أحمد سيف حاشد
348 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
اصداء من الوتس:
جميل جدا انا التحقت بكليه الحقوق بالعام الفين وخمسه الفين وسته وتخرجت في العام الفين وتسعه في المبني الجديد في مدينه الشعب اجمل ايام حياتي تذوقت الحياه حبيت وانحبت لا زال اتذكر كل قاعه وكل زقاق وكل الزوياء مشتاق لتلك الايام احن لها والتاع ايام لا تمحي من الذاكره ساكتب مذكراتي ولكن بطريقتي وسااستفيد من مذكراتك طبعا لا تشبها ولكن سا احاول ان اقلدك في الحبكه والسرد تحياتي
اصداء..
محمد اللوزي:
لقدبرهنت أنك تمتلك روحا مأخوذة بالجمال، تهيم فيه، وتتنزل أحرفا، هي هكذا نور واسع الأرجاء، يأخذتلابيب الروح، ويشرق في كينونتنا، لنعيش هذا المرتل المسيطر على الإنساني.

نور هي ما يشغل القلب، وفاتحة الرحمن، وطن بعيد المنال قريب الى الشدو، وإلى ما نتمناه.. هذا الحضور النوراني الكبير والذي غاب فجأة ليعتل الوجود ويترنح المولع بالهيام. ليس أكثر من معنى يجسد مايحضرنا ويفلت منا حين نرجوه..

لذلك يبقى البحث هو الذي لا يتوقف سعيا الى نور يأتي. يشغل القلب ويتفتح صباحات جميلة، ونافذة أمل، وحياءا نبيلا واعتزازا أيضا. يالها من معاني ثرية سخية نجدها فينا ربما كناها ذات زمن.. لذلك نشعر بنبض النور ووهجه ولانكف عن الانتظار من اجله. سلاما لنور التي شرقت وغربت وكانت محطة حياة وماتزال. فالنور هو الذي نسعى من أجله عله يسكننا لنهداء.. دمت بهذا الرقي
اصداء..
عارف الشرجبي:
ممتاز ولكن كيف اثر غيابها عنك فجأة وكيف. وهل شعرت هي بولعك بها قبل ان تغادركم. او تغادر الجامعة عموما ...
وهل حاولت البحث عن عنوانها او تسأل عنها ..
قصة كهذه التي سردتها لابد ان تلم بجوانها وتأثيرها حتى لاتظهر انها مبتورة او انك بترت آخر واهم فصل فيها رغم جمالها .
الناحية الدرامية الاهم فيها انك اشرت الى انكم جميعا كنتم تأتوت إليها صاغرين وساجدين. وهذه يوحي ان هناك نوع من التفاهم. او قريب من هدا الامر .
رغم ان اجزاء اخرى من القصة اوحت بان الاعجاب او الحب كان خلسة از من طرف واحد .ولذا جميل ان تشير إلى التأثيرات الجانبية . إن امكن ولو بشكل مقتضب . تكميلي. لكي تترك بصمة او لمسة حزن في قلب القارئ. ليتعاطف معك او يعيش تلك اللحظات الاليمة التي اعقبت الفراق ....
لاسيما الشباب من القُراء
كل يتعلم بالكلفة التي يريد
وبعضهم لا يتعلمون
وبعضهم يتعلمون ولكن بكلفة وطن
اصداء من الوتس:
معبره جدا ومحزن رحيل شقيقتاك استاذنا الكريم....وكذلك انا كانت لدي شقيقتي الصغري وكان عمرها سبع صدمت في حادث سياره ولم انسي ولن انسي منظرها امامي وهي مسجاه والدم يخرج من انفها واذنها وذكراها عند امي لا زال حاضرا ومؤثرا كما لو انها توفت قريبا وليس قبل عشرين سنه وعندها جاءني نفس الشعور بالغصه وضيق الدنيا بما عليها والتناؤلات الكثيره التي طرحتها انت طرحتها انها وكانك تحدثت عن تجربة مشتركة لدينا .....رحم الله والديك ووالدينا من صبرو وتحملو عناءنا والمشقه البالغة في تلك الظروف الصعبه جدا ....ورزقنا برهم وجمعنا بهم في مستقر رحمته نحن واخواتنا واخواننا ......بصراحة ذكريات معبره وجعلتني استرجع الك الذكريات التي لا تنسي
اصداء ..
ناصر باقزقوز :
رندا ونور وووووو
ياعم احمد طلعت زير نساء وبعدين ايش هذا النحس كل الحمائم طارت ولامسكت واحده حتى طريقتك في سرقة النظر مفضوحه ايش من سرقه حتى تطقطق الرقبة يابن حاشد الله يلعنه من يقول عنك فاسد انت فاشل في سرقه النظر والقلوب ..

انت ماتنفع الا تكون مسروق فقط رند ونور سرقن قلبك وعفاش والحوثيين والزمره والطغمه سرقوا مستقبلك ولم تترك للحضرمي المسكين والمشرف الهمداني اي شي يسرقونه لاكننا نجحنا في سرقة ضحكتك البريئه وطيبتك النادره نأتي لها منتصف الليل لنسعد ونفرح بها

امثالك ياصديقي خلقوا لكي يسعد بهم الفقراء والمظلومين ولكي تطير عنهم حمائم الجمال بعيدا وقدرهم فقط العيش مع ذكرياتها ظلمتك الحياه حتى الآن ياصديقي
السلسلة الرابعة 1 - 8
العودة إلى مسقط الرأس والواقع الذي كان
(1)
منكوبين بالبطالة وفقدان العمل
بعد سنتين من إقامتنا في عدن استغنت شركة "البس" التي كان يعمل فيها والدي عن عدد من العمال، وكان أبي من ضمنهم.. مصاب جلل، وقدر بات أكبر منّا.. أي نكبة أصابتنا يا الله؟! يا لسوء الطالع وعاثر الحظ، وخوفنا مما هو قادم ومجهول!! أبي فقد عمله، ولا بديل يعوضه، ولا من يسد لنا هذا القدر الذي بدا أمامنا ثقبا أسودا، وفراغا كونيا يريد ابتلاعنا وتغييبنا في مجاهل الجحيم..

لا رجاء سعفنا، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق.. وجوم في السماء، وكلح في الأرض، ويأس يتمطى في الشرايين.. لم يعد هنالك من مصدر دخل لنا.. ظروفنا ازدادت سوءًا وانحدارا، وزدنا نحن عوزا وفاقة.. لم يكن أمام أبي من خيار إلا أن يعود بنا إلى قريتنا التي يهرسها بؤسا وشقاء شديدا، ومعاناة تطول، ولا نور في نهاية النفق..

ما أسود الحياة عندما تفقد عملك، وتُقطع أسباب رزقك.. فادح أصابنا، وفادح مضاعف أصاب أبي.. مأساة أسرة فقد فيها ربها دخله المحدود، وأسرة أخرى في القرية تتضور جوعا، لا دخل لها ولا عوض من غير أبي.. حكم إعدام أنزله علينا القدر دون إمهال أو إنذار..

أبي يهيم على وجهه، يبحث عن وجه الله لعله يجده.. كان الشعور بالضياع وفقدان الأمل قاسيا بل وساحقا.. أتخيل الحال أن صخرة بحجم كوكب عبوس، قذفتها السماء على رأس أبي، وأصابتنا معه في مقتل أطاح بالجميع.. الخيارات محدودة وصعبة، بل في الحقيقة ليس أمامنا من خيار.. لا عمل ولا أي فرصة تنجي لقمة عيشنا، وكل ما يمكن أن تفكر به من مساعدة غائب ومعدوم.. أنت مبلوع في لجة البحر، بلا يد ولا مجذاف ولا لوح ولا وسيلة خلاص.. لا حتى قشة ترجوها أو تمسك بها مسكة غريق.. جميعنا يغرق في التيه والمجهول وأصقاع الضياع..

عاد بنا أبي إلى القرية.. وباتت المصاب والألم مضاعف.. اسرتين تعاني الجوع، وكل شيء فيها عزيز، ولا أمل في انتظار ينقذنا من حالنا البائس، ولم تبق أمام أبي إلا المغامرة والرحيل إلى الغربة، يبحث فيها عن فرصة عمل أخرى تسعفنا من حالة البؤس والموت البطيء..

ما حدث لنا ولليمن اليوم، تجعل مأساتنا في الأمس رغم كبرها وفداحتها تبدو بحجم رأس دبوس.. ما نشهده اليوم، هو محيط من العذاب والموت والبشاعة.. نحن في زمن بات وقد تعاظمت فيه مصائبه وبشاعته.. وما كان في الأمس مصابا مقدور عليه بممكن أو بمعركة مع المستحيل، بات اليوم كوارث تفوق ما تحتمله الجبال، بل ولا تقوى عليه اليمن كلها، وقد جمع لنا العالم، وصب فوق رؤوسنا، كل بشاعته وفساده وانحطاطه وقذارته..

الفارق بين مصائب الأمس وازدحام كوارث اليوم بات خرافيا وغير معقول.. نعيش اليوم السنة السادسة حرب ضروس، وهروب إلى مزيد من التشظي والجحيم.. حروب متعددة تشب وتنشب هنا وهناك بألف رأس وأمير.. سنوات عجاف أكل فيها شعبنا دواخله، وأكل المجتمع الواحد بعضه بعض، وأكلت النار معظمه.. حروب دميمة وبشعة، سحقت شعبنا طولا وعرضا.. مـأساة بعمق سحيق، وطول وأبعاد تبدّت لنا كمحيط دون أطراف ولا خلجان ولا منتهى..

كيف لك أن تتخيل حجم الكارثة، وأنت ترى اليوم مليون ونصف المليون موظف ومتقاعد ومستفيد قد قطعت رواتبهم، وقطعت معها أسباب رزقهم.. وتكايدت أطراف الحرب مع بعضها لتتخلى عن المسؤولية حيال رواتب مليون ونصف عامل وموظف ومتقاعد، وغيرهم، يعيلون قرابة عشرة مليون إنسان، باتوا مفقرين ومعدمين، تفتك بهم الأمراض والأوبئة والمجاعة والتشرد والضياع، كما تفتك بهم الحرب منذ سنوات طوال، وفي محيطنا عالم متوحش، غارق بالبشاعة والدمامة والإجرام..

أكثر من مليون مواطن يقتل بعضه بعضا في الخنادق والجبهات، بل وحماية الحدود الأجنبية أيضا.. سلطات مُغتصِبة وأرض مُغتصَبه، وقيم إنسانية مُهدرة، وحقوق شعب مستباح، ونهب وانهيار، وجهلة وأمراء حرب يحكمون ويتسلطون.. وأكثر من هذا عدوان كبير، واحتلال همجي بشع وغير مسبوق في تاريخ اليمن من أوله إلى يوم بدأت هذه الحروب اللعينة قبل سنوات، ولا تزال.. ما حدث كان أكبر من أن يوصف، ولم يكن يخطر من قبل على بال وما كان بحسبان..

أعود إلى الماضي ومحنة والدي الذي فقد عمله.. وكان هذا قبل استقلال الجنوب من الاحتلال البريطاني.. وبعد أن ضاقت الدنيا في وجه أبي ودلهمت.. بعد أن فقدنا مصدر رزقنا وما نقتات في عدن.. عدنا إلى القرية التي جئنا منها، كأسماك السليمون التي تعود من مهجرها لتموت في مسقط الرأس، أما أبي فعليه أن يواصل الهيام والبحث عن فرصة عمل.. عليه أن يشق البر والبحر ليجد عمل نقتات منه، ولا عذر ليتخلّى عن مسؤوليته، حتى وإن كان مصابنا وقدرنا أكبر من الجميع.. فكانت وجهته هذه المرة إلى "بربرة" في الصومال الشقيق.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(2)
العودة إلى القرية

في طريق عودتنا إلى القرية ومغادرتنا لعدن كنت أشاهد عساكر الإنجليز في النقاط والحواجز العسكرية.. كانوا يلبسون القميص الكاكي والسروال القصير وطاقية الرأس العسكرية.. الغريب أنهم كانوا يودعوننا بتعظ
لية.. قرانا متعبة مثل رجالها ونساءها وأطفالها.. كيف جئنا إلى هنا؟! ومن أين جئنا؟! وكيف وصلها أجدادنا الأوائل، قبل مئات السنين؟!

قالوا أن جدَّنا الأول جاء من حضرموت إلى هذه المناطق من "القبيطة" قبل أكثر من ثلاثمائة عام، ويدعونه بـ "الشيخ حي"، وبرفقته عمه "الشيخ أحمد" ومعهما عبدا أو أكثر، ولا ندري إن وجد في صحبتهم رجالا آخرين، ولا نعلم إن كانت لحواء معهم وجود، أو كانت هي من ضمن الوافدين..

اقترن الاسمان بلقب الشيخ، ويبدو أن سببه يرجع إلى المكانة الاجتماعية والدينية الخاصة بهما.. كانت أمي تنتسب إلى "الشيخ حي"، فيما أبي ينتسب إلى الشيخ أحمد.. الملاحظ أن الاهتمام بمزار "الشيخ حي" أكثر من الاهتمام بمزار "الشيخ أحمد" وقد لفحت بأمر أمي وتشجيعها من تراب قبر جدها، ولم ألفح أنا من تراب قبر جدي من أبي.، ولنا في المقام لاحق وتفصيل..

غير أن السؤال: ما لذي دفع أولئك الأجداد أن يتركوا عز حضرموت وأهلها الطيبين، ويأتون إلى هذه المنطقة النائية البعيدة، صعبة المراس، أو التي لا تخلوا من وعورة بادية للعيان، وربما أيضا خالية أو قليلة السكان؟! كيف يتركون حضرموت، ويتجاوزون مئات الأمكنة، في طريق يمتد قرابة الألف ميل، ليستقر بهم الحال والترحال في منطقة نائية قصيه ومجهولة، ليس فيها ما يجذب أو يغري أو يستحق المغامرة..؟!

ما الذي دفع أولئك الأجداد أن يتركون حضرموت أرضا وبحرا وسهولا وشواطئا وسكانا، ويعبرون في رحلتهم الطويلة تنوعات بيئية وسكانية كثيرة ومتعددة، دون أن يحطو الرحال في واحد منها؟! كيف يعبرون مسافة ربما يستغرق قطعها على الراحلة شهورا طويلة، لينتهي بهم المطاف في مناطق نائية بعيدة جدا عن أهلهم وذويهم، وتكون هي المستقر الذي حطو رحالهم فيه، وبنوا مساكنهم على ظهور جبالها العالية؟!

سألتُ أمي يوما عن السبب؟! فأجابتني بسماعها أنهم جاءوا من حضرموت إلى هذه المنطقة، يبحثون عن فتوى!! فزادني قولها عجب على عجب!! بلادنا ليس فيها شيوخ، ولم تشتهر بعلم أو بفتوى، وليس فيها كثير من الناس، بل أن عدد قرودها أكثر من ناسها، أو الساكنين فيها..

هل هناك أسباب سياسية واجتماعية، أو أعمال قمع وملاحقة سلطات، أو وجود اضطرابات وعدم استقرار، أو ما شابه ذلك من الأسباب، التي حملتهم على مغادرة حضرموت، والتوجه بعيدا عنها إلى مناطق قصية وحصينة، أو عصية على من كان يفكر بالملاحقة أو فرض سلطته عليها؟!! هل كان وراء اختيار هذه المناطق لتكون موطن للقادمين إليها، لما توفره لهم من أمن وسلامة وحماية؟!! أم أن مناطقنا كانت قبل 300 عام مروج خضراء وأحراش وغيول وماء وفير جذبت الباحثين عن عيش وحياة أفضل في اختيار من حطوا الرحال فيها..

***

"الشيخ حي" أو الشيخ "يحيى" يوجد له ضريح على جبل صغير في وادي صبيح، والضريح محروس بغرفة وقبة يجري طليها بالنورة البيضاء قبل موعد المولد بأيام، ويتم تجديد طلاء قبة وغرفة الضريح في الموعد المقرر بالعام الذي يليه، وكان طلاء النورة يجعل للمكان جلالا وهيبة، وتستطيع نصاعة بياضها أن تأنسك وتشعرك إنك لست وحدك.. تتطلع إلى المقام بناطريك، فيبدو المقام مهابا وآسرا في ليل كان أو نهار.. تسمع هناك من يقول لبصرك بصوت جهور: قف قليلا.. هناك ما يستحق الوقوف.

عندما يقترب موعد مولد "الشيخ حيي" يتم النداء إليه، ويسمى "التطريب" وهو إعلان موعده والذي يجري في يوم وسوق الخميس، ويتم من مكان مرتفع في السوق، ويستهل الإعلان بعبارة "الحاضر يعلم الغائب.." ما أتذكره من زمان طفولتي أنني كنت انتظر مرور العام طولا.. أشتاق لحضور هذا المولد بحرارة كل جوارحي.. شوق طفولتي يتأجج على نحو لا نظير له.. حضوري إلى ما أشتاق إليه يغمرني بشلال من سعادة لا وصف له ولا مثيل..

كان المولد أشبه بكرنفال بهيج، يحضره جمع غفير من الناس، والسعادة تحجز للأطفال المكان الذي يليق بسعادة وذكريات عصية على النسيان.. في المولد كان يبدو لي الجبل الذي فيه الولي أو المقام زهيا مثل شجرة ميلاد تلونها الأضواء الزاهية.. ترى الجبل وكأنه مغطى بمحار وأصداف ولؤلؤ ونجوم بحر.. زاهي بالحضور والأطفال والقمصان الملونة.. البيارق ترفرف عاليا في أكثر من تجمع ومكان، وبعضها يتم حملها عند صعود الزاوية إلى ردهة المكان في الجبل.. وبيارق تغطي الضريح، فيبدو مكللا بالمهابة والوقار، كملك يوم اعتراش وتتويج مُلكه.. وترى المسرات تغمر وجوه كل من حضر..

اسفل الجبل يجتمع القوم، وشجرة "الحُمر" الضخمة والوارفة تنشر ظلها على الجميع.. وهناك ضريح الشيخ أحمد في الجوار القريب، وصخب الحياة والبيع والشراء في أعنته.. الحياة هنا مشرقة ودافقة وصاخبة بعد عام من سكون.. تشعر أن هذا اليوم الجميع يحتفل به أحياء وأموت.. تذبح الذبائح، ويتناول الناس وجبة الغذاء، ولا يغادرون قبل أن ينفض الجمع للمغادرة..

وفي عصر اليوم أو قبله بقليل يحتشد الجمع في أسفل الجبل، ليقيموا الزاوية، ويبدأ السير والصعود نحو مقام "الشيخ حي" في تلة الجبل.. يتحرك الجمع رويدا رويدا وهم ينبضون ويفيض
يم سلام.. يضع العسكري يده على محيّاه ويحيِّنا بتحية تَكرِم وتليق.. يحيِّنا وهو بوضع الاستعداد والانتباه بتحية عسكرية مملوءة بالمهابة والتقدير.. وكان رأسي الصغير وأنا أشاهدهم يعج بالأسئلة..

كنت أسأل نفسي ببراءة طفل: هل يتحركون؟! هل يستمرون بهذه الهيئة ليل ونهار؟! تمنيت أن تتوقف سيارة (اللاندروفر) التي تقلّنا وقت طويل أمام كل واحد منهم لأراهم كم يستمرون على وضع (تعظيم سلام)، أريد أن أملئ عيوني من كل واحد منهم ساعات طوال.. اليوم بدا لي أنهم يريدون بهذا الوداع الجميل أن يتركوا انطباعاً حسناً لدى المغادرين إلى أرض الشمال.. وبين أمس واليوم عوالم وتحوّلات لم تكن تخطر ببال.

عدنا من عدن إلى قريتنا (شرار) في (القبيطة) مثقلين بالحزن، والفراق الطويل.. نمضغ بؤسنا كماضغ الملح والصديد، جراحنا مفتوحة وغائرة في النفوس.. عدنا وقد نقصنا عن عدد مجيئنا اثنين "نور وسامية"، وكدت أكون ثالثهما.. مؤسف أن نعود وقد نقص من عدد أسرتنا الصغيرة اثنتين هن زهرات وجودنا.. يا لهول الخسارة.. عدنا ونحن نحمل حزنا ثقيلا وقليلا من المتاع، وتركنا خلفنا ذكريات أليمة، وقبرين صغيرين، حصيلة غربة بدت لنا فادحة ومكلفة.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(3)
"شرار" مسقط الرأس

قريتنا كغيرها من القرى في وادي "شرار" بالقبيطة.. قرانا كانت كغيرها تمضغ فقرها كل يوم وعلى مدار الليل والنهار.. الخبز الجاف مع الشاي أو العصيد و"الوزف" وجبتنا الأساسية التي تبقينا على قيد الحياة.. لـ"الوزف" جميلاً ومعروفاً كبيراً لا ينكره منّا إلا من جحد.. لكم نحن مدانين له بالبقاء والحياة..

(شرار) قُرى متعبة، ووادي شقي يبحث عن مجد وسط الحزن والسياسة والخراب.. مملوء بالتمرد والفقر والصراع.. شرار كالشرق الذي يبحث عن شروق، ولازال الشروق عنه ناءِ وبعيد.. لا أدري لماذا كان اسم الوادي (شرار)، ولكن حكاية تروى أنه عاثر الحظ وكثير القنوع..

حكايته تقول: عندما قسَّم الله البساتين والحدائق على الوديان سأل (وادي شرار) عما إذا كان يريد بستان أو حديقة، فأجابه إجابة قنوعة: (إن زاد وإلا ما أشتيش) فلم يزد لوادي شرار حديقة أو بستان.. "شرار" كثير الصخر والحجر والحرمان، يفتقر لحديقة أو بستان..

(شرار) القنوع الذي يرى البعض أنه خذل رجاءنا قبل مجيئنا، ولازال قنوعا إلى اليوم، ولا زلنا نحن مسكونين بلعنة قناعته التي عشقناها ولم نترك عشقها حتى وإن طوانا الجوع وبرئ عظمنا وسقم الجسد.. لا زلنا بالقناعة نعتز ولم تجفل هي عنّا ولم تنتهِ، وما زلنا مسكونين بالمثل: القناعة كنزا يدوم ولا يفنى.. "شرار" وادى وقرى، ومسقط رأسي الذي لا أقوى على حمله..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(4)
فقر وبؤس

سكان أريافنا فقراء على العموم، وبعضهم معدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال، يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس من أجل لقمة عيش كريمة، لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تدمي القلوب والأظافر.

جبالنا وعرة وشامخة؛ طينها قليل وعزيز؛ الأشجار تغالب الحما والظماء؛ وجذور السدر والعوسج و”العسق” تشق طريق صبور في الصخر والجبل..

الزراعة موسمية؛ أغلب المواسم “تخيب ولا تصيب”، كثير من السحب كاذبة، تبدو وكأنها مثقلة بالغيث، ثم تكتشف بعد ساعات قليلة أنها خادعة لا تحمل غيث ولا مطر؛ مقالب الأقدار كثيرة ؛ قليلة هي المواسم التي أوفت وجادت بالمطر من موعد البذر حتى موعد الحصاد..

الماء شحيح معظم أيام السنة؛ النسوة يخضن معارك ضروسة ولساعات طوال من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة، المرأة تقضي أحيانا ثلث نهار أو ربع ليل لتظفر بدبة ماء واحدة لا يزيد سعتها عن عشرين لتر.. النساء لا يظفرن بالماء أيام النزاف إلا وقد بلغت قلوبهن الحناجر..

الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجر، وسوء التغذية رفيق حميم، والموت طليق يخطف من يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموت ويشتهيهم أطفال وصبية وشباب بعمر الزهور.. في مناطقنا لطالما اجتمعت علينا المخافات الثلاث؛ فقر ومرض وجهل.

أيام عيد الفطر وعيد الأضحى هي أيام فرح العام، وقلما يجد الفرح متسع في غير أيام العيد. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة مرة واحدة في السنة، يلبسونها أيام عيد الفطر ثم يحتفظون بها لعيد الأضحى، ليرموا كما جاء في المثل "عصفورين بحجر واحدة"، قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.

في أريافنا، كان الصراع مرير من أجل الحياة؛ الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتب ولا يفارق لكأنه رفيق حميم، أما النادر فلا حكم له.. أغلب الناس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضأن في العام مرتين؛ وإن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام العيد، فما عليك إلا مُلازمة المرض، وحنون يحبك ويهتم بك؛ وأما أنا فلا يروقُني أن تُذبح من أجلي دجاجة حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي وبلغ السل مخ العظام..

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

(5)
"الشيخ حي" والشيخ أحمد

قرانا متناثرة حول الوديان وعلى ظهور الجبال العا
بعمق القبر والمكان.. ورغم اعتقاد أمي بالمفعول السحري لتراب جدها إلا أنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدته وتعودت عليه، وكنت ألتهمه سرا أو خفية عن أعين أمي..

ومثلما تلح أمي على أكل تراب جدها، كانت تفعل معي أيضا مع شرب اللبن.. ما أن أنتهي من شرب كمية منه، ترجوني بإلحاح وصوت خفيت على أن أزيد " اشرب.. زيد اشرب.. زيد اشرب.. اشرب مليح .. اشرب".. وصوتها الخفيض كان كمن لا تريد أن يسمع أحد ما بيننا، وتظل تحاول وتحاول أن أشرب المزيد حتى تيأس من أن أعيد.. كانت تحبني أكثر من أبي، وتأثرن عليه في كل شيء، حتى في الحليب الذي كان يتناوله كل مساء..

عندما كانت أمي تمارس إلحاحها، وتحملني على شرب المزيد من حليب البقرة، أشعر أنها تريدني أكبر وأقوى بسرعة، بل أشعر وهي تلح إنها تريدني أكبر في الحال.. أما عن أكل التراب، فكانت تعتقد أنها تودعني سر جدها، وتقيني من كل مرض وشر ومكروه..

الحقيقة لم يكن يغريني حليب البقرة، بل كان حليب "النيدو" هو الذي أروقه ويروقني؛ ربما لأنه كان بعض مني، وكان يسد حاجتي، عندما كان لا يكفيني ضرع أمي التي تعاني، وأنا لازلت دون عمر السنتين.. ولازلت إلى اليوم أشتهي أن أكرعه في فمي بكميات كبيرة، كما كنت أفعل هذا في سن الطفولة وسن المدرسة، بل والمراهقة أيضا، حتى أبدو أمام نفسي شخص غير طبيعي، وأنا العط فيه بنهم شره..


عندما كنت طفلا في السنة الأولى مدرسة على الأرجح، رأيت رؤيا، وفيها أنني أممت الناس بالصلاة في المقام، ورأيت "الشيخ حي" وأشياء أخرى نسيت تفاصيها بعد خمسين عام، رغم أن الرؤيا كانت يومها كفلق الصبح من حيث الوضوح والتفاصيل، بل كأنها كانت حقيقة لا رؤيا..

كانت أمي وأبي مهتمان على غير العادة بهذه الرؤيا، ويطلبان أن أعيد روايتها على مسامعهما، وأشاهد سرور دافق واهتمام لافت منهما بما أرويه.. ربما فهموا الرؤيا إنها تتعلق بمستقبلي البعيد، غير مدركين إن المستقبل في اليمن سيكون للفساد والقتلة والمستبدين.. والأهم أنني طيلة هذا العمر المديد ظللت متماسكا أحذر السقوط، وأحذر من السقوط المريع مرتين..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(7)
غموض واعتقادات..

علاقة أمي بجدودها الأولياء وطيدة، واعتقادها بهم يبلغ حد اليقين، فهي تدعو الله، وتستنجد به، دون أن تنسى جدودها الذين خبرتهم مرارا، وصارت تثق بهم، وتعتقد جازمة إنهم يساعدونها.. عندما تريد شيئاً منهم تنذر، وتنطع الشمع، وتطعم الفقراء، وتذبح لهم الذبائح، إن كان الأمر يسمح، أو هنالك خطب جلل يستحق الذبيحة.. وأستمر هذا الاعتقاد لديها حتى وفاتها عام 2017 وربما أرجع بعضنا السبب إلى ما يسمى "قانون الجذب"، أو شيئا منه أو مثله..

وفي الأحلام كانت أمي تقول إنها ترى جدودها يأتونها في المنام، ويخبرونها بأشياء تتحقق، أو تقع في قادم الأيام، سواء كانت مفرحة أو فاجعة.. أذكر أنها قالت لي في إحدى المرات إن جدتها "جنوب " جاءت تخبرها في المنام، إنه سيحدث (أمر جلل) وتحقق ما قالته خلال أيام قليلة، وكما وصفته بالمعنى المليء دون غموض أو التباس.. لقد كان حلم أشبه بالحقيقة، أو برصاصة اصابت الهدف في الرأس أو المنتصف، دون انحراف بقدر شعرة..

عندما كنت معتصما، ومضربا عن الطعام مع الجرحى في محاذة سور مجلس الوزراء، في مطلع العام 2013 كانت أمي تدعو الله أن يساندني، ويقف معي، ويقف مع من يقف معي.. كانت تدعو جدودها الأولياء أن يكونوا إلى جانبي في المحاذير، وينجوني من المخاطر، ويحضروا معي في كل ملمة ونائبة.. كانت تأخذ بعض الأوراق النقدية فئة ألف ريال، وتسبعها في الماء، وتقرأ عليها القرآن، وتنذرها للمساكين والمحتاجين، وهي مطمئنة إلى ما تعتقد، وتدّعي أن ما تفعله كفيل بان يحفظني من شرور البشر، والتي تعتقد إن شرورهم، تفوق شرور الشياطين.

أمي وبحسب ما ترويه هي أيضا، عندما تضيق بها الدنيا وتشتد، أو يكون هنالك أمر جلل، أو فعل أو قول يؤذي مشاعرها على نحو حاد، أو ما شابه ذلك مما قد يحدث، فتشعر بشيء يبدأ يتكور في داخلها، ثم يكبر كالكرة، ويظل يكبر حد الامتلاء والفيض، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها، ويرتعش جسدها كـ "طبيلة" المجاذيب، أو كأن شيئا يلبسها وبما يخرجها عن طورها، ولا تهدأ ولا تستكين إلا بعد أن تقوم بإفراغ ما في رأسها وصدرها من طاقة بنطح الجدار.. نطح قوي ومتتابع ومثير للدهشة.. وتجعل من يشاهدها يبدو مشدوها وغارقا في الذهول.. ما تفعله كان أكبر من الانتحار والجنون، وكأنها تأخذ حقها من الجدار مرتين وثلاث أو بضعفين وأكثر.

في إحدى المرات تدخلتُ بجُرأة، ومسكتها بقوة، وأبعدتها عن الجدار، للحيلولة دون مواصلتها لنطحه، بدوافع مخاوفي، وبعد أن ظننت أنني سأشهد حطام رأسها متناثرا على الأرض، أو مهشوما كالزجاج، فيما كانت هي تعيش غمرة ما تفعله، وفي لحظة ذروته..

كان الجدار من حجر الجبل الصلد، والشديد في صلابته وتحديه، وعلى نحو راعني، حتى خشيت على رأس أمي، ولم أكن أعلم أن منعها من استمرار فعلها، يؤذيها على نحو لم أكن أتخيله.. ا
ون بالنور، والجمع أبهى من ألف عريس.. وما يفعله المجاذيب يأسرون طفولتك بما لا يُنسى من العجب.. لازلت أذكر المجذوب هنا، وهو يبدأ في الارتعاش.. أخرج جنبيته من غمدها، وبدأ يضع رأسها في راحة يده اليسرى ويمناه قابضة على مقبضها.. مايلها ومايل يديه مرتين وثلاث على زاوية من عينيه، وكأنه يبحث في لمعانها عن شفرة أو سر ينتظر موعده أو تدفقه..

قالوا إنه يبحث وينتظر الشارة التي تأذن له في الدخول إلى غمرة الجذب.. بدأ يهتز كغصن في وجه الريح، أو شجرة كافور في وجه عاصفة.. ثم يجثوا على ركبتيه، ويضرب بحد الجنبية كتفيه ايمنا وأيسرا، دون أن نرى دما أو أثرا.. يعيد وضعية جثيه على أطراف أصابع قدميه متحفزا، ويهيل الضربات على سرفتيه.. يطعن بطنه بضربات متلاحقة، ولا يترك أثر على جسمه رغم كل ما فعل.. لم يترك أثر غير حيرة ودهشة تكسي وجوه طفولتنا الباكرة.. ثم يعود ويفوق من غمرته، ويخرج من نوبة حالته، ويعود إلى طبيعته ولا كأن أمر خارق قد حدث.. ما أجمل تلك الأيام القلائل، وما أجمل الطفولة فيها، وكلاهما قطعا لن يعود..

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

(6)
أكل التراب

كان يشاركني أكل التراب في صغري ابن عمي سالم أحمد محمد هاشم، والذي كان يكبرني بعشرة أشهر، وصار التراب بيننا أكثر من عيش وملح.. شهيتنا لأكل التراب ربما يعود إلى سوء التغذية، ونقص مادة الحديد في الجسم، أو هذا ما قرأته بعد خمسين عام.

تأكل التراب بسبب سوء التغذية، ونقص عنصر الحديد الذي يحتاج له بدنك، وتعاقب بالضرب لسبب خارج عن إرادتك، وربما تضرب بالحديد لأن جسمك ينقصه عنصر الحديد، ويلحقك مزيدا من العذاب، وتسكنك العُقد، وتظل تكبر داخلك، وبأعماق نفسك في الوعي وفي اللاوعي، وتشهد اضطرابات وانحرافات سلوكية تضر بك وبغيرك، وتغيب عدالة الأرض عنك، وربما تتأخر عدالة السماء أيضا إلى يوم الحساب.

لقد أكلتُ التراب وأنا حديث سن في عمر الطفولة الأولى، أعاني من سوء التغذية، فضلا عن نقص عنصر الحديد في الجسم.. كنت ضحية لظروفي منذ نعومة اظافري.. ضحية للسلطة، والجهل، والقمع، والتنشئة الخاطئة.. ضحية هذا الواقع الذي تشارك الجميع في انتاجه وصناعته..

لازال هناك من يريد، بل ويصر أن يبقيك تأكل التراب، ويريدك ضحية إلى آخر العمر، مهموما بنفسك، وغارقا في تفاصيل حياتك اليومية، مثقلا بمعاناتك، ومشغولا عن فساد السلطة وانتهاكاتها، والحيلولة دون أن تدافع عن حقوق وحريات الناس، بل وأيضا إن أستطاع تقليم أظافرك الدامية التي تحاول أن تحفر بها في الصخر، وأكثر من هذا يتمنى أن لا تستطيع حتى التنفس، الذي يحسدك وينفسك عليه.

كانت أمي في الوقت الذي تضربني لأكلي التراب، أجد في مناسبة أخرى أمِّي تدعيني وعلى نحو لحوح لأكل التراب.. عجب ومفارقة ربما لا تخطر على بال.. وبين هذا وذاك طفولة معذبة وبائسة، ومثقلة بالجهل والحرمان الشديد..

كانت أمي تصحبني معها في بعض الأيام، وهي تزور قبر جدها “الشيخ حيى”، وكان يشمل المكان مقامه وغرفته وقبته وبعض الملاحق.. كانت أمي تحمل الشمع الذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجدها، وتسرِّج بها ظلمته، فيما تضع بعض رزم الشمع الغير مستخدم في كوة الغرفة أو على حافة القبر؛ لمن يأتي في يوم آخر ليضيء ظلمة جدنا "الشيخ حي" وتفعل أمي مثل هذا أيضا، مع قبر ومقام جدنا الشيخ أحمد القريب منه..

رأيت أمي عندما تسرج المكان بالشمع والضوء تشعر بفرحة غامرة، وسعادة كبيرة لا تتسع لها.. ثم تمد يدها في كوة موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتخرج بعض فتات التراب، وتأكل منه قليلا، وتعطيني قليلا منه لآكله.. كانت تحثني وتشجعني على التهامه، لأنه كما تعتقد مكنوز بسر جدها الذي جاء من حضرموت ليحط به الرحال والأجل هنا، فقيها وعالما وصاحب كرامات..

لازلت أذكر أمي وهي تشجعني وتحثني وتبدأ هي بالتهام بعضه.. تلح بإصرار أن التهم حصتي منه.. تحاكيني وهي تفعل لأفعل مثلها.. تطلب مني أن أفعل ما تفعله.. تفعل معي كما تفعل الأم مع طفلها وهي تطعمه بعد الفطام.. أتذكرها وهي تحثني على شرب لبن البقرة الدافئ من جحف اللبن، بعد أن تنتهي توا من افراغ ما في ضرع بقرتنا الحلوبة.. كانت أمي تحاول إفهامي جاهدة وأنا ألفح التراب أنني سأخرج من المكان وقد تزودتُ بشيء لم يكن موجودا حال الدخول إليه..

ورغم فقداني للذة التراب الذي كنت معتادا عليه، وأعاني من عقوبة التهامه، ورغم فقدان هذا التراب لنعومته، إلا أن روحانية المكان، وهيبته وجلال المقام، وكرامات صاحبه بحسب روايات أمي، وما تفييده من محامد جدها، وما يحمله من سر جدير بالاهتمام، أو هذا ما كانت أمي تلقّني إياه، وترويه لي بثقة عالية ويقين.. كنت إذا تعرضت لمرض أو مكروه تدعو جدها "الشيخ حي" وجدتها "جنوب" ومعهما الشيخ أحمد أن يشفيني ويحييني ويجنّبني من كل شر، ويزيل عني كل مكروه..

كنت أظن وأنا طفل أن هذا التراب الذي ألتهمه هو من بقايا عظام ورفات جد أمي، ولكن في مرحلة متأخرة أدركت أنه من فوق القبر، لا من جوفه، وأن رفاة جد أمي وبقاياه لازال مدفونا
نفجرت أمي بالبكاء الشديد، وبحرقة لاسعة، وعتاب مملوء بالخيبة لم أعهده في حياتها من قبل وهي تقول لي: (عثرتني.. عثرتني.. عثرتني) .. ثم مرضت عدة أيام.. ومن بعدها كنت أتركها تؤدي طقسها مع الجدار، وعلى راحتها، والنحو الذي يروق لها، حتى تنتهي منه، وتهدأ كبالونه فُتح ما يسد بابها..

وظل نطح الجدار يحدث مع أمي حتى آخر شهر في حياتها، وقد قارب عمرها على الأرجح الثمانين عام.. وفي السنوات الأخيرة من عمرها حالما كان يحدث معها مثل هكذا فعل، صرنا نتوقع قدوم ما هو سيء.. نقرأه كإحساس منها، لا تستطيع أن تعبّر عنه، إلا بتلك الطريقة الغريبة..

لقد أحاطني يوما الخطر، وأصيبت أمي بنوبة هلع، وردعت الجدار أكثر من مرة، ولم تنته مما هي فيه إلا باتصالي التلفوني العاجل، الذي هدّاء من روعها، وأوقف نوبتها الجنونية.. شعرت يومها أن حميميتنا أكبر منّا، وأن هناك صلة روحية قوية بيننا، أو شيء استثنائي مختلف، وربما هو إحساس غريزي قوي من الأم بما يتهدد ابنها من خطر، والذي تحبه كثيرا، بل أكثر من نفسها، وأكثر من إخوته أيضا..

كانت تقول لي: أسأل الله أن يأخذ ما بقي من سنين عمري، ويطيل بها عمرك.. فطال عمر كلانا.. فقاربت هي من عمر الثمانين، وأنا أقارب الستين.. وقبل أن تموت لم تكن تسمع غيري، ولا تنفذ إلا طلباتي وإن كانت كرها عليها.. عندما أشتد عليها مرض الموت، كانت تأثر الموت على أن تأكل أي شيء.. فإذا طلبتُ منها أن تأكل، استجابت وغصبت نفسها عليه، وعلى نحو أشعر أن ما تفعله، لتنفيذ ما أطلبه، هو بقسوة الموت وطعمه، ثم أتفاجأ بعودة ما أكلته بعد ساعة، وكأنه كان مختبئا في مكان ما بفمها أو شدقها أو بلعومها.. يعود ويخرج من فمها كما دخل، دون تغيير، بعد أن كنت أظن أنه قد أستقر في معدتها، أو ذهب إلى ما بعدها..

لقد تعلقت كطفل بأمي حتى آخر حياتها، وقد قاربتُ الخطى نحو الستين أو أقل منها بقليل.. كنت آثرها على جميع من يعيشون معي، وكنت أنحاز للانتصار لها، غير مكترث لما يصيب غيرها..

كانت أمي هي الخيار الأول دوما، والذي آثره وأفضّله على كل الخيارات.. فإن انفعلت حيالها في لحظة توتر قصوى ونادرة، ما ألبث أن اعتذر لها بندم شديد، وقد أشعرتني إن فسحة قلبها جنة ليس مثيلا لها في وسعها، وغفرانها لا ينتهي..

كانت أمي ما أن تفرغ من نطح الجدار، حتى تهدأ وتستريح.. فإن لم تهدأ، تعاود الأمر مرة أخرى، فتهدأ وتستريح.. فقط عندما أحاطني الخطر، كان الأمر معها أشبه بنوبة لم تهدأ منها أو من روعها إلا باتصال مني والتحدث معها.. لقد كانت تجزم وتلح أنني في لحظة خطر محدق وأكيد، وكان الحال كذلك، وقد أوشك الخطر على الوقوع، ولم تنقذنِ منه غير دقائق قليلة.

مشاهد متفرقة وكثيرة، لا عد لها ولا حصر، شاهدتها وهي تنطح الجدار.. كانت تستعد وتهرول وتنطحه ثلاثا وأربعا وعشراً .. هذا الأمر لم أجد له تفسير علمي إلى اليوم، ولم أفهمه إلا بأنه خارقا للعادة، وبكل تأكيد.. فهي لا تجيد الكذب والمخادعة وخفة الحركة، ولم يسبق لها أن عملت في مسرح عرض ولا سرك..

هنالك كثير من الاعتقادات الغامضة لا زلت أذكرها إلى اليوم.. كان أبي إذا خرج ليلا وأصابته شوكة يعود من الطريق معتقدا إن شر سوف يصيبه إذا تجاهله أو تغافل عنه.. يبدو أنه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة..

أنا وخالتي سعيدة زوجة أبي كنّا إذا حدث أن أنملت أو بالأحرى "سيّرت" بطن أو قاع قدم أحد منّا، يصل أخي علي من صنعاء، أو يهل علينا ضيف نحبه، وإذا "حفّت" يد إحدانا نستلم نقودا، أو شيئا يفرحنا، أو نصافح كريما، أو ضيف يبهجنا.. ولازال هذا يحدث معي إلى اليوم..

لقد كان لنا حدسا وحواسا يقظة، ولم يعد منها اليوم غير أطلال، أو بقايا أقل من القليل.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(8)
عناد وسلطة..

في صغري كنت مغرماً بأكل التراب.. يا إلهي كم كان التراب شهي ولذيذ المذاق.. والأكثر لذاذة أن أفعل هذا في السر والخفية، بعيدا أن أعين أمي.. كانت أمي ما أن تكتشف الأمر، فتسارع بضربي حتى قبل أن تخرج التراب من فمي، ولكن ما أن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل المشبوب بالعناد.. ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب..

"السلطة" لا تشبه أمي بكل تأكيد.. فما فعلته أمي كان دون شك بدافع الحب الجم لضناها التي تحبه أكثر من نفسها، وبدافع الخوف الهلع على صحته التي تأثرها قطعا على صحتها.. أمّا تفعله ما تفعله "السلطة" فلا علاقة له بأي حب، ولا صلة له بالصحة، أو بما هو حميد غيرها، بل يتم بدوافع الإخضاع والتدجين، وربما الاستعباد.. إن المقارنة أحيانا تكون ظالمة، وربما تبدو في عتهها إهدارا للعقل، ولاسيما عندما يكون فارق المقارنة بينهما خرافي، وبأرقام مهولة..

ربما يبدو المتشابه بين أمي و"السلطة"، في استخدام القمع.. ولكن الحق يمنع حتى التأفف من الأم، مهما بلغت بها الكهولة ومهما بلغنا من السلطان، بل والواجب علينا احترامها وإكرامها بالخلق العظيم.. فيما "السلطة" تقمع الشعب وتستبد عليه.. صحيح أن كل منهما تقمع في إطار ولايتها، ولكن "السلطة"
التي بدون مشروعية قد جاءت عن طريق الغلبة والاغتصاب، أو بالمخاتلة والتحايل على الديمقراطية.. أما أمي فمشروعيتها من مشروعية وجودي في المقام الأول.. غير أن السؤال الأهم: لماذا نتمرد على الأم، وهي الأحق بالطاعة والإذعان، ولا نتمرد على "السلطة" ـ أي "سلطة" ـ طالما هي ظالمة ومستبدة؟!!

صحيح أن أمي و"السلطة" تشتركان في الجهل، ولكن جهل أمي له ما يبرره، وهو جزء من واقع، تقع مسؤولية تغييره على "السلطة" أولا؛ والتي يجب عليها أن تناهض الجهل، فما البال و"السلطة" تعمد إلى تكريسه، ليس في الحضانة والتنشئة الأولى فحسب، ولكن أيضا في المدارس والجامعات، وتعول عليه في سياساتها إلى حد بعيد..

"السلطة" تعتقد أن القمع هو الخيار الوحيد، أو الخيار الأول، للحصول على نتائج فورية، ولكن كثيرا ما تأتي النتائج صادمة، أو مخيبة للآمال، والأسوأ أن "السلطة" تعاند وتوغل في عنادها حيال شعبها، ولا تعترف ولا تقر بما تقترفه من أخطاء، إلا بعد أن تكون قد دفعت كلفة أكبر من الخطأ بفعل عنادها، ويكون قد أوقع الفادح ما هو أفدح منه..

تبالغ "السلطة" وجماعتها الدينية الموغل ذهنها في الماضي بتعصبها لصالح المجتمع المغلق الصارم في عاداته وتقاليده وثقافته.. بل وتستعرض اعتزازها بهذا الانغلاق، وتعمد إلى فرضه وتكريسه، تحت عنوان الحفاظ على العادات والتقاليد الأصيلة للمجتمع، وباسم الأصالة يجري التحصين والتأكيد على الماضي، وعلى كل ما هو بائد ومتخلف ومهتري، ويكون ذلك على حساب المستقبل الذي نروم..

تعيش "السلطة" وجماعتها الدينية حالة تناقض وانفصام تام، وعدم تصالح فج مع ذاتها، حيث تتزمت في اخلاقها، وتمارس عُقدها على المجتمع، وتتشدد حيال التفاصيل الصغيرة، فتقمع المرأة التي لا ترتدي حجاب، وتتعامل بصرامة حيال من ترتدي حزام الخصر، وتعتدي على إعلانات الكوافير، وتعتبره انفلات سحيق، وسقوط اخلاقي مريع، وبالتالي تتحول إلى شرطة آداب حازمة حيال القضايا التي يتبناها تزمتها، مثل موقفها من حقوق المرأة، وحرياتها، والاختلاط، والموضة، وملابس الشباب، وحلاقة رؤوسهم، وتضيف إلى ذلك ما هو فضفاض، مثل "الحرب الناعمة" التي تدرج فيها كلما يروق لها، أو تريد قمعه وتحريمه وتجريمه تحت ذلك العنوان الغير منضبط.. وفي المقابل تتخلي تلك "السلطة"، وعلى نحو صارخ، عن مسؤولياتها حيال مواطنيها فيما هو أهم، مثل التخلي عن مسؤولية دفع رواتب الموظفين، وعدم توفير الصحة لمواطنيها، والتخلي عن التزاماتها حيال معظم الخدمات، ومنها التعليم فضلا عن الرقي به، بعد أن تكون قد أفسدت معظمه..

الاحتشام لدى سلطة الجماعة الدينية ليس صناعة وعي، ولكنها شكليات تكرسها وتتعاطي معها بصرامة.. خيمة سوداء ثقيلة وعمياء، وعُقد اجتماعية شتّى، وكبت وتضييق، وإعادة انتاج نفايات الفكر، والتصورات البالية، وطباعة الكتب والمنشورات الصفراء، وغيرها من الأحمال والأثقال التي يجري إلقاءها على كاهل المرأة ومحاصرتها بها.. وتعتبر السلطة المأزورة بالواقع الظلامي الثقيل، إن الوصاية على اخلاق المجتمع، والتضييق على الحريات الشخصية والعامة من أولوياتها ومبررات وجودها، فيما هي تتخلى في المقابل وبالتقسيط أو نظام الدُفع، عن كل المسؤوليات التي كان يتعين عليها النهوض بها، وهي من صميم عملها وواجباتها.. وهكذا تجد "السلطة" وجماعتها تتحول إلى شرطة آداب، تحمي "الاخلاق" وتفرض وصايتها على الناس باسم المقدس، بدلا من خدمة شعبها، وتحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي..

الواقع مشوّه وموبوء بأمراضنا وعُقدنا وعنادنا المدمر للآخر وللذات.. عناد بدأ معنا من نعومة أظفارنا، وكبر معنا، وربما يظل عالقا في أعماقنا حتى أرذل العمر إن بلغناه.. كما أن التربية الغير سوية في مجتمعنا، تبدأ معنا من الحضانة، وتستمر رعاية التشوُّهات في فترة التنشئة والمراهقة حتى تبلغ العظم والصميم، ويتعدى أذاها من الشخص إلى المجتمع.. سلطة جماعة تحتقر الأغنية وتتهم الشعر حتى وإن تصالح فيهما الإنسان مع نفسه، بل وتحوله باتهامها إلى شيطان واجب عليها اجتثاثه وعيا وممارسة، حتى وإن كان زاهد..

توغل "السلطة" في عنادها عندما تحتشد كلها، وما لديها من أجهزة ومال ونفوذ وإعلام ووسائل قمع في ممارسة اخضاع أسرة بسيطة مثل أسرة إقبال الحكيمي، لمجرد إن إقبال وأسرتها قرروا يوما المطالبة بوقف الجرائم التي ترتكب ضدهم من قبل رجال "السلطة"، وفضح ما تمارسه من طغيان، ومطالبتهم بوقف تلك الجرائم، ومقاومة الظلم الواقع عليها وعلى الناس.. وتوغل السلطة بمزيد من العناد وتلفيق التهم ضد أسرة إقبال وتزج بها في سجونها؛ بل وتتعدى إلى كل من يساعدهم أيضا، لتداري جرائمها الفجاج، والحيلولة دون كشفها، وهو عناد أخرق منها، وغير مسؤول، سيتكفل الزمن بكشف ما يُدارى، وإسقاط عنادها، ومعه كل سياسات التدجين والإخضاع التي تمارسها بعنفوان..

إن العناد الذي نكتسبه أو الذي نتطبع فيه، يمكن أن يتحول إلى قوة تدميرية تهلك المعاند نفسه، وتهلك من حوله، وربما تمتد آث
اره إلى المجتمع.. الانحراف بالعناد يدمر الآخر ويدمر الذات.. يدمر المجتمع ويدمر صاحبه أيضا.. كما أن الاعتماد على سياسة القمع والإيغال والعناد فيها، لن يأتي إلا بكل ما هو بائت ومشوّه وغير سوي..
إن أخطأت في البيت تُضرب، وإن أخطأت في المدرسة تُضرب، بل إن الضرب هو إحدى العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، وأكثر من هذا أن السياسة العقابية في تشريعاتنا المثقلة بالوجع والركام، لا تقوم على أساس إصلاح الجاني، وإعادة تأهيله ليندمج في المجتمع، بل تقوم على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.

من الأجدى والأنفع أن نحول عنادنا إلى تحدّي ينتج طاقه خلاقة كبيرة ومبدعة، تثري العلم والمعرفة، بما يخدم الناس والعالم خيراً وفضيلة ورخاء.. كثير من العلماء المخترعين والمكتشفين وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيهه على نحو خلاق في خدمة الناس والبشرية؛ فاكتسبوا العظمة والخلود، فيما هناك كثير من مجرمي التاريخ وسفاحيه بسبب عنادهم وتصلب رأيهم أهلكوا النسل والضرع بحروبهم .. أهلكوا أنفسهم وشعوبهم..

أما أنا فأدعي أنني أحاول أن احوّل الابتلاء بالعناد الذي يسجل لدي بعض حضوره، إلى طاقة خلاقة وموقف مساند للمظلومين، والدفاع عن حقوقهم المنتهكة، والتصدي للسلطة التي تعمد إلى قهرهم واذلاهم وتدجينهم وإخضاعهم لها ولجبروتها.. أو هكذا أزعم.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
كلية الحقوق
(6)
مناهج البحث والخذلان
احمد سيف حاشد

• بدأتُ التمرد في طفولتي بسؤال برئ، ولمّا تم قمعي وزجري، او تم الرد على السؤال بكذبة لم تنطلِ، أو أنطلت، ثم تكشّف كذبها، تكاثرت الأسئلة، وتناسلت كالضوء في الليل المدلهم بالسواد، تتحدى قاتم الظلام ووحشته، ولم تستطع سلطة القمع الثقيل، وأبوية السلطة الكبيرة، إخماد أنفاسها، وإن استطاعت لبعض الوقت إخراسها، أو تأجيلها بحبل الكذب القصير، لكنها ظلّت في جذوة العقل متأججة، تقاوم الموت والإخماد، وتشتعل في كل بُعد قصي، تبحث في الوجود عن جواب، وفي محبس الصدر المكبل بما هو أشد من الحديد، ظلّت تجوس وتعتصف، ولم تهدأ حتى تجد شافي الجواب..

• كانت مناهج البحث العلمي في كلية الحقوق، من أهم المواد التي أُشغف بها، وتثير كثير من الفضول والأسئلة.. تعلّمت منها أنها أداة العلم الغزير، ومصنع إنتاج المعرفة.. هي العون الأهم في تقدُّم كل العلوم، وهي الوسيلة التي تعيين، وبها نستعين، للوصول إلى مراسي المعرفة، بمنهجية، تكشف الجديد، وتجيب على الأسئلة..

• كنت أقتني ما استطعت من الكتب، وأضيف ما تيسر لمداركي، والكشف عمّا أجهله، ولا أنحصر بما تقرر في الدرس ومراجعه، وأسعى دوما للاستزادة من هنا أو هناك، وكل الأمكنة.. أذهب شغوفا إلى المكتبة.. أقرأ في مناهج البحث، وما يعينني على اكتساب المعرفة، والوصول إلى الجواب.. مناهج البحث هي الطريق الأهم، للإجابة على الأسئلة المستعصية، والباحث عن الحقيقة غير آهل إن لم يتجرد من الركام والعوالق والعواطف، وكلما يزيّف الوعي أو يشوّهه..

• كانت درجاتي في اختبارات مساق مناهج البحث ( 4 من 5 ) ، ومع ذلك ليس من السهل أن تنتزع مثل تلك النتيجة، من أستاذ المادة الدكتور أحمد زين عيدروس.. كان لدى هذا الأستاذ فلسفة خاصة في منح الدرجات، حيث يرى أن المؤلف فقط هو من يتم منحه خمسة على خمسة، أما الدكتور الذي يدرِّسها لطلابه، فلا يستحق غير أربع درجات من خمس، أمّا الطالب فلا يجب أن يمنح أكثر من ثلاث درجات، ومع ذلك كان إذا ما وجد طالب ملمَّا ومجتهدا وقارئا باستفاضة، يعطيه أربع درجات أي جيد جدا، وهي درجة نعتبرها وكذا الأستاذ مستصعبة، ولا يبلغها الإ قلة قليلة من الطلاب بشق النفس..

• لقد ظفرت في مادة مناهج البحث بنتيجة 82 من100 درجة، وهي ربما الدرجة الأعلى في نتائج طلابه.. لقد كان الدكتور أحمد زين أشد بخلا من الأستاذ حامد، حيث حصدت نهاية العام في مادته "نظرية الدولة والقانون" 88 من مائة درجة وهي تقريبا أعلى درجة منحها الأستاذ حامد لطالب في تلك الدفعة.. الدكتور أحمد زين والأستاذ حامد كان الأكثر تشددا في منح الدرجات بالكلية.. كانت التعليم قويا، والمثابرة لازمة، والدرجات عزيزة، وأنت تبذل جل جهدك لتبلغ ما أمكنك بلوغه، وهو أقرب إلى الانتزاع منه إلى كلمة "حصاد"..

• أستاذ مناهج البحث أحمد زين عيدروس، كان حذرا من الولوج في السياسية المدججة بالقمع، ومتحررا من الأيديولوجيا، لازلت أتذكره وهو يحثنا على أن من يريد البحث منّا فيلزمه الحياد والموضوعية والتجرد، بل ووجوب رمي كل القناعات والتصورات المسبقة إلى الخلف ولا يستدير إليها.. وفي مثل هذا يقول الفيلسوف ، والعالم الرياضي والفيزيائي الفرنسي رينيه ديكارت: "إذا أردت أن تكون باحثا مخلصا عن الحقيقة، من الضروري أن تشك في كل شيء لأقصى درجة ممكنه، على الأقل لمرة واحدة." ويضيف: " الحواس تخدع من آن لآخر، ومن الحكمة ألا تثق تماما فيمن خدعك ولو مرة واحدة."

• ما تعلمته في مادة مناهج البحث بالجامعة، أفادني إلى حد بعيد لاحقا في دراستي في المعهد العالي للقضاء.. جئت من مدرسة أخرى لأصطدم بمدرسة تقليدية عتيقة، والأسوأ أن أكثر بحوثها في الحيض والنفاس والطهارة والعبادات عموما.. في معهد القضاء كنت إذا ألقيت سؤالا أو حيرة أو تسألت عن تناقض ما، شاهدت زملائي في الفصل الدراسي ينقسموا غالبا إلى قسمين سنة وشيعة، دون أن يعلنوا هذا الانتساب، ولذلك حبيت أن أخوض في هذا الانقسام، ولكن باختيار عنوانه، واستخدام مناهج البحث العلمي الذي تعلمته في كلية الحقوق بعدن، وكان حالي مثل الذي أقتحم عش الدبابير..

• تناول البحث على نحو رئيس جانبين الأول يتعلق بالصراع السياسي في صدر الإسلام، والثاني نظام الحكم القرشي واشتراط النسب القرشي في الولاية العامة.. عرضت هذا البحث بعد تطويره، على الأستاذ الدكتور أبو بكر السقاف، وفي الإهداء أشرت إليه وإلى عبد الحبيب سالم..

أعجب به الدكتور السقاف، وأشار إليه ثلاث مرات في كتاباته، وحثني أكثر من مرة وفي أكثر من لقاء على نشره، وتمنى أن أضيف له فصلا يتناول القرابة والقبيلة في نظام الحكم القائم تلك الفترة في صنعاء، على غرار ما فعلته مع نظام الحكم القرشي، وعندما كشفت له عن مخاوفي كوني أستعدى الجميع، قال أو بما معناه "إن البحث يحتاج اقتحام المخاطر"..

لقد أحجمت عن نشر ذلك البحث إلى اليوم، في واقع مجتمعي متخلف، ونظام قانوني سائد أكثر تخلفاً، ومع ذلك لا زال في الزمن بقي
ة، وقد بات الحاضر أشد وأدا وأكثر وطأة وفتكا ومخاطر من الماضي.. وينطبق عليه قول عبد العزيز جويدة:
"هذا زمان الأغْبياء ، والويْل كلُّ الويْل لمن فهِم."

وكنت قد عدت بعد عام أبحث عن بحثي المودع في مكتبة معهد القضاء فلم أجده.. ومع ذلك ظل البحث لدي جاهزا لإصداره في كتاب منذ قرابة الخمسة والعشرين عام، وكلما ظننت إن انفراجه ستأتي تناسب النشر، أجد ما هو أكثر خطرا ومغامرة وإنحطاطا..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي..
اصداء من الوتس:

وانا كذلك يا قاضي ..
ذهبت الى معهد القضاء
لابحث عن بحثي المودع بمكتبة معهد القضاء ولم اجده..
سرقوه واتفاجأ بان احدهم قد اخذ به رساله ماجستير
من جامعة ام درمان
السلسلة الخامسة 1 - 18
قسوة .. وطفولة بطعم التمرد
(1)
معاناة في الطفولة
كان الحمل ثقيلا.. كنت أقوم بما لا يقوم به أقراني من الأطفال الذكور.. لطالما كنست الدار، ونظفت كل ملاحقه ومرافقه، ورعيت الغنم، وحملت على رأسي روث البقر.. ساعدتُ أمي فيما لا تقوى عليه خصوصا عند الحمل والولادة.. وبسبب الكنس، والدخان، وتجريب الشقاوة، أنقطع النَفَس، وأصبتُ بالربو، وكدت أفارق الحياة مرتين..

في الصف الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم أكثر من عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة وعشرة مثلها عند الإياب.. كما عشتُ لاحقا وانا أدرس في القسم الداخلي، معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية..

لازلت أذكر قسوة والدي في مرحلة من حياته، والتي تجاوزت الضرب إلى التعليق والطعن والشروع بإطلاق الرصاص..

تمردت على أبي، وسلطته المفرطة.. قاومت أكثر من ظلم أثقل كاهلي.. كنت أشعر أن الظلم العنيف يفترسني ويهرس عظامي.. رأيت الموت أكثر من مرة، وتحديت الأقدار، وثرت في وجهها بألف سؤال.. فكرت باقتحام الموت واستيفاء الأجل، ولم أعب بجهنم وبأقوال أمي إن المنتحر يذهب إلى النار.

بلغ شعوري بالظلم حد أرى فيها الحياة والموت سيان.. حاولت الانتحار احتجاجا على واقع مُر، وكرامة بدت لي مهدرة، غير أن العدول عن هذه الحماقة كان فيه انتصار للحياة والحب والإنسان.

كان لدى أبي سياسة خاطئة في التربية، تختلف عمّا هي موجودة لدى الناس، أو متعارف عليها بينهم.. كانت سياسته تستند إلى الشدة والقسوة والعنف، بل وأعتبرها مجرّبة ونتائجها أكيدة، وغير قابلة للنقاش أو الملاحظة، فضلا عن إعادة النظر، ولاسيما إنه طبق بعض منها على أخي علي ، وكانت النتيجة كما راءها قد أتت على ما أراد وأشتهى، فتشرف به، واعتز باسمه وبأنه ابنه..

كان أبي يضربني كثيرا.. ضرب يومي لا عد له ولا حصر.. ضرب يومي يبدأ مع الفجر ولا ينتهي في العاشرة من الليالي الداجنات.. أن يتم ضربي كثيرا بات أمرا طبيعيا ولا يثير عجب أو سؤال.. ولكن الغير طبيعي والعجب أنه يضربني في يومي أقل من ثلاث مرات.. إن حدث مثل هذا فهو بالنسبة لي يوم مائز ومختلف.. لو حصل وضربني أقل من ثلاث مرات، فيعني لي إنه يوم عيد، لربما لا يعاد إلا في العام الذي يليه.. يوم كهذا يستحق مني الاحتفال.

عشت الواقع بكل مراراته وقسوته.. كنت أشعر بإهانة بالغة ومهانة لا تطاق.. رفضت أن أعتاد الأمر أو أتصالح معه، وكنت أعبّر عن رفضي بحالات تمرد كثيرة، بعضها كان عابراً للموت والمجهول، أو يكاد يكون الحال كذلك في بعض الأحيان..

كان هذا الضرب يحدث غالبا أمام مشهد من الناس، وكان بعض هذا الضرب يتم بالحذاء.. كنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني.. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي وما جرى من أبي.. كنت حديثهم اليومي الذي يقتاتون عليه، أو هذا ما أخاله.. كنت أشعر أن الإهانة تسحق عظامي.. كنت أبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصاب.

ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر، وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين، ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً، وهي الانتصار للمقموعين والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح.. أدافع عن الضحايا بتفاني، ولو كلفني حياتي مرتين، أو هذا ما أخاله وأظنه..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(2)
قصتي مع المرآة
حالما كان عمري بحدود الخمس سنوات كانت أمي تحذرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، ربما هذا القمع هو من دفع طفولتي إلى الفضول، وحب الاستكشاف، والاستمتاع بما أجهله، وكأن طفولتي كانت تريد أن تعرف تفاصيل نفسها في المرآة التي ربما تبدو عالما قائما بذاته؛ عالم المرآة يثير العجب والأسئلة!! وأنا أريد أن اكتشف عوالمي من خلال هذه المرآة، التي صارت في متناول يدي؟!

كيف يبدو وجهي أمام الناس؟!! أريد من المرآة أن تحكي لي ذلك وبوضوح وبأدق التفاصيل.. الآن لا يوجد أحد في حضرتي غير المرآة وخلوتي.. هذا ما يجب اغتنامه، ولا أهدر لحظة منه.. الفضول هو شغف المعرفة، والمنع أعطى للمعرفة قيمة، واستحثاث لحوح للاكتشاف..

اليوم وعمري يشارف الستين أحاول أن أمنطق وجها من طفولتي التي كانت لازالت في حدود عمر الخمس سنين.. وبين هذا العمر وذاك عوالم وأحداث وتفاصيل أشعر أنها من الكثرة لا تتسع لها مجرّة.. وبين الطفولة والكهولة التي أقترب منها رويدا، مدى قطعته كالمسافة من السديم إلى الوجود الكثيف، نحو الكهولة والتلاشي..

كنت أحملق في وجهي بالمرآة.. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، وعلى نحو أستطيع تخيله في أي وقت أريد، وفي أي حال وهيئة أكون فيها.. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة .. ولطالما تمنيت أن يكون الخالق قد خلق لنا عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا وكل الجسد بيسر وسهولة..

عندما وجدت الخلوة و الفراغ و الوقت الكافي لإشباع رغبتي، حدث لي شيئا غ
ريبا لازلت أذكره إلى اليوم.. كنت في الحجرة العليا بدارنا القديم، والذي صار اليوم مهجورا .. كانت الحجرة مسقوف نصفها، و نصفها بدون سقف.. تلك الحجرة نسميها “البرادة”، كان مفرج الدار يتكئ في أحدى زواياها في نصفها المكشوف .. وتبدو تلك الحجرة مؤنسه، وتمنح بعض الشعور بالراحة، أكثر من أي مكان آخر في الدار.

أذكر أن تلك المرآة كانت بمساحة وجهي، أو أكبر من مساحته بقليل.. مستطيلة الشكل في إطار أنيق.. بدت لي الخلوة مع المرآة ستكون ممتعة وسعيدة.. لا أحد معي في الحجرة غيرها.. نحن بقلتنا كثير.. عوالمي التي تخصني، وعالم المرآة القائم بذاته.. لا أذكر تحديدا أين كانت أمي وخالتي وقاطني الدار.. أغلب الظن أنهم كانوا منشغلين في أماكن أخرى من الدار أو خارجه.. الأكيد أنني استغليت غفلة أهلي واستفردت بنفسي مع المرآة.. أريد ضمن ما أريده أن استمتع بخلوتي وبالمرآة التي بحوزتي أكثر وقت متاح وممكن..

كنت أشاهد صورتي في المرآة، وأقلّد حركات الوجوه.. أتجهم، وأتصنع الضحك والبكاء والغضب.. أزم شفتاي و أرخيها.. أغلظها وأخفي نصفها.. أقطب جبيني و أرخيه، واستعجب!! أخرج لساني إلى الأمام كمستفز محاسد، وأقلّبها في كل اتجاه.. أقطب حواجبي وأعقد شفتاي نحو اليمين ونحو اليسار.. أغمز وأحملق.. أفغر فاهي وأغلقه.. أجحض العينين وأضيّقها، وأحدج بها في كل اتجاه.. أهرّج مع نفسي أكثر من مهرّج.. أحاول اكتشف تفاصيل وجهي.. لو وقف ساعتها أحدهم على ما أفعله لأنفجر ضاحكا، و فجر بالضحك طابق الدار الذي كنت أختلي فيه..

بغته ومن غير مقدمات صدمني ما شاهدته في المرآة .. بدا وجهي قد اختطف واستبدل بوجه آخر.. لم يعد الذي في المرآة وجهي الذي أشاهده.. شاهدت وجه غير وجهي يملأ وجه المرآة .. وجه شديد القبح لعجوز شمطاء، بتجاعيد عميقة وكثيرة، كخريطة طبوغرافية معقدة التضاريس وشديدة الانحدارات.. وجه ألقى ي نفسي الرعب والزلزلة، و حفر في ذاكرتي تفاصيله إلى اليوم.. لا استطيع نسيانه ما حييت.. وجه مدرج بالتجاعيد العميقة والمتزاحمة كمدرجات الجبل.. وجه صارم وجهوم ومخيف.. يصعقك بالصدمة والفزع والرعب..

كدت أصرخ.. رميت من يدي المرآة بسرعة الفزع.. خرجت مرعوبا وبسرعة من الحجرة إلى السطح المكشوف المجاور.. خرجت إلى جوار “غرب” الماء المقطرن.. كاد قلبي يقفز مذعورا من قفصي الصدري.. انتابني هلع شديد، كدت معه أفقد عقلي.. تذكرت على إثرها تحذيرات أمي التي كانت تنصحني دوما على عدم إطالة مشاهدة صورتي في المرآة..

الحقيقة لا أدري من أين جاءت أمي بهذه النصيحة..؟! لعلها سمعت بحدوث أشياء مشابهة لما حدث لي؛ كأنها أخبرتني عن فتاة حدث لها مثل هذا الذي حدث لي ولم أكترث.. كنت محظوظا، فيما الفتاة كما قيل لي طار عقلها.. لعل نصيحتها جاء على هكذا مبنى أو سماع .. تجربة بالنسبة لي أقل ما يمكن أن توصف بالمخيفة..

أخبرتني أمي إن ما شاهدته في المرآة هي جنّية، وكدت أجن مما حدث، وكان الجنون أكيد إن أطلت المشاهدة برهة زمن.. وبعد أيام من القطيعة مع المرآة، وبدافع الفضول والتأكد عمّا إذا كنت أستطيع أن أشاهد صورتي في المرآة مرة أخرى أم ستكون القطيعة مع المرآة إلى الأبد.. عدت لأشاهد صورتي بحضور أمي، وكنت أختلس النظر إلى المرآة خلسة وبحذر شديد، لأشاهد ملمح صورتي فيها، فوجدتها أنها صورتي بالفعل، وليست صورة العجوز، أطمأنت إنني بخير، وإن الدنيا وأنا لا زالنا بسلام..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(3)
فاتحة وصلاة وسفينة
أريد "سفينة النجاة".. سفينة الرب إلى ما يريد ويرضى ويطيب.. أريد أن أصلّي.. أريد أن أدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد.. لا حزن هناك ولا موت.. لا جوع فيها ولا عوز.. أريد الجنة وما فيها من تعويض لحرمان، ضاق معه العيش، وأشتد فيه النكد.. أريد الجنة بما فيها من حياة أبدية لا مثيل لها ولا نظير.. كنت اطيل استفسار أمي، وهي تحكي عن الجنة وتطيل، وتشرح ما يجذب ويغري ويفيض..

أريد "سفينة النجاة" التي تعلّمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة.. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، وتشوقت له كثيرا، ومرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بواحد منها.. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، ويُرجئها من شهر إلى آخر، وبعد انتظار طال، ووعود كثيرة خابت، أوفى والدي بآخر وعد له، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله..

عندما ناولني أبي "سفينة النجاة" كانت دهشتي أكبر من عالمي، وكانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي.. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب..

قلبي عامر بالفرح.. يرقص ويغني ويطير كفراشة.. وأنا أعيش الدهشة بكل المعاني، وأردد محفوظاتي الطرية:
“أنا طفل بطل شاطر*** وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر*** وأدعو الله يهديني”

ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وأنكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..

“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث
الذي لا أدري ما مدى صحته وموثوقيته، أشقاني، ونال مني الكثير، حتى أنني وقد قاربت الستين، لم أحسن ما ضُربت لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير..

خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة.. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي وحذائه، فطيّر عقلي وطار صوابه، ووجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها الضباع والسباع.. تهدج صوتي، وأضطرب تفكيري كبحر وعاصفة.. أتشتت روحي كنثار رمل في الريح، وتطايرتُ كشرر نار الحديد تحت مطرقة الحداد..

أنساني التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون مواسم، وتتساقط بعض الكلمات من فمي، فألمّ بعضها ويتساقط أخرى أكثر منها.. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..

يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، وتتداخل الألوان ببعضها، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا يعرف، ولا يعرف سامعه ماذا أقول..

ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة الجحيم، في روحي المهشمة وأجنحتي المتكسرة..

أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت ألتّها وأفتّها إلى يوم القيامة.. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي في قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في "كريتر" عدن.

أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة أيضا مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، وتعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبي، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن..

ثم ترك أخي عدن، وولّى هاربا من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح .. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: "سجل 16 سنة".. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عام..

غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..

فيما قصتي مع "سفينة النجاة" يشابه ما حدث لسفينة "تيتانيك".. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، و"الرب خير حامي وحارس"..

"سفينة النجاة"، وجدتها، ولكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدت خيبتي التي تبتلع المحيط.. وسفينة "تيتانيك" التي ساد الاعتقاد يومها إنها ضد الغرق، غرقت في قاع المحيط..

"تيتانيك" بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق للمحيط ، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم..

فيما خالتي "سعيدة" أم علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها "الفاتحة" أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..

خالتي "سعيدة" كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..

..................................

(4)
رعي للغنم والعنزة "بيرق"
رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا حالما يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية ربما قل مثيلها.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة من الزهور، تملؤوا عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل لا تُنسى، بل أثبتت خمسون سنة مضت، إنها عصية على التلاشي ما حييت، ولا يدركها غروب أو نسيان..

ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لم أنسها إلى اليوم، رغم مرور نصف قرن من عمر حافل ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لن أنساها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، أو صعدتُ علوا منها إلى سطح القمر..

ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..

لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أ