جامع اﻹيمان الشيخ محمد نعيم عرقسوسي
4.44K subscribers
326 photos
84 videos
32 files
187 links
الشيخ محمدنعيم عرقسوسي
Download Telegram
استشهد إسماعيل هنية فخلف ألف إسماعيل، واستشهد يحيى السنوار فأشعل استشهاده عزائم الأبطال الذين تابعوا المسيرة، وقالوا: موتوا على ما مات عليه السنوار.
إنه الصبر الإيجابي الذي ذكره الله تعالى في قوله:
*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*
تعلموا الصبر في الجهاد والثبات عند اللقاء، كما قال تعالى:
*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*
سمعوا قول النبي ﷺ:
"واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً"
لقد ذكروا أن شباباً مقاومين، أثناء حرب 2008- 2009، قضوا أكثر من عشرة أيام في الصفوف الأمامية للقطاع في الخنادق صائمين قائمين، طعامهم التمر والماء فقط.
4- تربيتهم على الشجاعة والإقدام على قتال العدو دون خوف ولا وجل، فكم رأينا من أبطال يدمرون دبابات العدو من مسافة صفر، ولا يعبؤون بأزيز الطائرات ولا بما تلقيه من حمم تحرق الأخضر واليابس.
في حين كان العدو يقاتل من وراء جدر الدبابات وجدر الطائرات وجدر القباب الحديدية وجدر الخوف والرعب، لذلك تجد العدو الصهيوني يتجنب المواجهة البرية المباشرة مع رجال المقاومة، وما أظهر عضلاته إلا في قتل الأطفال والنساء بالطائرات.
5- تربيتهم على الأخذ بالأسباب والعمل بقوله تعالى:
*وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ*
فأعطت المقاومة النموذج الرائع في الإعداد والأخذ بالأسباب في أدق تفاصيلها، فطوَّرت إمكانياتها بكل ما أتيح لها من علمٍ وإبداعٍ ومواد أولية في ظروف قاسية وقياسية.
فالصواريخ التي بلغ مداها أربعين كيلومتر في حرب 2008-2009 تطورت إلى حوالي مئة كيلومترا في حرب 2012، ثم طوِّرت ليصل مداها إلى أكثر من مئة وعشرين كيلومتراً، وأصبحت تغطي كامل فلسطين تقريباً، ووضعت ملايين الإسرائيليين داخل الملاجئ، إضافة إلى تسيير طائرات بدون طيار فوق عدة مدن، بالإضافة إلى اختراق وسائل الإعلام الصهيونية لتوجيه بعض الرسائل للصهاينة بالعبرية عبر قنواتهم التلفزيونية، كما عززت المقاومة من وسائل رصدها الاستخباراتية، فأصبحت أكثر تحصيناً عبر كشف العملاء والخونة والحفاظ على المؤسسات القيادية بعيدة عن الاختراق.
6- تربيتهم على اجتماع الكلمة ووحدة الصف وإصلاح ذات البين وعدم التنازع والتفرق، والقتال تحت راية واحدة بقيادة واحدة، عملاً بقول الله تعالى:
* وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا*
وبقوله تعالى:
*وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ*
لقد أنجزت المقاومة ما وعدت به، وظلَّت المقاومة في هذه المدة المديدة، ظلت أربع مئة وسبعة وستين يوماً، وهي تقاوم وتقاتل وتبلي في الأعداء بلاءً حسناً، وهي تواجه لا دولة الصهاينة فقط، وإنما تواجه دول الغرب العاتية كلها.
ولقد اعترف الصهاينة بضباطهم ومسؤوليهم بالفشل الذريع الذي لحق بهم :
فقالت صحيفة يديعوت أحرونوت: لقد فشل نتنياهو سياسياً، وفشل الجيش ورئيس أركانه عسكرياً بعد 15 شهراً من الحرب.
وألون مزراحي، المقدم التلفزيوني قال: حماس أسطورة لأجيال قادمة، ولقد انتصرت علينا، بل على كل الغرب، وصمدت في المواجهة.
والصحفي الصهيوني زيو روبنشتاين قال: لو كان يحيى السنوار حياً اليوم، لأصبح أباً للأمة العربية.
يوسي يهوشع قال في صحيفة يديعوت كذلك: لا حاجة لتجميل الواقع، الاتفاق الفاشل سيئٌ لإسرائيل، لكنها لا تملك خياراً سوى بقبوله، بعد خمسة عشر شهراً من بدء الحرب لم يتمكن الجيش فعلياً من تفكيك الذراع العسكري لحماس كما لم تبذل القيادة السياسية جهداً ولم تستطع إيجاد بديل حكومي في غزة.
ونتيجة لذلك تمَّ التوصل إلى اتفاق ندفع فيه ثمناً باهظاً.
والجنرال غيورا آيلاند صاحب خطة الجنرالات يقول:
الحرب على غزة فشلٌ كبيرٌ لأنها لم تحقق أهدافها، وكان من الممكن التوصُّل لنفس الصفقة في شهر مايو قبل أن يُقتل 120 جنديا إسرائيلياً.
وقناة نيوز 24 العبرية قالت:
حماس نجحت في عدم إعطاء إسرائيل موطئ قدم في قطاع غزة، وبهذا فشلنا في الوصول إلى أهداف الحرب، حماس تمضي قدما في إدارة القطاع، وبهذا لم تصل إسرائيل إلى أهداف الحرب ولم تُغيِّرَ الواقع في المنطقة.
بالإضافة إلى تصريحات كثيرة من مسؤولين وصحفيين لا يتسع المجال لذكرها.
وقد صدم العدو صدمة شديدة بعد إعلان وقف إطلاق النار، وحين تبادل الأسرى، حين ظهر المجاهدون بكامل عتادهم العسكري مرتدين زيهم الأخضر نظيفاً مرتباً لا تشوبه شائبة، حاملين أسلحتهم بثقة واحترافية؛ وقد انتشروا صفوفاً في جميع أنحاء غزة ببراعة ودقة وتنظيم فائق، لم تكن مجرد مشاهد عادية بل صدمة استراتيجية للعدو الصهيوني الذي اعتقد أنه قضى على المقاومة، حتى قال أحدهم:
أنا مضطر أن أعترف، عندما أشاهد هذه الصور من غزة، و أشاهد رجال حماس مع الأسلحة المرفوعة، أنني لا أستطيع بلع ريقي، سيارات رباعية الدفع بدت وكأنها خرجت من عمق الأرض، و طوفان بشري يحيط بالمقاتلين من كل حدب وصوب.
كان المشهد رسالة للعدو بأن غزة صامدة ولا تزال، رغم تواطؤ العدو عليها، قادرة على إرباك العدو الصهيوني.
وبينما كانت نشوة الانتصار تعم ساحات غزة، هيمنت مشاعر الغضب والحزن على الإسرائيليين، صدموا من صمود الغزيين ونهوضهم من بين الركام.
قال أحد المسؤولين هناك: نحن خسرنا كل هذه المعركة في السابع من أكتوبر، حماس تتحكم بكل دولة إسرائيل اليوم، وكل حديث آخر هو كذب.
لذلك نقول: هنيئا لأهل غزة هذا الصمود وهذا الانتصار، ونقول لأهل غزة: لقد فرحنا لكم كما فرحتم أنتم لنا بزوال الظلم والطغيان عن بلادنا، ونقول لكم: إن فرحكم هو فرحنا، وإن انتصاركم هو انتصارنا، فنسأل الله تعالى أن يتمم لنا ولكم النصر، ويكمل لنا و لكم الفرح بزوال العدوان والاحتلال، و نسأل الله تعالى أن يتم تحرير المسجد الأقصى وتحرير فلسطين كلها، وما ذلك على الله بعزيز.

اللهم أرنا ذلك اليوم يا رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين.
جلسة الصفا

1 شعبان 1446
31 كانون الثاني 2025

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*خطر حب الجاه والعلو (2)*

بسم الله الرحمن الرحيم

وقفنا في الدرس قبل الماضي عند قوله تعالى:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
وذكرنا أن الآية تفيد أن الذي يتطلَّع إلى العلوِّ في الأرض ويطمح إلى التصدر والظهور والرفعة والمناصب، ويستحكم به حب الجاه، فلن يكون له في يوم القيامة إلا الخيبة والخسران، ويحرم التكريم والأجر العظيم، ذلك لأنه لم يكن همه في التقرب إلى الله وتحقيق العبودية لله تعالى، وإنما همُّه تعظيم نفسه وحرصه على أن يُعَظِّمه الناس، وينسى أن مصيره إلى التراب.
وذكرت لكم أن طلب العلو على قسمين:
القسم الأول: عن طريق السلطة والولاية والمنصب، وهذا وقفنا عنده في الدرس قبل الماضي.
والقسم الثاني: أن يكون طلب الشرف والعلو بالأمور الدينية كالزهد والعبادة والعلم والعمل.
قال الحافظ ابن رجب:
هذا أفحش من الأول وأقبح وأشدُّ فساداً وخطراً، لأنَّ العلم والعمل والزهد الأصل فيها أن يطلب بها ما عند الله تعالى من الدرجات العلى والنعيم المقيم، والقرب منه والزلفى لديه.
قال سفيان الثوري:
إنما فُضِّلَ العلم لأنه يُتقى به الله تعالى، وإلا كان كسائر الأشياء، فإذا كان الرجل يطلب بالعلم والزهد والعبادة: الرياسة على الخلق والتعاظم عليهم، وأن ينقاد له الخلق ويخضعوا له ويُقبِّلوا يده ويصرفوا وجوههم إليه، وأن يظهر للناس زيادة علمه على العلماء ليعلو به عليهم، فهذا موعده النار. لأن قصد التكبر على الخلق محرَّمٌ في نفسه، فإذا استعمل فيه آلة الآخرة كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدنيا من المال والسلطان.
فقد روى الإمام الترمذي من حديث كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال:
من طلب العلم ليُماري به السفهاء أو يُجاري به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار.
وروى ابن ماجه وابن حبان من حديث سيدنا جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال:
"لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء و لا لتَخَيَّروا به في مجالس العلم، فمن فعل ذلك فالنار النار"
زاد في رواية: ولكن تعلموه لوجه الله والدار الآخرة.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قوله:
"إن أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة" ، فذكر منهم العالم الذي قرأ القرآن ليقال: قارئ، وتعلَّم العلم ليقال: عالم، وأنه يقال له: قد قيل ذلك، أي تمَّ له ما أراد، فيؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار.
وذكر مثل ذلك في المتصدق ليقال: إنه جواد، وفي المجاهد، ليقال: إنه شجاع.
لذلك قال الحسن البصري: لا يكن حظُّ أحدكم من العلم أن يقال: عالم.
وفي بعض الآثار أن سيدنا عيسى عليه السلام قال:
كيف يكون من أهل العلم من يطلبه ليحدِّث به، ولا يطلبه ليعمل به.
ومن هذا الباب، كراهة أن يُشهر الإنسان نفسه للناس بالعلم والزهد والدين، أو بإظهار الأعمال والأقوال والكرامات ليُزار وتلتمس بركته ودعاؤه وتقبيل يده وهو محبٌّ لذلك ويقيم عليه ويفرح به أو يسعى في أسبابه.
دخل رجل على داود الطائي، فسأله: ما جاء بك؟ فقال: جئت أزورك، فقال: أمَّا أنت فقد أصبت خيراً حيث زُرتَ في الله، ولكن أنا!!! انظر ماذا ألقى غداً إذا قيل لي: من أنت حتى تزار؟؟ من الزهَّاد أنت؟ لا والله. من العبَّاد أنت؟ لا والله. من الصالحين أنت؟ لا والله. وعدد خصال الخير على هذا الوجه، ثم جعل يوبِّخ نفسه فيقول: يا داود: كنت في شبابك فاسقاً، فلما شبت صرت مرائياً، والمرائي أشدُّ من الفاسق.
وكان أحد كبار الصالحين وهو محمد بن واسع يقول: لو أن للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يُجالسني.
وكان إبراهيم النخعي إذا دخل عليه أحد وهو يقرأ المصحف غطَّاه.
وكان أويس القرني وغيره من الزهَّاد إذا عُرِفوا في مكان ارتحلوا عنه.
وكتب بعض السلف يقول لمن يسأله الدعاء: أَمِنِّي أنا؟؟!!! وممن رُويَ عنه ذلك سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وحذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما، وكذلك مالك بن دينار.
يعني أن هؤلاء يهربون من الشهرة لئلا يكون ذلك من العلو في الأرض.
وهنا مسألة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يَذمُّ نفسه بين الناس يريد بذلك أن يُريهم أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبَّه عليه السلف الصالح، قال مُطرِّف بن عبد الله بن الشخير: كفى بالنفس إطراءً أن تَذُمّها على الملأ، كأنك تريد بذمِّها زينتها، وذلك عند الله تعالى سَفَه.
قال الحافظ ابن رجب:
اعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هنا نشأ الكبر والحسد، ولكن العاقل ينافس في العلوِّ الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله تعالى وقربه وجواره، ويرغب عن العلوِّ الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله تعالى وسخطه، وبعده عن الله تعالى وطرده عنه، فهذا العلو الفاني الذي يُذَم، وهو العتو والتكبر في الأرض بغير الحق.
أقول: ومن طرق العلو المذموم، توجيه أحدهم سهام النقد اللاذع إلى غيره، واستصغاره والسخرية منه ومن آرائه ومذهبه وتوجُّهاته، والإمعان في الطعن فيه وفي شخصه، كل ذلك ليظهر هذا الناقد نفسه ويعلي من شأن ذاته، وليظهر للناس أنه هو على الصواب، وأنه مترفِّع عن هذه الأخطاء التي رمى بها غيره، فالذي يتقي الله تعالى ولا يريد العلو في الأرض، لا يطلق لسانه بإظهار عيوب الآخرين والتنديد بأشخاصهم، ولا يحاول تعظيم نفسه بتسليط الأضواء على أعماله ولا يلهث وراء الإعجابات الألفية على تعليقاته ونقده، لكي يزداد شهرة ورفعة في أعين الناس.
ومن طرق العلوِّ المذموم، ألا يزال المرء مجادلاً مماحكاً ممارياً حريصاً على أن تكون له الغلبة في الجدال ولو بغير حق، وذلك من أجل أن يعلو على صاحبه ويظهر فضله عليه.
ولقد أورد الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" عن الإمام الشافعي أنه قال:
ما ناظرت أحداً قط على الغلبة.
وقال الشافعي: ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ.
وفي رواية: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يُظهر الله تعالى الحق على لسانه.
هذا نموذج الرجل الذي لا يريد علواً في الأرض.
إن العلو الفاني المنقطع يعقب صاحبه غداً حسرة وندامة وذلةًّ وهواناً وصغاراً، وإن النظر في عاقبة هؤلاء المتكبرين الحريصين على العلو والرفعة، كاف في أن يُزَهِّدَ المرء في ذلك ويقلع عنه.
وقد استأذن رجل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في القصص على الناس، يعني في وعظهم، وكانت دروس الوعظ تسمى القصص، لأن فيها قصصاً ذات عبرة، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: إني أخاف أن تقصَّ عليهم فترتفع عليهم في نفسك حتى يضعك الله تعالى تحت أرجلهم يوم القيامة.
وخرج عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يوماً من منزله، فاتبعه أناس، فالتفت إليهم، فقال لهم: علامَ تتبعوني؟ فو الله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي، ما اتبعني منكم رجلان.
وكتب وهب بن منبه إلى مكحول:
أما بعد، فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفاً ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.
جلسة الصفا

8 شعبان 1446
7 شباط 2025

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:
*مخاطر الأنا المتورِّمة*

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدثنا في الأسابيع الماضية عن مخاطر حبِّ العلوِّ في الأرض، وشهوة الحرص على الظهور والتصدُّر والترفُّع على الناس وما يُسميه العامة (البروظة)، وشهوة الحرص على الجاه والمناصب، وما يفوته على المرء من الخيرات العظيمة، وما يكون سبباً في قسوة القلب وتيبُّس المشاعر والأحاسيس، وجفاف الرحمة في النفس.
ولا شك أن الباعث على ذلك والدافع إليه هو تورُّم الأنا، هو الأنا المتورِّمة المتضخمة والتي يسعى صاحبها إلى إرضائها وإشباع غرورها.
والأنا في الحقيقة هي النفس الأمارة بالسوء، والتي تحجب عن الإنسان أسباب الهداية وتحول بينه وبين الخيرات وتوقعه في أسوأ الطامات والبلايا والآفات.
وقد كان الشيخ علي الدقر رحمه الله تعالى في دروسه ومواعظه يُسَمِّيها (الست نفُّوس) فما تأمر به الست نفُّوس يخضع له صاحبها ويُلبِّي طلباتها، والتي تأمر صاحبها بالانتصار لنفسه، ولو كان على الباطل والخطأ المحض، فالذي يُحرِّكه ويوجهه حظ النفس.
ومن آفات ومخاطر الأنا أنها تحرم الإنسان من الهداية وتحرمه من اتباع الرشاد والصواب، ومثال ذلك إبليس الرجيم، الذي كانت أول كلمة قالها هي كلمة (أنا)، فحين أُمِرَ بالسجود لآدم أبى وامتنع عن السجود، ولما سئل: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟؟ قال: (أنا خير منه)، وعلَّل ذلك بتعليل فاسد، فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فاعتدَّ بعنصره، واغترَّ بمعدنه، ونسي أنه مخلوق لا فضل له في خلقه، ولا يد له في ذلك، قال تعالى:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾
والأنا المتورمة هي التي تدفع إلى الجريمة، فهي التي دعت قابيل إلى أن يقتل أخاه هابيل، قال تعالى:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾

وهذه الأنا المتورمة تدعو إلى التجبر والتكبر والعتو والطغيان، وهي التي دفعت فرعون إلى أن يقول: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ وإلى أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري، وإلى أن يقول: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ وإلى أن يعتد بملكه وسلطانه، فقال: ﴿ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ وإلى أن يسخر بسيدنا موسى من لثغة لسانه ويزدهي هو بتمام خلقه، فقال: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾
ومعنى مهين: أي لا شيء له من الملك والأموال مع العلة التي في جسده والآفة التي بلسانه.
إن سخريته بموسى كانت بسبب داء الأنا الذي استحكم في نفسه وتمكَّن في كيانه.
والأنا المتورمة تدفع صاحبها إلى الاستيلاء على ما في أيدي الناس، فهي التي سوَّلت لمن يملك تسعاً وتسعين نعجة أن يعتدي على أخيه الذي لا يملك سوى نعجة واحدة، وطلب منه أن يضمَّ نعجته إلى ما يملكه من الغنم وذلك بعد أن تملكته الأنانية وحب الذات، قال الله تعالى يحكي شكاية أحدهما إلى سيدنا داود :
﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾
والأنا المتورمة تدفع إلى احتقار الآخرين وازدرائهم، فهي التي دعت صاحب الجنتين إلى أن يتعالى على صاحبه بما يملكه ويفخر عليه بما تحت يده، فقال له: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾
أرأيتم كيف تظهر هذه الأنا في كلام صاحب الأنانية المعتد بنفسه والمعتز بذاته، وينسى أن بدايته نطفة مذرة وأن نهايته جيفة قذرة وهو ما بين هذا وهذا يحمل في بطنه العذَرَة.
والأنانية المفرطة وحب الذات المرضي تدفع إلى الضن بالخير عن الناس والاستئثار به والاستحواذ عليه، وهي التي سعت بأصحاب الجنة (البستان) لأن يحلفوا أن يقطفوا ثمرها في الصباح الباكر حتى لا يراهم أحد من المساكين، فآتاهم الله تعالى على سوء نيتهم ما يستحقون بسبب حرصهم على ثمار جنتهم، فأحرقها ولم يبق منها شيئاً، قال تعالى:
﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾
الأنانية المفرطة هي التي تجعل الخلافات بين الأشخاص تصل إلى طريق مسدود، فلا يرضى أحد المتخاصمين القبول بالحق ويظن أن خضوعه للحق ضعفٌ فيه وامتهانٌ لشخصيته، فأيِّ خلاف لا يصل المصلحون فيه إلى حلِّ مناسب، يكون بسبب حظ النفس المقيت، إذ يتمسك كل طرف بما يراه ولا يتنازل للحل السديد الموفق بين الطرفين، لأن نفسه تتلاعب به وتمنعه من قبول الصلح.
الأنانية المتورمة آثارها خطيرة جداً في حياة الأمة، إذ هي سبب المنازعات والاختلافات، وسبب التهاجر والتدابر والتقاطع، كما قال عليه الصلاة والسلام عن المتخاصمين:
يلتقيان فيعرض هذا ويعرض ذاك، استجابة لحظ النفس، فقال عليه الصلاة والسلام: وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام. هو خيرهما لأنه تغلَّب على حظِّ نفسه، ونهى النفس عن هواها، وأخضعها لأوامر الله تعالى ورسوله، وقد جاءنا الله تعالى بهذا الدين العظيم وبهدي القرآن الكريم وهدي رسوله الكريم ﷺ، ليعالج النفوس ويهذبها ويزكيها ويخلصها من الأنانية المفرطة المتورمة، فعلَّم الناس الإيثار بدل الأثرة، وعلَّمهم التواضع بدل الكبر، وعلَّمهم الخضوع للحق بدل رفضه، قال تعالى:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

وشحِّ النفس والاستئثار بما يملك المرء سببه الأنا وحظ النفس، والبخل كذلك إنما يدعو إليه الأنانية وحب النفس وحظ النفس، لذلك كانت الآيات الكثيرة تدعوا إلى الإنفاق على ذوي القربى واليتامى والمساكين وأصحاب الاحتياج بشكل عام.
ووعد الله تعالى المنفقين الذين يتخلون عن حظوظ أنفسهم في إمساك المال، وينفقونه في سبيل الله بالأجر العظيم والمقام الكريم قال تعالى:
﴿إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ (15) ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ (16) كَانُواْ قَلِيلٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ (17) وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ (18) وَفِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ (19)﴾
والآيات في الحضِّ على الإنفاق وتفقُّد أحوال المساكين والمحتاجين كثيرة في القرآن الكريم.
كل ذلك لتخليص النفوس من شحِّها وأنانيتها وبخلها.
لقد علَّمتهم الاستجابة ل (نحن) بدل الإصرار على الأنا، فلما قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، قال النبي ﷺ: لقد حجَّرت واسعاً.
وكان رسول الله ﷺ يكره التلفظ بكلمة أنا إذا كانت لا تفيد السائل عن جوابه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: أتيت النبي ﷺ في دين كان على أبي، فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال : أنا أنا، كأنه كرهها.
وقال رسول الله ﷺ مخلصا المسلم من حب الخير لنفسه فقط دون أن يحبه للآخرين، قال:
لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ولما قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه للنبي ﷺ: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال له النبي ﷺ: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك.
وبهذا التوجيه القرآني والنبوي صقلت (أنا) التي تعني الأنانية من حياة المسلمين، وحلت محلها (أنا) الإيجابية التي تدعو إلى التواضع، فقد أتى النبي ﷺ رجل فكلمه فجعل ترعد فرائضه، فقال له النبي ﷺ: هوِّن عليك فأنا لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد، أي اللحم المجفف، وهو طعام عامة الناس.
وقال النبي ﷺ: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله.
فإذا طلب أحد منك خدمة فقل له: أنا في خدمتك وتلبية طلبك، حوِّل أنا الكبر إلى أنا التواضع والخدمة.
وقد جعل الله تعالى ليلة من ليالي شهر شعبان المبارك من تاب فيها من كبره ومشاحنته وحظ نفسه، نالته مغفرة الله تعالى.
فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله ﷺ قال:
*يطَّلِعُ الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين: مُشاحن وقاتل نفس.
والمشاحن وقاتل النفس دفعهما إلى المشاحنة والقتل، حظ النفس الأمارة بالسوء، والمشاحن هو الذي يجادل بالباطل ولا يرضخ للحق.
وفي رواية: يغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن.
وفي رواية: ولا ينظر الله إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى عاق لوالديه. ولا إلى مسبل (متكبر) ولا إلى مدمن خمر.
وإذا نظرنا إلى أمر هؤلاء الذين لا ينظر الله إليهم في تلك الليلة نظرة رحمة ومغفرة، نجد أن الدافع والباعث لهم على ما وقعوا فيه من الرياء والشحناء وقطع الرحم وعقوق الوالدين والكبر وإدمان الخمر، هو الاستجابة لحظ النفس وتلبية ل (أنا) المتورمة.
وفي رواية: يطلع الله على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخِّر أهل الحقد كما هم.
وليس أهل الحقد إلا من تمكنت في نفوسهم هذه الأنا المدمرة المتورمة، فلم ينتزعوها من نفوسهم ولم يهذبوها في سلوكهم.
فلِنَعْمل على تنقية نفوسنا من حظوظ النفس ولِنَتُب إلى الله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ليكرمنا الله تعالى بالنظر إلينا نظرة الرحمة والمغفرة في هذه الليلة التي تصادف ليلة الجمعة القادمة، ويجتمع فيها فضلان، فضل ليلة الجمعة وفضل ليلة النصف من شعبان.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكِّاها، أنت وليُّها ومولاها، يا رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

و الحمد لله رب العالمين.
💫بعونه تعالى 💫
تم صدور الطبعة الثانية من كتاب آية
جلسة الصفا

22 شعبان 1446
21 شباط 2025

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:

أهمية الاستعانة بأصحاب الخبرة والكفاءات

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد في الهدي القرآني وتبعه الهدي النبوي، أن الله سبحانه وتعالى يريد منا لتكون أعمالنا أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ وأقرب إلى النجاح والكمال، سواء كان ذلك في تجاراتنا أو في صناعاتنا أو في تولية شؤون أمورنا، يُريد منا أن نستعين بأصحاب الخبرة الذين يرفدوننا بنتائج تجاربهم وخلاصة خبرتهم، فهم أهل الخبرة وهم أصحاب الدراية في أي مجال كانت خبرتهم، وبالاستفادة من خبرتهم يوفرون على الناس الوقت، ويحفظونهم من الوقوع في تجارب فاشلة يضيع فيها الجهد والوقت معاً.
قال الله تعالى: (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير)، قال العلامة النسفي في تفسيره: يريد أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به.
وقال تعالى كذلك: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)
وقد أمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يسأل مؤمني أهل الكتابين -التوراة والإنجيل- لأن عندهم شيئاً من الدراية والخبرة، فقال تعالى في سورة يونس:
(فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)
وقال في سورة الزخرف:
(وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا)
ثم أمر الله تعالى المسلمين جميعاً بمثل ذلك، فقال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)، وجه الدلالة في الآية أن الله عز وجل أمر بالرجوع إلى أهل العلم والمعرفة والخبرة في كل فن من الفنون، كلٌ حسب فنه وعلمه وخبرته.
ومن الأمثلة العملية، قال الله تعالى:
(يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأنْتُمْ حُرُمٌ ومَن قَتَلَهُ مِنكم مُتَعَمِّدًا فَجَزاءُ مِثْلِ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنكم)
فالآية الكريمة أوجبت الرجوع إلى أهل الخبرة في تقدير الصيد الذي قتله المحرم متعمداً، وفي كل ما يحتاج إلى تقويم وتقدير.
وعلمنا الله تعالى أن نقبل قول صاحب الخبرة بصرف النظر عن قائله ولو كان قائله كافراً، ففي قصة بلقيس التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، حين جاءها كتاب سيدنا سليمان عليه السلام، قالت لحاشيتها -فيما حكى الله تعالى عنها:
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ⦅34))، فعقَّب الله تعالى على قولها هذا فقال: (وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ)، أي شهد بصحة قولها في ذلك لأنها خبيرة بهذا الشأن.
إن الاتباع للصواب ولقول صاحب الخبرة انحياز للهدي القرآني، حتى لو جاء من مبغض أو عدو، وهو انحياز لما فيه مصلحة البلاد والعباد.
فلما عرف ملك مصر زمن سيدنا يوسف عليه السلام ما يمتلكه سيدنا يوسف من الخبرة في إدارة شؤون الدولة في ظروف الشدة والمجاعة قال لملئه:
*ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.*
فاختار الملك سيدنا يوسف ليكون على وزارة التموين والاقتصاد لما عرف فيه من الخبرة والمهارة.
ولترسيخ أمر الاستفادة من تجارب الآخرين وخبراتهم، أمر الله تعالى نبيه محمدا ﷺ -مع أنه ينزل عليه الوحي- أن يشاور أصحابه، فقال تعالى:
(وشاورهم في الأمر)
قال شيخ الإسلام:
"لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه ﷺ، فقال: (وشاورهم في الأمر ) وذلك ليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحيٌ من أمر الحروب وأمور الدنيا".
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
"إذا أمر الله تعالى بها النبي ﷺ مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره؟!"
وأثنى الله تعالى على المؤمنين بذلك، فقال: *وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ.*
وهذا هو الذي سار عليه النبي ﷺ، فقد كان يعتمد في تولية الأمور معيار الكفاءة والخبرة، فلم يول أحدا أي منصب إلا بمعيار الكفاءة، ولم يستعمل من أهله وعشيرته سوى الأكفاء في كل عمل، حيث أمر ابن عمه علي بن ابي طالب بالنوم في مكانه أثناء الهجرة ليؤدي الأمانات إلى أهلها لأن له معرفة بذلك.
حتى أن النبي ﷺ كان يستعين بأصحاب الخبرات والمهارات ولو لم يكونوا مسلمين إذا وثق بأمانتهم، ففي حادثة الهجرة استأجر رجلاً كافراً اسمه عبد الله بن أُريقط ليكون دليله في طريق الهجرة إلى المدينة، حيث كان عارفاً بالدروب والمسالك والطرق مع أنه كافر، لكنه خبيرٌ بأمر الطرق وهو مؤتمنٌ كذلك، فوثق به النبي ﷺ لخبرته وأمانته مع أنه مشرك.
وفي غزوة بدر لما اختار النبي ﷺ موقعاً لمعسكره، جاءه الحُباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه وسأله عن سبب اختيار هذا الموقع، فقال له: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لك أن تتعداه ولا تتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال النبي ﷺ: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال له الحباب: يا رسول الله، ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أقرب ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر ما وراءه من القلب (أي الآبار ) ثم نبني حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله ﷺ: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله ﷺ ففعل ذلك.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنا مع رسول الله ﷺ يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى. وجه الدلالة أن النبي ﷺ آثر إسناد القيادة العسكرية إلى خالد بن الوليد مع أنه كان حديث عهدٍ بالإسلام، وفي الجيش من هو أكثر منه علماً بالدين، لأنه كان من أدهى المسلمين وأعلمهم بفنون القتال وأكثرهم خبرةً بها.
وفي الجاهلية كانوا يقدحون بنسب أسامة بن زيد لكونه كان أسودا، وكان أبوه زيد أبيض من القطن، فاعتمد النبي ﷺ في إثبات نسب أسامة بن زيد لأبيه، قول القائف مُجَزِّر المُدلجي، والقائف هو الخبير الذي يستدل بشبه الإنسان بغيره على النسب ويلحقه به، بما خصه الله تعالى به من علم ذلك، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: "دخل علي رسول الله ﷺ ذات يوم وهو مسرور، فقال: يا عائشة، ألم تري أن مجزِّر المُدلجي دخل فرأى أسامة وزيداً نائمين و قد غطياً رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
وثمة أحاديث أخرى تُبيِّن أن النبي ﷺ كان يستعين بأصحاب الخبرة والكفاءة في أموره الدنيوية.
ومن هذا المبدأ وهذا المنطلق أمر النبي ﷺ من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين أن يولي في شؤونهم من هو أصلح لهم، وإلا عرَّض أمورهم للخلل والاضطراب.
وكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك، فقال كلمة معناها: أنه حادَ عن الهدي القرآني والهدي النبوي.
وكان الرسول ﷺ لا يعطي الولاية لأي شخص يطلبها، فروى الإمام البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه قال: دخلت على النبي ﷺ أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولَّاك الله عز وجل. وقال الآخر مثله، فقال النبي ﷺ: إنا لا نُولِّي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه.
ومن استعانة النبي ﷺ بأصحاب الخبرة أنه ﷺ أمر عمرو بن العاص على سرية ذات السلاسل عقب إسلامه بشهرين، لأنه كان ذا كفاءة عالية وخبرة مديدة في المعارك، وعرف النبي ﷺ حسن إسلامه، ثم عينه حاكماً على عُمان.
وثمة وقائع عديدة وأحاديث كثيرة في هذا المجال، لا نطيل بذكرها، فيها أن النبي ﷺ سار على الهدي القرآني في الاستعانة في أمور الدنيا بأصحاب الخبرة والكفاءة.
يحسن بكم أن تقرؤوا السيرة النبوية لتتعرفوا على هذه الوقائع وهدي النبي ﷺ في الاختيار وتولية الأمور من هو جدير بها ومن أهل الاختصاص فيها.
وختاما نقول: إن النبي ﷺ أخبرنا أن الله تعالى يحب منا أن نتقن أعمالنا، فقال ﷺ:
"إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه"
ومن الإتقان الاستعانة بأهل الإتقان.

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وأصلح لنا أمورنا بتوفيقك لنا يا رب العالمين.


والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
جلسة الصفا

7 رمضان 1446
7 آذار 2025

لفضيلة الشيخ
محمد نعيم عرقسوسي

بعنوان:

الصيام ومكاسب حسن الخلق

بسم الله الرحمن الرحيم

إن من أسماء الله الحسنى اسم الله (الحكيم)، وقد ذكر في القرآن مرات عديدة، مثل قوله تعالى: *"وهو العلي الحكيم"* ، وقوله: *"وهو العزيز الحكيم"* ، وقوله: *"وهو الحكيم الخبير"،* وتقدم اسم (الحكيم) على العليم في بعض الآيات، فقال تعالى: *"وهو الحكيم العليم"* ، وقوله: *"إنه حكيم عليم"*، فاقترن اسم (الحكيم) مع (العليم) و(الخبير) و(العزيز)، مما يبين أن حكمة الله تعالى مقترنة بعلمه وخبرته وعزته.
وهذا يشير إلى أنه لا يصدر عن الله تعالى إلا ما فيه حكمة وفائدة ومصلحة، فجميع أوامره وتشريعاته قائمة على الحكمة، والله تعالى منزهٌ عن العبث في خلقه وأمره.

وكما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
"الشريعة عدلٌ كلها؛ رحمة كلها؛ مصالح كلها؛ حكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخِلَت فيها بألف تأويل".

ومن هنا كانت ثمة حكمة عظيمة في تشريع الصيام لعباده المؤمنين، وبيَّن الله تعالى حكمة ذلك في قوله عز وجل:
*يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*
ففي هذه الآية الكريمة أجمل الله تعالى الحكمة من الصيام، وذلك في قوله: ( *لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* ).
وهذا يشير بوضوح إلى أنه ليس المراد من الصيام الحرمان من الطعام والشراب طيلة النهار، وماذا ينال الله تعالى من ذلك؟! إنما المراد الوصول بالصائم إلى هذه الفضيلة وإلى منزلة التقوى التي يحب الله تعالى المتحققين بها، وهو القائل: ( *إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ* ).
وقد بين الله تعالى بعض خصال هذه التقوى في قوله عز وجل عن الجنة:
*أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ (133) ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (134) وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ (135)*
والمتأمل في هذه الصفات يجد أنها من صفات الأخلاق الحسنة والخصال الحميدة من الكرم والحلم والعفو والصفح والإحسان والتسامح واللين والاعتذار عن الذنب وعدم الإصرار على الباطل، مما يدل على أن من أهم مرادات التقوى حسن الخلق الذي يجب أن يتحلى به الصائم أثناء صيامه، وأن يتحقق به طيلة حياته، والصوم يرسخ فيه هذا المعنى، ويعينه على تزكية نفسه وتهذيبها وتشذيبها، إذ امتناعه عن أقوى شهوتين فيه، سبيلٌ إلى الامتناع عن رعونات نفسه ورذائلها؛ والتخلي عن مساوئها بإرادته وتصميمه، ودليل على أنه قادر على ذلك متمكن منه، وكم سمعنا أحاديث النبي ﷺ التي يشير فيها إلى ما ينبغي أن يحذر منه الصائم وهو قائم في هذه العبادة الجليلة، من مثل قوله ﷺ:
"إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل".
وفي رواية:
"إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب".
ثم ذكر النبي ﷺ مثالاً عملياً لموقف قد يتعرض له الصائم، فقال عليه الصلاة والسلام:
"فإن سابَّه أحد أو شاتمه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم".
كم سمعنا هذه الأحاديث التي تشدد على وجوب تحلي الصائم بالحلم وضبط الأعصاب وكظم الغيظ وعدم الانجرار وراء ردود الأفعال، والثبات على المبدأ وحسن الخلق سيما أنه متلبس بعبادة عظيمة، عبادة ملائكية، فلا يليق به أن يتردى إلى مهاوي الشياطين ورذائل المفسدين.
ومن لم يصل إلى هذا المستوى المطلوب شرعا من حسن الخلق وضبط النفس؛ ولم يتخلص من النزق وإطلاق اللسان فيما لا يحل، فقد أجر هذه العبادة وخسر ثوابها، فقال عليه الصلاة والسلام:
"من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وقال:
"ربَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وربَّ قائم ليس له من قيام الليل إلا السهر".
ذلك أن هؤلاء لم يصلوا بعباداتهم إلى روحها ومقاصدها، وإنما كانت طقوساً أدوها ورسوماً خالية من المعنى.
وبالتأمل في تشريع الله تعالى وما سنه لنا رسول الله ﷺ، نجد أنه يحفز المؤمنين إلى صياغة أنفسهم صياغة إيمانية، ومن أهمها حسن الخلق مع الخلق، لأن الدين هو حسن الخلق، وقال النبي ﷺ:
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وهناك آيتان فيهما صفات المتقين:
الآية الأولى في سورة آل عمران:
*وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ (133) ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (134) وَٱلَّذِينَ إِذَا
فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ (135)*

والآية الثانية في سورة البقرة:
*"ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ"*

ولنسمع ما لصاحب الخلق الحسن من الفضائل والمنازل عند الله تعالى وعند رسوله ﷺ:

1- هو من أحب عباد الله تعالى إليه، فقد روى الطبراني والحاكم من حديث أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه قال:
"كنا جلوسا عند رسول الله ﷺ كأنما على رؤوسنا الطير، إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: أحسنهم خلقاً".
2- وهو كذلك من أحب العباد إلى رسول الله ﷺ، فقد قال النبي ﷺ للصحابة:
"ألا أخبركم بأحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة؟ وأعادها مرتين أو ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: أحسنكم أخلاقاً".
3- ولقد جعل النبي ﷺ حسن الخلق أكمل خصال الإيمان، فأخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال:
"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً".
وزاد في رواية :
"وإن المرء ليكون مؤمناً وإن في خلقه شيئا فينتقص ذلك من إيمانه".
4- ولما كان حسن الخلق أكمل المؤمنين إيماناً كان أفضلهم، فروى ابن ماجه وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ﷺ قال:
"أفضل المؤمنين أحسنهم خلقاً".
وفي رواية:
"خير الناس أحسنهم خلقاً".
5- صاحب الخلق الحسن يحرِّمه الله تعالى على النار، فقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن حبان عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال:
"إنما تحرم النار على كل هيِّن ليِّن سهلٍ قريب".
وفي رواية: أنه ﷺ سألهم: "ألا أخبركم عن من يحرم على النار ومن تحرم عليه النار"، فأخبرهم بذلك.
وهذه الصفات الجميلة الرائعة من حسن الخلق: هين لين سهل قريب؛ مما يشيع المحبة بين الناس ويقوي بينهم الأواصر والروابط؛ لأنها صفات محبوبة قريبة من الفطرة قريبة من الناس.
وفي المقابل قال عليه الصلاة والسلام؛ فيما رواه الإمام أحمد والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو: "أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جمَّاع ومنَّاع".
يعني أن أهل النار كل سيء الخلق غليظ الطبع فاسد المزاج، فالجعظري والجواظ أي غليظ القلب سيء الخلق المتباهي بنفسه المختال في مشيته العنيد في رأيه، وهذه الكلمات بحروفها وجرسها تدل على بشاعة خلق أصحابها.
وفي رواية عند ابن حبان:
"إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب بالأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة".
فكما أن حسن الخلق محبوب من الله تعالى، فإن سيء الخلق مبغوض من الله مبغوض من عباد الله.
6- ثم إن صاحب الخلق الحسن يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم، لئلا يشتغل المريد للتقوى عن حسن الخلق بالصوم والصلاة ويظن أن ذلك يكفيه، فروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها عن النبي ﷺ قال:
"إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم". أي أن حسن الخلق عبادة أربع وعشرين ساعة.
7- ولما كان الأمر كذلك كان حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان، فروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء عن النبي ﷺ، قال:
"ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق".
8- وعلاوة على ذلك، يُعلي الله تعالى من منزلة حسن الخلق يوم القيامة، فروى أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال:
"أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".
ولما كان لحسن الخلق هذه الفضائل والمنازل كلها، سئل النبي ﷺ ، فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أسامة بن شريك، قالوا: يا رسول الله ما أفضل ما أعطي المسلم؟ قال: الخلق الحسن.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله ﷺ: "يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك".

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
واصرف عنا سيء الاخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

والحمد لله رب العالمين