أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
(5)
التوجيه بإخلاء سبيلي
رغم الحجز كنت أحاول أن أكتشف محيطي.. أرمق الذين يتجولون في الساحة القريبة بلباس مدني أو عسكري.. أحاول أن أمعن النظر في أشكالهم.. أتفرس في وجوههم إن أمكن، وهم يتجولون في الساحة، أو يمرقون منها ذهابا وإيابا، فيما كان بعضهم يطل من باب الغرفة يتفرّس فيني، وكأنني مخلوق عجيب جاء من الفضاء، أو حيوان بري عدواني، أو غير معروف، في سياجه الحديدي المخصص بحديقة الحيوان..

الضابط ذو الملامح الحادة الذي استقبل قدومي بنظرات حازمة ومتحفزة، كان يغيب أحيانا، ويعود للظهور أحيانا أخرى، ثم يرمقني شزرا ويذهب.. وأحيانا يجوس في الساحة، وهو منهمك يهاتف أغلب الظن العمليات، أو أحد رؤسائه الكبار.. لا أدري مضمون تلك المكالمات التي كان يجريها، إلا أنني كنت أخمّنها على الأرجح إنها تخصّني، أو تتحدث في شأني..

أما جندي الحراسة الصامت، فقد حاولت أن أفتح معه بابا للحديث والتعارف؛ فسألته عن المدة التي تعسكر فيها، والمحافظة التي ينتمي إليها، ولكنه تعمد أن يظهر أنه لم يسمع سؤالي الأول، وتجاهل عمدا سؤالي الثاني، فأرحته من ثالث ورابع؛ وفهمت إن الأوامر قد صدرت إليه ابتدأ أن لا يتحدث معي بقليل أو كثير..

ورغم هذا أحسست من نظراته القليلة التي كان يرمقني بها، أن ثمة تعاطفا ما في داخله.. شعور طيب تتسلل إلى نفسي كجدول أو ساقية.. نظراته القليلة نحوي بدت لي كمن يختلسها بغتة.. أحسست من نظراته إنها لا تخلوا من خجل وحيرة وتساؤل، وفي نفس الوقت يخامرها تعاطف مشوبا بقلة حيلة..

وفي المقابل أحسست من جهتي بتعاطف نحوه، لا يخلوا من تفهم وشفقة.. إنه مجرد عسكري ينفذ الأوامر فحسب.. يؤدي نوبة حراسة لا أكثر.. إنه عسكري مخنوق براتبه، وبآوامر رؤسائه الذي تقع عليه واجب طاعتها وتنفيذها، طالما كانت في حدود مهمته..

*

والشيء بالشيء يذكر لبيان وجه من المفارقة بين سلوك وآخر بمقام مشابه.. هذا الحارس المتعاطف والحائر هنا، كان على عكس الشاب "الأنصاري" الهمجي المتحفز، والاستعراضي المتعجرف الذي كان أمامي فوق الطقم يوم 25 مايو 2017.. كانت عيناه تقدح بسيل من الكراهية المقيتة، والعصبية المنتنة، ومثلها لؤم متسع، وجهل مطبق على آخره..

كان كمن يريد أن يغرس أصبعيه في عينيي.. يتجهم في وجهي كنار جهنم.. يتحفز إلى التهامي كضبع جائع.. يتهمني بالوهابية والدعشنة بجهل لا حدود له.. يتفرس شكلي كناهب أو قاطع طريق.. يفتشني ويسألني عن تلفوني ليغنمه، فيما كنت قد سلّمت تلفوني لابني فادي المحتجز في قسم شرطة جمال جميل مع مجموعة من المحتجين.. سلمته إليه حالما تم مناداتي للصعود إلى الطقم بمفردي.. هذا الكائن السادي الذي كان أمامي أحسست أنه متشوقا على نحو عاصف ليمارس ركلي ببيادته العسكرية، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من ساعة أو ثلثيها..

*


وعودة إلى الغرفة التي كنت محتجز فيها، وبعد قرابة الساعة تفاجأت بالضابط المتحفز قد خمد وهمد رغما عنه.. رأيته منكسرا وهو زاما شفتيه وقاطبا لحاجبيه، بوجه عابس مكسوا بخيبة أكبر من أن تدارى.. أمر الحارس بامتعاض أقوى منه بإخلاء سبيلي، دون أن يتحدث معي ببنت شفة.. لقد خاب مراده، وأحبط عمله، و"عاد بخفي حنين"..

خرجت بمرافقة أحدهم إلى البوابة الخارجية، ووجدت المعتصمين في الساحة ينتظروني وقد رفضوا مغادرة الساحة التي كانوا فيها.. انفرجت أساريرهم بمجرد أن شاهدوني مقبلا نحوهم.. استقبلوني بحرارة نادرة واشتياق جم، وكأنني عائدا من القمر ليعرفوا عني وعنه كل الأخبار التي أحملها معي إليهم..

جميعهم كانوا شغوفين أن يسمعوا منّي ما حدث!! فيما كنت مقلا بالكلام، وصدري يفيض بالقهر الذي حاولت بقلة حيله أن أداريه عن أعينهم المتفحصة.. لم استطع الضحك، وفشلت في تصنع الابتسامة، وهو ما فسره البعض أنني تعرضت لسوء أشد لا أريد البوح به.. ربما ظن البعض أنني تعرضت للضرب والإهانة في الداخل، ولا أريد أن أفصح عنهما أمامهم..

بعد سويعات قليلة كتبت رشيدة القيلي على الأنترنت شيئا عنّي وعن اللحظة، وعن عيوني الحزينة والمتألمة بوصف أشارت فيه بانفراد، إلى وجود دمعة في عيوني، وهذه الأخيرة لست لأنها لم ترقني، بل لأنها غير مطابقة للواقع، اتصلتُ برشيدة، أعتب عليها، وأطلب منها أن تحذف ما كتبته.. فاستجابت لطلبي، وحذفته، معلقة أنها بديت لها في تلك اللحظات وكأن دمعة القهر تجوس في عيوني، وربما عيوني كانت مرهقة، وما كتبته كان بدافع التعاطف معي.. وكنتُ قد قررتُ بدافع قهر قوي أن أثير الموضوع في البرلمان على نحو غير معتاد، وهو ما حدث بالفعل..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
(4)
لمحة من التعذيب السياسي
وفيما كنت أتوقع أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، جاءوا لي بجندي مسلح، ومعه كرسيا ليجلس هو عليه.. لم أتنازل لهم، ولم أطلب منهم شيئا.. هنا التنازل لدون الله مذلّة.. هنا الضباط ينظرون إليك بأعين فاحصة ومرتابة.. ينتظرون الأوامر، ويتحفزون لتنفيذها بدافع سادي شديد.. إحساس كثيف بالوحشة والغربة في مكان لا تجد فيه من يساعدك أو يخفف عنك..

الغرفة التي احتجزت فيها كانت فارغة إلا من طاولة منهكة.. بدت لي كأنها هي الأخرى قيد الاحتجاز.. لا أنيس لي هنا إلا هي.. أحسست إنها تقاسمني الحال الذي أنا فيه، وتريد أن تقدم لي المساعدة لتخفف عنّي ما أعانيه.. الأشياء في وحدتك تشعرك بحضورها وقيمتها ومعناها المختلف عمّا هو معتاد..

خالجني شعور رهيف.. أحسست إن الطاولة تتعاطف معي، وتعزّيني، وتبادلني بعض مشاعر حزني، وتحاول أن تخفف من اكتئابي.. تريد أن تقدم لي المساعدة دون أن طلب.. استجبت لها بامتنان، جلست عليها برفق، وأسندت ظهري للجدار..

الطاولات ليست واحده.. إنها تختلف بعضها عن بعضها الآخر كأقدار الناس.. بين طاولة وأخرى ربما تجد ثمة فرق شاسع وكبير.. هذا الاختلاف نقلني إلى ماضي يعود إلى ما يقارب الستة عشرة عام خلت..

*

بعد الوحدة في العام 1990جئت من عدن إلى صنعاء، وسمعت من زميل لي في القضاء العسكري قصص تعذيب مروعة.. لم أعد أتذكر أسماء الضحايا الذي ذكرهم لي، ليس لأنني تجاهلتها، أو لأنني لا أهتم بها، بل لأن ذاكرة الأسماء لدي ضعيفة، ومع ذلك حفرت تلك الوقائع المرعبة التي سمعتها منه، أخاديدا عميقة في ذاكرتي المنهكة.. ما سمعته كان يفوق المعقول، ووقعه على الوجدان أشبه بصدمة وزلزلة..

ومما رواه زميلي هذا هو أن أحد ضحايا التعذيب قبل مباشرة التحقيق معه، تم تثبيت كفيه بالمسامير على الطاولة.. ولم يكتفوا بهذا النوع من التعذيب البشع أثناء التحقيق الذي أستمر لساعات طوال، بل واستخدموا معه أيضا وسائل تعذيب أخرى، فبدا لي الحال على الضحية أشد من الجحيم.. وأثناء فتح ونشر ملف التعذيب في العام 2008 ، تم التثبت والتأكد من صحة هذه الواقعة.. وكان الضحية شخص اسمه علي قلهيز..

واقعة أخرى تتلخص في كسر يد أحد ضحايا التعذيب، ويقومون بتجبيرها حتى تكاد تتماثل للشفاء، ثم يحضر الجلاد ويسلّم على الضحية، ويعصر يده ليكسرها مرة ثانية، ويصرخ الضحية بصرخة وجع مدوية يسمعها ويهتز لها الجميع، إلا الجلادين لا يسمعون ولا يكترثون بصرخة وجع حتى وإن شُقّت الأرض وتشطرت السموات العُلا، بل تجدهم يغرقون باستمتاع لا مثيل له..

*


عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي أحدى ضحايا تلك السجون والمعتقلات المرعبة.. تم اعتقاله أربع مرات قضى في إحداها فترة أربع سنوات، تعرض فيها للتعذيب الجسدي والنفسي، ومنها الضرب الشديد أثناء التعليق على طريقة (كنتاكي)، والتغميس في برك الماء أثناء البرد القارس، وكسر الأيدي، ونزع الأظافر، واستخدام الكهرباء، والصفع على الوجه، واستخدام الحرب النفسية، والحبس الانفرادي، والتهديد بالقتل، والايهام بتنفيذ الاعدام عن طريق اطلاق الرصاص..

ولاتزال بعض الأثار باقية على جسده، ومنها آثار كسور في يده اليسرى، وضعف حاد في السمع، وآثار الربط بأسلاك الكهرباء.. وقد حكى بعض من معاناته في السجن بقصيدة نقتطف نتف منها:
"في السجن .. في زنزانة ظلماء كالقبر
مكبل بالقيود والسلاسل والأغلال..
تلهبني سياط الجلادين..
ونعالهم الحقيرة،
أموت في كل ثانية مرة واحدة
أو مرتين .."

ويذكر آخرين ممن تعرضوا للتعذيب البشع والمروع، ومنهم علي قلهيز، الذي دقوا المسامير في يديه، وعبده الكوري الذي تم كسر أحد أضلاعه، والعبادي الذي أصيب بالجنون بسبب التعذيب بطرق بشعة، وعبد القوي رافع الذي حُبس لمدة 12 سنة، وكانوا يحققون معه ويضربون بجانبه الرصاص، وهو معصوب العينين، وعبد الحفيظ جازم الذي كانوا يضربون رأسه بالمطرقة، وعلي بشر القباطي الذي كانوا يعذبونه ويقضمون صلعته بأسنانهم وأنيابهم..

*

وعودة إلى زعفران "أم حمير" أحد ضحايا التعذيب المؤلم والمرعب جاء في شهادتها إنها تعرضت للضرب بطواية أسلاك كهربائية، وصعقها بالكهرباء، والتغطيس في برك مياه باردة، والتعليق عن طريق الأرجل إلى سقف الزنزانة، والضرب رغم حملها..

ولم ينحصر أو يقتصر التعذيب عليها وحدها من بنات جنسها، بل تذكر بعض رفيقاتها اللاتي تعرضن للتعذيب المريع في معتقلات وسجون السلطة آنذاك، ذكرت منهنّ على سبيل المثال لا الحصر: طيبة بركات، وأمينة محمد رشيد، ودرة الفاتش التي عذبوها، وعلقوها في السجن، وشنقوها، وزعموا أنها انتحرت..

وهناك حكايات تعذيب أخرى مؤلمة عاشها آخرين مثل: أبو القصب الشلال، وعبد الرحمن الأهدل، ويحيى أمين زيدان، ويحيى علامة، وعلي مكنون، وعبد الباري محمد سعيد، وعبدالباري طاهر، وأحمد علي الوادعي، وسلطان الصريمي، وغيرهم الكثير ممن سمعنا عنهم، ومن لم نسمع عنهم هم أكثر من الكثير..

*
فرحان عبد الله وهفان من عمران واحد ممن تعرضوا أيضا لبعض صنوف التعذيب حيث يقول: كانوا يخرجونا في بعض الليالي يطوفون بنا حول بركة ماء، ونحن مثقلين بقيود حديدية، ونظل نطوف حول البركة، ولسعات العصيان تنزل على ظهورنا، وأخيرا يقذفوا بنا إلى داخل البركة الباردة كريهة الرائحة.. "

وعن الآخرين ممن تم تعذيبهم يقول: "أتذكر من الذين تعرضوا للتعذيب "زعفران" زوجة أحمد فارع، وزوجة عبد الله نجاد وأبنته، وأبناءه الاثنين (سند ورشاد) وعلي المولّد، وأيضا صالح المولد، أبناء عم صالح المولد، والأستاذ عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي، وعبد الرحمن غالب المقطري.."

ويستغرق في تذكره الذي لا يخلوا من مرارة وألم فيقول: أتذكر أن محمد خميس كان يلوي يد علي المولد وهي المصابة بطلقة نارية، ومكسورة، ويزيد من ليها، فيصرخ حتى يسمع صوته كل من كان في غرف السجن، وقد ظلت عاهة يده ملازمة له أيضا، فيما زعفران كان محمد خميس يعذبها بعصا غليظة.. يضربها على بطنها بمنتهى القسوة، وهي حامل وعلى وشك أن تلد، وبالفعل ولدت داخل السجن، وأسمت ابنها على اسم السجن “حمير” سلام على أم حمير..

*

سلطان أحمد زيد أيضا تعرض في سجنه للسب والشتم، والقيد على الرجلين، والحبس الانفرادي، والحرمان من النوم، والمنع من التبول وقضاء الحاجة، لفترات طويلة، فضلا عن مصادرة كثير من حقوقه الوظيفية والمادية..

وعن الزملاء الذي تعرف عليهم في السجن وتعرضوا لصنوف التعذيب يقول: تعرفت بعد فترة من الاعتقال في زنزانتي الانفرادية على بعض من الزملاء في الزنازين الأخرى، أتذكر منهم: الأستاذ أبو القصب الشلال الأديب والشاعر المعروف، والفقيد المناضل أحمد صالح جبران، وعلي العلفي، وعبدالعزيز قائد سيف، والأستاذ عبدالله الرديني الناقد والكاتب، وعلي محمد محرز موظف في البنك المركزي، والضابط فوزي الذي اعتقل عشية زفافه في تعز، وهو أحد المخفيين قسريا إلى اليوم..

ويشير أن هؤلاء المعتقلين الذبن اعتقلوا وعذبوا لا لشيء غير آرائهم السياسية، ويضيف: علمت لاحقاً بأن أغلبهم لاقوا صنوفاً من التعذيب والمعاملة القاسية، ومنهم المناضل الفقيد جمال المخلافي الصحفي الذي عذب بالضرب على الخصية، ولم يخرج من المعتقل إلاّ فاقداً لعقله، إلى جانب الحرمان من زوجته وتطليقها منه بالقوة..

ومن وسائل التعذيب الذي يستخدمها الجلادون ضد الضحايا، يذكر سلطان أحمد زيد بعض منها، كعصر الرقبة، والصفع المفاجئ على الوجه، والتعليق في قضيب خشبي عبر اليدين والركبتين وربطهما معاً، والضرب بالسلك على الفلكة "باطن القدمين" حتى الإغماء، أو ساعات تمتد طوال التحقيق، ولا يسمح له بشربة ماء واحده، ثم يعود بك الجلاد إلى الزنزانة ويقذف بك كالقمامة..

وفي الخلاصة نشير أن هذا كان مجرد لمحة شديدة الاقتضاب عن التعذيب في الأمس.. أما اليوم فالتعذيب بات أكبر من أن يستوعبه عقل أو وصف أو لغة..

*

المصدر: صحيفة المستقلة

يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
(3)
الوعد الذي قطعته على نفسي
وفيما أنا محتجزا في الغرفة الشاحبة والكئيبة، كنت أفكر وأتسأل وأتذكّر.. كنت أحدث نفسي وأقول: "صرت قريبا من أمكنة لا شك إنه حدث فيها ما هو مروع ومفزع.. الآن صار لا يفصلني عنها غير مئات الأمتار، بل ربما بعضها صارت على مرمى حجر.. أقبية مرعبة تحت الأرض.. دهاليز موحشة.. زنازين تشبه القبور في ضيقها.. غرف تحقيق وتعذيب حدث فيها ما هو بشع ومزلزل، وما يزال..

كثيرون مروا من هنا.. بعضهم خرجوا افذاذا، وقد تصلب عودهم، ولم ينل من إرادتهم انكسار أو هزيمة، وبعضهم عبروا إلى الموت بإرادة أقوى وأكبر من إرادة سجانيهم بعد تعذيب يشبه الجحيم.. بعضهم جن من تعذيب مهول، وبعضهم أصيب بحالات وتصدعات نفسية عميقة وغائرة، أو أُلحقت بهم عاهات جسدية لازمتهم ما بقي لهم من عُمر وحياة ناقصة وبائسة.."

هنا في هذه الغرفة الكئيبة والمملة وجدت الوقت على قصره يطول، والانتظار يتمطى ويتطاول أكثر.. تحس إن الوقت قد توقف، أو أنه يزحف ببطيء سلحفاة، وربما تشعر أحيانا أنه قد عكس وجهته زاحفا إلى الوراء، بدلا من أن يتقدم إلى الأمام..

هنا يوجد فراغ لديك يمكنك مواجهته بإطلاق خيالك وذاكرتك.. بإمكانك أن تتذكر أشياء وتفاصيل كثيرة، ومنها ما له شبه أو صلة بما أنت فيه، أو بالحرية التي تبحث عنها أو تناضل من أجلها.. تذكرت بعض من اُعتقل، أو تم إخفائه قسرا، هنا أو هناك.. كثيرون هم الضحايا، وأكثر منها البشاعة التي تم ممارستها ضدهم، والجرائم التي تم اقترافها بحقهم..

هنا بوسعك أن تتذكر كثير من قصص التعذيب التي سمعت عنها، وهي في جلها يشيب لها رأس الطفل الرضيع.. سمعت بعضها من الضحايا أنفسهم أو من أقاربهم أو من كانوا شهود عيان عليها من زملائهم الذي عاشوا التعذيب، أو كان مصدرها من هم ذو صلة أو علاقة بالضحايا..

تذكرت ابن قريتنا الصلب والشهم، جمال علي عبدالملك الذي جرى عليه تعذيب مريع أبتدأ من الصعق بالكهرباء والتغطيس بالماء، ومرورا بالخصي وأنتهى بالتعذيب الأثقل وطأة.. جمال لم يتم اطلاق سراحه إلا وقد أصيب بحالة نفسية غائرة.. خرج كوم من حطام يمشي على قدمين لا تقويان على حمله.. ثم مات بعد خروجه بفترة لم تطل..

تذكرت ما كنت قد سمعته بنفسي من فاه الرفيقة زعفران، وما جرى لها ولزوجها من تعذيب مرعب وأليم في المعتقل، وكذا ما سمعته من آخرين أيضا، وفيه ما يكتظ ويزدحم، وأكثر منه ما يثقل الوعي، ويفطر القلب ويدمي الذاكرة..

***

في تلك الغرفة البليدة والمملة عادت بي الذاكرة إلى الفلم الوثائقي الذي لا يُنسى "جرائم المخابرات المركزية الأمريكية" (السي أي إيه) والذي كنت قد شاهدته في مرحلة باكرة من مطلع شبابي الأول، وما شاهدته كان يزدحم بكل بشع ومرعب..

لازالت تلك المشاهدة عالقة في ذهني رغم تقادم الزمن.. لازالت تلك المشاهد تضرب وتدا في قلبي المثقل بالوجع، وتكز في ذاكرتي وتدميها إلى اليوم، وتذكرني بأشياء وتفاصيل كثيرة ذات صلة أو علاقة..

في نفس المقام تذكرت مشاهد في الفلم نفسه تثير الإعجاب الكبير الذي تجله في نفسك، وربما يصير جزء من تكوينك النفسي الذي تحرص أن تكون عليه.. شجاعة نادرة ومقاومة فذه لبعض من يتم تعذيبهم، ملأتني وأسرتني حتى منتهاي..

منها على سبيل المثال لا الحصر، ذلك المعارض الذي على الأرجح كان ينتمي لأحد دول المغرب العربي.. تم تعذيبه بقسوة، وهو مقيد ومثبت على كرسي، وآلة طويلة حادة بيد الجلاد يغلها بحقده، ويغرزها في جسد هذا المعارض الشجاع، فيما كان هذا الأخير في الدقيقة الأخيرة من حياته، يتلوى ألما، ويستجمع قواه من كل جسمه، ويستجمع بصاقه في فمه بصبر عنيد، ، ليقذفه في وجه جلاده كقذيفة مدفع، ولعنة تاريخ لن تزول، وعار لن ينتهي في وجه القمع والتعذيب والطغيان كله..

تذكرت في الغرفة أيضا تلك الرواية التي كنت قد قرأتها على الأرجح قبل عشرين عام أو أكثر، اسمها "شرق المتوسط" للروائي القدير عبدالرحمن منيف، يتحدث فيها بطل الرواية رجب اسماعيل عن نفسه وهو يقول: "إنني لم أحمل بندقية، ولم أقتل أحداً، ومع ذلك دق رأسي بالجدران مئات المرات، كما تدق المسامير في أخشاب السنديان".

رجب اسماعيل الذي تم تعذيبه قرابة الخمس سنين، صفعا وجلدا وضربا، وتعليقا لأيام.. جروه من خصيتيه، وعذبوه بالكهرباء، واطفاء السجائر على أجزاء متفرقة وحساسة من جسده المنهك والمريض.. خرج من سجنه بعد خمس سنين وقد سُرق منه كل شيء.. صحته وأمه وحبيبته وكل أحلامه ومستقبله..

مات البطل، ولكن لم تمت الحياة، ولم تعلق أو تقف عند موت رجب.. الحياة ولادة ومستمرة.. وتشي الرواية إلى جيل لن ينسى ما حدث، ويواصل المشوار من بعده، حامد زوج أخته، وعادل وليلى أبناء أخته أنيسه.. تتواصل الحياة بهم على درب النضال والصمود، ومقاومة قهر السلطة والقمع والتعذيب.. وربما نحن القراء أيضا.. غير أن الخلاصة وجدتها فيما قاله الطبيب الفرنسي لرجب: "يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريته، والحرية أغلب الأحيان غالية الثمن".
وفي نفس المقام تذكرت أيضا شجاعة وصمود زعفران "أم حمير" المرأة اليمنية الشجاعة التي صمدت ليس فقط في وجه محمد خميس المروع والمهاب، ولكن أيضا في وجه التعذيب البشع، بل وفي وجه كل شيء تقريبا، دون أن ينتزع الجلاد منها نتفة من اعتراف بحق رفيق..

وفي المقام نفسه تذكرت ما قرأته وسمعته في مواضع أخرى إن الأيام الأولى في السجن هي الأصعب، ثم تتعود عليه، وتتعايش معه، وتتغلب على معاناته القاسية، وتتجلد فيه كل يوم أكثر من سابقة.. ومن يدري!! ربما تخرج منه بطلا أو ثائرا أو قائدا، أو تخرج شهيدا أو ذكرى سيعتز بها شعب سيأتي، أو لعنة تاريخ أبدية ستظل تلاحق الحكام، وتحاكم طغيانهم..

*

هذه الغرفة التي طوقني بكآبتها الثقيلة، ومكثتُ فيها نزرا من الوقت، ذكرتني بتفاصيل كثيرة، ومآسي بالغة، جعلتني أفكر فيها باستغراق عميق، بل جعلتني أقطع وعدا لنفسي على نفسي أن أفعل شيئا في المستقبل على هذا الصعيد، وينصب تحديدا في كشف ما أُرتكب بحق الإنسان في هذه السجون والمعتقلات من جرائم بشعة، وتعذيب مروع، وقمع مهول فاق في بعضه كل معقول..

وبالفعل وفيتُ بما وعدت، وفتحت ملف التعذيب في العام 2009 باسم منظمة التغيير للحقوق والحريات التي أرأسها، فيما نشرت ووثقت صحيفة "المستقلة" التي أملكها، ما أمكن من شهادات تحكي في جلها مدى البشاعة والطغيان الذي بلغته سلطات القمع والتعذيب في تلك المعتقلات والسجون والغرف المغلقة، فاق في بعضه حدود التصور، ولازلت على يقين أن ما لم يُكتب ولم يوثّق أكثر بكثير مما تم كشفه وتوثيقه، على نحو عصي حتّى على المقارنة..

رغم تلك الكآبة التي كانت تحاصرني وتحيط بي في تلك الغرفة، فإنها كانت أشبه بنزهة أو فسحة واستراحة، ربما تمناها غيري ممن مرّوا هنا، أو من لا زالوا يتمنونها ممن هم الآن على مقربة من هذا المكان، أو مروا يوما على ملحقاته في المحافظات المختلفة.. أما المقارنة بما يحدث اليوم، ففي اليوم ما فيه، "حدّث ولا حرج"..

من ثاروا في الأمس باتو هم طغاة اليوم.. ولكم أنطبق على هذا الحال ما قاله جورج أورويل في الأمس “ثائر اليوم هو طاغية الغد".. جل الاستهداف في الأمس كان ينصب على من يفهموا أو بدأوا يفهموا، أما اليوم فالاستهداف يطول الجميع من قبل كل سلطات الحرب والفساد والجشع المريع، بات اليوم شعب بأكمله محلا للاستهداف الواسع، وكل من جهته يمارس ما قدر عليه من الطغيان الذي فاق كل الحدود..

تستطيع أن تكتشف اليوم وبسهولة، ودون أن تمنح لأحد صك غفران، مدى السقوط السحيق، والتراجع الحقوقي الفاجع بين العام 2006 وما قبله من حقب وعهود، وما يحدث اليوم من طغيان يفوق كل وصف وخيال..

تستطيع أن ترى اليوم بيسر ما هو شاخصا للعيان من رعب وبشاعة، هنا أو هناك، لا ينكره إلا مناكر لا حيلة له.. تستطيع أن ترى الطغيان اليوم حتى وإن كنت أعمى أو لا تملك أعين.. الطغيان هو اليوم من يسودونا جميعا، ويدومنا ليلا ونهارا، وفي كل آن وحين.. شعبنا ينزف ويجوع ويموت وينسحق بين رحاهم وحروبهم المهلكة.. شعب منكوب بطغيان حكامه.. شعب تعصره الخيبة القاتلة، ويلويه الألم الأشد، ويعبث فيه كل ما هو بشع ومرعب ومريع..

*

يتبع..
بغض من تفاصيل حياتي
(2)
سجون سيئة السمعة والصيت
حاولت الدخول إلى جهاز ومقرات الأمن السياسي باعتباري عضوا في مجلس النواب، وعضوا في لجنة الحريات وحقوق الإنسان في المجلس، ولكن الاستحالة في جلّها كانت أكبر منّي؛ واليوم باتت الاستحالة أشد وطأة، بل ربما أكبر وأكثر من أن تقارن..

حاولت كثيرا أن أعبر إلى داخل سجن هذا الجهاز بصفتي الحقوقية، ولكن كانت الموانع والظروف المانعة قاهرة، بل وساحقة أحيانا، وتعذر تحقيق أمنية كتلك على النحو الذي أريد، بل عشت كثيرا بين الخيبة والأسف..

أخفقت كثيرا رغم محاولاتي العديدة، ومع ذلك نجحت بوجه ما في الدخول إلى أربعة من ملحقاته في الحديدة وذمار والبيضاء وحجة ـ سآتي على ذكر تفاصيلها لاحقا ـ ورغم محاولاتي الكديدة وفشلي في الدخول إلى مقر الجهاز الرئيسي في صنعاء بصفتي البرلمانية والحقوقية، إلا أنني نجحت هذه المرة في الدخول إليه متضامنا، بل ومُنتهك الحقوق والحريات أيضاً.. يا للبؤس والمفارقة!!!

في حقبة سابقه كنت أعرف إن هذا الجهاز سيء الصيت، وقد ألتقيت ببعض ممن خرجوا منه، ومن السجون التابعة له، ووجدت بعضهم مجنونا أو نصف مجنون، وآخرين تم تعذيبهم على نحو مريع، والبعض خرج منه وهو يحمل حالة نفسية ثقيلة أو قاتلة.. كتبت ونشرت جزء من هذا الملف في صحيفة "المستقلة" التي كنت أمتلكها..

سمعت عدد من ضحايا الأمن السياسي، وقبله ما كان يسمى بالأمن الوطني، وما هذا إلا امتدادا لذاك، ولازال بعضهم أحياء عاشوا تجربة تعذيب مؤلمة ومرعبة، وهناك آخرين سمعت عنهم أنهم ماتوا تحت التعذيب، وبالتأكيد أن من لم أسمعهم أو أسمع عنهم هم طابورا طويلا يستصعب عده..

إن هذا السجن والسجون التابعة له بمسمياتهم المختلفة السابقة واللاحقة تمت فيهم ممارسة سيل من الانتهاكات الكثيرة، بل والتعذيب المريع.. انتهاكات لا عد لها ولا حصر.. سجون سيئة السمعة والصيت ابتداء من عهد الأمن الوطني ورئيسه محمد خميس، ومرورا بمن تلاه، ولازال إلى اليوم تحت مسمى جهاز الأمن والمخابرات، مع ملاحظة أن اليوم تعيش تلك السجون وما يجري فيها، حالا أسوأ كثيرا من كل الحقب السابقة.

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
(11)
يوم خسرتُ المعركة وسحقني القهر
كان الوزير يتحدث فيما أنا انتظر أحر من الجمر دوري في الكلام بعده.. كلام الوزير كان يسري في أوصالي كالسم الزعاف.. أعددت تعليقاتي وتعقيباتي بعد مجالدة ومراغمة مع نفسي التي كاد صبرها ينفذ قبل أن يتم، وهي تسمع ما تسمعه من كذب جريء يغرس نصاله المسمومة في كبدي وأوصالي المنهكة..

تلفيقات وأكاذيب لا أساس لها من الصحة تتوالى تباعا، وأنا أقمع حيالها ردود أفعالي بقسوة جلاد عنيف، منتظرا أن ينتهي الوزير مما لديه من كذب وتلفيق دون أن اقاطعه قبل أن يبدأ دوري في الكلام، وأكثر منه أني فشلت فشلا ذريعا أن أقذفه بابتسامة ساخرة ولو تصنُّعا في وجه ما يتم كيله من أكاذيب..

من المؤلم جدا أن تسمع الأكاذيب تباعا، ولا تعترض عليها ببنت شفة، بل وتستمر بالسماع وأنت تراغم نفسك، وتقمعها مرارا وبشدة حتى ينتهي الكاذب من آخر كذبه في جعبته.. غالبتُ حممي المتأججة، وداريتها داخلي عن الأعين التي كانت تأكل وجهي الباذخ بالتعب والأرق، فيما كانت تلك الحمم تضطرب وتحتدم داخلي، وتستعجل منفسا للبوح بغليل يثور ويشتعل داخلي، كان كبيرا وجبّارا..

ما رواه الوزير كان تقريبا يصادم الواقع من أوله إلى آخره.. وأكثر منه كان صادما لي على نحو صاعق ومضاعف.. كنت أكتوي وأتعذب وأنا أسمع وأرى الوزير يروي ما يرويه بأعصاب هادئة وباردة.. تذكرت نتشه وهو يقول: "الحكومة تكذب ببرود.. كل ما تقوله الحكومة كذب"..

كان يكذب ويمعن في الكذب.. يلفق ويوغل في التلفيق.. والأهم أنه كان يفعل هذا بأعصاب باردة ومثلّجة، وهو ما جعلني أدرك وأعتقد أنه ليس حديث عهد في الكذب، بل ومعتاد عليه من عهد طويل.. كانت أعصابه الباردة وهو يسرد روايته المُختلقة تزيد من كثافة إحساسي أنه يعذبني بنار موقدة..

كان الوزير وهو يكذب بوزن ومقام المنصب الذي يشغله،"نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع ووزيرا للداخلية" بدا لي أن أحد الشروط والمعايير الرئيسية لتكون وزيرا وما علاه هو أن تكون كاذبا، وربما أكبر من هذا أيضا، وقد قتلني بالنتيجة مرتين.. لا بأس.. في هذا العهد هنا وهناك يقتلوا شعبا كل يوم بإمعان وإصرار أشد..

*

في الجلسة تسألت مع نفسي: من أين أبدأ تعقيباتي وردودي التي تكتظ وتتزاحم في رأسي المثقل بالوجع، وصدري وعروقي التي تشب فيها عاصفة من نار؟! كيف أبدأ الرد على هذا الكم الكذوب في رواية خلطت اللؤم بالكذب والمكيدة والخيال؟!!

أنا المسكون بالألم والمشبوب بالوجع كيف لي أن أحمل هذا المجلس على تصديق ما سأرويه بدم القلب ووجع الذاكرة؟! كيف أنقل الإحساس بمصداقيتي لمن حولي من النواب، وقد مال بعضهم مع الوزير بدافع الرشوة والمصلحة، ولا أمل في هؤلاء أرتجيه، وبعضهم قد صار يشعر نحوي بتوجس وارتياب، وقليل معي صار يبحث عن ماء الوجه، أو غير قادر أن يغير شيئا من واقع الحال..؟!

أردت أن أدخل إلى ما سأقوله مشفوعا بقسم كملخص لمصداقية لا أدري كيف أوجزها وأقدمها على عجل.. استهلتُ كلامي، بالقسم باسم الله العظيم وبشرفي أن هذا الوزير كاذب.. بقسمي هذا خاطبت نفسي وكل الخليقة التي تحترم أيمانها أيٍ وأينما كانت.

هذا القسم الذي ظننت فيه خيرا كان خيبتي الصادمة.. تم إيقافي قبل أن أدلي بدلوي وألقي بحجتي وأدلتي أمام الجميع.. كنت أفيض بكثير من المرارة المقذعة والألم اللاسع، فيما كانوا هم يتربصوا بعذر وإن كان حجر من جبل.. ينتظرون تأويلا أو زلة لسان.. لم أكن أعرف إن في قسم اليمين زلة ومأخذ وخيبة.. لم أكن أعلم إن الكلمة هنا في وصف الحقيقة تهمة لا تُسحب ولا تُرد، بل ويلزم صاحبها العقاب الأشد..

*


تم إيقافي جورا وتعسفا من الكلام قبل أن أتجاوز أوله.. قطعوا رأسه ودابره.. تم منعي من حق أصيل لا أملك هنا غيره أو سواه.. منعني الراعي من الدخول إلى حلبته، أو حلبة من بات في موقعة وكيله وحاميه.. منعوني عمّا كنتُ قد خضتُ من أجله معركة ضروس، وربما ظننت في لحظة ما أنني شارفتُ على كسب انتصار عصي أو بعضه منهـ ولكن كانت الخيبة قاتلة وأكبر من كل انتصار.. لقد أفسدوا كل شيء، واتهموني أنني فاسدهُ، ومنعوني من أن أدمغ الوزير بما لدي، وأكثر منه منعوني حتّى من الإيضاح أو الترضية على مضض باعتذار..

أوعز يحيي الراعي للوزير ورئيس الجهاز بالمغادرة.. حدث هرج ومرج مفتعل لتفويت المساءلة والاستجواب، ورفع الراعي الجلسة لمدة عشر دقائق، وخرج الوزير مع رئيس الجهاز منتشين كطواويس ناشرين الريش.. معززين مقاما وهيبة.. فيما أنا بقيت أبلع غصصي الذابحة وأتلوى من ألم بلغ مداه..

استأنف الراعي عقد الجلسة بعد عشرة دقائق نالني فيها ما نال من التقريع لا العتاب، وقد آل كل شيء بالنسبة لي إلى سراب، بل وزادوني عليه بعد العشر الدقائق كلاما أشد طعنا وفتكا، وتجريعي ما هو أشد مرارة وقذعا..
طالب بعض الأعضاء بإحالتي للتحقيق، ومنهم رئيس لجنة الحقوق والحريات في البرلمان الشيخ محمد ناجي الشائف، متهما إياي أنني شتمت ووجهت كلام ناب وأتيت العيب كله، يلزم محاسبتي قبل محاسبة رئيس الاستخبارات.. والحقيقة إنني لم أقل شيئا غير ذاك القسم الذي قسم ظهر عدالة كنت أبحث عنها، وانتهاك عشته وأردت أن أردع من قام به؛ فتضاعف الانتهاك وتضاعفت مصيبتي مرتين.

طالب بعض النواب بإحالتي للجنة الدستورية لأنني قد ارتكبت جريمة في قاعة المجلس بحق معالي الوزير.. قال بعض النواب في حزب المؤتمر الحاكم انه اذا طلب منهم رفع الحصانة عني تمهيد لمحاكمتي على ما صدر منّي من كلام، فلن يترددوا عن التصويت بالموافقة على رفع الحصانة عنّي.. كنتُ بالنسبة لهم الضحية التي يستأسدون عليها، و"الجدار القصير" المقدور عليه.. كانت الفجاجة صارخة وعلى أوجها..

النائب الإصلاحي عبد الكريم شيبان كان متفهما لما حدث، معتبرا انسحاب القمش والعليمي غير مبرر، مؤكدا أنني قد تعرضت لضغط نفسي منذ بداية الجلسة، لاسيما من قبل رئيس الجلسة يحيى الراعي الذي كان بإمكانه أن يطلب سحب الاتهام، والسماح لي بتوضيح قضيتي..

لو اعطوني الفرصة أو قليلا من الوقت والكلام لأثبت لهم أنني محقا فيما ذهبت إليه، وأن الوزير كاذب أو هو بعض من هذا الكذب الذي يروج وينتصر في بلد الأكاذيب.. كان بإمكانهم أن يشكلون لجنة تحقيق أو تقصي حقائق، وسيجدون إنني صادق بيقين، وأنه ملفق وكاذب.. ولكن المجلس هرب من هذا إلى ذاك، لأنه ببساطة مجلس غير أهلا لمثل هذا الأمر والمقام..

نفذ المجرم من الإدانة والزجر معززا ومكرما ومختالا، وأدين الضحية بإصرار وعمد ومن غير تحقيق.. وكان وجعي الأكبر آتيا من رئيس كتلة المؤتمر الشيخ سلطان البركاني، وهو يستشهد ضدي على ما وقع في رأسي أنا الضحية لا سواي بالبيت الشعري:
"ومن يهن يسهل الهوان عليه وما لجرح بميت إيلام"

النائب علي عشال العضو في كتلة الإصلاح علّق لوسائل الإعلام إنها "قضية في يد محامي فاشل" وكان الإعلامي حمود منصر سبق وأن أنهى تقريره الإخباري لقناة العربية بقوله أيضا: "قضية بيد محامي فاشل".. هكذا اجتمعوا علىّ، وكانت أشلائي وروحي الممزقة هي الوليمة والاحتفال..

كنتُ كأثوار بلادي التي تدفع ثمن لا ذنب لها فيه.. تفتدي المجرمين الذي يتم إنقاذهم بهجر وثور.. كنت الضحية التي تكاثرت عليها السكاكين، وشاركهم في وليمتهم انتهازيون ووصوليون وإعلاميون كثار..

استسهلوا الهجوم عليّ مؤتمر وإصلاح، بل وغيرهم من كل حدب وصوب.. جلّهم أكل من لحمي وشبع.. فيما أنا رديت وقلتُ للجميع: "إن خسرت المعركة، فلا يعني هذا أنني خسرت الحرب، ولستُ ممن يُكسر عظمة..".

يا إلهي كم شعرت بالظلم والقهر وهو يتدافع نحوي كسيل عارم من كل صوب واتجاه.. تألّب جلهم نحوي كقطعان ضباع أنقضّت على ظبي شارد ووحيد ومجروح.. كجلادين أنقضوا على ضحية في مسلخ تعذيب رهيب.. كم شعرت يومها بالظلم حد الانسحاق.. كم شعرتُ بالظلم والقهر وهو يتدافع نحوي كسيل عارم من كل صوب واتجاه.. تألّب جلهم نحوي كقطعان ضباع أنقضّت على ظبي شارد ووحيد ومجروح.. كجلادين أنقضوا على ضحية في مسلخ تعذيب رهيب.. كم شعرت يومها بالقهر والظلم حد الانسحاق..

كان عزائي هو النائب صخر الوجيه الذي كان يقسم بوجع وبصوت عالي إنني مظلوم، وأحسست أنه أكثر من شاركني بعض من حزني الثقيل.. موقف صخر الوجيه لم أنساه ما حييت، حتى وإن أختلفتُ معه يوما حد المقاضاة، عندما صار وزيرا، وصرت وكيلا لما سميّ بـ "جرحى الثورة السلمية".

لهذا وذاك وجدت نفسي مرارا أترك مقعدي البرلماني الذي وصلت إليه، وأحتشد في أي عمل احتجاجي مع الناس، أشاركهم همّهم الجمعي واحتجاجهم ورفضهم، دون الركون إلى حامل أو سند غير الناس الذي أساندهم وانتمي إليهم.. أو هكذا قال أحدهم وهو يوأزرني وينتصر معي في مواجهة الظلم والطغيان..

***
يتبع
بعض من تفاصيل حياتي
تم إعادة الوتس الخاص بي
لم يتم إخباري عن سبب حظري رغم أنني طلبت منهم ذلك
لا بأس..
بامكانكم الآن ضمي إلى مجموعاتكم..
اتمنى أن لا يتم حظري هذه المرة أيضا.
وفي كل حال أنا ملتزم بمعايير الخصوصية للوتس.
رقم الوتس الخاص بي هو 738040566
أحداث يناير 1986
(3)
“آه يا عيالي”
• كانت كريتر أقل المناطق صداما ومواجهة في أحداث يناير1986مقارنة بغيرها، حيث لم تشهد مصادمات واشتباكات عنيفة إلا على نحو محدود ومتقطع.. كان توزيعنا الأول جوار حماية البريد وما يقاربه.. تحوّل مبنى البريد على ما يبدو إلى نقطة قيادة تدار منه العمليات في "كريتر" للفريق التابع لأنصار عنتر وفتاح..

• لا أدري أو لم أعد أتذكر أين غاب زميلي يحيى الشعبي، فلم أعلم أين كانت وجهته، وعلى الأرجح أنه تمكن من العودة إلى منزله في "القلوعة".. اظن أنه عرض فكرة كتلك، ولكن كانت تعتريني مخاوف الاعتراض في الطريق قبل الوصول إلى البيت فآثرت البقاء.. وفي نفسي أيضا فتاة أعجبت بها منذ شهور، كانت تقيم على مقربة من البريد، خلف عزبة الرفاق التي لذت إليها في البداية، وكنت أكتم ما بنفسي عنهم، وأتحاشى كثيرا أن ألفت نظرهم إلى هكذا أمر..

• تذكرت تلك الرواية التي كنت قد قرأتها في إجازة إحدى سنوات الثانوية العامة.. إنها رواية خان الخليلي لنجيب محفوظ، وفيها جانب من الحب في حضرة الحرب، ولي وقفة بصدد من أعجبت بها لعلي أتتطرق إليها في موضع لاحق..

• تم تكليف الجندي الردفاني الذي كان معنا، والمرتدي زيا عسكريا، بمهمة اعتلاء قمة منارة عدن كنقطة مراقبة، والتنبيه عليه أن يحذر من القنص الذي يمكن أن يستهدفه من الطرف الآخر.. فيما تم تحويل تمركزي أنا وقريبي إلى عمارة مطلة على البريد ومنارة عدن وجانبا من سور ميدان الحبيشي.. عمارة على الشارع العام الذي يفصلنا عن مبنى البريد.. اعتلينا سطوح العمارة وبقينا عليها، وتناوبنا على حراسة بوابتها في الشارع..

• في ليلة اليوم الثالث من الأحداث على الأرجح، وفيما كنت أحرس بوابة العمارة، صرخ قريبي من السطح يخبرني أن هناك محاولة تسلل لاقتحامها من الخلف، فيما كنت حينها في بوابة العمارة، وتحركت بسرعة إلى زقاق المدخل الذي يؤدي إلى فتحة "الجلىّ" خلف العمارة “، وبدأت بإطلاق دفعات من الرصاص، محتملا وجود تسلل أو اقتحام، فيما كان قريبي ومن معه في سطح العمارة يطلقون الرصاص إلى الأسفل من فوق الجدار المطل على خلف العمارة، وفي الصباح لم نجد أثرا لأحد، فبدا لنا الأمر أنه كان محاولة تسلل أو استطلاع أو مجرد جساً للنبض.

• بعدها طُلب مني أن أتجه إلى منطقة متقدمة من خط التماس، وتحديدا إلى شقة "سالم معروف" وهي قريبة من المصرف اليمني وسط "كريتر" على إثر قنص شخص من فريقنا، وهو من أبناء منطقة الجليلة ـ الضالع ـ وطُلب منّا رفع جثمانه إلى السيارة المعدة لنقله، ومن ثم المرابطة بالشقة التي انتقلنا إليها.. شعرت بحجم المخاطرة في مهمة نقل الجثة، ولاسيما من قناصة الطرف الآخر، أو حتى من المرابطين في المواقع من الجهة الأخرى، ولكن لا مجال للتردد أو للتنصل من مهمة كتلك..

• وجدنا المقتول ممددا، وفي جزء منه منحنيا في بوابة العمارة التي فيها شقة "سالم معروف"، ووجدنا بمقربة الجثة ذلك الجندي الردفاني الشجاع الذي كان قد سبق وتموضع رأس المنارة، ويبدو أنه أسندت له مهمة الانتقال إلى تلك العمارة..

• أخبرنا الجندي الردفاني أنه كان موجودا جوار هذا الرجل لحظة قنصه من قبل الفريق الآخر.. قال لنا أنه سمع زميله المقتول وهو يتآوه قبل أن يفارق الحياة ويقول: ”آه يا عيالي”

• ”آه يا عيالي” .. هذه الجملة الصغيرة أحسست أنها أشبه برصاصة قناص قد أصابتني في مكان مكين.. أحسست أن فأسا ضرب رأسي حتى شجه نصفين .. شعرت أن عمود خرساني قسم ظهري.. تمردت دموعي وساحت غصبا عني.. من حق الدموع أن تتمرد علينا عندما نريد قمعها في حضرت مشهد مأساوي كهذا.. أحسست لحظتها بفظاعة الحرب وبشاعتها.. حملنا الضحية إلى السيارة، التي غادرت مسرعة، وعدنا نحن لشقة الوالد "سالم معروف"، والتي كانت عائلته قد غادرتها في وقت سابق..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
اعادة نشر..
هذا العام
رمضان شهر الموت
والصيام !!
للانضمام إلى جروب يمنات على الواتس آب
https://chat.whatsapp.com/BBhD3E4FVDCJqIDDXI5M1m

قناة موقع يمنات على التليجرام
https://telegram.me/yemenat0
https://yemenat.net/2021/04/385989/
رواية الوزير .. التعذيب بالكذب
https://yemenat.net/2021/04/385939/
يوم أرغمت على الاعتذار
https://yemenat.net/2021/04/385811/
اثارة احتجازي في السياسي برلمانيا
https://yemenat.net/2021/04/385773/
التوجيه بإخلاء سبيلي