أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
(1)
تأمل وأسئلة..
احمد سيف حاشد

لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالم الصاخب بالجلبة والضوضاء! المزدحم والمحتدم بالصراع والغضب والجنون.. المليء بالقتل والمظالم والبشاعات.. عالم يُنحر فيه حق الحياة باسم الحياة، وتُصلب فيه العدالة باسم العدالة، وتغيب عنه المساواة في تكافؤ الفرص حد العدم أغلب الأحيان!!

جبابرة وطغاة حكموا العالم ولا زالوا، بصيغة أو بأخرى يحكمونه إلى اليوم .. بنوا مجدهم الذي يتغنون به، على حساب دماء الشعوب المنهوبة، واستباحه كرامة الإنسان، وجوعه ووجعه وتبديد أحلامه ورجائه..

فقراء وبسطاء ومحرومين.. مخدوعين ومبتليين بلعنات الأقدار وسوء الطالع وعاثر الحظ.
الحياة بالبر والبحر والجو كاسرة ومتوحشة، وممتلئة بالظلم والألم والجنون..

عالم تم حكمه ولا زال محكوما في الغالب بشريعة الغاب، وشروط البقاء فيه، لازال للأقوى والأدهى والأمكر، وكثيرون ممن يسفكون الدم باسم الله، أو من أجل السلطة، أو من أجل أنانية مفرطة ومستبدة، وجشع يزداد ويستمر ولا يتوقف.

*

كيف جئنا؟! هل وجدنا صدفة أم ضرورة، أم هناك جواب آخر، أم أن الجواب سر عصي في عالم الغيب؟!
سؤال يمكن أن يُكلفك حياتك وتُزهق روحك باسم الله والذود عنه.. هناك اسئلة كثيرة منطقية ومعرفية الإعلان عنها، أو البحث عن إجابة لها، ربما تزج بك في صدام محتدم مع واقعك الثقيل والقاسي، أو تدفعك إلى المعتقل، أو تودي بك إلى حتفك الأكيد، أو تصيرك قربانا، وجسر عبور لجاهل، يبحث عن الجنة والغفران بإزهاق روحك؟!

يرى البعض أن الحياة هي شقاء وتعاسة وعذاب للنفس.. وأن الفوز بها إنما هو فوزا بالألم والندم والوهم، وما يتصوره البعض خسرانا، يراه البعض الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياة وأوجاعها ومشقاتها التي لا تنتهي إلاّ بالموت.

فمثلما هي الحياة عند "راسل" هي المنافسة، وعند "نيتشه" هي القوة، وعند "بيكاسو" هي الفن، وعند "غاندي" هي الحب، وعند "اينشتاين" هي المعرفة، وعند "ستيفن هوپكنز" هي الامل.. فإنها عن "دوستويفسكي" هي الجحيم، وعند "سقراط" الابتلاء، وعند "شوبنهاور" هي المعاناة..


في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضة، ويتخلق في رحم الأم، وما عدى ذلك يفنا ويموت. فإيهما المحظوظ، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموت والفناء؟!

الفيلسوف إميل سيوران يرى إن المحظوظين هم أولئك الذين لم يوصلوا إلى البويضة، أما التعساء فهم من وصلوا لها..

ويرى البعض أن ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في الحياة.. فكافكا يقول: أول علامات بداية الفهم أن ترغب في الموت، وأن الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء اشدُ خطورة من المخدرات.. ويرى سيوران أن الوعي لعنة مزمنه، وكارِثه مهُوله، ويؤكد دوستويفسكي إن الأفراط في امتلاك الوعي علة مرضيه حقيقيه وتامه..

*

نجاح الواحد في سباق الـ 300 مليون، هو الواحد الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجود لو حاكيناه ربما أختاره البعض على أمل، وربما رأى البعض في المجهول شك، ولا أمل في عالم مملؤ بالوهم والأكاذيب..

ربما رفض البعض هذا الوجود لو أتيح له الحرية و الإرادة في الاختيار.. الاختيار الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفة مستفيضة..

الأديب والكاتب الروسي الشهير "فيودور دوستويفسكي " يقول: لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضت الوجود في ظل ظروف ساخرة إلى هذا الحد." وفي موضع آخر يقول: "أوليس من الجنون أن نأتي بأطفال في ظل هذه الظروف الحقيرة."

الفيلسوف اميل سيوران يقول: "مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوان ، يُولد إنسان يشقى سبعين عاماً".. «اقترفت كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً».

والشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أوصى أن يكتبوا على قبرة:
"هذا ما جناه عليَّ أبي ... وما جنيت على أحدِ"

فيما تبدو الحياة في نظر فرانس كافكا حرب: "حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف".

فيما يرى أنطون تشيخوف أنه مع الموت ستكون انت الرابح الاكبر، فلا حاجة للهث وراء الطعام ولا الشراب ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة ابدا للجدال مع الآخرين..

أما الكاتب والأديب الأمريكي الساخر مارك توين فيقول: "يولد الناس ليؤلم بعضهم بعضا، ثم يموتون"

وسخر بعضهم من عبثية الحياة أو منطقها بقوله: خُلقت القطط لتأكل الفئران، وخُلقت الفئران لتأكلها القطط.

وتسأل آخرون: إذا كنا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعة نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..

*

كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضرورات في عملية طويلة ومعقَدة وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
سلسلة طويلة من الصدف والضرورات لا تكف ولا تتوقف، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسير، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمر نهاية!

المكان لا يكف عن السير، والزمن يتسرمد للأبد، ومألات الكون غامضة ومجهولة.

ولكن لماذا من علِق منّا في رحم الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى واجهة الكون صار
(17)
فولجا جراد.. المدينة البطلة
احمد سيف حاشد

• كانت وجهتنا الثانية بحسب برنامج الزيارة إلى مدينة "فولجا جراد" التي تبعد عن العاصمة موسكو بأكثر من ألف كيلو متر . وقد راج اسم هذه المدينة على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية بـ "ستالينجراد" حيث شهدت أهم المعارك الكبرى التي سميت باسمها "معركة ستالينجراد" واستمرت بحسب المصادر حوالي ستة أشهر، وبلغت الخسائر البشرية في حدود مليوني، ما جعل البعض يصنّفها بإحدى أكبر المعارك دموية في تاريخ الحروب.. ومُنحت المدينة لقب "المدينة البطلة".

• بوسعك هنا أيضا ومن الزاوية المقابلة أن تتذكر بعض من ويلات تلك الحروب، وما تخلّفه من نتائج وآثار كارثية.. بوسعك أن تتذكر قيام الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية بإسقاط قنبلتين ذريتين على مدينتي "هيروشيما" و"ناجازاكي" اليابانيتين والتي راح ضحيتها في لحظة بحسب المصادر أكثر من مائة وعشرين ألف قتيل، وأكثر من ضعفي هذا الرقم قتلوا فيما بعد نتيجة الاشعاع النووي، هذا غير الجرحى، وكان معظم القتلى والجرحى من المدنيين، وطال التدمير أكثر من 90% من المباني والمنشآت في المدينتين..

• الحروب مروعة ومرعبة وبشعة على نحو يفوق أحيانا التصور والخيال، ويمكن هنا نقل شهادة سيدة يابانية عاشت حدث إحدى الإنفجارين النوويين؛ حيث تقول: «كان عمري 12 عاماً.. رأيت صاعقة من البرق أو ما يشبه عشرات الآلاف الصواعق تومض في لحظة واحدة، ثم دوّى انفجار هائل، وفجأة ساد المكان ظلام تام، عندما أفقت وجدت شعري ذابلاً، وملابسي ممزّقة، وكان جلدي يتساقط عن جسدي، ولحمي ظاهر وعظامي مكشوفة. الجميع كان يعاني من حروق شديدة، وكانوا يبكون ويصرخون ويهيمون على وجوههم وكأنهم طابور من الأشباح. لقد غطّى مدينتنا ظلام دامس بعد أن كانت منذ قليل تعجّ بالحياة، فالحقول احترقت ولم يعد ثمة ما يذكرنا بالحياة»

• وبوسعنا هنا أيضا أن نتوقف قليلا لنثير نقدا ذو بعد أخلاقي وحقوقي بصدد الحروب، ومنها هذه الحرب التي نعيشها اليوم نحن في اليمن.. إنها إحدى الحروب الأكثر قذارة في العالم، ونحن ندخل عامها السادس؛ وذلك من خلال تلك الأسئلة التي أثارتها رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي: لماذا نجرّم ذلك الطالب البائس الذي يقتل العجوز المرابية في رواية "الجريمة والعقاب"، ولا نجرّم ذلك القائد الذي يرسل جنوده للموت ليعلوا في المجد؟!!

• لماذا لنابليون حق القتل، ولأمريكا حق إلقاء القنابل النووية، وليس لراسكولنيكوف قتل المرابية التي يمكن بمالها تحرير نفسه، وربما تحرير كثيرين غيره من الفقر؟! لماذا ننحاز ونحن نقرأ الرواية إلى صف الذي طالب "راسكولينكوف" قاتل المرابية أن يسلّم نفسه بدوافع عدلية وأخلاقية، عندما تجري دعوته بالقول: "استيقظ .. انهض الأن في هذه الدقيقة، و قف عن تقاطع الطرق، وأنحني .. قبل الأرض التي دنستها، ومن ثم أنحني للعالم كله على اطرافك الأربعة، وقل بصوت عال للجميع .. نعم.. نعم لقد قَتلت.ُ " ولا نطلب من الذين قتلوا الآلاف ومئات الآلاف، والملايين من البشر أن يفعل ما فعله "راسكولينكوف"؟!! لماذا ننحاز إلى مطالبة "راسكولينكوف" بالتوبة المكلفة لبقية حياته بالأعمال الشاقة، ولا نطلب عقاب من ساقوا آلاف وملايين البشر إلى جحيم الحروب والموت والمجاعات؟!!

• وماذا أيضا عمّن دمروا شعوبهم أو أفقروها أو تعسفوها، بدوافع أيديولوجية أي كانت، أو بدافع ادعائهم أو اعتقادهم أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة، وأنهم أصحاب الحق المحض، وأن أفعالهم مشروعة ومبررة، لا شك بها، ولا مدخل فيها لريب؟! وماذا عن أولئك الذين صنعوا الحروب، أو رعوها بدافع الاطماع، أو الثأر والانتقام، أو صناعة المجد أو استعادة المجد الضائع؟!!

• إن كل هذه التساؤلات لا نقصد من خلالها تبرير الجريمة أو بعضها، ولكن نقصد التساؤل: لماذا هذا الفقدان الكبير للعدالة؟! لماذا العدالة لا تطال كبار المجرمين مثلما تطال صغارهم؟!! إن ما نحتاجه هو عدالة للجميع.. نحتاج إلى عدالة تطال كبار المجرمين قبل صغارهم لردع مرتكبي الجرائم والحد منها ومن البشاعات التي يتم ارتكابها، وعدم الإخلال بميزان ومعايير العدالة التي نتغيّاها؟!!

• وفي هذا المقام بإمكاننا أن تتحدث أيضا عن جرائم إبادة الهنود الحمر السكان الأصليين في أمريكا، وإخضاع ما بقي منهم.. بإمكاننا أن نتحدث عن جرائم الحروب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام، والعراق وغيرها، وجرائم الحرب التي أرتكبها الفرنسيون في الجزائر، وجرائم الحرب التي أرتكبها الأتراك ضد الأرمن، وكل نظائر تلك الحروب التي رفض أو يرفض مُرتكبوها تعويض الشعوب، أو حتى الاعتذار لها عن تلك الحروب المروّعة التي أرتكبتها تلك الدول بحق تلك الشعوب.

• وعودة للتعريف بالمدينة التي زرناها، والتي تضمنها برنامج الزيارة، لأهميتها من حيث تاريخها العسكري في الحرب العالمية الثانية، كونها قد جرى منها تحوّل مسار الحرب، وتغيير معادلتها لصالح الاتحاد السوفيتي.. المدينة المسماة
"فولجا جراد"، والتي كانت تسمى سابقا ومنذ العام 1925 بـ "ستالينجراد"، وبعد وفاة "ستالين"، وأفول "الستالينية" في الاتحاد السوفيتي، وتفكيك ما أُسماها خلفه نيكيتا خروتشوف بعبادة الفرد أو عبادة الشخصية، تم تسميتها "فولجا جراد" حيث أقترن اسمها باسم نهر "الفولجا" وتمتد المدينة بمحاذاة الضفة اليمنى لنهر الفولجا بطول يبلغ 30 كم..

• توجد في المدينة ما عُرف بـ "القبة السماوية" لعرض حركة الكواكب والنجوم، ونصب تذكاري، وتماثيل، ومتاحف، ومسارح، وقاعات للحفلات، ولوحات فنية.. وتوجد فيها أيضا مصانع ومنشآت وعمران، ويوجد أيضا نهر الفولجا، أغزر وأكبر نهر في أوربا كلها.. "الفولجا" بحسب المصادر تعني نهر المشرق الذي أطلقه سكان حوض النهر منذ القدم، والبالغ طوله أكثر من 3500 كم " أما "جراد" المقرونة باسم النهر فتعني مدينة..

• يا إلهي .. ماذا هذا الذي أراه من بعد.. من هذه المرأة التي يعتلي رأسها الفضاء، وهي تمتشق السيف في وجه السماء؟!! ما قصتها؟! اي فنان أبدع كل هذا؟! وكيف أتمه؟! وكم أستغرق من الوقت ليصير على هذا النحو الذي نراه؟!

• أول ما يبهرك عند نزولك أو وصولك إلى المدينة أو مشاهدتك المدينة هو ذلك النصب التذكاري الكبير الذي تشاهده من البعيد، تمثال لامرأة ممتشقة السيف يطلق عليها “الوطن الأم” يقع على هضبة مرتفعة؛ ليصير ارتفاع فوق ارتفاع، ليطل شهوقها على المدينة.. ويعتبر هذا التمثال أعلى منحوتة في العالم في تلك الفترة، وبارتفاع يصل إلى 85 مترا أقيم تخليدا لضحايا معركة "ستالينجراد" التي جرت بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا عامي 1942 و1943. وأصبح تمثال المرأة التي تحمل السيف بيدها رمزا للمدينة.

• أخذنا مقاعدنا تحت ما يُعرف بالقبة السماوية.. تم اطفاء الأنوار .. شيء خرافي تجده ينقلك إلى عالم من الدهشة والذهول.. نسيت أنني قاعدا على الكرسي.. نسيت من أنا ومن أين أتيت!! خلت نفسي أسبح في الفضاء كنجم أو كوكب درّي أو رائد فضاء.. بديت والكون من حولي ومن كل اتجاه، تهت في الفضاء حتى فقدت كينونتي والاتجاهات الأصلية المعتاد عليها من شرق وغرب وشمال وجنوب.. كل شيء هنا يدور.. يدور من حولي حتى أدوخ.. في حدود الساعة تقضيها وأنت تحلق بين النجوم والكواكب والمجرات والأكوان.. ساعة من المعرفة الكونية التي لا تنساها ما حييت..

• زرنا متحف بانوراما الذي يصور "معركة ستالينجراد" ويعرض ملخصا لمعركة "ستالين جراد" والحرب العالمية وشدة الاستبسال وزهو الانتصار.. رغم كثرة الملاحم والبطولات التي تشاهدها في الصور والتماثيل وبقايا قطع وآثار الحرب، وكل ما ينقلك إلى أجواءها، لفت نظري وجود صور لقادة دول التحالف تشرشيل، وروزفلت، وستالين بطريقة مبهرة.. رؤساء الدول المنتصرة في الحرب.. الرؤساء الذي اجتمعوا أعقاب الحرب، في مكان من العالم، ليقاسموه.. غدا العالم على الطاولة غنيمة حرب ونفوذ يتقاسموه فيما بينهم؛ وليبدأوا صراعا آخر بينهم من نوع آخر.. حرب باردة أستمرت لعقود.. شعوب كثيرة دفعت أثمانا مكلفة وباهظة، ولازال بعضها يدفع ثمنا للمنتصر إلى اليوم.. وحتى كثير من الأحزاب الشيوعية المضحوك عليها في بلدان أوربية تفاجأت بنتائج الاقتسام، وصعقت وهي تشعر أنه تم التخلي عنها، وقد تم تقاسم العالم بين المنتصرين..

• زرنا أيضا بقايا بناية تسمى " بيت بافلوف " التي شهدت صراعا عنيفا وثبتت فيها حضيرة من المدافعين الروس ودارت رحاها معارك ضروسة من اجل السيطرة عليها، وهي لا زالت تحتفظ بكثير من جدرانها المخرومة بازدحام كوجه أصابه الجدري بكثرة وغلاظة.. قالوا أن حضيرة هنا استبسلت ودافعت عن تلك البناية.. بعض من مشهد يعكس ضراوة الحرب واستبسال المدافعين عن المدينة..

***
بعض من تفاصيل حياتي
يتبع..
ذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئة وأخطاء لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعونها هم؟!
لماذا الأبناء والأحفاد يتحملون أخطاء وخطايا الأجداد البعاد؟!! لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا هو الحال ـ أن يتحملون خطيئة أمَنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمان، إن كان للزمان آخر وختام؟!

أختي هذه بنقاء البلور وبساطة القديسين.. مستسلمة للأقدار بسذاجة البلهاء الصبورين.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمن أخطاء آخرين.. لا زالت مستسلمة لأقدار لم تصنعها، ولم تشارك في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا. عاشت طفولة بائسة، وزُوجت وهي طفلة لرجل يكبرها بحدود الثلاثين عام.. أختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدار السيئة على غير ما تريد... آخر نكبة لها وآخر مصاب جلل أصابها كان مقتل ولدها، في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تم الاستيلاء عليه من قبل أمراء الحرب، وأرباب الفساد، وتجار الحروب والأوطان.. حتى اسمها يبدو أنه قدر مخادع..

اسمها ليس على مسمى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر.. حتى أسماءنا بتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر، أنها كانت مجرد وهم على وهم، وسراب فوق سراب.

*

زواج "أمي" من أبي:

كانت أمي لا تريد الزواج مرة ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني.. ولكن تم إقناعها بالزواج للمرة الثالثة من قبل إخوانها، وإغرائها بوصف "أبي" ـ التي لا تعرفه ـ بالشهامة والمرؤة والشرف ، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد..

قالوا لها: إن البنت لن تفيدك في حياتك، إنها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خير عائن وساند في حياتك، وضماناً لمستقبلك من قادم الأيام، وما قد تحمله لك من نوائب ومجهول..

كل له منطقه وحججه في ظل واقع ملغوم، وغير آمن للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطة عميقة ومتجذِّرة، وفي المحصلة كلمته عليها هي فصل الخطاب.. وليس لـ"حذام" قولا هنا، ولم تقطع "جهينة" قول كل خطيب..

"أبي" شاهد "أمي" في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها.. تزوج "أبي" قبل "أمي" خمس نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدة بقت في عصمته، إنها أم أخي علي.. وكان علي الولد الناجي الوحيد من الموت، والمتبقي لها، وظلت زوجة لأبي حتى توفاها الأجل، وكانت أمي أم لسبعة ناجين بنات وبنين، وكانت أمي مسك الختام..

عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى "البقطة علّقت على هذا الزواج بقولها: "حنش مع محنوش" وكأن لسان حالها يقول: خيبتها على خيبته.. "جنِّي تزوج جنِّية".. تعدد زواج "أبي"، وتعدد أزواج "أمي"، فـ "أبي" سبق أن تزوج قبل "أمي" أربع زيجات، وأمي تزوجت قبل "أبي" اثنين وتلاهما "أبي" ثالثاً..

ربما بدأ الأمر في نظر البعض تجارب فشل متعددة من الجانبين، وربما نظر البعض أن كليهما بات خبيرا في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواج إلى نهاية العمر، متحديا ومغالبا عواصف هوجاء وأحداث دهماء، ومصائب عظام، وما كان ليصمد من الزواج أعظمه أمام واحدة منها..

استمر هذا الزواج طويلا في صمود اسطوري ندر مثله.. زواج اشبه بزواج البحر والجبل.. عراك دائم مدا وجزرا.. وضجيج مستمر لا يقر ولا يستكين، ولكنه لم يتخل أو يدر احدهما ظهره للآخر في قطيعة تدوم.. عظمة هذا الزواج هو صموده الخرافي، واستمراره مقاوما كل عوامل الفراق والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أي صدام أو احتدام.. لم يستسلم لعامل أو طارئ، وإن كان بحجم كارثة، ولم يهتز بجزع أو هلع، أو بقطع رجل ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكا للختام..

أما أنا فكنت الجامع والمشترك الذي ظل يمنح الصبر والبقاء، والرقم الذي رفض أن يخرج من حساب المعادلة.. أنا الولد الغائب الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عقد قران "أمي" على "أبي".. أنا الذي سيكون في حياة أمي ضماناً لمستقبلها في قادم الأيام، وما قد تحمله من نوائب ومجهول.. وكنت لها هذا الضمان، بل والوجود كله..

*

بعض من تفاصيل حياتي .. اعادة نشر
يتبع..
(2)
زواج "أمّي":
احمد سيف حاشد
تزوجت "أمّي" مرتين قبل أبي.. كنت يومها في حكم العدم.. يبدو ذلك العدم حال مقارنته بوجودي اللاحق خالي من كل شيء.. فراغ كبير، لا مكان له ولا زمان.. فراغ لا وعاء له ولا حدود.. ليس فيه هم ولا معاناة ولا جحيم.. لا يوجد فيه أي مظهر من مظاهر الإحساس أو الوجود من أي نوع كان.. حالة لا يمكن تصورها أو وصفها بغير العدم أو ما في حكمه..

لتجد مقاربه لفهم عدمك، عليك اطلاق عنان وعيك، لتتصور هذا العدم.. عليك أن تتخيل عدمك إن كنت تَغرق في الخيال، والتفكير العميق.. عليك أن تطلق الأسئلة في فضاءات استكشاف الوجود واللاوجود.. اسأل وعيك إن كنت تعي: ماذا كنت قبل ألف عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكون قبل مليون سنة؟! وماذا كنت تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى الصفر لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفر دون..

زوج "أمّي" الأول:

أعود من هذا التيه في العدم واللاوجود، إلى الوجود، وما أنا بصدده هنا.. كان زوج "أمي" الأول من أقاربها.. كان هذا الزواج على "أمي" باكرا، ولم يغادر عمر "أمي" عند عقد هذا القران، سن الطفولة الباكر.. كانت قاصرة، وعمرها لم يتعدَّ في أفضل الأحوال الـ 12عام، فيما الشاب الذي تزوجها كان يكبرها بأعوام..

أستمر زواجهما أربع سنوات، أو دونها أو أزيد منها بقليل، ولم تنجب "أمي" من هذا الزواج الذي جاء ربما قبل طمثها الأول بسنين، ومع ذلك لم اسمع من أمي يوما إنها ذمّت هذا الزواج، أو قدحت فيه، أما لجهلها أو لرضاها، أو لبقايا ذكريات وحنين جميل تنزع إليه..

أراد زوجها أن يذهب بها معه إلى مدينة عدن، حيث يعمل ويقيم، غير أن أب الزوج كانت له سلطة القرار الأول في الرفض أو القبول، وكان منه المنع والرفض جازما وحازما، وفرض على الزوجين خياره هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيل.. كان بإمكانه أن يتدخل ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجته في القرية، وهو ما حدث، وكان باب لمشكلة يوما تداعت..

كان على الزوجة رغم صغر سنّها، بذل ما في وسعها لخدمة أسرة الأب وطاعته، أما الابن فيجب أن يكون خاضعا ومطيعا، لا يرد للأب أمرا، ولا له حق أن يعترض أو يغالب إرادة والده إذا ما شاء وأراد..

كان من المعيب، بل ومن المعصية والعقوق أن يتصدى الابن لرغبة وسلطة أبيه، حتى وإن سحق الأب سعادة ابنه وحُبه لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطة أسرة الزوجة هي الأخرى، وبدعوى حماية ابنتهم من تعسف أسرة الزوج، فتبدأ المقامرة بمصير الزوجية ومستقبلها، وكثيرا ما كان يؤدّي هذا التدخل والتضاد، إلى الطلاق والفراق الكبير..

تدخلت سلطة "أم أمي" وكانت الأم ذو شخصية نافذة، وإرادة قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجين يجهشان بالبكاء، لا يريدان طلاق أو فراق.. الاثنان يجهشان بالبكاء، ويزيد من مرارة الحال، أن ليس لهما في مصير زواجهما وحبهما حولا ولا قوة، ولا يد لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرة أرباب الأسر، وباحتدام الخلاف بين أب الزوج وأم الزوجة، وعدم الاكتراث والحفاظ على ما أمكن، خسر الحب المغلوب بالطاعة والمقامرة، وأنتهي به المآل الى الُخُلع، والفراق إلى الأبد..

***

زوج "أمّي" الثاني:

تزوجت "أمي" للمرة الثانية من منطقة بعيدة نسبيا، ومن غير الأقارب.. ولكن هذا الزواج كان قصيرا وعابرا.. لم تمكث "أمي" لدى هذا الزوج الطيب والكريم، غير أسابيع قليلة، كان الحب ناقصا، ومن طرف واحد، ولم يستطع سخاء الزوج وكرمه، أن يسد ما نقص من الحب الفاقد نصفه..

لقد تم زفاف "أمي" في زواجها الثاني، دون سابق معرفة بمن أرادها للزواج، بل ودون أن تراه أو تُستشار، ودون أن يكون لها كلمة في قبول أو رفض أو خيار.. لم تراه "أمي" إلا في ليلة الزفاف.. كان الزواج بالنسبة لـ "أمي" وربما للزوج أيضا، أشبه بالبخت، وضرب الحظ واليانصيب..

يبدو أن قلب "أمي" لم ينجذب لمن أختاره لها أهلها، أو لمن كان له طلب اليد والاختيار.. ربما أخفق حظها، أو كان قلب "أمي" مُحبطا، أو معلقا في رجاء يائس، أو ربما لازال بعض من الحب القديم ينبض بسر وكتمان.. فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتها، وتظل في الذاكرة فترة قد تطول وتمتد إلى الكهولة، ويظل الحنين إلى القديم المعتق، يرفض أن يغادر أو يموت..

ما لبث عقد هذا الزواج أن أنفض وأدركه الفراق باكرا، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنه أدركه الحمل، ورزقت "أمي" منه بنتا، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفة باهظة، تستمر من الولادة حتى آخر العمر.. واقع اجتماعي ثقيل وظالم، يحملها على أن تدفع ضريبة وجودها وجع وإرغام، وانتقاص يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها التراب!.

لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجة أخطاء غيره، وعلى هذا النحو من الكلفة الباهظة التي ترافقه حتى اللحظة الأخيرة من العمر، بل وتمتد إلى تحت التراب؟! لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر ك
(16)
موسكو .. النهر والمترو والصداقة
• موسكو التي كانت عاصمة للاتحاد السوفيتي، صارت اليوم عاصمة للاتحاد الروسي.. مدينة عريقة يقارب عمرها الألف العام.. يا له من مجد مؤثل بجلالة المهاب الضارب في القرون، والعابر للألفية.. لا نملك في حضورها إلا الانحناء لعظمتها وجمالها وجلالة قدرها.. موسكو عظيمة جغرافيا وتاريخ وحضارة.. أكبر مدينه في اوروبا كلها.. كيف لا ننحني لعاصمة ومدينة تصنع التاريخ والحضارة.. موسكو الولادة لعظماء كبار..!

• أول مرة أشاهد مدينة يجتمع فيها إرث عمراني يمتد ألف عام، ويلتقي بما هو جديد ومعاصر وحديث؛ ليجمعان حلة زاهية من المجد والأصالة والمعاصرة والخلود.. ثم يجتمع هذا وذاك مع نهر، يضفي عليهما جمالا مضاعفا، ليغدو الجمال في ذروته، باذخا يأسر الروح والوجدان والذاكرة.. جمال واستمتاع في مدى لا ينتهي..

• سفن وبواخر وعبّارات.. وسائل نقل متنوعه وسياحة نهرية نشطة، ومن النهر تأسرك ضفتيه منذ الوهلة الأولى.. تمنيت حينها أن أعبر طولا ذلك النهر؛ لأرى المدينة ذات اليمين وذات الشمال؛ ولأستمتع بجمال لا يُنسى، وقد تملكتك الدهشة بعمق بلا قرار، واقتحمت زحام الجمال وغماره.. ولكن كان الأسف أكبر.. برنامج الرحلة المزدحم حرمنا من متعة كهذه، وشعرنا بالحزن لهذا السهو أو الإغفال من قبل واضعوا برنامج الزيارة..

• كل يوم تمضيه في موسكو تكتشف ما هو جليل وعظيم.. كثافة لا تستطيع عبورها في عجالة أو أيام قليلة.. لقد كان لنهر "موسكوفا" الفضل الأول في تأسيس "موسكو" المدينة على ضفتيه، حتى أنها سميت باسمه.. إنه نهر يجري بطول يصل إلى500 كيلومتر تقريبا..

• كل يوم يمضي ترى في موسكو ما يذهلك.. ما تحت المدينة معجزة لا تقل أهمية ودهشة عن تللك التي فوقها.. عالم خرافي أشاهده لأول مرة.. أذهلتني شبكة الأنفاق والمواصلات السريعة .. شبكة أنفاق موسكو ربما كان طولها في ذلك العهد بحدود الـ 200 كيلو متر، واليوم صارت تفوق 300 كيلو متر..

• شبكة أنفاق المواصلات في موسكو هي تحت الأرض بعمق يزيد عن الـ 70 متر، وربما يصل بعضها اليوم إلى عمق 300 متر.. عدد من يرتادها آنذاك يصل إلى الأربعة مليون راكب، أما اليوم فيقارب السبعة مليون راكب يوميا.. وهنا تداهمك الأسئلة: من صنع كل هذا؟! وكيف حدث؟! وكيف تم التحايل على الماء تحت طبقات الأرض العليا، والممتد بذلك العمق؟!! ولماذا ماء النهر العميق لا يتسرب إلى شبكة الأنفاق؟! بل كيف تم صناعة كل هذا العجب الذي تشعر وأنت في غمرته بذهول يستقر في عمق وعيك، ويمتد بتذكاره ما يستغرق عمرك كله؟! كل ما هو تحت المدينة هنا لا يعني لي إلا معجزة من معجزات الزمن، صنعها شعب عظيم..

• كل الرحلة كانت نفقاتها مغطاه.. ولدينا أيضا مصروف جيب 300 دولار لكل منّا.. هذا المبلغ في ذلك العهد بدا لنا كبيرا جدا، لاسيما عندما تم تحويلة من الدولار إلى العملة الروسية "الروبل" في السوق السوداء.. كما أن الأسعار في موسكو كانت رخيصة أو رخيصة جدا، وكثير من السلع والضروريات الرئيسية مدعومة من قبل الدولة.. أما المواصلات في "المترو" فرخيصة جدا.. وما علمناه أن موسكو كانت في تلك الحقبة من العواصم الأكثر رخصا في العالم..

• اشتريت وآخرين بعض الهدايا لبعض العاملات في الفندق.. موظفات الفندق مسكونات بالبراءة والطيبة، ومغمورات بالبساطة ويحتفين بالغريب، ويبدين نحوه كثير مع الود والاهتمام، بل ويعمدان إلى تبديد وحشته.. تستطيع أن ترى الفرح يشع من وجوهن، وأنت تهديهن ما تواضع، ولكنه في عيونهن كان كثير.. إنها عيون أعادتني إلى عهد المرحلة الثانوية وأنا أدرس قصيدة الناقد والروائي والشاعر الفرنسي "لويس أرجوان" التي يتغزل فيها بعيون زوجته وحبيبه وملهمته الروسية "إلزا" والتي اطلق اسمها على أحد دواوينه الشعرية، وفيه قصيدة بعنوان الديوان "عيون إلزا" جاء فيها:

عيناك من شدة عمقهما رأيت فيهما وأنا أنحني لأشرب
كل الشموس تنعكس
كل اليائسين يلقون فيها بأنفسهم حتى الموت
عيناك من شدة عمقهما.. أني أضعت فيهما ذاكرتي
ثم يقول:
"قليلة جداً رقعة السماوات لملايين الأنجم
كانت تلزمهما عيناك وسحرهما التوأمان"

• غير أن المفاجأة بالنسبة لي أن أحدى موظفات الفندق ورفيقتها لا يعرفن شيئا عن اليمن، بل ولا يعرفن شيئا حتى على موقع اليمن في الخارطة لا جنوبه ولا شماله.. شيئا بالنسبة لي كان محل ذهول.. لماذا نحن نتابع كثير من تفاصيل العالم بما فيها تفاصيلهم، فيما هم أقل اكتراثا أو أقل اهتماما بنا..

• لقد كنت أتابع كثير من الأخبار والأحداث في كل العالم، وعمري لم يتجاوز بعد 18 عاما.. كما كنت أتابع تفاصيل أخبار التضامن الأممي، والمنظومة الاشتراكية، والعالم الرأسمالي، وقبل ذلك حركة التحرر الوطني، في أسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية.. وأكثر من ذلك درسنا في الكلية العسكرية تاريخ الحركة العمالية العالمية.. كما قرأت شيئا عن الأدباء الروس الكبار دستويفسكي وغوركي وتولستوي وتشيخوف.. ومنظرين روس مثل لينين وبوخارين وتروتسكي ؛ وبقي الس
ؤال: لماذا لا يعرفن شيئا هنّ عن بلادنا؟! هل الأمر مقتصر على المرأتين أم هناك الكثير..!!

على إثر ذلك اللقاء، خلت في أول الأمر أن الجميع يجهلون كل شيء عن اليمن، ولكن تبدد ذلك أثناء بعض اللقاءات التي كانت تتم بشكل رسمي مع بعض المسؤولين الروس، أو كشفت عنه الكلمات التي كانت تقال ونحن محلقين في فضاء من مشاعر الود والصداقة بعد وجبات العشاء.. كانوا يتحدثون عن اليمن الديمقراطية بود كبير وتقدير بالغ، ويتحدثون أكثر عن صداقة الاتحاد السوفيتي باليمن الديمقراطية، وعن التضامن الأممي.. وكنّا نحن أيضا نتحدث عن إعجابنا بالاتحاد السوفيتي وبالصداقة وبالمساعدة والمساندة التي يقدمها لليمن الديمقراطية، ونتحدث عن صداقة الشعوب والنظام الاشتراكي والتضامن الأممي، ودمامة النظام الرأسمالي والرجعية المتخلفة المساندة له..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
وفد من الأدباء والمثقفين وناشطي المجتمع المدني يزورون الشيخ علي محمد حيدر الضبيبي في سجن المنطقة الخامسة بأمانة العاصمة ويدعون الحكومة إلى الإفراج الفوري عنه

كتب أحمد ناجي أحمد النبهاني
صباح هذا اليوم تداعى المثقفون والأدباء والناشطون في الدفاع عن حقوق الإنسان إلى سجن المنطقة الخامسة في أمانة العاصمة لزيارة الأستاذ علي محمد حيدر الضبيبي في سجن المنطقة الخامسة حيث عبر المشاركون في هذه الزيارة عن استنكارهم لإستمرار الإعتقال التعسفي للشيخ علي محمد حيدر الضبيي منذ أكثر من شهرين بدون أي مسوغ قانوني وبدون أي تهمة وعبر المشاركون في هذه الزيارة عن تضامنهم مع الشيخ علي محمد حيدر الضبيبي ودعوتهم للحكومة ووزارة الداخلية والنائب العام إلى الإفراج الفوري عن الشيخ علي محمد حيدر الضبيبي وعن كل المعتقلين ظلما وعدوانا في كل السجون اليمنية في شمال الوطن وجنوبه وشرقه وغربه ..وقد تكون وفد الأدباء والمثقفين والناشطين المدنيين في الدفاع عن الحريات المدنية وحقوق الإنسان من كل من 1- الأستاذ أحمد سيف حاشد عضو مجلس النواب وعضو لجنة الحريات في مجلس النواب
2- الأستاذ أحمد ناجي أحمد النبهاني أديب وكاتب وناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان
3فيصل أحمد عبد الجليل العريقي رئيس منتدى الحداثة والتنوير الثقافي
4-العزي الصلوي أديب وكاتب
5/طه العامري أديب وكاتب
6-نبيل الحسام أديب وكاتب
7-توفيق عبد السلام العبسي مصور صحفي وناشط في الدفاع عن الحريات
كما شارك في الوفد عدد من المشائخ والوجاهات الإجتماعية في محافظة ريمة واليمن
(1)
تأمل وأسئلة..
احمد سيف حاشد

لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالم الصاخب بالجلبة والضوضاء! المزدحم والمحتدم بالصراع والغضب والجنون.. المليء بالقتل والمظالم والبشاعات.. عالم يُنحر فيه حق الحياة باسم الحياة، وتُصلب فيه العدالة باسم العدالة، وتغيب عنه المساواة في تكافؤ الفرص حد العدم أغلب الأحيان!!

جبابرة وطغاة حكموا العالم ولا زالوا، بصيغة أو بأخرى يحكمونه إلى اليوم .. بنوا مجدهم الذي يتغنون به، على حساب دماء الشعوب المنهوبة، واستباحه كرامة الإنسان، وجوعه ووجعه وتبديد أحلامه ورجائه..

فقراء وبسطاء ومحرومين.. مخدوعين ومبتليين بلعنات الأقدار وسوء الطالع وعاثر الحظ.
الحياة بالبر والبحر والجو كاسرة ومتوحشة، وممتلئة بالظلم والألم والجنون..

عالم تم حكمه ولا زال محكوما في الغالب بشريعة الغاب، وشروط البقاء فيه، لازال للأقوى والأدهى والأمكر، وكثيرون ممن يسفكون الدم باسم الله، أو من أجل السلطة، أو من أجل أنانية مفرطة ومستبدة، وجشع يزداد ويستمر ولا يتوقف.

*

كيف جئنا؟! هل وجدنا صدفة أم ضرورة، أم هناك جواب آخر، أم أن الجواب سر عصي في عالم الغيب؟!
سؤال يمكن أن يُكلفك حياتك وتُزهق روحك باسم الله والذود عنه.. هناك اسئلة كثيرة منطقية ومعرفية الإعلان عنها، أو البحث عن إجابة لها، ربما تزج بك في صدام محتدم مع واقعك الثقيل والقاسي، أو تدفعك إلى المعتقل، أو تودي بك إلى حتفك الأكيد، أو تصيرك قربانا، وجسر عبور لجاهل، يبحث عن الجنة والغفران بإزهاق روحك؟!

يرى البعض أن الحياة هي شقاء وتعاسة وعذاب للنفس.. وأن الفوز بها إنما هو فوزا بالألم والندم والوهم، وما يتصوره البعض خسرانا، يراه البعض الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياة وأوجاعها ومشقاتها التي لا تنتهي إلاّ بالموت.

فمثلما هي الحياة عند "راسل" هي المنافسة، وعند "نيتشه" هي القوة، وعند "بيكاسو" هي الفن، وعند "غاندي" هي الحب، وعند "اينشتاين" هي المعرفة، وعند "ستيفن هوپكنز" هي الامل.. فإنها عن "دوستويفسكي" هي الجحيم، وعند "سقراط" الابتلاء، وعند "شوبنهاور" هي المعاناة..


في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضة، ويتخلق في رحم الأم، وما عدى ذلك يفنا ويموت. فإيهما المحظوظ، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموت والفناء؟!

الفيلسوف إميل سيوران يرى إن المحظوظين هم أولئك الذين لم يوصلوا إلى البويضة، أما التعساء فهم من وصلوا لها..

ويرى البعض أن ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في الحياة.. فكافكا يقول: أول علامات بداية الفهم أن ترغب في الموت، وأن الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء اشدُ خطورة من المخدرات.. ويرى سيوران أن الوعي لعنة مزمنه، وكارِثه مهُوله، ويؤكد دوستويفسكي إن الأفراط في امتلاك الوعي علة مرضيه حقيقيه وتامه..

*

نجاح الواحد في سباق الـ 300 مليون، هو الواحد الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجود لو حاكيناه ربما أختاره البعض على أمل، وربما رأى البعض في المجهول شك، ولا أمل في عالم مملؤ بالوهم والأكاذيب..

ربما رفض البعض هذا الوجود لو أتيح له الحرية و الإرادة في الاختيار.. الاختيار الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفة مستفيضة..

الأديب والكاتب الروسي الشهير "فيودور دوستويفسكي " يقول: لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضت الوجود في ظل ظروف ساخرة إلى هذا الحد." وفي موضع آخر يقول: "أوليس من الجنون أن نأتي بأطفال في ظل هذه الظروف الحقيرة."

الفيلسوف اميل سيوران يقول: "مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوان ، يُولد إنسان يشقى سبعين عاماً".. «اقترفت كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً».

والشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أوصى أن يكتبوا على قبرة:
"هذا ما جناه عليَّ أبي ... وما جنيت على أحدِ"

فيما تبدو الحياة في نظر فرانس كافكا حرب: "حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف".

فيما يرى أنطون تشيخوف أنه مع الموت ستكون انت الرابح الاكبر، فلا حاجة للهث وراء الطعام ولا الشراب ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة ابدا للجدال مع الآخرين..

أما الكاتب والأديب الأمريكي الساخر مارك توين فيقول: "يولد الناس ليؤلم بعضهم بعضا، ثم يموتون"

وسخر بعضهم من عبثية الحياة أو منطقها بقوله: خُلقت القطط لتأكل الفئران، وخُلقت الفئران لتأكلها القطط.

وتسأل آخرون: إذا كنا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعة نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..

*

كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضرورات في عملية طويلة ومعقَدة وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
سلسلة طويلة من الصدف والضرورات لا تكف ولا تتوقف، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسير، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمر نهاية!

المكان لا يكف عن السير، والزمن يتسرمد للأبد، ومألات الكون غامضة ومجهولة.

ولكن لماذا من علِق منّا في رحم الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى واجهة الكون صار
خا بالبكاء؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلان وجود، أم هو رفض واحتجاج على هكذا وجود؟! هل هو فزع من العالم أم خوف من المجهول؟!

لماذا لا نخرج إلى واجهة الكون فرحين أو مقهقهين، أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولود من بني البشر لا يستهل حياته إلاّ بصرخة بكاء حادة؟! هل صرخة البكاء هذه هي تعبيراً عن رفض لقدر لم يختاره هذا المولود، أو لم يكن لإرادته فيه شأنا أو خيارا؟!

يحاول أن يجيب الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير بقوله ساخرا: "في لحظة الولادة نبكي لأننا قادمون إلى مسرح مكتظ بالحمقى".

بين صرخة الولادة وشهقة الموت عمر مثقل بالمعاناة وعالم من المتاعب والأحزان والأشياء والتفاصيل..

عندما تتعثر خطاك على الدوام، ويلحق السوء بحظك كلعنة لا تفارقك، وتخيب أمنيات حياتك، وتبطش بك الأقدار يميناً وشمالاً، وتصير فريسة للحرمان والمتاعب.. هل تكفر بنعمة من كان سببا ومعجزة في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كل ما هو تعيس وخائب؟!

***

أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاء لما أتيت إلى هذا الوجود، وكنت في حكم العدم.. وينطبق هذه على التراتُبيات كلّها.. إلى كل الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.

ماذا لو أجهضتني أمي في بطنها، حالما كنت لا أعي، ولا أفقه شيئا ولا أبالي بألم؟!
ماذا لو انتحرت يوما، أسحق فيه أنانيتي، وغريزة تتشبث بحياة من جحيم، أبقتني مثقل بمعاناة مؤلمة، وآلام عمر مُجهد، أمتد طويلا حتى شارف على بلوغ كهولته؟!!

وماذا نقول عمّا أسموه قتل الرحمة إشفاقا بصاحبه، وخلاص من مرض أدركه اليأس، وألم يلسع كالنار، لا يُوقفه إلا عتق النفس وتحريرها من محبسها الجسدي الضيّق، والأشد من محبس الحديد..؟!!

من تفاصيل حياتي ..
يتبع
(17)
فولجا جراد.. المدينة البطلة
احمد سيف حاشد

• كانت وجهتنا الثانية بحسب برنامج الزيارة إلى مدينة "فولجا جراد" التي تبعد عن العاصمة موسكو بأكثر من ألف كيلو متر . وقد راج اسم هذه المدينة على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية بـ "ستالينجراد" حيث شهدت أهم المعارك الكبرى التي سميت باسمها "معركة ستالينجراد" واستمرت بحسب المصادر حوالي ستة أشهر، وبلغت الخسائر البشرية في حدود مليوني، ما جعل البعض يصنّفها بإحدى أكبر المعارك دموية في تاريخ الحروب.. ومُنحت المدينة لقب "المدينة البطلة".

• بوسعك هنا أيضا ومن الزاوية المقابلة أن تتذكر بعض من ويلات تلك الحروب، وما تخلّفه من نتائج وآثار كارثية.. بوسعك أن تتذكر قيام الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية بإسقاط قنبلتين ذريتين على مدينتي "هيروشيما" و"ناجازاكي" اليابانيتين والتي راح ضحيتها في لحظة بحسب المصادر أكثر من مائة وعشرين ألف قتيل، وأكثر من ضعفي هذا الرقم قتلوا فيما بعد نتيجة الاشعاع النووي، هذا غير الجرحى، وكان معظم القتلى والجرحى من المدنيين، وطال التدمير أكثر من 90% من المباني والمنشآت في المدينتين..

• الحروب مروعة ومرعبة وبشعة على نحو يفوق أحيانا التصور والخيال، ويمكن هنا نقل شهادة سيدة يابانية عاشت حدث إحدى الإنفجارين النوويين؛ حيث تقول: «كان عمري 12 عاماً.. رأيت صاعقة من البرق أو ما يشبه عشرات الآلاف الصواعق تومض في لحظة واحدة، ثم دوّى انفجار هائل، وفجأة ساد المكان ظلام تام، عندما أفقت وجدت شعري ذابلاً، وملابسي ممزّقة، وكان جلدي يتساقط عن جسدي، ولحمي ظاهر وعظامي مكشوفة. الجميع كان يعاني من حروق شديدة، وكانوا يبكون ويصرخون ويهيمون على وجوههم وكأنهم طابور من الأشباح. لقد غطّى مدينتنا ظلام دامس بعد أن كانت منذ قليل تعجّ بالحياة، فالحقول احترقت ولم يعد ثمة ما يذكرنا بالحياة»

• وبوسعنا هنا أيضا أن نتوقف قليلا لنثير نقدا ذو بعد أخلاقي وحقوقي بصدد الحروب، ومنها هذه الحرب التي نعيشها اليوم نحن في اليمن.. إنها إحدى الحروب الأكثر قذارة في العالم، ونحن ندخل عامها السادس؛ وذلك من خلال تلك الأسئلة التي أثارتها رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي: لماذا نجرّم ذلك الطالب البائس الذي يقتل العجوز المرابية في رواية "الجريمة والعقاب"، ولا نجرّم ذلك القائد الذي يرسل جنوده للموت ليعلوا في المجد؟!!

• لماذا لنابليون حق القتل، ولأمريكا حق إلقاء القنابل النووية، وليس لراسكولنيكوف قتل المرابية التي يمكن بمالها تحرير نفسه، وربما تحرير كثيرين غيره من الفقر؟! لماذا ننحاز ونحن نقرأ الرواية إلى صف الذي طالب "راسكولينكوف" قاتل المرابية أن يسلّم نفسه بدوافع عدلية وأخلاقية، عندما تجري دعوته بالقول: "استيقظ .. انهض الأن في هذه الدقيقة، و قف عن تقاطع الطرق، وأنحني .. قبل الأرض التي دنستها، ومن ثم أنحني للعالم كله على اطرافك الأربعة، وقل بصوت عال للجميع .. نعم.. نعم لقد قَتلت.ُ " ولا نطلب من الذين قتلوا الآلاف ومئات الآلاف، والملايين من البشر أن يفعل ما فعله "راسكولينكوف"؟!! لماذا ننحاز إلى مطالبة "راسكولينكوف" بالتوبة المكلفة لبقية حياته بالأعمال الشاقة، ولا نطلب عقاب من ساقوا آلاف وملايين البشر إلى جحيم الحروب والموت والمجاعات؟!!

• وماذا أيضا عمّن دمروا شعوبهم أو أفقروها أو تعسفوها، بدوافع أيديولوجية أي كانت، أو بدافع ادعائهم أو اعتقادهم أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة، وأنهم أصحاب الحق المحض، وأن أفعالهم مشروعة ومبررة، لا شك بها، ولا مدخل فيها لريب؟! وماذا عن أولئك الذين صنعوا الحروب، أو رعوها بدافع الاطماع، أو الثأر والانتقام، أو صناعة المجد أو استعادة المجد الضائع؟!!

• إن كل هذه التساؤلات لا نقصد من خلالها تبرير الجريمة أو بعضها، ولكن نقصد التساؤل: لماذا هذا الفقدان الكبير للعدالة؟! لماذا العدالة لا تطال كبار المجرمين مثلما تطال صغارهم؟!! إن ما نحتاجه هو عدالة للجميع.. نحتاج إلى عدالة تطال كبار المجرمين قبل صغارهم لردع مرتكبي الجرائم والحد منها ومن البشاعات التي يتم ارتكابها، وعدم الإخلال بميزان ومعايير العدالة التي نتغيّاها؟!!

• وفي هذا المقام بإمكاننا أن تتحدث أيضا عن جرائم إبادة الهنود الحمر السكان الأصليين في أمريكا، وإخضاع ما بقي منهم.. بإمكاننا أن نتحدث عن جرائم الحروب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام، والعراق وغيرها، وجرائم الحرب التي أرتكبها الفرنسيون في الجزائر، وجرائم الحرب التي أرتكبها الأتراك ضد الأرمن، وكل نظائر تلك الحروب التي رفض أو يرفض مُرتكبوها تعويض الشعوب، أو حتى الاعتذار لها عن تلك الحروب المروّعة التي أرتكبتها تلك الدول بحق تلك الشعوب.

• وعودة للتعريف بالمدينة التي زرناها، والتي تضمنها برنامج الزيارة، لأهميتها من حيث تاريخها العسكري في الحرب العالمية الثانية، كونها قد جرى منها تحوّل مسار الحرب، وتغيير معادلتها لصالح الاتحاد السوفيتي.. المدينة المسماة
"فولجا جراد"، والتي كانت تسمى سابقا ومنذ العام 1925 بـ "ستالينجراد"، وبعد وفاة "ستالين"، وأفول "الستالينية" في الاتحاد السوفيتي، وتفكيك ما أُسماها خلفه نيكيتا خروتشوف بعبادة الفرد أو عبادة الشخصية، تم تسميتها "فولجا جراد" حيث أقترن اسمها باسم نهر "الفولجا" وتمتد المدينة بمحاذاة الضفة اليمنى لنهر الفولجا بطول يبلغ 30 كم..

• توجد في المدينة ما عُرف بـ "القبة السماوية" لعرض حركة الكواكب والنجوم، ونصب تذكاري، وتماثيل، ومتاحف، ومسارح، وقاعات للحفلات، ولوحات فنية.. وتوجد فيها أيضا مصانع ومنشآت وعمران، ويوجد أيضا نهر الفولجا، أغزر وأكبر نهر في أوربا كلها.. "الفولجا" بحسب المصادر تعني نهر المشرق الذي أطلقه سكان حوض النهر منذ القدم، والبالغ طوله أكثر من 3500 كم " أما "جراد" المقرونة باسم النهر فتعني مدينة..

• يا إلهي .. ماذا هذا الذي أراه من بعد.. من هذه المرأة التي يعتلي رأسها الفضاء، وهي تمتشق السيف في وجه السماء؟!! ما قصتها؟! اي فنان أبدع كل هذا؟! وكيف أتمه؟! وكم أستغرق من الوقت ليصير على هذا النحو الذي نراه؟!

• أول ما يبهرك عند نزولك أو وصولك إلى المدينة أو مشاهدتك المدينة هو ذلك النصب التذكاري الكبير الذي تشاهده من البعيد، تمثال لامرأة ممتشقة السيف يطلق عليها “الوطن الأم” يقع على هضبة مرتفعة؛ ليصير ارتفاع فوق ارتفاع، ليطل شهوقها على المدينة.. ويعتبر هذا التمثال أعلى منحوتة في العالم في تلك الفترة، وبارتفاع يصل إلى 85 مترا أقيم تخليدا لضحايا معركة "ستالينجراد" التي جرت بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا عامي 1942 و1943. وأصبح تمثال المرأة التي تحمل السيف بيدها رمزا للمدينة.

• أخذنا مقاعدنا تحت ما يُعرف بالقبة السماوية.. تم اطفاء الأنوار .. شيء خرافي تجده ينقلك إلى عالم من الدهشة والذهول.. نسيت أنني قاعدا على الكرسي.. نسيت من أنا ومن أين أتيت!! خلت نفسي أسبح في الفضاء كنجم أو كوكب درّي أو رائد فضاء.. بديت والكون من حولي ومن كل اتجاه، تهت في الفضاء حتى فقدت كينونتي والاتجاهات الأصلية المعتاد عليها من شرق وغرب وشمال وجنوب.. كل شيء هنا يدور.. يدور من حولي حتى أدوخ.. في حدود الساعة تقضيها وأنت تحلق بين النجوم والكواكب والمجرات والأكوان.. ساعة من المعرفة الكونية التي لا تنساها ما حييت..

• زرنا متحف بانوراما الذي يصور "معركة ستالينجراد" ويعرض ملخصا لمعركة "ستالين جراد" والحرب العالمية وشدة الاستبسال وزهو الانتصار.. رغم كثرة الملاحم والبطولات التي تشاهدها في الصور والتماثيل وبقايا قطع وآثار الحرب، وكل ما ينقلك إلى أجواءها، لفت نظري وجود صور لقادة دول التحالف تشرشيل، وروزفلت، وستالين بطريقة مبهرة.. رؤساء الدول المنتصرة في الحرب.. الرؤساء الذي اجتمعوا أعقاب الحرب، في مكان من العالم، ليقاسموه.. غدا العالم على الطاولة غنيمة حرب ونفوذ يتقاسموه فيما بينهم؛ وليبدأوا صراعا آخر بينهم من نوع آخر.. حرب باردة أستمرت لعقود.. شعوب كثيرة دفعت أثمانا مكلفة وباهظة، ولازال بعضها يدفع ثمنا للمنتصر إلى اليوم.. وحتى كثير من الأحزاب الشيوعية المضحوك عليها في بلدان أوربية تفاجأت بنتائج الاقتسام، وصعقت وهي تشعر أنه تم التخلي عنها، وقد تم تقاسم العالم بين المنتصرين..

• زرنا أيضا بقايا بناية تسمى " بيت بافلوف " التي شهدت صراعا عنيفا وثبتت فيها حضيرة من المدافعين الروس ودارت رحاها معارك ضروسة من اجل السيطرة عليها، وهي لا زالت تحتفظ بكثير من جدرانها المخرومة بازدحام كوجه أصابه الجدري بكثرة وغلاظة.. قالوا أن حضيرة هنا استبسلت ودافعت عن تلك البناية.. بعض من مشهد يعكس ضراوة الحرب واستبسال المدافعين عن المدينة..

***
بعض من تفاصيل حياتي
يتبع..
(2)
زواج "أمّي":
احمد سيف حاشد
تزوجت "أمّي" مرتين قبل أبي.. كنت يومها في حكم العدم.. يبدو ذلك العدم حال مقارنته بوجودي اللاحق خالي من كل شيء.. فراغ كبير، لا مكان له ولا زمان.. فراغ لا وعاء له ولا حدود.. ليس فيه هم ولا معاناة ولا جحيم.. لا يوجد فيه أي مظهر من مظاهر الإحساس أو الوجود من أي نوع كان.. حالة لا يمكن تصورها أو وصفها بغير العدم أو ما في حكمه..

لتجد مقاربه لفهم عدمك، عليك اطلاق عنان وعيك، لتتصور هذا العدم.. عليك أن تتخيل عدمك إن كنت تَغرق في الخيال، والتفكير العميق.. عليك أن تطلق الأسئلة في فضاءات استكشاف الوجود واللاوجود.. اسأل وعيك إن كنت تعي: ماذا كنت قبل ألف عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكون قبل مليون سنة؟! وماذا كنت تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى الصفر لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفر دون..

زوج "أمّي" الأول:

أعود من هذا التيه في العدم واللاوجود، إلى الوجود، وما أنا بصدده هنا.. كان زوج "أمي" الأول من أقاربها.. كان هذا الزواج على "أمي" باكرا، ولم يغادر عمر "أمي" عند عقد هذا القران، سن الطفولة الباكر.. كانت قاصرة، وعمرها لم يتعدَّ في أفضل الأحوال الـ 12عام، فيما الشاب الذي تزوجها كان يكبرها بأعوام..

أستمر زواجهما أربع سنوات، أو دونها أو أزيد منها بقليل، ولم تنجب "أمي" من هذا الزواج الذي جاء ربما قبل طمثها الأول بسنين، ومع ذلك لم اسمع من أمي يوما إنها ذمّت هذا الزواج، أو قدحت فيه، أما لجهلها أو لرضاها، أو لبقايا ذكريات وحنين جميل تنزع إليه..

أراد زوجها أن يذهب بها معه إلى مدينة عدن، حيث يعمل ويقيم، غير أن أب الزوج كانت له سلطة القرار الأول في الرفض أو القبول، وكان منه المنع والرفض جازما وحازما، وفرض على الزوجين خياره هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيل.. كان بإمكانه أن يتدخل ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجته في القرية، وهو ما حدث، وكان باب لمشكلة يوما تداعت..

كان على الزوجة رغم صغر سنّها، بذل ما في وسعها لخدمة أسرة الأب وطاعته، أما الابن فيجب أن يكون خاضعا ومطيعا، لا يرد للأب أمرا، ولا له حق أن يعترض أو يغالب إرادة والده إذا ما شاء وأراد..

كان من المعيب، بل ومن المعصية والعقوق أن يتصدى الابن لرغبة وسلطة أبيه، حتى وإن سحق الأب سعادة ابنه وحُبه لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطة أسرة الزوجة هي الأخرى، وبدعوى حماية ابنتهم من تعسف أسرة الزوج، فتبدأ المقامرة بمصير الزوجية ومستقبلها، وكثيرا ما كان يؤدّي هذا التدخل والتضاد، إلى الطلاق والفراق الكبير..

تدخلت سلطة "أم أمي" وكانت الأم ذو شخصية نافذة، وإرادة قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجين يجهشان بالبكاء، لا يريدان طلاق أو فراق.. الاثنان يجهشان بالبكاء، ويزيد من مرارة الحال، أن ليس لهما في مصير زواجهما وحبهما حولا ولا قوة، ولا يد لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرة أرباب الأسر، وباحتدام الخلاف بين أب الزوج وأم الزوجة، وعدم الاكتراث والحفاظ على ما أمكن، خسر الحب المغلوب بالطاعة والمقامرة، وأنتهي به المآل الى الُخُلع، والفراق إلى الأبد..

***

زوج "أمّي" الثاني:

تزوجت "أمي" للمرة الثانية من منطقة بعيدة نسبيا، ومن غير الأقارب.. ولكن هذا الزواج كان قصيرا وعابرا.. لم تمكث "أمي" لدى هذا الزوج الطيب والكريم، غير أسابيع قليلة، كان الحب ناقصا، ومن طرف واحد، ولم يستطع سخاء الزوج وكرمه، أن يسد ما نقص من الحب الفاقد نصفه..

لقد تم زفاف "أمي" في زواجها الثاني، دون سابق معرفة بمن أرادها للزواج، بل ودون أن تراه أو تُستشار، ودون أن يكون لها كلمة في قبول أو رفض أو خيار.. لم تراه "أمي" إلا في ليلة الزفاف.. كان الزواج بالنسبة لـ "أمي" وربما للزوج أيضا، أشبه بالبخت، وضرب الحظ واليانصيب..

يبدو أن قلب "أمي" لم ينجذب لمن أختاره لها أهلها، أو لمن كان له طلب اليد والاختيار.. ربما أخفق حظها، أو كان قلب "أمي" مُحبطا، أو معلقا في رجاء يائس، أو ربما لازال بعض من الحب القديم ينبض بسر وكتمان.. فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتها، وتظل في الذاكرة فترة قد تطول وتمتد إلى الكهولة، ويظل الحنين إلى القديم المعتق، يرفض أن يغادر أو يموت..

ما لبث عقد هذا الزواج أن أنفض وأدركه الفراق باكرا، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنه أدركه الحمل، ورزقت "أمي" منه بنتا، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفة باهظة، تستمر من الولادة حتى آخر العمر.. واقع اجتماعي ثقيل وظالم، يحملها على أن تدفع ضريبة وجودها وجع وإرغام، وانتقاص يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها التراب!.

لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجة أخطاء غيره، وعلى هذا النحو من الكلفة الباهظة التي ترافقه حتى اللحظة الأخيرة من العمر، بل وتمتد إلى تحت التراب؟! لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر ك
ذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئة وأخطاء لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعونها هم؟!
لماذا الأبناء والأحفاد يتحملون أخطاء وخطايا الأجداد البعاد؟!! لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا هو الحال ـ أن يتحملون خطيئة أمَنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمان، إن كان للزمان آخر وختام؟!

أختي هذه بنقاء البلور وبساطة القديسين.. مستسلمة للأقدار بسذاجة البلهاء الصبورين.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمن أخطاء آخرين.. لا زالت مستسلمة لأقدار لم تصنعها، ولم تشارك في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا. عاشت طفولة بائسة، وزُوجت وهي طفلة لرجل يكبرها بحدود الثلاثين عام.. أختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدار السيئة على غير ما تريد... آخر نكبة لها وآخر مصاب جلل أصابها كان مقتل ولدها، في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تم الاستيلاء عليه من قبل أمراء الحرب، وأرباب الفساد، وتجار الحروب والأوطان.. حتى اسمها يبدو أنه قدر مخادع..

اسمها ليس على مسمى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر.. حتى أسماءنا بتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر، أنها كانت مجرد وهم على وهم، وسراب فوق سراب.

*

زواج "أمي" من أبي:

كانت أمي لا تريد الزواج مرة ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني.. ولكن تم إقناعها بالزواج للمرة الثالثة من قبل إخوانها، وإغرائها بوصف "أبي" ـ التي لا تعرفه ـ بالشهامة والمرؤة والشرف ، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد..

قالوا لها: إن البنت لن تفيدك في حياتك، إنها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خير عائن وساند في حياتك، وضماناً لمستقبلك من قادم الأيام، وما قد تحمله لك من نوائب ومجهول..

كل له منطقه وحججه في ظل واقع ملغوم، وغير آمن للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطة عميقة ومتجذِّرة، وفي المحصلة كلمته عليها هي فصل الخطاب.. وليس لـ"حذام" قولا هنا، ولم تقطع "جهينة" قول كل خطيب..

"أبي" شاهد "أمي" في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها.. تزوج "أبي" قبل "أمي" خمس نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدة بقت في عصمته، إنها أم أخي علي.. وكان علي الولد الناجي الوحيد من الموت، والمتبقي لها، وظلت زوجة لأبي حتى توفاها الأجل، وكانت أمي أم لسبعة ناجين بنات وبنين، وكانت أمي مسك الختام..

عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى "البقطة علّقت على هذا الزواج بقولها: "حنش مع محنوش" وكأن لسان حالها يقول: خيبتها على خيبته.. "جنِّي تزوج جنِّية".. تعدد زواج "أبي"، وتعدد أزواج "أمي"، فـ "أبي" سبق أن تزوج قبل "أمي" أربع زيجات، وأمي تزوجت قبل "أبي" اثنين وتلاهما "أبي" ثالثاً..

ربما بدأ الأمر في نظر البعض تجارب فشل متعددة من الجانبين، وربما نظر البعض أن كليهما بات خبيرا في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواج إلى نهاية العمر، متحديا ومغالبا عواصف هوجاء وأحداث دهماء، ومصائب عظام، وما كان ليصمد من الزواج أعظمه أمام واحدة منها..

استمر هذا الزواج طويلا في صمود اسطوري ندر مثله.. زواج اشبه بزواج البحر والجبل.. عراك دائم مدا وجزرا.. وضجيج مستمر لا يقر ولا يستكين، ولكنه لم يتخل أو يدر احدهما ظهره للآخر في قطيعة تدوم.. عظمة هذا الزواج هو صموده الخرافي، واستمراره مقاوما كل عوامل الفراق والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أي صدام أو احتدام.. لم يستسلم لعامل أو طارئ، وإن كان بحجم كارثة، ولم يهتز بجزع أو هلع، أو بقطع رجل ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكا للختام..

أما أنا فكنت الجامع والمشترك الذي ظل يمنح الصبر والبقاء، والرقم الذي رفض أن يخرج من حساب المعادلة.. أنا الولد الغائب الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عقد قران "أمي" على "أبي".. أنا الذي سيكون في حياة أمي ضماناً لمستقبلها في قادم الأيام، وما قد تحمله من نوائب ومجهول.. وكنت لها هذا الضمان، بل والوجود كله..

*
بعض من تفاصيل حياتي .. اعادة نشر
يتبع..
(18)
في المرقص..
احمد سيف حاشد

• في "فولجا جراد" ارتدنا المرقص أيضا، نحن وسعادة الجنرال الروسي المكلف بمرافقتنا.. فسحة ترفيه ربما خارج برنامج الزيارة المقرر.. المرقص مكون من طابقين.. الأعلى هو الأغلى سعرا والأكثر اهتماما وخدمة، والزبائن فيه أكثر وقارا و رقي.. فيما الطابق الأسفل يرتاده المراهقون والشباب ومن في حكمهم، أو هذا ما خيل لي..

• بعد أن أمضيت قليلا من الوقت في الطابق الأعلى، شعرت أنني مكبلا ومغلولا إلى عنقي.. أحسست أن حريتي تختنق.. الرسمية التي أتصنعها هي الأخرى كانت تفرض ثقلها على كاهلي بما لا يروقني.. أحسست ببعض الملل والرتابة.. لا أريد أن أبقى مشاهد كصنم أو رجل محنط.. لا أريد أن تفلت مني تلك اللحظات الجميلة بدعوى الوقار، والتصنّع بما أعافه..

• طلبت من الجنرال السماح لي بالنزول إلى الطابق الأسفل.. هناك صخب مكتظ بالحياة.. هناك رقص مثير للدهشة.. تم السماح لي بالنزول بعد تردد، وربما امتعاض مسؤول، ولم ينسِ تحذيري وأن أدير بالي على نفسي، وانتبه لنقودي؛ لأن هناك يحدث بعض نشل وسرقة.. ثم استدرك وطلب مني أن لا أتأخر..

نزلت إلى الطابق الأسفل.. أريد أن أرقص مع فتاة.. شعرت أن ما كان حلما بعيد المنال، قد صار في متناول الإمكان.. في "فولجا جراد" النساء جميلات، والفتيات أجمل.. أريد أن اختلس نصف ساعة زمن أو حتى دقائق منها.. أشعر أن الدقيقة هنا كثيفة تعادل ما فات وضاع من فرص عمري المهدور.. يا لعمري المأسوف عليه.. أريد هنا أن أقول قف لحظة يا زمن.. أريد أن أرقص مع فتاة حتى أثمل.. الرقص يمنح الروح مملكة من البهجة والفرح.. يا لحسرة من لا يرقص.. ويا لحسرتي.. هكذا كنت أحدث نفسي..

• لأول مرة أشعر أن في داخلي فراغ كوني أكبر من المجرّة.. أريد أن أفرغ أحمال فراغي وأرقص حتى أحلّق عاليا بين النجوم البعيدة.. أريد أن أرقص حتى أثمل وأدوخ في عوالم كانت عصية عن الحلم والخيال.. أريد أن أعتق روحي المكبلة بما هو أشد من الحديد.. أنني أرغب باطلاق العنان لروحي، ولو لبرهة زمن؛ لأحلّق في رحاب المدى، وفضاءات السماء الواسعة..

• عشت معاناة كبيرة.. عشتُ كثيرا من الحرمان الذي لازم حياتي المتعبة والمثقلة بكل ما هو مؤلم وثقيل.. أنا القادم من بلاد لا زال جل شيوخه يحرّمون الغناء والرقص، ويمنعون عنّا الفرح والطرب.. متزمتون حد الإعتام، ينطبق عليهم وصف "نيتشه" وقوله: "إنهم نوع بائس ومريض.. جنس رعاع.. ينظرون بخبث إلى هذه الحياة.. وعينهم عين سوء على هذه الأرض... أقدامهم ثقيلة، وقلوبهم تختنق رطوبة... كيف للأرض أن تكون خفيفة بالنسبة لهذا النوع إذًا؟!"

• كنت أحدث نفسي وأنا أشاهد ما أشاهده: أنا المدفون بالحياء.. يجب أن لا أمضي في أهدار هذه اللحظات التي ربما لا تعود.. العمر قصير جدا، ولا أريد أن أندم على عمر الصباء الذي ضاع، وأهدر مثل هذه اللحظات المشبعة بالحياة.. العالم هنا يغني ويرقص ويعيش حياته بالطول والعرض وكل المقاييس.. لحظات جميلة بكل الأبعاد.. أنا المكبل بالحديد والنار، وأعز سنيني هُدرت سُدا، ويذهب ما بقي منها إلى بدد..

• أحسست بوحشة ووحدة وغربة على الطاولة، كنت مثل يتيم الأبوين أفتقد كل الحنان، فراغ بلا حدود، فيما حولي مكتظا بالفرح.. أحسست أن ندما يستوطنني على ما مضى.. ندما يحتل ردهاتي ومنافسي وزواوي.. شعرت أن خيبتي فيما مضى ثقب أسود تتسع لكل خيبات العالم.. أحسست أن آمالي العراض تتصحر وتجدب كل يوم، وعمري يذوي ويمضي دون أن يدرك ما تواضع من مناه..

• ثقوب سوداء تبتلع رجائي وأرجائي.. وعمر ينتحب كشبيبة فنان مكلوم وحزين.. مضى العمر وأنا لم أرقص مع فتاة، ولم أمارس جنون الرقص على إيقاع العشق الملتاع .. لم أشتم أنفاس فتاة راقصة في ذروة الجنون الحلو.. أنا القادم من بلاد مثقلة بالحلكة والسواد، والعيب فيها بأثقال الجبال.. من هذا الذي يزحزح ثقل القرون الطوال؟! أنا من بلاد فيها الدعوة للغناء والرقص والدندنة حضا على الفسق والفجور، وقسوة القمع أولى في العقاب..

• ولكنني وأسفاه لا أجيد الرقص، بل لم أتعلمه.. أنا لا أجيد إلا مضغ ضياعي، وأيامي المأسوف عليها.. في طور الباحة كان صديقي فيصل الخديري ملهم بالرقص، وكانوا رفقته يجيدون أنواعه وتفاصيله.. اللحجي والزبيري والدلالي والعسكرية، وغيرها من ألوان الرقص اليمني وفنونه.. أما أنا فكان خجلي أكثر ما يمنعني، وكانت محاولاتي النادرة مؤكدات لفشلي الوخيم، رغم ما أحمله داخلي من حب وعشق وشجون وإنسان..

• جلال الدين الرومي يقول: "من دون الحب.. كُل المُوسيقى ضجيج.. كل الرقص جنون.. كل العبادات عبء." الموسيقى موجودة هنا.. والرقص متوفر وموجود.. بقي الناقص ما يعدل الروح، ولحظة تستغرق كل الذاكرة.. فتيات "فولجا جراد" جميلات، وفيهن شيئا مختلف.. جاذبية ورشاقة أكثر.. فيض من السحر والجمال.. وحياة تتدفق من الوجوه.. ألق ورونق وامتشاق قوام.. وأنا على الطاولة وحدي مسكونا بالغربة والحرمان.. كنت خلف الطاولة أعصر حزني، وأتلوى صبرا وخجلا وحرمانا، و
حيلولة لدون ما أريد..

• ليست مشكلتي فقط بحيائي وثقل الحرج الذي ينوخ بثقله على كاهلي، ولكن أيضا في اللغة الروسية التي لا افقه فيها حرفا لا في وسط ولا في طرف.. أحدث نفسي في غياب جميع أصدقائي هنا: سأحاول اطلاق جرأتي، وأحشد شجاعتي لأحدث فتاة ترقص معي، ولكن اللغة كانت عقبة كأداء تمنعني من أن أصل بمشاعري ورغبتي إلى من أريد..

أريد أن أرقص مع تلك الحسناء الفاتنة حتى أبلغ نوبات الجنون.. ولأنني لم أتعلم الرقص، سأدع إيقاع الموسيقى يضبط وقع أقدامي قدر ما في الوسع والمتسع.. أريد أن أضم تلك الجميلة إلى صدري الملتاع، وشجوني المحبوسة داخلي؛ لتحريرها من جدرانها الصدئة.. أرغب بتلك الفتاة لتهدهد ما يتبركن تحت ضلوعي من حمم وثورة.. أطفئ نارا تتأجج بالعشق المحبوس في شرايين دمي.. يد فتاة تضمني برفق وحنين.. يدا حانية تشجعني على الإقدام، وتربت على كتفي الذي أثقل كاهلي.. فتاة أسبح في مداراتها حتى أدوخ وأهوى في أحضانها كنيزك محترق..

• حاولت أن أحشد شجاعتي لأطلب من فتاة الرقص معي.. حاولت أن أستعيد بعض المفردات الروسية القليلة كنت قد جمعتها من زملائي سابقا.. كلمة روسية من هنا وكلمة من هناك.. حاولت أن أنظمها في جملة أو عبارة فيها رجاء وطلب: "لو سمحتي.. هل ممكن أن ترقصين معي؟! يا له من رجاء عظيم دعيت السماء أن تستجيب له، فلم تستجب..

• عزمت على أن أرقص مع إحداهن.. لمست منكبها بأصابعي المرتعشة لألفت انتباهها ولتلتفت لي.. استدارت نحوي باستغراب ودهشة.. تحدثت هي معي بكلمات لم أفهمها.. تحديت خجلي، وتحدثت معها بالروسية على ما عزمت عليه : "لو سمحتي.. هل ممكن أن ترقصين معي؟! لا أدري ماذا حدث؟! ما أن قلت لها جملتي المتضمنة رجاء واستسماح بالرقص معي.. حتى انفجرت هي وصديقاتها ضحكا.. لا أدري ماذا صنعت! ولا أعلم ماذا حدث! ولماذا يضحكن؟! طلبي يفترض أن يكون مألوفا وبإمكانها أن تعتذر وسأفهم اعتذارها وأقدره.. سأفهمه حتى من طريقة أداءها إن لم أفهم كلامها.. أما أن تضحك وتشرك صديقاتها بالضحك فهذا ما لم أتوقعه..

• وعندما كنت أحاول أن أعيد طلبي، لم استطيع أن أعيد ما طلبت، كنت أشبه بمن يتسلق جبل شاهق شديد الانحدار غير معتاد النظر من علوه إلى أسفله، فكيف لي أن أتسلقه؟! شعرت بالدوار وأنا أحاول أن أعيد ما قلته، وكانت مفردة تشرد مني وأخرى تطير، وتتحول الثالثة إلى موضع آخر، ولساني تلتُ في الرابعة على غير ما كان يفترض أن تؤديه من معنى منضبط، ولم أعد أدري ماذا أهذي، وماذا أقول!!

تحدثن مع بعض، وتحدثن معي وبعضهن يضحكن وأخريات يتبسمن، وقد أدركن أنني من بلاد بعيدة وغريب، كست صفحة وجهي طبقات سوداء من الخجل المدجّى، ولم أفهم شيئا من الكلام.. ولا دريت كيف أداري فعلتي! وكيف أنجو من الفخ الذي كنتُ صانعه، فأنجدتني وكانت قارب نجاة، كلمة (sorry) الإنجليزية التي تعني (آسف) والتي أطلقتها وأنا أعود ألعن نفسي وأندب حظي وفشل غزوتي، وأجر ذيول خيبتي إلى خلف الطاولة.. وبعد برهة نزل أحد الزملاء من الطابق الأعلى، وأبلغني إن الجنرال يسأل عني ويريدني على الفور.. فكان في اللحظة نجدتي ونجاتي من إحراج ربما يستمر، وخصوصا أن الابتسامات ورمق العيون كان مستمر..

• عدت إلى مقعدي في الطابق الأعلى وأنا أجر خيبتي وهزيمتي.. سألني أحدهم ماذا صنعت؟! نقلت له ما حدث؛ فقال أنت لم تطلب منها الرقص، أنت طلبت منها أن تركب معك في السيارة.. فضحكت على نفسي وحالي وغربتي حتى ثملت..

***
يتبع..
من تفاصيل حياتي
اعيد نشرها لاولئك الذين يفتقدون للتصالح مع انفسهم ويتصنعون ما ليس فيهم.. ولا يريدوا ان يقولوا نحن بشر.. يقتلون ويستهلون القتل والفساد والانتهاكات اليومية ويزيفون الوعي ويصفقون للفاسدين والقتلة ثم يتهموننا اننا نرتكب العيب ونخدش الحياء..

(3)
أثقال العيب..
احمد سيف حاشد

• في "كافورستان" كان للكشف متعة ولذاذة.. غرق في النشوة القصوى.. الكشف الأول في سن الحلم.. استعجال لمعرفة تتأخر بسبب الجهل بتثمين الوقت، والجهل بعمر عابر كالريح.. رفض ألتاع بأسئلة الحيرة.. أسئلة الكشف الباحث عن رد أو مُعطى.. أسئلة الجُرأة فتحت أبوابا كبرى في كشف مجاهيل الكون..

• في "كافورستان" كانت محاولتي الأولى، لرمي بعض من ثقل مُرهق.. جبل الواقع ناخ بحمله على كاهل غر مُتعب.. سحقا لرتابة مسكونه بالعيب.. العيب أن تقضي حياتك بيدق.. العار أن تعيش مسلوبِ الوعي..

• اسئلة الحيرة ليست وسواسا من عمل الشيطان.. اسئلة الحيرة لا تغفلها حتى تزيح عنها الحيرة.. لا تقمعها ولا تغفل شك.. ارمي حجرا إلى قاع الماء الآسن، لترى ماذا يوجد في القاع! غوص إلى قاع وخوابي النهر.. غامر وابحث عن أصداف وكنوز البحر.. لا تبقي ثابت كالخشبة في الردهة، أو في الجدار كالمسمار ..

• ما أسوأ أن يستوطننا الجهل الكاسح.. ويستعمرنا الخوف من سن حضانتنا الأولى حتى الموت.. ما أسوأ أن نظل نستجر التالف، ونلوك الماضي الغارب.. محبوسين في قمقمه.. لا نخرج إلا لخدمته.. "شبيك لبيك نحن طوع يديك"..

• في "كافورستان" بدأنا (ألف) التجريب، وكشف مجاهيل الذات، واكتشاف الآخر أيضا.. التجريب معرفة تتنامى.. تتراكم في سلاليم العلم.. اطلق عنان الرغبة من قمقمها إلى فضاء الممكن.. ولا تحبس عقلك في الردهة.. اطلق عنان العقل في أبعاد الكون..

• أسئلة تداهمني، وتتناسل كالضوء.. لماذا لا نتصالح مع أنفسنا؟! لماذا نولع بالكذب؟! لماذا نستمري الدجل على أنفسنا وعلى العالم..؟! ونتخفّى خلف أقنعة الزيف.؟! ونتصنع ما ليس فينا؟! لماذا لا نخجل من أنفسنا..؟!

• شكرا يا "كافكا" ولا تخجل، فقد أدركت زحمة هذا الزيف، ونزعت عنّا هذا التنكير، وأزحت مساحيق التجميل عن وجه حقيقتنا.. شكرا يا"كافكا" وأنت تعلنها بالفعل وبالقول: "خجلتُ من نَفسي عندما أدركتُ، أنّ الحياة حفلةٌ تنكَرية، وأنا حضرتها بوجهي الحقيقي".

• لماذا نجلُّ الوهم الباذخ ، ونصنع منه أربابا وقوانينا تطفئ ما فينا من نور.. كم نحن جلاوزة وجلادون.. يتملكنا غباء فادح، وسياط العته الأحمق.. سجانون للعقل المتحفز للنور.. جلادون بعنف وجنون.. بمهول الجهل والخوف القامع والعيب الوخم، نجلد أنفسنا حتى الموت.. ما أوطئ وأحط من هذا العيب الذي يثقل كاهلنا إلا قانون العيب!!
• أزيحوا أقنعة العيب من وجه الحقيقة العاري.. الكذب أم كبائرنا وخطيئتنا الأولى..

متى نتصالح مع أنفسنا؟! ونزيح من وجه الصدق أقنعة الزيف، وهذا الكم الباذخ، من فحش الكذب والتدليس..

• لا تحرج يا أستاذي الرائع من هذا العيب، ولا تخجل إن جمعت صدفتنا ثلاثة.. إيابك وذهابي و"كافورستان".. لا تُحرج من تلميذك إن شرب كلانا من نفس الحوض، فالغفران رابعنا دوما حاضرا.. سحقا للعيب.. كم نحن بشرا يا أستاذ.. علينا أن نتصالح مع أنفسنا؛ لنكون أفضل مما نحن فيه..

• لا تشغل بالك يا أستاذ إن غلبك يوما هذا العيب؛ فالزمن كفيلا بكسر الغلبة.. ولكن قاوم ولا تستسلم.. دع الكبت المتراكم والمحبوس يبحث عن تنفيس، والشكر "لكافورستان".. الجمع يعاني يا أستاذ ويبحث عن منفس.. كل منّا في شواية تصليه.. كل منا مرميا في ضغاطه عيب أضيق من قبر..

• في بيت من شعر نزار، وضُعنا جميعا تحت السكين.. نحن بصيغة أخرى كذلك، في واقع هذا الحرمان، الكل تحت سكين العطش المالح.. الأيام جحيم وسعير لا تسأل من أنت:" لا يمـينٌ يجيرنا أو يسـارٌ.. تحت حد السكين نحن سواء"..
شكرا "كافورستان" أخففتِ عنّا بعض من هذا الحمل الملقي على الكاهل..

***
بعض من تفاصيل حياتي
(19)
قائد فصيلة استطلاع
أحمد سيف حاشد

• تخرجت من الكلية العسكرية.. ولكن إلى أين ؟! بين الأمنية والواقع مسافات شتّى.. رغبتي جارفة للإلتحاق بالجامعة، فيما ظروفي المادية عاثرة ومتعسرة، و(راتبي) الذي كنت أتقاضاه في الكلية سينقطع بصارم، وأنا لم أحتال على حاجة أو عوز، ولم أدخر منه شيئا لأيامي القادمات.. كنت ما أحصل عليه أصرفه أول بأول، وكأن شرطي عنيد يلاحقه، فيتلاشى بسرعة قبل أن يدركه.. أصرف بعضه، وأساعد آخرين، وأسلف البعض دون أن أنتظر عودة ما أُسلفه، بل وارفض استعادته في معظم الأحيان، ولإحساسك الإنساني ثمنا يجب أن تدفعه، وانعدام المال ينتقص من استقلاليتك، وينال من حريتك، ويمكن أن يكون عوزك مصدرا لابتزازك ممن يملكون المال، ويبخلونه عليك..

• كما أن المال يمكن أن يكون أيضا معضلة تحول دون تحقيق بعض أحلامك وأمنياتك حتى المتواضعة منها، أو على الأقل يعمل على تأجيل تحقيقها، أو كما قال الكاتب والمحاضر في التنمية البشرية روبرت آشتون: "إن مقارنة مصاريفك الشهرية في مقابل دخلك سوف تكشف الحجم الحقيقي لوقوف المال عقبة أمامك." فما بالي أنا الفاضي اليدين، الذي لا أملك حتى التصدّي لما هو ضروري ينقذني من الجوع.. وحتى على افتراض وجدت بعض من حل لهذه المعضلة أو جلّها؛ فسأظل في عوز وحاجة، واستقلال وحرية أقل؛ ولذلك آثرت تأجيل حلم الالتحاق بالجامعة، وأستمرار العمل في السلك العسكري، طالما هذا سيمنحني فرصة تحقيق حلمي في الدراسة الجامعية باقتدار، ولو بعد عامين أو أكثر.. هكذا نظرت للأمر أو هكذا حسبتها..

• كان تخرجي من الكلية العسكرية في الأول من سبتمبر عام 1983 وقد فضلت الالتحاق بلواء الوحدة الذي يقع مُعسكره في محافظة أبين، وكانت تلك هي الفرصة المتاحة الأفضل لي.. وكان أغلب أفراد وضباط اللواء قادمين من الشمال إلى الجنوب.. فيما كان الالتحاق بغيره متروك للحظ الذي يمكن أن يقذف بي إلى أي جزيرة أو صحراء أو منأى بعيد.. وبالتالي ربما يكون متابعة التحاقي بالدراسة الجامعية أكثر صعوبة، وتكون الموافقة على تفرغي للدراسة حظ أقل وأضأل..

• كان عليّ وفق القانون أو النظام المتبع أن أعمل على الأقل عامين في السلك العسكري بعد التخرج من الكلية العسكرية، لأتمكن من التفرغ للدراسة الجامعية، وأحصل على راتب متفرغ يعينني على الدراسة الجامعية..

• معسكر اللواء كان يقع على مقربة من عاصمة المحافظة (زنجبار)، وكان كثير من أفراده وضباطه من الشمال، الذين جاءوا على خلفية أحداث عبد الله عبد العالم.. كان قائده اللواء عبدالله منصور ذو الوجه الغضوب، الذي يبتسم بقسمات حادة، وينتسب إلى محافظة أبين.. كنت أشعر نحوه بالانقباض كلما شاهدته، فيما كان يتعامل هو مع زميلي سند الرهوة بلطف وتقدير.. وكان أركان اللواء عبد الواحد أحد القادمين من الشمال، أقدر على القيادة منه، غير أنه كان يتجنب أن يكون قويا أمام القائد، وربما كان سلبيا في أغلب الأحيان.. أما النائب السياسي للواء النقيب فتح من أبين، كنت أشعر حياله بنوع من الود والرضى، وكان هو يهتم بي أيضا، ويتعامل معي باهتمام..

• في لواء الوحدة جاء توزيعي رئيسا لفصيلة في سرية استطلاع اللواء، وكان الملازم أول محمد الحياني من خريجي الدفعة الثامنة (شمالي) رئيسا للفصيلة الثانية، والملازم ثاني سند الرهوة من أبين، خريج الدفعة العاشرة، قائدا للفصيلة الثالثة، فيما كان عبده قائد الكهالي (شمالي) من محافظة اب رئيسا لسرية الاستطلاع، وأضيف للسرية بعد عام ضابط جديد هو الملازم علوان (شمالي) من محافظة اب، وخريج الدفعة الـحادي عشر كلية عسكرية.. أما صف الضباط في السرية فكان جميعهم من الشمال، وكان يسود بيننا نحن الضباط في سرية الاستطلاع كثير من الاحترام والانسجام والتفاهم كزملاء، ومع الجنود وصف ضباط، كقادة ورفاق سلاح، دون تفريط بالنظام أو المهام أو العمل المناط بنا..

***
محدثة.. يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
(٤)
للوشاية عيون
أحمد سيف حاشد
• لتعش حياتك لا تهدر فرصك بالوهم الزائف، وأعلم أن فرص الموت المتربص أكثر.. اسمع وحي "أوليفر هولمز" وهو يقول: "يقرص الموت أذني ويقول عش حياتك! فأنا قادم.." شكك بالثابت حتى تتيقن.. ابحث في الثابت لنفيه أو تأكيده أو اصلاح المعوج، دون أن تغفل علم يضيء دربك للمستقبل..

• العمر قصير جدا، والشباب أقصر، كلمح البصر العابر، فلا تهدره في التيه حتى لا تندم على عمر ضاع وشباب ما عاد يوما إلا حسرة وندم.. ابحث عن الجمال المكنوز، لتواجه قبح العالم ودمامته.. افرح لتعيش أيامك، وتواجه أياما، كُثر مطبوعة بالحزن والندم الأكبر..

• في "قلعة إستان" أقمنا للعشق ولائم.. بروق ورعود.. أنسام الكون تتمايل.. ترقص طربا.. تبتهج خواصرها.. همينا مزنا، وقطفنا النشوة.. عبقنا برائحة الطين الممطور.. سال السيل، وسالت مسايلنا تسقي الأرض البور، والبوادي العطشى على التنور.. أخضرّ المجرود، وبألوان الطيف تفتحت زهور وورود.. وما كان قاحل مجدوب صار عشب وسجاجيد..

• عُذال ووشاة ضربوا الطوق علينا.. رصدوا ايقاع الأنفاس.. جسّوا نبضات القلب وخفقانه.. آذان تسمع دبيب النمل.. تسرق السمع عن بُعد.. وعيون ترصد أنفاس الليل.. حراس المعبد لا هم لهم إلا القبض على همسات العشق وخطوات الليل..

• صار للوشاية جدران .. آذان وعيون.. تتلصص وتسترق السمع من شرص الباب.. أبواب مخادعنا.. باتت تتحين فرصة للوثبة.. للضبط المتلبس.. تبصبص من شقوق نوافذنا الملتاعة بالعشق.. تستطلع خوافينا وخوابئنا، وما يجوس في بطن الشاعر.. تفتش في ذهن العاشق المولع عن دليل دامغ.. والعاشق غارق تسبيحا في ملكوت الله..

• أحسسنا بالضيق والجور الخانق.. قررنا كسر الأغلال، وتحرير العشق المغلول.. اطلقنا أيدينا المعقوفة، وفردناها للأحضان .. اطلقنا سراح العشق من أقبية العتمة.. حررناه من سرداب السجن المدفون تحت الأرض العمياء.. اطلقناه إلى فضاءات وفسحات الكون..

• صار العشق يقامر ويغامر في صولات وجولات الحرب.. والنصر الذي كاد يهرب منّا، أعدناه إلى الأحضان.. والهزيمة التي كادت تغلبنا يوما، كسرنا غلبتها، وذللناها.. ونزعنا مالا ينزع من شدق الضيغم..

• غنينا حتى ثمل العشق، والقمر الحاضر يرقص طربا على أنغام الدان:
"وعلى عينك يا حاسد..
تلاقينا والقمر شاهد..
حبيبي جاء على وعده
ونفذ في الهوى عهده..
يا سعدي ويا سعده.."

• في ليلة رأس العام، احتفلت معنا مجرتنا بقدوم العام.. دارت على خواصرنا حتى داخت من الدوران.. أثملها خمر العشق الذائب في ملكوت الله.. درنا معها حتى دخنا.. وخلقنا كونا في ساعات.. وبشرى زُفت بكرم العام القادم عشقا.. خمرا ولذائذ.. عشق أكثر وأكبر مما عشناه..

أما صنعاء، وفي هذا العهد المظلم، والضارب فيما قبل الألف سنة، باتت ميتم، ملفوفة بالعتمة والظلمة.. وحداد لا يبلى..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي .. محدّثة..