من مذكراتي.. الأمن السياسي .. 1 - 13
(1)
احتجازي في الأمن السياسي
في تاريخ 10 اكتوبر 2006 أتجهنا من مكتب النائب العام إلى بوابة الأمن السياسي بعد أن حصلنا على الأرجح معلومة غير مؤكدة، وربما استنتاج شبه مؤكد أن الأمن السياسي هو من مارس الإخفاء القسري بحق الناشط الحقوقي علي الديلمي، وأنه الآن معتقل في مبنى جهاز الأمن السياسي في صنعاء..
أذكر أنني كنت أحد أصحاب اقتراح نقل تجمعنا واحتجاجنا من النيابة العامة إلى أمام بوابة الأمن السياسي، حاملين مذكرة من النائب العام موجهة إلى رئيس جهاز الأمن السياسي تتضمن السؤال، وطلب الافادة عمّا إذا كان علي الديلمي محتجزا لديهم..
كان جهاز الأمن السياسي آنذاك مهابا إلى حد بعيد، وربما الاحتجاج أمام بوابته كان محذورا ولا يخلوا من مغامرة، وزائد عليه أنه فعل غير مسبوق.. خطوة غير معتادة تنال من هيبة هذا الجهاز ومقامه ليس فقط في وعي الناس، بل حتى في وعي العاملين فيه والقائمين عليه..
انتقلنا من مكتب النائب العام إلى أمام بوابة المقر الرئيسي للجهاز، وعندما كنّا نتعرض إلى الإبعاد قسرا من البوابة الرئيسية تحت عنوان "ممنوع" انسحبنا إلى تحت الشجرة التي تبعد بحدود المائة متر أو أكثر من البوابة الرئيسي..
ورغم هذا أستمرت ضدنا الاستفزازات اللافتة من قبل ضباط وجنود الأمن، وحدثت بعض المناوشات المستفزة من قبلهم، وكانت تجري اتصالات بين ضباط الأمن ومسؤوليه على الأرجح لا أعرف مضمونها، ولكن تلك الاستفزازات كانت تكبر، وتكاد تتحول إلى اعتداء على المعتصمين..
أخرجت الكاميرا من الجاكت الذي كنت ارتديه، وربما أنا من حاول التصوير أو ناولتها شخص من المحتجين ليقوم به.. وأتذكر إن اضاءة فلاش الكاميرا عند التصوير قد لفتت نظر ضباط وجنود الأمن..
هرعوا نحونا وكأنهم ممسوسين.. بعضهم كان قريبا جدا منّا، وبعضهم كان بعيدا.. فلاش كاميرا كان يكفي لاستنفار واسع لا مبرر له غير الهلع.. ناولتُ الكاميرا التي صارت في يدي لرضية المتوكل التي كانت تقف خلفي، والتي أخبتها في حقيبتها..
لم يستطع الجنود معرفة أين ذهبت الكاميرا، ولكني أخبرتهم أنها تتبعني، ولم أكشف لهم أين هي، وبأي حيازة صارت.. كانوا مصرين على الوصول إليها وأخذها.. وعوضا عن هذا أخبرتهم أنني عضو مجلس النواب، وأنني من قمتُ بالتصوير.. فيما ظلت مطالبتهم بتسليم الكاميرا لحوحة ومتشددة..
تمت اتصالات عدة بين ضباط الأمن ومسؤوليهم، ويبدو أن الأوامر صدرت باحتجازي.. هددوني باستخدام القوة ضدي، وسحبي من بين المحتجين، ثم حاولوا بالفعل انفاذ تهديدهم والذي يبدو أنه كان تنفيذا لأوامر تلقوها من قيادتهم العليا.. بدا لي الأمر لا يقبل المراوحة، ومع ذلك ظللت مستغرقا في رفضي أن أسلم لهم الكاميرا أو أدلهم عليها.
بدت لي بوادر المواجهة تشتد وتكاد تحتدم.. شاهدت رجال الأمن يحاولون انتزاعي من بين المحتجين، فيما المحتجين يحاولون منعهم، بل والدفاع عني حد المواجهة.. بدت المواجهة بتدافع الأيدي والأجساد بين مهاجم ومدافع..
كان الأمر يحتاج إلى مبادرة وقرار إنقاذ سريع من قبلي.. أحسست إن نتيجة أي مواجهه ستكون بكلفة أكبر، ومفتوحة على المجهول؛ فخرجت من الجمع، وقررت أن أذهب معهم برغبتي وإرادتي تجنبا لما كان سيحدث.. أظن أن قراري هذا كان صائبا إلى حد بعيد، لا سيما أن المواجهة كادت تكون أكيدة، والاحتدام وشيك.. لم أرغب بمزيد من التداعي للموقف الذي بدا لي حساسا، وينذر بشؤم الاحتدام..
ذهبت معهم إلى داخل مبنى الجهاز.. تركت خلفي مخاوف الأحبة، وحبهم الذي ذادوا به عني.. تهيئت لكل احتمال ومجهول بعيدا عنهم.. اقتادوني مجموعة من الضباط والجنود إلى الداخل.. أول مرة أتجاوز بوابة جهاز الأمن السياسي إلى الداخل.. وفي الداخل شاهدت الفناء واسعا.. مباني متعددة.. طرق ومماشي عدة.. بديت وهم حولي وخلفي أشبه بمن نفذوا غزوة حربية، وعادوا بي إلى ديارهم كغنيمة حرب..
اقتادوني يسارا ويمين.. ثم يمينا ويسار.. سلموني لأحدهم كان في انتظاري يبدو أنه ضباط أرفع رتبة.. كان مرتديا قميصا وسروالا مدنيا.. بدا لي حاد الملامح وشديد التحفز لالتهامي.. وجهه مستطيل لا يخلوا من تكشيرة كلب بولسي حالما ينقض على مجرم خطير بتوجيه من سيده..
كان واضحا عليه أنه ينتظرني بصبر كاد ينفذ.. شاهدت سؤال يكاد يثب من عينيه كذئب: من هذا النائب أو من هذا الذي يجرؤ على التصوير ويرفض تسليم الكاميرا لجهاز يخافه ويهابه كل الناس؟!! كانت عيناه المتوعدتان تقدح شرا وشررا.. بدا لي ومن أول وهلة سيء الطباع وفض القلب والمعاملة.. هنا الاخلاق نحو الضحايا أشبه بالأمر المستحيل.. لا يتأتى إلا عن طريق التمثيل وتقمص الدور بتصنع وتكلف شديد، لا يخلوا من معاناة جمة..
(1)
احتجازي في الأمن السياسي
في تاريخ 10 اكتوبر 2006 أتجهنا من مكتب النائب العام إلى بوابة الأمن السياسي بعد أن حصلنا على الأرجح معلومة غير مؤكدة، وربما استنتاج شبه مؤكد أن الأمن السياسي هو من مارس الإخفاء القسري بحق الناشط الحقوقي علي الديلمي، وأنه الآن معتقل في مبنى جهاز الأمن السياسي في صنعاء..
أذكر أنني كنت أحد أصحاب اقتراح نقل تجمعنا واحتجاجنا من النيابة العامة إلى أمام بوابة الأمن السياسي، حاملين مذكرة من النائب العام موجهة إلى رئيس جهاز الأمن السياسي تتضمن السؤال، وطلب الافادة عمّا إذا كان علي الديلمي محتجزا لديهم..
كان جهاز الأمن السياسي آنذاك مهابا إلى حد بعيد، وربما الاحتجاج أمام بوابته كان محذورا ولا يخلوا من مغامرة، وزائد عليه أنه فعل غير مسبوق.. خطوة غير معتادة تنال من هيبة هذا الجهاز ومقامه ليس فقط في وعي الناس، بل حتى في وعي العاملين فيه والقائمين عليه..
انتقلنا من مكتب النائب العام إلى أمام بوابة المقر الرئيسي للجهاز، وعندما كنّا نتعرض إلى الإبعاد قسرا من البوابة الرئيسية تحت عنوان "ممنوع" انسحبنا إلى تحت الشجرة التي تبعد بحدود المائة متر أو أكثر من البوابة الرئيسي..
ورغم هذا أستمرت ضدنا الاستفزازات اللافتة من قبل ضباط وجنود الأمن، وحدثت بعض المناوشات المستفزة من قبلهم، وكانت تجري اتصالات بين ضباط الأمن ومسؤوليه على الأرجح لا أعرف مضمونها، ولكن تلك الاستفزازات كانت تكبر، وتكاد تتحول إلى اعتداء على المعتصمين..
أخرجت الكاميرا من الجاكت الذي كنت ارتديه، وربما أنا من حاول التصوير أو ناولتها شخص من المحتجين ليقوم به.. وأتذكر إن اضاءة فلاش الكاميرا عند التصوير قد لفتت نظر ضباط وجنود الأمن..
هرعوا نحونا وكأنهم ممسوسين.. بعضهم كان قريبا جدا منّا، وبعضهم كان بعيدا.. فلاش كاميرا كان يكفي لاستنفار واسع لا مبرر له غير الهلع.. ناولتُ الكاميرا التي صارت في يدي لرضية المتوكل التي كانت تقف خلفي، والتي أخبتها في حقيبتها..
لم يستطع الجنود معرفة أين ذهبت الكاميرا، ولكني أخبرتهم أنها تتبعني، ولم أكشف لهم أين هي، وبأي حيازة صارت.. كانوا مصرين على الوصول إليها وأخذها.. وعوضا عن هذا أخبرتهم أنني عضو مجلس النواب، وأنني من قمتُ بالتصوير.. فيما ظلت مطالبتهم بتسليم الكاميرا لحوحة ومتشددة..
تمت اتصالات عدة بين ضباط الأمن ومسؤوليهم، ويبدو أن الأوامر صدرت باحتجازي.. هددوني باستخدام القوة ضدي، وسحبي من بين المحتجين، ثم حاولوا بالفعل انفاذ تهديدهم والذي يبدو أنه كان تنفيذا لأوامر تلقوها من قيادتهم العليا.. بدا لي الأمر لا يقبل المراوحة، ومع ذلك ظللت مستغرقا في رفضي أن أسلم لهم الكاميرا أو أدلهم عليها.
بدت لي بوادر المواجهة تشتد وتكاد تحتدم.. شاهدت رجال الأمن يحاولون انتزاعي من بين المحتجين، فيما المحتجين يحاولون منعهم، بل والدفاع عني حد المواجهة.. بدت المواجهة بتدافع الأيدي والأجساد بين مهاجم ومدافع..
كان الأمر يحتاج إلى مبادرة وقرار إنقاذ سريع من قبلي.. أحسست إن نتيجة أي مواجهه ستكون بكلفة أكبر، ومفتوحة على المجهول؛ فخرجت من الجمع، وقررت أن أذهب معهم برغبتي وإرادتي تجنبا لما كان سيحدث.. أظن أن قراري هذا كان صائبا إلى حد بعيد، لا سيما أن المواجهة كادت تكون أكيدة، والاحتدام وشيك.. لم أرغب بمزيد من التداعي للموقف الذي بدا لي حساسا، وينذر بشؤم الاحتدام..
ذهبت معهم إلى داخل مبنى الجهاز.. تركت خلفي مخاوف الأحبة، وحبهم الذي ذادوا به عني.. تهيئت لكل احتمال ومجهول بعيدا عنهم.. اقتادوني مجموعة من الضباط والجنود إلى الداخل.. أول مرة أتجاوز بوابة جهاز الأمن السياسي إلى الداخل.. وفي الداخل شاهدت الفناء واسعا.. مباني متعددة.. طرق ومماشي عدة.. بديت وهم حولي وخلفي أشبه بمن نفذوا غزوة حربية، وعادوا بي إلى ديارهم كغنيمة حرب..
اقتادوني يسارا ويمين.. ثم يمينا ويسار.. سلموني لأحدهم كان في انتظاري يبدو أنه ضباط أرفع رتبة.. كان مرتديا قميصا وسروالا مدنيا.. بدا لي حاد الملامح وشديد التحفز لالتهامي.. وجهه مستطيل لا يخلوا من تكشيرة كلب بولسي حالما ينقض على مجرم خطير بتوجيه من سيده..
كان واضحا عليه أنه ينتظرني بصبر كاد ينفذ.. شاهدت سؤال يكاد يثب من عينيه كذئب: من هذا النائب أو من هذا الذي يجرؤ على التصوير ويرفض تسليم الكاميرا لجهاز يخافه ويهابه كل الناس؟!! كانت عيناه المتوعدتان تقدح شرا وشررا.. بدا لي ومن أول وهلة سيء الطباع وفض القلب والمعاملة.. هنا الاخلاق نحو الضحايا أشبه بالأمر المستحيل.. لا يتأتى إلا عن طريق التمثيل وتقمص الدور بتصنع وتكلف شديد، لا يخلوا من معاناة جمة..
سار أمامي وطلب مني أن اتبعه.. قادني إلى محبس غرفة صغيرة.. كنت أسير خلفة كنسمه بينما كان هو أمامي ينفخ ككير حداد.. وصلت ومجموعة تنتظرني في الجحر كفريسة، ولكنهم ربما كانوا ينتظرون الأوامر أن تأتي.. أمن سادي وشرِه ومفترس لا يعرف للإنسان قيمة أو حرمة..
أودعوني الغرفة، وفيما كنت أنتظر أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، أتوا بحارس في مستهل العشرينات من عمره، وبمعيته سلاحا آليا وجعبة.. لا أدري دواعي هذا الإجراء، وقد صرت في قبضتهم، وهي قبضة أمنية حديدية تزدري الدستور والقانون والحقوق..
*
(2)
سجون سيئة السمعة والصيت
حاولت الدخول إلى جهاز ومقرات الأمن السياسي باعتباري عضوا في مجلس النواب، وعضوا في لجنة الحريات وحقوق الإنسان في المجلس، ولكن الاستحالة في جلّها كانت أكبر منّي؛ واليوم باتت الاستحالة أشد وطأة، بل ربما أكبر وأكثر من أن تقارن..
حاولت كثيرا أن أعبر إلى داخل سجن هذا الجهاز بصفتي الحقوقية، ولكن كانت الموانع والظروف المانعة قاهرة، بل وساحقة أحيانا، وتعذر تحقيق أمنية كتلك على النحو الذي أريد، بل عشت كثيرا بين الخيبة والأسف..
أخفقت كثيرا رغم محاولاتي العديدة، ومع ذلك نجحت بوجه ما في الدخول إلى أربعة من ملحقاته في الحديدة وذمار والبيضاء وحجة ـ سآتي على ذكر تفاصيلها لاحقا ـ ورغم محاولاتي الكديدة وفشلي في الدخول إلى مقر الجهاز الرئيسي في صنعاء بصفتي البرلمانية والحقوقية، إلا أنني نجحت هذه المرة في الدخول إليه متضامنا، بل ومُنتهك الحقوق والحريات أيضاً.. يا للبؤس والمفارقة!!!
في حقبة سابقه كنت أعرف إن هذا الجهاز سيء الصيت، وقد ألتقيت ببعض ممن خرجوا منه، ومن السجون التابعة له، ووجدت بعضهم مجنونا أو نصف مجنون، وآخرين تم تعذيبهم على نحو بشع، والبعض خرج منه وهو يحمل حالة نفسية ثقيلة أو قاتلة.. كتبت ونشرت جزء من هذا الملف في صحيفة "المستقلة" التي كنت أمتلكها..
سمعت عدد من ضحايا الأمن السياسي، وقبله ما كان يسمى بالأمن الوطني، وما هذا إلا امتدادا لذاك، ولازال بعضهم أحياء عاشوا تجربة تعذيب مؤلمة ومرعبة، وهناك آخرون سمعت عنهم أنهم ماتوا تحت التعذيب، وبالتأكيد أن من لم أسمعهم أو أسمع عنهم هم طابورا طويلا يستصعب عده..
إن هذا السجن والسجون التابعة له بمسمياتهم المختلفة السابقة واللاحقة تمت فيهم ممارسة سيل من الانتهاكات الكثيرة، بل والتعذيب المرعب.. انتهاكات لا عد لها ولا حصر.. سجون سيئة السمعة والصيت ابتداء من عهد الأمن الوطني ورئيسه محمد خميس، ومرورا بمن تلاه، ولازال إلى اليوم تحت مسمى جهاز الأمن والمخابرات، مع ملاحظة أن اليوم تعيش تلك السجون وما يجري فيها، حالا أسوأ كثيرا من كل الحقب السابقة.
*
(3)
الوعد الذي قطعته على نفسي
وفيما أنا محتجزا في الغرفة الشاحبة والكئيبة، كنت أفكر وأتسأل وأتذكّر.. كنت أحدث نفسي وأقول: "صرت قريبا من أمكنة لا شك إنه حدث فيها ما هو مروع ومفزع.. الآن صار لا يفصلني عنها غير مئات الأمتار، بل ربما بعضها صارت على مرمى حجر.. أقبية مرعبة تحت الأرض.. دهاليز موحشة.. زنازين تشبه القبور في ضيقها.. غرف تحقيق وتعذيب حدث فيها ما هو بشع ومزلزل، وما يزال..
كثيرون مروا من هنا.. بعضهم خرجوا افذاذا، وقد تصلب عودهم، ولم ينل من إرادتهم انكسار أو هزيمة، وبعضهم عبروا إلى الموت بإرادة أقوى وأكبر من إرادة سجانيهم بعد تعذيب يشبه الجحيم.. بعضهم جن من تعذيب مهول، وبعضهم أصيب بحالات وتصدعات نفسية عميقة وغائرة، أو أُلحقت بهم عاهات جسدية لازمتهم ما بقي لهم من عُمر وحياة ناقصة وبائسة.."
هنا في هذه الغرفة الكئيبة والمملة وجدت الوقت على قصره يطول، والانتظار يتمطى ويتطاول أكثر.. تحس إن الوقت قد توقف، أو أنه يزحف ببطيء سلحفاة، وربما تشعر أحيانا أنه قد عكس وجهته زاحفا إلى الوراء، بدلا من أن يتقدم إلى الأمام..
هنا يوجد فراغ لديك يمكنك مواجهته بإطلاق خيالك وذاكرتك.. بإمكانك أن تتذكر أشياء وتفاصيل كثيرة، ومنها ما له شبه أو صلة بما أنت فيه، أو بالحرية التي تبحث عنها أو تناضل من أجلها.. تذكرت بعض من اُعتقل، أو تم إخفائه قسرا، هنا أو هناك.. كثيرون هم الضحايا، وأكثر منها البشاعة التي تم ممارستها ضدهم، والجرائم التي تم اقترافها بحقهم..
هنا بوسعك أن تتذكر كثير من قصص التعذيب التي سمعت عنها، وهي في جلها يشيب لها رأس الطفل الرضيع.. سمعت بعضها من الضحايا أنفسهم أو من أقاربهم أو من كانوا شهود عيان عليها من زملائهم الذي عاشوا التعذيب، أو كان مصدرها من هم ذوي صلة أو علاقة بالضحايا..
تذكرت ابن قريتنا الصلب والشهم، جمال علي عبدالملك الذي جرى عليه تعذيب مريع أبتدأ من الصعق بالكهرباء والتغطيس بالماء، ومرورا بالخصي وأنتهى بالتعذيب الأثقل وطأة.. جمال لم يتم اطلاق سراحه إلا وقد أصيب بحالة نفسية غائرة.. خرج كوم من حطام يمشي على قدمين لا تقويان على حمله.. ثم مات بعد خروجه بفترة لم تطل..
أودعوني الغرفة، وفيما كنت أنتظر أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، أتوا بحارس في مستهل العشرينات من عمره، وبمعيته سلاحا آليا وجعبة.. لا أدري دواعي هذا الإجراء، وقد صرت في قبضتهم، وهي قبضة أمنية حديدية تزدري الدستور والقانون والحقوق..
*
(2)
سجون سيئة السمعة والصيت
حاولت الدخول إلى جهاز ومقرات الأمن السياسي باعتباري عضوا في مجلس النواب، وعضوا في لجنة الحريات وحقوق الإنسان في المجلس، ولكن الاستحالة في جلّها كانت أكبر منّي؛ واليوم باتت الاستحالة أشد وطأة، بل ربما أكبر وأكثر من أن تقارن..
حاولت كثيرا أن أعبر إلى داخل سجن هذا الجهاز بصفتي الحقوقية، ولكن كانت الموانع والظروف المانعة قاهرة، بل وساحقة أحيانا، وتعذر تحقيق أمنية كتلك على النحو الذي أريد، بل عشت كثيرا بين الخيبة والأسف..
أخفقت كثيرا رغم محاولاتي العديدة، ومع ذلك نجحت بوجه ما في الدخول إلى أربعة من ملحقاته في الحديدة وذمار والبيضاء وحجة ـ سآتي على ذكر تفاصيلها لاحقا ـ ورغم محاولاتي الكديدة وفشلي في الدخول إلى مقر الجهاز الرئيسي في صنعاء بصفتي البرلمانية والحقوقية، إلا أنني نجحت هذه المرة في الدخول إليه متضامنا، بل ومُنتهك الحقوق والحريات أيضاً.. يا للبؤس والمفارقة!!!
في حقبة سابقه كنت أعرف إن هذا الجهاز سيء الصيت، وقد ألتقيت ببعض ممن خرجوا منه، ومن السجون التابعة له، ووجدت بعضهم مجنونا أو نصف مجنون، وآخرين تم تعذيبهم على نحو بشع، والبعض خرج منه وهو يحمل حالة نفسية ثقيلة أو قاتلة.. كتبت ونشرت جزء من هذا الملف في صحيفة "المستقلة" التي كنت أمتلكها..
سمعت عدد من ضحايا الأمن السياسي، وقبله ما كان يسمى بالأمن الوطني، وما هذا إلا امتدادا لذاك، ولازال بعضهم أحياء عاشوا تجربة تعذيب مؤلمة ومرعبة، وهناك آخرون سمعت عنهم أنهم ماتوا تحت التعذيب، وبالتأكيد أن من لم أسمعهم أو أسمع عنهم هم طابورا طويلا يستصعب عده..
إن هذا السجن والسجون التابعة له بمسمياتهم المختلفة السابقة واللاحقة تمت فيهم ممارسة سيل من الانتهاكات الكثيرة، بل والتعذيب المرعب.. انتهاكات لا عد لها ولا حصر.. سجون سيئة السمعة والصيت ابتداء من عهد الأمن الوطني ورئيسه محمد خميس، ومرورا بمن تلاه، ولازال إلى اليوم تحت مسمى جهاز الأمن والمخابرات، مع ملاحظة أن اليوم تعيش تلك السجون وما يجري فيها، حالا أسوأ كثيرا من كل الحقب السابقة.
*
(3)
الوعد الذي قطعته على نفسي
وفيما أنا محتجزا في الغرفة الشاحبة والكئيبة، كنت أفكر وأتسأل وأتذكّر.. كنت أحدث نفسي وأقول: "صرت قريبا من أمكنة لا شك إنه حدث فيها ما هو مروع ومفزع.. الآن صار لا يفصلني عنها غير مئات الأمتار، بل ربما بعضها صارت على مرمى حجر.. أقبية مرعبة تحت الأرض.. دهاليز موحشة.. زنازين تشبه القبور في ضيقها.. غرف تحقيق وتعذيب حدث فيها ما هو بشع ومزلزل، وما يزال..
كثيرون مروا من هنا.. بعضهم خرجوا افذاذا، وقد تصلب عودهم، ولم ينل من إرادتهم انكسار أو هزيمة، وبعضهم عبروا إلى الموت بإرادة أقوى وأكبر من إرادة سجانيهم بعد تعذيب يشبه الجحيم.. بعضهم جن من تعذيب مهول، وبعضهم أصيب بحالات وتصدعات نفسية عميقة وغائرة، أو أُلحقت بهم عاهات جسدية لازمتهم ما بقي لهم من عُمر وحياة ناقصة وبائسة.."
هنا في هذه الغرفة الكئيبة والمملة وجدت الوقت على قصره يطول، والانتظار يتمطى ويتطاول أكثر.. تحس إن الوقت قد توقف، أو أنه يزحف ببطيء سلحفاة، وربما تشعر أحيانا أنه قد عكس وجهته زاحفا إلى الوراء، بدلا من أن يتقدم إلى الأمام..
هنا يوجد فراغ لديك يمكنك مواجهته بإطلاق خيالك وذاكرتك.. بإمكانك أن تتذكر أشياء وتفاصيل كثيرة، ومنها ما له شبه أو صلة بما أنت فيه، أو بالحرية التي تبحث عنها أو تناضل من أجلها.. تذكرت بعض من اُعتقل، أو تم إخفائه قسرا، هنا أو هناك.. كثيرون هم الضحايا، وأكثر منها البشاعة التي تم ممارستها ضدهم، والجرائم التي تم اقترافها بحقهم..
هنا بوسعك أن تتذكر كثير من قصص التعذيب التي سمعت عنها، وهي في جلها يشيب لها رأس الطفل الرضيع.. سمعت بعضها من الضحايا أنفسهم أو من أقاربهم أو من كانوا شهود عيان عليها من زملائهم الذي عاشوا التعذيب، أو كان مصدرها من هم ذوي صلة أو علاقة بالضحايا..
تذكرت ابن قريتنا الصلب والشهم، جمال علي عبدالملك الذي جرى عليه تعذيب مريع أبتدأ من الصعق بالكهرباء والتغطيس بالماء، ومرورا بالخصي وأنتهى بالتعذيب الأثقل وطأة.. جمال لم يتم اطلاق سراحه إلا وقد أصيب بحالة نفسية غائرة.. خرج كوم من حطام يمشي على قدمين لا تقويان على حمله.. ثم مات بعد خروجه بفترة لم تطل..
تذكرت ما كنت قد سمعته بنفسي من فاه الرفيقة زعفران، وما جرى لها ولزوجها من تعذيب مرعب وأليم في المعتقل، وكذا ما سمعته من آخرين أيضا، وفيه ما يكتظ ويزدحم، وأكثر منه ما يثقل الوعي، ويفطر القلب ويدمي الذاكرة..
*
في تلك الغرفة البليدة والمملة عادت بي الذاكرة إلى الفلم الوثائقي الذي لا يُنسى "جرائم المخابرات المركزية الأمريكية" (السي أي إيه) والذي كنت قد شاهدته في مرحلة باكرة من مطلع شبابي الأول، وما شاهدته كان يزدحم بكل بشع ومرعب..
لازالت تلك المشاهدة عالقة في ذهني رغم تقادم الزمن.. لازالت تلك المشاهد تضرب وتدا في قلبي المثقل بالوجع، وتكز في ذاكرتي وتدميها إلى اليوم، وتذكرني بأشياء وتفاصيل كثيرة ذات صلة أو علاقة..
في نفس المقام تذكرت مشاهد في الفلم نفسه تثير الإعجاب الكبير الذي تجله في نفسك، وربما يصير جزء من تكوينك النفسي الذي تحرص أن تكون عليه.. شجاعة نادرة ومقاومة فذه لبعض من يتم تعذيبهم، ملأتني وأسرتني حتى منتهاي..
منها على سبيل المثال لا الحصر، ذلك المعارض الذي على الأرجح كان ينتمي لإحدى دول المغرب العربي.. تم تعذيبه بقسوة، وهو مقيد ومثبت على كرسي، وآلة طويلة حادة بيد الجلاد يغلها بحقده، ويغرزها في جسد هذا المعارض الشجاع، فيما كان هذا الأخير في الدقيقة الأخيرة من حياته، يتلوى ألما، ويستجمع قواه من كل جسمه، ويستجمع بصاقه في فمه بصبر عنيد، ، ليقذفه في وجه جلاده كقذيفة مدفع، ولعنة تاريخ لن تزول، وعار لن ينتهي في وجه القمع والتعذيب والطغيان كله..
تذكرت في الغرفة أيضا تلك الرواية التي كنت قد قرأتها على الأرجح قبل عشرين عام أو أكثر، اسمها "شرق المتوسط" للروائي القدير عبدالرحمن منيف، يتحدث فيها بطل الرواية رجب اسماعيل عن نفسه وهو يقول: "إنني لم أحمل بندقية، ولم أقتل أحداً، ومع ذلك دق رأسي بالجدران مئات المرات، كما تدق المسامير في أخشاب السنديان".
رجب اسماعيل الذي تم تعذيبه قرابة الخمس سنين، صفعا وجلدا وضربا، وتعليقا لأيام.. جروه من خصيتيه، وعذبوه بالكهرباء، واطفاء السجائر على أجزاء متفرقة وحساسة من جسده المنهك والمريض.. خرج من سجنه بعد خمس سنين وقد سُرق منه كل شيء.. صحته وأمه وحبيبته وكل أحلامه ومستقبله..
مات البطل، ولكن لم تمت الحياة، ولم تعلق أو تقف عند موت رجب.. الحياة ولادة ومستمرة.. وتشي الرواية إلى جيل لن ينسى ما حدث، ويواصل المشوار من بعده، حامد زوج أخته، وعادل وليلى أبناء أخته أنيسه.. تتواصل الحياة بهم على درب النضال والصمود، ومقاومة قهر السلطة والقمع والتعذيب.. وربما نحن القراء أيضا.. غير أن الخلاصة وجدتها فيما قاله الطبيب الفرنسي لرجب: "يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريته، والحرية أغلب الأحيان غالية الثمن".
وفي نفس المقام تذكرت أيضا شجاعة وصمود زعفران "أم حمير" المرأة اليمنية الشجاعة التي صمدت ليس فقط في وجه محمد خميس المروع والمهاب، ولكن أيضا في وجه التعذيب البشع، بل وفي وجه كل شيء تقريبا، دون أن ينتزع الجلاد منها نتفة من اعتراف بحق رفيق..
وفي المقام نفسه تذكرت ما قرأته وسمعته في مواضع أخرى إن الأيام الأولى في السجن هي الأصعب، ثم تتعود عليه، وتتعايش معه، وتتغلب على معاناته القاسية، وتتجلد فيه كل يوم أكثر من سابقة.. ومن يدري!! ربما تخرج منه بطلا أو ثائرا أو قائدا، أو تخرج شهيدا أو ذكرى سيعتز بها شعب سيأتي، أو لعنة تاريخ أبدية ستظل تلاحق الحكام، وتحاكم طغيانهم..
*
هذه الغرفة التي طوقني بكآبتها الثقيلة، ومكثتُ فيها نزرا من الوقت، ذكرتني بتفاصيل كثيرة، ومآس بالغة، جعلتني أفكر فيها باستغراق عميق، بل جعلتني أقطع وعدا لنفسي على نفسي أن أفعل شيئا في المستقبل على هذا الصعيد، وينصب تحديدا في كشف ما أُرتكب بحق الإنسان في هذه السجون والمعتقلات من جرائم بشعة، وتعذيب مروع، وقمع مهول فاق في بعضه كل معقول..
وبالفعل وفيتُ بما وعدت، وفتحت ملف التعذيب في العام 2009 باسم منظمة التغيير للحقوق والحريات التي أرأسها، فيما نشرت ووثقت صحيفة "المستقلة" التي أملكها، ما أمكن من شهادات تحكي في جلها مدى البشاعة والطغيان الذي بلغته سلطات القمع والتعذيب في تلك المعتقلات والسجون والغرف المغلقة، فاق في بعضه حدود التصور، ولازلت على يقين أن ما لم يُكتب ولم يوثّق أكثر بكثير مما تم كشفه وتوثيقه، على نحو عصي حتّى على المقارنة..
رغم تلك الكآبة التي كانت تحاصرني وتحيط بي في تلك الغرفة، فإنها كانت أشبه بنزهة أو فسحة واستراحة، ربما تمناها غيري ممن مرّوا هنا، أو من لا زالوا يتمنونها ممن هم الآن على مقربة من هذا المكان، أو مروا يوما على ملحقاته في المحافظات المختلفة.. أما المقارنة بما يحدث اليوم، ففي اليوم ما فيه، "حدّث ولا حرج"..
*
في تلك الغرفة البليدة والمملة عادت بي الذاكرة إلى الفلم الوثائقي الذي لا يُنسى "جرائم المخابرات المركزية الأمريكية" (السي أي إيه) والذي كنت قد شاهدته في مرحلة باكرة من مطلع شبابي الأول، وما شاهدته كان يزدحم بكل بشع ومرعب..
لازالت تلك المشاهدة عالقة في ذهني رغم تقادم الزمن.. لازالت تلك المشاهد تضرب وتدا في قلبي المثقل بالوجع، وتكز في ذاكرتي وتدميها إلى اليوم، وتذكرني بأشياء وتفاصيل كثيرة ذات صلة أو علاقة..
في نفس المقام تذكرت مشاهد في الفلم نفسه تثير الإعجاب الكبير الذي تجله في نفسك، وربما يصير جزء من تكوينك النفسي الذي تحرص أن تكون عليه.. شجاعة نادرة ومقاومة فذه لبعض من يتم تعذيبهم، ملأتني وأسرتني حتى منتهاي..
منها على سبيل المثال لا الحصر، ذلك المعارض الذي على الأرجح كان ينتمي لإحدى دول المغرب العربي.. تم تعذيبه بقسوة، وهو مقيد ومثبت على كرسي، وآلة طويلة حادة بيد الجلاد يغلها بحقده، ويغرزها في جسد هذا المعارض الشجاع، فيما كان هذا الأخير في الدقيقة الأخيرة من حياته، يتلوى ألما، ويستجمع قواه من كل جسمه، ويستجمع بصاقه في فمه بصبر عنيد، ، ليقذفه في وجه جلاده كقذيفة مدفع، ولعنة تاريخ لن تزول، وعار لن ينتهي في وجه القمع والتعذيب والطغيان كله..
تذكرت في الغرفة أيضا تلك الرواية التي كنت قد قرأتها على الأرجح قبل عشرين عام أو أكثر، اسمها "شرق المتوسط" للروائي القدير عبدالرحمن منيف، يتحدث فيها بطل الرواية رجب اسماعيل عن نفسه وهو يقول: "إنني لم أحمل بندقية، ولم أقتل أحداً، ومع ذلك دق رأسي بالجدران مئات المرات، كما تدق المسامير في أخشاب السنديان".
رجب اسماعيل الذي تم تعذيبه قرابة الخمس سنين، صفعا وجلدا وضربا، وتعليقا لأيام.. جروه من خصيتيه، وعذبوه بالكهرباء، واطفاء السجائر على أجزاء متفرقة وحساسة من جسده المنهك والمريض.. خرج من سجنه بعد خمس سنين وقد سُرق منه كل شيء.. صحته وأمه وحبيبته وكل أحلامه ومستقبله..
مات البطل، ولكن لم تمت الحياة، ولم تعلق أو تقف عند موت رجب.. الحياة ولادة ومستمرة.. وتشي الرواية إلى جيل لن ينسى ما حدث، ويواصل المشوار من بعده، حامد زوج أخته، وعادل وليلى أبناء أخته أنيسه.. تتواصل الحياة بهم على درب النضال والصمود، ومقاومة قهر السلطة والقمع والتعذيب.. وربما نحن القراء أيضا.. غير أن الخلاصة وجدتها فيما قاله الطبيب الفرنسي لرجب: "يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريته، والحرية أغلب الأحيان غالية الثمن".
وفي نفس المقام تذكرت أيضا شجاعة وصمود زعفران "أم حمير" المرأة اليمنية الشجاعة التي صمدت ليس فقط في وجه محمد خميس المروع والمهاب، ولكن أيضا في وجه التعذيب البشع، بل وفي وجه كل شيء تقريبا، دون أن ينتزع الجلاد منها نتفة من اعتراف بحق رفيق..
وفي المقام نفسه تذكرت ما قرأته وسمعته في مواضع أخرى إن الأيام الأولى في السجن هي الأصعب، ثم تتعود عليه، وتتعايش معه، وتتغلب على معاناته القاسية، وتتجلد فيه كل يوم أكثر من سابقة.. ومن يدري!! ربما تخرج منه بطلا أو ثائرا أو قائدا، أو تخرج شهيدا أو ذكرى سيعتز بها شعب سيأتي، أو لعنة تاريخ أبدية ستظل تلاحق الحكام، وتحاكم طغيانهم..
*
هذه الغرفة التي طوقني بكآبتها الثقيلة، ومكثتُ فيها نزرا من الوقت، ذكرتني بتفاصيل كثيرة، ومآس بالغة، جعلتني أفكر فيها باستغراق عميق، بل جعلتني أقطع وعدا لنفسي على نفسي أن أفعل شيئا في المستقبل على هذا الصعيد، وينصب تحديدا في كشف ما أُرتكب بحق الإنسان في هذه السجون والمعتقلات من جرائم بشعة، وتعذيب مروع، وقمع مهول فاق في بعضه كل معقول..
وبالفعل وفيتُ بما وعدت، وفتحت ملف التعذيب في العام 2009 باسم منظمة التغيير للحقوق والحريات التي أرأسها، فيما نشرت ووثقت صحيفة "المستقلة" التي أملكها، ما أمكن من شهادات تحكي في جلها مدى البشاعة والطغيان الذي بلغته سلطات القمع والتعذيب في تلك المعتقلات والسجون والغرف المغلقة، فاق في بعضه حدود التصور، ولازلت على يقين أن ما لم يُكتب ولم يوثّق أكثر بكثير مما تم كشفه وتوثيقه، على نحو عصي حتّى على المقارنة..
رغم تلك الكآبة التي كانت تحاصرني وتحيط بي في تلك الغرفة، فإنها كانت أشبه بنزهة أو فسحة واستراحة، ربما تمناها غيري ممن مرّوا هنا، أو من لا زالوا يتمنونها ممن هم الآن على مقربة من هذا المكان، أو مروا يوما على ملحقاته في المحافظات المختلفة.. أما المقارنة بما يحدث اليوم، ففي اليوم ما فيه، "حدّث ولا حرج"..
من ثاروا بالأمس باتو هم طغاة اليوم.. ولكم أنطبق على هذا الحال ما قاله جورج أورويل في الأمس “ثائر اليوم هو طاغية الغد".. جل الاستهداف في الأمس كان ينصب على من يفهموا أو بدأوا يفهموا، أما اليوم فالاستهداف يطال الجميع من قبل كل سلطات الحرب والفساد والجشع الفاحش، بات اليوم شعب بأكمله محلا للاستهداف الواسع، وكل من جهته يمارس ما قدر عليه من الطغيان الذي فاق كل الحدود..
تستطيع أن تكتشف اليوم وبسهولة، ودون أن تمنح لأحد صك غفران، مدى السقوط السحيق، والتراجع الحقوقي الفاجع بين العام 2006 وما قبله من حقب وعهود، وما يحدث اليوم من طغيان يفوق كل وصف وخيال..
تستطيع أن ترى اليوم بيسر ما هو شاخصا للعيان من رعب وبشاعة، هنا أو هناك، لا ينكره إلا مناكر لا حيلة له.. تستطيع أن ترى الطغيان اليوم حتى وإن كنت أعمى أو لا تملك أعين.. الطغيان هو اليوم من يسودونا جميعا، ويدومنا ليلا ونهارا، وفي كل آن وحين.. شعبنا ينزف ويجوع ويموت وينسحق بين رحاهم وحروبهم المهلكة.. شعب منكوب بطغيان حكامه.. شعب تعصره الخيبة القاتلة، ويلويه الألم الأشد، ويعبث فيه كل ما هو بشع ومرعب..
*
(4)
لمحة من التعذيب السياسي
وفيما كنت أتوقع أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، جاءوا لي بجندي مسلح، ومعه كرسيا ليجلس هو عليه.. لم أتنازل لهم، ولم أطلب منهم شيئا.. هنا التنازل لغير الله مذلّة.. الضباط ينظرون إليك بأعين فاحصة ومرتابة.. ينتظرون الأوامر، ويتحفزون لتنفيذها بدافع سادي شديد.. إحساس كثيف بالوحشة والغربة في مكان لا تجد فيه من يساعدك أو يخفف عنك..
الغرفة التي احتجزت فيها كانت فارغة إلا من طاولة منهكة.. بدت لي كأنها هي الأخرى قيد الاحتجاز.. لا أنيس لي هنا إلا هي.. أحسست إنها تقاسمني الحال الذي أنا فيه، وتريد أن تقدم لي المساعدة لتخفف عنّي ما أعانيه.. الأشياء في وحدتك تشعرك بحضورها وقيمتها ومعناها المختلف عمّا هو معتاد..
خالجني شعور رهيف.. أحسست إن الطاولة تتعاطف معي، وتعزّيني، وتبادلني بعض مشاعر حزني، وتحاول أن تخفف من اكتئابي.. تريد أن تقدم لي المساعدة دون أن طلب.. استجبت لها بامتنان، جلست عليها برفق، وأسندت ظهري للجدار..
الطاولات ليست واحده.. إنها تختلف بعضها عن بعضها الآخر كأقدار الناس.. بين طاولة وأخرى ربما تجد ثمة فرق شاسع وكبير.. هذا الاختلاف نقلني إلى ماضٍ يعود إلى ما يقارب الستة عشرة عام خلت..
*
بعد الوحدة في العام 1990جئت من عدن إلى صنعاء، وسمعت من زميل لي في القضاء العسكري قصص تعذيب مروعة.. لم أعد أتذكر أسماء الضحايا الذي ذكرهم لي، ليس لأنني تجاهلتها، أو لأنني لا أهتم بها، بل لأن ذاكرة الأسماء لدي ضعيفة، ومع ذلك حفرت تلك الوقائع المرعبة التي سمعتها منه، أخاديدا عميقة في ذاكرتي المنهكة.. ما سمعته كان يفوق المعقول، ووقعه على الوجدان أشبه بصدمة وزلزلة..
ومما رواه زميلي هذا هو أن أحد ضحايا التعذيب قبل مباشرة التحقيق معه، تم تثبيت كفيه بالمسامير على الطاولة.. ولم يكتفوا بهذا النوع من التعذيب البشع أثناء التحقيق الذي أستمر لساعات طوال، بل واستخدموا معه أيضا وسائل تعذيب أخرى، فبدا لي الحال على الضحية أشد من الجحيم.. وأثناء فتح ونشر ملف التعذيب في العام 2008 ، تم التثبت والتأكد من صحة هذه الواقعة.. وكان الضحية شخص اسمه علي قلهيز..
واقعة أخرى تتلخص في كسر يد أحد ضحايا التعذيب، ويقومون بتجبيرها حتى تكاد تتماثل للشفاء، ثم يحضر الجلاد ويسلّم على الضحية، ويعصر يده ليكسرها مرة أخرى، ويصرخ الضحية بصرخة وجع مدوية يسمعها ويهتز لها الجميع، إلا الجلادين لا يسمعون ولا يكترثون بصرخة وجع حتى وإن شُقّت الأرض وتشطرت السموات العُلا، بل تجدهم يغرقون باستمتاع لا مثيل له..
***
عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي أحدى ضحايا تلك السجون والمعتقلات المرعبة.. تم اعتقاله أربع مرات قضى في إحداها فترة أربع سنوات، تعرض فيها للتعذيب الجسدي والنفسي، ومنها الضرب الشديد أثناء التعليق على طريقة (كنتاكي)، والتغميس في برك الماء أثناء البرد القارس، وكسر الأيدي، ونزع الأظافر، واستخدام الكهرباء، والصفع على الوجه، واستخدام الحرب النفسية، والحبس الانفرادي، والتهديد بالقتل، والايهام بتنفيذ الاعدام عن طريق اطلاق الرصاص..
ولاتزال بعض الأثار باقية على جسده، ومنها آثار كسور في يده اليسرى، وضعف حاد في السمع، وآثار الربط بأسلاك الكهرباء.. وقد حكى بعض من معاناته في السجن بقصيدة نقتطف نتف منها:
"في السجن .. في زنزانة ظلماء كالقبر
مكبل بالقيود والسلاسل والأغلال..
تلهبني سياط الجلادين..
ونعالهم الحقيرة،
أموت في كل ثانية مرة واحدة
أو مرتين .."
تستطيع أن تكتشف اليوم وبسهولة، ودون أن تمنح لأحد صك غفران، مدى السقوط السحيق، والتراجع الحقوقي الفاجع بين العام 2006 وما قبله من حقب وعهود، وما يحدث اليوم من طغيان يفوق كل وصف وخيال..
تستطيع أن ترى اليوم بيسر ما هو شاخصا للعيان من رعب وبشاعة، هنا أو هناك، لا ينكره إلا مناكر لا حيلة له.. تستطيع أن ترى الطغيان اليوم حتى وإن كنت أعمى أو لا تملك أعين.. الطغيان هو اليوم من يسودونا جميعا، ويدومنا ليلا ونهارا، وفي كل آن وحين.. شعبنا ينزف ويجوع ويموت وينسحق بين رحاهم وحروبهم المهلكة.. شعب منكوب بطغيان حكامه.. شعب تعصره الخيبة القاتلة، ويلويه الألم الأشد، ويعبث فيه كل ما هو بشع ومرعب..
*
(4)
لمحة من التعذيب السياسي
وفيما كنت أتوقع أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، جاءوا لي بجندي مسلح، ومعه كرسيا ليجلس هو عليه.. لم أتنازل لهم، ولم أطلب منهم شيئا.. هنا التنازل لغير الله مذلّة.. الضباط ينظرون إليك بأعين فاحصة ومرتابة.. ينتظرون الأوامر، ويتحفزون لتنفيذها بدافع سادي شديد.. إحساس كثيف بالوحشة والغربة في مكان لا تجد فيه من يساعدك أو يخفف عنك..
الغرفة التي احتجزت فيها كانت فارغة إلا من طاولة منهكة.. بدت لي كأنها هي الأخرى قيد الاحتجاز.. لا أنيس لي هنا إلا هي.. أحسست إنها تقاسمني الحال الذي أنا فيه، وتريد أن تقدم لي المساعدة لتخفف عنّي ما أعانيه.. الأشياء في وحدتك تشعرك بحضورها وقيمتها ومعناها المختلف عمّا هو معتاد..
خالجني شعور رهيف.. أحسست إن الطاولة تتعاطف معي، وتعزّيني، وتبادلني بعض مشاعر حزني، وتحاول أن تخفف من اكتئابي.. تريد أن تقدم لي المساعدة دون أن طلب.. استجبت لها بامتنان، جلست عليها برفق، وأسندت ظهري للجدار..
الطاولات ليست واحده.. إنها تختلف بعضها عن بعضها الآخر كأقدار الناس.. بين طاولة وأخرى ربما تجد ثمة فرق شاسع وكبير.. هذا الاختلاف نقلني إلى ماضٍ يعود إلى ما يقارب الستة عشرة عام خلت..
*
بعد الوحدة في العام 1990جئت من عدن إلى صنعاء، وسمعت من زميل لي في القضاء العسكري قصص تعذيب مروعة.. لم أعد أتذكر أسماء الضحايا الذي ذكرهم لي، ليس لأنني تجاهلتها، أو لأنني لا أهتم بها، بل لأن ذاكرة الأسماء لدي ضعيفة، ومع ذلك حفرت تلك الوقائع المرعبة التي سمعتها منه، أخاديدا عميقة في ذاكرتي المنهكة.. ما سمعته كان يفوق المعقول، ووقعه على الوجدان أشبه بصدمة وزلزلة..
ومما رواه زميلي هذا هو أن أحد ضحايا التعذيب قبل مباشرة التحقيق معه، تم تثبيت كفيه بالمسامير على الطاولة.. ولم يكتفوا بهذا النوع من التعذيب البشع أثناء التحقيق الذي أستمر لساعات طوال، بل واستخدموا معه أيضا وسائل تعذيب أخرى، فبدا لي الحال على الضحية أشد من الجحيم.. وأثناء فتح ونشر ملف التعذيب في العام 2008 ، تم التثبت والتأكد من صحة هذه الواقعة.. وكان الضحية شخص اسمه علي قلهيز..
واقعة أخرى تتلخص في كسر يد أحد ضحايا التعذيب، ويقومون بتجبيرها حتى تكاد تتماثل للشفاء، ثم يحضر الجلاد ويسلّم على الضحية، ويعصر يده ليكسرها مرة أخرى، ويصرخ الضحية بصرخة وجع مدوية يسمعها ويهتز لها الجميع، إلا الجلادين لا يسمعون ولا يكترثون بصرخة وجع حتى وإن شُقّت الأرض وتشطرت السموات العُلا، بل تجدهم يغرقون باستمتاع لا مثيل له..
***
عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي أحدى ضحايا تلك السجون والمعتقلات المرعبة.. تم اعتقاله أربع مرات قضى في إحداها فترة أربع سنوات، تعرض فيها للتعذيب الجسدي والنفسي، ومنها الضرب الشديد أثناء التعليق على طريقة (كنتاكي)، والتغميس في برك الماء أثناء البرد القارس، وكسر الأيدي، ونزع الأظافر، واستخدام الكهرباء، والصفع على الوجه، واستخدام الحرب النفسية، والحبس الانفرادي، والتهديد بالقتل، والايهام بتنفيذ الاعدام عن طريق اطلاق الرصاص..
ولاتزال بعض الأثار باقية على جسده، ومنها آثار كسور في يده اليسرى، وضعف حاد في السمع، وآثار الربط بأسلاك الكهرباء.. وقد حكى بعض من معاناته في السجن بقصيدة نقتطف نتف منها:
"في السجن .. في زنزانة ظلماء كالقبر
مكبل بالقيود والسلاسل والأغلال..
تلهبني سياط الجلادين..
ونعالهم الحقيرة،
أموت في كل ثانية مرة واحدة
أو مرتين .."
ويذكر آخرين ممن تعرضوا للتعذيب البشع والمروع، ومنهم علي قلهيز، الذي دقوا المسامير في يديه، وعبده الكوري الذي تم كسر أحد أضلاعه، والعبادي الذي أصيب بالجنون بسبب التعذيب بطرق بشعة، وعبد القوي رافع الذي حُبس لمدة 12 سنة، وكانوا يحققون معه ويضربون بجانبه الرصاص، وهو معصوب العينين، وعبد الحفيظ جازم الذي كانوا يضربون رأسه بالمطرقة، وعلي بشر القباطي الذي كانوا يعذبونه ويقضمون صلعته بأسنانهم..
*
وعودة إلى زعفران "أم حمير" أحدى ضحايا التعذيب المؤلم والمرعب جاء في شهادتها إنها تعرضت للضرب بطواية أسلاك كهربائية، وصعقها بالكهرباء، والتغطيس في برك مياه باردة، والتعليق عن طريق الأرجل إلى سقف الزنزانة، والضرب رغم حملها..
ولم ينحصر أو يقتصر التعذيب عليها وحدها من بنات جنسها، بل تذكر بعض رفيقاتها اللاتي تعرضن للتعذيب الشديد في معتقلات وسجون السلطة آنذاك، ذكرت منهنّ على سبيل المثال لا الحصر: طيبة بركات، وأمينة محمد رشيد، ودرة الفاتش التي عذبوها، وعلقوها في السجن، وشنقوها، وزعموا أنها انتحرت..
وهناك حكايات تعذيب أخرى مؤلمة عاشها آخرون مثل: أبو القصب الشلال، وعبد الرحمن الأهدل، ويحيى أمين زيدان، ويحيى علامة، وعلي مكنون، وعبد الباري محمد سعيد، وعبدالباري طاهر، وأحمد علي الوادعي، وسلطان الصريمي، وغيرهم الكثير ممن سمعنا عنهم، ومن لم نسمع عنهم هم أكثر من الكثير..
*
فرحان عبد الله وهفان من عمران واحد ممن تعرضوا أيضا لبعض صنوف التعذيب حيث يقول: كانوا يخرجونا في بعض الليالي يطوفون بنا حول بركة ماء، ونحن مثقلين بقيود حديدية، ونظل نطوف حول البركة، ولسعات العصيان تنزل على ظهورنا، وأخيرا يقذفوا بنا إلى داخل البركة الباردة كريهة الرائحة.. "
وعن الآخرين ممن تم تعذيبهم يقول: "أتذكر من الذين تعرضوا للتعذيب "زعفران" زوجة أحمد فارع، وزوجة عبد الله نجاد وأبنته، وأبناءه الاثنين (سند ورشاد) وعلي المولّد، وأيضا صالح المولد، أبناء عم صالح المولد، والأستاذ عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي، وعبد الرحمن غالب المقطري.."
ويستغرق في تذكره الذي لا يخلوا من مرارة وألم فيقول: أتذكر أن محمد خميس كان يلوي يد علي المولد وهي المصابة بطلقة نارية، ومكسورة، ويزيد من ليها، فيصرخ حتى يسمع صوته كل من كان في غرف السجن، وقد ظلت عاهة يده ملازمة له أيضا، فيما زعفران كان محمد خميس يعذبها بعصا غليظة.. يضربها على بطنها بمنتهى القسوة، وهي حامل وعلى وشك أن تلد، وبالفعل ولدت داخل السجن، وأسمت ابنها على اسم السجن “حمير” سلام على أم حمير..
*
سلطان أحمد زيد أيضا تعرض في سجنه للسب والشتم، والقيد على الرجلين، والحبس الانفرادي، والحرمان من النوم، والمنع من التبول وقضاء الحاجة، لفترات طويلة، فضلا عن مصادرة كثير من حقوقه الوظيفية والمادية..
وعن الزملاء الذي تعرف عليهم في السجن وتعرضوا لصنوف التعذيب يقول: تعرفت بعد فترة من الاعتقال في زنزانتي الانفرادية على بعض من الزملاء في الزنازين الأخرى، أتذكر منهم: الأستاذ أبو القصب الشلال الأديب والشاعر المعروف، والفقيد المناضل أحمد صالح جبران، وعلي العلفي، وعبدالعزيز قائد سيف، والأستاذ عبدالله الرديني الناقد والكاتب، وعلي محمد محرز موظف في البنك المركزي، والضابط فوزي الذي اعتقل عشية زفافه في تعز، وهو أحد المخفيين قسريا إلى اليوم..
ويشير أن هؤلاء المعتقلين الذين اعتقلوا وعذبوا لا لشيء غير آرائهم السياسية، ويضيف: علمت لاحقاً بأن أغلبهم لاقوا صنوفاً من التعذيب والمعاملة القاسية، ومنهم المناضل الفقيد جمال المخلافي الصحفي الذي عذب بالضرب على الخصية، ولم يخرج من المعتقل إلاّ فاقداً لعقله، إلى جانب الحرمان من زوجته وتطليقها منه بالقوة..
ومن وسائل التعذيب الذي يستخدمها الجلادون ضد الضحايا، يذكر سلطان أحمد زيد بعض منها، كعصر الرقبة، والصفع المفاجئ على الوجه، والتعليق في قضيب خشبي عبر اليدين والركبتين وربطهما معاً، والضرب بالسلك على الفلكة "باطن القدمين" حتى الإغماء، أو ساعات تمتد طوال التحقيق، ولا يسمح له بشربة ماء واحده، ثم يعود بك الجلاد إلى الزنزانة ويقذف بك كالقمامة..
وفي الخلاصة نشير أن هذا كان مجرد لمحة شديدة الاقتضاب عن التعذيب في الأمس.. أما اليوم فالتعذيب بات أكبر من أن يستوعبه عقل أو وصف أو لغة..
*
(5)
التوجيه بإخلاء سبيلي
رغم الحجز كنت أحاول أن أكتشف محيطي.. أرمق الذين يتجولون في الساحة القريبة بلباس مدني أو عسكري.. أحاول أن أمعن النظر في أشكالهم.. أتفرس في وجوههم إن أمكن، وهم يتجولون في الساحة، أو يمرقون منها ذهابا وإيابا، فيما كان بعضهم يطل من باب الغرفة يتفرّس فيني، وكأنني مخلوق عجيب جاء من الفضاء، أو حيوان بري عدواني، أو غير معروف، في سياجه الحديدي المخصص بحديقة الحيوان..
*
وعودة إلى زعفران "أم حمير" أحدى ضحايا التعذيب المؤلم والمرعب جاء في شهادتها إنها تعرضت للضرب بطواية أسلاك كهربائية، وصعقها بالكهرباء، والتغطيس في برك مياه باردة، والتعليق عن طريق الأرجل إلى سقف الزنزانة، والضرب رغم حملها..
ولم ينحصر أو يقتصر التعذيب عليها وحدها من بنات جنسها، بل تذكر بعض رفيقاتها اللاتي تعرضن للتعذيب الشديد في معتقلات وسجون السلطة آنذاك، ذكرت منهنّ على سبيل المثال لا الحصر: طيبة بركات، وأمينة محمد رشيد، ودرة الفاتش التي عذبوها، وعلقوها في السجن، وشنقوها، وزعموا أنها انتحرت..
وهناك حكايات تعذيب أخرى مؤلمة عاشها آخرون مثل: أبو القصب الشلال، وعبد الرحمن الأهدل، ويحيى أمين زيدان، ويحيى علامة، وعلي مكنون، وعبد الباري محمد سعيد، وعبدالباري طاهر، وأحمد علي الوادعي، وسلطان الصريمي، وغيرهم الكثير ممن سمعنا عنهم، ومن لم نسمع عنهم هم أكثر من الكثير..
*
فرحان عبد الله وهفان من عمران واحد ممن تعرضوا أيضا لبعض صنوف التعذيب حيث يقول: كانوا يخرجونا في بعض الليالي يطوفون بنا حول بركة ماء، ونحن مثقلين بقيود حديدية، ونظل نطوف حول البركة، ولسعات العصيان تنزل على ظهورنا، وأخيرا يقذفوا بنا إلى داخل البركة الباردة كريهة الرائحة.. "
وعن الآخرين ممن تم تعذيبهم يقول: "أتذكر من الذين تعرضوا للتعذيب "زعفران" زوجة أحمد فارع، وزوجة عبد الله نجاد وأبنته، وأبناءه الاثنين (سند ورشاد) وعلي المولّد، وأيضا صالح المولد، أبناء عم صالح المولد، والأستاذ عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي، وعبد الرحمن غالب المقطري.."
ويستغرق في تذكره الذي لا يخلوا من مرارة وألم فيقول: أتذكر أن محمد خميس كان يلوي يد علي المولد وهي المصابة بطلقة نارية، ومكسورة، ويزيد من ليها، فيصرخ حتى يسمع صوته كل من كان في غرف السجن، وقد ظلت عاهة يده ملازمة له أيضا، فيما زعفران كان محمد خميس يعذبها بعصا غليظة.. يضربها على بطنها بمنتهى القسوة، وهي حامل وعلى وشك أن تلد، وبالفعل ولدت داخل السجن، وأسمت ابنها على اسم السجن “حمير” سلام على أم حمير..
*
سلطان أحمد زيد أيضا تعرض في سجنه للسب والشتم، والقيد على الرجلين، والحبس الانفرادي، والحرمان من النوم، والمنع من التبول وقضاء الحاجة، لفترات طويلة، فضلا عن مصادرة كثير من حقوقه الوظيفية والمادية..
وعن الزملاء الذي تعرف عليهم في السجن وتعرضوا لصنوف التعذيب يقول: تعرفت بعد فترة من الاعتقال في زنزانتي الانفرادية على بعض من الزملاء في الزنازين الأخرى، أتذكر منهم: الأستاذ أبو القصب الشلال الأديب والشاعر المعروف، والفقيد المناضل أحمد صالح جبران، وعلي العلفي، وعبدالعزيز قائد سيف، والأستاذ عبدالله الرديني الناقد والكاتب، وعلي محمد محرز موظف في البنك المركزي، والضابط فوزي الذي اعتقل عشية زفافه في تعز، وهو أحد المخفيين قسريا إلى اليوم..
ويشير أن هؤلاء المعتقلين الذين اعتقلوا وعذبوا لا لشيء غير آرائهم السياسية، ويضيف: علمت لاحقاً بأن أغلبهم لاقوا صنوفاً من التعذيب والمعاملة القاسية، ومنهم المناضل الفقيد جمال المخلافي الصحفي الذي عذب بالضرب على الخصية، ولم يخرج من المعتقل إلاّ فاقداً لعقله، إلى جانب الحرمان من زوجته وتطليقها منه بالقوة..
ومن وسائل التعذيب الذي يستخدمها الجلادون ضد الضحايا، يذكر سلطان أحمد زيد بعض منها، كعصر الرقبة، والصفع المفاجئ على الوجه، والتعليق في قضيب خشبي عبر اليدين والركبتين وربطهما معاً، والضرب بالسلك على الفلكة "باطن القدمين" حتى الإغماء، أو ساعات تمتد طوال التحقيق، ولا يسمح له بشربة ماء واحده، ثم يعود بك الجلاد إلى الزنزانة ويقذف بك كالقمامة..
وفي الخلاصة نشير أن هذا كان مجرد لمحة شديدة الاقتضاب عن التعذيب في الأمس.. أما اليوم فالتعذيب بات أكبر من أن يستوعبه عقل أو وصف أو لغة..
*
(5)
التوجيه بإخلاء سبيلي
رغم الحجز كنت أحاول أن أكتشف محيطي.. أرمق الذين يتجولون في الساحة القريبة بلباس مدني أو عسكري.. أحاول أن أمعن النظر في أشكالهم.. أتفرس في وجوههم إن أمكن، وهم يتجولون في الساحة، أو يمرقون منها ذهابا وإيابا، فيما كان بعضهم يطل من باب الغرفة يتفرّس فيني، وكأنني مخلوق عجيب جاء من الفضاء، أو حيوان بري عدواني، أو غير معروف، في سياجه الحديدي المخصص بحديقة الحيوان..
الضابط ذو الملامح الحادة الذي استقبل قدومي بنظرات حازمة ومتحفزة، كان يغيب أحيانا، ويعود للظهور أحيانا أخرى، ثم يرمقني شزرا ويذهب.. وأحيانا يجوس في الساحة، وهو منهمك يهاتف أغلب الظن العمليات، أو أحد رؤسائه الكبار.. لا أدري مضمون تلك المكالمات التي كان يجريها، إلا أنني كنت أخمّنها على الأرجح إنها تخصّني، أو تتحدث في شأني..
أما جندي الحراسة الصامت، فقد حاولت أن أفتح معه بابا للحديث والتعارف؛ فسألته عن المدة التي تعسكر فيها، والمحافظة التي ينتمي إليها، ولكنه تعمد أن يظهر أنه لم يسمع سؤالي الأول، وتجاهل عمدا سؤالي الثاني، فأرحته من ثالث ورابع؛ وفهمت إن الأوامر قد صدرت إليه ابتدأ أن لا يتحدث معي بقليل أو كثير..
ورغم هذا أحسست من نظراته القليلة التي كان يرمقني بها، أن ثمة تعاطفا ما في داخله.. شعور طيب تتسلل إلى نفسي كجدول أو ساقية.. نظراته القليلة نحوي بدت لي كمن يختلسها بغتة.. أحسست من نظراته إنها لا تخلوا من خجل وحيرة وتساؤل، وفي نفس الوقت يخامرها تعاطف مشوبا بقلة حيلة..
وفي المقابل أحسست من جهتي بتعاطف نحوه، لا يخلوا من تفهم وشفقة.. إنه مجرد عسكري ينفذ الأوامر فحسب.. يؤدي نوبة حراسة لا أكثر.. إنه عسكري مخنوق براتبه، وبآوامر رؤسائه الذي تقع عليه واجب طاعتها وتنفيذها، طالما كانت في حدود مهمته..
*
والشيء بالشيء يذكر لبيان وجه من المفارقة بين سلوك وآخر بمقام مشابه.. هذا الحارس المتعاطف والحائر هنا، كان على عكس الشاب "الأنصاري" الهمجي المتحفز، والاستعراضي المتعجرف الذي كان أمامي فوق الطقم يوم 25 مايو 2017.. كانت عيناه تقدح بسيل من الكراهية المقيتة، والعصبية المنتنة، ومثلها لؤم متسع، وجهل مطبق على آخره..
كان كمن يريد أن يغرس أصبعيه في عينيي.. يتجهم في وجهي كنار جهنم.. يتحفز إلى التهامي كضبع جائع.. يتهمني بالوهابية والدعشنة بجهل لا حدود له.. يتفرس شكلي كناهب أو قاطع طريق.. يفتشني ويسألني عن تلفوني ليغنمه، فيما كنت قد سلّمت تلفوني لابني فادي المحتجز في قسم شرطة جمال جميل مع مجموعة من المحتجين.. سلمته إليه حالما تم مناداتي للصعود إلى الطقم بمفردي.. هذا الكائن السادي الذي كان أمامي أحسست أنه متشوقا على نحو عاصف ليمارس ركلي ببيادته العسكرية، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من ساعة أو ثلثيها..
*
وعودة إلى الغرفة التي كنت محتجز فيها، وبعد قرابة الساعة تفاجأت بالضابط المتحفز قد خمد وهمد رغما عنه.. رأيته منكسرا وهو زاما شفتيه وقاطبا لحاجبيه، بوجه عابس مكسوا بخيبة أكبر من أن تدارى.. أمر الحارس بامتعاض أقوى منه بإخلاء سبيلي، دون أن يتحدث معي ببنت شفة.. لقد خاب مراده، وأحبط عمله، و"عاد بخفي حنين"..
خرجت بمرافقة أحدهم إلى البوابة الخارجية، ووجدت المعتصمين في الساحة ينتظروني وقد رفضوا مغادرة الساحة التي كانوا فيها.. انفرجت أساريرهم بمجرد أن شاهدوني مقبلا نحوهم.. استقبلوني بحرارة نادرة واشتياق جم، وكأنني عائدا من القمر ليعرفوا عني وعنه كل الأخبار التي أحملها معي إليهم..
جميعهم كانوا شغوفين أن يسمعوا منّي ما حدث!! فيما كنت مقلا بالكلام، وصدري يفيض بالقهر الذي حاولت بقلة حيله أن أداريه عن أعينهم المتفحصة.. لم استطع الضحك، وفشلت في تصنع الابتسامة، وهو ما فسره البعض أنني تعرضت لسوء أشد لا أريد البوح به.. ربما ظن البعض أنني تعرضت للضرب والإهانة في الداخل، ولا أريد أن أفصح عنهما أمامهم..
بعد سويعات قليلة كتبت رشيدة القيلي على الأنترنت شيئا عنّي وعن اللحظة، وعن عيوني الحزينة والمتألمة بوصف أشارت فيه بانفراد، إلى وجود دمعة في عيوني، وهذه الأخيرة لست لأنها لم ترقني، بل لأنها غير مطابقة للواقع، اتصلتُ برشيدة، أعتب عليها، وأطلب منها أن تحذف ما كتبته.. فاستجابت لطلبي، وحذفته، معلقة أنها بديت لها في تلك اللحظات وكأن دمعة القهر تجوس في عيوني، وربما عيوني كانت مرهقة، وما كتبته كان بدافع التعاطف معي.. وكنتُ قد قررتُ بدافع قهر قوي أن أثير الموضوع في البرلمان على نحو غير معتاد، وهو ما حدث بالفعل..
***
(6)
إثارة احتجازي في السياسي برلمانيا
قمتُ بإعداد شكوى لمجلس النواب ذيلتها باسمي وتوقيعي.. حضرتُ إلى المجلس باكرا، وصدري يموج بقهر عظيم.. إحساس كثيف بالظلم يلعسني كالنار.. شيطان يتحفز في دمي لا يدعني أنام أو استريح.. أقسمت على نفسي أن لا يمر ما حدث مرور الكرام، حتى وإن أقتضى الأمر الاعتصام، والإضراب عن الطعام حتى الموت في قاعة المجلس.. تلك كانت المرة الأولى التي فكرت فيها باحتجاج من هذا القبيل..
وزعتُ لكل نائب نسخة من الشكوى، وقرأت الشكوى في قاعة المجلس على الجميع.. ساندني علانية زملاء كثيرون من الأعضاء، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عيدروس النقيب، ونبيل باشا، وصخر الوجيه، وعبدالكريم شيبان، ومحمد صالح علي، وسلطان البركاني وغيرهم الكثير..
أما جندي الحراسة الصامت، فقد حاولت أن أفتح معه بابا للحديث والتعارف؛ فسألته عن المدة التي تعسكر فيها، والمحافظة التي ينتمي إليها، ولكنه تعمد أن يظهر أنه لم يسمع سؤالي الأول، وتجاهل عمدا سؤالي الثاني، فأرحته من ثالث ورابع؛ وفهمت إن الأوامر قد صدرت إليه ابتدأ أن لا يتحدث معي بقليل أو كثير..
ورغم هذا أحسست من نظراته القليلة التي كان يرمقني بها، أن ثمة تعاطفا ما في داخله.. شعور طيب تتسلل إلى نفسي كجدول أو ساقية.. نظراته القليلة نحوي بدت لي كمن يختلسها بغتة.. أحسست من نظراته إنها لا تخلوا من خجل وحيرة وتساؤل، وفي نفس الوقت يخامرها تعاطف مشوبا بقلة حيلة..
وفي المقابل أحسست من جهتي بتعاطف نحوه، لا يخلوا من تفهم وشفقة.. إنه مجرد عسكري ينفذ الأوامر فحسب.. يؤدي نوبة حراسة لا أكثر.. إنه عسكري مخنوق براتبه، وبآوامر رؤسائه الذي تقع عليه واجب طاعتها وتنفيذها، طالما كانت في حدود مهمته..
*
والشيء بالشيء يذكر لبيان وجه من المفارقة بين سلوك وآخر بمقام مشابه.. هذا الحارس المتعاطف والحائر هنا، كان على عكس الشاب "الأنصاري" الهمجي المتحفز، والاستعراضي المتعجرف الذي كان أمامي فوق الطقم يوم 25 مايو 2017.. كانت عيناه تقدح بسيل من الكراهية المقيتة، والعصبية المنتنة، ومثلها لؤم متسع، وجهل مطبق على آخره..
كان كمن يريد أن يغرس أصبعيه في عينيي.. يتجهم في وجهي كنار جهنم.. يتحفز إلى التهامي كضبع جائع.. يتهمني بالوهابية والدعشنة بجهل لا حدود له.. يتفرس شكلي كناهب أو قاطع طريق.. يفتشني ويسألني عن تلفوني ليغنمه، فيما كنت قد سلّمت تلفوني لابني فادي المحتجز في قسم شرطة جمال جميل مع مجموعة من المحتجين.. سلمته إليه حالما تم مناداتي للصعود إلى الطقم بمفردي.. هذا الكائن السادي الذي كان أمامي أحسست أنه متشوقا على نحو عاصف ليمارس ركلي ببيادته العسكرية، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من ساعة أو ثلثيها..
*
وعودة إلى الغرفة التي كنت محتجز فيها، وبعد قرابة الساعة تفاجأت بالضابط المتحفز قد خمد وهمد رغما عنه.. رأيته منكسرا وهو زاما شفتيه وقاطبا لحاجبيه، بوجه عابس مكسوا بخيبة أكبر من أن تدارى.. أمر الحارس بامتعاض أقوى منه بإخلاء سبيلي، دون أن يتحدث معي ببنت شفة.. لقد خاب مراده، وأحبط عمله، و"عاد بخفي حنين"..
خرجت بمرافقة أحدهم إلى البوابة الخارجية، ووجدت المعتصمين في الساحة ينتظروني وقد رفضوا مغادرة الساحة التي كانوا فيها.. انفرجت أساريرهم بمجرد أن شاهدوني مقبلا نحوهم.. استقبلوني بحرارة نادرة واشتياق جم، وكأنني عائدا من القمر ليعرفوا عني وعنه كل الأخبار التي أحملها معي إليهم..
جميعهم كانوا شغوفين أن يسمعوا منّي ما حدث!! فيما كنت مقلا بالكلام، وصدري يفيض بالقهر الذي حاولت بقلة حيله أن أداريه عن أعينهم المتفحصة.. لم استطع الضحك، وفشلت في تصنع الابتسامة، وهو ما فسره البعض أنني تعرضت لسوء أشد لا أريد البوح به.. ربما ظن البعض أنني تعرضت للضرب والإهانة في الداخل، ولا أريد أن أفصح عنهما أمامهم..
بعد سويعات قليلة كتبت رشيدة القيلي على الأنترنت شيئا عنّي وعن اللحظة، وعن عيوني الحزينة والمتألمة بوصف أشارت فيه بانفراد، إلى وجود دمعة في عيوني، وهذه الأخيرة لست لأنها لم ترقني، بل لأنها غير مطابقة للواقع، اتصلتُ برشيدة، أعتب عليها، وأطلب منها أن تحذف ما كتبته.. فاستجابت لطلبي، وحذفته، معلقة أنها بديت لها في تلك اللحظات وكأن دمعة القهر تجوس في عيوني، وربما عيوني كانت مرهقة، وما كتبته كان بدافع التعاطف معي.. وكنتُ قد قررتُ بدافع قهر قوي أن أثير الموضوع في البرلمان على نحو غير معتاد، وهو ما حدث بالفعل..
***
(6)
إثارة احتجازي في السياسي برلمانيا
قمتُ بإعداد شكوى لمجلس النواب ذيلتها باسمي وتوقيعي.. حضرتُ إلى المجلس باكرا، وصدري يموج بقهر عظيم.. إحساس كثيف بالظلم يلعسني كالنار.. شيطان يتحفز في دمي لا يدعني أنام أو استريح.. أقسمت على نفسي أن لا يمر ما حدث مرور الكرام، حتى وإن أقتضى الأمر الاعتصام، والإضراب عن الطعام حتى الموت في قاعة المجلس.. تلك كانت المرة الأولى التي فكرت فيها باحتجاج من هذا القبيل..
وزعتُ لكل نائب نسخة من الشكوى، وقرأت الشكوى في قاعة المجلس على الجميع.. ساندني علانية زملاء كثيرون من الأعضاء، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: عيدروس النقيب، ونبيل باشا، وصخر الوجيه، وعبدالكريم شيبان، ومحمد صالح علي، وسلطان البركاني وغيرهم الكثير..
قليلون هم الذين أعتلّوا أو تململوا أو وناورا في محاولة منهم للإفلات مما وجب.. أما الأغلبية فقد أحسنت في البدايات، أما في النهايات فلي فيها كلام سأقوله حاسرا حالما يحين وقته وموضعه..
كم كانت لتلك المساندة من وقع على روحي المنهكة.. ما أجمل إحساس المظلوم حينما يجد موقفا يسانده في لحظة حرجة يكون في أشد الحاجة لمن يناصره فيها، أو يساعده لزحزحة قدرا من الظلم الذي يثقل كاهله.. هذا ما أحسسته وتعلمته جيدا، ودوما ما أستحضره عند الانتصار أو المساندة لأي مظلوم.
*
طالبت في الشكوى حضور رئيس جهاز الأمن السياسي غالب القمش إلى قاعة مجلس النواب، ومساءلته عن الانتهاكات التي ارتكبها ضباط وجنود الأمن السياسي، ليس فقط تلك التي طالتني بمفردي، ولكن أيضا الذي طالت المحتجين معي.. وقد أتخذ المجلس قرارا باستدعاء رئيس جهاز الأمن السياسي إلى قاعة المجلس بأغلبية ساحقة..
وفي الجلسة المقرر حضوره فيها، جاء الرد من رئيس جهاز الأمن السياسي، بالاعتذار عن الحضور، وكان الرد مستفزا في أحدى وجوهه، حيث برر عدم حضوره بمشاغله الكثيرة، وزائدا عليه، قوله في الرد: "إن على مجلس النواب طلب رئيس اللجنة الأمنية العليا، وليس احد أعضائها". وكان يقصد من ذلك أن مجلس النواب قد أخطاء بطلبه، وكان يجب عليه أن يطلب وزير الداخلية لا هو..
وقد علقت على الاعتذار إن رئيس جهاز الأمن السياسي، هو المسؤول الأول والمباشر، والجهاز لا يخضع لوزارة الداخلية، وإنما هو تابع لرئاسة الجمهورية، وهو المسؤول الأول عن انتهاك حقوقي الدستورية وحصانتي البرلمانية، وحقوق المحتجين الآخرين، ومن حق المجلس استدعائه ومُسائلته، وهو مشمول ومعني برقابة المجلس، ومعرفة مدى التزامه بالدستور وتنفيذ القوانين.
ألححت بطلب حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى قاعة مجلس النواب لمساءلته، وهددت بالاعتصام والإضراب عن الطعام في قاعة المجلس، بل وحددت موعد الشروع بتنفيذه، إن لم يستطع المجلس إحضار رئيس الجهاز ومساءلته على الانتهاكات التي ارتكبها وتابعيه ضدي وضد المحتجين..
رئيس كتلة الحزب الاشتراكي الدكتور عيدروس نصر ناصر النقيب كان على الأرجح اول نائب احتج على عدم حضور اللواء القمش، مؤكدا على أهمية حضوره بخصوص امر يتعلق بمجلس النواب بكاملة، وليس فقط بأحد اعضائه..
أما النائب صخر الوجيه ـ وهو أحد نواب محافظة الحديدة ـ فقد أشار بمرارة إلى أن هذا الاعتداء ما كان ليتم إلا لأن النائب حاشد مستقل، وبسيط، ومنتمي لمنطقة بسيطة، خلافاً لغيرهم من المدججين بالأسلحة والمرافقين.. واقترح ايقاف النقاش في أي موضوع من جدول أعمال دورة المجلس، حتى يتم حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى قاعة المجلس ليس من أجل التوضيح، ولكن من أجل المساءلة والمحاسبة على الخروقات الدستورية التي أرتكبها هو وتابعيه..
فيما كان العميد يحيى الراعي نائب رئيس المجلس، والمتولي لإدارة الجلسة، في حال المزنوق والمحاصر، يحاول أن يبعد أو يعفي رئيس الجهاز من الحضور إلى المجلس، ويستعيض عنه بحضور وزير الداخلية، إلا أن جل النواب أصروا على حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى المجلس لا سواه.
أما رئيس كتلة المؤتمر سلطان البركاني فقد استنكر قراءة رسالة القمش على القاعة، لأنه ملزما بالحضور، ومؤيداً في ذلك مقترح النائب صخر الوجيه بتعليق أعمال المجلس حتى حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى المجلس، وسط ترحيب واسع من الأعضاء في القاعة.
*
بدا الأمر محرجا ليحيى الراعي الذي أضطر مكرها للنزول عند رغبة أعضاء المجلس.. ربما اختلفت دوافع هذا الإصرار من الأعضاء، وربما بعضها يرجع إلى مخاوف تتعلق بحماية أنفسهم من تعسفات محتملة، ولاسيما إن مرّت هذه الواقعة البينة، بل والصارخة الانتهاك، دون أن يتم الوقوف عليها، وبالتالي استعادة بعض من هيبة حصانة الأعضاء من تعسفات وانتهاكات جمة قد حدثت، وصفها النائب على عبدربه القاضي بقوله "إن ما جرى قطرة من مطر".
فيما كشف في الجلسة رئيس كتلة الناصريين البرلمانية النائب سلطان العتواني أنه تعرض للتوقيف ست مرات، تضمنت آخرها التهديد بالقتل، من قبل نقطة عسكرية أمام معسكر السواد.. هذا وذاك لا يعني عدم وجود تعاطف حقوقي معي من قبل بعض الأعضاء حيال الانتهاك الصارخ الذي تعرضت له، ولكن أقصد وجود ثمة دوافع مختلفة للأعضاء، تضافرت مع بعضها البعض..
إصرار الأعضاء على استدعاء رئيس جهاز الأمن السياسي بأغلبية ساحقة، حملت يحيى الراعي الذي كان يدير الجلسة على النزول عند رغبة الأعضاء، ومعهم رؤساء الكتل البرلمانية، وبالتالي الإذعان لقرار تعليق جلسات المجلس، حتى حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى قاعة المجلس لمساءلته.. وكان قد أنسحب جل أعضاء المجلس احتجاجا على ما أسموه استهتارا من قبل رئيس جهاز الأمن السياسي (المخابرات) بالمجلس، ورفضه الحضور لتوضيح موقفه من انتهاك الحصانة البرلمانية.
كم كانت لتلك المساندة من وقع على روحي المنهكة.. ما أجمل إحساس المظلوم حينما يجد موقفا يسانده في لحظة حرجة يكون في أشد الحاجة لمن يناصره فيها، أو يساعده لزحزحة قدرا من الظلم الذي يثقل كاهله.. هذا ما أحسسته وتعلمته جيدا، ودوما ما أستحضره عند الانتصار أو المساندة لأي مظلوم.
*
طالبت في الشكوى حضور رئيس جهاز الأمن السياسي غالب القمش إلى قاعة مجلس النواب، ومساءلته عن الانتهاكات التي ارتكبها ضباط وجنود الأمن السياسي، ليس فقط تلك التي طالتني بمفردي، ولكن أيضا الذي طالت المحتجين معي.. وقد أتخذ المجلس قرارا باستدعاء رئيس جهاز الأمن السياسي إلى قاعة المجلس بأغلبية ساحقة..
وفي الجلسة المقرر حضوره فيها، جاء الرد من رئيس جهاز الأمن السياسي، بالاعتذار عن الحضور، وكان الرد مستفزا في أحدى وجوهه، حيث برر عدم حضوره بمشاغله الكثيرة، وزائدا عليه، قوله في الرد: "إن على مجلس النواب طلب رئيس اللجنة الأمنية العليا، وليس احد أعضائها". وكان يقصد من ذلك أن مجلس النواب قد أخطاء بطلبه، وكان يجب عليه أن يطلب وزير الداخلية لا هو..
وقد علقت على الاعتذار إن رئيس جهاز الأمن السياسي، هو المسؤول الأول والمباشر، والجهاز لا يخضع لوزارة الداخلية، وإنما هو تابع لرئاسة الجمهورية، وهو المسؤول الأول عن انتهاك حقوقي الدستورية وحصانتي البرلمانية، وحقوق المحتجين الآخرين، ومن حق المجلس استدعائه ومُسائلته، وهو مشمول ومعني برقابة المجلس، ومعرفة مدى التزامه بالدستور وتنفيذ القوانين.
ألححت بطلب حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى قاعة مجلس النواب لمساءلته، وهددت بالاعتصام والإضراب عن الطعام في قاعة المجلس، بل وحددت موعد الشروع بتنفيذه، إن لم يستطع المجلس إحضار رئيس الجهاز ومساءلته على الانتهاكات التي ارتكبها وتابعيه ضدي وضد المحتجين..
رئيس كتلة الحزب الاشتراكي الدكتور عيدروس نصر ناصر النقيب كان على الأرجح اول نائب احتج على عدم حضور اللواء القمش، مؤكدا على أهمية حضوره بخصوص امر يتعلق بمجلس النواب بكاملة، وليس فقط بأحد اعضائه..
أما النائب صخر الوجيه ـ وهو أحد نواب محافظة الحديدة ـ فقد أشار بمرارة إلى أن هذا الاعتداء ما كان ليتم إلا لأن النائب حاشد مستقل، وبسيط، ومنتمي لمنطقة بسيطة، خلافاً لغيرهم من المدججين بالأسلحة والمرافقين.. واقترح ايقاف النقاش في أي موضوع من جدول أعمال دورة المجلس، حتى يتم حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى قاعة المجلس ليس من أجل التوضيح، ولكن من أجل المساءلة والمحاسبة على الخروقات الدستورية التي أرتكبها هو وتابعيه..
فيما كان العميد يحيى الراعي نائب رئيس المجلس، والمتولي لإدارة الجلسة، في حال المزنوق والمحاصر، يحاول أن يبعد أو يعفي رئيس الجهاز من الحضور إلى المجلس، ويستعيض عنه بحضور وزير الداخلية، إلا أن جل النواب أصروا على حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى المجلس لا سواه.
أما رئيس كتلة المؤتمر سلطان البركاني فقد استنكر قراءة رسالة القمش على القاعة، لأنه ملزما بالحضور، ومؤيداً في ذلك مقترح النائب صخر الوجيه بتعليق أعمال المجلس حتى حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى المجلس، وسط ترحيب واسع من الأعضاء في القاعة.
*
بدا الأمر محرجا ليحيى الراعي الذي أضطر مكرها للنزول عند رغبة أعضاء المجلس.. ربما اختلفت دوافع هذا الإصرار من الأعضاء، وربما بعضها يرجع إلى مخاوف تتعلق بحماية أنفسهم من تعسفات محتملة، ولاسيما إن مرّت هذه الواقعة البينة، بل والصارخة الانتهاك، دون أن يتم الوقوف عليها، وبالتالي استعادة بعض من هيبة حصانة الأعضاء من تعسفات وانتهاكات جمة قد حدثت، وصفها النائب على عبدربه القاضي بقوله "إن ما جرى قطرة من مطر".
فيما كشف في الجلسة رئيس كتلة الناصريين البرلمانية النائب سلطان العتواني أنه تعرض للتوقيف ست مرات، تضمنت آخرها التهديد بالقتل، من قبل نقطة عسكرية أمام معسكر السواد.. هذا وذاك لا يعني عدم وجود تعاطف حقوقي معي من قبل بعض الأعضاء حيال الانتهاك الصارخ الذي تعرضت له، ولكن أقصد وجود ثمة دوافع مختلفة للأعضاء، تضافرت مع بعضها البعض..
إصرار الأعضاء على استدعاء رئيس جهاز الأمن السياسي بأغلبية ساحقة، حملت يحيى الراعي الذي كان يدير الجلسة على النزول عند رغبة الأعضاء، ومعهم رؤساء الكتل البرلمانية، وبالتالي الإذعان لقرار تعليق جلسات المجلس، حتى حضور رئيس جهاز الأمن السياسي إلى قاعة المجلس لمساءلته.. وكان قد أنسحب جل أعضاء المجلس احتجاجا على ما أسموه استهتارا من قبل رئيس جهاز الأمن السياسي (المخابرات) بالمجلس، ورفضه الحضور لتوضيح موقفه من انتهاك الحصانة البرلمانية.
الحقيقة لم يحضر القمش إلى المجلس إلا بعد ثالث استدعاء، وتحديدا بعد إعلاني في المجلس أنني قررت الاعتصام والاضراب عن الطعام في قاعة المجلس والذي حددت موعده بـ "يوم الاثنين القادم" وأعلنت أنه سيستمر حتى حضور رئيس الجهاز إلى قاعة المجلس.. وجاء تهديدي هذا على نحو جاد وغير متوقع، وأزعم أنه حشر الجميع تحت ضغط الإحراج الأشد، وجعل حضور رئيس جهاز الأمن السياسي أمر لابد منه..
*
استدعاء رئيس جهاز الأمن السياسي "المخابرات" إلى المجلس في حد ذاته كانت سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البرلمان اليمني.. تعليق أعمال المجلس لأعماله حتى حضور رئيس جهاز الأمن السياسي هي سابقة أخرى لم يقدم عليها المجلس خلال تاريخه.. أن يحضر رئيس جهاز الأمن السياسي فعلا إلى المجلس هي أيضا سابقة غير معهوده من قبل، بل ولم تكن متوقعة بحسب ما هو معتاد..
أما اليوم فبرلمان صنعاء "الميت" والخاضع بات صوريا إلى حد بعيد، وزائفا أكثر من أي وقت مضى، وأداءه في ظل سلطة الأمر الواقع لا يليق حتى بمجلس آباء مدرسة ابتدائية، ورئاسته الخاضعة تجزع وترتعد فرائصها لمجرد طلب تحرير مذكرة لرئيس جهاز الأمن والاستخبارات في أي شأن.. بات الحكم في صنعاء بوليسي قمعي، ودكتاتوري مستبد حد الطغيان، وعلى نحو سافر وفاضح وغير مسبوق..
*
(7)
صدمات توالت
حضر إلى قاعة مجلس النواب نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع وزير الداخلية رشاد العليمي، ومعه رئيس جهاز الأمن السياسي غالب القمش.. دخلا من بوابة قاعة المجلس مزهوين بخطوات واثقة، وكأن مستجد ما قد حدث، وغيّر كل شيء، ولم يبق إلا إخراج يتدبره من يدير الجلسة.. توجست بتبدل الحال وقد بدا اليوم منقلبا على أمسه..
بدا لي أن حضور الوزير مع رئيس الجهاز قد جاء بعد تطمينات أكيدة.. "أمر دُبّر بليل".. لن يتغير شيء يزعزع حال أريد له أن يستمر، والجبل لن يتمخض غير فأر، بل وقد بات هذا الأمر مفروغا منه ومحسوم..
كانت الصدمة الأولى حالما رأيت سرب من النواب يحيط بهما ويتبعونهما حال دخولهما إلى القاعة، في مشهد كان أقرب إلى زفاف من أي شيء آخر اسمه استجواب أو مساءلة .. هكذا بدا لي الأمر من وهلته الأولى، دون أن أهمل فرضية أن أكون متوهما، وأن المجاملة أمر اعتيادي، ولكنها لن تمس ما نحن بصدده، ولن تذهب به إلى ما هو أبعد من حدودها المتعارف عليها..
أما الصدمة الثانية فكانت حالما رأيت زحام من النواب يتكومان عليهما، غير إن الكوم والزحام الأكثر كان هو ذلك الذي يحيط بوزير الداخلية.. هذا التكوّم كان مثيرا لاستغرابي وذهولي، بل وذهبتُ بهواجسي بعيدا، واستفزّني ما أراه كثيرا، ولم أقدر صبرا عليه..
هذا بيده ورقة طلب تجنيد، وذاك بيده طلب نقل جنود، وهذا يريد تفريغ عدد من الجنود معه، وهذا يتابع على نقل مدير ، وهذا بيده ملف ما، وأخر بيده معاملة يريد إنجازها.. طلبات كثيرة، والتفاصيل أكثر منها.. لحظتها شعرت بالخسران والقتامة والحزن، وقد تجسد أمامي ذلك القول: "مصائب قوم عند قوم فوائدُ" وكانت مصيبتي بين قومي اشد..
رأيت الوزير وهو منهمك يؤشر على الطلبات بسرعة لافتة، ويذهب نواب ويأتيه نواب آخرين، فيما الرئاسة تتواطأ مع المشهد بل وتستمريه، رغم أن تلك الطلبات والمعاملات على فرض مشروعيتها مكانها مكتب الوزير أو رئيس الجهاز لا هنا في قاعة البرلمان المطلوب الحضور إليه للمساءلة..
بدأ لي الأمر هنا وكأن الوزير قد تحوّل إلى مزار، وجلهم يتقرّبون إليه، ويتبرّكون فيه ويستجدون كرامته.. فيما هِمّة الوزير بدت نشطة ودؤوبة، تلبي وتستجيب لما يُطلب منها دون اعتراض أو تحفظ.. رمقت الوزير والأوراق تمرق من بين يديه وهو يؤشر ويوقع عليها، حتى بدا لي قلمه وكأنه قد صار ذيل عنزة في حركته، ومغزلا في سرعته..
يا إلهي.. ماذا الذي يحدث؟! .. “يوم الله تعرف من صبحه”.. أنا منتظر من النواب أن يسألونهما ويستجوبونهما، ويسحبون الثقة منهما، فيما الذي أشاهده هو تسولهم لأوامر وتوجيهات وتسهيلات صغيرة وشخصية.. “كل يضع نفسه حيث يشاء” والمجلس وضع نفسه متسولا لا أكثر منه.
أثارني المشهد، وأثار لدي العديد من الاسئلة!! ماذا حدث بين الأمس واليوم؟! كل شيء يبدو أنه أنقلب على أعقابه وتبدل!! حماس الأمس الذي كان باديا للعيان ومتأججا على نحو لافت للاهتمام بات هامدا كميت، وباردا كجبل من جليد.. من كان في الأمس محلا للمحاسبة صار اليوم محلا للاستلطاف العذب.. النواب الأشاوس الذين كان جلهم يهيج ويموج باتوا يتوسلون ويتسولون استعطاف لا يليق بمقام أحد، أفعال مخزية، ومجاملة مُقرطة أوغلت في مبالغتها حد لا يطاق..
هالني الأمر وشعرت بقرف لا يُحتمل.. تساءلت: كيف يمكن لهؤلاء النواب أن يسألوا أو يستجوبوا مسؤولا ليحاسبوه، فيما هم يتهافتوا عليه كالذباب على قطعة حلوى؟!! يستجدون مطالب جلّها خاصة، ومخالفة للقانون أيضا.. إن ما يحدث أشبه برشوة لنواب كان يفترض أن يكونوا في مقام يليق بهم كنواب للشعب لا متسولين..
*
استدعاء رئيس جهاز الأمن السياسي "المخابرات" إلى المجلس في حد ذاته كانت سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البرلمان اليمني.. تعليق أعمال المجلس لأعماله حتى حضور رئيس جهاز الأمن السياسي هي سابقة أخرى لم يقدم عليها المجلس خلال تاريخه.. أن يحضر رئيس جهاز الأمن السياسي فعلا إلى المجلس هي أيضا سابقة غير معهوده من قبل، بل ولم تكن متوقعة بحسب ما هو معتاد..
أما اليوم فبرلمان صنعاء "الميت" والخاضع بات صوريا إلى حد بعيد، وزائفا أكثر من أي وقت مضى، وأداءه في ظل سلطة الأمر الواقع لا يليق حتى بمجلس آباء مدرسة ابتدائية، ورئاسته الخاضعة تجزع وترتعد فرائصها لمجرد طلب تحرير مذكرة لرئيس جهاز الأمن والاستخبارات في أي شأن.. بات الحكم في صنعاء بوليسي قمعي، ودكتاتوري مستبد حد الطغيان، وعلى نحو سافر وفاضح وغير مسبوق..
*
(7)
صدمات توالت
حضر إلى قاعة مجلس النواب نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع وزير الداخلية رشاد العليمي، ومعه رئيس جهاز الأمن السياسي غالب القمش.. دخلا من بوابة قاعة المجلس مزهوين بخطوات واثقة، وكأن مستجد ما قد حدث، وغيّر كل شيء، ولم يبق إلا إخراج يتدبره من يدير الجلسة.. توجست بتبدل الحال وقد بدا اليوم منقلبا على أمسه..
بدا لي أن حضور الوزير مع رئيس الجهاز قد جاء بعد تطمينات أكيدة.. "أمر دُبّر بليل".. لن يتغير شيء يزعزع حال أريد له أن يستمر، والجبل لن يتمخض غير فأر، بل وقد بات هذا الأمر مفروغا منه ومحسوم..
كانت الصدمة الأولى حالما رأيت سرب من النواب يحيط بهما ويتبعونهما حال دخولهما إلى القاعة، في مشهد كان أقرب إلى زفاف من أي شيء آخر اسمه استجواب أو مساءلة .. هكذا بدا لي الأمر من وهلته الأولى، دون أن أهمل فرضية أن أكون متوهما، وأن المجاملة أمر اعتيادي، ولكنها لن تمس ما نحن بصدده، ولن تذهب به إلى ما هو أبعد من حدودها المتعارف عليها..
أما الصدمة الثانية فكانت حالما رأيت زحام من النواب يتكومان عليهما، غير إن الكوم والزحام الأكثر كان هو ذلك الذي يحيط بوزير الداخلية.. هذا التكوّم كان مثيرا لاستغرابي وذهولي، بل وذهبتُ بهواجسي بعيدا، واستفزّني ما أراه كثيرا، ولم أقدر صبرا عليه..
هذا بيده ورقة طلب تجنيد، وذاك بيده طلب نقل جنود، وهذا يريد تفريغ عدد من الجنود معه، وهذا يتابع على نقل مدير ، وهذا بيده ملف ما، وأخر بيده معاملة يريد إنجازها.. طلبات كثيرة، والتفاصيل أكثر منها.. لحظتها شعرت بالخسران والقتامة والحزن، وقد تجسد أمامي ذلك القول: "مصائب قوم عند قوم فوائدُ" وكانت مصيبتي بين قومي اشد..
رأيت الوزير وهو منهمك يؤشر على الطلبات بسرعة لافتة، ويذهب نواب ويأتيه نواب آخرين، فيما الرئاسة تتواطأ مع المشهد بل وتستمريه، رغم أن تلك الطلبات والمعاملات على فرض مشروعيتها مكانها مكتب الوزير أو رئيس الجهاز لا هنا في قاعة البرلمان المطلوب الحضور إليه للمساءلة..
بدأ لي الأمر هنا وكأن الوزير قد تحوّل إلى مزار، وجلهم يتقرّبون إليه، ويتبرّكون فيه ويستجدون كرامته.. فيما هِمّة الوزير بدت نشطة ودؤوبة، تلبي وتستجيب لما يُطلب منها دون اعتراض أو تحفظ.. رمقت الوزير والأوراق تمرق من بين يديه وهو يؤشر ويوقع عليها، حتى بدا لي قلمه وكأنه قد صار ذيل عنزة في حركته، ومغزلا في سرعته..
يا إلهي.. ماذا الذي يحدث؟! .. “يوم الله تعرف من صبحه”.. أنا منتظر من النواب أن يسألونهما ويستجوبونهما، ويسحبون الثقة منهما، فيما الذي أشاهده هو تسولهم لأوامر وتوجيهات وتسهيلات صغيرة وشخصية.. “كل يضع نفسه حيث يشاء” والمجلس وضع نفسه متسولا لا أكثر منه.
أثارني المشهد، وأثار لدي العديد من الاسئلة!! ماذا حدث بين الأمس واليوم؟! كل شيء يبدو أنه أنقلب على أعقابه وتبدل!! حماس الأمس الذي كان باديا للعيان ومتأججا على نحو لافت للاهتمام بات هامدا كميت، وباردا كجبل من جليد.. من كان في الأمس محلا للمحاسبة صار اليوم محلا للاستلطاف العذب.. النواب الأشاوس الذين كان جلهم يهيج ويموج باتوا يتوسلون ويتسولون استعطاف لا يليق بمقام أحد، أفعال مخزية، ومجاملة مُقرطة أوغلت في مبالغتها حد لا يطاق..
هالني الأمر وشعرت بقرف لا يُحتمل.. تساءلت: كيف يمكن لهؤلاء النواب أن يسألوا أو يستجوبوا مسؤولا ليحاسبوه، فيما هم يتهافتوا عليه كالذباب على قطعة حلوى؟!! يستجدون مطالب جلّها خاصة، ومخالفة للقانون أيضا.. إن ما يحدث أشبه برشوة لنواب كان يفترض أن يكونوا في مقام يليق بهم كنواب للشعب لا متسولين..
أحسست أن الذي يحدث أمر مهين إلى حد بعيد بحق البرلمان.. خرجت من طوري محتجا بأن الذي يحدث مهين وغير معقول.. كيف لبرلمان أن يسأل ويستجوب وزير أو رئيس جهاز فيما أعضاؤه يتسولون التأشيرات منه على طلباتهم التي مكانها مكتب الوزير ومكتب رئيس الجهاز، وليست قاعة البرلمان، وفي جلسة مخصصة للمساءلة والاستجواب لهما..
استفزني هذا الموقف المهين ليس بحق النواب، بل وبحق المجلس برمته.. دفعني هذا الضغط المستفز لأن أحاول الأثبات بصورة لجريمة الرشوة التي تحدث جهارا نهارا قبل جلسة المساءلة المفترضة بنصف ساعة..
حاولت أن أقف على قدمي وأخرج الكاميرا من الجاكت الذي أرتديه لأثبت ما يحدث من عار بحق هذا المجلس، وقبل أن التقط الصورة أو بعدها ببرهة صرخ بعض النواب هلعين على ما أقوم به، فيما رئيس المجلس بدا لي كمصعوق وهو يأمر بحزم "المروني" في سكرتارية المجلس ليأخذ من يدي الكاميرا، ولا يفرج عنها إلا بأمر منه، ولم يتم إعادتها إلا بعد مطل وتسويف، أو ما أسماه لاحقا بتأديب أستمر شهرين أو ثلاثة بحكم المصادرة، وكنت قد ايقنت أنها لن تعاد وإلى الأبد..
الصدمة الرابعة أنه انيط الرد على الشكوى بوزير الداخلية، وليس على المعني والمطلوب للمساءلة أصلا، وهو ما كان قد أقره المجلس من قبل.. رئيس جهاز الأمن السياسي حضر كضيف برفقة الوزير، رغم أنه كان المعني الأول فيما تضمنه قرار المجلس والرافض لدعوة حضور الوزير، ولكن "كلام الليل يمحوه النهار"
أما الصدمة الخامسة أن رواية الوزير كانت كاذبة على نحو مستفز وملفق إلى حد لم أكن أتخيله.. أما السادسة فكانت انفضاض المجلس على حساب حق تم غمطه، ونائبا ارادوا الإجهاز على شكواه، وصبوا اللعنات على رأسه، وسحقوه في ذلك اليوم ظلما وقهرا وباطلا.
*
(8)
يوم أرغمت على الاعتذار
من مكانه العالي والوثير في المنصة افتتح نائب رئيس المجلس العميد يحيى الراعي جلسة المجلس "باسم الشعب".. جملة سمعتها وكأنني أسمعها للمرة الأولى!! لا أدري لماذا لفت نظري افتتاح هذه الجلسة أكثر من كل مرة..! لا أدري لماذا كلمة "الشعب" جلبت طنينا في اذني على غير ما هو معتاد.. لطالما شعرت بالقرف من المفارقة بين القول والفعل، ولكن هذه المرة كان مشوبا بطنين و وشيش.. قلت لنفسي ربما حدث هذا بسبب توتري ومخاوفي، وربما لشأن أهم!!
كنت أريد من خلال التقاط الصور للوزير ورئيس الجهاز والنواب المكتظين حولهما، إثبات واقعة تتم على حساب نزاهة العمل النيابي والحكومي في آن.. أردت أن أوقف هذه المهزلة التي تحدث أمامي على حساب واجب ما كان ينبغي التفريط به.. وددت أن أثبت وأدين فيها ما يحدث من مفارقة عجيبة بين ما يجب، وما يتم في هذا الواقع البائس والمرير..
أردت أن يعرف الشعب أن نوابه لا يحسنون تمثيله، بل ويسيئون إليه بعلم ودراية، وتحديدا أولئك النواب الذين تهافتوا كالذباب، أو قبلوا على أنفسهم رشوة الوزير، وأكثر من هذا إنهم هم من طلبوها منه، أو عرضوا أنفسهم عليه..
النواب معنيين بالرقابة على الحكومة، والوزير هو إحدى مفردات الحكومة أو بعض منها، وتندرج تلك الرقابة في صدارة المهام النيابية للمجلس، وزائد على هذا نحن هنا بصدد وزير يفترض أن يستجوبوه بعد دقائق من جلسة مخصصة أو مفترضة للمساءلة والاستجواب..
رئيس كتلة المؤتمر سلطان البركاني طالب بإخراج الفلم من الكاميرا، وزاد عليه مطالبتي باحترام زملائي؛ كونني على حد وصفه وتعبيره في "مجلس نواب، وليس في سمسرة"، أما النائب خالد العنسي ـ وهو أحد ضباط الأمن السياسي الذين سبق وأن عمل على الأرجح في مكتب رئيس الجهاز ـ فقد دعا إلى إخراج الفيلم من الكاميرا واتلافه فورا، وتكاثرت طلبات إتلاف الصور والفلم.
وفيما كان يطالب بعض النواب بهذا الاتلاف، كان الراعي قد أمر بأخذ الكاميرا ومحتوياتها، وزائدا عليها أصر على ضرورة أن اعتذر للمجلس بشأن التصوير.. كنت أمام خيارين، أما أعلق هنا، وينتهي كل شيء عند هذا الحد وهو فعل يشبه الانتحار، أو أتجاوز الأمر باعتذار محمولا ومرغما عليه، لتفويت فرصة يتربصون بها، ويريدون من خلالها وأد كل شيء..
اعتذرت مكرها وأنا آكل دواخلي بيني وبين نفسي.. اعتذرت حتى أفوّت فرصة عليهم في محاولة إفشال جلسة يبحثون عن أي مبرر أو حجة لإفشالها.. كان المثل الكبير ماثلا أمامي "تريد عذر أو حمار" كانت الرئاسة تتحين أي تلكؤا يمكنها أن تستخدمه كعذر لينتهي الأمر عند هذا الحد وبالتالي أعلن هزيمتي والخسران المبين..
*
(9)
رواية الوزير.. التعذيب بالكذب
رغم أن المعني بالاستدعاء والمساءلة هو رئيس جهاز الأمن السياسي، لاسيما وأن الجهاز لا يتبع وزارة الداخلية وفق قانون إنشائه، بل يتبع رئاسة الجمهورية، غير أن وزير الداخلية انبرى للتصدّي والإجابة، فيما تساهلت هيئة رئاسة المجلس حياله! ولا أدري لماذا أذعن أعضاء المجلس لهذا التغيير، رغم أنه سبق لهم أن رفضوه، بل وأصروا على حضور ومساءلة رئيس الجهاز تحديدا لا غيره..!! وحتّى على افتراض وجود تخريج قانوني لهذا التغيير؛
استفزني هذا الموقف المهين ليس بحق النواب، بل وبحق المجلس برمته.. دفعني هذا الضغط المستفز لأن أحاول الأثبات بصورة لجريمة الرشوة التي تحدث جهارا نهارا قبل جلسة المساءلة المفترضة بنصف ساعة..
حاولت أن أقف على قدمي وأخرج الكاميرا من الجاكت الذي أرتديه لأثبت ما يحدث من عار بحق هذا المجلس، وقبل أن التقط الصورة أو بعدها ببرهة صرخ بعض النواب هلعين على ما أقوم به، فيما رئيس المجلس بدا لي كمصعوق وهو يأمر بحزم "المروني" في سكرتارية المجلس ليأخذ من يدي الكاميرا، ولا يفرج عنها إلا بأمر منه، ولم يتم إعادتها إلا بعد مطل وتسويف، أو ما أسماه لاحقا بتأديب أستمر شهرين أو ثلاثة بحكم المصادرة، وكنت قد ايقنت أنها لن تعاد وإلى الأبد..
الصدمة الرابعة أنه انيط الرد على الشكوى بوزير الداخلية، وليس على المعني والمطلوب للمساءلة أصلا، وهو ما كان قد أقره المجلس من قبل.. رئيس جهاز الأمن السياسي حضر كضيف برفقة الوزير، رغم أنه كان المعني الأول فيما تضمنه قرار المجلس والرافض لدعوة حضور الوزير، ولكن "كلام الليل يمحوه النهار"
أما الصدمة الخامسة أن رواية الوزير كانت كاذبة على نحو مستفز وملفق إلى حد لم أكن أتخيله.. أما السادسة فكانت انفضاض المجلس على حساب حق تم غمطه، ونائبا ارادوا الإجهاز على شكواه، وصبوا اللعنات على رأسه، وسحقوه في ذلك اليوم ظلما وقهرا وباطلا.
*
(8)
يوم أرغمت على الاعتذار
من مكانه العالي والوثير في المنصة افتتح نائب رئيس المجلس العميد يحيى الراعي جلسة المجلس "باسم الشعب".. جملة سمعتها وكأنني أسمعها للمرة الأولى!! لا أدري لماذا لفت نظري افتتاح هذه الجلسة أكثر من كل مرة..! لا أدري لماذا كلمة "الشعب" جلبت طنينا في اذني على غير ما هو معتاد.. لطالما شعرت بالقرف من المفارقة بين القول والفعل، ولكن هذه المرة كان مشوبا بطنين و وشيش.. قلت لنفسي ربما حدث هذا بسبب توتري ومخاوفي، وربما لشأن أهم!!
كنت أريد من خلال التقاط الصور للوزير ورئيس الجهاز والنواب المكتظين حولهما، إثبات واقعة تتم على حساب نزاهة العمل النيابي والحكومي في آن.. أردت أن أوقف هذه المهزلة التي تحدث أمامي على حساب واجب ما كان ينبغي التفريط به.. وددت أن أثبت وأدين فيها ما يحدث من مفارقة عجيبة بين ما يجب، وما يتم في هذا الواقع البائس والمرير..
أردت أن يعرف الشعب أن نوابه لا يحسنون تمثيله، بل ويسيئون إليه بعلم ودراية، وتحديدا أولئك النواب الذين تهافتوا كالذباب، أو قبلوا على أنفسهم رشوة الوزير، وأكثر من هذا إنهم هم من طلبوها منه، أو عرضوا أنفسهم عليه..
النواب معنيين بالرقابة على الحكومة، والوزير هو إحدى مفردات الحكومة أو بعض منها، وتندرج تلك الرقابة في صدارة المهام النيابية للمجلس، وزائد على هذا نحن هنا بصدد وزير يفترض أن يستجوبوه بعد دقائق من جلسة مخصصة أو مفترضة للمساءلة والاستجواب..
رئيس كتلة المؤتمر سلطان البركاني طالب بإخراج الفلم من الكاميرا، وزاد عليه مطالبتي باحترام زملائي؛ كونني على حد وصفه وتعبيره في "مجلس نواب، وليس في سمسرة"، أما النائب خالد العنسي ـ وهو أحد ضباط الأمن السياسي الذين سبق وأن عمل على الأرجح في مكتب رئيس الجهاز ـ فقد دعا إلى إخراج الفيلم من الكاميرا واتلافه فورا، وتكاثرت طلبات إتلاف الصور والفلم.
وفيما كان يطالب بعض النواب بهذا الاتلاف، كان الراعي قد أمر بأخذ الكاميرا ومحتوياتها، وزائدا عليها أصر على ضرورة أن اعتذر للمجلس بشأن التصوير.. كنت أمام خيارين، أما أعلق هنا، وينتهي كل شيء عند هذا الحد وهو فعل يشبه الانتحار، أو أتجاوز الأمر باعتذار محمولا ومرغما عليه، لتفويت فرصة يتربصون بها، ويريدون من خلالها وأد كل شيء..
اعتذرت مكرها وأنا آكل دواخلي بيني وبين نفسي.. اعتذرت حتى أفوّت فرصة عليهم في محاولة إفشال جلسة يبحثون عن أي مبرر أو حجة لإفشالها.. كان المثل الكبير ماثلا أمامي "تريد عذر أو حمار" كانت الرئاسة تتحين أي تلكؤا يمكنها أن تستخدمه كعذر لينتهي الأمر عند هذا الحد وبالتالي أعلن هزيمتي والخسران المبين..
*
(9)
رواية الوزير.. التعذيب بالكذب
رغم أن المعني بالاستدعاء والمساءلة هو رئيس جهاز الأمن السياسي، لاسيما وأن الجهاز لا يتبع وزارة الداخلية وفق قانون إنشائه، بل يتبع رئاسة الجمهورية، غير أن وزير الداخلية انبرى للتصدّي والإجابة، فيما تساهلت هيئة رئاسة المجلس حياله! ولا أدري لماذا أذعن أعضاء المجلس لهذا التغيير، رغم أنه سبق لهم أن رفضوه، بل وأصروا على حضور ومساءلة رئيس الجهاز تحديدا لا غيره..!! وحتّى على افتراض وجود تخريج قانوني لهذا التغيير؛
فليكن، ولنأتي للأهم، وهو ما رواه الوزير للمجلس بصدد ما حدث.
بدأ الوزير باستعراض رواية ما أنزل الله بها من سلطان.. رواية مستفزة إلى حد بعيد.. رواية ممعنة بمغايرة الحقيقة وضعا واتجاها، ومصادمة للواقع على نحو فظ وصارخ.. نفى الوزير تماما واقعة احتجازي، وقال أنني كنت ضمن متجمهرين أمام مبنى جهاز الأمن السياسي في الساعة الثالثة والربع، بعد نهاية الدوام الرسمي بربع ساعة في رمضان، بخصوص أحد الموقوفين في الجهاز.
وأضاف لكذبته الأولى والثانية، اتهاما جريئا آخر، وهو أنني قمت بتصوير موقع الأمن السياسي، وأن ضابط الحراسة حالما لاحظ ذلك، طلب مني تسليم الكاميرا، وعندما رفضتُ وعرف أنني برلماني اكتفى بإخباري إن التصوير ممنوع، وعندما طلبتُ مقابلة أحد المسؤولين، اصطحبي بكل أدب واحترام الى الضابط المناوب الذي حاول الاتصال بأحد المسؤولين، غير أنه عاد واعتذر إليّ لعدم وجود أحد مع انتهاء الدوام الرسمي، طالبا منّي العودة في وقت آخر، فخرجتُ وانصرفتُ مع المتجمهرين. إنها رواية لا تمسخ وجه الحقيقة فحسب، بل وتشبعها كذبا وزورا وبهتانا..
*
كان نفي الوزير أشبه بنيزك وقع على أم رأسي.. فجّر عقلي الذي تطاير كنثار وذرات غبار.. أخرجني من طوري، واقتلعني بقوة سيل جرار.. طيّر موازيني شظايا لا تلملمها معجزة..
جالدت نفسي صبرا وأنا اقتلي وأغتلي لأسمع البقية، ولم يكمل حتى تخيّلت أنني قد صرت في بطن أفعى.. تعصرني وتلوني، وتصب عصارة حمضها الحارق لتهضمني.. اكتشفت أيضا ان سماع الكذب فيه عذاب مؤلم وشديد، ربما لم أكن أعرفه قبل هذا الذي حدث..
كنت أظن إن الوزير سيدلّس الحقيقة بكذبة واحدة، وفي حال افراطه لن تزيد على كذبتين، ولم أتوقع البته أن تكون حصة الكذب في الرواية تسعة أعشارها.. وكنت قبل أن أسمع روايته الكذوبة، أحدث نفسي وأقول:
- من المستحيل أن يناكرني جهارا نهارا في واقعة عشت بنفسي تفاصيلها، وحدث جلّها أمام جمهور غير قليل.. ربما سيحرف بعض الحقائق عن مواضعها، أو يقلب بعضها مضطرا ليخفف شيئا من مسؤولية الجهاز الذي يدافع عنه.. وربما يتجاوز شيئا حتى لا يكون محل لغط وجدل، ومن المحتمل أن يورد بعض مما هو غامض وملتبس، وإذا قمتُ بإثبات عكسه، أو إفحام روايته، يلوذ بتأويل أو تفسير ينقذه من ورطة ما يمكنني أن أثبته.. وحتى لو خذلني المجلس ولم تسر الأمور على النحو الذي أريد، لن يُفلت بالتأكيد من تشكيل لجنة برلمانية لتقصّي الحقائق، ورفع تقرير للمجلس بهذا الشأن، والذي على ضوئه سيتخذ المجلس قراره.. وفي كل حال وفي أسوأ الاحتمالات لن ينجو من تقديم اعتذاره ليس لي فقط، ولكن أيضا للمجلس وللمحتجين..
لم أكن أتوقع إنه سيختلق من العدم وقائع لم تحدث، ويزيل بإمعان في الوقت نفسه وقائع حدثت على نحو أكيد، بل هي ثابتة وساطعة ويمكن إثباتها بسهولة ويسر.. جاءت رواية الوزير بتبديل جريء بل وصفيق، ما كان يخطر ببالي شيئا منه.. كانت روايته بدراية أشبعها كذبا وافتراء وأباطيلا، فاقت تخيّلي إلى حد بعيد..
كنت أشعر أنني صاحب حق بثقة لا حدود لها.. ومع ذلك افترضت أنه سيزوغ في روايته عن قول بعض الحقيقة، وربما ينحرف في نقل بعضها، أو يبدل وجه منها، أما وقد سمعت إنكاره لوقائع بعضها شهدتها أعين جمهور بكامله، فذلك ما لم أكن أتوقعه.. تذكرت مقولة "مارك توين": "يستطيع الكذب أن يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها". وكان وزيرنا "أكذب من خرافة".
*
(10)
أبصم بالعشر أنه كاذب
تحجج الوزير في روايته بالمخاوف من تصوير مبنى الأمن السياسي من خارجه، باعتباره موقعا حساسا.. كان مثل هذا الادعاء بمفرده يكفي أن يثير حفيظة النواب على هذا الاستخفاف الباذخ بهم وبمعارفهم، إلا إذا كانوا نوابا لازالوا يعيشون في حقبة ما قبل الألفية الثالثة، ويجهلون أبجديات ثورة الاتصالات والمعلومات والأنترنت التي يعيشها العصر..
أعجبني الإعلامي والناشط السياسي لطفي شطارة الذي رد يومها على خفة هذا الوزير، بمقال تحت عنوان "اليمن.. ديمقراطية رقص الحمام" ومن ضمن ما جاء فيه:
"ماذا لو علم الأخ الوزير أن مبنى الاستخبارات البريطانية لدولة عظمى في العالم (MI6 ) يقع على ضفاف نهر التايمز، ويمكنك أن تلتقط ما تريد من الصور بجانبه.. أهمية المباني والمواقع الحساسة تكمن بما يوجد داخلها وليس بأشكالها او بمكان وجودها.. الوزير ربما لم يسمع بعد أن برنامجا تابع لموقع جوجل على الشبكة العنكبوتية يمكنه أن يحدد لك، وعبر القمر الصناعي أي موقع تريده في العالم وأنت جالس على مكتبك، وليس مبنى واقع في شارع عام..".
ما حدث لي خارج سور الجهاز، لم يكن في مخبأ أو مكان قصي أو معزول، بل كان في شارع عام، وأكثر منه في حضرة ومشهد جمهور غير قليل من الناس.. وحتى احتجازي داخل الجهاز، يمكن كشفه أو الاستدلال عليه أيضا بسهولة ويسر، من خلال الكاميرات المثبتة في أسوار الجهاز وبواباته وزواياه وبعض مبانيه..
بدأ الوزير باستعراض رواية ما أنزل الله بها من سلطان.. رواية مستفزة إلى حد بعيد.. رواية ممعنة بمغايرة الحقيقة وضعا واتجاها، ومصادمة للواقع على نحو فظ وصارخ.. نفى الوزير تماما واقعة احتجازي، وقال أنني كنت ضمن متجمهرين أمام مبنى جهاز الأمن السياسي في الساعة الثالثة والربع، بعد نهاية الدوام الرسمي بربع ساعة في رمضان، بخصوص أحد الموقوفين في الجهاز.
وأضاف لكذبته الأولى والثانية، اتهاما جريئا آخر، وهو أنني قمت بتصوير موقع الأمن السياسي، وأن ضابط الحراسة حالما لاحظ ذلك، طلب مني تسليم الكاميرا، وعندما رفضتُ وعرف أنني برلماني اكتفى بإخباري إن التصوير ممنوع، وعندما طلبتُ مقابلة أحد المسؤولين، اصطحبي بكل أدب واحترام الى الضابط المناوب الذي حاول الاتصال بأحد المسؤولين، غير أنه عاد واعتذر إليّ لعدم وجود أحد مع انتهاء الدوام الرسمي، طالبا منّي العودة في وقت آخر، فخرجتُ وانصرفتُ مع المتجمهرين. إنها رواية لا تمسخ وجه الحقيقة فحسب، بل وتشبعها كذبا وزورا وبهتانا..
*
كان نفي الوزير أشبه بنيزك وقع على أم رأسي.. فجّر عقلي الذي تطاير كنثار وذرات غبار.. أخرجني من طوري، واقتلعني بقوة سيل جرار.. طيّر موازيني شظايا لا تلملمها معجزة..
جالدت نفسي صبرا وأنا اقتلي وأغتلي لأسمع البقية، ولم يكمل حتى تخيّلت أنني قد صرت في بطن أفعى.. تعصرني وتلوني، وتصب عصارة حمضها الحارق لتهضمني.. اكتشفت أيضا ان سماع الكذب فيه عذاب مؤلم وشديد، ربما لم أكن أعرفه قبل هذا الذي حدث..
كنت أظن إن الوزير سيدلّس الحقيقة بكذبة واحدة، وفي حال افراطه لن تزيد على كذبتين، ولم أتوقع البته أن تكون حصة الكذب في الرواية تسعة أعشارها.. وكنت قبل أن أسمع روايته الكذوبة، أحدث نفسي وأقول:
- من المستحيل أن يناكرني جهارا نهارا في واقعة عشت بنفسي تفاصيلها، وحدث جلّها أمام جمهور غير قليل.. ربما سيحرف بعض الحقائق عن مواضعها، أو يقلب بعضها مضطرا ليخفف شيئا من مسؤولية الجهاز الذي يدافع عنه.. وربما يتجاوز شيئا حتى لا يكون محل لغط وجدل، ومن المحتمل أن يورد بعض مما هو غامض وملتبس، وإذا قمتُ بإثبات عكسه، أو إفحام روايته، يلوذ بتأويل أو تفسير ينقذه من ورطة ما يمكنني أن أثبته.. وحتى لو خذلني المجلس ولم تسر الأمور على النحو الذي أريد، لن يُفلت بالتأكيد من تشكيل لجنة برلمانية لتقصّي الحقائق، ورفع تقرير للمجلس بهذا الشأن، والذي على ضوئه سيتخذ المجلس قراره.. وفي كل حال وفي أسوأ الاحتمالات لن ينجو من تقديم اعتذاره ليس لي فقط، ولكن أيضا للمجلس وللمحتجين..
لم أكن أتوقع إنه سيختلق من العدم وقائع لم تحدث، ويزيل بإمعان في الوقت نفسه وقائع حدثت على نحو أكيد، بل هي ثابتة وساطعة ويمكن إثباتها بسهولة ويسر.. جاءت رواية الوزير بتبديل جريء بل وصفيق، ما كان يخطر ببالي شيئا منه.. كانت روايته بدراية أشبعها كذبا وافتراء وأباطيلا، فاقت تخيّلي إلى حد بعيد..
كنت أشعر أنني صاحب حق بثقة لا حدود لها.. ومع ذلك افترضت أنه سيزوغ في روايته عن قول بعض الحقيقة، وربما ينحرف في نقل بعضها، أو يبدل وجه منها، أما وقد سمعت إنكاره لوقائع بعضها شهدتها أعين جمهور بكامله، فذلك ما لم أكن أتوقعه.. تذكرت مقولة "مارك توين": "يستطيع الكذب أن يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها". وكان وزيرنا "أكذب من خرافة".
*
(10)
أبصم بالعشر أنه كاذب
تحجج الوزير في روايته بالمخاوف من تصوير مبنى الأمن السياسي من خارجه، باعتباره موقعا حساسا.. كان مثل هذا الادعاء بمفرده يكفي أن يثير حفيظة النواب على هذا الاستخفاف الباذخ بهم وبمعارفهم، إلا إذا كانوا نوابا لازالوا يعيشون في حقبة ما قبل الألفية الثالثة، ويجهلون أبجديات ثورة الاتصالات والمعلومات والأنترنت التي يعيشها العصر..
أعجبني الإعلامي والناشط السياسي لطفي شطارة الذي رد يومها على خفة هذا الوزير، بمقال تحت عنوان "اليمن.. ديمقراطية رقص الحمام" ومن ضمن ما جاء فيه:
"ماذا لو علم الأخ الوزير أن مبنى الاستخبارات البريطانية لدولة عظمى في العالم (MI6 ) يقع على ضفاف نهر التايمز، ويمكنك أن تلتقط ما تريد من الصور بجانبه.. أهمية المباني والمواقع الحساسة تكمن بما يوجد داخلها وليس بأشكالها او بمكان وجودها.. الوزير ربما لم يسمع بعد أن برنامجا تابع لموقع جوجل على الشبكة العنكبوتية يمكنه أن يحدد لك، وعبر القمر الصناعي أي موقع تريده في العالم وأنت جالس على مكتبك، وليس مبنى واقع في شارع عام..".
ما حدث لي خارج سور الجهاز، لم يكن في مخبأ أو مكان قصي أو معزول، بل كان في شارع عام، وأكثر منه في حضرة ومشهد جمهور غير قليل من الناس.. وحتى احتجازي داخل الجهاز، يمكن كشفه أو الاستدلال عليه أيضا بسهولة ويسر، من خلال الكاميرات المثبتة في أسوار الجهاز وبواباته وزواياه وبعض مبانيه..
كنتُ أعرف إن الوزراء والساسة في الغالب والأعم يكذبون، ولكن لم أكن أعلم أنهم يكذبون إلى ذلك الحد الصارخ من الافتراء والاستخفاف والمجاهرة.. لم أكن أتصور أنه سينكر واقعة مشهودة في جلها بمائة عين لا اثنتين.. لو كان هذا المجلس مهابا أو على الأقل يحترم نفسه ما تجرّأ هذا الوزير أن يستغفله ويستغبيه، بل ويستهتر به إلى ذلك الحد الصفيق.
إنني لا أناكر هنا في موضوع ملتبس، وإنما واقعه رصدتها مائة عين ترى وتبصر وتمعن النظر.. وما حدث في الداخل تستطيع أن تتحقق منه وتستقصيه بالصور والفيديوهات لا ينكرها كائد أو مناكر.. كنت أتسأل كيف يتجاسرون في نكران كل شيء، وقلب الحقائق رأسا على عقب؟!!
الرقبة منّا ولدينا تُقطع بشهادة شاهدين فقط، وما حدث خارج السور كان يمكن إثباته بعشرات الشهود، وأضعاف مضاعفة من الأعين والآذان التي رأت وسمعت ما حدث في صحو نهار مشمس، لا ضباب فيه ولا دُجى، وزائد عليه إنها عاشت اللحظة بكل تفاصيلها..
وأكثر من هذا، لك أن تسخر، وأنت تسمع رواية الوزير الذي كان يتحدّث عن ضباط الأمن السياسي في صنعاء، وكأنه يتحدث عن رجال شرطة وأمن "السويد".. حتى الحجارة ستسخر من هذا الوزير، لو قدّر لها أن تسخر..!! سخرية بالغة ومقذعة قادرة أن تثير فينا كثير من الألم والبكاء والأنين..
كان بإمكاني أن أصف تفاصيل الغرفة، وطريق الوصول إليها، وكشف تفاصيلها، وتفاصيل الحارس الذي أحضروه، وكذا الضابط ذو الملامح الحادة الذي أمر الجندي بحراستي فيها.. كنت أستطيع أن أميزهما من ألف شبه لا من أربعين..
إنني على ثقة أن أي محقق مبتدئي يستطيع أن يكشف هراء هذا الوزير، وكذبه المتعمد والصارخ.. أي محقق يستطيع كشفه إذا ما اتيح له حتى مساحة الحد الأدنى من الحرية في التحقيق والاستقصاء.. ما حدث خارج السور واقعة مشهودة لا غبار عليها، وما حصل داخله بالإمكان إثباته بأدلة تقطع الحجر..
كان اسم الوزير يتقدمه رتبة "اللواء"، ولكن للأسف كان كاذبا بمستوى رتبته.. صحيح أنه يحمل شهادة "دكتوراه" ويسبق اسمه لقب "دكتور"، ولكنه للأسف كان كاذبا بمستوى لقبه ودرجته وشهادته مع مرتبة "الشرف"..
إن الكذب دميم، والسياسية أكثر قبحا ودمامة عندما تعتاش عليه، أو يعتاش عليه ساستنا الذين أنهكونا وأفسدوا حياتنا في الأمس واليوم، وقد صار الكذب قُوتهم اليومي عشاء وصباحا، وأسوأ منه حالا أن نجدهم، وقد اختطفوا منّا وطنا جميلا افتديناه، ومستقبلا لطالما بحثنا عنه، وتوقنا إليه..
هناك مثل روسي يقول "في مستنقع الأكاذيب لا تسبح سوى الأسماك الميتة" ربما رأيت حال كهذا مرارا في هذا المجلس الموات، أو ما يفوقه بكثير في مستنقع لا ينحسر ولا ينزف.. هناك شطر بيت شعري يقول: "لا يكذب المرء إلا من مهانته" وكان هنا الحال أكثر وصفا وابتلاء ومهانة.
يقول مارتن لوثر إن "الكذبة كرة ثلجية تكبر كلما دحرجتها" وها هو هذا الوزير قد كبر بكذبه، وكبرت أكاذيبه حتى وصل إلى أن يكون في مرحلة ما، ممسكا بأخطر ملفين في هذه البلد المنكوبة بهم، وهما ملف الإرهاب، وملف ترسيم الحدود..
واليوم وفي ظل سلطات الأمر الواقع التي تحكمنا هنا وهناك، بات الكذب ماء وعيش وأسلوب حياة.. صار عميما ووخيما حد المستحيل.. فيما الصدق صار بحكم النادر الذي لا حكم له.. صار الصدق مكلفا جدا، وثمنه باهض للغاية، وينطبق عليه قول نوال السعداوي: "الصدق في عالم يكذب أمر مخيف".
***
(11)
يوم خسرتُ المعركة وسحقني القهر
كان الوزير يتحدث فيما أنا انتظر أحر من الجمر دوري في الكلام بعده.. كلام الوزير كان يسري في أوصالي كالسم الزعاف.. أعددت تعليقاتي وتعقيباتي بعد مجالدة ومراغمة مع نفسي التي كاد صبرها ينفذ قبل أن يتم، وهي تسمع ما تسمعه من كذب جريء يغرس نصاله المسمومة في كبدي وأوصالي المنهكة..
تلفيقات وأكاذيب لا أساس لها من الصحة تتوالى تباعا، وأنا أقمع حيالها ردود أفعالي بقسوة جلاد عنيف، منتظرا أن ينتهي الوزير مما لديه من كذب وتلفيق دون أن اقاطعه قبل أن يبدأ دوري في الكلام، وأكثر منه أني فشلت فشلا ذريعا أن أقذفه بابتسامة ساخرة ولو تصنُّعا في وجه ما يتم كيله من أكاذيب..
من المؤلم جدا أن تسمع الأكاذيب تباعا، ولا تعترض عليها ببنت شفة، بل وتستمر بالسماع وأنت تراغم نفسك، وتقمعها مرارا وبشدة حتى ينتهي الكاذب من آخر كذبه في جعبته.. غالبتُ حممي المتأججة، وداريتها داخلي عن الأعين التي كانت تأكل وجهي الباذخ بالتعب والأرق، فيما كانت تلك الحمم تضطرب وتحتدم داخلي، وتستعجل منفسا للبوح بغليل يثور ويشتعل داخلي، كان كبيرا وجبّارا..
ما رواه الوزير كان تقريبا يصادم الواقع من أوله إلى آخره.. وأكثر منه كان صادما لي على نحو صاعق ومضاعف.. كنت أكتوي وأتعذب وأنا أسمع وأرى الوزير يروي ما يرويه بأعصاب هادئة وباردة.. تذكرت نتشه وهو يقول: "الحكومة تكذب ببرود.. كل ما تقوله الحكومة كذب"..
إنني لا أناكر هنا في موضوع ملتبس، وإنما واقعه رصدتها مائة عين ترى وتبصر وتمعن النظر.. وما حدث في الداخل تستطيع أن تتحقق منه وتستقصيه بالصور والفيديوهات لا ينكرها كائد أو مناكر.. كنت أتسأل كيف يتجاسرون في نكران كل شيء، وقلب الحقائق رأسا على عقب؟!!
الرقبة منّا ولدينا تُقطع بشهادة شاهدين فقط، وما حدث خارج السور كان يمكن إثباته بعشرات الشهود، وأضعاف مضاعفة من الأعين والآذان التي رأت وسمعت ما حدث في صحو نهار مشمس، لا ضباب فيه ولا دُجى، وزائد عليه إنها عاشت اللحظة بكل تفاصيلها..
وأكثر من هذا، لك أن تسخر، وأنت تسمع رواية الوزير الذي كان يتحدّث عن ضباط الأمن السياسي في صنعاء، وكأنه يتحدث عن رجال شرطة وأمن "السويد".. حتى الحجارة ستسخر من هذا الوزير، لو قدّر لها أن تسخر..!! سخرية بالغة ومقذعة قادرة أن تثير فينا كثير من الألم والبكاء والأنين..
كان بإمكاني أن أصف تفاصيل الغرفة، وطريق الوصول إليها، وكشف تفاصيلها، وتفاصيل الحارس الذي أحضروه، وكذا الضابط ذو الملامح الحادة الذي أمر الجندي بحراستي فيها.. كنت أستطيع أن أميزهما من ألف شبه لا من أربعين..
إنني على ثقة أن أي محقق مبتدئي يستطيع أن يكشف هراء هذا الوزير، وكذبه المتعمد والصارخ.. أي محقق يستطيع كشفه إذا ما اتيح له حتى مساحة الحد الأدنى من الحرية في التحقيق والاستقصاء.. ما حدث خارج السور واقعة مشهودة لا غبار عليها، وما حصل داخله بالإمكان إثباته بأدلة تقطع الحجر..
كان اسم الوزير يتقدمه رتبة "اللواء"، ولكن للأسف كان كاذبا بمستوى رتبته.. صحيح أنه يحمل شهادة "دكتوراه" ويسبق اسمه لقب "دكتور"، ولكنه للأسف كان كاذبا بمستوى لقبه ودرجته وشهادته مع مرتبة "الشرف"..
إن الكذب دميم، والسياسية أكثر قبحا ودمامة عندما تعتاش عليه، أو يعتاش عليه ساستنا الذين أنهكونا وأفسدوا حياتنا في الأمس واليوم، وقد صار الكذب قُوتهم اليومي عشاء وصباحا، وأسوأ منه حالا أن نجدهم، وقد اختطفوا منّا وطنا جميلا افتديناه، ومستقبلا لطالما بحثنا عنه، وتوقنا إليه..
هناك مثل روسي يقول "في مستنقع الأكاذيب لا تسبح سوى الأسماك الميتة" ربما رأيت حال كهذا مرارا في هذا المجلس الموات، أو ما يفوقه بكثير في مستنقع لا ينحسر ولا ينزف.. هناك شطر بيت شعري يقول: "لا يكذب المرء إلا من مهانته" وكان هنا الحال أكثر وصفا وابتلاء ومهانة.
يقول مارتن لوثر إن "الكذبة كرة ثلجية تكبر كلما دحرجتها" وها هو هذا الوزير قد كبر بكذبه، وكبرت أكاذيبه حتى وصل إلى أن يكون في مرحلة ما، ممسكا بأخطر ملفين في هذه البلد المنكوبة بهم، وهما ملف الإرهاب، وملف ترسيم الحدود..
واليوم وفي ظل سلطات الأمر الواقع التي تحكمنا هنا وهناك، بات الكذب ماء وعيش وأسلوب حياة.. صار عميما ووخيما حد المستحيل.. فيما الصدق صار بحكم النادر الذي لا حكم له.. صار الصدق مكلفا جدا، وثمنه باهض للغاية، وينطبق عليه قول نوال السعداوي: "الصدق في عالم يكذب أمر مخيف".
***
(11)
يوم خسرتُ المعركة وسحقني القهر
كان الوزير يتحدث فيما أنا انتظر أحر من الجمر دوري في الكلام بعده.. كلام الوزير كان يسري في أوصالي كالسم الزعاف.. أعددت تعليقاتي وتعقيباتي بعد مجالدة ومراغمة مع نفسي التي كاد صبرها ينفذ قبل أن يتم، وهي تسمع ما تسمعه من كذب جريء يغرس نصاله المسمومة في كبدي وأوصالي المنهكة..
تلفيقات وأكاذيب لا أساس لها من الصحة تتوالى تباعا، وأنا أقمع حيالها ردود أفعالي بقسوة جلاد عنيف، منتظرا أن ينتهي الوزير مما لديه من كذب وتلفيق دون أن اقاطعه قبل أن يبدأ دوري في الكلام، وأكثر منه أني فشلت فشلا ذريعا أن أقذفه بابتسامة ساخرة ولو تصنُّعا في وجه ما يتم كيله من أكاذيب..
من المؤلم جدا أن تسمع الأكاذيب تباعا، ولا تعترض عليها ببنت شفة، بل وتستمر بالسماع وأنت تراغم نفسك، وتقمعها مرارا وبشدة حتى ينتهي الكاذب من آخر كذبه في جعبته.. غالبتُ حممي المتأججة، وداريتها داخلي عن الأعين التي كانت تأكل وجهي الباذخ بالتعب والأرق، فيما كانت تلك الحمم تضطرب وتحتدم داخلي، وتستعجل منفسا للبوح بغليل يثور ويشتعل داخلي، كان كبيرا وجبّارا..
ما رواه الوزير كان تقريبا يصادم الواقع من أوله إلى آخره.. وأكثر منه كان صادما لي على نحو صاعق ومضاعف.. كنت أكتوي وأتعذب وأنا أسمع وأرى الوزير يروي ما يرويه بأعصاب هادئة وباردة.. تذكرت نتشه وهو يقول: "الحكومة تكذب ببرود.. كل ما تقوله الحكومة كذب"..
كان يكذب ويمعن في الكذب.. يلفق ويوغل في التلفيق.. والأهم أنه كان يفعل هذا بأعصاب باردة ومثلّجة، وهو ما جعلني أدرك وأعتقد أنه ليس حديث عهد في الكذب، بل ومعتاد عليه من عهد طويل.. كانت أعصابه الباردة وهو يسرد روايته المُختلقة تزيد من كثافة إحساسي أنه يعذبني بنار موقدة..
كان الوزير وهو يكذب بوزن ومقام المنصب الذي يشغله، "نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع ووزيرا للداخلية" بدا لي أن أحد الشروط والمعايير الرئيسية لتكون وزيرا وما علاه هو أن تكون كاذبا، وربما أكبر من هذا أيضا، وقد قتلني بالنتيجة مرتين.. لا بأس.. في هذا العهد هنا وهناك يقتلوا شعبا كل يوم بإمعان وإصرار أشد..
*
في الجلسة تسألت مع نفسي: من أين أبدأ تعقيباتي وردودي التي تكتظ وتتزاحم في رأسي المثقل بالوجع، وصدري وعروقي التي تشب فيها عاصفة من نار؟! كيف أبدأ الرد على هذا الكم الكذوب في رواية خلطت اللؤم بالكذب والمكيدة والخيال؟!!
أنا المسكون بالألم والمشبوب بالوجع كيف لي أن أحمل هذا المجلس على تصديق ما سأرويه بدم القلب ووجع الذاكرة؟! كيف أنقل الإحساس بمصداقيتي لمن حولي من النواب، وقد مال بعضهم مع الوزير بدافع الرشوة والمصلحة، ولا أمل في هؤلاء أرتجيه، وبعضهم قد صار يشعر نحوي بتوجس وارتياب، وقليل معي صار يبحث عن ماء الوجه، أو غير قادر أن يغير شيئا من واقع الحال..؟!
أردت أن أدخل إلى ما سأقوله مشفوعا بقسم كملخص لمصداقية لا أدري كيف أوجزها وأقدمها على عجل.. استهلتُ كلامي، بالقسم باسم الله العظيم وبشرفي أن الوزير كاذب.. بقسمي هذا خاطبت نفسي وكل الخليقة التي تحترم أيمانها أيٍ وأينما كانت.
هذا القسم الذي ظننت فيه خيرا كان خيبتي الصادمة.. تم إيقافي قبل أن أدلي بدلوي وألقي بحجتي وأدلتي أمام الجميع.. كنت أفيض بكثير من المرارة المقذعة والألم اللاسع، فيما كانوا هم يتربصوا بعذر وإن كان حجر من جبل.. ينتظرون تأويلا أو زلة لسان.. لم أكن أعرف إن في قسم اليمين زلة ومأخذ وخيبة.. لم أكن أعلم إن الكلمة هنا في وصف الحقيقة تهمة لا تُسحب ولا تُرد، بل ويلزم صاحبها العقاب الأشد..
*
تم إيقافي جورا وتعسفا من الكلام قبل أن أتجاوز أوله.. قطعوا رأسه ودابره.. تم منعي من حق أصيل لا أملك هنا غيره أو سواه.. منعني الراعي من الدخول إلى حلبته، أو حلبة من بات في موقعة وكيله وحاميه.. منعوني عمّا كنتُ قد خضتُ من أجله معركة ضروس، وربما ظننت في لحظة ما أنني شارفتُ على كسب انتصار عصي أو بعضه منه، ولكن كانت الخيبة قاتلة وأكبر من كل انتصار.. لقد أفسدوا كل شيء، واتهموني أنني فاسدهُ، ومنعوني من أن أدمغ الوزير بما لدي، وأكثر منه منعوني حتّى من الإيضاح أو الترضية على مضض باعتذار..
أوعز يحيي الراعي للوزير ورئيس الجهاز بالمغادرة.. حدث هرج ومرج مفتعل لتفويت المساءلة والاستجواب، ورفع الراعي الجلسة لمدة عشر دقائق، وخرج الوزير مع رئيس الجهاز منتشين كطواويس ناشرين الريش.. معززين مقاما وهيبة.. فيما أنا بقيت أبلع غصصي الذابحة وأتلوى من ألم بلغ مداه..
استأنف الراعي عقد الجلسة بعد عشرة دقائق نالني فيها ما نال من التقريع لا العتاب، وقد آل كل شيء بالنسبة لي إلى سراب، بل وزادوني عليه بعد العشر الدقائق كلاما أشد طعنا وفتكا، وتجريعي ما هو أشد مرارة وقذعا..
طالب بعض الأعضاء بإحالتي للتحقيق، ومنهم رئيس لجنة الحقوق والحريات في البرلمان الشيخ محمد ناجي الشائف، متهما إياي أنني شتمت ووجهت كلام ناب وأتيت العيب كله، يلزم محاسبتي قبل محاسبة رئيس الاستخبارات.. والحقيقة إنني لم أقل شيئا غير ذاك القسم الذي قسم ظهر عدالة كنت أبحث عنها، وانتهاك عشته وأردت أن أردع من قام به؛ فتضاعف الانتهاك وتضاعفت مصيبتي مرتين.
طالب بعض النواب بإحالتي للجنة الدستورية لأنني قد ارتكبت جريمة في قاعة المجلس بحق معالي الوزير.. قال بعض النواب في حزب المؤتمر الحاكم انه اذا طلب منهم رفع الحصانة عني تمهيد لمحاكمتي على ما صدر منّي من كلام، فلن يترددوا عن التصويت بالموافقة على رفع الحصانة عنّي.. كنتُ بالنسبة لهم الضحية التي يستأسدون عليها، و"الجدار القصير" المقدور عليه.. كانت الفجاجة صارخة وعلى أوجها..
النائب الإصلاحي عبد الكريم شيبان كان متفهما لما حدث، معتبرا انسحاب القمش والعليمي غير مبرر، مؤكدا أنني قد تعرضت لضغط نفسي منذ بداية الجلسة، لاسيما من قبل رئيس الجلسة يحيى الراعي الذي كان بإمكانه أن يطلب سحب الاتهام، والسماح لي بتوضيح قضيتي..
لو اعطوني الفرصة أو قليلا من الوقت والكلام لأثبت لهم أنني محقا فيما ذهبت إليه، وأن الوزير كاذب أو هو بعض من هذا الكذب الذي يروج وينتصر في بلد الأكاذيب.. كان بإمكانهم أن يشكلون لجنة تحقيق أو تقصي حقائق، وسيجدون إنني صادق بيقين، وأنه ملفق وكاذب..
كان الوزير وهو يكذب بوزن ومقام المنصب الذي يشغله، "نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع ووزيرا للداخلية" بدا لي أن أحد الشروط والمعايير الرئيسية لتكون وزيرا وما علاه هو أن تكون كاذبا، وربما أكبر من هذا أيضا، وقد قتلني بالنتيجة مرتين.. لا بأس.. في هذا العهد هنا وهناك يقتلوا شعبا كل يوم بإمعان وإصرار أشد..
*
في الجلسة تسألت مع نفسي: من أين أبدأ تعقيباتي وردودي التي تكتظ وتتزاحم في رأسي المثقل بالوجع، وصدري وعروقي التي تشب فيها عاصفة من نار؟! كيف أبدأ الرد على هذا الكم الكذوب في رواية خلطت اللؤم بالكذب والمكيدة والخيال؟!!
أنا المسكون بالألم والمشبوب بالوجع كيف لي أن أحمل هذا المجلس على تصديق ما سأرويه بدم القلب ووجع الذاكرة؟! كيف أنقل الإحساس بمصداقيتي لمن حولي من النواب، وقد مال بعضهم مع الوزير بدافع الرشوة والمصلحة، ولا أمل في هؤلاء أرتجيه، وبعضهم قد صار يشعر نحوي بتوجس وارتياب، وقليل معي صار يبحث عن ماء الوجه، أو غير قادر أن يغير شيئا من واقع الحال..؟!
أردت أن أدخل إلى ما سأقوله مشفوعا بقسم كملخص لمصداقية لا أدري كيف أوجزها وأقدمها على عجل.. استهلتُ كلامي، بالقسم باسم الله العظيم وبشرفي أن الوزير كاذب.. بقسمي هذا خاطبت نفسي وكل الخليقة التي تحترم أيمانها أيٍ وأينما كانت.
هذا القسم الذي ظننت فيه خيرا كان خيبتي الصادمة.. تم إيقافي قبل أن أدلي بدلوي وألقي بحجتي وأدلتي أمام الجميع.. كنت أفيض بكثير من المرارة المقذعة والألم اللاسع، فيما كانوا هم يتربصوا بعذر وإن كان حجر من جبل.. ينتظرون تأويلا أو زلة لسان.. لم أكن أعرف إن في قسم اليمين زلة ومأخذ وخيبة.. لم أكن أعلم إن الكلمة هنا في وصف الحقيقة تهمة لا تُسحب ولا تُرد، بل ويلزم صاحبها العقاب الأشد..
*
تم إيقافي جورا وتعسفا من الكلام قبل أن أتجاوز أوله.. قطعوا رأسه ودابره.. تم منعي من حق أصيل لا أملك هنا غيره أو سواه.. منعني الراعي من الدخول إلى حلبته، أو حلبة من بات في موقعة وكيله وحاميه.. منعوني عمّا كنتُ قد خضتُ من أجله معركة ضروس، وربما ظننت في لحظة ما أنني شارفتُ على كسب انتصار عصي أو بعضه منه، ولكن كانت الخيبة قاتلة وأكبر من كل انتصار.. لقد أفسدوا كل شيء، واتهموني أنني فاسدهُ، ومنعوني من أن أدمغ الوزير بما لدي، وأكثر منه منعوني حتّى من الإيضاح أو الترضية على مضض باعتذار..
أوعز يحيي الراعي للوزير ورئيس الجهاز بالمغادرة.. حدث هرج ومرج مفتعل لتفويت المساءلة والاستجواب، ورفع الراعي الجلسة لمدة عشر دقائق، وخرج الوزير مع رئيس الجهاز منتشين كطواويس ناشرين الريش.. معززين مقاما وهيبة.. فيما أنا بقيت أبلع غصصي الذابحة وأتلوى من ألم بلغ مداه..
استأنف الراعي عقد الجلسة بعد عشرة دقائق نالني فيها ما نال من التقريع لا العتاب، وقد آل كل شيء بالنسبة لي إلى سراب، بل وزادوني عليه بعد العشر الدقائق كلاما أشد طعنا وفتكا، وتجريعي ما هو أشد مرارة وقذعا..
طالب بعض الأعضاء بإحالتي للتحقيق، ومنهم رئيس لجنة الحقوق والحريات في البرلمان الشيخ محمد ناجي الشائف، متهما إياي أنني شتمت ووجهت كلام ناب وأتيت العيب كله، يلزم محاسبتي قبل محاسبة رئيس الاستخبارات.. والحقيقة إنني لم أقل شيئا غير ذاك القسم الذي قسم ظهر عدالة كنت أبحث عنها، وانتهاك عشته وأردت أن أردع من قام به؛ فتضاعف الانتهاك وتضاعفت مصيبتي مرتين.
طالب بعض النواب بإحالتي للجنة الدستورية لأنني قد ارتكبت جريمة في قاعة المجلس بحق معالي الوزير.. قال بعض النواب في حزب المؤتمر الحاكم انه اذا طلب منهم رفع الحصانة عني تمهيد لمحاكمتي على ما صدر منّي من كلام، فلن يترددوا عن التصويت بالموافقة على رفع الحصانة عنّي.. كنتُ بالنسبة لهم الضحية التي يستأسدون عليها، و"الجدار القصير" المقدور عليه.. كانت الفجاجة صارخة وعلى أوجها..
النائب الإصلاحي عبد الكريم شيبان كان متفهما لما حدث، معتبرا انسحاب القمش والعليمي غير مبرر، مؤكدا أنني قد تعرضت لضغط نفسي منذ بداية الجلسة، لاسيما من قبل رئيس الجلسة يحيى الراعي الذي كان بإمكانه أن يطلب سحب الاتهام، والسماح لي بتوضيح قضيتي..
لو اعطوني الفرصة أو قليلا من الوقت والكلام لأثبت لهم أنني محقا فيما ذهبت إليه، وأن الوزير كاذب أو هو بعض من هذا الكذب الذي يروج وينتصر في بلد الأكاذيب.. كان بإمكانهم أن يشكلون لجنة تحقيق أو تقصي حقائق، وسيجدون إنني صادق بيقين، وأنه ملفق وكاذب..