أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
(4)
فترة الاستجداد..
احمد سيف حاشد

كانت فترة (الإستجداد) في الكلية العسكرية بعدن خمسة وأربعين يوما، يبدأ احتسابها من يوم الالتحاق بالكلية، وهي فترة ثقيلة وشديدة الوطأة على الطالب، ويعطي عبورها مؤشرا أوليا على قدرة الطالب، واستعداده اللاحق على تجاوز ما بعدها.. كان عدد غير قليل من الطلاب، يتسربون أو يهربون خلال فترة الاستجداد، عندما لا يستطيعون تجاوزها، أو يهربون من اكمالها..

كان يتم قبول عدد أكبر مما يتعين قبوله في الدفعة، أو بالأحرى على نحو يزيد عمّا هو مطلوب، ثم تتم التصفية ويتناقص العدد حتى يصل إلى العدد المطلوب.. تبدت لي نظرية البقاء للأقوى أو للأصلح فاعلة خلال مرحلة الاستجداد، وكانت تلك المرحلة هي الأصعب خلال العامين الدراسيين، والسؤال المُلح أمام الطالب خلال فترة الاستجداد هو: هل تستطيع اكمال فترة 45 يوم أم لا ؟؟

فترة الاستجداد كانت علينا عصيبة ومرهقة جدا.. مثقلة بالحزم والشدة والصرامة.. عقوبات شديدة لأبسط وأتفه سبب أو خطأ ترتكبه، بل أحيانا يصل إلى الحد الذي لا تستطع أن تدرك ما بدر منك من خطاء.. كنت أشعر أن من يتخذون تلك العقوبات يقصدون التطفيش لا أكثر، وأحيانا أشعر وكأنهم يمارسون الانتقام والتشفي في آن.. وفي أحايين أخرى أشعر أن من يتخذوا بعض تلك العقوبات علينا، مرضى بالسادية وعقد النقص..

كانت ساعات الحركة النظامية طويلة ومرهقة.. ابسط خطأ يقابله عقابا شديدا ومضنيا، وما تقضيه في الحركة النظامية والتدريب والتعليم وتنفيذ العقوبات الواقعة عليك، والعقوبات الجماعية المرهقة التي تطالك، لا تبقي لك من الوقت إلا أقل من القليل، وهي عبارة عن فسحات محدودة وضيقة، أهمها فسح تناول وجبات الطعام الثلاث..

أي ضابط مناوب أو حتى ضابط عابر في ساحة وحرم الكلية، يمكنه أن يوقع عليك العقوبة الشاقة التي يريد، بل حتى الطالب من الدفعة السابقة، والتي لم تتخرج بعد، يمكنه أن يوقع عليك العقوبة التي يريدها، وما عليك إلا التنفيذ دون اعتراض..

كانت العقوبات الجماعية أيضا شديدة الحضور من قبل بعض الضباط المناوبين.. عقوبات جماعية تتخذ أحيانا لأسباب لا وزن لها ضد كتيبة أو سرية كاملة أو فصيلة أو حضيرة، ولا يوجد من يمانعها أو يعترض عليها، غير التمرد المسكون في بعضنا، والذي نعبر عنه بالتململ، أو اللعن في غيبته، ونظرات الإزدراء التي نطلقها عليه في حضوره..

كان الضابط مصدّقا علينا ولا يُرد له كلام، بل كان أي طالب من الدفعة السابقة التي لم تتخرج بعد، مصدّقا علينا دون شك أو ظن.. كان النظام المتبع يقوم على مبدأ "نفذ ثم ناقش" ومن ضمنها تنفيذ العقوبات.. وإذا تظلمت من إجراء أو عقوبة ليس عليه أن يثبت أو يقدم دليلا، لأنه وفق ما هو ساري ونافذ من نظام متبع هو الصادق وأنت الكذوب، وإذا أردت أن تتظلم لزمك إحضار الدليل وإثبات ما تدّعيه..

ممنوع المشي أو السير البطيء في الكلية، عليك دائما الركض، فإن توانيت أو تساهلت أو أبطأت فيه، يتم إيقاع العقوبة عليك؛ لأنك خالفت نظام الكلية، ولا حتى عقوبة محددة تساوي قدر المخالفة، فالأمر يرجع إلى من ضبط المخالفة، وبالتالي يتخذ الجزاء الذي يراه مناسب.. الركض هو الأسلوب الوحيد الذي عليك اتباعه أثناء تحركك في أروقة الكلية..

فترة الإستجداد في الكلية هي المرحلة الأكثر صعوبة وتستدعي من الطالب كثيرا من الانضباط والجلَد.. وهي الخطوة الأولى التي تنقلك من رجل مدني إلى رجل عسكري مختلف الطباع.. مرحلة الاستجداد هي محك حقيقي واختبار مضن يتحول خلالها الطالب من المدنية إلى العسكرية بصرامتها وضوابطها.. مرحلة “الضبط والربط العسكري”.

الملابس العسكرية النظامية كنت اشعر انها ثقيلة جداً، وتضايقني عند التدريب خاصة مع فصل الصيف الطويل والشاق.. وبعد فترة الاستجداد كان يتاح لنا الخروج يوماً واحداً في الأسبوع ..

وأنا أخرج من حرم الكلية بملابسي المدنية اشعر بحرية كبيرة لا تضاهى كشعور أسير تحرر من قيوده الثقيلة التي ظلت قدماه ترسف بها طويلاً .. أحس أنني خفيف الوزن كعصفور .. أشعر بلياقة ورشاقة وخفة وزن لم أكن أشعر بها من قبل.. أخرج من عالم ضاغط إلى عالم حر ومريح.. خروجي من الكلية إلى المدينة والناس، يجلب لي الشعور بالسعادة الغامرة.

كنّا إذا خلعنا ملابسنا الثقيلة بعد ساعات طوال في الكلية نلبس ثياب الرياضة الخفيفة بقية اليوم وهي عبارة عن (فنله) بيضاء وسروال قصيرة أزرق .. كنت أشعر إن ذلك اللباس القصير عورة ولا يليق، ولكن مع مضي الأيام اعتدتُ عليها، بل وأحبذها على الملابس الثقيلة التي أُلزم على ارتداءها لساعات طوال في أوقات النهار.

كنت منزوٍ وخجول.. وكانت أكثر الأوقات إحراجاً لي هي تلك القترة الصباحية التي نغتسل فيها فجر كل يوم، وأحيانا نكررها عند الظهيرة أيضا، خصوصا في فصل الصيف.. كانت حمامات سكن الطلاب مصممة دون أبواب، وزائد على ذلك إنها متقابلة، وكل شخص يغتسل يشاهد الآخر عاريا أمامه، وكان هذا الحال يضايقني كثيرا، وأشعر أنه يخدش حيائي بسكين، ويسبب لي كثيراً م
ن الخجل الذي اراه فوق طاقة الاحتمال..

أنا وصديقي الطيب في مدرسة البروليتاريا وثبنا يوما من سطح أحد أبنية القسم الداخلي التي كانت لاتزال غير مأهولة وجاهزة.. بدأ صديقي بالقفز، وأثناء القفز رفع الريح سترته، فبانت عورته.. كان الإحراج عليه شديدا، وحمرة الخجل الأشد على وجهه كان يخالطها السواد، وتحتاج لمرور بعض الوقت لتتلاشى، وربما ظلت الصورة عالقة رغما عنا بعض الوقت، ونحن نحاول أن نتجاوزها ولا نريد تذكّرها..

هاجس جاس في مخيلتي يوما، وجعلني أتخيل غسلي بعد موتي من قبل غاسل الموتى.. شعرت بالعيب وعار العورة، وغصت بالحياء رغم افتراض موتي.. كان حياءنا الباذخ يغلب الموت..

ونحن بهذه الدرجة من وعي العيب كنت أسأل: كيف يمكن أن نغتسل وكل العورة بادية للعيان؟! كنت أرى الأمر عقبة كأداء أغالبها بصعوبة جمة وحياء كثيف.. إنها أكبر من تجربة معاينة وفحص الطبيب التي مررت بها..

وفيما كنت أمر به صرت كحال ذلك الذي ورد في قول المتنبي:
"انا الغريق فما خوفي من البلل"

ومع تكرار فعل الاغتسال، وتكراره من قبل الأخرين، تحول الأمر عاديا ومعتادا، واكتشفت أن العورة تسكن الوعي أكثر من أي مكان آخر..

تعايشنا مع الأمر الواقع، وصرنا معتادين الحال، بعد أن كنت أراه مستحيلا، أو أخاله أكبر من المستحيل.. ومن هذا عرفت مليا أن المرء على بيئته ووسطه وما يعتاد عليه.. بإمكانه الانتقال والتكيف في الوسط البيئي الذي ينتقل إليه.

***
يتبع
بعض من تفاصيل حياتي
(5)
الحركة النظامية والعقوبات ونفذ ثم ناقش
احمد سيف حاشد

كانت الحركة النظامية في الكلية العسكرية يومية ومكثفة، ولاسيما في فترة الإستجداد، إن لم يكن في العام الأول كلية، حيث تم تخصيص وقتا أطول لها في جدول الحصص، يزيد عما تم تخصيصه لأهم المساقات الدراسية مثل مساق التكتيك أو التدريب الناري.. الحقيقة لم أكن راضيا عنها، ولم أسترح لها، ولم تطب نفسي منها.. لم أجد كيمياء مشتركة أو انسجام بيني وبين مدربيها "البركاني" و"المقط".. كنت أقع اثنائها بأخطاء طفيفة تعرضني لإحراجات كبيرة أمام زملائي.. استنكرها في أعماقي، وكلِّي تطلُّع لأن نتعلم كل ما من شأنه أن يجعلنا مقاتلين صناديد، وقادة أفذاذ، وليس بما يستحيلنا إلى كائنات استعراضية لا يستفاد منها شيء في ميادين الحرب والقتال.. هكذا كنت أرى الأمر وأنا أحدث نفسي.

كنت أزدري في نفسي العقوبات الجسدية التي تطالنا، لاسيما ما كان يعرف بـ (السحك) وهو أن ينبطح الطالب ثم يزحف على بطنه بمساعدة يديه ورجليه.. أحتقر تلك العقوبات ومن يتخذها.. أشعر أنها تنطوي على إرغام وإذلال.. أظن أن الآمر بها مريض ولديه مركب نقص.. أرى أن التعاطي مع تلك الأوامر يجب أن يكون في إطار التدريب، وليس في إطار تنفيذ العقوبات.. أن تأتي عقوبة "السحك" في إطار التدريب العسكري أمرا استسيغه وأعيه بل وأدرك أهميته، أما أن يمارسها الآمرون على المأمورين كعقوبة، فأرى فيها انتقاص من كرامة الطالب، وشتان ما بين الاثنين كما أظن وأعتقد..

كنت أرى عقوبة (الخسارة) أيضا خاطئة، خاصة وهي تطال راتب الطالب، ولكنها لا تطاله وحده، بل تطال أفراد عائلته في مأكلهم ومشربهم! أمقت كل عقوبة تعم، أو تتعدى مرتكب المخالفة، أو تصل إلى انتزاع شيئا من لقمة عيش أطفاله وأسرته..

تسحق وجودي العقوبات الجماعية التي يصدرها بعض الضباط الذين كان يخيل لي بأنهم مرضى بالسادية أكثر من كونهم قادة ينبغي اجلالهم وتقديرهم.. لقد كان لدي القائد الذي يستحق الإجلال هو السوي الذي يفرض احترامه بسلوكه الجيد، ويقدم شخصيته على نحو يصير معها نموذجا ومثالاً وقدوة، يحظى بحب طلابه واحترامهم.

لازلت أذكر عقوبة جماعية أرغمتنا على الصعود إلى قمة الجبل الشاهق والمسمى (a.r) كدت أسقط منه بسبب أن بيادتي علقت بسلك كان ممدودا على ظهر الجبل.. كنت مثقلا بحقيبة الظهر، وخوذة الحديد الثقيلة، والملابس الميدانية، وتوابعها "المجعبة".. أتكردحت وأنا نازل منه، وكدت أهوى من ظهر الجبل إلى اسفله.. صارت لدي عقدة رهاب أعاني منها، وقد كرّست عقدة رهاب أخرى قديمة، حالما كنت طفلا وتدحرجت من رأس الجبل، حتى حواني نتوء فيه، وكان تحته منحدر شديد، إن هويت فيه، سأتمزق إربا يصعب جمعها..

صار لدي رهاب مكرر من الأماكن المرتفعة، غير أن ما كان لدي أهم، إن الحادث الأخير لم يكن ناتجا عن تدريب عسكري أو حتى اختبار لياقة أو نحو ذلك مما يمكن تسويغه، ولكنه كان ناتجا عن عقوبة جماعية، نالتني دون أن ارتكب مخالفة.. لم استسيغ العقوبات الجماعية إلى اليوم إلا محمولا بالأديان وغضب الرب..

العقوبات الجماعية تطال الأبرياء والأطفال ومن رُفع عنهم القلم.. غضب يتم اطلاقه في غير محل.. لا استسيغ تلك العقوبات إلا من باب التسليم الواردة في الأديان، وليس إعمالا للعقل والفكر والمنطق..

كان إذا صدر خطأ أو صوت ينم عن احتجاج أو عدم رضا أو تململ ناقد أو صوت مشوش من أحد الطلاب في الطابور الصباحي ولا يستطيع الضابط المناوب معرفة مصدره ولا يرغب صاحب الصوت أو من يحيط به كشفه، لا يعمد الضابط إلى الإقناع ومحاولة إيجاد المنطق أو الطريقة التي تحمل هذا الطالب أو من يحيطون به على الاعتراف أو الشهادة عليه، بل يسارع بحمق إلى عقوبة جماعية كمنتقم ثأري؛ فيصدر أمره الجازم الذي لا يخلو من حمق وقلة حيلة، بعقاب كل الفصيلة، أو السرية أو الدفعة كاملة في بعض الأحيان ..

ما ذنب من لا يسمع مصدر الصوت لتناله العقوبة إذاً؟! إذا كانت الجريمة شخصية فما حدث هو دون الجريمة، إنها مخالفة تستحق الجزاء لمرتكبها، أو حتى لمن تواطأ معه، ولكن لا يجب أن تطال من لم يعلم، ومن لم يسمع الصوت الذي صدرت بسبه هذه العقوبة أو تلك، ولطالما تساءلت مع نفسي في هذا الأمر…!

كنت أشعر إن العقوبات الجماعية انتقام.. تدمير للقيم والأخلاق والحقوق.. تنكيل انتقامي ليس له علاقة بالرشد.. بل هو أسلوب انتقام ثأري أحمق لا يخلوا من عجز، وينم عن عُقد ومركب نقص، وربما يتحول من يستلذ به إلى خطر مدمر ومستبد إذا ما أمتلك السلطة والقرار.. العقوبات الجماعية أكثر السياسات سوءا ووبالا..

تبدت لي العقوبات العسكرية بانطوائها على قمع واستبداد وتراتبية صارمة.. لطالما مقتُ بعض القواعد التي يكرسون تعليمها في العسكرية.. أمقت تلك القاعدة المعمول بها والتي تقول : (نفذ ثم ناقش).. أشعر أن هذه القاعدة تلغي عقولنا وتحولنا إلى مجرد أدوات منفذة بيد من يقودونا لتنفيذ ما يريدون..

إنه يجري تحويلنا إلى أدوات منفذة غير واعية وغير عاقلة.. أشعر أن إنفاذ أ
وامر عمياء قد تجلب ضرراً فادحاً لنا ولغيرنا .. كثير من الجرائم في دورات العنف التي كان يشهدها الجنوب ترجع إلى مثل تلك الفداحة، وتلك الأوامر الخطيرة أحيانا، والتي تم الإمر بإنفاذها، فدمرت الوطن وكانوا ضحاياها أكثر من أن يعدّوا..

كثير هم من أنفذوا أوامر جلبت لأصحابها وللناس الهلاك والضرر الكبير.. كثير من إنفاذ الأوامر غير المناسبة نتج عنها مآسٍ مؤلمة وفادحة كان بالإمكان تفاديها لو تم استحضار قليل من العقل أو حتى التساؤل قبل تنفيذها، والتسبب بنتائجها المدمرة والمريرة التي لم نجتاز آثارها إلى اليوم ..

لكل ذلك، كنت أسأل نفسي: يبدو أن التحاقي بالسلك العسكري جاء عن طريق الخطأ.. ولكن من أين للمرء أن يدرك عواقب وتفاصيل كل المسارات التي يحلم بها! لطالما يجد المرء واقعا يختلف عن ذلك الحلم المرسوم في الذهن، ليكتشف أنه وقع في سوء تقدير كبير.

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
(6)
تعلُّم وتغيير واكتساب صفات
احمد سيف حاشد

الحركة النظامية التي كانت لا تروقني، وكثيرا ما تكدر صفوي، بل وكنت أمقتها، وأصب عليها اللعن، صارت بعد العام تثير فيني طربا ودمدمة شجون.. فبمجرد أن أسمع صوت الفرقة يتناغم، أو حتى الطبل بمفرده، أجد نفسي منسابا كالماء إليها دون شعور.. ضربات الطبل تحرك أعماقي كدوامة إعصار، تحفز أقدامي؛ فأجدها تضرب الأرض على إيقاع الطبل..

في الواحد والعشرين يوم، معهودا لي يوما بقيادتها وبحسب الدور، الفصيلة الأولى مشاة.. يتحسن أدائي حتى تجاوزت خجلي المعهود.. تجاوزت ما كنت أعاني من إعاقة في ضبط الحركة، وبلادة في تقدير ما يفعله الإيقاع.. صار طولي الفارع مع مدت ساقي، وضربات الطبل، تتوحد في مقام يعلو زهوا حتى بلغ القمة..

صرت أشعر وكأن هناك عملاقا نائم في أعماقي.. ما أن يسمع إيقاع الموسيقى ودقات الطبل، حتى ينهض كالمارد.. يرقص بنشوة فارس، وولعة مجنون عاشق.. ترقص أقدامي ومعها نياط وأوتار القلب.. كل شيء نائم يستيقظ، مع أول دقة.. عزف والحركة نظام.. يوم يتجدد، وعشق يتأجج، وطرب يشجي ما في النفس.. كل صار مدمج في روحي.. روحي راقصة لا تتعب.. راسي مملوء بالنشوة، وأقدامي تنجذب بلهفة شوق جارف نحو دمدمة الطبل، تسكر على إيقاعه، وكل يعزف ما راق للنفس وأسكر..

كانت خجولا إلى تلك الدرجة التي يخجل فيها المرء من صوته.. وبعد مضي الوقت في التدريب، تراجع خجلي وقلل من رفسه.. كان يرفسني من الداخل كحمار وحشي.. تحررت من بعض قيودي، ومن أسري الكابح لنفسي المخذولة.. صرت اصرخ بأعلى صوتي.. صار صوتي قويا كزمجرة الرعد، في وجه خجلي الذي يستعمرني حد الاستعباد.. تحررت كثيرا من وطأة خجلي الذي يمنع صوتي، أو يجعله مغلولا حد الصمت.. فاعتدل الأمر عمّا فات، وشعرت أن العسكرة صنعت فيني الفارق..

كانت أصرخ بالصوت (أخي).. كصوت المدفع أطلقها في أي تمام وبلاغ .. صرخة تحمل في معناها رفض للدونية.. ترفع مقامي العالي إلى أكبر قائد.. صرخة غير الصرخة في الشطر الآخر حاضر يا (فندم) .. حاضر ياسيدي..

تعلمت أن أكون مجتهدا أكثر في التعليم، حد مقاسمة جسدي المثقل بالإجهاد لأقل فسحة أو راحة خُص بها جسد كاد أن يفقد وعيه.. يرتاح هنيئة.. يستعيد فيها أنفاسه المقطوعة.. تعلمت الصبر وجالدت، وعبرت بحر العامين.. برنامج مكتظ وثقيل.. بين الميدان والمرمى والصف والركض طوال اليوم.. يبدأ من فجر الله، وينتهي في العاشرة ليلا، حين تُطفأ فيه أنوار مساكننا..

تعلمت الضبط والربط.. وقلقي مثل غليان الماء في المرجل.. منضبطا مثل الساعة، مضبوطا كريشة بين أنامل رسام ماهر.. لا أسمح للموعد أن يتباطئ، ولا يأخذوني الإهمال.. والأخطاء ابذل فيها ما في الوسع، إلا ما جاء بقدر وقضاء.. وفي الهامش مقبول وارد.. مواعيدي أحرسها بقلق جم.. احتاط دوما في الوقت، وفي الشدة احتاط أكثر، والذرب أكبر من موعد..

تخصصت مشاة، لأن القائد في الميدان مشاة.. جميع القادة تحت لواءه.. دبابات وصواريخ ومدافع، وحتى الطيران.. للمشاة الكل يُقاد، هذا المعروف وما كان يقال.. المشاة وزير دفاع، ورئيس هيئة أركان.. والجندي كما قال لينين، من لا يحلم أن يكون جنرالا فهو جندي خامل.

تعلمت أن أكون على درجة أكبر التزام ونظام.. إجمالا وتفاصيلا.. وضع حذاءك جوار عمود سريرك على خط بلاط، لا يخرج عنه سنتيمتر واحد.. والخوذة على الدولاب، وفرشك وملائتك وبطانيتك وملابسك على عطفات محسوبة بالأرقام.. نموذج والكل عليه.. أدوات طعامك ودولابك وما تحويه عتلتك وحقيبة ظهرك..

النظافة إلى أقصاها مدى.. ملبس مكوي ونظيف.. جزمة لابد ان تسحرك فيها اللمعه.. وعلى الرأس مهابة تاج.. وضع سريرك بمقاييس بلاط الغرفة.. كل يوم نظافة.. الغرفة ..الحمام.. الممشى ..الردهة.. محيط المبنى والميدان.. الحضور خلال ثواني إلى الطابور فور اطلاق الصفارة..

***
يتبع
بعض من تفاصيل حياتي
(7)
اعتز بنفسك.. ارفع رأسك .. أنت قائد
احمد سيف حاشد

لستُ من يعجب بقائده بسهولة.. أزدري منافقة القادة إلى حد بعيد.. لا اتملق ولا أشهد الزور.. لست من يحب قائده من أول وهلة.. أعيد النظر والتقييم مرارا.. أمقت المتملقين والانتهازيين والوصولين.. لا أزجي المديح ولا أميل للإطراء، إلا بقدر ما يستحقه القائد، وما يثيره فيني من إعجاب ودهشة، وما لديه من مصداقية وتواضع ونكران ذات.. لا أبحث في القائد عن الكمال، ولكنني أبحث عن الأفضل، الذي أجد فيه استحقاق أن يكون نموذجي ومثالي في حدود الممكن لا المستحيل.. هكذا أظن واعتقد أو أزعم هذا..

أكثر الذين أعجبت بهم في الكلية العسكرية، هو قائد الكلية أحمد صالح عليوه من محافظة شبوة.. وجدته قيادي فذ، وممتلئ، وصادق، وعلى مستوى عالي من الوعي والمسؤولية، ولا يعمد إلى فرض شخصيته إلا بوعيه وحنكته وتواضعه، وتميّزه، وما لديه من حكمة ومصداقية وشجاعة، وما تتمتع به شخصيته من حيوية ونشاط وألق وجاذبية..

في الوقت الذي أعجبت بأحمد صالح عليوه قائد الكلية، لم أُعجب بوزير الدفاع صالح مصلح.. أذكر أنني ذهبت أنا وصديقي محمد عبدالملك بعد التخرج من الثانوية للتسجيل والالتحاق بالكلية العسكرية؛ فقالوا لنا اذهبوا إلى بيت وزير الدفاع.. قصدنا بيت وزير الدفاع، وأبلغنا حراسته أننا نريد ابلاغه بوجودنا، ونريد مقابلته، أو تحديد موعد لمقابلته في الوقت والمكان الذي يحدده، غير أن الرد الذي جاءنا أن الوزير غير موجود، وبعد دقائق نتفاجأ بخروج الوزير بسيارته من البيت.. كان بإمكانه أن يقول لنا أي شيء إلا أن يكذب.. لم ايأس واستمريت بالمتابعة، وساعدني "حسن الأعور" النائب السياسي للمليشيا في معسكر عشرين في المتابعة، فيما صديقي محمد عبد الملك أُحبط وذهب ليلتحق بالتجنيد وتأدية الخدمة العسكرية..

كان أحمد صالح عليوه قائد عسكريا وتربويا محنكاً.. يمتلك شخصية قوية وجذابة تخطف إعجابنا وحبنا الكبير.. دأب يغرس في أعماقنا الاعتزاز بالنفس والثقة والشجاعة وقوة الشخصية.. مازال صوته الجهوري حياً في مسمعي وهو يقول: “طالب اعتز بنفسك.. ارفع رأسك.. أنت قائد.. ” كنت معجباً به وأشعر أنه ممتلئاً وأكثر من يستحق أن يكون قائداً لجيش بلد تستحقه.. أشعر أن ذكائه وقدرته وثقافته وحيويته كبيرة وفائقة..

كان رجلاً يمتلك قدرة قيادية فذة ومؤثرة، ويحظى باحترام وتقدير من يقودهم.. سمعت بعد سنوات أنهم أهملوا وحطموا ذلك القائد .. حطمه الفاشلون.. قالوا إنه أصيب بحالة نفسية، ثم رحل ليترك عالماً من الفاشلين.. آه يا بلد.. رجالك المخلصين والقادرين ينتهون إلى الجنون أو الضياع أو التلاشي.

كانت فصيلتنا هي الأولى مشاة، إنها من قوام ثلاث فصائل مشاة، والمشرف على الفصيلة الملازم عبد الرقيب ثابت الذي يدربنا مادة التكتيك أيضا، والحائز على المرتبة الأولى في دفعته الثامنة.. أردت أن أكون مثله الأول في دفعتي العاشرة.. أعجبت به لأنه كان يميل للإقناع والإفهام، ولا يذهب إلى طرق القسوة المُذلة التي تهتك المشاعر وتنتقص من كرامة الإنسان كما هو الحال لدى بعض أقرانه، وذلك على حساب صناعة الوعي والرفع من شأنه.. اليوم هذا القائد لم أعد أسمع به، وإنما صرت أسمع عن قادة إمعات دون وعي أو فكرة أو موقف أو انتماء للوطن.. قادة صغار أتباع منقادين آخر حسابات لديهم هو الوطن الذي لايعرفوه..

رفع الوعي هو الأمر الذي أتعلق به، وأقابله بتقدير واحترام .. الشخط والنخط والتعالي سلوك لا يروقني من الضباط، بل أشعر أن صاحبه يعاني من عقد نفسية ومركبات نقص.. أحب تواضع القادة دون أن أنال من حزمهم الذي أتفهم ضرورته في الحياة العسكرية.. وعي القائد وحزمه الواعي هو من يأسرني، وليس الحزم المهلل بالثقوب والعور..

تعلمتُ في الكلية العسكرية القيادة حيث كان على الطالب قيادة فصيلته لمدة 24 ساعة كلما أتى عليه الدور بالتناوب لكل واحد عشرين يوم .. لقد بدا لي هذا الدور في البداية صعبا، غير أنني ما أن كسرت هذا التهيب في المرة الأولى حتى صار الأمر عاديا إن لم يكن قد أستثار في أعماقي تحدّي ذلك الرجل الخجول الذي يتحول إلى قائد بكل ما للكلمة من معنى..

روحي متمردة وثائرة على كل سلطة أبوية تحت أي لباس أو مسمى.. أتمرد على كل سلطة تتجاهلني، أو تقلل من شأني، أو تريد أن تلغيني، أو تصادر عقلي وإرادتي وكينونتي.. القائد هو ذاك الذي يمارس الوعي ويرفع من شأنه ويمتلك الصفات التي تؤهله أو ترفعه إلى مصاف القيادة، وتجعل منه قائدا بجدارة..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
(8)
مخالفات وعراك..
احمد سيف حاشد

كنت في الكلية العسكرية طالب منضبط وملتزم حد القلق.. لا أستسهل المخالفات ولا أرغب في إتيانها.. لا ارتكبها إلا بنسيان أو ارباك أو بدافع يستحق.. كانت مخالفاتي بسيطة وطفيفة وقليلة جدا، إن لم تكن في حكم النادر أو تكاد، وهي تتراوح بين خروج رأس "الجزمة" عن خط البلاط.. تراب خفيف على الدولاب.. خطاء طفيف في الحركة النظامية.. تأخري عن الطابور، باجمال لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة خلال العامين.. أما الغياب فلم أغب يوما واحدا، ولا حصة واحدة خلال فترة الدراسة كلها..

مخالفة أخيرة لا أنساها، وهي نسيان أزرار البنطلون مفتوحة من الأمام، والذي وبخني عليها وهو ينفعل، بكلام لا أفهمه مدرّس مادة الاستطلاع، الخبير الروسي قصير القامة، ولكن كانت إشارة يده ورأسه وحركاته المنفعلة أبلغ من كل عقوبة وكلام، وقد أثارت معها عاصفة من الضحك..

أكبر مخالفة ارتكبتها طيلة السنتين لم يتم معاقبتي عليها.. فعندما كانت الفصيلة تركض في تدريبها، كان "حبيش" وهو طالب كثير المخالفة والفوضى ويلازمه العقاب كتوأمه، ولم أعلم يوما إنه فارقه، أساء في فلتة لسان تضمنت منّا، إلى زميل لنا في نفس الفصيلة، اسمه الحركي "عمر"، خريج جامعي، وهو من الطلاب المنتمين للحزب الشيوعي العراقي..

كان زملائنا المبتعثين من الحزب الشيوعي العراقي جميعهم خريجين جامعة، وأعضاء في الحزب الشوعي العراقي، والمحسوبين على المقاعد المخصصة لحركة التحرر.. كانوا غاية في النبل والامتلاء الثقافي والسلوك الراقي والقدوة الحسنة.. كان "عمر" أحدهم، بل وأكثرهم امتلاء، ومحل اقتداء..

ليس سهلا أن يجمع المرء بين الوعي العالي، والامتلاء الثقافي، والسلوك القويم، والتعامل الراقي، والتواضع الجم، ولكن الشيوعي "عمر" كان يجمع كل ذلك.. كان "عمر" ينتزع دوما دهشتي واعجابي، حتى صار يستحق محاولاتي في الاقتداء به..

لو كان الشيوعيون مثل "عمرنا" لاستحقوا الاقتداء بهم.. إنهم تلاميذ الشيوعي المعلم الفذ العراقي "فهد" الذي أطلق مأثرة، وهو يستعد لتنفيذ حكم الإعدام عليه شنقا : "الشيوعيون أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق".. وفي "عمر" كنت أرى قبس من نبوة، وزهد صوفي، وقائد يأسر الألباب..

ما أبداه زميلي الفوضوي نحو "عمر" من "المن" استفزني، وأثار حميتي الاخلاقية قبل أي حمية أخرى، فاندفعت نحوه بقوة وجنون، حتى بدا الأمر مفاجئ للجميع، بما فيهم المسيء نفسه، والذي يبدو أنه كان لا يتوقع ما حدث.. اشتجرت معه بعنف، وتدخل الزملاء لفض العراك، وتحولت الفصيلة التي كانت تركض بانتظام إلى كومة تحاول فض العراك.. وبعد أن فض العراك بيننا جرى احتواء الأمر، وتم حله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة..

وفي مخالفة أخرى طالني العقاب المضاعف.. كنت ما أن أسمع صفارة الطابور حتى أهرع كثور أسباني إلى ساحة الطابور.. كان لا يدركني قطع الطابور من قبل الضابط المناوب.. كنت دهشانا وسريع العدو وأزيح المتباطئ أمامي بركضه أو دفعه جانبا..

وفي مزحة ثقيلة، وحالما كنت استريح جوار السرير منتظرا صفارة الطابور من قبل الضابط المناوب، تمت المخاتلة من قبل بعض رفقتي في الغرفة، وجرى ربط عمود السرير إلى عروة حزامي العريض دون علمي، وما أن سمعت صفارة الطابور، حتى هرعت بقوة سبعين حصان، فأطحت بالسرير الذي خر صريعا وسط الغرفة، وتتطاير ما كان عليه أو في جواره على أرضيتها، فعدت محاولا اصلاح ما يمكن، ولكن لم يسعفنِ الوقت، وكان الارباك سيد الموقف..

يومها تم عقابي مرتين، الأول لتأخري عن الطابور، والثاني بسبب ما طال سريري وفراشي وما تتطاير من أدواتي في الجوار على أرض الغرفة، وبسبب ذلك طال العقاب أيضا زميلي صاحب الطابق الثاني في السرير، ولكن العقاب مع زميلي هذا لم يعد يفرق معه.. كان مشهورا إن لم تخن الذاكرة برقم (71444)؛ وقد حفظنا اسمه بسبب مخالفاته اليومية، فلا يفوته يوما دون أن يطوله عقاب، أو يكاد لا ينجو يوما من مخالفة وعقاب.. رقمه يصدح كل يوم في الطابور، بعقوبة جزاء، أو طابور اضافي..

***
تابع
بعض من تفاصيل حياتي
أحمد سيف حاشد:
الحرب علينا اشد واكثر وطأة من كرونا.. خمس سنوات تسحقنا دمار وخراب وقتل وفساد ونهب واستبداد.. لم يتحدثوا عن وقفها الا من قبيل ذر الرماد على العيون.. جميعهم مستفيدين الا نحن.. السلام لازال يعنينا ايضا..
احمد سيف حاشد::
• ممارسة السياسية في بلاد مثل اليمن مكلف جدا، ولاسيما إن كان هذا الذي يمارسها حالم، وأحلامه تتصادم مع واقعه، في ظل غياب واسع للوعي، ومال سياسي متدفق، وفساد مهول، وعوز وفقر عارم في المجتمع.

• وزائد على هذا، وجود نخب هشة، ومثقف سهل الاستقطاب، بل والتماهي مع من يدفع أي كان.. مثقف بدون مشروع، مستعد أن يبيع من أول عرض، أو يفعل أي شيء، طالما هذا الشيء يعيد عليه بمردود ما، كان ماليا أو وظيفيا أو مزايا أخرى..

• وفي مجملها تلك المزايا والعطايا والرشاوى، تهين المثقف وتستبيح ضميره وكينونته، وتحوله إلى منافق دجال، وتسقط دور الطليعي الذي كان ينبغي أن يضطلع به، وتحوله إلى خائن للقضايا الوطنية الكبرى التي كان يفترض أن ينهض بها، أو يدافع عنها، وعن الشعب الذي يفترض أن يكون طليعيا له.. والأكثر من هذا أنه يعمد بمثابرة إلى تزييف وعي الشعب، ويتوطأ مع مرتكبي الجرائم، والبشاعات بحق شعبه، إلى الحد الذي تجعله شريك فاعل فيها..
. تتمنى أن تهبط إليها، وتطويها بقدميك خطوة خطوة.. كنت أحدث نفسي وأنا في سماءها: هنا الاهرامات والمباني الشاهقة والعظمة كلها.. هنا كان فرعون وكانت حضارة.. مصر الأبية، ومصر أم الدنيا، وشعب يقول "إلا مصر".. أين هي "بور سعيد" التي قرأت عن بطولة أبناءها وأنا في الصف الثالث أو الرابع ابتدائي؟! هنا مصر التي هزمت العدوان الثلاثي وأممت القناة، وانتصرت في حرب اكتوبر 1973 هنا كان للعروبة زعيم اسمه جمال عبد الناصر، وكانت هناك خيانات وخونة وأنذال صغار..

• تتداعى أفكاري من كبيرها إلى أصغر التفاصيل وأنا أحدث نفسي: هنا كل الكبار أحياء وأموات.. هنا نشأ الوطن المنفي سعد زغلول، والأمل الذي لا يتلاشى مصطفى كامل الذي علّمنا أن "لا يأس مع الحياة".. هناعميد الأدب العربي القامة طه حسين، والروائي الفذ نجيب محفوظ، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وفقيه القانون الموسوعة السنهوري.. هنا كوكب الشرق أم كلثوم.. هنا ثقافة وحضارة وعمالقة..

هنا اليسار المصري أمل دنقل وأحمد فؤاد نجم والأبنودي والفنان الشيخ إمام.. هنا خفة الدم، والروح المصرية الجميلة.. مدرسة المشاغبين وأبطالها الكبار.. المسرحية التي لا تُمل مشاهدتها للمرة الألف.. هنا العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، والفنان فريد الأطرش.. وشادية وفريد شوقي واسماعيل ياسين ومدبولي والمليجي وفؤاد المهندس وأحمد زكي ونور الشريف..

• وهنا أقام أخي مدة في حدود نصف العام يدرس في سلاح الإشارة بعد تخرجه من الكلية الحربية في صنعاء في الستينات عندما كانت مصر تدعم النظام الجمهوري في اليمن.. مصر العروبة وزعيمها الذي أراد أن يلملم أشتاتنا المبعثرة وأوطاننا المفتتة ويستعيد احلامنا الكبار؛ فخذله الاوغاد، وتكالب عليه خونة الأوطان ومتعفني التاريخ والساسة المرتهنين..

• هنا تقيم الفنانة وردة الجزائرية، والممثلات يسرى وشمس البارودي وفاتن حمامة وسعاد حسني اللآتي لطالما هُمنا بعشقهن واطلقنا العنان لخيالنا الشارد منّا، عندما كنّا نعيش شبقنا الأول في سنوات الكبت بالمرحلة الثانوية.. هنا تهبط الآن الطائرة التي تقلّنا..

• تهبط الطائرة في مطار القاهرة الدولي، وبقينا بحدود الساعة ننتظر فيها، لأنه غير مسموح لنا بالخروج إلى صالة المطار أو حتى إلى "الترنزيت" بسب قطع العلاقات مع النظام المصري من قبل دول الصمود والتصدي، ومنها اليمن الديمقراطية التي قدمنا منها، وذلك بعد توقيع رئيسها أنور السادات معاهدة "كمب ديفيد".. وبعد ساعة انتظار في جوف الطائرة، جاءت الطائرة الأخرى التي ستنقلنا إلى مطار "كييف" في أوكرانيا، ثم إلى موسكو.. فأنتقلنا إليها..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
إحرازي للمرتبة الأولى..
احمد سيف حاشد
ما بذلته من صبر وجهد ومثابرة وتراكم تعليمي كان موعده مع النتيجة.. لابد للجهد المبذول أن يأتي ثماره وجناه.. كنت استفيد من أي إجازة أو فسحة أو وقت متاح.. ابدأ بالوجب ثم ما عده .. لم يفتني عدد من أعداد المجلة العسكرية السوفيتية.. أقرأ فيها أهم المواضيع الذي أراها مهمة، أو تفيد دراستي او ترسخ او تظيف الى معارفي العسكرية..

كنت أقرأ كلما تقع عليه عيني من كتب ذات علاقة، دون أن أهمل غيرها فيما يخص الثقافة العامة.. أذكر أن ملحمة "جلجامش" قرأتها وانا في الكلية العسكرية، وهي عبارة عن ملحمة أسطورية مشبعة بالإثارة والخيال، بالاضافة الى انها اقدم عمل أدبي للبشرية..

كانت المثابرة وقلة النوم يهدان قواي في بعض الأحيان.. أذكر في مادة "تدريب السيارات" وحالما كان استاذ المادة منهمكا بشرح قطعة من ماكينة سيارة وفيما كنا واقفون حوله ونستمع إليه، طحت أرضا من قوامي.. سقطت سقطة قوية، بدأ سقوطي وكأن نوبة مفاجئة داهمتني بغته وأنا واقف. وعندما أراد الطلاب يعرفون ماذا حدث! تفاجئوا بنهوضي السريع.. وقلت لهم: "ما فيش حاجة، فقط نمت وأنا واقف"؛ فازدادوا دهشة، وضحك الجميع..

كنت ملتزما في نوبات الحراسة الليلية رغم أنني لا أطيقها وأتململ منها، إلا إذا كانت حراسة إحدى القواعد الرادارية على ساحل عمران.. وفي أحدى نوبات الحراسة في الكلية، وفيما كنت قاعدا على الكرسي وبيدي البندقية، سقط رأسي وعنقي إلى الأسفل وهويت، فكادت نصلة السكين المثبتة في رأس البندقية أن تصيبني في عيني.. كانت درسا أيقضني طوال نوبات حراستي اللاحقة..

بإمكانك أن تخطأ ولكن لا تكرر الخطأ.. ابذل ما في الوسع من جهدك ومجهودك، وستجني الثمار بقدر ما هو مبذول.. ارفع سقف تمنياتك وابذل الجهد الموازي الذي تستحقه، وستجني ما تطيب له نفسك.. لا تترك ضعفك في مقام أن يُسلب تفوقك في مقام آخر.. بل حافظ على الجيد، وقوي مكمن قوتك لتعوض ما أهدرته نقطة ضعفك.. اسعى لأعلى درجة من التفوق وستتفوق.. لن يخذلك القدر.. روم أكثر ستجد نفسك في المقدمة..

كانت تعجني مواد علم النفس، والهندسة، وأسلحة التدمير الشامل، والتكتيك، والتدريب الناري، وغيرها من المواد، فيما كانت الرماية تتراوح بين الجيد والجيد جدا.. وفي نهاية امتحان العامين كنت قلقا أو غير واثق من قدرتي في أصابة الهدف في المنتصف، وعلى نحو يحقق لي درجة الامتياز..

إن للحظ عثرته، ولا يكون الحظ دوما حليف معك.. الحظ يبقى حظا.. أبسط هزة ليديك أو لكتفك يمكنه أن يفسد فرحتك.. أصبعك ربما تخذلك إن لم يكن ضغطها للزناد في لحظة الضبط.. عينك التي تسدد بها ربما تنحرف قدر شعرة عن الهدف؛ فتخونك بانحراف لا تتوقعه.. جهازك العصبي ربما هو الآخر يفسد عليك كل شيء.. ولكن كان لابد أن أكمل ما بدأت، وكانت النتيجة في الرماية جيد جدا، أو 4 من 5 فيما بقية المواد كانت امتياز؛ فتمت المفاضلة، وكنت الأول..

حصلت على المرتبة الأولى في الدفعة، ولمعت في ذهني عبارة “ من جد وجد ومن زرع حصد” وهي التي تعلمت فيها الخط ولطالما كررت كتابتها حالما كنت صغيرا في عهد تعليمي الاول.. واليوم حصدت ما أروم بعد كد عامين..

طعم التفوق لذيذا، ولاسيما عندما يأتيك بعد عناء وجهد ومشقة.. كنز تجده في عمق المكان أو آخر النفق الذي شققته بأظافرك وتجاوزت به يأسك.. كان جني الحصاد، وكان شعوري بالفرح عارما، وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول.

لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي أستلذ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح..

حضر حفل تخرج الدفعة وترقيتها إلى ملازم ثاني، الرئيس على ناصر محمد، وكان هذا تاريخ 1/9/1983 تمت المنادة باسمي وترتيبي الأول، وسلمني جائزة كانت عبارة عن إذاعة ومسجلة كبيرة "توشيبا" أدهشتني كثيراً وكان شكلها وحجمها يدعو للإنبهار، وتم تكريمي بزيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشر أيام، بمعية التسعة الأوائل الآخرين في الدفعة، ومنح كل منّا 300 دولار مصروف جيب لتلك الرحلة..

لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو شاهقا جدا!

المرة الاولى التي اشاهد فيها السِرك والمترو والساحة الحمراء و لينين المسجى في الكرملين وطابور طويل ينتظر فيه كل واحد دوره ليلقي عليه نظرة يتمني صاحبها أن تتمهل وتطول! والأهم أنني أول مرة أشاهد بأم عيني رجلاً يقبل حبيبته بالشارع..!

أول مرة أشاهد عالماً كل شيء فيه جديداً ومثيراً للدهشة بذلك القدر الذي يستحق مني الاستغراق والذهول!

***
يتبع.. الطيران إلى موسكو
بعض من تفاصيل حياتي
احمد سيف حاشد:
• أشعر أحيانا أن حياتي تعبت مني، ولكنني أظل ممعنا في إثقالها بالمزيد.. أتعبت معي أسرتي، وأتعبت أيضا أخريين ممن يحبونني من الأقرباء والرفاق والأصدقاء المقربين.. ولكنه قدري، وربما هي أقدارهم أيضا..

• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
احمد سيف حاشد:
• أشعر أحيانا أن حياتي تعبت مني، ولكنني أظل ممعنا في إثقالها بالمزيد.. أتعبت معي أسرتي، وأتعبت أيضا أخريين ممن يحبونني من الأقرباء والرفاق والأصدقاء المقربين.. ولكنه قدري، وربما هي أقدارهم أيضا..

• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
(10)
في الطائرة.. وكان للعروبة زعيم
احمد سيف حاشد

• أول مرة أرى طائرة عن قرب، وأصعد إليها عبر سلّم لم أكن أعلم هل هو مستقل عنها أو هو بعض منها، قعدت على المقعد المخصص لي، ولحسن حظي كان مقعدي جوار النافذة.. الطائرة تتحرك ببطيء على أرض المطار، والتعليمات تصدر بربط الأحزمة.. المضيفة تمر للتأكد أن الركاب نفذوا التعليمات، فيما كنت قد تجاوزت تعثري في ربط الحزام.. تبدأ سرعة الطائرة على الأرض تزداد أكثر وأكثر، فيما كنت كطفل اتابع من النافذة بعض التفاصيل في محيطها.. ثم تقلع الطائرة من مطار عدن الدولي..

• وفيما الطائرة تصعد شعرت بالرهاب.. أحسست بفجوات كبيرة تتخلل صدري.. إنها فجوات أكبر من صدري، بل هي بسعة الفضاء الذي تخترقه الطائرة في صعودها.. قلبي يكاد ينخلع من مكانه.. حالة من التوتر تسودني..

• لا شيء يمسك بك الآن وأنت تصعد بالطائرة في الفضاء.. تشعر أن روحك صارت بقبضة القدر وحده.. تبادر إلى ذهني مصير السبعين كادر الذين سقطت بهم الطائرة في مطلع السبعينات في عدن، أو بالأحرى التي تم تفجيرها بفعل فاعل.. عمل إجرامي بكل المقاييس.. تخيلت مصيرهم المرعب، وهم يتطايرون في الهواء كشظايا قنبلة.. يا له من حظ سيء ومرعب..

• رغم رهابي الذي ينتشر في أوصالي ويستولي على كياني إلا أنني أحاول أجمع شجاعتي، فيما كان فضولي أقوى مني ومن رهابي.. صرت أحدث نفسي: يجب أن أقمع مخاوفي.. يجب أن أتغلب على رهابي.. أنا صرت اليوم ضابطا؛ فكيف لي أن أحث جنودي في المستقبل أن يكونوا شجعان أفذاذ؟!! كيف أدعوهم إلى عدم الخوف وكل هذا الهلع ينتابني؟؟! أليس جيفارا الذي أعجبت به هو القائل: الثائر أو القائد هو "آخر من ينام وأول من يستيقظ وآخر من يأكل، وأول من يموت" القائد يجب أن لا يتهيب الموت، فما البال والحال يتعلق بالرهاب..

• واحاول شحذ عزيمتي وتقوية ارادتي في مواجهة عقدة الرهاب التي تعبث داخلي، بالحديث مع نفسي: "أخي علي سيف حاشد كان مضلي يقفز من الطائرة، فكيف لي أن أكون دونه؟! أريد أن أكون شجاعا مثله.." ثم استحضرت ذاكرتي ما سمعت منه يوما، عن قصة ذلك الذي رفض القفز المظلي من الطائرة، إلا بركلة قوية من قدم الضابط المصري.." واستطرد في الحديث مع نفسي: "لا أريد أن أكون جبانا ولا أحتاج إلى الركل لأتعلم الشجاعة.. الجبان عار أكثر ممن تركله كل الأقدام.. يجب أن أكون شجاعا بما يكفي للتغلب على هذه العقدة .. يجب أن أسحق ما ينتابني من رهاب.. علي أن أطلق العنان لفضولي الذي يتحدّى، ويستحق التقدير.. يجب أن استمتع ما استطعت برؤية هذا العالم الخرافي، من هذا العلو الشاهق..

• ألصق صدغي وجانبا من وجهي في زجاج النافذة التي بجواري في الطائرة، وأنا أقول لنفسي: يجب أن أرى العالم السفلي من هذا العلو المرتفع.. أريد أن أعرف كيف يبدو ما في الأرض للعيان من السماء!! لابد أن أعرف كيف تبدو عدن من هذا الارتفاع!! أول مرة أرى مدينة عدن من هذا العلو !! شوارعها وأبنيتها وسفنها وبحرها وشواطئها وشكلها الجغرافي العام.. ثم تصغر عدن وتتلاشى خلفنا، والطائرة تلتهم المسافات، فيما أنا لا أشعر بتلك السرعة التي تقطعها الطائرة، إلا رويدا رويدا، عندما أجد ما كان في الأمام قد صار يتلاشى خلفنا..

• أول مرة أجد نفسي فوق السحاب.. أن تكون أعلى من السحاب، أو تكون السحاب دونك وأنت ترمقها من الأعلى تشعر بعجب ودهشة.. يشد انتباهك بما لا تألفه أو تراه من قبل.. يا له من سحر وأنت ترى السحب تحتك مفروشة كالقطن المبثوث بطبقات كثيفة، ومساحات واسعة وخرافية.. رؤية السحب من الأعلى يختلف عن مشاهدتها من الاسفل.. تشعر وكأنك تكتشف عالمك لأول مرة أو من جديد..

• انني الآن اكتشف الفرق.. أشطح في الخيال والتمني وتجاوز المعقول أحيانا.. تمنيت أن تكون السحب بالفعل مصنوعة من القطن تحفظنا إذا ما هوت الطائرة لأي سبب.. كان شكلها مغر وجاذب، ثم ما ألبث أن أقول: "يا له من منظر مخادع.." تبدو السحب كطبقات القطن الوثير، ولكن الحقيقة صاعقة.. ثم تتبادر إلى ذهني ما سمعته من خرافة في الصغر عن ذلك الجد الذي يحكون عنه، عندما أراد أن يركب الخنان أو يمتطيها، ثم وقع من علوه، وعلق بشجرة العريَب، ثم أختصر للناس محنته وتجربته في موجز القول: "لولا شجرة العريب.. أمّا ربّي فقد كان سيّب".

• رفض فضولي أن ينام أو يستريح، ولم يدركه كلل أو ملل، بل كان يزيد شغفا وأسئلة.. أتفرس من نافذة الطائرة، الجبال والوهاد والبحر والنيل وكل شيء تمر عليه الطائرة.. حب الاستطلاع والمعرفة يزيد في تحفيز فضولي، وكثير من الاسئلة التي يطرحها عقلي الشغوف للمعرفة، ولابأس من أن أشعر ببعض الخيبة عندما لا أجد من يسعفني بالإجابة عليها، وليس هناك مرشد في الأمر بإمكانه أن يجيبني الآن.. ومع ذلك وفيه العزاء، أن تلك الأسئلة تظل حية وترفض أن تموت، وتظل تطرق باب عقلي ووعيي تبحث عن جواب على الدوام، ولا يطفئ اشتعالها غير غيث المعرفة.

• وصلت بنا الطائرة سماء القاهرة.. رؤية القاهرة من الجو يمنحك شجن معرفي كبير.
• أشعر أحيانا أن حياتي تعبت مني، ولكنني أظل ممعنا في إثقالها بالمزيد.. أتعبت معي أسرتي، وأتعبت أيضا أخريين ممن يحبونني من الأقرباء والرفاق والأصدقاء المقربين.. ولكنه قدري، وربما هي أقدارهم أيضا..

• أضطر أحيانا للتوقف لأستعيد أنفاسي، أو لأتبين المكان الذي أقف عليه، وأتأمل وأحدج ببصري فيما يحيطني أو يحيط بي.. ربما أتراجع أو أراجع فيه بعض مواقفي.. وربما أضطر أحيانا مرغما لتخفيف سرعتي، والتمهل، أو أجد نفسي بحاجة لأن أستريح قليلا من الوقت، استراحة محارب، ثم ما ألبث أن أنهض وأوصل السير من جديد على العهد والوعد الذي قطعت يوما على نفسي..
ماهي القصة؟؟
تصوروا ان العالم كله مستنفر من فيروس كرونا وفي صنعاء يتم وقف التعليم والقضاء واجتماعات الحكومة ومجلس الشورى فيما هيئة رئاسة مجلس النواب تدعو اعضاء المجلس للاجتماع يوم السبت القادم .. وليس هذا فقط بل ويجري حجز رواتب الاعضاء بخزانة المجلس من ايام ولا يتم صرفها حتى يتم حضورهم يوم السبت..
ياترى ما ما هي القصة؟؟؟
(11)
في الطائرة.. إلى موسكو
• أقلعت طائرة الخطوط الجوية الروسية "إيروفلوت" لتنقلنا من مطار القاهرة إلى موسكو.. أول دهشة أربكتني في الطائرة كانت في المضيفات الجميلات.. قوامهن الفارع، وبياضهن الأخاذ، ورشاقتهن الآسرة لخيالك الشارد.. عيونهن زجاجية بمسحة لون السماء، أو زرقة بحر عميق، وسحر في العيون يغلبك..

كريستال العيون والتماعاتها تغامزك، حتى تسلب لبابك، وتغوي عفتك، وكل التقوى والقداسة والرهبنة التي تسكنك.. لآليء تخطف منك النظر.. محوطات ببياض السحاب، وتعاويذ السماء التي تسحق لاءاتك، وتهزم حيلتك.. جفون نجاة، وحواجب تحتضن الكنوز، وأنوف قيصرية لا تقبل الا التحدّي والنزال، فيما أنت حاسر القوى، وعفتك عزلاء لا تقوى على مقاومة هذا الجمال الفارط حد العبث والجنون..

• كل شيء يخطف قلبك من بين الضلوع.. ينتزعك كالقدر.. ومهما كانت ثقتك بعفتك، فإن قواها تخور من أول نظرة، فتستسلم كل جيوشك، وتنهار أبراجك وقلاعك، وترفع راياتك البيضاء أمام هذا القدر الذي يتملكك.. جمال آسر يستحوذ على اهتمامك وفضولك، ويستولي عليك من ألفك إلى ياءك، فتحول عينيك من زجاج النافذة وما وراءها من عجب، إلى عيون تبرق بالفرح، وعجب ما بعده عجب، وتتوالى المعجزات وأنت تمعن في خلق أتقن الخالق صنعه..

• مررنا عبر أجواء تركيا، وطن المناضل ناظم حكمت، الكاتب المسرحي والروائي والشاعر العظيم الذي سُجن قرابة 17 عام، ونفي من وطنه حتى الموت بسبب نضاله وشعره الإنساني الجميل وانحيازه للفقراء والمقهورين من أبناء شعبه.. الشاعر الذي مات سجانوه، وعاشت أشعاره وقصائده وأناشيده.. ناظم حكمت الذي مات ولم يمت أمله، وهو القائل: "أجمل الأيام، تلك التي لم نعشها بعد.. أجمل الأطفال، هم الذين لم يولدوا بعد.. أجمل القصائد، تلك التي لم أكتبها بعد." ناظم حكمت الذي تمرد على بؤس منفاه، كما ثار وتمرد على ظلم وبؤس وطنه..

• في رحلتنا بدت لنا تركيا من الجو وكأنها عروسة استحمت لتوها.. صحو مع الضلال، وغمام ومطر، وتنوع وتفاصيل، وجمال تحب أن تمكث وتقيم فيه شتاء ومصيف.. لأول مرة أشاهد أرض مثلها، وكأنها قطعة من الجنة.. أسرتني تركيا من الجو.. يا لها من أرض عجيبة.. يا له من اخضرار باذخ بمساحات شاسعة.. طبيعة خلابة بجمال لا يخرمه عيب ولا عور، ولا يخونك فيها النظر.. طول رحلتنا في سماها نستمتع برؤيتها حتى هبط الغروب، وظننا إنها كل المدى..

• دخل الليل، ودخلنا حدود الاتحاد السوفيتي الذي كان.. الاتحاد السوفيتي الكبير والمهاب.. عبرنا أجواء البحر الأسود والظلام يحيط بالطائرة.. شاهدنا من بعيد أضواء مدينة "أوديسا" التابعة لأكرانيا، والواقعة على ساحل البحر الأسود والتي يفصلها عن "كييف" العاصمة أكثر من 400 كليو متر.

• وصلنا إلى "كييف" عاصمة أوكرانيا السوفيتية.. هبطت الطائرة في مطارها.. أحسست وأنا أخرج من الطائرة أنني أدخل "فريزر" ثلاجة.. كانت درجة الحرارة بحدود 7 درجات.. وهي درجة حرارة لم يسبق لي أن تواجدت فيها من قبل.. لقد قلت لنفسي: إن هذا ليس مطارا، بل هو "فريزر ثلاجة، وكان طقس أوكرانيا كله كذلك أو على نحو مقارب.. إنها المرة الأولى في حياتي التي أتواجد فيها على أرض بدرجة حرارة كتلك..

• بعد حدود الساعة استأنفنا رحلتنا صوب موسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي.. وصلنا إلى مطارها.. كان في استقبالنا هناك عدد من كبار الضباط يرأسهم جنرال مكلف باستقبالنا ومرافقتنا خلال الزيارة، ومترجم قمة في النبل والتهذيب والرقي.. فاجئونا باستقبالنا كوفد محاطا بكثير من الحفاوة والعناية والتقدير..

• استقبلونا بعدد من السيارات الفخمة والخاصة بنقل الوفود، والتي كانت في انتظارنا.. كل اثنين في سيارة.. حتى إشارة المرور الحمراء تجاوزناها رغم صرامة تنفيذ القوانين، والالتزام بقواعد المرور هناك، ربما لأن الساعة كانت في وقت متأخر من الليل.. يا له من احتفاء واستقبال وتقدير كبير لم نألفه في أوطاننا، ولم نكن نتصوره حتى في الخيال..

***
يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي
لابتسامة ترسمها الشفاه: من أي دولة أنتم؟!
فأجبناها: من اليمن..
- قالت أخرى: أنتم في مقتبل العمر، وتحملون رتبا كبيرة..
أستغربنا أكثر؛ ثم قلنا: هذه النجمة لدينا هي رتبة ملازم ثاني تمنح بعد التخرج من الكلية العسكرية..
وقبل أن يترجم لهن المترجم جوابنا، كان فضول الفتاة الثالثة يسأل:
- هل أنتم أبناء أمراء؟!
فتبدت حيرتنا أكثر واستعجبنا من السؤال! فيما جميعهن يضحكن، فتولى المترجم الايضاح.. وعرفنا السبب..
النجمة التي بحجم النجمة التي في رتبنا ونحملها على أكتافنا، هي لديهم وفي جيشهم رتبة رائد.. تلاشى ضحكهن، فيما انطلقت قهقهتنا بعد أن عرفنا السبب، وتبددت حيرتنا التي كادت تخنقنا..

• أما اليوم وأنا أكتب هذا؛ فقد صار ضحكنا كالبكاء.. تندرنا بعد الوحدة من واقع ساد، حتى أسمينا اليمن "بلاد المليون عقيد" سخرنا وتهكمنا من كثرة منح الرتب كهدايا وهبات، وعطايا مناصرة ومولاة، وشراء للذمم، خارج القانون والنظام.. أما اليوم فصارت الرتب العسكرية توزع كالفاكهة.. كل سلطات الأمر الواقع في اليمن صارت تتنافس في منحها على أتباعها وأنصارها.. تستطيع أن تجد عدد غير قليل من لم يكملوا المرحلة الإعدادية أو الثانوية، قد صاروا يحملوا رتب عميد ولواء.. وتستطيع أيضا أن تجد عددا لا يقل عن هذا ممن لم يبلغوا سن البلوغ قد صار يحملوا رتبة مقدم وعقيد.. "يابلاشاه يا حراجاه" والأكثر سوءا أن تجد عند بعضهم بين الترقية والأخرى أيام أو أسابيع أو شهور..

• من حق العالم اليوم في هذا العهد المملشن.. عهد الغلبة وأمراء الحرب وسلطات الأمر الواقع، وتحلل ما بقي لنا من دولة، أن يضحك علينا ألف سنة، وهو يرى الجهل في اليمن يحمل رتبا عسكرية كبيرة ومتوسطة، ويشاهد أطفالنا الغر، يُمنحون ويحملون الرتب العسكرية الكبيرة والثقيلة..

• وقفنا على الشعلة، وضريح الجندي المجهول، ومشاهدتنا للحراسات وتغييرها الذي يجري على رأس كل ساعة.. خلصنا إلى أن كل شيء هنا يتم بدقة متناهية.. إنها الصورة الرمزية ذات الدلالة والتي تعكس صورة الدولة بمراسيمها المنضبطة والعالية الدقة.. ترى الجندي في وقفته وثباته، وكأنه مصنوعا من الشمع، لا يتحرك له رمشا ولا جفن خلال ساعة وقوفه.. تجد فضولك يتحفز إلى لمسه للتحقق عمّا إذا كان الذي أمامك جنديا حقيقيا أم مصنوعا من مادة أخرى، ولكن عقلك يمنعك من أن تفعل.

زرنا المتحف وشاهدنا تماثيل ومجسمات متنوعة، ومنها مجسم نصفي صغير للينين قالت زوجته "كربسكايا" إنه أكثر ضبطا ومطابقة للينين كما تراه وكأنه هو بالفعل.. إليانوف أيلتش لينين الذي كنت أحد معجبيه، ولكن بمأخذ، ولا أخلو من تحفظات.. ولا قداسة لأحد..

انتظرنا دورنا في طابور طويل حتى أطلينا على لينين المسجى في صندوق من زجاج وهو يرتدي ملابسه الأنيقة.. تمر وهو على بعد عدة أمتار منك، وأنت تحاول أن تدقق في تفاصيله، لا تجد ما يخرم شكله وهيئته قيد شعرة..

بعد يوم حافل بألف ليلة وليلة عدنا إلى الفندق..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
إلى زعيم جماعة أنصار الله عبد الملك الحوثي
للعلم والإحاطة والسؤال..
إنه أسوأ نائب عام عرفته في حياتي هو هذا الذي في عهدكم.
إنه النائب العام نبيل ناصر العزاني..
السؤال: لماذا تولوه؟!!
والسؤال الأكبر: لماذا تبقوه؟!!
(12)
في الساحة الحمراء.. قلب موسكو
• وسط الساحة الحمراء في قلب موسكو، تجد نفسك محاطا بعالم خرافي ساحر، يحكي العجب الذي فاق خيالك المتواضع رغم صدقيته.. خيالك الذي لم يكن بوسعه أن يتخيل المشهد الذي تقف عليه الآن بقدميك وتراه بأم عينيك، وأنت متردد في تصديقه، ومستغرق في الذهول، رغم أنه واقع وأكيد..

• بديت أمام نفسي كمن فقد عقله تحت تأثير الصدمة، ولم يعد يفرّق بين واقع اللحظة التي يعيشها واللاوجود.. أسأل نفسي وأنا فاغر فاه، ومدهوشا مما أرى: هل يا ترى أنا موجود، أم غير موجود؟! هل هذا العالم الذي أمامي الآن، ويحيط بي من كل اتجاه، بالفعل واقع ملموس كما أراه ويتبدّى لي الآن، أم هو محض وهم لا أساس له من الصحة، ولا وجود له؟!! إنه مشهد لم أكن أتخيله من قبل، ولازلت مترددا في تصديقه..

• إنه عالم آخر يختلف حد الصدمة عن ذلك العالم الذي جئت منه أو اعتدت عليه.. أن تتخيل نفسك فجأة تنتقل من قريتك النائية البعيدة، التي لازالت تطلب الغيث من صراف المطر، مقابل أن تدفع المال العزيز الذي تحصل عليه بالكد والكديد، وبين حضارة صارت تنزل المطر في الوقت والمكان الذي تريد.. إنها الصدمة الحضارية، والمفارقة الشاسعة بين قريتك الموجودة في أقاصي الأرض المنسية، وقلب موسكو عاصمة الدولة العظمى الثانية.. إنها مفارقة بحجم الدهشة كلها..

• وأنا أجول في الساحة الحمراء مشدوها، أنقل نظري في زحمة ما يبهر ويسحر كنت أحدث نفسي : بوسعي أن أتخيل الإسراء والمعراج، أو بساط الريح، أو حكايات ألف ليلة وليلة، أو مردة الجن، وقد نقلوني من عالمي المعتاد والبسيط، إلى هذا العالم الباذخ بالعجب..

• بإمكاني أن أتخيل أنني فركت الخاتم أو مصباح علاء الدين؛ وأستدعيت ذلك المارد، الذي خرج عملاقا، وعلى عنقه القوي، وزنديه المفتولتين والمشدودتين بالقوة، تمائم وقلائد وأشياء أخرى.. بوسعي أن أتخيله أيضا أصلعا إلا من خصلة كثيفة من الشعر في قمة رأسه، مربوطة ومسدوله على ظهره العريض..

• بوسعي أن أتخيل أيضا المارد قد فرد ذراعيه الواسعتين، وطأطئ رأسه، وهو يقول كعبد مطيع لي: "شبيك لبيك.. نحن بين يديك.. اطلب وأتمنى".. فأتمنى أن يذهب بي إلى هذا العالم الخرافي الساحر الذي أقف عليه الآن بأقدامي، وأحملق فيه بعيني الواسعتين.. هكذا صرت أتخيل ما حدث، وما صرت عليه الأن.. من فرط الصدمة الفارقة بدا لي الواقع خيال.. هكذا تنقلب الأشياء أحيانا عندما لا نصدقها، من فرط الدهشة والذهول..

• هنا الضخامة والفخامة التي تجعلك تشعر وكأنك تعيش حياة أسطورية حافلة بالعجب.. كل شيء هنا يسحر عيونك، ويختطف منك ذاكرتك، ثم يعيدها إليك، وقد خزن فيها كل مشاهداتك وذهولك، وما رأيته من العجب، الذي لن تنساه، ولن تغادره ذاكرتك حتى تُفنى أو تموت..

• القبب الملونة، والهندسة المعمارية، والجداران العالية والمهابة، والأبراج بكل مسمياتها، والكنيسة ذات القبّة التساعية، والكرملين، وضريح لينين، وضريح الجندي المجهول، والشعلة التي لا تنطفي، والمتجر الرئيسي للمدينة، والأرض المرصوفة بالحجر الأسود العريق، والقلاع العتيده، والقصور الملكية، ومتحف الدولة، وكل ما يقول: من هنا مر التاريخ.

• الساحة الحمراء قلب العاصمة النابض والأكثر شهرة.. ملتقى ثقافات شعوب العالم.. كرنفالات واستعراضات وحب وأعراس وأجواء احتفالية خاصة.. وحجيج إلى ضريح لينين من كل بلدان وبقاع العالم..

• هنا مقر الكرملين، والمقر الرسمي للحكومة السوفييتية.. هنا عاصمة دولة عظمى بيدها مصير العالم، وتتقاسم نفوذه، ولديها ما يفنيه عشر مرات.. هنا يمكن أن تتفهم ما قاله الطالب السوداني المنتحر من الطابق العاشر في موسكو وما كتبه على قنينة "الفوتكا" الشهيرة قبل انتحاره: "صافية كالدموع.. قوية كالسلطة السوفيتية" ولم ينتقص من قوة تلك السلطة وهيبتها، إلا السوق السوداء والاقتصاد الغير معافى، وهو ما كشفه لنا صرف الدولار.. حيث الدولار بسعر بنك الدولة 75 كبيك، فيما صرفنا الدولار في السوق السوداء، من خلال صديق، بثلاثة روبل إن لم تخنّي الذاكرة.. لقد أحسست يومها أن تلك السلطة ليست بتلك القوة، وأن اقتصادها يعاني الكثير، والصحة ليست على ما يرام.

• أتينا إلي الساحة الحمراء ببزاتنا العسكرية الخضراء التي تبدو مراسميه وربما لافتة للنظر.. كثير من نظرات المارين والواقفين في الساحة كانت تصوّب علينا.. اعتقدنا في أول الأمر أن زيّنا الفخيم هو السبب اللافت لتلك النظرات.. ظننا أن تميزه اللافت هو ما يشد النظرات ويلفت إليه الانتباه.. شاهدنا بعضهم ينظرون إلينا، ثم يتحدثون بشأننا ولا نعلم ماذا كانوا يقولون!! ولكن ابتسامتهم لبعض كان توحي أن هناك أمر فينا يثير ابتساماتهم، وربما ضحكاتهم في بعض الأحيان!! صارت الحيرة تلبسنا والاستغراب يستفز فضولنا..

• أخذنا موقعنا في الطابور الطويل المؤدي إلى ضريح لينين.. عدد من الفتيات في الطابور على مقربة منّا يتهامسن وهن ينظرن إلينا، ثم يقهقهن، فيما كان يستغرقنا شعور الاستغراب..

- سألتنا أحداهن وا