أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
بمناسبة يوم عيد الحب
أعيد نشر بعض حلقات الوصول إلى نصفي الآخر
(17)
أم شريف أعانت وصولي إلى نصفي
"أم شريف" امرأة بلغت سن التقاعد، ولكنها كانت تبدو متينة وكرّاره.. تشبه الصناعة الجرمانية في قوتها وصلابتها.. وجهها الطولي ذو قسمات وملامح جاذبة تجعلها محل رضى وقبول.. متعافية وتتمتع بصحة وافرة.. لديها من الجُرأة ما تبلغ بها أحيانا حد المغامرة.. تجمعني بها صلة قرابة عن طريق بعض الأقارب من جهة أمي.

وجدتُ ضالتي في "أم شريف".. إنها الصدفة التي أعانتني في الوصول إلى ما أريد.. فعندما ألتقيت بها كنت محبطا للغاية.. أحسست أن بمقدورها أن تساعد نصف وجودي بالعثور على نصفه الآخر الذي لازال في ظهر الغيب.. لذتُ إليها لاعتقادي أنها ستسرّع خطاي من أجل العثور على زوجة مناسبة، بعد فشلي الذريع وحصادي المُر للخيبات المتعاقبة..

قلت لها:
- يا أم شريف.. أنا احتاجك.. أعتقد أنك تستطيعين مساعدتي أكثر من أي شخص آخر.. أنتِ "الكمندوز" الذي أراهن عليه.. أنت الإنزال المظلي الذي أعول عليه في الوصول إلى ما لا أستطيع الوصول إليه.. بإمكاني أن أعبر من خلالك الأبواب والغرف المغلقة.. أدخل البيوت التي لم أستطع الدخول إليها.. أنت جسر عبوري أتجاوز بك ما أستصعبه.. أصل من خلالك إلى فتاة أحلامي التي لطالما رمتها، وأخفقتُ في الوصول إليها..
يا أم شريف.. أتوق إلى فتاة جميلة وفقيرة وطيبة لأتزوجها.. لا أهتم كثيرا إن كانت تعمل أو لا تعمل.. لا أكترث إن كانت تقرأ أو لا تقرأ.. أهم شيء لدي أن تكون فتاة جميلة، ولديها الاستعداد أن تعيش ظروفي كيفما كانت، وتعبر معي وادي الجحيم دون حذاء إن أقتضى الحال.. أريد فتاة وفيّة تشاركني وجودي حتى آخر العمر..

أبدت أم شريف استعدادها الجم واستجابتها المتحمسة والمجملة لما طلبتُ منها، وصرتُ أصحبها معي في غزواتي.. سرية استطلاعي ومفرزتي المتقدمة.. عندما أكلفها بمهمة مهما كانت صعبة وشاقة كانت تؤدّيها بنجاح وجسارة فذه.. انطلاقها عند تنفيذ بعض المهام كانت تشبه الصاروخ وهو ينطلق إلى هدفه.. هكذا كنت أشيد فيها وامتداحها من باب التشبيه وضرب المثل مع الفارق..

وفي مرحلة من مراحل البحث عن شريكة حياتي شعرتُ أني استنفذت حيلتي، وبديتُ مثل ذلك "الهندي" الذي من شدة ما يعيشه من فقر وطفر يعود ويفتش سجلات جده لعله يجد على الغير دينا مهملا لصالح جده؛ فيذهب يبحث عن المديونيات، ويقوم بتحصيلها.. إنه مثال مع الفارق أيضا.. فتشتُ في ذاكرتي القصيّة.. وعصرت ذهني عشر مرات.. وتذكرتُ وجود أختين ينضحان بالجمال الذي يسلب العقول ويستولي على الوجدان.. عرفتهن قاصرات قبل سنوات حالما كنت أسكن عند عمي فريد في "دار سعد"..

- قلت لأم شريف:
الأن لاشك أن الزهرتين قد بلغتا سن الزواج.. لعل أجد نصيبي في إحداهن.. ربما القدر يعوضني عمّا فاتني من فرص وما طال من انتظار، ويجبر ما لحقني من عذابات وما أصابني من خيبات كثار.. إنهن جميلات يجبرن مصابي مهما بلغ.. جمال ينافس بعضه، ومفاتن تتملك القلوب وتسلب الألباب..

وعندما سألتني أم شريف عمّا إذا كنت أعرف بيتهن، سارعتُ بالإجابة: نعم؛ ثم صحبتها معي حتى وصلنا باب العمارة، وأطلقتها في المهمة، بعد أن أرأتها الباحة القريبة التي سأنتظر فيها..

كان قلبي يرجف ويوجف في انتظار طال.. قلق يغلي على موقد نار.. احتدام بين توقعي لخبر سار ومفرح، ينازعه بشدة خوف يبلغ حد الهلع من خيبة أخرى إن أصابتني ستكون فوق بلوغها صادمة تزلزل كياني وتهدهُ إلى آخره.. وجدتُ نفسي في انتظاري بين سقف توقعاتي العالي، وقاع صلد يُحتمل سقوطي عليه من برج مشيّد..

لم أعد قادرا على ضبط إيقاعات نبضي السريع.. خرج قلبي عن السيطرة.. شعرت بوجود فجوة داخلي تشبه المغارة، وفراغ يتكور في صدري يكبر ويتسع.. قلق واضطراب يزداد ويشتد على روحي الممزقة.. إحساس يخامرني مع كل دقيقة من الوقت تمر أشبه بعربة مجرورة بثمانية وعشرين حصان تمر سنابكها على جسدي المنهك بالبحث والانتظار الذي طال..

كلما تمادى الوقت أجد نفسي أدور وأذرع المكان الذي أقف عليه طولا وعرضا.. أنتظر الرد بفارغ الصبر.. أتوقع وأفترض وأتكهن.. أزداد اضطرابا كلما طال الانتظار أكثر..

كنت أسأل نفسي وأتوجس:
- ماذا يا ترى يتحدثون كل هذا الوقت؟! هل أم شريف أحسنت العرض كما يجب؟! هل ارتابوا بقواها العقلية؟! لماذا لا ينادوني إن أرادوا التعرف على شخصي؟! هل أخبرتهم أم شريف بالمكان الذي أقف عليه؟! هل عاينوني من ثقب صغير أو من تحت ستارة النافذة؟! هل شاهدوا حركاتي القلقة ودوراني وذرعي للمكان، فاستمرأوا المشاهدة؛ ليخلصوا إلى الشك بسلامة قواي العقلية والذهنية؟! لماذا لا يدعونني لأثبت لهم أن قواي العقلية سليمة ومعافاة، وإن اعتراها بعض الضيق والإرباك والقلق؟! كانت الأسئلة تتزاحم، ورأسي يكاد ينفجر، فيما الانتظار لازال يطول ويضخ مزيدا من الأسئلة الأكثر قلقا..
خرجت أم شريف من المنزل وفي صحبتها فتاة أظنها في سن العاشرة أو أكثر بقليل.. كان المفترض أن تأتيني أم شريف وتخبرني بالنتيجة، غير أنها رأتني في باحتي دون أن تعرني بالا، بل تجاهلتني على نحو غريب، ومضت منقادة كمسحورة خلف الفتاة الصغيرة.. غرقت في استغرابي وحيرتي!! لم أعد أفهم ماذا الذي يحدث؟! تبعتهما وكانت عيناي مصوبة نحوهما وتقتفي أثرهما، فيما قدماي تتخلف عني وكأني أسحب شجرة..

دخلن إلى شارع فرعي فقير وقصير وغير متسع.. فيه ضوضاء وحركة وأطفال صغار.. تبعتهما بحذر وبمسافة أكبر.. شاهدت الفتاة وأم شريف يدخلان إحدى البيوت المتواضعة.. زدتُ غرقاً في حيرتي وذهولي دون أن أفهم ما الذي يحدث؟! ولماذا تجري الأمور على ذلك النحو؟! بديت غاضبا من أم شريف لأنها لم تكشف لي عند خروجها عمّا حدث!! لم تُفهمني إلى ماذا آل أمري؟! وماذا بخصوص من أتيت لأجلهن؟!

كان عليّ الانتظار حتى تخرج أم شريف من البيت الأخير الذي ولجته لأسألها عمّا حدث ويحدث، وقد بدأ الغضب يغل ويحتدم في صدري.. وبعد قرابة النصف ساعة ـ وهي فترة بالنسبة لي كانت طويلة وقلقها أشد ـ خرجت من البيت بمفردها.. حاولت أكظم غيضي لأسمع أي نثرة قد حدثت دون علمي.. وما أن وصلت إلى عندي أجابتني باقتضاب وعجل:
- ما لك نصيب في البنات التي تشتي واحده منهن.. الكبيرة تزوجت، والصغيرة مخطوبة..

قلت لها: وليش تتأخرين مادام ليس لي نصيب.. "كلمة ورد غطاها".. أيش جلستي تفعلي كل هذا الوقت بدون فائدة..
- أجابت: جلسنا نتكلم عن بنت دلتني عليها "أم البنات".. ثم ارسلت معي الصغيرة، ودخلتُ أشوف البنت ما شاء الله عليها..

قلت لها: يعني خطبتي لي واحده ما شفتهاش.. ماعرفهاش.. أعجبتك أنتِ.. أنا ماعرفيش حتى بصورة..
- قالت: البنت حلوة وصغيرة ويتيمة بتعجبك.. أني فقط شاورت عليها.. أمها لم تكن موجودة.. قالوا أخوها مات، وراحت بيت الميت، وما بتعود من بيت الميت إلا بعد أسبوع.. عندما تجي سوف يردوا لي جواب..

قلت لها وهواجسي تهاجمني من كل صوب:
ما أدراني إنها جميلة؟! كيف أركن على عيونك؟! أبي شاف أمي ثم ذهب يطلب يدها من أهلها.. كان هذا قبل ثلاثين سنة، وأنا اليوم أطلب يد بنت ما شفتها!! هذه قده يانصيب!! أنا لا أعرفها وهي لا تعرفني.. لم يحدث هذا حتى في زمن جدي!!!

أحسست أني قد وقعت في ورطة تكاد تكون غلطة العمر.. أتحرق وأشتاط على نفسي في داخلي.. أحاول أكظم غيظي وما يعتمل فيني من غضب.. شرر يتطاير منه إلى خارجي..
قلت لها:
"غلطة الشاطر بعشر" .. من قال لي أصطحب معي مجنونة؟! كم فيني هبالة وخفة عقل!! أين هذه الكلية التي تعلمتُ فيها، وعاد اسمها كلية الحقوق.. والله ما استاهل حتّى بصلة..
فردت أم شريف وقد بدأ غيضها يفيض:
- إذا ما تريدها عادي.. نحن لا خطبنا ولا تزوجنا.. نحن شاورنا بس.. وهم ماردوا.. قالوا لما تعود الأم لنا خبر..

عادت أم شريف أدراجها، وبقيت أنا أحاول أن أرى الفتاة بأي طريقة، فيما لازالت كلمات أم شريف ترن في مسامعي " بنت ما شاء الله عليها.. حلوه وصغيرة ويتيمة" أثارت تلك الكلمات جماح فضولي.. جعلتني أكثر شغفا لأن أراها.. يومها صلت وجلت في الشارع ولكني لم أراها.. حاولت أمر من أمام بابها مرات عديدة، ولكنها لم تخرج ولم تطل برأسها.. عدتُ مرهقا، ولكن مع إرهاقي ليلتها لم أنم.. عشت ليلا أستعجل صبحه الذي تأخر.. وما أن أشرق الصبح حتى غادرت مكان إقامتي في "القلوعة" نحو بيتها في دار سعد.. أصريتُ أن أراها قبل أن أبدأ بأي خطوة أخرى..

وفي اليوم الثاني لم تأت الساعة التاسعة صباحا إلا وكنت أنتظرها في مكان يسمح لي أن أرى الدخول والخروج من باب بيتها.. وبعد ساعات رأيت فتاة تكنس وتكرع الكنيس إلى الخارج.. هرعت نحوها.. استطعت أن أشاهدها وهي أيضا شاهدتني.. عدت كرة أخرى فأحسست أنها هي، فيما هي أيضا أحست أنني هو..

غمرتني سعادة بطول وعرض السماء.. كدت أصرخ مثل أرخميدس "وجدتها.. وجدتها" كدت أطير من الفرح فوق السحاب.. صار حلمي أمام عيوني يقول لي: أنا هنا مُد يداك..

بات الأمل أكبر مني، فيما اليأس الذي ظل يلاحقني وكاد في الأمس أن يدركني صار مهزوما ومكسورا يتلاشى إلى زوال.. باتت مقولة ناظم حكمت تدق باب قلبي وهي تردد "أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد" خُسراني بات معوضا، وما أصابني من فادح الخيبات صار مجبورا ومملوء بالعافية.. إنها صدفة القدر.. صدفة عثوري على نصف وجودي الذي كاد يتحول إلى مستحيل.. شكرا.. شكراً يا أم شريف..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(18)
أسبوع قبل الخطوبة!
رأيتها وجزمتُ للوهلة الأولى أنها هي لا غيرها، بإشراقها وجمالها وإحساسي بها، بيد أن شك جاس فيني وأعترى.. هاجس إلى نفسي تسرّب وأنتشر.. تشربت منه ظنوني، وأيقظ الشك فيني الأسئلة!! ما أحوج حاصد الخيبات لقلب مطمئن.. لطالما صادني البخت النحوس.. كم خانني الظن، وكم قلَب الحظ في وجهي المجن، كم هويت في مهاوي مُهلكات، وكم وقعتُ في درب الهوى "رأسا على عقب"!
رأيتها في المرة الأولى بأم عيني الاثنتين.. أبهرتني وأحيت الروح فيني من جديد.. عاد الأمل بعد إخفاق ويأس.. رغم هذا بقى في صدري هاجس يجوس.. ربما عيوني كانت مجهدة.. عدتُ وعاودتُ النظر.. فركتُ عيوني ودعكتها بالأصابع واليدين..
سألتُ نفسي: هل ما رأيتُ هي الحقيقة ذاتها؟!
- أجابتني الحقيقة: ذلك ما رأيت..
رغم هذا ظل شيء داخلي يشدّني دون علمي ما هو!! اعتلال أم اختلال واضطراب؟! أخشى التوهم والسراب.. نفسي تريد أن تُصدّق بعد يأس وانتظار!! بلغت الدهشة مبلغا لا يصدّق.. وجب التحقُق والتأكد مرتين..

بعد العيان كرّتين، قالت عيوني "هي.. هي.." طرتُ بأجنحة الفرح فوق السِّحاب.. حلّقتُ في السماء البعيدة والفضاءات الرحيبة.. ثقب من الخوف تسلل إلى نفسي وقال:
- ان تهوي من فوق السحاب أنت مقتُولا لا محالة..
قلت لنفسي: لن أترك باب موارب، أو التباس يربك أم الحواس.. لزم التحرّي وسد كل الشقوق والثقوب والثغور.. لزم التحرر من كل المخاوف والضنون.. حيرتي أشغلتني.. يا أم شريف بددي حيرة نازعتني بين أكسوم ومارب..

ذهبتُ لأم شريف وأنا مثقلا بالهم الثقيل.. أريد أن أقطع شكّي باليقين.. استجديتها ورجوتها أن تستفيض بما رأت، وما تنامى للمسامع، وتزيل عن فهمي كل لبس محتمل.

أفهمتني وأكدت أنها هي لا سواها.. أختها الكبرى متزوجه، والثانية لازالت صغيرة.. فصلّت أوصافها، وأنا مُنهمك أطابق.. أعاير قولها على ما رأيتُ.. ثم صرتُ أنا من يصف، وهي تردد وتؤكد كل فقرة مرتين.. تلألأت في وجهي العبوس وهج الشموس البهيجة.. كل شيء بات فيني يضيء ويحتفل..

سعادتي باتت أكبر من وجودي.. ورغم هذا لازال فيني إحساس يجوس!! هاجس في داخلي يحثني لتكبير الحقيقة.. لابد للقلب الشغوف أن يطمئن ويستريح.. قلبي الذي عاش أكواما وأكوانا من الخيبة الثقيلة.. كل حيرة يجب أن تبددها الحقيقة.. أو هكذا صرتُ أفكُر عندما أجد الوجود لا يتسع لفرحتي الكبيرة!!

***

في اليوم الثالث ذهبت لعمتي أم عبده فريد، اليد التي التقطت خروجي لواجهة الوجودِ.. طلبت منها أن تزرها وتقريني تفاصيل الكتاب.. تتأكد بأم عينها مما رأيت.. يومها كانت تقيم في مكان قريب من بيت الفتاة.. أعطيتها أوصافها وما سمعتُ من الكلام؛ عادت بتأكيد المؤكد.. ثم قالت: آية في الحسن ومعجزة قلما جاد بمثلهما الزمان..
استمعت لها بألف اذن وألف لهفة، ولم أكف عن السؤال!! بديت كطفل في سن الحضانة.. فاغر الفاه مبلودا بدهشة، وأحيانا أعيد السؤال وأكرره كأبله.. يا لقلة حيلتي!! وعندنا تفرغ ما لديها من الكلام، أرجوها بأن تستمر ولا تتم.. أريد أن أوغل في السماع حتى أسكر..

كنت أرجوها أن تُسهب وتُكثر في الحديث.. وأكثر من الكثير إن تأتّى.. تستفيض إن كان ممكن.. تعرّقتُ وشعرتُ بحرج أشد وهي ترسل نصف ابتسامة حالما سألتها عن نهود من رأيت.. بديتُ كرضيع أو دون سن الفطام.. ظللت مشدوها إلى فمها وهي تُحدّث عمن أحب.. معلقا أنا على الشفة كأجراس الكنيسة.. وشغفي بمعرفة المزيد لا ينتهي، ولا يحط له رحال..

أسبوع كامل صرت فيه أحلم أكثر مما أنام.. أستقطع من يقظتي أكثر من بواقيها.. أنشغل بحلمي أكثر من وقت انشغالاتي، حتى بديتُ حالما على حلم أستغرق صاحبه ألف مرة.. نهاية الأسبوع أرسلتُ رسولي لأكمل ما بديت، غير أن أم الفتاة استمهلت للسؤال عنّي حتى لا تجازف.. وكان عليّ الانتظار..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(19)
الخطوبة
طلبت أم الفتاة مهلة من أجل السؤال عنّي، وهو ما كان يعني بالنسبة لي مزيد من الانتظار والأرق الذي لا أعلم كم سيستمر.. صرت لا أحتمل كثيرا من الانتظار دون جواب، أو جواب يستغرق كثيرا من الوقت للوصول إليه.. بات قلق الانتظار يجهدني ويستنزف روحي المتعبة الباحثة عن توأمها في مدارات الصدف، وبقاياي لم تعد قادرة على الصمود تحت رحى ودوران الانتظار الثقيل..

لم أعد أطيق خيبات أخرى وقد امتلأتُ بها فيما مضى من الوقت.. كاهلي مثقل بالهزائم ولم يعد بمقدور الحيل المهدود تحمّل نصف هزيمة أو ربعها.. لا يوجد في العمر بقية تسعفني لتجارب أخرى، أو فشل ذريع آخر.. صرتُ وكأنني أعيش الوقت الضائع، وبقية من فرصة أخيرة إهدارها يعني الضياع والتلاشي إلى بدد..

حالفني الحظ هذه المرة، ولم يستغرق أهل الفتاة في البحث عن مصدر المعلومة والإجابات على أسئلتهم غير أيام قليلة.. كانت إقامتي السابقة عند عمي فريد الذي كان يقيم في مكان قريب، وكذا بيت عمي الحربي الكائن في مكان غير بعيد، ووجود عدد غير قليل من معاريفنا ومعاريفهم المحيطين بنا قد ساعدهم في الحصول على ما يريدون من المعلومات بيسر وسهولة..

كنت أنا أيضا بالموازاة أبحث لأعرف وأستوثق وأطمئن أكثر عن الفتاة التي صادت فؤادي، وأردتها أن تكون شريكة حياتي حتّى آخر العمر.. لحسن الحظ كل الإجابات جاءت بما يسر ولصالح كلينا..
إثر تلك الأسئلة فاضت حميتي وعلت همتي وحماستي فقلت لنفسي وأجبت:
- سأعض على هذا النصيب بالنواجذ.. لن أترك له مجالا للتملص أو الفكاك.. لن أغفل عنه دقيقة واحدة حتى لا أندم وأقول فلت منّي في غفلة بلحظة زمن شاردة "ولات ساعة مندم".. سأستميت من أجله في اليوم عشر مرات إن لزم الأمر.. سأنشب فيه أطرافي وبكل قوتي، وسأدافع عنه ببسالة.. ستشبث به بيداي وأسناني وكل جوارحي.. فلتفض روحي وتذهب قبل أن يذهب منّي مناي.. مستعد من أجله أن أحارب بقية العمر إن أقتضى الحال.. لامجال للتخلي عنه تحت أي قوة أو مبرر أو عنوان أو مسمي..

أول أغنية أهديتها لها "مش هتنازل عنك أبدا مهما يكون" للفنانة المغربية سميرة سعيد لتعبّر عن بعض ما يجيش في وجداني من حب، وعن لسان حالي وإصراري، أقتضب من كلماتها:
"ياللي اديت لحياتي في حبك طعم ولون
مش هتنازل عنك ابدا مهما يكون
دا احنا لبعض حنفضل دايما
طول العمر حنفضل دايما
مهما يكون ... مهما يكون
انا حبيتك لما لاقيتك قدام عيني حلم بعيد
كان في عنيا صعب عليا وبعد شويه بقي في اليد"

أكبر أشقائها كنت أراه عندما أصادفه متجهما وغضوبا.. لا أذكر أنه مر من جانبي خلال تلك الفترة وألقى عليّ السلام.. كان حاد الطباع ويبدو متشددا في الرأي.. كنت أشعر أنه غير راض عنّي، بل ومعارضا لي بشدة، وهو شعور لطالما اجتاحني مرارا.. لا أدري ما السبب؟! أظنه ضاق من تكرار فشل خطوبة شقيقته أكثر من مرة، أو ربما بسبب عدم توفق صديقه في خطوبتها التي آلت إلى الفسخ، وربما لسبب أخر لا أعرفه.. كل ما أنا متأكد منه هو إحساسي أنه لا يطيقني، ولم يكن بيننا أي كيمياء ولا ود من أي نوع كان؛ ولذلك كنت أشعر أن المجهول لازال يتربص بي.. أحسست أن الطريق أمامي لازالت غير سالكة على النحو الذي أروم..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(20)
قبل عقد القران
في أول زيارة لها بعد الخطوبة تفاجأت.. وجدتُ شكلها قد تغيّر تماما عن تلك الصورة التي كانت مخزونة في ذاكرتي يوم الخطوبة.. تسألت مع نفسي: ماذا حدث؟! كيف حدث هذا؟! من أين جاء هذا التغيير؟! ومن أين أتى هذا الفارق الذي صار يفوق خيالي؟! كانت تفيض سحرا، فصارت ساحرة على نحو خرافي.. كانت جميلة جدا، فصارت أجمل بأضعاف مما كانت عليه.. بديت كالمسحور وأنا أسأل نفسي: يا إلهي ماذا الذي يحدث؟!

في أول وهلة تملكتني الدهشة! أُصبتُ بربكة في استيعاب ما هو أمامي؟! سألت نفسي في غمرة اندهاشي: من هذه الفتاة؟! وبعد لحظة وأنا أحاول أن أستحث ذاكرتي، وأجمع أشتات صورتها المنطبعة في ذهني؛ استدركتُ أسأل نفسي: يا ترى هل هي أم غيرها؟! كنت مشدوها إليها.. مبلودا من الدهشة، ومبهورا بجمال لم أر مثله من قبل.. داهمتني الأسئلة وغمرتني الحيرة على نحو لم أكن أتوقعه..

بديتُ أمام نفسي مشوشا للغاية.. أحسست أنني صرتُ أكتشف حبيبتي وأميزها عمن حولها كونها الأجمل فقط.. وتارة أكتشفها بحدسي وتكهني.. وفي أحايين أخرى أتعرف عليها من خلال استحثاث ما أملكه من استشعار بالصور المخزونة في ذاكرتي، وكأن القدر يمازح حواسي المربكة، ويمتحن إيماني بقدرته.

تطلعت بعينيها نحوي بخجل آسر، ثم رأيت إشراقة ابتسامة أحسست بحدسي إنها هي.. سحرها تسلل داخلي كقبس نبوة.. تملكتني بصوفية تجاوزت مداي.. استوطنتني مناجم وكنوز من العجب.. دوحة حب في أعماقي تنتشر وتضرب جذورها في شراييني وآمادي البعيدة.. تفتتني وتبعثرني ثم تجمعني من جديد في دهشة لا تنتهي..

سألت نفسي ثانيا وثالثا: ماذا صنعت حبيبتي لتبدو بهذه القدرة في صناعة العجب؟! كيف استطاعت أن تكون أجمل مما كانت عليه، وهي الجميلة دون منازع؟! كيف تغيّر شكل وجهها عن شكله السابق.. هل هي عيوني المضطربة الفاقدة للتركيز أم عيونها التي صرتُ مسحورا بها إلى الأعماق السحيقة؟!! عيونها عندما خطبتها كانت عسلية؛ فكيف صارت الأن دعجا بسواد أكثف من لون المسك؟! تبرق عيناها في عيوني ببشارة ميلاد وحياة وسعادة..

أسبوع مضى وأنا أتخيلها على تلك الصورة التي كانت مكنوزة في ذاكرتي من يوم الخطوبة، ثم أجدها في لقائي التالي على نحو مختلف.. شككتني بحواسي وخيالي وذاكرتي.. تركيزي صار يتشتت، وغير قادر أن يستوعب ما يحدث! حيرتي تكبر وتسأل: من أين أتى ذلك الكم الفارق بين الحالين؟!!

في زيارتي التالية تكرر الحال على نحو مضاعف.. والسؤال يتكرر: ما الذي يحدث؟!! وبعد عناء وتكرار افترضت أن تسريحة شعرها ولبسها والشمس والظل وكل المؤثرات التي تحيط بها، وأيضا ما يخصني من اضطراب التركيز، وتشتت الحواس، وضغوط وإرباك اللحظة، وما يحيطني من ظروف تصنع في مجملها مثل تلك التساؤلات، وتستغرقني اللهفة والعجب العجاب..

وفي كل حال عندما تكون دون مساحيق أو مراهم أو رتوش تصير أكثر بهاء وإشراقا وحياة.. هذا ما ظللت أوكده وأكرره على مسامعها، مع ملاحظة أنها ظلت على نحو مستمر تزداد إبهارا وجاذبية، ويزداد حبي لها كل يوم أكثر من سابقة، ومن دون نقصان أو توقف عن الجريان..
أراد أهل الفتاة معاينة بيت الزوجية ليطمئنوا على مدى صلاحيتها؛ فكان لهم ذلك، وكانت النتيجة كما بدت لي في خلاصتها بدرجة مقبول.. شعرت أن هذه النتيجة تشبه نتائجي في مادة اللغة الإنجليزية في الجامعة.. غير أن الأهم لدي ظل هو تجاوز ما أخشاه.

البيت كانت عبارة عن بيت شعبي أرضي متواضع للغاية ينطبق عليه مثل "دبر حالك".. شكلها أشبه بزقاق أو ممشى طولي تم تقطيعه.. غرفة تليها غرفة ثانية، بسقف خشبي رفيع وخفيف يعلوه زنك، وتلي الغرفتان دارة غير مسقوفة، ثم يليهما مطبخ وحمام.. كنت يومها أعيش في هذه البيت أنا وخالتي أم أخي، وأطفال أخي منصور وندى..

الحقيقة لم أكن المتقدم الأول لطلب يد تلك الفتاة، بل سبقني إليها عدد من المتقدمين بعضهم لم يصل إلى مرحلة الخطوبة، وبعضهم وصل ولكن تم الفسخ، وإحداهم وصل إلى مرحلة العقد، ولم يصل إلى الزفاف، ولم تستغرق أطول تلك المراحل والفترات إلى أكثر من بضعة أشهر..

كانت الفتاة ترفض فتستجيب الأم لرفضها، وعندما تكرر الأمر تدخلت سلطة الأم القوية، وباتت الفتاة تُرغم على الموافقة، وكان تمردها ومعاملتها لمن تم فرضهم عليها سببا آل إلى الفشل.. هذا وغيره كنت قد عرفته مسبقا من خلال رفيقتي أم شريف.

كانت أم الفتاة ذو شخصية قوية ومهابة، وفي نفس الوقت لا تخلو من طيبة.. كانت تملك سلطة قوية ونافذة في بيتها على جميع أفراد الأسرة، بما فيهم زوجها الطيب الذي توفى قبل سنين من مجيئي إليها.. كدت أكون أنا أيضا واحدا منهم لاسيما في فترة الخطوبة والعقد إلى يوم الزفاف.. كانت هي صاحبة الكلمة النافذة في البيت، بما فيها حتى تلك التي تخرج منها تعاطفا أو تبدو استجابة لرغبة المعني الأول في الشأن بعد تصويب ومراجعة..

الأم تفرض كلمتها على ابنتها في قبول الخطوبة أو العقد، فيما الفتاة تتمرد وتلعب دور تأزيم العلاقة وإفسادها وإيصال الأمور إلى طريقها المسدود.. كانت تُضرب وتُرغم على القبول، ثم تعاني وتتمرد وتفسد ما تم، وتُفشل مخرجات هذا الإرغام.. ثم تراجع الأم موقفها وتتخذ قرار التراجع الأخير الذي ظل هو الآخر بيدها.

كنتُ المتقدم الوحيد الذي حصلتُ ابتداء على موافقة ورغبة الفتاة في أن أكون شريكا لحياتها أو تكون هي شريكة لحياتي بمليء إرادتها واختيارها.. ربما كان هذا هو الفارق مع من سبقوني إليها.. ربما بديت هنا بالنسبة لها فارس أحلامها، وربما أيضا المُنقذ لها من إخفاق وإرغام، فيما كانت هي حلمي الكبير وآمادي القصية، ونصف وجودي الذي أعياني البحث عنه..

أختها الصغرى إشراق هي من قالت لي: "أنت أول شخص توافق عليه من غير ضغط.. كانت مبسوطة بمقدمك ومتحمسة للخطبة والزواج.. كانت طائرة من الفرح.. وكنتُ مستغربة سبب فرحتها فيك، وكأنها كانت على علاقة بك.. مستغربة لأني كنت أراك شخص ريفي، فيما كانت هي قبل أن تأتي إليها تتخيل فارس أحلامها بقصة شعر موضة، ولبس آخر موديل.."

لقد كانت بالنسبة لي نصف وجودي الذي أعياني البحث عنه.. لقد عاش كل منّا تجربته الخاصة بمعزل عن الأخر، وعانى كل منا الكثير من الفشل وعناء البحث، فيما القدر كان يخطط من وراءنا بصمت أن نكون لبعض، وكانت الصدفة جامعة لنا، وقررت أقدارنا أن نجتمع إلى آخر العمر..

خطبتها رسميا بحفلة متواضعة جدا.. لم يتعد الحضور غير بعض من أسرتها وأم شريف وابن عمي عبده فريد، ولم يتعد الاحتفال شرب البرتقال "السنكويك" ، وجلوسنا جوار بعض، والتصوير، ولبس دبل الخطوبة.. كل هذا حدث في وقت ربما لا يتجاوز الساعة.. مرق الوقت كلمح البصر.. كشهقة عاشق في ذروة الحنين.. أسيف على لحظة تلاشت بسرعة وقد انتظرتها عمرا بكامله.. مرّت بعجالة دون إمهال، وقبل أن أملئ منها النظر، وفي يوم كان يفترض أن يكون لنا طرب وأعياد..

أعجبتني بساطة الاحتفال إلى حد بعيد.. أحسست بوجودي وأنا جالس جوارها.. رعشة كانت تصاحب أصابعي وأنا أمسك يدها وألبسها دبلة الخطوبة.. رأيت الحياة تبتسم وتبارك لنا بعد انتظار طال.. غير أن اقتضاب الوقت نال من غمرة هذه السعادة، ومن بوح الفرح الذي لطالما انتظرته طويلا بصبر مُجالد..

بعد مغادرتي لبيت الفتاة اجتاحتني الأسئلة القلقة، وظلت تلح على ذهني باحثة عن إجابة:
- هل سأنجح في الإبحار حتى النهاية؟! هل سأصل إلى بر الأمان؟! أم سأكون أحد المهزومين الذين مروا من هنا؟! هل سأنجح حتى الأخير في العبور إلى مناي الذي لطالما أهدرت العمر بحثا عنه؟! أم سأكون مجرد اضافة خيبة لي ولها في سلسلة الخيبات المتعاقبة التي عجزت أن تصنع فارقا أو اضافة للحياة التي نرمها؟! هل سأكون الفارس الذي أنتصر أم سأكون واحدا من المكسورين والعائدين الذين يجرون أذيال الهزيمة والخيبة؟! هل بإمكاني العبور إلى نهاية الطريق أم ستخور قواي قبل الوصول؟!
من أجل العبور إلى الضفة الأخرى، أو الوصول إلى مناي الذي لطالما بحثت عنه ولازال مهددا بالفقدان، حرصت على الاستمرار في استمالة الفتاة التي أحببتها، ونيل رضى أمها التي كنتُ أتحاشاها وأخشى انقلابها.. كنت أعتقد أن وجود الاثنتين في اصطفافي ستمكنانني من العبور بأمان، أو السير في الطريق إلى ما أريده دون مخاطر محدقة، أو مجازفة أو انقلاب يحدث على حُين غرة..

كانت لقاءاتنا في فترة الخطوبة قليلة وصعبة ومحدودة للغاية.. لقاء عابر وسريع لا أجد فيه فرصة للبوح، أو حتى السؤال الذي يستكشف كل منّا ما في نفس شريكه.. صرنا محروسين بعناية الأهل وما أكثرهم!! كل منّا محاط بالحرس المدجج بعيون زرقاء اليمامة!! كل إلى جانبه ملكين ومشرف، وحراس أفذاذ ويقظين!!

أحسست أن هناك من يعترض أو يستثقل مجيئي.. شعرت أن شقيقها الأكبر ربما كان له دورا في ذلك أو كان يضغط في هذا الاتجاه.. أنا أيضا كنت استثقل نفسي بسبب هذا الاستثقال الذي أراه واحس به.. أشعر بحرج شديد حياله.. ربما خفف عنّي هذا العبء انشغالي لفترة بدورة قادة وأركان كتائب.. لم أعد أذكر كم هي الفترة التي استغرقتها تلك الدورة، ولكنها كانت قصيرة ربما شهر أو أكثر..

ومن أجل أن أتحرر من هذا الاستثقال كان لابد أن أستعجل العقد.. وهذا معناه أن أكون بجاهزية كاملة لكل المتطلبات اللازمة؛ ولذلك لابد أن أعرف كل تفاصيل ومتطلبات العقد، وأكون جاهزا لكل الاحتمالات الواردة.. رغم هذا فأنا كل ما أعرفه أن المهر وفق القانون لا يزيد عن ألفين شلن، فيما الذي أملكه أو أذخره بالبريد مبلغ وصل إلى ثلاثة عشر ألف شلن.. مبلغ كهذا بدى لي في خيالي بحجم ثلاثة عشر ألف جمل.. جمل ينطح جمل.

الحقيقة أنني أول مرة فيما مضى من حياتي أستطيع أن أحبس مالا، أو أوفر شيئا اسمه "نقود"! أول مرة أستطيع توفير مثل ذلك المبلغ بعد اعتراك استمر طويلا مع يدي التي لا تستطيع أن تحبس المال.. كما أجهل كثير من تبعات ومستلزمات الزواج، وشروط الأهل التي يمكنها أن تفاجئني..

ومع هذا كنت مطمئنا إلى حد بعيد أن كل ما وفرته بات كافيا لأن يتصدى لكل متطلبات العقد والزفاف، بل وما بعد الزفاف أيضا بشهر.. اعتقدتُ إن الحال ليس مستورا فحسب، بل أيضا كافيا ووافيا ويفيض.. اعتقدت إن الأمور ستسير على هذا النحو السهل والمريح.

حددنا موعد العقد وذهبت أنا وابن عمي عبده فريد إلى بيت الفتاة.. استغربت لأول وهلة أنني لم أجد شقيقها الغضوب.. حيرني وأقلقني غيابه إلى حد بعيد.. عدم حضوره يعني أن عقد القران لن يتم، حيث وهو المعني الذي يجب أن أضع يدي بيده أثناء العقد.. شقيقها الغائب هو الأهم الذي افتقدته بين الحضور..

داهمتني الأسئلة واحتلتني الحيرة، حيث لم أجد في انتظاري غير أخوها الأكبر من الأم، و أخ أخر من الأم أيضا، وخالها أخ أمها وآخرين.. ظننت أن أخوها الغضوب معترضا على شيئا ما، أو أنه صار ينفذ انقلابا ضدي، ويريد فركشة كل شيء.. يريد أن يعدم حلمي الجميل ويعدمني معه.. وفي أفضل حال واحتمال يريد أن يؤخر موعد العقد حتى تتم تسوية خلاف ما داخل البيت لا أعلمه.. هذا ما ظننته أو فكرت فيه، وأنا أرى اجتماع العقد ناقص من كان يفترض أن يكون في صدره.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(21)
عقد قراني وتناقضاتي..
بعد أن كاد اليأس يدركني، تفاجأت أن أم الفتاة قد حسمت قرارها لصالحي، ورتبت أمور العقد على نحو لا يؤثر فيه غياب ابنها الذي كان يفترض أن يتولى أمر العقد.. بدت الأم وهي تدير الأمور من خلف جدار كأنها شجرة الدر.. أسندت لأخيها إدارة جلسة العقد، وكان خلف الزمام زمام تمسك به سلطة الأم القوية.. فيما أسندت لابنها الأكبر الغير شقيق اتمام العقد.. بدى لي أن الأم قد حققت إجماعا من الرضى والقبول لدى كل أفراد الأسرة، باستثناء ابنها النافر والغضوب.. هكذا خمنتُ الأمور، أو بدت لي على ذلك النحو.

بدأ خال الفتاة يدير جلسة العقد، وحدد ما يتعين دفعه بثلاثة عشر ألف شلن.. كان اطلاق هذا الرقم أشبه بمن نصع النصع.. إنه نفس المبلغ الذي أملكه بعد أن راكمته في حساب توفير بريدي خلال فترة ليست بالقصيرة.. استغربت على تحديد هذا المبلغ، وكيف تطابق مع رقم المبلغ الذي أملكه ولم أبح به لأحدا غيري!! هل هي الصدفة، فيما الصدفة نادرة وتصير أحيانا مثل المعجزة؟! لماذا هذا الرقم بالتحديد وليس غيره؟! هل لديهم شياطين أخبروهم بما أذخره على وجه الدقة والتحديد؟! هل قرأوا أفكاري؟! ما قصة هذا الرقم؟! رقم 13 هذا يحيرني فضلا أنه يثير قلقي وتوجسي، وزائد على هذا هو رقم معروف بشؤمه لدى عدد من الشعوب والمجتمعات..

كان اطلاق هذا الرقم أشبه بمطرقة هوت على رأسي.. حاولت أن أبدو متماسكا دون فائدة.. بديت لبرهة أشبه بمصعوق، ثم صرتُ شارد الوعي في تيه بعيد.. ظهر على وجهي كل شيء أردت مداراته عن العيون.. حتى الطفل الذي لازال حديث عهد في النطق والتهجّي صار بإمكانه أن يقرأ اللحظة في وجهي بسهولة شرب الماء..
حاولت بصوت خفيض مثقلا بالحياء أن أطلب إعادة النظر في المبلغ، فبدى لي الأمر غير قابل للنقاش.. لا توجد مساحة أو هامش لمن يدير الجلسة.. "رفعت الأقلام وجفت الصحف".. قُضي الأمر وأنتهى.. حتى القانون العسكري "نفذ ثم ناقش" لا يتم العمل به هنا.. كلما فعله الخال الطيب هو شرح التفاصيل التي لا تغير من واقع الأمر غير اضافة ما كان محسوبا أيضا أن تكون عليّ تكاليف حفلة "الصبحية" وعليهم تكاليف حفلة الدخلة أو ليلة العرس..

كنت أريد أن أضيف جملة في مجلس العقد وهي: "لستُ بخيلا ولكن الحيل مهدود" وهو قول بدا لي لاحقا إنه مجازف وربما تكون كُلفته فادحة.. ربما ينقلب الأمر على رأسي.. ألتقط اللحظة الحرجة ابن عمي عبده فريد وكان محقا.. وافق سريعا، ولملم الأمر بحنكة، ولم يترك فسحة للشيطان، والحقيقة لا أريد أتهم الشيطان الذي أفتريه.. إن مضيتُ فيما فكرتُ فيه لكان كل شيء أنتهي إلى زوال، وآل إلى حزن وخيم.. لو حدث مثل هذا كنت سأنزل على نفسي عقاب جم، وندم يرافقني إلى آخر العمر، ولن أسمح لنفسي في الحديث حتى في يوم العيد.

تم الأمر على هذا الإنقاذ المتدخل كقدر حسن، وتم العقد على المعتاد.. سمعتُ زغردة الفرح تنتشر من أمكنة البيت، وكانت أول زغردة فرح في حياتي أفسدها هم ثقيل وحيرة خانقة، وغصة سؤال تقول: من أين؟!! ما العمل لإكمال مشوار الزفاف؟!! أحتاج إلى سحر وساحر، أو قدر يقول للشيء كون فيكون؟! أحتاج إلى رحلة مضنية أخرى لأتمكن من جمع مبلغ يقارب المبلغ المدفوع أو دونه بقليل لأتم الزفاف، والانتقال إلى بيت الزوجية..

بديت في لحظة أكثر من مربكة أعتب فيها على نفسي وأقرّعها:
- أنا طالب فاشل جدا في الحساب.. ضعيف جدا في الاقتصاد.. حديث عهد وتجربة في شؤون الحياة.. عديم الخبرة في شؤون المقبلين على الزواج.. استصعب مراكمة النقود على نحو يفوق التصوّر.. لا أدري كيف ستكون النتيجة!! هل سأصل إلى يوم الزفاف أم إن الخيبة القاتلة ستحل محلها، ومحل من أحب؟!!

صرتُ أرزح تحت واقع ثقيل، ومُرغما على التعاطي معه.. أحسست أني والقانون نعيش مأساة واحدة.. يومها كانت الوحدة تطرق الأبواب، فيما كثير من الحقوق باتت أكثر من أي وقت مضى مهددة بالانتقاص والنيل..

طلبتُ عند العقد مهلة ثلاثة أشهر، غير أن هذه المهلة وجدتها في الواقع لا تكفي بأن أكون جاهزا لأصل إلى ليلة الزفاف، وإن ضربتُ على تبذير اليدين قيدا من حديد..

تذكرتُ أن لي أم حنونة في القرية تحبني إلى درجة لا تصدّق.. لن تبخل من أجلي بروحها إن طلبته منها.. أمي التي فدتني بعمرها في كل مرة.. أمي التي صبرت لأجلي وتحملت ما لا تطيقه أثقال الجبال.. فكانت وجهتي الأولى إليها..

أمي التي لطالما ألحّت هي عليّ بإتمام نصف ديني، فجاء الوقت لأطلب غرمها في الدين.. نصف ديني الذي ظننته أيسر من اليسر كان ثقيلا يفوق الاحتمال.. ليس آية من القرآن أو خاتم من الحديد، فالواقع كان أكثر ثقلا وجهما وشراسة في وجه خيالي الحالم، والشطح في البعيد..

أمي التي ظلت تهتم لأمري ونصف ديني سنوات طوال آن لها أن تساهم، ناولتني ما كانت تملكه وتحتاط به للزمن.. ثلاثون جرام من الذهب "شعيرية".. مهرها ومكسبها الذي خزنته لفرحة كهذه أو لأيام الشدة التي قد تداهمنا دون إنذار.. فرحت أمي لفرحتي حتى كادت تطير.. الحلم الذي ظلت تنشده أكثر من عشر سنوات صار ممكن يقترب..

أمي أيضا بثت في أبي روح التعاطف والمساعدة فساندني أيضا بسخاء.. أقبل إلى بيت أهل الفتاة التي عقدت عليها.. بدى كريما ولطيفا، بل وقالوا عنه أيضا أنه أجمل مني.. بعد هذا وذاك بدى تحقيق حلمي يطرق باب الممكن والقريب.. وعلى إثر هذا أهديت حبيبتي أغنية الفنان نهاد طربية (بدنا نتجوز عالعيد) وكنت أقصد الزفاف..

شهدتُ في المدة بين العقد والزفاف صراع محتدم وعنيف في داخلي بين الشاب المتحرر والمتفهم للحياة، والكهل المتخلف الذي اكتشفت أنه كان نائما داخلي.. صراع بين ثقافتين، تلك التي تشربتُ منها التحرر والتثقف، وتلك التي تثقل كاهلي وهي موروثة من عهد غابر وبعيد.. أحسستُ أن هذه الأخيرة كادت تفجر رأسي الذي سيتطاير بسببه كشظايا قنبلة..

بدت الغيرة الشديدة غير المبررة تجتاحني كطوفان نوح لأتفه سبب عابر دون قصد.. تفاصيل ماضيها أريد أن أعرفه بحذافيره ابتداء من اليوم الذي بدأت تعرف نفسها فيه.. حتى يومياتها الغير مكتوبة أريد أن أعرف ما بين السطور!! أريد التفتيش كشرطة الفكر في ذاكرتها الحية وذاكرتها المعطوبة.. أريد معرفة كل شاردة وواردة وتفصيل كان في الماضي أو الحاضر.. أريد أن أعرف حتى التوافه.. بديت أمام نفسي أكثر من رجل مريض.

صرت غيورا على نحو مجنون.. أريد أن أستحوذ عليها باستغراق مستبد.. أريد أن أتملكها من ألفها إلى ياءها.. بديتُ أمام نفسي أنانيا ومتوحشا وشريرا.. أذكر أنها لبست قميصا يكشف بعض من ظهرها لتخصني فيه، فانتابتني نوبة جنون وصلت أعنّتها.. لم أكن أعلم أنني بهذه الدرجة من السوء..
تهديد أطلقته يوما بارتكاب جريمة قاتلة ضد أحدهم.. حبي بات يلج كل يوم أكبر من سابقه نحو الجنون المنفلت.. اكتشفت أن داخلي رجل بدائي يسكنني بعنفوان مجنون لم أكن أعلم به من قبل..

في المرحلة الثانوية.. مراهقتي الأولى.. كنت شخص آخر يتوق لانفتاح عابر للقارات.. انفتاح إلى حد كان صادما لأحد أصدقائي الأعزاء.. ربما الحرمان كان بعض صانعيه.. كانت لدي أفكار تتوق إلى ما يتجاوز حدود الأرض والسماء.. انفتاح كاد يكون بلا حدود، وبعد أن تخرجتُ من الجامعة وعقدتُ اكتشفت غول شرير مرعب نائم داخلي دون أن أدري!! شعرت أم الفتاة للحظة أنها زوجت ابنتها لشيطان لا لبشر!!

كان يسكنني أيضا في نفس المكان طفل.. غاية في البراءة.. صادق إلى أبعد الحدود.. خالي من عُقد الحياة.. متحرر من كل موروث.. طفل لم يتلوث بعد بعقد الكبار.. ينفجر بالبكاء لموقف بسيط..

كان يسكنني أيضا شخص يفرح ويطير لأبسط دواعي الفرح.. تسيح عيونه بالدموع لأبسط مشهد مؤثر.. يبكي بحرقة دامية وهو يقرأ قصة أو رواية أو حتى وهو يشاهد فلم كرتون.. أحيانا يحتاج لأن يجهش بالبكاء؛ فينعزل وينفجر بالبكاء في وحدته ليفرغ ما فيه جوفه من حزن ثقيل يهد الحيل..

كنت أتناقض مع نفسي.. كانت نفسي مشحونة بتناقضاتها الكثيرة.. كنت أشعر أنني في ساحة معركة بل أشعر أن في داخلي صارت ألف معركة.. غير أنني كنت أطمئن وآنس إلى ضميري.. هو الحكم الذي أسلم له رايتي.. أنقاد بعده بأمان وثقة.. هو إمامي والحادي والدليل.. دليلي الذي أعتمد عليه في حل تلك التناقضات التي تعترضني وتهدد عقلي وتفكيري وسلامة الحواس.. كان ولازال ضميري ضامنا وحاضرا في حياتي حتى وإن تأخر بعض الوقت، أو وقع في غفلة أو لحظة حمق لا تدوم..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(22)
زفافنا..
زفُّونا بفرح وبهجة كأننا جئنا من الفضاء.. بشارة أكبر من نبّوة.. سر أكبر من مجرة.. حب أكبر من الوجود.. شلال من نور إلهي.. قطعة من شمس ملونة.. نار وسلام.. عشق وغفران.. محبة لا تنضب ولا تنحسر.. إحساس عشناه ونحن نُزف بركب فرح كبير..

في حضرة الحضور.. تلاشى الخجل الوخيم.. تبدد العيب المكوّم.. تآكلت القيود.. أطلقت عيون النساء من محابسها العنان.. أطلقت النهود الأشرعة.. والعذارى أطلقنّ الخيال والأجنحة نحو المدى باحثات عن فرسان أحلامهن..

تحررت الخيول من محابسها الكئيبة.. أمتطى الفرسان صهوات الجياد.. أطلقت الخيول صهيلها بجموح وعنفوان.. أحلام العذارى تسابق الريح.. سمعتُ صوت العشق الخفيض.. أنفاس الهيام.. هديل الحمام.. تموجات الحب.. اكتظاظ الحنين.. صخب الحياة التي كانت هامدة..

غنّت لنا الحقول والفصول والأودية.. توسدنا الأفئدة.. ترنمت العصافير الجميلة وأشجت مسامع من حضر.. نظرت إلينا عيون الحاضرين وباركتنا بالفرح.. أحاطت بنا الأسئلة.. شغفت بنا المعرفة.. زاد الفضول وازدحم العجب..

توجونا بالفرح الكبير.. اعتليتا المنصة كالضوء البهيج.. ليلة كانت أكبر من مملكة.. قعدنا على الفخامة كاليقين.. كشلالات الحنين.. لحظة عشناها للمرة الأولى.. بدينا وكأننا جالسين على عرش عظيم.. اكتظ الجمال أمامنا وطاف حولنا حتى بدينا وكأننا مركز الكون أو قلب المجرة..

رأيت أمامي فخامة عروش الروم وسجاجيد فارس.. المباسم أمامنا تضيء سمانا.. تبرق حدقات العيون الكثار.. ينهمر المطر الشجي على القلب والوجدان والذاكرة.. جمال العذارى فارط وباذخ من يلملم أطرافه.. من يحتوي شاسعات المدى؟!! هذا المحيط المديد!!

كل المروج هنا تحتفل.. أعناقنا تشتاق فن العناق.. والشفاه تتوق لأقداح الخمر المعتق بسنوات الحنين الطوال.. الكل رقص مع الدان ودندن.. الكل معنا غنّى واحتفل.. نسائم البحر وأنفاس الوجود.. في زفافنا الكل حاضر..

سعادتي تموج كما يموج المحيط.. تمتد إلى مدارات الفضاء بلا حدود.. هالات جسدي تنشرح وتتسع.. تنتشر في الآماد والفضاءات الفسيحة.. جسدي يضيء من وهج الفرح.. بهجتي تملأ الوجود المتسع.. شموسي تتوّج ذلك الليل ملكا على كل الليالي الداجنات..

غادرنا المكان إلى غرفة تشرف على البحر.. شنّفت مسامعنا صوت أمواجه التي غنّت لنا وباركت هي الأخرى أفراحنا.. النجوم تدور حولنا كسلال الورد، وخلفها تنساب فصول الربيع.. يتضوع الليل بعطر الملوك الذي يفتح في مسام القلب نوافذ العشق الفتي، وبوابات الفرح البهيج.. الأزهار تبارك أفراحنا، والزنابق تبتهل وتدعوا لنا.. تنثر علينا عبقها وعطرها المنتشر.. الكل بنا أحتفي وأحتفل..

تفلسفنا حتى مطلع الفجر المتوج بالربيع الندّي.. وفي الصباح أشرقت فيني بهية.. صباح كوني عظيم.. قطفتُ قلبي وردة حمراء.. في قلبها طاقة كونية.. متجددة لا تذبل ولا تشيخ.. كثافة من أريج الحب الذي لا ينتهي..
أهديتها جواهري.. أصدافي ولألئي.. مشارقي ومغاربي.. عصرتُ نبيذها من دمي.. أشربتها من منابعي.. ومضتها من لوامع أدمعي.. أنّقتها بكأستي التي تلمع بالعيون وتبرق بالحنين.. كل شيء لمحبوبتي عربون لحب يدوم.. توجتها ملكة على حبي العظيم.. جوهرة من دمي القاني نقطُّها وسط الجبين.. منحتها كنوزي وتيجاني وكل ممالكي.. سكبت روحي على راحتيها قبلة تسري خمرة ونشوة في روحها والجسد..

بعد إعياء وبحث قال القدر فينا كلمته.. ألتئمنا في واحد.. وأكتمل وجودنا والتأمنا بالوجود.. عِشرة واجتماع وحياة.. سبعة من البنين والبنات.. حياة وامتداد لا يموت..

مضى على زفافنا ما تعدى الثلاثين عام حافل بالكثير.. عطاء وإرادة وصمود.. كثير من الحياة والمشاركة وممارسة الوجود.. ومن تقلبات الحال وعبور المحال.. صراع البقاء ومشاهد العجب.. شاسعين بحبنا.. بصبرنا.. بجنونها.. وغفراننا لخطايانا العظام..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
قليلون من وقفوا معي من زملائي في المجلس
أعضاء بعدد اليد الواحدة تقريبا واثنتين بالكثير.. وحتى بعض هؤلاء معي ليس بقوتهم ولا بألسنتهم ولكن بأضعف الإيمان، وأقل من هذا إن وجد.
زملائي مغلوبين على أمرهم.. يثيرون حزني أكثر من أي شيء آخر..
لا يطالبون بحقوق شعبهم بل حتّى بحقوقهم.. إنهم مهزمين من الدخل بما لا يستعاد

أشرت في منشورات سابقة لأسماء بعضهم ممن ساندوني وكانوا شجعانا..
اشفق على المهزومين حد البكاء..

جلهم تعودوا على الاستجداء وما هو دونه.. يشعروك بالهزيمة المريرة..
أنتم فقط الداعمين لي في وسائل التواصل الاجتماعي.. بكم أنتم أنتصر.. أنتم سندي الأهم.. إنكم ترعبونهم.

تصوروا لم يجر أحد منهم أن يطرح في ثلاث أيام من جلسات المجلس حتى طلب الاعتذار لي من الرئاسة.. أو حتى يقول لهيئة الرئاسة استحوا قليلا.. وبعضهم لا حيله له ويلقي لومه علىّ لأنني فقط كما يظنون الجدار القصير القادرين عليه..
هؤلاء لن يستعيدوا وطن ولا حتى يستعيدون ذواتهم المختطفة..؟!

واحد فقط الذي قال في الجلسة: إن كان واثقا مما ينشر فلينشر.. إنه أحمد الخولاني، ومعه خالد الصعدي الذي أدخلوني إلى القاعة بقوة الدستور والقانون..

يريدون اسكاتي واقصائي هنا وهناك..
أمروا بسحبي
هددوني بتكسير رأسي
منعوني من دخول قاعة البرلمان
كل هذا لأنني فقط أمارس وجودي وحقوقي الدستورية

طلبتُ الحسابات الختامية التي استوعدوا في إحضارها مرارا فيما يفترض أن يوافونا بها كل عام.. لنا خمس سنوات بدون حسابات ختامية.. وأكثر من هذا يزيدوا يبهرروا علينا..

قليلون من ساندوني في المجلس بشجاعة.. قليلون حد البكاء..
أنتم فقط من ساندوني ووقفوا معي وخفف عني بعد أن كادوا يقتلوني كمد..
أنا جنديا مع أصغر واحد فيكم
اني اقبل أقدامكم وأقلامكم واناملكم..
أحذيتكم تياجان رأسي
إنهم دونكم بألف سنة..

رهاني عليكم لا عليهم..
أنني أعيش 17 عام من الخذلان في هذا المجلس العجوز
أنتم فقط من أراهن عليهم لا غيركم..
أنتم رهاني الذي لا يخيب..
لا يريدوني اكتب بالفيس
فيما بعض كلامي وأحيانا كله في الجلسات يتم قصقصته او تخطيه من الرئاسة والإعلام هذا إن سمحت لي الرئاسة اصلا بالكلام
وعدنا "رئيس مجلس نواب" صنعاء في الأسبوع الماضي بتقديم استقالته .

وهناك تسريب لا اعلم مدى صحته إنه قدم استقالته ل_ "هيئة الرئاسه" فرفضتها فيما كان يفترض تقديمها للمجلس الذي "انتخبه". على افتراض ان ما جرى يومها كان انتخابات.

طرحت اليوم الموضوع في المجلس وطلبت من يحيى الراعي الوفاء بما وعد به وطلبت من "هيئة الرئاسة" ان تحذو حذوه وتقدم استقالتها.

فرد الرئيس يحيى الراعي على طلبي بقوله:
ما نش مقدم استقالتي لو تقرح. ولا تتصور انهم بيرشوحك بدلي..

الاخيرة انا متأكد منها انها لن تحدث ولا يمكن ان يأتي اي أمل من هذا المجلس العجوز .. والاولى ايضا صرت متأكد منها أكثر.. ما طلبته ليس لهذا..
اني اعرف البئر وغطاه.
*
ظل الهامش الديمقراطي يتراجع وينحسر على نحو مستمر، واليوم البرلمان منقسم وقد بات أثرا بعد عين، بل صار لدينا برلمانين ينعقدا دون شرعية أو نصاب، بل وصل الحال حد المهزلة، وصار مدّعوهم يثيرون كثيرا من الضحك كالبكاء، وأكثر منه حزنا وشفقة.. يثيرون عميم الحزن على وطن أضاعوه..

وطن بات حطاما وقفوا على تلة خرابه يحصون إنجازاتهم الكبيرة.. بات لدينا برلمانين تابعين كذيلين، ومخرجاتهما تفتقدا أي شرعية أو نِصاب أو تمثيل غير لسلطات أكثر دمامة وفساد في عهد غير مسبوق من التشظي والظلام والإرتهان..

*
يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي
من تفاصيل حياتي
(6)
انتخابات هيئة رئاسة مجلس النواب
بعد انتخابي عضوا في مجلس النواب، وفي أول جلسة للمجلس في مايو 2003م جرى انتخاب هيئة رئاسة مجلس النواب.. كان كل شيء معد سلفا، ولكن على نحو سيء و ردئ.. كتل الأحزاب اتفقت على أسماء هيئة الرئاسة مسبقا، وعلى أن يكون الشيخ عبد الله الأحمر رئيسا لمجلس النواب، ويحيي الراعي نائبا له..

قبل افتتاح الجلسة التي يفترض أن يتم فيها انتخاب رئيس المجلس وهيئة الرئاسة، شاهدت أحد النواب يجول أمام المنصة، وكان بعد كل عدة دقائق يخرج من جيبه قطع من خبز الذرة الصفراء، ويُناول بعض النواب.. كان هذا المشهد بالنسبة لي غير متوقع أن أشاهده تحت قبة البرلمان، ولم أكن أتخيله قط من قبل، ولكنني شاهدت بعد ساعة ما هو أسوأ منه..

شاهدت هذا النائب الذي كان قبل الجلسة يدس يده في جيوب كوته الجانبية، ويخرج منها قطع الخبز، ويناولها بعض النواب ليأكلوها، شاهدته فور التزكية، وهو يصادر حقوقنا من مقعده قرب المنصة، بل وينط إلى قرب المنصة وهو يصرخ “بالإجماع بالإجماع” فيما النواب الذي كانوا يتناولون قطع الخبز منه يصرخون بعده: بـ ”الإجماع.. بالاجماع..” كان يكررها مرتين وثلاث.. لقد صعقني بل وسحقني هذا الموقف في أول جلسة من جلسات هذا البرلمان التابع والمشّرع للفساد والإلحاق وقلة الحياء..

هذا النائب هو نفسه الذي سافرت معه في العام 2013 على الأرجح إلى دولة أجنبية، وكانت معنا في هذه الزيارة الغير رسمية فتاة عشرينية على الأرجح، وبرفقتها امرأة أخرى تحمل شهادة الدكتورة في الأربعينات من العمر.. عرفت لاحقا أن نائبنا الستيني أراد أن يهدي الفتاة قطعة خبز، غير أن الفتاة اعتذرت وغادرت المكان.. علمت لاحقا أنه ألح عليها وحاول إرغامها أن تقبل هديته، ولكنها عافت الخبز، وصرخت حتى علم من كان في المكان بقصة الخبز.. ذكرني هذا الموقف بذاك!

“التزكية” وسيلة سيئة للغاية في أي عملية تتقول الديمقراطية، ولا سيما في مجتمع هش ديمقراطيا يخاف سطوة السلطة، ولا زالت ثمة بوصلة تتجه نحو النفاق والتبعية والفساد العريض..

تبدت لي هيئة رئاسة مجلس النواب قبل انتخابها، وهي موعودة بالرئاسة أشبه بحيوان مفترس كامن، ينتظر اللحظة بتخفي وصمت، وثم يثب بلهفة وسرعة وجوع على فريسته وينقض عليها.. إنها منصة المجلس.. وقبل أن يسجل أحد منّا اعتراضه كان المفترس قد وثب على المنصة كضبع يحتفل بغنيمته على الرغم أن الغنيمة كانت حبيسة، ولا يوجد من ينازع عليها، ولكن هو العجل والتهور الذي لا يطيق صبرا ولا مهلا..

اتفقت الأحزاب على الوليمة وعلى تقاسم الرئاسة واللجان، ولكن كان المُخرج سيء جدا ومستهتر إلى حد بعيد.. صدمة أخرى أعيشها في هذا المجلس من أيامه الأولى.. صدمة ثور "بيت معياد" وصدمة قراءة القسم الدستوري الذي لم يحسن البعض قراءته، وعَلِق بعضهم في منتصفه وبعضهم في أوله، أما الثالثة فكانت انتخاب هيئة رئاسة المجلس.. عشت ذهولي من أيامه الأولى، وكان الفارق صادم بين سقف توقعاتي والواقع الذي وجدته أمامي..

كنت مذهولا مما جرى في تزكية هيئة الرئاسة.. حاولت اقف واعترض، ولكن كانت الجلبة أكبر من صوتي.. وهيئة الرئاسة تستولى على المنصة كضرغام، بل كضبع لم يأخذها من عنقها، بل بقر بطنها وأخذ يلتهم أحشاءها من وسطها قبل أن تلفظ أنفاسها، فيما الأدعياء من النواب الذين يمثلون بالشعب كانوا يصرخون من القاعة “بالإجماع .. بالإجماع”.

أذكر أن مقعدي كان جوار عضو كتلة الإصلاح النائب زيد الشامي.. لم أكن أعرف يومها أن زيد الشامي تابع لحزب الإصلاح.. كان بجانبي هادئا ووقورا.. أذكر أنني أبديت سخطي على ما حدث، وتحديدا على الطريقة التي تمت بها انتخاب هيئة الرئاسة، فيما علق هو على سخطي بقوله: طالما يوجد اتفاق بين الكتل والأغلبية موجودة ما كان في داعي لتمرير الأمور بهذا الشكل وتلك الطريقة.. كان بالامكان كل شيء يتم بسلاسة..

كان هذا أول مرة اعرف أن الأحزاب السياسية تتفق من برها إلى بحرها.. أول مرة أعرف أن الكتل البرلمانية للأحزاب تتفق.. فيما نحن المستقلين لم تكن لنا كتلة أو اجتماع بعد.. المستقلين الذي نقصوا من 14 عضو إلى أربعة أعضاء في صفقات بيع سابقة ولاحقة غير معلنة..

كما كنت قد شاهدتُ قبل هذا أعضاء مجلس النواب يقسمون فردا فردا بالله العظيم أنهم يحترمون الدستور والقانون، ولم يلبث البعض قليل من الوقت حتى خرقوا لائحة المجلس النافدة والمقرة بقانون نهارا جهارا وبصورة عبثية ومستهترة للعقل والمشاعر، علما بأنه كان بإمكان هؤلاء أن يمرروا ما يريدون بطريقة سلسة وديمقراطية، ووفقا للقانون، بدلا من أن تجري الأمور على نحو يدمي العين ويفطر القلب.. لقد صعقت بمشاهدات لم تكن تخطر ببالي ولا بخيالي.. مشاهد عصية على النسيان.
قبل عشرون دقيقة فقط فاجأوني أبنائي بهدية متواضعة في أول دقيقة تدخل من يوم عيد ميلادي.
كانت ولادتي في 16 فبراير 1962
تمنياتي أن تنتهي هذه الحرب وأن تكونوا في حال أفضل..
وفي هذه المناسبة أهديكم هذه السلسلة وهي بعض من كتاباتي التي أعيد نشرها هنا..
قبل وجودي أستهليته بحثكم على كتابة مذكرات حياتكم.. أنتم العظماء لا هم
.......................................................
بعض من تفاصيل حياتي
السلسلة الأولى
(1)
اكتبوا مذكراتكم وتاريخكم.. أنتم العظماء
اُكْتُبُوا مُذكِّراتِكمْ وسِيَرَكمْ، وتَجَارِبَكم، ومعاناتِكُمْ، وتاريخَكُمْ.. اكتبوا عمّا عِشتموه أو كنتم عليهِ شُهودٌ.. أنتم أوْلَى وأنْزَهُ مَنْ يكتبُ التَّاريخَ بموضُوعيَّةٍ تُقاربُ الحقيقة.. لا تدَعُوا المنتصرينَ يغتالونَ الحقيقةَ، ويُزيِّفُونَ الوعيَ، ويُفسدونَ التَّاريخَ والحياةَ، والهواءَ الذي تتنفسونه..

العظماءُ أنتُم لا هُمْ.. أنتُمُ الَّذينَ لا تُشعِلونَ الحُروبَ الضَّروسةَ، ولا تَصْنعُونَ المآسيَ العِراض، ولا تستبِدُّونَ على الشُّعوبِ، ولا تَنْهبونَها، ولا تُمارسونَ الطُّغيانَ أو بيْعَ الأوطانِ.. أنتم ضحايا الواقعِ الجَهم، والظُّلمِ المُسْتبِد، والاضطهادِ العنيف..

أنتُم أعظمُ مِن الّذينَ صنعَتْهُم الأموالُ القذرةُ وماكناتُ الإعلامِ والإعلانات الكاذبة، من صنعت شهرتهم وسائل الدِّعايةِ ومساحيق الزَّيف.. أنتُم أعظمُ مِن الّذينَ تَوالدوا مِنْ مخرجاتِ الحُروبِ الدميمةِ والخياناتِ الكبيرة.. أنتُم العطاءُ والجمالُ كلُّه، بكدِّكُم وبساطتِكُم، وأحلامِكُمُ الجميلةِ.. نحنُ بعض منكم، وإليكُم ننحازُ ونَنْتَمِي..

أنتُم أكبرُ مِنْ نُجومِيَّتِهمْ ومِنْ زَيفِهِم،ْ وخَوائهم الكبير.. رُبّما تخلّتْ عنكمُ الحظُوظُ والأقدار.. رُبّما الفارقُ أنّ الأقدارَ هي مَنْ دعمَتْهُم أو تواطأتْ معهُم، وفي المقابلِ خانتْكُم أو خذلَتْكُم، أو لم تأخذْ بأيدِيْكم كما فعلَتْ معَهُم.. ومع ذلك تَظلُّونَ أنتم العظماءُ الَّذينَ تَسْتحِقُّون كلَّ حبٍّ وتقديرٍ، واحترام..

عظمتُكُم أنّ حياتَكُم حافلةٌ بالكثيرِ مِنْ الكِفاحِ والعطاءِ، والضمير، فأزدتُموها عظمةً بِتواضعِكُم الجَم، ونُكرانِ ذواتِكم، فكنتم عظماءَ مجهولين أو مُغيّبين في حاضركم الذي عشتموه.. ومعَ هذا تُلحُّ الحاجةُ لمعرفةِ الكثيرِ مِمّا كان يجبُ أنْ يَعرِفُوه ويَعْلمُوه مَنْ جاء بعدِكُم، إنّه حقٌّ لهم عليكُم.. لا تنازلَ عنهُ ولا انتِقاصا مِنْهُ طَالَما كانَ بِإمْكانِكُم أنْ تؤدُّونَهُ أو تقُومُونَ بِه..

دوِّنوا ما لم تُدوِّنُوه.. اُكْتُبُوا عَمّا حاطَ بِكُم وما عِشْتُمُوهُ مِنْ تحدٍّ كبيرٍ ومعاناةٍ ثقيلةٍ.. اكتبوا عن أفراحِكُم وأحزانِكُم، وتجارِبِكُم، وتاريخِكُم وعَمّا فعلَتْهُ الحروبُ بِكُم، وكيف تآمرَ عليكم عالَمُ الرأس مال الباذخُ بالتوحش والقبح!! وكيف تعمَّدَ إفْنَاءَكُم قتلاً وجوعاً!! أناطَ بِكم الواجبُ اليومَ، أنْ تُساهِمُوا بجُهدٍ جهيدٍ في إعادةِ صياغةِ وعيِ مُجْتمعِكُم والأجيال القادمة.. ما أحوجَنا وأحوجَكم والأجيالَ إليه..

اُكْتبُوا تاريخَكُم قبلَ أنْ يزوِّرُوهُ أو يُفسدُوه.. إنّهُ تاريخٌ عظيمٌ يستحقُّ القراءةَ والإيْغالَ في الفَهْمِ، واسْتِكْناهَ العِظاتِ والعِبَرِ منه.. استحِثُّوا ما فيكم مِنْ عَظَمَةٍ وسُمُو، وعزَّةِ النفسِ دونَ أنْ تَبْخسُوا غيرَكُم إلّا بِقدرِ تعالِيهِ عليكُم، وما يكتظ به مِنْ أنانيَّةٍ وغُرورٍ، وخَوَاء.. كُونُوا كِباراً، ولنْ تكونوا كذلك إلّا بقدرِ انتمائكُم للإنسانِ والضميرِ والمستقبل..

اُكتبوا ما عِشتمُوهُ لِيهتديَ ويتّعِظَ مَنْ يأتي بعدَكم.. ستجدونَ فيهِ الكثيرَ ممّا يستحقُّ القراءةَ والإلهامَ والعِضةَ.. رُبّما حياتُكم أَوْلَى بالتّدوينِ والأهميّةِ مِنْ سيَرِ تلك الّتي زعَمَتْ الأقاويلَ إنهم عظماءُ وأفذاذٌ وقادةٌ كبار، وهم في الحقيقةِ مُجرّدُ سفاحين ومجرمينَ، وفاسدين.. نهابين ولصوصٌ.. قراصنة وقطَّاعُ طُرقٍ.. تجارُ رقيق نُصبت لهم التماثيل في الساحات العامة.. طغاةٌ ودجّالون.. مستعمِرون وحكّامٌ مستبدون..

أنتم العظماءُ لا هُم.. وربّما هُم الأصفارُ وأنتم الأرقامُ الّتي وضَعتْ لَهُم قيمةً ومكانةً دونَ أنْ تدروا أو تعلموا؛ فصيّرونَكم أتْباعاً وقِطْعانا وعبيدا منقادين.. وفي المقابلِ كثيرٌ من العُظماءِ باستحقاقٍ وجدارةٍ لم نسمعْ عنهُم، ولم تلتفتْ لهُم شُهرةٌ، وتَمَّ تجاهلُهُم، أو تغْييبُهم بِعمْديةٍ مستغرقةٍ، رُبّما بعضُها أو جلُّها جاءت من الّذينَ كانوا يَمْنعونها عنهم، بلْ ويمنعون أيضا على المجتمعِ العيشَ الكريمَ، ومعهُ الضوءَ والهواءَ إنْ استطاعوا..
كثيرونَ مِن العُظماءِ لَمْ يَنالوا حقَّهُم في التَّقديرِ الّذي يجبُ، أو لم يَصِلوا إلى المكانةِ الجديرين باستحقاقها، لِمَا أحاطتْ بهم مِنْ ظروفِ منعٍ وصَدٍّ، وابتلاءٍ، أو رُبّمَا لأنَّهم سَبِحوا ضدَّ التّيَّارِ الجارفِ في مَجْرَى النَّهرِ العنيد شديد الإنحدار، ورُبّما لأنَّ عظمتَهُم لم تصِلْ إليها الأضواءُ كما كان يُفْتَرِضُ، أو لأنّ العُظماءَ المُشْبعينَ بالحُرِّيةِ كانوا كِباراً لا يسقطون، ولا تَروقُهُمُ العُبُوديَّةُ والإذعانُ والنفاقُ، والِابْتذال..

عظماءُ كبارٌ وأبطالٌ ميامينُ لا نَسْمعُ عنْهُم. رُبَّما لأنَّه ليسَ لديْهِم ماكيناتُ إعلامٍ تساندُهُم وتُسَوِّقُهُم، وتَصْنعُ لهُم النُّجُوميَّةَ والشُّهْرةَ في عصرِ التّفاهةِ والتّافهين، ورُبّمَا لأنَّهُم عاشوا في بِيئةٍ طاردةٍ لهم ولآمالِهم، وأحلامِهم، وتطلُّعاتِهم، ولم تُعْطِهِمُ الحياةُ فُرصةً مُتساويةً لِلسِّباقِ مع غيرِهِم مِمَّن أحرزوا البُطولةَ، وهم في حقيقتِهِم خَواءٌ ومحضُ زَيْفٍ..

كونوا معَ العظماءِ والأبطالِ الميامينِ، عاشقيّ المجدِ الّذينَ رَاغمُوا الظّروفَ وواجهوا التَّحدياتِ، وعبروا النَّفقَ المُظلمَ والطويلَ إلى واجهةِ الكَوْنِ وعالَمِ النُّور.. كونوا مع هؤلاءِ العُظماءِ الّذينَ يَسْكنونَكُم أو يعيشونَ في دواخلِكُم دونَ خُيَلاءَ أو تعالٍ ونَرْجسيَّة..

أنصِفوا صُنَّاعَ المجدِ المُتوَارِينَ عن العَرْضِ، أو توارَوا عنْهُ خجلاً وحياءً، وتوَاضُعاً أو كانوا مِنْ ناكري الذَّات، أو خذلَتْهُمُ الأقدارُ، وابتلتْهم النُّحوسُ الكثيرةُ، ولم تُعْطِهِمُ الحياةُ فُرْصةً مُتساويةً معَ غيرِهِم.. انحازوا للمستقبلِ وللإنسانِ أينَمَا كان، وستكونون عظماءَ كباراَ بشهرةٍ أو دونَ شهرة..

*

(2)
قبل وجودي.. حيرةٌ وأسئلةُ..
لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالمِ الصاخبِ بالجلبةِ والضوضاءِ! المزدحمِ والمحتدمِ بالصراعِ والغضبِ والجنونِ.. المليءِ بالقتلِ والمظالمِ والبشاعاتِ.. عالمٍ يُنحرُ فيه حقَّ الحياةِ باسم الحياةِ، وتُصلب فيه العدالةُ باسمِ العدالةِ، وتغيب عنه المساواةُ في تكافؤ الفرصِ حدَّ العدمِ أغلب الأحيان!!

جبابرةٌ وطغاةٌ حكموا العالمَ ولا زالوا، بصيغةٍ أو بأخرى يحكمونه إلى اليومِ .. بنوا مجدهم الذي يتغنون به، على حساب دماءِ الشعوبِ المنهوبةِ، واستباحة كرامةِ الإنسانِ، وجوعهِ ووجعهِ وتبديد أحلامهِ ورجائه..

فقراءٌ وبسطاءٌ ومحرومون.. مخدوعون ومبتلون بلعنات الأقدارِ وسوءِ الطالع وعاثرِ الحظِ.
الحياةُ بالبر والبحر والجو كاسرةٌ ومتوحشةٌ، وممتلئةٌ بالظلمِ والألمِ والجنونِ..

عالمٌ تمَّ حكمُه ولا زال محكوما في الغالب بشريعة الغابِ، وشروط البقاء فيه، لازال للأقوى والأدهى والأمكر، وكثيرون ممن يسفكون الدمَ باسم الله، أو من أجلِ السلطة، أو من أجل أنانيةٍ مفرطةٍ ومستبدةٍ، وجشعٍ يزداد ويستمرُ ولا يتوقف.

*

كيف جئنا؟! هل وُجِدنا صدفةً أم ضرورة، أم هناك جوابٌ آخر، أم أنَّ الجوابَ سرٌّ عصيٌّ في عالم الغيبِ؟!

سؤالٌ يمكن أنْ يُكلِّفك حياتك وتُزهق روحك باسم الله والذود عنه.. هناك اسئلةٌ كثيرةٌ منطقيةٌ ومعرفيةٌ الإعلان عنها، أو البحث عن إجابة لها، ربما تزُج بك في صدام محتدم مع واقعك الثقيل والقاسي، أو تدفعك إلى المعتقلِ، أو تُودي بك إلى حتفك الأكيد، أو تُصيُّرك قربانا، وجسر عبورٍ لجاهل، يبحث عن الجنةِ والغفرانِ بإزهاق روحك؟!

يرى البعضُ أنَّ الحياةَ هي شقاءٌ وتعاسةٌ وعذابٌ للنفس.. وأنَّ الفوزَ بها إنَّما هو فوزٌ بالألمِ والنَّدم والوهمِ، وما يتصوره البعضُ خسرانا، يراه البعضُ الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياةِ وأوجاعها ومشقَّاتِها التي لا تنتهي إلاّ بالموتِ.

فمثلما هي الحياة عند "راسل" هي المنافسة، وعند "نيتشه" هي القوة، وعند "بيكاسو" هي الفن، وعند "غاندي" هي الحُب، وعند "اينشتاين" هي المعرفة، وعند "ستيفن هوپكنز" هي الامل.. فإنها عند "دوستويفسكي" هي الجحيم، وعند "سقراط" الابتلاء، وعند "شوبنهاور" هي المعاناة..

***

في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضةَ، ويتخلَّق في رحم الأمِ، وما عدا ذلك يفنا ويموت. فإيُّهما المحظوظُ، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموتُ والفناءُ؟!
الفيلسوف "إميل سيوران" يرى إن المحظوظين هم أولئك الذين لم يوصلوا إلى البويضةِ، أما التعساءِ فهم من وصلوا لها..

ويرى البعض أنَّ ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في الحياة.. فكافكا يقول: أول علامات بداية الفهمِ أنْ ترغب في الموتِ، وأنَّ الإفراطَ في الوعي وإدراك الأشياءِ اشدُ خطورة من المخدراتِ.. ويرى سيوران أنَّ الوعي لعنةٌ مزمنةٌ، وكارِثةٌ مهُولةٌ، ويؤكد دوستويفسكي إنَّ الإفراطَ في امتلاك الوعي علَّةٌ مرضيةٌ حقيقيةٌ وتامةٌ..
*
نجاحُ الواحد في سباق الـ 300 مليون، هو الواحد الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجودٌ لو حاكيناه ربما أختاره البعضُ على أمل، وربما رأى البعضُ في المجهولِ شك، ولا أمل في عالم مملؤ بالوهمِ والأكاذيبِ..

ربما رفض البعضُ هذا الوجود لو أُتيحت له الحرية و الإرادة في الاختيارِ.. الاختيارُ الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفةٍ مستفيضةٍ..

الأديبُ والكاتبُ الروسي الشهير "فيودور دوستويفسكي " يقول: لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضتُ الوجودَ في ظلِّ ظروفٍ ساخرةٍ إلى هذا الحد." وفي موضع آخر يقول: "أوليس من الجنونِ أن نأتي بأطفالٍ في ظل هذه الظروف الحقيرةِ."

الفيلسوف "اميل سيوران" يقول: "مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوانٍ ، يُولد إنسانٌ يشقى سبعين عاماً".. «اقترفتُ كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً».
والشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أوصى أن يكتبوا على قبره:
"هذا ما جناه عليَّ أبي ... وما جنيت على أحدِ"
فيما تبدو الحياةُ في نظر فرانس كافكا حرب: "حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف".

فيما يرى أنطون تشيخوف أنَّه مع الموت ستكون أنت الرابحُ الأكبرُ، فلا حاجةَ للَّهث وراء الطعامِ ولا الشرابِ ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة ابداً للجدالِ مع الآخرين..
أمَّا الكاتبُ والأديبُ الأمريكي الساخر مارك توين فيقول: "يُولد الناسُ ليؤلِم بعضهم بعضا، ثم يموتون"

وسخر بعضهم من عبثيةِ الحياةِ كمثل الذي قال: خُلقتْ القطط لتأكل الفئران، وخُلقتْ الفئرانُ لتأكلها القطط.
وتساءل آخرون: إذا كنّا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعةُ نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..

*

كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضروراتُ في عملية طويلةٍ ومعقَدةٍ، وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!

سلسلةُ طويلةُ من الصدف والضروراتِ لا تكُف ولا تتوقفُ، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسيرُ، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمرِ نهاية!
المكانُ لا يكُفُّ عن السير، والزمنُ يتسرمد للأبد، ومآلاتُ الكون غامضةٌ ومجهولةٌ.
ولكن لماذا من علِق منّا في رحمِ الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى واجهةِ الكونِ صارخا بالبكاءِ؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلانُ وجود، أم هو رفضٌ واحتجاجٌ على هكذا وجود؟! هل هو فزعٌ من العالم أم خوفٌ من المجهولِ؟!

لماذا لا نخرج إلى واجهةِ الكون فرحين أو مقهقهين، أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولودُ من بني البشر لا يستهلُّ حياته إلاّ بصرخةِ بكاءٍ حادةٍ؟! هل صرخةُ البكاء هذه هي تعبيرٌ عن رفضٍ لقدرٍ لم يخترْه هذا المولود، أو لم يكن لإرادته فيه شأنٌ أو خيارٌ؟!

يحاولُ أنْ يجيبَ الشاعرُ والكاتبُ المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير بقوله ساخرا: "في لحظة الولادة نبكي؛ لأننا قادمون إلى مسرحٍ مكتظٍ بالحمقى".
بين صرخةِ الولادةِ وشهقةِ الموت عمرٌ مُثقلٌ بالمعاناةِ، وعَالَمٌ من المتاعبِ والأحزانِ، والأشياء، والتفاصيلِ.

عندما تتعثر خطاك على الدوامِ، ويلحقُ السوءُ بحظك كلعنةٍ لا تفارقك، وتخيب أمنياتُ حياتك، وتبطش بك الأقدارُ يميناً وشمالاً، وتصيرُ فريسةً للحرمانِ والمتاعب.. هل تكفرُ بنعمةِ مَنْ كانَ سبباً ومعجزةً في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كلَّ ما هو تعيسٌ وخائبٌ؟!

*
أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاءِ لما أتيتُ إلى هذا الوجود، وكنتُ في حكم العدمِ.. وينطبقُ هذه على التراتُبياتِ كلّها.. إلى كلِّ الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.

ماذا لو أجهضتني أمي في بطنها، حالما كنت لا أعي، ولا أفقهُ شيئاً ولا أبالي بألم؟!
ماذا لو انتحرتُ يوماً، أسحقُ فيه أنانيَّتي، وغريزةً تتشبث بحياةٍ من جحيمٍ، أبقتني مثقلا بمعاناةٍ مؤلمةٍ، وآلامِ عمرٍ مُجهد، امتدَّ طويلاً حتى شارف على بلوغِ كهولته؟!!

وماذا نقول عمّا أسمَوه قتل الرحمةِ إشفاقا بصاحبه، وخلاصا من مرضٍ أدركهُ اليأسُ، وألمٌ يلسعُ كالنارِ، لا يُوقفه إلاّ عتقُ النفسِ وتحريرُها من محبسِها الجسدي الضيّق، والأشدِّ من محبسِ الحديدِ..؟!!

*

(3)
زواج "أمّي":
تزوجت "أمّي" مرتين قبل أبي.. كنتُ يومَها في حُكمِ العدمِ.. يبدو ذلك العدمُ حالَ مقارنتهِ بوجودي اللاحقِ خالياً من كلِّ شيء.. فراغٌ كبيرٌ، لا مكانَ له ولا زمان.. فراغٌ لا وعاءَ له ولا حدود.. ليس فيه همٌّ ولا معاناةٌ، ولا جحيمٌ.. لا يوجد فيه أيُّ مظهرٍ من مظاهرِ الإحساسِ، أو الوجود من أيِّ نوعٍ كان.. حالةٌ لا يمكن تصوُّرُها أو وصفها بغير العدم أو ما في حكمه..

لتجد مقاربةً لفهمِ عدمك، عليك إطلاقُ عنانِ وعيك، لتتصوَّرَ هذا العدم.. عليك أنْ تتخيَّلَ عدمَك إنْ كنتَ تَغرقُ في الخيالِ، والتفكيرِ العميقِ.. عليك أنْ تطلقَ الأسئلةَ في فضاءاتِ استكشاف الوجودِ واللاوجود..
اسأل وعيك إنْ كنت تعي: ماذا كنتَ قبلَ ألفِ عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكونُ قبلَ مليون سنة؟! وماذا كنت تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى الصفر لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفرِ دون..

زوج "أمّي" الأول:

أعودُ من هذا التِّيه في العدمِ واللاوجود، إلى الوجودِ، وما أنا بصددهِ هُنا..
كان زوجُ "أمي" الأول من أقاربها.. كان هذا الزواجُ على "أمي" باكرا، ولم يغادرْ عمرُ "أمي" عندَ عَقدِ هذا القران، سنَّ الطفولةِ الباكر.. كانت قاصرةٌ، وعمرها لم يتعدَّ في أفضل الأحوال الـ 12عاما، فيما الشابُ الَّذي تزوجها كان يَكبُرُها بأعوام..

استمرَّ زواجهما أربع سنوات، أو دونها، أو أزيد منها بقليلٍ، ولم تنجب "أمّي" من هذا الزواجِ الذي جاء ربَّما قبلَ طمثِها الأول بسنين، ومع ذلك لم اسمعْ من أمِّي يوما أنَّها ذمّت هذا الزواج، أو قدحتْ فيه، إمَّا لجهلها أو لرضاها، أولبقايا ذكرياتٍ وحنينٍ جميل تنزع إليه..

أراد زوجها أنْ يذهبَ بها معهُ إلى مدينة عدن، حيثُ يعملُ ويقيم، غيرَ أنَّ أبَ الزوج كانت له سلطةُ القرارالأولِ في الرفضِ أو القبول، وكان منه المنعُ والرفضُ جازما وحازما، وفرض على الزوجين خيارهُ هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيلِ.. كان بإمكانهِ أنْ يتدخلَ ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجتهِ في القرية، وهو ما حدث، وكان باب لمشكلةٍ يوما تداعت..

كان على الزوجةِ رغمَ صِغَرِ سنّها، بذل ما في وسعها لخدمةِ أسرة الأب وطاعته، أمّا الابنُ فيجبُ أن يكون خاضعا ومطيعا، لا يُرد للأب أمرا، ولا له حقُّ أنْ يعترضَ أو يغالبَ إرادةِ والدهِ إذا ما شاءَ وأراد..

كان من المعيبِ، بل ومن المعصيةِ والعقوقِ أنْ يتصدَّى الابنُ لرغبةِ وسلطةِ أبيه، حتى وإنْ سحقَ الأبُ سعادةَ ابنهِ وحُبهِ لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطةُ أسرةِ الزوجةِ هي الأخرى، وبدعوى حمايةِ ابنتهم من تعسفِ أسرةِ الزوجِ، فتبدأ المقامرةُ بمصيرِ الزوجيةِ ومستقبلِها، وكثيرا ما كان يؤدّي هذا التدخلُ والتضادُ، إلى الطلاق والفراقِ الكبير..

تدخلتْ سلطةُ "أم أمّي" وكانت الأم ذو شخصيةٍ نافذة، وإرادةٍ قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجين يُجهشانِ بالبكاء، لا يريدان طلاقا أو فراقا.. الاثنان يُجهشانِ بالبكاء، ويزيد من مرارة الحالِ، أنْ ليس لهما في مصيرِ زواجهما وحبِّهما حولا ولا قوةً، ولا يدَ لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرةُ أربابِ الأسر، وباحتدامِ الخلافِ بين أبِ الزوجِ وأمِّ الزوجةِ، وعدم الاكتراثِ والحفاظ على ما أمكن، خسر الحبُّ المغلوبُ بالطاعةِ والمقامرة، وأنتهي به المآلُ الى الُخُلع، والفراقِ إلى الأبد..

***

زوج "أمّي" الثاني:

تزوجتْ "أمي" للمرةِ الثانيةِ من منطقةٍ بعيدةٍ نسبيا، ومن غيرِ الأقارب.. ولكنْ هذا الزواجُ كان قصيرا وعابرا.. لم تمكث "أمّي" لدى هذا الزوجِ الطيبِ والكريم، غيرَ أسابيعٍ قليلةٍ، كان الحبُّ ناقصا، ومن طرف واحد، ولم يستطعْ سخاءُ الزوجِ وكرمِه، أن يسدَّ ما نقصَ من الحب الفاقدِ نصفُه..

لقد تم زفاف "أمّي" في زواجها الثاني، دون سابقِ معرفةٍ بمن أرادها للزواج، بل ودون أنْ تراه أو تُستشار، ودون أنْ يكونَ لها كلمةٌ في قبولٍ أو رفضٍ أو خيار.. لم تراه "أمي" إلا في ليلةِ الزفافِ.. كان الزواجُ بالنسبةِ لـ "أمي" ورُبّما للزوجِ أيضا، أشبهَ بالبختِ، وضربِ الحظ، واليانصيب..

يبدو أنَّ قلبَ "أمي" لم ينجذبْ لمن أختاره لها أهلُها، أو لمن كان له طلبُ اليدِ والاختيار.. ربما أخفق حظُّها، أو كان قلبُ "أمي" مُحبطا، أو معلَّقا في رجاءٍ يائس، أو ربما لازال بعضٌ من الحبِّ القديمِ ينبضُ بسرٍّ وكتمان.. فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتَها، وتظل في الذاكرة فترةً قد تطول وتمتد إلى الكهولةِ، ويظل الحنينُ إلى القديم يرفض أن يغادر أو يموت..

ما لبث عَقد هذا الزواج أن انفض وأدركه الفراقُ باكرا، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنّه أدركه الحمل، ورُزقت "أمي" منه بنتا، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفةٍ باهظةٍ، تستمر من الولادة حتى آخر العمرِ.. واقعٌ اجتماعيٌّ ثقيلٌ وظالمٌ، يحملها على أن تدفعَ ضريبةَ وجودِها وجعا وإرغاما، وانتقاصأ يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها الترابُ!.

لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجةِ أخطاءِ غيرِه، وعلى هذا النحوِ من الكلفةِ الباهظةِ التي ترافقه حتى اللحظةِ الأخيرةِ من العمر، بل وتمتدُّ إلى تحتِ الترابِ؟! لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئةٍ وأخطاءٍ لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعوها هم؟!
لماذا الأبناءُ والأحفادُ يتحملون أخطاءِ وخطايا الأجدادِ البعاد؟!! لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا هو الحال ـ أن يتحملوا خطيئةَ أمِّنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمانِ، إن كان للزمان آخر وختام؟!
أختي هذه بنقاء البلور وبساطةِ القديسين.. مستسلمةٌ للأقدار بصبر من ليس له حولا ولا قوة.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمنِ أخطاءِ آخرين.. مستسلمةً لأقدار لم تصنعْها، ولم تشاركْ في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا. عاشت طفولةً بائسة، وزُوجت وهي طفلةٌ لرجلٍ يكبُرها بحدود الثلاثين عاما.. أختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدارُ السيئة على غيرِ ما تريد... آخرُ نكبةٍ لها وآخر مُصابٍ جللٍ أصابها كان مقتلُ ولدها، في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تمّ الاستيلاءُ عليه من قبلِ أمراء الحرب، وأرباب الفسادِ، وتجار الحروبِ والأوطانِ.. حتى اسمها يبدو أنه قدرٌ مخادعٌ..

اسمها ليس على مسمى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر.. حتى أسماؤنا بِتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر، أنها كانت مجرد وهمٍ على وهمٍ، وسرابٍ فوق سراب.

*

زواج "أمي" من أبي:

كانت أمي لا تريد الزواج مرةً ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني.. ولكنْ تمّ إقناعها بالزواج للمرةِ الثالثة من قِبَلِ إخوانها، وإغرائها بوصف "أبي" ـ التي لا تعرفه ـ بالشهامةِ والمروءة والشرف، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد..

قالوا لها: إنّ البنتَ لن تفيدكِ في حياتِك، إنّها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خيرٌ عائنٌ وساندٌ في حياتك، وضمانٌ لمستقبلك من قادم الأيامِ، وما قد تحمله لك من نوائبِ ومجهولِ..

كلٌّ له منطقهُ وحججهُ في ظل واقعٍ ملغومٍ، وغير آمنٍ للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطةٌ عميقةٌ ومتجذِّرةٌ، وفي المحصلةِ كلمته عليها هي فصل الخطاب.. وليس لـ"حذام" قولٌ هنا، ولم تقطعْ "جهينة" قولَ كلِّ خطيب..

"أبي" شاهد "أمي" في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها.. تزوج "أبي" قبل "أمي" خمس نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدةٍ بقت في عصمته، إنها أم أخي علي.. كان علي الولد الناجي الوحيد من الموت، والمتبقي لها، وظلت زوجةً لأبي حتى توفاها الأجل، وكانت أمي أمّا لسبعة ناجين بناتٍ وبنين، وكانت أمي مسكَ الختامِ..

عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى "البقطة علّقت على هذا الزواج بقولها: "حنش مع محنوش" وكأنَّ لسانَ حالِها يقول: خيبتها على خيبته.. "جنِّي تزوج جنِّية".. تعدد زواج "أبي"، وتعدد أزواج "أمي"، فـ "أبي" سبق أن تزوج قبل "أمي" أربع زيجات، وأمي تزوجت قبل "أبي" اثنين وتلاهما "أبي" ثالثاً..

رُبما بدأ الأمرُ في نظر البعض تجاربَ فشلٍ متعددةٍ من الجانبين، ورُبما نظر البعضُ أنّ كليهما بات خبيرا في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواجُ إلى نهايةِ العمر، متحديا ومغالبا عواصفَ هوجاءَ وأحداثَ دهماء، ومصائبَ عظام، وما كان ليصمدَ من الزواجِ أعظمُه أمام واحدةٍ منها..

استمر هذا الزواجُ طويلا في صمودٍ اسطوري ندر مثلُه.. زواجٌ اشبه بزواجِ البحرِ والجبل.. عراك دائم مدّاً وجزرا.. ضجيجٌ مستمرٌ لا يقرُّ ولا يستكين، ولكنه لم يتخلّ أو يُدرْ احدٌهما ظهره للآخر في قطيعةٍ تدوم.. عظمةُ هذا الزواجِ هو صمودُه الخرافي، واستمرارُه مقاوما كلَّ عواملِ الفراقِ والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أيِّ صدامٍ أو احتدام.. لم يستسلم لعاملٍ أو طارئ، وإنْ كان بحجم كارثة، ولم يهتزْ بجزعٍ أو هلع، أو بقطع رِجْلٍ ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكا للختام..

أمّا أنا فكنتُ الجامعُ والمشتِركُ الذي ظلَّ يمنح الصبر والبقاء، والرقمُ الذي رفض أنْ يخرجَ من حسابِ المعادلة بينهما.. أنا الولدُ الغائبُ الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عَقد قرانِ "أمي" على "أبي".. أنا الذي سيكونُ في حياةِ أمّي ضماناً لمستقبلها في قادمِ الأيام، وما قد تحملهُ من نوائبَ ومجهول.. وكنت لها هذا الضمان، بل والوجود كلُّه..

*
غدا من المقرر ان تأتي حكومة "الإنقاذ" الى "مجلس النواب" في صنعاء.. سأسلم نسخة من اسئلتكم وملاحظاتكم الى "رئيس الوزراء" يدا بيد..