامٍ مضى كنت أصحو وأنام على جسر متهالكٍ في عالمٍ افتراضي، يشبه كثيرًا تلك العوالم الرقمية التي اعتدت المرور بها داخل ألعابي الإلكترونية العجيبة. هنا شيدت -جاهلًا- قصورًا عاجيةً من العلم والحكمة والفخر والنجاح، وأصابني كذلك الاكتئاب والقلق وفرط التفكير وبراثن الفتن، ورأيت غيري من المرضى الغارقين في نفس القاع لا يودون الخروج منه، أو بالأحرى لا يستطيعون. هنا انفتحت على مِصْراعي عقلي مئات الأسئلة الوجودية، وأثقلت كاهلي حيوات الآخرين ومشاغلهم، وأصابت قلبي شذرات لم أكن أدري لها سبيلًا قط إلا في الكتبِ والروايات.
الآن، وبعد عامٍ مضى، جاهدت نفسي كثيرًا لأعبر الجسر المتهالك وأمضي بنفسي إلى الجهة الأخرى؛ إلى العالم الواقعي الذي تؤلمني حقيقته، لكنها الحقيقة.
وقد عبرت.
يا ابنة الرجل الكريم، لطالما رأيتكِ داخل عقلي كبائعةِ الكبريت تمامًا؛ تشعلين من اليأس عودًا ومن الأمل أعوادًا ومصابيح. تنظرين إلى الدنيا بعينين تختزلان شطر جمالها: عينٌ تكحَّلت بالحزن فلا فارق دمعها ليلها، وعينٌ ترى الدنيا كلها صاغرةٌ بين كفيها فتزهد في كبيرها قبل صغيرها.
يا ابنة الرجل الكريم: لطالما حدثتني عنكِ أوراق الشجر، ورائحة الكتب، وورود نيسان، وتذاكر السفر الليلي، وأرصفة الطرقات الخالية، والطفلة التي تجاوزت العشرين، ومريم ويوسف والشعراء، وسؤالك الدائم: من أنا؟! نصف قديسةٍ، ونصف فتاةٍ متمردة، وروح طفلةٍ لا تودُّ النضج أبدًا، وكلهم أنتِ.
يا ابنة الرجل الكريم. ربما لا أعرف الحب، حقيقةً لم أجربه، ولا أعلم عنه أكثر مما أشعر ببواعثه داخلي، أو ما يتناقله المحبون -كلٌّ بمرآته- على سبيل التجربة. لكنني أعرف أشياءً أخرى، كالرحمة مثلًا؛ هي من اسمي وأرجو أن يكون لي نصيبٌ منها، وأعرف كذلك الاهتمام والسكينة والصبر عند الشدائد العظام، وأن أطمئن الخائف حين يحتاج يدًا تربت عليه. وبهم، وفيهم، وعلى سبيلهم سأجاهد أن أحبكِ، أو سنحيا معًا بإخلاصٍ حتى يتعثر بنا الحب في طريق الصادقين.
يا ابنة الرجل الكريم. يظنُّ بعض الناس، كل الناس لا فرق، أن الحقيقة دائمًا مطلقة. فأتساءل أنا بين الحين والآخر عن حقيقة نفسي، فلا أجدني إلا وأنا أتأرجح بين أمرين: كل شيءٍ ونقيضه. بين السطحيةِ والعمق، والتعقُّل والطيش، والجبن والتهور، وبين الأبيضِ والأسود درجات من الرمادي؛ أغرق فيها، وبين كل غريبٍ قريبٍ وقريبٍ مغتربٍ، وأنهي المشهد بالرقصِ بين سُلمتين: الواقع والخيال. وكلما أُرهِقت -ولطالما يحدث- أتنحَّى جانبًا وأفسح المجال لحضرة طيفِكِ فيأذن بالدخول. حيث الحب، حيث الراحة، حيث رأسي على كتفكِ، حيث أغار على فمكِ من كوب الحليب، فأنفخ فيه مقنعًا إياكِ بسخونته.
يا ابنة الرجل الكريم. يا من رأيت فيكِ الحسن حِصنًا، والصبر جبرًا، والصمت سمتًا، والوحدة ملاذًا. رفقًا بحالي وحال القوم كافينا، وسَلي المجد العَوالي عن معالينا، أنا ابن أبي وعنَّا الناس قد علموا، في كل وادٍ لها أثرٌ مساعينا.
يا ابنة الرجل الكريم: لطالما حدثتني عنكِ أوراق الشجر، ورائحة الكتب، وورود نيسان، وتذاكر السفر الليلي، وأرصفة الطرقات الخالية، والطفلة التي تجاوزت العشرين، ومريم ويوسف والشعراء، وسؤالك الدائم: من أنا؟! نصف قديسةٍ، ونصف فتاةٍ متمردة، وروح طفلةٍ لا تودُّ النضج أبدًا، وكلهم أنتِ.
يا ابنة الرجل الكريم. ربما لا أعرف الحب، حقيقةً لم أجربه، ولا أعلم عنه أكثر مما أشعر ببواعثه داخلي، أو ما يتناقله المحبون -كلٌّ بمرآته- على سبيل التجربة. لكنني أعرف أشياءً أخرى، كالرحمة مثلًا؛ هي من اسمي وأرجو أن يكون لي نصيبٌ منها، وأعرف كذلك الاهتمام والسكينة والصبر عند الشدائد العظام، وأن أطمئن الخائف حين يحتاج يدًا تربت عليه. وبهم، وفيهم، وعلى سبيلهم سأجاهد أن أحبكِ، أو سنحيا معًا بإخلاصٍ حتى يتعثر بنا الحب في طريق الصادقين.
يا ابنة الرجل الكريم. يظنُّ بعض الناس، كل الناس لا فرق، أن الحقيقة دائمًا مطلقة. فأتساءل أنا بين الحين والآخر عن حقيقة نفسي، فلا أجدني إلا وأنا أتأرجح بين أمرين: كل شيءٍ ونقيضه. بين السطحيةِ والعمق، والتعقُّل والطيش، والجبن والتهور، وبين الأبيضِ والأسود درجات من الرمادي؛ أغرق فيها، وبين كل غريبٍ قريبٍ وقريبٍ مغتربٍ، وأنهي المشهد بالرقصِ بين سُلمتين: الواقع والخيال. وكلما أُرهِقت -ولطالما يحدث- أتنحَّى جانبًا وأفسح المجال لحضرة طيفِكِ فيأذن بالدخول. حيث الحب، حيث الراحة، حيث رأسي على كتفكِ، حيث أغار على فمكِ من كوب الحليب، فأنفخ فيه مقنعًا إياكِ بسخونته.
يا ابنة الرجل الكريم. يا من رأيت فيكِ الحسن حِصنًا، والصبر جبرًا، والصمت سمتًا، والوحدة ملاذًا. رفقًا بحالي وحال القوم كافينا، وسَلي المجد العَوالي عن معالينا، أنا ابن أبي وعنَّا الناس قد علموا، في كل وادٍ لها أثرٌ مساعينا.
يقول الرَّافِعيُّ: "وعَرفتُ فيكِ أنَّكِ كُلَّما غِبتِ عن عَينِي كُنتِ في روحي أكثرَ حُضورًا". وأقول أنا: بل عَرفِت فأيقنت فآمنت، بأنَّ روحي بين طيَّاتِ روحكِ تلوذ وتسكن؛ إن غِبتِ غابَ الجميع، وإن حضرتِ هُم حَضروا.
يمر الوقت كالعادة، ومعه تتقلب الأيام، وفي تقلُّبها يكمن تقبُّلها، وعلى الشقيِّ والسعيد تدور الدوائر بلا استئذان. ومن دائرةٍ لأخرى، وجدت الخواء -بالنسبة إليَّ شخصيًّا على الأقل- زائرًا قاتمًا غريبًا، أسوأ ما فيه غرابته، وأغرب ما فيه عَصِيِّه عن التوصيف.
يمرُّ الحزن كما يمرُّ الفرح، وقد يرنو القلق إلى البقاء وقتًا، وقد يلازمه في ذلك الأرق. لكن أسبابهم وأوصافهم في النهاية أقرب إلى الوضوح من الغموض. لكني ما رأيت الخواء، تحديدًا، إلا ومعه فقدٌ للإحساس من كل جانب، يرسم برماديته حواشي اللوحة، ويذهب بالعقل إلى أقصاه.
وأحسب أنه ما من زائرٍ بغير دعوة، وما مآل الخواء إلى البقاء إلا لتصدع الروح وتناقص الإيمان: "فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا." والضنك هو الضيق بعد الاتساع، والشقاء بعد الهدى. ومن شقى حاله ضلَّ الطريق، وابتعد بالنفس عن التوفيق. وقياسًا عليّ، وأنا أشدُّ الناس افتقارًا إلى هداي وسكناي، فلا أجدني إلا منكبًا على وجهي تزاحمني ذنوب النهار، وتحتضنني شهوات الليل، وأنا منهما كالغارق في لجِّ بحرٍ لا يُعرف سطحه من قاعه.
وتلك الروح من أمر ربِّي. هكذا جُبلنا وآمنَّا، فلا أرى خلاصًا -صدقت رؤيتي أم بطلت- من فوضاها إلا باحتضانها، والوقوف على أعتاب تعاستها، واللجوء إلى بارئها الذي نفخ فيها. وكلما لهثت ورائها فأرهقتني، أعود إلى ربِّي فألتمس جبره ومغفرته، وأدعوه أن ينشرح صدري، وتصفو سريرتي، ويُرمَّم فؤادي بعد أن هشَّ وتهشَّم.
ضعيفٌ ومغرور. أو هكذا أذكِّرني. أحاول في غالب الوقت، أن أتكئ على روحي كثيرًا عند السقوط، فأنزوي بعيدًا عمن أحبُّ وأخالط، وألتمس لي عندهم ألف عذرٍ وعذر، وأصارح الأقربين منهم بأنِّي بخير. في الحقيقة ربما لست بخير، ولكنه العرف والعادة: أحتاج إلى روحٍ تشاطرني أثر الصدمة، من يشعر ببعثرة الأشياء وفداحة التحطم، من يرى الجرح من زاويةٍ حَرجة، أحتاج إلى من يحتوي ومن يستمعُ ومن يهتم.
في غالب الأمر قد لا نلتمس الكلام اللطيف بقدر التماسنا صدق الشعور نحونا، ولا إلى كثرته بقدر الصمت المريح العابر. ربما يكمن العطاء في البكاء على صدر امرأة، أو ابتسامة طفلٍ صغيرٍ عابر، أو في سواد ليلٍ قاتمٍ يقتات منَّا كما نقتات منه. لا عجب في الأمر ولا اختلاف، فجميعنا في البلاء سواء، وكلنا بعضٌ لبعض، ويدك بعد يدي، والصمود عند الصعود، والصبر حتى الجبر، ودعاءٌ لا ينقطع، وذكرٌ للّٰه كثير، وقلبي معك يا صغير.
فاللّٰهم روحي منك إليك، ناصيتي بيديك، فلا تحوجني إلا إليك، ولا تقرِّب مني من لا يخافك فيَّ ولا يرحمني؛ يرى ضعفي، وقلة حيلتي، فيهجرني حيث أحتاج إلى الاتكاء.
يمرُّ الحزن كما يمرُّ الفرح، وقد يرنو القلق إلى البقاء وقتًا، وقد يلازمه في ذلك الأرق. لكن أسبابهم وأوصافهم في النهاية أقرب إلى الوضوح من الغموض. لكني ما رأيت الخواء، تحديدًا، إلا ومعه فقدٌ للإحساس من كل جانب، يرسم برماديته حواشي اللوحة، ويذهب بالعقل إلى أقصاه.
وأحسب أنه ما من زائرٍ بغير دعوة، وما مآل الخواء إلى البقاء إلا لتصدع الروح وتناقص الإيمان: "فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا." والضنك هو الضيق بعد الاتساع، والشقاء بعد الهدى. ومن شقى حاله ضلَّ الطريق، وابتعد بالنفس عن التوفيق. وقياسًا عليّ، وأنا أشدُّ الناس افتقارًا إلى هداي وسكناي، فلا أجدني إلا منكبًا على وجهي تزاحمني ذنوب النهار، وتحتضنني شهوات الليل، وأنا منهما كالغارق في لجِّ بحرٍ لا يُعرف سطحه من قاعه.
وتلك الروح من أمر ربِّي. هكذا جُبلنا وآمنَّا، فلا أرى خلاصًا -صدقت رؤيتي أم بطلت- من فوضاها إلا باحتضانها، والوقوف على أعتاب تعاستها، واللجوء إلى بارئها الذي نفخ فيها. وكلما لهثت ورائها فأرهقتني، أعود إلى ربِّي فألتمس جبره ومغفرته، وأدعوه أن ينشرح صدري، وتصفو سريرتي، ويُرمَّم فؤادي بعد أن هشَّ وتهشَّم.
ضعيفٌ ومغرور. أو هكذا أذكِّرني. أحاول في غالب الوقت، أن أتكئ على روحي كثيرًا عند السقوط، فأنزوي بعيدًا عمن أحبُّ وأخالط، وألتمس لي عندهم ألف عذرٍ وعذر، وأصارح الأقربين منهم بأنِّي بخير. في الحقيقة ربما لست بخير، ولكنه العرف والعادة: أحتاج إلى روحٍ تشاطرني أثر الصدمة، من يشعر ببعثرة الأشياء وفداحة التحطم، من يرى الجرح من زاويةٍ حَرجة، أحتاج إلى من يحتوي ومن يستمعُ ومن يهتم.
في غالب الأمر قد لا نلتمس الكلام اللطيف بقدر التماسنا صدق الشعور نحونا، ولا إلى كثرته بقدر الصمت المريح العابر. ربما يكمن العطاء في البكاء على صدر امرأة، أو ابتسامة طفلٍ صغيرٍ عابر، أو في سواد ليلٍ قاتمٍ يقتات منَّا كما نقتات منه. لا عجب في الأمر ولا اختلاف، فجميعنا في البلاء سواء، وكلنا بعضٌ لبعض، ويدك بعد يدي، والصمود عند الصعود، والصبر حتى الجبر، ودعاءٌ لا ينقطع، وذكرٌ للّٰه كثير، وقلبي معك يا صغير.
فاللّٰهم روحي منك إليك، ناصيتي بيديك، فلا تحوجني إلا إليك، ولا تقرِّب مني من لا يخافك فيَّ ولا يرحمني؛ يرى ضعفي، وقلة حيلتي، فيهجرني حيث أحتاج إلى الاتكاء.
الانغماس الشديد في المادية، يقابله ابتعاد عن روحانيَّة الدين، في المجمل، وقتل للقيم المتعالية للإنسان عن العالم الذي يعيش فيه، ثم فقده للشعور بالاندهاش لجمال الكون وعظمة تماسكه ودقة إتقانه. وكلما لهث المرء وراء شهواته واحتياجاته الطبيعانية فأصبحت شغله الشاغل، تجرع ذلَّ عيوبه ونواقصه، وانغمس كليَّةً في ملحمة التنافس والترقي أمام الناس؛ تلك التي تنبت من العدم وتنتهي إليه.
تنبت من العدم عبر استشعار الضآلة والنقيصة أمام تميز الآخرين وتجارب حيواتهم المختلفة، وتنتهي إليه عند محاولة سد ذلك النقص عبر الصعود والتميز باتباع نفس الوسيلة: الآلية المادية ذاتها. وبناء على ذلك، يمكن القول بأنه سيتجرد المرء رويدًا من طبيعته الإنسانية التي تتعالى على ذلك التميز المادي المجرد، بالسمو الداخلي للروح والقلب معًا؛ وهو ما يحث عليه الدين من الأساس.
لن ينعم الإنسان، لن ينعم أبدًا، بالقناعة والرضا والسلام النفسي، إلا بكفِّه عن محاولة الترقي والصعود من قاع النقص الذي ينسج خيوطه داخله، عبر نفس السلم المادي ذاته الذي يقصده -ويدفعه إليه- الناس والمجتمع والعالم بأسره حبًّا أو كرهًا. وأنه لابد وأن يواجه نفسه بحزمٍ وصدق شديدين، أمام كل هذا الشره والطمع والغوص في لجِّ المكاسب المادية والمكانة المجتمعية، ويبحث جاهدًا كيف يبني داخله الدين ما يتغلب به على مادية الدنيا الزائفة وفراغ عدميتها.
النضج -كل النضج- والخير -كل الخير- لمن امتلأت نفسه بالرضا، ويداه أبعد ما تكون إلى الامتلاء.
تنبت من العدم عبر استشعار الضآلة والنقيصة أمام تميز الآخرين وتجارب حيواتهم المختلفة، وتنتهي إليه عند محاولة سد ذلك النقص عبر الصعود والتميز باتباع نفس الوسيلة: الآلية المادية ذاتها. وبناء على ذلك، يمكن القول بأنه سيتجرد المرء رويدًا من طبيعته الإنسانية التي تتعالى على ذلك التميز المادي المجرد، بالسمو الداخلي للروح والقلب معًا؛ وهو ما يحث عليه الدين من الأساس.
لن ينعم الإنسان، لن ينعم أبدًا، بالقناعة والرضا والسلام النفسي، إلا بكفِّه عن محاولة الترقي والصعود من قاع النقص الذي ينسج خيوطه داخله، عبر نفس السلم المادي ذاته الذي يقصده -ويدفعه إليه- الناس والمجتمع والعالم بأسره حبًّا أو كرهًا. وأنه لابد وأن يواجه نفسه بحزمٍ وصدق شديدين، أمام كل هذا الشره والطمع والغوص في لجِّ المكاسب المادية والمكانة المجتمعية، ويبحث جاهدًا كيف يبني داخله الدين ما يتغلب به على مادية الدنيا الزائفة وفراغ عدميتها.
النضج -كل النضج- والخير -كل الخير- لمن امتلأت نفسه بالرضا، ويداه أبعد ما تكون إلى الامتلاء.
الليبرالية هي شرنقة الفردانية الحالية، يدعمها -عن جهلٍ وغباء- ذلك الخطاب الإسلامي الرقيق الذي يدعو إلى كفِّ النفس عن كل ما هو سيئٌ وجلل في طريقها، فلا يتحتم عليها مواجهته في حيوات الآخرين وآلامهم ومصاعبهم كيلا نتأثر سلبًا بذلك. الشرنقة التي احتوت المرء في قالبٍ معزولٍ عن غيره من الإخوان والخلان والأحباب، رسَّخت فيه الجبن والضعف والنمطيَّة، وضخَّمت داخله الهشاشة النفسية حتى صار مسخًا؛ يرديه وخز الشوك وكأنه طعن الرماح. شرنقة رأسمالية بشعة، أفقدت المرء السوي إنسانيته وهيبة روحه التي نفخ اللّٰه فيها، وأغرقته بوحل المادية ومطحنة التعليم والشهادات الأكاديمية وحتمية الإنجاز والترقي والتمركز حول الذات.
وعليه، إذا ما سقط المرء حينًا أو فقد السبيل أو أعرض فنأىٰ بجانبه عن درب القطيع، انهالت عليه الجراح من كل جانب؛ بغض الأهل، وشماتة الأصحاب، وتهميش المجتمع. والنهاية؟ بئرٌ سحيقٌ من السوداوية والخوف والقلق وفقدان الثقة وضبابية الطريق وعبثية الحياة واختلال موازين الصلاح والفلاح، ونهايةٌ ذليلةٌ لروحٍ كرمها اللّٰه؛ لم يخلقها عبثًا، ولم يشأ لها أن تكون محض آلةٍ في صراعٍ عبثيٍّ حول المال والأعمال وهوس البحث عن المكانة.
كانت -وآن لها أن تعود- مركزية الجماعة كآليةٍ اجتماعيةٍ للنجاة، هي الوسيلة الوقائية السليمة أمام دركات الحياة التي لا ولن تنتهي؛ وكيف تنتهي وهي سنتها: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ." لقد صدق الرسول حين أخبر: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا." فمن حق كل إنسان أن يشعر بالحب والسكينة ودفء المقربين، لا شيء يعلو على سكونه وأمنه ودعم المحيطين به في السراء والضراء، وأنه مهما فقد وافتقد فالمفقود أدنى -دائمًا- من فقده هو؛ وما الفقد إلا فقد الآخرة.
وعلى الجانب الآخر، لزامٌ علينا أن نعود إلى حياة الأوائل لندرك جليًّا ماهية المصاعب والمحن، أن الرجولة من الجلد والصبر من الشهامة، وأن الرضا بالمقدور دائمًا هو كنز الأسوياء، وأن "اخْشَوْشِنوا" لم ينطق بها الفاروق عن جهل. علينا أن نشاهد ونتمعن في مآلات الآخرين وما يلاقونه وما يكابدونه لنتفهم مليًّا معنى المعاناة، لا أن ننزوي -كما يروِّج الخبلاء- في بقعةٍ صمَّاءٍ حول أنفسنا؛ نتحايل عليها بالسلام والطمأنينة وطوباوية العالم. وما أن تدور علينا أصغر الدوائر، وستفعل، فلن يشفع الجهل بالعوم الغريق من الموت.
وأخيرًا، في يوم من الأيام، قرأت لمصطفى إبراهيم قولًا وجدته في نفسي: مفيش إحساس لحسن الحظ ولسوئه مابيعديش، مفيش ولا طعم حاجة من اللى بتدوقه مسيره يعيش، بحلوه وبمره كله بيتسخط لمفيش. يا سبحان اللى بيعودنا عالحاجة فننساها، وبيخفف كاسات الناس بميه بدال ما يملاها، عشان طعم اللى فيها يروح، عشان طعم اللى فيها يخف، يقولوا مجازا المجروح إذا خد عالوجع؛ بيخف. تلف عليه سواقى الكون تدوب اللى فات في الجاى، فسبحانه أما قال: منها جعلنا (كلَّ شيءٍ حيّ).
وعليه، إذا ما سقط المرء حينًا أو فقد السبيل أو أعرض فنأىٰ بجانبه عن درب القطيع، انهالت عليه الجراح من كل جانب؛ بغض الأهل، وشماتة الأصحاب، وتهميش المجتمع. والنهاية؟ بئرٌ سحيقٌ من السوداوية والخوف والقلق وفقدان الثقة وضبابية الطريق وعبثية الحياة واختلال موازين الصلاح والفلاح، ونهايةٌ ذليلةٌ لروحٍ كرمها اللّٰه؛ لم يخلقها عبثًا، ولم يشأ لها أن تكون محض آلةٍ في صراعٍ عبثيٍّ حول المال والأعمال وهوس البحث عن المكانة.
كانت -وآن لها أن تعود- مركزية الجماعة كآليةٍ اجتماعيةٍ للنجاة، هي الوسيلة الوقائية السليمة أمام دركات الحياة التي لا ولن تنتهي؛ وكيف تنتهي وهي سنتها: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ." لقد صدق الرسول حين أخبر: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا." فمن حق كل إنسان أن يشعر بالحب والسكينة ودفء المقربين، لا شيء يعلو على سكونه وأمنه ودعم المحيطين به في السراء والضراء، وأنه مهما فقد وافتقد فالمفقود أدنى -دائمًا- من فقده هو؛ وما الفقد إلا فقد الآخرة.
وعلى الجانب الآخر، لزامٌ علينا أن نعود إلى حياة الأوائل لندرك جليًّا ماهية المصاعب والمحن، أن الرجولة من الجلد والصبر من الشهامة، وأن الرضا بالمقدور دائمًا هو كنز الأسوياء، وأن "اخْشَوْشِنوا" لم ينطق بها الفاروق عن جهل. علينا أن نشاهد ونتمعن في مآلات الآخرين وما يلاقونه وما يكابدونه لنتفهم مليًّا معنى المعاناة، لا أن ننزوي -كما يروِّج الخبلاء- في بقعةٍ صمَّاءٍ حول أنفسنا؛ نتحايل عليها بالسلام والطمأنينة وطوباوية العالم. وما أن تدور علينا أصغر الدوائر، وستفعل، فلن يشفع الجهل بالعوم الغريق من الموت.
وأخيرًا، في يوم من الأيام، قرأت لمصطفى إبراهيم قولًا وجدته في نفسي: مفيش إحساس لحسن الحظ ولسوئه مابيعديش، مفيش ولا طعم حاجة من اللى بتدوقه مسيره يعيش، بحلوه وبمره كله بيتسخط لمفيش. يا سبحان اللى بيعودنا عالحاجة فننساها، وبيخفف كاسات الناس بميه بدال ما يملاها، عشان طعم اللى فيها يروح، عشان طعم اللى فيها يخف، يقولوا مجازا المجروح إذا خد عالوجع؛ بيخف. تلف عليه سواقى الكون تدوب اللى فات في الجاى، فسبحانه أما قال: منها جعلنا (كلَّ شيءٍ حيّ).
والله ما أخشى عليكم إلا إسلام السوق، أن تتبعوا دينًا حداثيًّا متميِّعًا لا درع له ولا بنيان، فينبتُ جيلًا ينتظر من اللّٰه منفعةً لكي تكتمل له العبادة. إني أخشى عليكم أن تنساقوا كما انساق الكثيرون قبلكم، أن تأكلوا خبزًا بلا إله إلا اللّٰه؛ تعيشون عليه، وتهلكوا دونه.
أحيانًا يتعافى المرء بأصدقائه؛ يتعكَّز عليهم، ويتعكَّزون عليه. وغالبًا يتعافى المرء بأخيه؛ يشُد عضُده به فلا يصل إليه ما قد ينال منه، وكلاهما رؤوفٌ بمن يتعثر. والأكيد أنه يتعافى المرء بزوجته؛ صبره من جبرها، وصبرها من جبره، فيأنسان ببعضهما في السراء والضراء. وهناك من يتعافى بطفلٍ قد رزق به؛ يكفيه دلاله بين يديه فيخفف عنه وطأة الحياة. وهناك من يتعافى بغريبٍ أتاه على أمرٍ ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلىٰ ميسرة، فقضاه له، وحمله عنه.
ربما يتعافى المرء بهؤلاء وبغيرهم، في دنياه التي تزول وأيامه التي تنقضي، لكن لا يتعافى الإنسان كليةً إلا بمعية الله؛ عند أول خذلان صديق، أو فراق حبيبٍ. يتعافى بعمله الذي قدَّم، ليومه الذي ينتظر. يتعافى عند الرحيل، داخل قبره، وحيدًا على الصراط، وعند حشرٍ يومئذٍ عظيم، "فمن زُحْزح عن النَّار وأُدخل الجنَّة فقد فاز، وما الحياةُ الدُّنيا إلَّا متاعُ الغرور". أيضير امرؤٌ من نَصبٍ ولا وصبٍ بعد ذلك شيء؟!
يتعافى المرء ولا زال يشكو، ولا زال يدعو، ولا زال يقع، ولا زال يقوم.
ربما يتعافى المرء بهؤلاء وبغيرهم، في دنياه التي تزول وأيامه التي تنقضي، لكن لا يتعافى الإنسان كليةً إلا بمعية الله؛ عند أول خذلان صديق، أو فراق حبيبٍ. يتعافى بعمله الذي قدَّم، ليومه الذي ينتظر. يتعافى عند الرحيل، داخل قبره، وحيدًا على الصراط، وعند حشرٍ يومئذٍ عظيم، "فمن زُحْزح عن النَّار وأُدخل الجنَّة فقد فاز، وما الحياةُ الدُّنيا إلَّا متاعُ الغرور". أيضير امرؤٌ من نَصبٍ ولا وصبٍ بعد ذلك شيء؟!
يتعافى المرء ولا زال يشكو، ولا زال يدعو، ولا زال يقع، ولا زال يقوم.
وكشأن كل عام جديد، يأتي ذكر معرض الكتاب محملًا بالكتبة أكثر من الكتب، وبالعبث أكثر من الرقي، وبالقذارة والتسطيح والتحريف والاهمال ما يجلب ألف حسرةٍ وندامة.
يا هذا وذاك وتلك وهؤلاء، يا كل من سوَّلت له نفسه أن يعلو ويرتقي على حساب العربية المسكينة التي ماتت وفاضت روحها منذ أمد، يا كل مسكين بدى له سطوع نجمه وعلو اسمه بفضل حفنة من الأغبياء الذين يلهثون وراء كل امرئٍ؛ يعظِّمونه ويبجِّلونه ويكِّبرونه وينفخون في صورته حتى انتشى وعظم وفجر، أقول لكم: تاللّٰه لو عاصرنا الرافعي -لن أقول الجاحظ ومن شيعته- أو عاصرناه، لبصق في وجوهنا من هول الجريمة التي لحقت -وستلحق- بالعربية على مرِّ العقود الأخيرة.
واللّٰه لو عرف هؤلاء قمية القلم وحرمة الكتابة، لما تجرأ أحدهم على خطِّ حرفٍ واحدٍ -ناهيك عن نشر كتاب- قبل مزيدٍ من التعلم والمران والمراجعة والعزلة في كنف اللغة دهرًا، حتى يتأتى له التفكير، مجرد التفكير في الأمر.
لكنها الموضة ومن فطن لها أبلغ، بضع آلاف من المتابعين، ووميض من الشهرة الزائفة، ودار نشرٍ لا تستحق النشر، وطبخة حروفٍ لا تمت للغة بصلة، فيظن المسكين أنه صار شيئًا، لكن "تقرا مزاميرك على مين يا داود، ده كله بالحنيَّة بيفك!"
أيها القراء الأعزاء، يا من ترتلون كتاب الله وتحفظون سيرة رسوله، وتدندنون الشعر حينًا وتسترسلوا بلاغة الأخبار والحكم والمواعظ حينًا آخر، أهذا هو مقام العربية التي تستحقه وصارت عليه اليوم؟! قدِّسوا اللغة قبل أن تقدسوا كاتبيها، واحرصوا على الارتقاء بها قبل أن تخسروها إلى الأبد، وأفرغوا على نفوسكم صبرًا في التحليل والتعلُّم والمراجعة والنقد، وضعوا كل واحدٍ في مكانه الصحيح، ليعلم كل امرئٍ ما له وما عليه.
حينها لن يمسَّ القلم كائنٌ من كان بغير علم، ولن يخط حرفًا دون إدراكِ عاقبته.
وكل معرض "كُتَّاب" وأنتم بخير.
يا هذا وذاك وتلك وهؤلاء، يا كل من سوَّلت له نفسه أن يعلو ويرتقي على حساب العربية المسكينة التي ماتت وفاضت روحها منذ أمد، يا كل مسكين بدى له سطوع نجمه وعلو اسمه بفضل حفنة من الأغبياء الذين يلهثون وراء كل امرئٍ؛ يعظِّمونه ويبجِّلونه ويكِّبرونه وينفخون في صورته حتى انتشى وعظم وفجر، أقول لكم: تاللّٰه لو عاصرنا الرافعي -لن أقول الجاحظ ومن شيعته- أو عاصرناه، لبصق في وجوهنا من هول الجريمة التي لحقت -وستلحق- بالعربية على مرِّ العقود الأخيرة.
واللّٰه لو عرف هؤلاء قمية القلم وحرمة الكتابة، لما تجرأ أحدهم على خطِّ حرفٍ واحدٍ -ناهيك عن نشر كتاب- قبل مزيدٍ من التعلم والمران والمراجعة والعزلة في كنف اللغة دهرًا، حتى يتأتى له التفكير، مجرد التفكير في الأمر.
لكنها الموضة ومن فطن لها أبلغ، بضع آلاف من المتابعين، ووميض من الشهرة الزائفة، ودار نشرٍ لا تستحق النشر، وطبخة حروفٍ لا تمت للغة بصلة، فيظن المسكين أنه صار شيئًا، لكن "تقرا مزاميرك على مين يا داود، ده كله بالحنيَّة بيفك!"
أيها القراء الأعزاء، يا من ترتلون كتاب الله وتحفظون سيرة رسوله، وتدندنون الشعر حينًا وتسترسلوا بلاغة الأخبار والحكم والمواعظ حينًا آخر، أهذا هو مقام العربية التي تستحقه وصارت عليه اليوم؟! قدِّسوا اللغة قبل أن تقدسوا كاتبيها، واحرصوا على الارتقاء بها قبل أن تخسروها إلى الأبد، وأفرغوا على نفوسكم صبرًا في التحليل والتعلُّم والمراجعة والنقد، وضعوا كل واحدٍ في مكانه الصحيح، ليعلم كل امرئٍ ما له وما عليه.
حينها لن يمسَّ القلم كائنٌ من كان بغير علم، ولن يخط حرفًا دون إدراكِ عاقبته.
وكل معرض "كُتَّاب" وأنتم بخير.
اللّٰهم إني ظلمت نفسي وإليك أنحني وأتجرد، وأنت أرحم بي منها وأعلم بها مني، عفوٌّ تحب العفو وتمد يد الصفح لمن تشاء، فاعف بكرمك الذي لا ينفد، عن عبدك الذي لا يستحق. اللهم إني أستعين بك عليها فلا تكلني إليها، وارفع عني الكبر الذي أخشاه عليها، وجنِّبني يا رب ما لا أطيق، ودع عني ما لا أحسن، وارفع عني ثقل ما قد يحدث، ولا تشمت فيَّ عبادك حين السقوط، وأفرغ على قلبي صبرًا حين تضيق عليَّ الدوائر، وارزقني اللهم بصيرةً يوم يحيد الناس عن جادة الطريق إلى بنياته، ولا تخزني حين أكفر في الغد بما قد آمنت به أمس ظنًّا مني أنه الصواب؛ إنك علَّام بما أجهل، حكيمٌ بما أنا به غافل. اللهم إني قد آمنت بك، وبكتبك التي أنزلت، وبرسلك التي أرسلت، فلا تجعلني يومئذ ممن أساءوا إلى دينك وكفَّروا رسلك وكانوا بآياتك يجحدون، إني لا قبل لي بنظرةٍ من غضبك، ولا قدرة لي على سطوة عذابك. اللهم أغنني بفضلك عن متاع الدنيا، وارحمني بلطفك مما جاءت به المقادير، ولا تجعل لي هاهنا أثرًا إلا بما أتقرَّب به إلى جنتك، وليس لأحدٍ من خلقك. اللهم إني اشتقت إلى رؤية وجهك الكريم فلا تحرمني شرف لقائك، ولا تباعد بيني وبين حوض نبيك مثقال ذراع، وامدد لي ولأهلي من كرمك حينئذٍ ما تتعجب له نفسي التي بين جنبي.
رأيت فيما يرى النائم، أن الوقت بين الواحدة والنصف والثانية بعد انتصاف القمر، أرتدي جوربًا ثقيلًا وقطعةً من رداءٍ طويلٍ يوحي أنه من سبعينيات القرن الماضي. كنت جالسًا واضعًا يدي على بطني من شدة الجوع، فقد كان جوفي جافًا خشنًا، وكيف لا "وليل الشتا طويل، والجوع كافر."
حملتني قدمي مهرولًا إلى الثلاجة لعلي أجد ما يسد ثغرات معدتي الفارغة، فوجدت قطعًا بحجم الجبن يعلو بعضها بعضًا فوق أحد الأطباق، وإني لا أخطئ في شكلها أبدًا؛ صفراءٌ داكنةٌ، مائلةٌ إلى السواد قليلًا. علت وجهي ابتسامة بلهاء، وقلت بصوتٍ مسموعٍ: فراخ بانية! كان من البديهي أن أتعجب، فكيف لصدور الدجاج أن تبقى على حالها في بيتنا اللطيف ليومٍ آخر، وفي وقتٍ حالكٍ هكذا.
شعرت فجأة أنني انتقلت إلى إحدى البلدان الغربية، حيث زوجتي الحسناء وأطفالي الصغار وبيتنا الجميل الذي تتوسطه مدفأة وتعلو جدرانه سقيفة. تحسست الوعاء برفق، ونزعت عنه غطاءه، فوجدت شيئًا آخر لم يكن في الحسبان. تحولت الصدور إلى قبور، وتلاشى بيتي اللطيف من عقلي، ووأدت زوجتي، وبعت أولادي لأقرب مشتريٍ آتٍ، وعرفت الآن أنني أمام أحد أكثر الأشياء كرهًا إلى قلبي، فقد كان طعامًا سيئًا كاسمه: "الكرنبيت" فلا أحسن لفظه بالقرنبيط.
تلفظت بأشياء لا يسعني المقام لسردها على الورق، ثم شربت الماء على مضض، وصليت ركعتين قيامًا لله قبل أن ينتصر غضبي ويخرج، ثم عدت للنوم مجددًا وأنا ألعن فيه الكرنبيت وآكليه. في اليوم التالي صحوت على رائحة طعامٍ مقلي، يشبه قطع الدجاج من بعيد، اقتربت متوجسًا على مهل، فوجدت أمي تعد الكرنبيت نفسه حقيقة أمام عيني.
خرجت من البيت إلى أن عدت في المساء، شعرت بجوعٍ كالعادة، فتحت الثلاجة فوجدت قطعًا كطقع الجبن، لم أقترب هذه المرة، ولم أغمض عيني من هول المفاجأة، فمن أتاه الكرنبيت في الحلم، كيف لمثله أن يجده دجاجًا في الواقع!
وها أنا ذا لا أجد أمامي غير "الأندومي" فلجأت إليها زي الأطفال، وعملت حلة كاملة أطلع فيها غضبي بدل ما أتشل، الله يسامحك يا ماما.
حملتني قدمي مهرولًا إلى الثلاجة لعلي أجد ما يسد ثغرات معدتي الفارغة، فوجدت قطعًا بحجم الجبن يعلو بعضها بعضًا فوق أحد الأطباق، وإني لا أخطئ في شكلها أبدًا؛ صفراءٌ داكنةٌ، مائلةٌ إلى السواد قليلًا. علت وجهي ابتسامة بلهاء، وقلت بصوتٍ مسموعٍ: فراخ بانية! كان من البديهي أن أتعجب، فكيف لصدور الدجاج أن تبقى على حالها في بيتنا اللطيف ليومٍ آخر، وفي وقتٍ حالكٍ هكذا.
شعرت فجأة أنني انتقلت إلى إحدى البلدان الغربية، حيث زوجتي الحسناء وأطفالي الصغار وبيتنا الجميل الذي تتوسطه مدفأة وتعلو جدرانه سقيفة. تحسست الوعاء برفق، ونزعت عنه غطاءه، فوجدت شيئًا آخر لم يكن في الحسبان. تحولت الصدور إلى قبور، وتلاشى بيتي اللطيف من عقلي، ووأدت زوجتي، وبعت أولادي لأقرب مشتريٍ آتٍ، وعرفت الآن أنني أمام أحد أكثر الأشياء كرهًا إلى قلبي، فقد كان طعامًا سيئًا كاسمه: "الكرنبيت" فلا أحسن لفظه بالقرنبيط.
تلفظت بأشياء لا يسعني المقام لسردها على الورق، ثم شربت الماء على مضض، وصليت ركعتين قيامًا لله قبل أن ينتصر غضبي ويخرج، ثم عدت للنوم مجددًا وأنا ألعن فيه الكرنبيت وآكليه. في اليوم التالي صحوت على رائحة طعامٍ مقلي، يشبه قطع الدجاج من بعيد، اقتربت متوجسًا على مهل، فوجدت أمي تعد الكرنبيت نفسه حقيقة أمام عيني.
خرجت من البيت إلى أن عدت في المساء، شعرت بجوعٍ كالعادة، فتحت الثلاجة فوجدت قطعًا كطقع الجبن، لم أقترب هذه المرة، ولم أغمض عيني من هول المفاجأة، فمن أتاه الكرنبيت في الحلم، كيف لمثله أن يجده دجاجًا في الواقع!
وها أنا ذا لا أجد أمامي غير "الأندومي" فلجأت إليها زي الأطفال، وعملت حلة كاملة أطلع فيها غضبي بدل ما أتشل، الله يسامحك يا ماما.