https://yemenat.net/2020/02/364884/
داخلية حكومة صنعاء تتهم نائبين بالإفراج عن متهمين من مركز شرطة متناسية سلطة النيابة العامة والنائب حاشد يعتبره استهداف شخصي
داخلية حكومة صنعاء تتهم نائبين بالإفراج عن متهمين من مركز شرطة متناسية سلطة النيابة العامة والنائب حاشد يعتبره استهداف شخصي
موقع يمنات الأخباري
داخلية حكومة صنعاء تتهم نائبين بالإفراج عن متهمين من مركز شرطة متناسية سلطة النيابة العامة والنائب حاشد يعتبره استهداف شخصي - موقع…
يمنات – خاص أتهم وزير الداخلية في حكومة الانقاذ، عبد الكريم أمير الدين الحوثي، النائبان أحمد سيف حاش
داخلية حكومة صنعاء تتهم نائبين بالإفراج عن متهمين من مركز شرطة متناسية سلطة النيابة العامة والنائب حاشد يعتبره استهداف شخصي
يمنات – خاص
أتهم وزير الداخلية في حكومة الانقاذ، عبد الكريم أمير الدين الحوثي، النائبان أحمد سيف حاشد و خالد الصعدي، بالافراج عن “9” متهمين من مركز شرطة 22 مايو بأمانة العاصمة صنعاء. زاعما أن من تم الافراج عنهم كانوا مضبوطين على ذمة التحري، كونهم من أرباب السوابق.
و زارت اللجنة البرلمانية المكونة من حاشد و الصعدي، اضافة إلى ممثلين عن النيابة العاصمة عدد من مراكز الاحتجاز في أقسام الشرطة بأمانة العاصمة، ضمن برنامج نزول ميداني للتفتيش على السجون.
و خاطب وزير داخلية حكومة الانقاذ، رئيس مجلس الوزراء بصنعاء، لمخاطبة مجلس النواب، بشأن ما سماها تجاوزات اللجنة البرلمانية و اتخاذ ما يلزم بشأنها وفقا للقانون، حسب المذكرة المؤرخة في 14 يناير/كانون ثان 2020.
و فيما لم تحدد مذكرة الحوثي طبيعة التهم الموجة للمفرج عنهم، أتهم النائبان حاشد و الصعدي بالافراج عن المتهمين، في حين أن عملية الافراج تمت بموجب سلطة النيابة العامة، و التي كانت ترافق اللجنة البرلمانية في عملية التفتيش على مراكز الحجز و السجون.
و كان مدير مكتب وزير الداخلية، علي حسين الحوثي، قد وجه مدير شرطة أمانة العاصمة بإحالة نائب مدير مركز شرطة 22 مايو إلى الادارة العامة للرقابة و التفتيش للتحقيق معه و اتخاذ الاجراءات القانونية. ما يعني أن الوزارة ترى في افراج النيابة العامة عن المذكورين مخالفة قانونية، متناسية أن مراكز الشرطة مأمور يضبط قضائي تحت ولاية النيابة العامة.
من جانبه أعتبر النائب أحمد سيف حاشد، ما ورد من قبل وزير الداخلية بأنه بلاغ كاذب و كيدي، هدفه رفع الحصانة و احالته و زميله الصعدي للتحقيق.
و أكد النائب حاشد أن عبد الكريم الحوثي يوجه لهما هذه التهمة، فيما يوجد في السجن الجنائي أشخاص مسجونين منذ ثلاث سنوات خارج القانون و رفض احالتهم للنيابة العامة. مشيرا إلى أن السجون التابعة لوزارة الداخلية تعج بكثير من المساجين خارج نطاق القانون بل أن بعضهم محبوسين لمدد طويلة و مقيدين بتهمة “الحرب الناعمة”. مشيرا إلى أن هذه التهمة “ليس لها صلة بالقانون و الدستور”.
و كشف النائب حاشد وجود سجناء مصابين بالجرب و الامراض المعدية و تتفاقم حالتهم سوء، عوضا عن الحالة السيئة لأوضاع السجون، و التي يعاني نزلائها من الجوع و رداءة الفراش. منوها إلى عدم عزل مرضى الايدز عن غيرهم من المساجين.
كما أشار النائب حاشد إلى أن هناك بعض السجون مكتضة بسجناء بأكثر من ضعف الحد الاعلى للعدد المقرر لها.
و أكد النائب حاشد أن عملية الافراج تمت بسلطة النيابة التي كانت ترافقهم في عملية التفتيش على السجون. مشيرا إلى أن الوزير يبدو و كأنه لا يعرف ان النيابة هي المعنية بالإفراج عن المساجين و أنها مشرفة على عمل الوزير و عمل وزارته باعتبارهم مأموري ضبط، فضلا عن كون النيابة مشرفة على السجون و معنية بتفتيشها و اخرج من هو موقوف أو محتجز خارج القانون.
و قال النائب حاشد: نعتقد ان مطالبة وزير الداخلية باتخاذ الاجراءات القانونية ضدنا و التوجيه بإحالة نائب مدير مركز شرطة 22 مايو إلى الإدارة العامة للرقابة و التفتيش للتحقيق معه و اتخاذ الإجراءات التأديبية بحقه و نسخ صورة من مذكرته إلى المجلس السياسي الأعلى و مجلس النواب و المفتش العام و وكيل قطاع الامن و الشرطة و مدير عام الشؤون القانونية و مدير عام شرطة امامة العاصمة و ادارة الهيئات الحكومية، انما هدفها التشهير و اعاقة العمل الرقابي لمجلس النواب و ارهابهم من ممارسة مهامهم في لجنة الحريات بمجلس نواب صنعاء، بعد محاولة اللجنة استعادة دورها المختطف من قبل السلطة و القائمين على الاجهزة الامنية.
كما أعتبر حاشد ذلك بأنه يهدف إلى تهديد كل من يتعاون مع اللجنة في انفاذ القانون من افراد الشرطة في مديريات و مراكز الشرطة، و استهداف ما تبقى من الدور الرقابي المحدود و الذي بات مضيقا عليه و لا يزيد مساحته عن مساحة رأس الدبوس، و استهداف ما بقي من مجلس النواب و لجانه.
كما أعتبر حاشد بأن ما أقدم عليه الوزير عبد الكريم الحوثي، يعد استهداف له شخصيا بسبب نشاطه الحقوقي الذي قال انه لا يروق للسلطة و لرجال الامن و للمنتهكين لحقوق الانسان و حرياته في صنعاء.
يمنات – خاص
أتهم وزير الداخلية في حكومة الانقاذ، عبد الكريم أمير الدين الحوثي، النائبان أحمد سيف حاشد و خالد الصعدي، بالافراج عن “9” متهمين من مركز شرطة 22 مايو بأمانة العاصمة صنعاء. زاعما أن من تم الافراج عنهم كانوا مضبوطين على ذمة التحري، كونهم من أرباب السوابق.
و زارت اللجنة البرلمانية المكونة من حاشد و الصعدي، اضافة إلى ممثلين عن النيابة العاصمة عدد من مراكز الاحتجاز في أقسام الشرطة بأمانة العاصمة، ضمن برنامج نزول ميداني للتفتيش على السجون.
و خاطب وزير داخلية حكومة الانقاذ، رئيس مجلس الوزراء بصنعاء، لمخاطبة مجلس النواب، بشأن ما سماها تجاوزات اللجنة البرلمانية و اتخاذ ما يلزم بشأنها وفقا للقانون، حسب المذكرة المؤرخة في 14 يناير/كانون ثان 2020.
و فيما لم تحدد مذكرة الحوثي طبيعة التهم الموجة للمفرج عنهم، أتهم النائبان حاشد و الصعدي بالافراج عن المتهمين، في حين أن عملية الافراج تمت بموجب سلطة النيابة العامة، و التي كانت ترافق اللجنة البرلمانية في عملية التفتيش على مراكز الحجز و السجون.
و كان مدير مكتب وزير الداخلية، علي حسين الحوثي، قد وجه مدير شرطة أمانة العاصمة بإحالة نائب مدير مركز شرطة 22 مايو إلى الادارة العامة للرقابة و التفتيش للتحقيق معه و اتخاذ الاجراءات القانونية. ما يعني أن الوزارة ترى في افراج النيابة العامة عن المذكورين مخالفة قانونية، متناسية أن مراكز الشرطة مأمور يضبط قضائي تحت ولاية النيابة العامة.
من جانبه أعتبر النائب أحمد سيف حاشد، ما ورد من قبل وزير الداخلية بأنه بلاغ كاذب و كيدي، هدفه رفع الحصانة و احالته و زميله الصعدي للتحقيق.
و أكد النائب حاشد أن عبد الكريم الحوثي يوجه لهما هذه التهمة، فيما يوجد في السجن الجنائي أشخاص مسجونين منذ ثلاث سنوات خارج القانون و رفض احالتهم للنيابة العامة. مشيرا إلى أن السجون التابعة لوزارة الداخلية تعج بكثير من المساجين خارج نطاق القانون بل أن بعضهم محبوسين لمدد طويلة و مقيدين بتهمة “الحرب الناعمة”. مشيرا إلى أن هذه التهمة “ليس لها صلة بالقانون و الدستور”.
و كشف النائب حاشد وجود سجناء مصابين بالجرب و الامراض المعدية و تتفاقم حالتهم سوء، عوضا عن الحالة السيئة لأوضاع السجون، و التي يعاني نزلائها من الجوع و رداءة الفراش. منوها إلى عدم عزل مرضى الايدز عن غيرهم من المساجين.
كما أشار النائب حاشد إلى أن هناك بعض السجون مكتضة بسجناء بأكثر من ضعف الحد الاعلى للعدد المقرر لها.
و أكد النائب حاشد أن عملية الافراج تمت بسلطة النيابة التي كانت ترافقهم في عملية التفتيش على السجون. مشيرا إلى أن الوزير يبدو و كأنه لا يعرف ان النيابة هي المعنية بالإفراج عن المساجين و أنها مشرفة على عمل الوزير و عمل وزارته باعتبارهم مأموري ضبط، فضلا عن كون النيابة مشرفة على السجون و معنية بتفتيشها و اخرج من هو موقوف أو محتجز خارج القانون.
و قال النائب حاشد: نعتقد ان مطالبة وزير الداخلية باتخاذ الاجراءات القانونية ضدنا و التوجيه بإحالة نائب مدير مركز شرطة 22 مايو إلى الإدارة العامة للرقابة و التفتيش للتحقيق معه و اتخاذ الإجراءات التأديبية بحقه و نسخ صورة من مذكرته إلى المجلس السياسي الأعلى و مجلس النواب و المفتش العام و وكيل قطاع الامن و الشرطة و مدير عام الشؤون القانونية و مدير عام شرطة امامة العاصمة و ادارة الهيئات الحكومية، انما هدفها التشهير و اعاقة العمل الرقابي لمجلس النواب و ارهابهم من ممارسة مهامهم في لجنة الحريات بمجلس نواب صنعاء، بعد محاولة اللجنة استعادة دورها المختطف من قبل السلطة و القائمين على الاجهزة الامنية.
كما أعتبر حاشد ذلك بأنه يهدف إلى تهديد كل من يتعاون مع اللجنة في انفاذ القانون من افراد الشرطة في مديريات و مراكز الشرطة، و استهداف ما تبقى من الدور الرقابي المحدود و الذي بات مضيقا عليه و لا يزيد مساحته عن مساحة رأس الدبوس، و استهداف ما بقي من مجلس النواب و لجانه.
كما أعتبر حاشد بأن ما أقدم عليه الوزير عبد الكريم الحوثي، يعد استهداف له شخصيا بسبب نشاطه الحقوقي الذي قال انه لا يروق للسلطة و لرجال الامن و للمنتهكين لحقوق الانسان و حرياته في صنعاء.
احمد سيف حاشد:
بعض من تفاصيل حياتي
طفولة بطعم التمرد
(4)
أسئلة تتناسل كالضوء
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في الغموض الشديد، ومُستصعب فهم أبجدياته، بل وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول ملامسة أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، محفزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة والمتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي أغرق في بحر من الحيرة التي لا تهدأ ولا تستكين، بسبب عدم رضائي واقتناعي بإجابات تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
لقد كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى ومبرر العيب؟! كنت أسأل عن وجودي، وكيف خرجت من بطنها إلى واجهة الكون، ومن أي منفذ خرجت بالتحديد؟! وعندما تولد أمي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته.. فيما كانت أمي في البداية تجيبيني وهي تضحك أننا خرجنا من ركبتها.. ثم تثير فضولي أكثر وأسألها كيف؟! والمولود أكبر من ركبتها؛ فأحتار وأتسأل أكثر!!
بدت لي إجابة أمي على السؤال غير مقنعة ولم تمنحنِ الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، وظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدت أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رض أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. فركبتها سليمة ومعافاة، ولا أثر لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني كحمار وحشي، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي الخاطئة، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..
كنت أستمع لولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي أكثر من المكان الذي أقف فيه، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، وأُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
وبعد حين من الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى، حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بما أجابت.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..
وبعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، وشعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا وإخوتي من فمها.. ولكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج منه، مولود أكبر منه!! ولماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!
لطالما أتعبتني تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة، والمتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عني، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالضحك، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..
عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري
بعض من تفاصيل حياتي
طفولة بطعم التمرد
(4)
أسئلة تتناسل كالضوء
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في الغموض الشديد، ومُستصعب فهم أبجدياته، بل وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول ملامسة أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، محفزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة والمتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي أغرق في بحر من الحيرة التي لا تهدأ ولا تستكين، بسبب عدم رضائي واقتناعي بإجابات تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
لقد كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى ومبرر العيب؟! كنت أسأل عن وجودي، وكيف خرجت من بطنها إلى واجهة الكون، ومن أي منفذ خرجت بالتحديد؟! وعندما تولد أمي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته.. فيما كانت أمي في البداية تجيبيني وهي تضحك أننا خرجنا من ركبتها.. ثم تثير فضولي أكثر وأسألها كيف؟! والمولود أكبر من ركبتها؛ فأحتار وأتسأل أكثر!!
بدت لي إجابة أمي على السؤال غير مقنعة ولم تمنحنِ الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، وظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدت أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رض أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. فركبتها سليمة ومعافاة، ولا أثر لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني كحمار وحشي، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي الخاطئة، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..
كنت أستمع لولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي أكثر من المكان الذي أقف فيه، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، وأُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
وبعد حين من الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى، حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بما أجابت.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..
وبعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، وشعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا وإخوتي من فمها.. ولكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج منه، مولود أكبر منه!! ولماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!
لطالما أتعبتني تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة، والمتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عني، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالضحك، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..
عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري
باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام.. واكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، وبحد يجب أن لا نستسهله..
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..
***
وأنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب وفرح واستراحة وسعادة.. وهو يراني في كل حال.. وأتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، ولا يتركاني حتى عند الدخول للحمام..
كنت أسأل عن الله، وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وهو مستريح عليها ينظر إلينا ويتابع أفعالنا، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي.. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي وأنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.
كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.. كنت أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، ولا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، ولكنني أتشكك بصحته، ويميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..
كانت تبدو الأسئلة بسيطة، ولكنها تشبه السهل الممتنع.. وكانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف والهلع .
كانت الأسئلة كبيرة، وربما صغيرة، ولكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار، وكانت بعض الأسئلة تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف الهلوع، وتسارع بتحذيري الشديد، وبما هو مرعب ومهول، وتقمع سؤالي بشدة وصرامة..
طبعا تلك الأسئلة لم تكن بهذه الصيغة التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا وأكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر، وتتناسل كالضوء، يواجهها قمع وتعنيف وغياب جواب أو جواب خطاء أو مغلوط لا استسيغه ولا أبلعه، أو أبلعه بصعوبة إلى حين.
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وظالم ومحتال وشرير؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..
كنت أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد.. ولماذا أصلا نذبحه ونسفك دمه؟!
فتحكي لي قصة اسماعيل ووالده إبراهيم عليه السلام..
كنت أسأل: لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..
وتسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من دومها في لجة الليل البهيم.. كانت تصرخ وتستغيث بصوت مفجوع يفطر القلب.. صوت لم أسمع مثله من قبل.. كان أوجع من الموت وأكبر من مكبر الصوت، ولا مغيث ولا مجير.. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، وكأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها؟!
ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة المعادل للصوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، وأخمد صوتها وأنفاسها إلى الأبد.. كدت يومها أن أحتج على الرب، وعلى هذه الحياة الكاسرة.. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد خمسين عام خلت.. لقد مزق صوتها سكون الليل، وقدح صوتها الصارخ بالشرر..
كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال.. وهكذا وجدت إن جواب أمي بات يفوق حتّى خيالي..
كنت أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس شرار، وسمي ذلك السيل باسمه.. كنت أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة المعرفة بثوجان مشيا على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، والذي قيل أن السيل سحب حميد منه.. كنت أتخيل المشهد وأتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، ودفر السيل العنيف العرمرم..
كنت أسأل: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، ومن هم أصغر مني.. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، ويرغمون بالموت على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنة.. والجنة فيها كل ما يطيب ويتمناه
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..
***
وأنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب وفرح واستراحة وسعادة.. وهو يراني في كل حال.. وأتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، ولا يتركاني حتى عند الدخول للحمام..
كنت أسأل عن الله، وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وهو مستريح عليها ينظر إلينا ويتابع أفعالنا، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي.. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي وأنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.
كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.. كنت أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، ولا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، ولكنني أتشكك بصحته، ويميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..
كانت تبدو الأسئلة بسيطة، ولكنها تشبه السهل الممتنع.. وكانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف والهلع .
كانت الأسئلة كبيرة، وربما صغيرة، ولكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار، وكانت بعض الأسئلة تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف الهلوع، وتسارع بتحذيري الشديد، وبما هو مرعب ومهول، وتقمع سؤالي بشدة وصرامة..
طبعا تلك الأسئلة لم تكن بهذه الصيغة التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا وأكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر، وتتناسل كالضوء، يواجهها قمع وتعنيف وغياب جواب أو جواب خطاء أو مغلوط لا استسيغه ولا أبلعه، أو أبلعه بصعوبة إلى حين.
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وظالم ومحتال وشرير؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..
كنت أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد.. ولماذا أصلا نذبحه ونسفك دمه؟!
فتحكي لي قصة اسماعيل ووالده إبراهيم عليه السلام..
كنت أسأل: لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..
وتسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من دومها في لجة الليل البهيم.. كانت تصرخ وتستغيث بصوت مفجوع يفطر القلب.. صوت لم أسمع مثله من قبل.. كان أوجع من الموت وأكبر من مكبر الصوت، ولا مغيث ولا مجير.. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، وكأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها؟!
ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة المعادل للصوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، وأخمد صوتها وأنفاسها إلى الأبد.. كدت يومها أن أحتج على الرب، وعلى هذه الحياة الكاسرة.. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد خمسين عام خلت.. لقد مزق صوتها سكون الليل، وقدح صوتها الصارخ بالشرر..
كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال.. وهكذا وجدت إن جواب أمي بات يفوق حتّى خيالي..
كنت أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس شرار، وسمي ذلك السيل باسمه.. كنت أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة المعرفة بثوجان مشيا على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، والذي قيل أن السيل سحب حميد منه.. كنت أتخيل المشهد وأتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، ودفر السيل العنيف العرمرم..
كنت أسأل: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، ومن هم أصغر مني.. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، ويرغمون بالموت على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنة.. والجنة فيها كل ما يطيب ويتمناه
الإنسان، وإن أختي نور وسامية مع بنات الحور في الجنة، وإنهن سيشفعان لنا يوم القيامة..
كنت أسأل لماذا الموت أعور؟!
فتجيبني أمي لأن نبي الله موسى فقع عينه..
كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه.
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، ولم أجد لها جوابا كاف وشاف.. كنت أسخط على من يستسهل الموت، ويهدر الحياة، وينتج العنف والقسوة، ويسوّغ الظلم ويبرره.
كنت أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه ووحيه؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو؟! وكيف أوجد نفسه؟! وكيف كان الحال قبله؟! فلا ألاقي جوبا، بل ألاقي غضب يشتد، وزجر يمنعني من السؤال ثانية.. ولكن تظل الاسئلة تجوس داخلي، ولا تهدأ ولا تتعب..
كانت أعرب عن رغبتي في الزواج من جارتنا التي كانت تكبرني بأربعة أضعاف عمري؟! وفي إحدى الأيام حاولت أن أتشبث بها وأمنعها من الرواح من دارنا، لأنني أريد أن أتزوجها، دون أن أعلم شيئا عن حقيقة الزواج وماهيته، أكثر من مكوثها معنا في دارنا..
وعندما كبرت قليلا بدأت أعرف شيئا عن الزواج، وكنت أشاهد وجهي في المرآة وأرى قبحي في جحوظ عيناي، فأسأل أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساوينِ بأقراني؟! فأجابت أمي أنها سمعت أبي يقول انني أشبه جدي “هاشم” في عيونه..
وعندما كبرت أكثر كنت أسأل نفسي: عندما أصير شابا هل سترضى بي من أحبها أن تتزوجني، رغم تلك البشاعة التي خلقها الله في عيوني، وحرمني من وسامة ما كان ينبغي أن يحرمني الله منها؟! وعندما كبرت وجدت لست وحدي من ناله القبح واحتج عليه، بل سبقني إليه الشاعر الحطيئة وهو يهجي وجهه:
أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ.
وعندما ترشحت لعضوية مجلس النواب ألصق فريق حملتي الانتخابية صور في إحدى مناطق دائرتي الانتخابية، وعند مروري فيها، لاحظت بعض الصور قد تم تشويهها بخرف عيونها، وترك باقيها كما هو من دون عيون.. فاستيقظ احتجاجي، ودفعني هذا إلى بذل نشاط مضاعف، وإصرار عنيد على انتزاع النجاح، ردا على ممارسة القبح الذي وجدته يُصبَ على عيوني المتعبة والمعذبة..
أما اليوم وبسبب حساسية باتت مزمنة في عيوني، مضافا إليها كثرة السهر وقلة النوم، بات الاحمرار في عيوني شديدة وملازما، ولكن بات من يحملون القبح في عيونهم وعقولهم ، ينسبون لي تهمة "اللبقة"، وقصدهم أنني سكرانا طوال الليل والنهار، وهو جزء من الكيد السياسي الذي يستخدمه هنا بعض الخصوم السياسيين في التشويه أمام العامة الذين يشنعون على شارب الخمر أكثر من تشنيعهم على القتلة والنهابة والفاسدين والمحتالين..
لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..
كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس.. وكنت أستمع إلى شرحه، وتتكرر كلمة "البراز" في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا "البراز"!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة ولا أعرف ماذا تعني!! بالتأكيد زملائي مثلي ولكنهم ربما لا يتجرؤون على السؤال.. سألت الأستاذ: أيش هو هذا "البراز"؟!
فأجاب بضيق وطفش طافح، وبحركة عصبية من يده وقدمه محاولا أن يشعرني بغبائي وإحراجه من الجواب بقوله: "الخر".. فضحك من في الفصل.. وهو ما جعلني أصاب بإحراج شديد.. ولو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجز الجميع.. أغرقني الخجل في الصف، وتحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع
كنت أسأل لماذا الموت أعور؟!
فتجيبني أمي لأن نبي الله موسى فقع عينه..
كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه.
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، ولم أجد لها جوابا كاف وشاف.. كنت أسخط على من يستسهل الموت، ويهدر الحياة، وينتج العنف والقسوة، ويسوّغ الظلم ويبرره.
كنت أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه ووحيه؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو؟! وكيف أوجد نفسه؟! وكيف كان الحال قبله؟! فلا ألاقي جوبا، بل ألاقي غضب يشتد، وزجر يمنعني من السؤال ثانية.. ولكن تظل الاسئلة تجوس داخلي، ولا تهدأ ولا تتعب..
كانت أعرب عن رغبتي في الزواج من جارتنا التي كانت تكبرني بأربعة أضعاف عمري؟! وفي إحدى الأيام حاولت أن أتشبث بها وأمنعها من الرواح من دارنا، لأنني أريد أن أتزوجها، دون أن أعلم شيئا عن حقيقة الزواج وماهيته، أكثر من مكوثها معنا في دارنا..
وعندما كبرت قليلا بدأت أعرف شيئا عن الزواج، وكنت أشاهد وجهي في المرآة وأرى قبحي في جحوظ عيناي، فأسأل أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساوينِ بأقراني؟! فأجابت أمي أنها سمعت أبي يقول انني أشبه جدي “هاشم” في عيونه..
وعندما كبرت أكثر كنت أسأل نفسي: عندما أصير شابا هل سترضى بي من أحبها أن تتزوجني، رغم تلك البشاعة التي خلقها الله في عيوني، وحرمني من وسامة ما كان ينبغي أن يحرمني الله منها؟! وعندما كبرت وجدت لست وحدي من ناله القبح واحتج عليه، بل سبقني إليه الشاعر الحطيئة وهو يهجي وجهه:
أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ.
وعندما ترشحت لعضوية مجلس النواب ألصق فريق حملتي الانتخابية صور في إحدى مناطق دائرتي الانتخابية، وعند مروري فيها، لاحظت بعض الصور قد تم تشويهها بخرف عيونها، وترك باقيها كما هو من دون عيون.. فاستيقظ احتجاجي، ودفعني هذا إلى بذل نشاط مضاعف، وإصرار عنيد على انتزاع النجاح، ردا على ممارسة القبح الذي وجدته يُصبَ على عيوني المتعبة والمعذبة..
أما اليوم وبسبب حساسية باتت مزمنة في عيوني، مضافا إليها كثرة السهر وقلة النوم، بات الاحمرار في عيوني شديدة وملازما، ولكن بات من يحملون القبح في عيونهم وعقولهم ، ينسبون لي تهمة "اللبقة"، وقصدهم أنني سكرانا طوال الليل والنهار، وهو جزء من الكيد السياسي الذي يستخدمه هنا بعض الخصوم السياسيين في التشويه أمام العامة الذين يشنعون على شارب الخمر أكثر من تشنيعهم على القتلة والنهابة والفاسدين والمحتالين..
لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..
كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس.. وكنت أستمع إلى شرحه، وتتكرر كلمة "البراز" في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا "البراز"!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة ولا أعرف ماذا تعني!! بالتأكيد زملائي مثلي ولكنهم ربما لا يتجرؤون على السؤال.. سألت الأستاذ: أيش هو هذا "البراز"؟!
فأجاب بضيق وطفش طافح، وبحركة عصبية من يده وقدمه محاولا أن يشعرني بغبائي وإحراجه من الجواب بقوله: "الخر".. فضحك من في الفصل.. وهو ما جعلني أصاب بإحراج شديد.. ولو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجز الجميع.. أغرقني الخجل في الصف، وتحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع
طفولة بطعم التمرد
أحمد سيف حاشد:
(5)
خروف العيد
خروف العيد الذي رعيته واعتنيت به، وعشت معه يوما بيوم، وصار رفيقاً حميما، لماذا يذبحونه؟! كنت أشاهده يوم العيد متوترا ومتسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته ومفارقة عائلته، التي بدت لي على درجة عالية من الترقب والانتباه، وكأنها تشعر أنه سيقع حدثا ما، لا تحبذ وقوعه.. فيما أنا كنت مسحوقا بالألم ومخنوقا بالاحتجاج..
شاهدتهم وهم يكبوّنه ويرغمونه على السير كُرها وعنوة، وكأنه كان يدرك أنه ذاهب للذبح والسلخ.. كنت أشاهده مملوء بالفزع والخوف، فيما كانت عيوني ترصد الموقف، وهي تعتب وتحتج بصمت يكاد ينفجر، وعبرات في الحلق تعترض على واقع الحال، وأنا أمارس ضدها ما استطعت من القمع الكتوم..
عيناه هلعه ومرعوبة وهي ترى السكين.. كان يدور في نفس المكان بقلق ورعب وحيرة، وكأنه يبحث عن قدر ينجيه، ولا نجاة من السكين في يوم العيد.. لا أدري أي إحساس داهمه، وكيف عرف إن السكين معدة لذبحه، وإنه المستهدف منها، رغم أنه لم يسبق أن رأى سكينا أو نصله سكين.. لازال السؤال عالق في ذهني كخشبة: كيف عرف أنه ذاهب للذبح أو الموت؟!! حال في الرعب والهلع المماثل، شاهدته في الأرانب أيضا.. شاهدت أرنب وهو يذبح، كان يبكي كالطفل.. كم هو هذا العالم مثقل بالألم؟!
كانوا يقدموا للخروف الماء ليشرب قبل الذبح، فيما هو يرفض، وكأنه يحتج على أقدار ونواميس الكون..
كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان مرعوبا ويرتعش فزعا وخوفا.. كان يعيش اللحظة كما هي.. وكنت عاجزا عن إنقاذه.. كان الأمر للكبار حصرا، ولم يكن لي فيه حيلة أو قرار..
يا إلهي.. لماذا هذه العالم يفترس بعضه بعضا، حتى وإن اختلفت صيغة هذا الافتراس؟!! هل بالضرورة أن يكون القتل والدم والذبح قانون وجوديا لابد منه، ولا خيار أرحم أو أقل ألما منه؟!! لماذا هذه الحياة كاسرة ومسفوكة الدم وإزهاق النفوس..؟!
كل حيوان له نفس مثلنا، ولكن تبدو الحياة قاسية ومهدرة.. ربما الجميع ضحايا لقوانين أكبر منّا ومنها.. حيوانات الغابة تفترس بعضها البعض، بدافع الغريزة والجوع، أو الضرورة الملجئة ؟! ولكن نحن البشر يمكن أن نقتل بعضنا بدوافع غير الضرورة.. نحن نقتل بعضنا حمقا أو طمعا أو بدافع الانتقام.. وفوق قتل بعضنا، نقتل المخلوقات دوننا، لنأكل لحمها ونُتخم..
بدا لي كطفل موجوع بالسؤال، وببراءة غير ملوثة، إن هذا العالم مؤلم جدا، والحكمة في فوضى هذا العالم المفترس تحتاج إلى بحث وإعادة نظر.. الحياة ستكون أفضل بدون قتل، وبدون دم، وبدون إزهاق للنفوس.. لندع المهمة إلى عزرائيل يتولاها، ولكن من دون دم..
ربما وأنا طفل أردت أن أقول كل هذا وغيره على لسان محامي عنّا وعن المخلوقات دوننا.. ولكن لا محامي للنفوس المظلومة، وكبش العيد بات أضحية في تاريخنا كله، قدر لابد منه، من يوم فدى اسماعيل ابن نبي الله إبراهيم.. وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة، ووجدت ما هو أكبر وأكثر..
كنت أتمزق من الألم والحزن وكبشنا يُذبح، بل شعرتُ أنني أنا من يُذبح أكثر منه.. ثم ألوذ بالهرب وهم يذبحونه، وأنا مسكونا بالرفض والامتعاض المُر، من أن يكون العالم بشع بذلك القدر..
كنت طفلا، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، وأشاهد ما هو أكثر من فادح ومرعب وبشع.. ناس يجزون رؤوس ناس تقربا إلى الله وطلبا لغفرانه ورضوانه.. ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين.. حروب وقتل وظلم فادح لا تحتمله الجبال.. سفه ما بعده سفه.. مجرمون يستهوون القتل، ويمعنون فيه حد الغرق في الدم، دون أن يشعرون بذنب أو تأنيب ضمير..
ما كنت أدرك أن أرباب المال في العالم، وتجار الحروب والحرائق يصنعون كل تلك البشاعات التي فاقت كل مهول ومرعب.. ما كنت أظن إن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ماكنت أدري إن هناك اكتظاظا على أبواب الجنة من أجل الحور العين، والجنس الذي يمتد ويعمّر إلى الأبد، دون انتقاص أو ضعف انتصاب.. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيُخطف ويُغتصب، وأن أحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجُرأة والبشاعة والدموية المُغرقة..
ما كنت أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق أو ستُغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من خمسة آلاف عام سيطوله كل هذا الدمار والخراب، وأن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون، ويُعاث في الأرض كل هذا الفساد القادم من البشر لا من الشياطين..
ما كنت أظن أننا سنشهد حروب مثل هذه الحروب القذرة التي تشهدها اليمن اليوم.. ماكنت أظن إنني سأعيش وأرى كل هذا الموت والدمار والخراب يقتات منه حفنة من المجرمين.. أرباب العالم وتجار الحروب وصناع المآسي لهذا العالم المثقل بهم..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
أحمد سيف حاشد:
(5)
خروف العيد
خروف العيد الذي رعيته واعتنيت به، وعشت معه يوما بيوم، وصار رفيقاً حميما، لماذا يذبحونه؟! كنت أشاهده يوم العيد متوترا ومتسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته ومفارقة عائلته، التي بدت لي على درجة عالية من الترقب والانتباه، وكأنها تشعر أنه سيقع حدثا ما، لا تحبذ وقوعه.. فيما أنا كنت مسحوقا بالألم ومخنوقا بالاحتجاج..
شاهدتهم وهم يكبوّنه ويرغمونه على السير كُرها وعنوة، وكأنه كان يدرك أنه ذاهب للذبح والسلخ.. كنت أشاهده مملوء بالفزع والخوف، فيما كانت عيوني ترصد الموقف، وهي تعتب وتحتج بصمت يكاد ينفجر، وعبرات في الحلق تعترض على واقع الحال، وأنا أمارس ضدها ما استطعت من القمع الكتوم..
عيناه هلعه ومرعوبة وهي ترى السكين.. كان يدور في نفس المكان بقلق ورعب وحيرة، وكأنه يبحث عن قدر ينجيه، ولا نجاة من السكين في يوم العيد.. لا أدري أي إحساس داهمه، وكيف عرف إن السكين معدة لذبحه، وإنه المستهدف منها، رغم أنه لم يسبق أن رأى سكينا أو نصله سكين.. لازال السؤال عالق في ذهني كخشبة: كيف عرف أنه ذاهب للذبح أو الموت؟!! حال في الرعب والهلع المماثل، شاهدته في الأرانب أيضا.. شاهدت أرنب وهو يذبح، كان يبكي كالطفل.. كم هو هذا العالم مثقل بالألم؟!
كانوا يقدموا للخروف الماء ليشرب قبل الذبح، فيما هو يرفض، وكأنه يحتج على أقدار ونواميس الكون..
كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان مرعوبا ويرتعش فزعا وخوفا.. كان يعيش اللحظة كما هي.. وكنت عاجزا عن إنقاذه.. كان الأمر للكبار حصرا، ولم يكن لي فيه حيلة أو قرار..
يا إلهي.. لماذا هذه العالم يفترس بعضه بعضا، حتى وإن اختلفت صيغة هذا الافتراس؟!! هل بالضرورة أن يكون القتل والدم والذبح قانون وجوديا لابد منه، ولا خيار أرحم أو أقل ألما منه؟!! لماذا هذه الحياة كاسرة ومسفوكة الدم وإزهاق النفوس..؟!
كل حيوان له نفس مثلنا، ولكن تبدو الحياة قاسية ومهدرة.. ربما الجميع ضحايا لقوانين أكبر منّا ومنها.. حيوانات الغابة تفترس بعضها البعض، بدافع الغريزة والجوع، أو الضرورة الملجئة ؟! ولكن نحن البشر يمكن أن نقتل بعضنا بدوافع غير الضرورة.. نحن نقتل بعضنا حمقا أو طمعا أو بدافع الانتقام.. وفوق قتل بعضنا، نقتل المخلوقات دوننا، لنأكل لحمها ونُتخم..
بدا لي كطفل موجوع بالسؤال، وببراءة غير ملوثة، إن هذا العالم مؤلم جدا، والحكمة في فوضى هذا العالم المفترس تحتاج إلى بحث وإعادة نظر.. الحياة ستكون أفضل بدون قتل، وبدون دم، وبدون إزهاق للنفوس.. لندع المهمة إلى عزرائيل يتولاها، ولكن من دون دم..
ربما وأنا طفل أردت أن أقول كل هذا وغيره على لسان محامي عنّا وعن المخلوقات دوننا.. ولكن لا محامي للنفوس المظلومة، وكبش العيد بات أضحية في تاريخنا كله، قدر لابد منه، من يوم فدى اسماعيل ابن نبي الله إبراهيم.. وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة، ووجدت ما هو أكبر وأكثر..
كنت أتمزق من الألم والحزن وكبشنا يُذبح، بل شعرتُ أنني أنا من يُذبح أكثر منه.. ثم ألوذ بالهرب وهم يذبحونه، وأنا مسكونا بالرفض والامتعاض المُر، من أن يكون العالم بشع بذلك القدر..
كنت طفلا، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، وأشاهد ما هو أكثر من فادح ومرعب وبشع.. ناس يجزون رؤوس ناس تقربا إلى الله وطلبا لغفرانه ورضوانه.. ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين.. حروب وقتل وظلم فادح لا تحتمله الجبال.. سفه ما بعده سفه.. مجرمون يستهوون القتل، ويمعنون فيه حد الغرق في الدم، دون أن يشعرون بذنب أو تأنيب ضمير..
ما كنت أدرك أن أرباب المال في العالم، وتجار الحروب والحرائق يصنعون كل تلك البشاعات التي فاقت كل مهول ومرعب.. ما كنت أظن إن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ماكنت أدري إن هناك اكتظاظا على أبواب الجنة من أجل الحور العين، والجنس الذي يمتد ويعمّر إلى الأبد، دون انتقاص أو ضعف انتصاب.. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيُخطف ويُغتصب، وأن أحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجُرأة والبشاعة والدموية المُغرقة..
ما كنت أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق أو ستُغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من خمسة آلاف عام سيطوله كل هذا الدمار والخراب، وأن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون، ويُعاث في الأرض كل هذا الفساد القادم من البشر لا من الشياطين..
ما كنت أظن أننا سنشهد حروب مثل هذه الحروب القذرة التي تشهدها اليمن اليوم.. ماكنت أظن إنني سأعيش وأرى كل هذا الموت والدمار والخراب يقتات منه حفنة من المجرمين.. أرباب العالم وتجار الحروب وصناع المآسي لهذا العالم المثقل بهم..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
احمد سيف حاشد:
للقدر حكمته عندما يريد تعرية هذه السلطة الدميمة وطغيانها.
ازهار الحكيمي تم نقلها من السجن للمستشفى وتصاب باللوق..
اتحداهم نيابة وبحث ان يقدموا مبررا واحدا بحجم رأس الدبوس يسوغون حبسها..
بلاغ للنائب العام الذي لم استطع اللقاء به اليوم انا والمحامي
للقدر حكمته عندما يريد تعرية هذه السلطة الدميمة وطغيانها.
ازهار الحكيمي تم نقلها من السجن للمستشفى وتصاب باللوق..
اتحداهم نيابة وبحث ان يقدموا مبررا واحدا بحجم رأس الدبوس يسوغون حبسها..
بلاغ للنائب العام الذي لم استطع اللقاء به اليوم انا والمحامي
قسوة وطفولة بطعم التمرد
احمد سيف حاشد:
(6)
فقر وبؤس
كان سكان أريافنا فقراء، شبه معدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال، يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس من أجل لقمة عيش كريمة، لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تدمي القلوب والأظافر.
جبالنا وعرة وشامخة؛ طينها قليل وعزيز؛ الأشجار تغالب الحما والظماء؛ وجذور السدر والعوسج و”العسق” تشق طريق صبور في الصخر والجبل.
الزراعة موسمية؛ أغلب المواسم “تخيب ولا تصيب”، كثير من السحب كاذبة، تبدو وكأنها مثقلة بالغيث، ثم تكتشف بعد ساعات قليلة أنها خادعة لا تحمل غيث ولا مطر؛ مقالب الأقدار كثيرة ؛ قليلة هي المواسم التي أوفت وجادت بالمطر من موعد البذر حتى موعد الحصاد.
كان الماء شحيح معظم أيام السنة؛ النسوة يخضن معارك ضروسة ولساعات طوال من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة، المرأة تقضي أحيانا ثلث نهار أو ربع ليل لتظفر بدبة ماء واحدة لا يزيد سعتها عن عشرين لتر، النساء لا يظفرن بالماء أيام النزاف إلا وقد بلغت قلوبهن الحناجر..
كان الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجر، وسوء التغذية رفيق حميم، والموت طليق يخطف من يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموت ويشتهيهم أطفال وصبية وشباب بعمر الزهور..
في مناطقنا كانت تجتمع علينا المخافات الثلاث؛ فقر ومرض وجهل.
كانت أيام عيد الفطر وعيد الأضحى هي أيام فرح العام، وقلما يجد الفرح متسع في غير أيام العيد. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة مرة واحدة في العام، يلبسونها أيام عيد الفطر ثم يحتفظون بها لعيد الأضحى، يرمون عصفورين بحجر واحدة، قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.
في أريافنا، كان الصراع من أجل الحياة مرير؛ الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتب ولا يفارق لكأنه رفيق حميم، أما النادر فلا حكم له.
كان أغلب الناس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضأن مرتين في العام؛ إن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام العيد فما عليك إلا مُلازمة المرض، وحنون يحبك ويهتم بك؛ وأما أنا فكنت لا يروقُني أن تُذبح من أجلي دجاجة حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي وبلغ السل مخ العظام..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(7)
عيد غير سعيد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد إلا أنا، أنا المنكوب بعاثر الحظ، لا يسلم فرحي بالعيد من قدر يفسده ويسِّود صفحته. عيدي هذا العام موجوع بأمي الهاربة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار أستمر وزاد عما يحتمل..
عيدي بعيد عن أمي لا طعم له ولا لون، أشعر أن الوحشة والغربة والحزن قد سكنوني مجتمعين في أيام يفترض أن تكون بهجة وسروراً وفرحا..
في العيد يتسربل الصبية بالسعادة ولباس العيد؛ ترى الفرح في وجوههم كالعصافير ومحياهم نور على نور.
وجوم ليالي العام أو جلّها، ظلمتها، وحشتها، تجهُّمها، رتابتها، وحدها التي تكسره بهجة العيد، تمزقه فرقعات “الطماش” ووميضها.. السرور يغمر المُهج والقلوب.. أما أنا فشأني مُختلف.. لم يفسد هذا العيد غياب أمي فقط ولكن أفسدته أيضا وشاية ابن جارنا..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(8)
في يوم العيد
سبب صغير بحجم حبة خردل كان لدى والدي يكفي أن يشعل حيالي حربا عالمية.. وما يستفزه أكثر من ذلك أن لا يراني مستجديا لرحمته..
عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه وأنتقص من هيبته وهو المهاب..
عدم مناجاة عطفه يعني أنني أتحداه وأثير غيضه وحفيظته.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة وموغل في التحدي لسلطته وداعي مثير لإعادة اعتباره ومهابته..
إذا ما داعاني لأمر وتوانيت فقط في إجابته؛ تجد وكأن الجن تلبسوه، وركب فوق رأسه ألف عفريت..
حاول قتلي طعنا بـ “الجنبية”، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون قتلي وأخطأتني الطعنة لتصيب ابن عمي عبده في يده، بينما كان يحاول منعها من أن تخترق جسدي المُنهك والمثقل بالتعب..
تحول العيد في وجهي إلى احلك من ليل وأكثف من ظلام سرداب سحيق..
هربت من سطوته مائة متر، فيما هو يحاول قتلي بالرصاص تداريت بجذع شجرة “السُقم”، كنت أختلس النظر من محاذاتها فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حماقته وحميته كما يثير المصارع الاسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران وقد أصابه المصارع في طعنة سيف..
العراك على أشده؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي فيما هو يصر على محاولة قتلي؛ كنت أسائل نفسي بهلع عما إذا كان بمقدور الرصاص أن ينفذ من جذع الشجرة فيطالني، أعود لأطمئن نفسي إن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص!
غير أن الأكثر أماناً أن استفيد من لحظة العراك وألوذ بهرب سريع..
هربت والذعر يضاعف سرعتي، كتب الله نجاتي، كما كتب أيضا مزيدا من الخيبات والعذاب..
(9)
تمرد يليق بك
ربما أهدأ قليلا في فسحة لا تطول.. ربما أنتزع استراحة محارب.. ربما أنحني للعاصفة حتى تمر.. ولكن لا استطيع أن أموت بصمت دون ضجيج.. عندما ي
احمد سيف حاشد:
(6)
فقر وبؤس
كان سكان أريافنا فقراء، شبه معدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال، يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس من أجل لقمة عيش كريمة، لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تدمي القلوب والأظافر.
جبالنا وعرة وشامخة؛ طينها قليل وعزيز؛ الأشجار تغالب الحما والظماء؛ وجذور السدر والعوسج و”العسق” تشق طريق صبور في الصخر والجبل.
الزراعة موسمية؛ أغلب المواسم “تخيب ولا تصيب”، كثير من السحب كاذبة، تبدو وكأنها مثقلة بالغيث، ثم تكتشف بعد ساعات قليلة أنها خادعة لا تحمل غيث ولا مطر؛ مقالب الأقدار كثيرة ؛ قليلة هي المواسم التي أوفت وجادت بالمطر من موعد البذر حتى موعد الحصاد.
كان الماء شحيح معظم أيام السنة؛ النسوة يخضن معارك ضروسة ولساعات طوال من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة، المرأة تقضي أحيانا ثلث نهار أو ربع ليل لتظفر بدبة ماء واحدة لا يزيد سعتها عن عشرين لتر، النساء لا يظفرن بالماء أيام النزاف إلا وقد بلغت قلوبهن الحناجر..
كان الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجر، وسوء التغذية رفيق حميم، والموت طليق يخطف من يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموت ويشتهيهم أطفال وصبية وشباب بعمر الزهور..
في مناطقنا كانت تجتمع علينا المخافات الثلاث؛ فقر ومرض وجهل.
كانت أيام عيد الفطر وعيد الأضحى هي أيام فرح العام، وقلما يجد الفرح متسع في غير أيام العيد. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة مرة واحدة في العام، يلبسونها أيام عيد الفطر ثم يحتفظون بها لعيد الأضحى، يرمون عصفورين بحجر واحدة، قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.
في أريافنا، كان الصراع من أجل الحياة مرير؛ الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتب ولا يفارق لكأنه رفيق حميم، أما النادر فلا حكم له.
كان أغلب الناس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضأن مرتين في العام؛ إن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام العيد فما عليك إلا مُلازمة المرض، وحنون يحبك ويهتم بك؛ وأما أنا فكنت لا يروقُني أن تُذبح من أجلي دجاجة حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي وبلغ السل مخ العظام..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(7)
عيد غير سعيد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد إلا أنا، أنا المنكوب بعاثر الحظ، لا يسلم فرحي بالعيد من قدر يفسده ويسِّود صفحته. عيدي هذا العام موجوع بأمي الهاربة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار أستمر وزاد عما يحتمل..
عيدي بعيد عن أمي لا طعم له ولا لون، أشعر أن الوحشة والغربة والحزن قد سكنوني مجتمعين في أيام يفترض أن تكون بهجة وسروراً وفرحا..
في العيد يتسربل الصبية بالسعادة ولباس العيد؛ ترى الفرح في وجوههم كالعصافير ومحياهم نور على نور.
وجوم ليالي العام أو جلّها، ظلمتها، وحشتها، تجهُّمها، رتابتها، وحدها التي تكسره بهجة العيد، تمزقه فرقعات “الطماش” ووميضها.. السرور يغمر المُهج والقلوب.. أما أنا فشأني مُختلف.. لم يفسد هذا العيد غياب أمي فقط ولكن أفسدته أيضا وشاية ابن جارنا..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(8)
في يوم العيد
سبب صغير بحجم حبة خردل كان لدى والدي يكفي أن يشعل حيالي حربا عالمية.. وما يستفزه أكثر من ذلك أن لا يراني مستجديا لرحمته..
عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه وأنتقص من هيبته وهو المهاب..
عدم مناجاة عطفه يعني أنني أتحداه وأثير غيضه وحفيظته.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة وموغل في التحدي لسلطته وداعي مثير لإعادة اعتباره ومهابته..
إذا ما داعاني لأمر وتوانيت فقط في إجابته؛ تجد وكأن الجن تلبسوه، وركب فوق رأسه ألف عفريت..
حاول قتلي طعنا بـ “الجنبية”، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون قتلي وأخطأتني الطعنة لتصيب ابن عمي عبده في يده، بينما كان يحاول منعها من أن تخترق جسدي المُنهك والمثقل بالتعب..
تحول العيد في وجهي إلى احلك من ليل وأكثف من ظلام سرداب سحيق..
هربت من سطوته مائة متر، فيما هو يحاول قتلي بالرصاص تداريت بجذع شجرة “السُقم”، كنت أختلس النظر من محاذاتها فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حماقته وحميته كما يثير المصارع الاسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران وقد أصابه المصارع في طعنة سيف..
العراك على أشده؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي فيما هو يصر على محاولة قتلي؛ كنت أسائل نفسي بهلع عما إذا كان بمقدور الرصاص أن ينفذ من جذع الشجرة فيطالني، أعود لأطمئن نفسي إن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص!
غير أن الأكثر أماناً أن استفيد من لحظة العراك وألوذ بهرب سريع..
هربت والذعر يضاعف سرعتي، كتب الله نجاتي، كما كتب أيضا مزيدا من الخيبات والعذاب..
(9)
تمرد يليق بك
ربما أهدأ قليلا في فسحة لا تطول.. ربما أنتزع استراحة محارب.. ربما أنحني للعاصفة حتى تمر.. ولكن لا استطيع أن أموت بصمت دون ضجيج.. عندما ي
ريدون صمتي أمام المظالم، لا أستطيع أن أموت مكبودا أو مختنق..
لا أقبل أن يعترشني من يريد امتطائي كالحمار.. قلق التحدّي يجوس داخلي كالأسد في محبسه.. وإن غرقت بالصمت حينا، فالمدى داخلي مكتظ بالضجيج.. جلبة وصخب المعارك حامية تحتدم داخلي، وإن تغطت بوحشة الصمت، فوقت الصمت قصيرا لا يطول.. ولا يستريح ضميري حتى ينتصر..
وإن أصابتني حراب أوغاد، أو لداد الخصوم، فأنا الأسد الجريح.. لا أريد غابة لا أكون فيها الملك، ولا اريد أسد يموت في محبس الصمت المسيّج بالحديد.. وإن كان قضاء القدر قد قال فيك فصل الخطاب، فلابأس للأسد الجريح اطلاق وجعه المحبوس من أعلى العرين، وإن كان جور قد قضاء بأن تذرع المكان في كل وقت كالأسد الحبيس، فاطلق زئيرك في المدى.. ايقظ شعبك النائم بزئير أسد لا يضام.. اطلق صوتك الجلل المهاب.. أكد وجودك الذي لا ينطفئ، واشعل احتجاجك الذي لا يستكين، وابلغ العالم أنك لازلت حيا لم تمت..
لدي ضميرا من قلق، وقلقي لا يروق الطغاة.. ضميري ينتصر على الأنا مهما أوغلت.. ضميري ينحاز للحق العظيم.. معاركي حامية في أعماقي والمدى،، بين الأنا والضمير الحي الذي لا يستكين.. في المعارك التي خاض الضمير رحاها، لطالما أنتصر الضمير.. ضميري أولا قبل الجميع، حتى وإن كنتُ فيه أنا.. ضميري يستصعب الصمت الجبان، في وجه ظلم العتاة وطغيان الطغاة.. عالم يموج بالألم الوخيم، ويوغل في التوحش كل يوم..
أشرب الماء بنكهة القرنفل.. والحياة المملّحة بطعم التمرد.. والإنجاز الشهي بالتميز، والتفرد باللذاذة.. تمرد على سلطة الأب التي تلغي من الحياة وجود، أو تستبيح كينونتك كما تشتهي.. حرر معالي الوعي من جب الحضانة.. تمرد على وصفات الغباء الجاهزة في المدرسة والجامعة.. تمرد على الوهم الكبير، حتى لا تعيش مستلبا أو مقهورا ذليل..
إن وجدت الحق، أمسك به واستميت كالغريق.. اقبض عليه باليدين.. عض عليه بأسنانك والنواجذ.. لا تقبل إذعان وإرغام وطغيان.. لا تقبل من يلغي من الوجود وجودك .. لا تخاتل ..لا تساوم.. ولا تنازل عن حقوقك.. ولا تستمرئ الظلم يوما، حتى وإن حُشي بالعسل..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
لا أقبل أن يعترشني من يريد امتطائي كالحمار.. قلق التحدّي يجوس داخلي كالأسد في محبسه.. وإن غرقت بالصمت حينا، فالمدى داخلي مكتظ بالضجيج.. جلبة وصخب المعارك حامية تحتدم داخلي، وإن تغطت بوحشة الصمت، فوقت الصمت قصيرا لا يطول.. ولا يستريح ضميري حتى ينتصر..
وإن أصابتني حراب أوغاد، أو لداد الخصوم، فأنا الأسد الجريح.. لا أريد غابة لا أكون فيها الملك، ولا اريد أسد يموت في محبس الصمت المسيّج بالحديد.. وإن كان قضاء القدر قد قال فيك فصل الخطاب، فلابأس للأسد الجريح اطلاق وجعه المحبوس من أعلى العرين، وإن كان جور قد قضاء بأن تذرع المكان في كل وقت كالأسد الحبيس، فاطلق زئيرك في المدى.. ايقظ شعبك النائم بزئير أسد لا يضام.. اطلق صوتك الجلل المهاب.. أكد وجودك الذي لا ينطفئ، واشعل احتجاجك الذي لا يستكين، وابلغ العالم أنك لازلت حيا لم تمت..
لدي ضميرا من قلق، وقلقي لا يروق الطغاة.. ضميري ينتصر على الأنا مهما أوغلت.. ضميري ينحاز للحق العظيم.. معاركي حامية في أعماقي والمدى،، بين الأنا والضمير الحي الذي لا يستكين.. في المعارك التي خاض الضمير رحاها، لطالما أنتصر الضمير.. ضميري أولا قبل الجميع، حتى وإن كنتُ فيه أنا.. ضميري يستصعب الصمت الجبان، في وجه ظلم العتاة وطغيان الطغاة.. عالم يموج بالألم الوخيم، ويوغل في التوحش كل يوم..
أشرب الماء بنكهة القرنفل.. والحياة المملّحة بطعم التمرد.. والإنجاز الشهي بالتميز، والتفرد باللذاذة.. تمرد على سلطة الأب التي تلغي من الحياة وجود، أو تستبيح كينونتك كما تشتهي.. حرر معالي الوعي من جب الحضانة.. تمرد على وصفات الغباء الجاهزة في المدرسة والجامعة.. تمرد على الوهم الكبير، حتى لا تعيش مستلبا أو مقهورا ذليل..
إن وجدت الحق، أمسك به واستميت كالغريق.. اقبض عليه باليدين.. عض عليه بأسنانك والنواجذ.. لا تقبل إذعان وإرغام وطغيان.. لا تقبل من يلغي من الوجود وجودك .. لا تخاتل ..لا تساوم.. ولا تنازل عن حقوقك.. ولا تستمرئ الظلم يوما، حتى وإن حُشي بالعسل..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
طفولة بطعم التمرد
(10)
اخضاع وخصي
صرت طفلا قادرا على التمييز، بوسعة إدراك أبجديات معنى الحياة والموت، أو بديهية الفرق بين البقاء والرحيل.. مررت بمشاهد لا تنساها الذاكرة مهما تقادمت عليها الأيام والسنون..
خمسون عاما خلت، وربما أكثر منها بقليل، ولازالت حية في الذاكرة، وعصية على الطي، ولا غالب لها بنسيان.. شاهدتهم يذبحوا ارنبا، لازال صوته الصارخ يفجر ذاكرتي بالوجع، كلما استجريته بمناسبة، أو ذكّرني إليه مشهد من اليوم..
أتذكر صراخه الفاجع قبل الذبح ببرهة، وكأن طفل قد تلبسه، وصار يصرخ بصوته المفجوع والمنفجر.. أتذكر وضع السكين على حنجرته المحشرجة بدمدمة، وخفقات قلبه التي تشبه في خفقانها أمواج البحر المتلاطمة بحواف الجبل، وأنفاسه التي تشبه أنفاس المشاركون في سباق الضاحية، وجسده المهتاج بالحمى التي تعتريه وتداهمه..
وعند الشروع بذبحه، أتذكر اليد الثقيلة المطبقة على فمه، وهي تحاول تخنق صوته وعبرته، وتخمد أنفاسه، فيما كان بعض من صوته المصعوق يتطاير كالشرر، من بين أصابع اليد المطبقة على فمه.. وكأنه صوت احتجاج وجودي مقاوم لواقع مرعب وبشع في تفاصيله..
لطالما تذكرت هذا المشهد المؤلم كما هو، وكأنه وقع اليوم، وأنا أقارنه بمشاهد مؤلمة، مرت أو لازلت تمر إلى اليوم.. أتذكره وأنا أرى خنق أي صوت يريد أن يبوح بأوجاعه أو بأوجاع الناس، أو يريد الاحتجاج على الظلم الذي ينيخ بثقله على الكواهل، والقلب النازف، والمكروب بالسلطة والمنكوب بالغلبة، والقلم الذي يريدون إعدامه، وربما بلغوا في المطالبة بإعدام صاحبه معه..
يريدون كتم أنفاس الناس، وإخراس أصواتهم المذبوحة حتى لا يسمعها أحد.. يستخدمون يد السلطة والغلبة الثقيلة لقهرهم وإخمادهم إلى الأبد.. يريدون إغلال أيدي الناس إلى أعناقهم، وكسر مقاومتهم، وإعدام صوت المستغيث، ولا مغيث غير الاجل..
إعدام معنوي يمارسونه بحق مواطنيهم لصالح طغيانهم.. يريدونهم منقادين لهم كالقطعان.. مستكينين ومستسلمين لهم كالعبيد.. لا يريدون من أحد أن يبدي احتجاجا أو اعتراضا أو موقفا أو رأيا تمارس فيه حتى الحد الأدنى من وجودك وإنسانيتك..
يريدونك أن تكون هم لا أنت.. يريدون أن يقلعون لسانك من الجذور.. يريدون استلاب عقلك، وانتعال حريتك، واستباحة استقلاليتك، وإفساد ضميرك حتى آخره .. يريدون الإيغال في ممارسة القتل والفساد والاستبداد والطغيان دون أي اعتراض أو معترض..
***
لازلت أتذكر وهم يخصون كبش العيد.. شاهدتهم بكثرتهم وهم ينزلون عليه بكل قواهم وأثقالهم.. يأخذونه بأربعته ورأسه ومؤخرته، ويمددونه على الارض، ويفتحون رجليه، فيما يحاول هو الركل والمقاومة بددا.. وضعوا حجرا أملسا صلدا قرب فخضا رجليه، ووضعوا خصيتيه على تلك الحجر، ثم شرعوا بضرب الخصيتين وأعقابها، بمطرقة من حديد، فيما كان هو يتألم ويقاوم عبثا دون جدوى أو خلاص، وتحت طائل كثرة وقوة نازلة عليه كالقدر، ولمّا أتموا ما يريدونه حتى النهاية، اطلقوا سراحه بعد أن قتلوا فحولته بمطرقة الحديد..
كنت غارقا في ذهول.. لا أعرف ماذا يفعلون!! لم يقولوا لي شيئا من قبل، أو عمّا ينتون فعله، أو ما سيقدمون عليه.. كنت متحيرا لماذا يفعلوا ما يفعلون.. لماذا يضربوا خصيتيه بالمطرقة؟!! ماذا فعلت بهم الخصيتين؟! كنت الوحيد من الموجودين الذي أعيش جحيم اللحظة، وأشاركه فيها الألم ..
كنت الوحيد الغارق في الذهول حيال ما يحدث!! والوحيد الذي يجوس في أعماقه السؤال!! فيما الآخرين لم يكترثون بي، ولم يكن بيدي سلطة أو قرار يمنعهم عن فعلهم بالغ القسوة..
فضولي الذي ظل حبيسا داخلي لم يستطع الاعتراض، ولكن أستطاع سؤال أمي بعد أن أنتهى كل شيء.. ماذا فعلتم ولماذا؟! فكانت إجابة أمي: من أجل أن يكبر بسرعة، ويطيب لحمه وشحمه في العيد.. الحقيقة لم تكن الإجابة تفِ برضاي!! ما علاقة خصيتيه بما زعمه الجواب..
وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة.. عرفت كيف تسلب السلطة فحولة الرجال، وكيف يمتطي الطغاة من ينحنون لهم.. عرفت كيف تسلب السلطة إرادة من كانوا يفترض بهم أن ينحازوا للناس، وكيف يتحولون بالترهيب والترغيب إلى بيادق تحركهم الأصابع، وأحذية ينتعلها الطغاة في المستنقعات الموحلة ..
عرفت كيف يمارس المال سلطته على كثير من المثقفين، وحملة الشهادات العليا الذين يتحولون إلى أبواق بلا إرادة ولا موقف ولا ضمير.. عرفت حجم خواء المثقف المنقاد وراء السياسي الوغد أو المستعبد بأمير الحرب..
عرفت هشاشة المثقف الذي يبيع ضميره من أول عرض.. عرفت الهشاشة التي تنهار من أول ضربة مطرقة على الرأس أو على الخصيتين.. عرفت المثقف الذي بات تابعا يدور في مدار صنمه وطمطمه، فاقدا لضميره ووجوده.. عرفت أتباع بلا عقل ولا مبدأ ولا قيم.. عرفت رجالا بلا رجولة ولا فحولة..
وفي المقابل عرفت أناسا أفذاذ بقامة النخيل وصمود الجبال الرواسي.. أحرارا ميامين يأثرون التضحية على الاستسلام، والمقاومة على الخضوع، والشجاعة على الخوف.. لا يبيع ولا يساوم ضميرهم ال
(10)
اخضاع وخصي
صرت طفلا قادرا على التمييز، بوسعة إدراك أبجديات معنى الحياة والموت، أو بديهية الفرق بين البقاء والرحيل.. مررت بمشاهد لا تنساها الذاكرة مهما تقادمت عليها الأيام والسنون..
خمسون عاما خلت، وربما أكثر منها بقليل، ولازالت حية في الذاكرة، وعصية على الطي، ولا غالب لها بنسيان.. شاهدتهم يذبحوا ارنبا، لازال صوته الصارخ يفجر ذاكرتي بالوجع، كلما استجريته بمناسبة، أو ذكّرني إليه مشهد من اليوم..
أتذكر صراخه الفاجع قبل الذبح ببرهة، وكأن طفل قد تلبسه، وصار يصرخ بصوته المفجوع والمنفجر.. أتذكر وضع السكين على حنجرته المحشرجة بدمدمة، وخفقات قلبه التي تشبه في خفقانها أمواج البحر المتلاطمة بحواف الجبل، وأنفاسه التي تشبه أنفاس المشاركون في سباق الضاحية، وجسده المهتاج بالحمى التي تعتريه وتداهمه..
وعند الشروع بذبحه، أتذكر اليد الثقيلة المطبقة على فمه، وهي تحاول تخنق صوته وعبرته، وتخمد أنفاسه، فيما كان بعض من صوته المصعوق يتطاير كالشرر، من بين أصابع اليد المطبقة على فمه.. وكأنه صوت احتجاج وجودي مقاوم لواقع مرعب وبشع في تفاصيله..
لطالما تذكرت هذا المشهد المؤلم كما هو، وكأنه وقع اليوم، وأنا أقارنه بمشاهد مؤلمة، مرت أو لازلت تمر إلى اليوم.. أتذكره وأنا أرى خنق أي صوت يريد أن يبوح بأوجاعه أو بأوجاع الناس، أو يريد الاحتجاج على الظلم الذي ينيخ بثقله على الكواهل، والقلب النازف، والمكروب بالسلطة والمنكوب بالغلبة، والقلم الذي يريدون إعدامه، وربما بلغوا في المطالبة بإعدام صاحبه معه..
يريدون كتم أنفاس الناس، وإخراس أصواتهم المذبوحة حتى لا يسمعها أحد.. يستخدمون يد السلطة والغلبة الثقيلة لقهرهم وإخمادهم إلى الأبد.. يريدون إغلال أيدي الناس إلى أعناقهم، وكسر مقاومتهم، وإعدام صوت المستغيث، ولا مغيث غير الاجل..
إعدام معنوي يمارسونه بحق مواطنيهم لصالح طغيانهم.. يريدونهم منقادين لهم كالقطعان.. مستكينين ومستسلمين لهم كالعبيد.. لا يريدون من أحد أن يبدي احتجاجا أو اعتراضا أو موقفا أو رأيا تمارس فيه حتى الحد الأدنى من وجودك وإنسانيتك..
يريدونك أن تكون هم لا أنت.. يريدون أن يقلعون لسانك من الجذور.. يريدون استلاب عقلك، وانتعال حريتك، واستباحة استقلاليتك، وإفساد ضميرك حتى آخره .. يريدون الإيغال في ممارسة القتل والفساد والاستبداد والطغيان دون أي اعتراض أو معترض..
***
لازلت أتذكر وهم يخصون كبش العيد.. شاهدتهم بكثرتهم وهم ينزلون عليه بكل قواهم وأثقالهم.. يأخذونه بأربعته ورأسه ومؤخرته، ويمددونه على الارض، ويفتحون رجليه، فيما يحاول هو الركل والمقاومة بددا.. وضعوا حجرا أملسا صلدا قرب فخضا رجليه، ووضعوا خصيتيه على تلك الحجر، ثم شرعوا بضرب الخصيتين وأعقابها، بمطرقة من حديد، فيما كان هو يتألم ويقاوم عبثا دون جدوى أو خلاص، وتحت طائل كثرة وقوة نازلة عليه كالقدر، ولمّا أتموا ما يريدونه حتى النهاية، اطلقوا سراحه بعد أن قتلوا فحولته بمطرقة الحديد..
كنت غارقا في ذهول.. لا أعرف ماذا يفعلون!! لم يقولوا لي شيئا من قبل، أو عمّا ينتون فعله، أو ما سيقدمون عليه.. كنت متحيرا لماذا يفعلوا ما يفعلون.. لماذا يضربوا خصيتيه بالمطرقة؟!! ماذا فعلت بهم الخصيتين؟! كنت الوحيد من الموجودين الذي أعيش جحيم اللحظة، وأشاركه فيها الألم ..
كنت الوحيد الغارق في الذهول حيال ما يحدث!! والوحيد الذي يجوس في أعماقه السؤال!! فيما الآخرين لم يكترثون بي، ولم يكن بيدي سلطة أو قرار يمنعهم عن فعلهم بالغ القسوة..
فضولي الذي ظل حبيسا داخلي لم يستطع الاعتراض، ولكن أستطاع سؤال أمي بعد أن أنتهى كل شيء.. ماذا فعلتم ولماذا؟! فكانت إجابة أمي: من أجل أن يكبر بسرعة، ويطيب لحمه وشحمه في العيد.. الحقيقة لم تكن الإجابة تفِ برضاي!! ما علاقة خصيتيه بما زعمه الجواب..
وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة.. عرفت كيف تسلب السلطة فحولة الرجال، وكيف يمتطي الطغاة من ينحنون لهم.. عرفت كيف تسلب السلطة إرادة من كانوا يفترض بهم أن ينحازوا للناس، وكيف يتحولون بالترهيب والترغيب إلى بيادق تحركهم الأصابع، وأحذية ينتعلها الطغاة في المستنقعات الموحلة ..
عرفت كيف يمارس المال سلطته على كثير من المثقفين، وحملة الشهادات العليا الذين يتحولون إلى أبواق بلا إرادة ولا موقف ولا ضمير.. عرفت حجم خواء المثقف المنقاد وراء السياسي الوغد أو المستعبد بأمير الحرب..
عرفت هشاشة المثقف الذي يبيع ضميره من أول عرض.. عرفت الهشاشة التي تنهار من أول ضربة مطرقة على الرأس أو على الخصيتين.. عرفت المثقف الذي بات تابعا يدور في مدار صنمه وطمطمه، فاقدا لضميره ووجوده.. عرفت أتباع بلا عقل ولا مبدأ ولا قيم.. عرفت رجالا بلا رجولة ولا فحولة..
وفي المقابل عرفت أناسا أفذاذ بقامة النخيل وصمود الجبال الرواسي.. أحرارا ميامين يأثرون التضحية على الاستسلام، والمقاومة على الخضوع، والشجاعة على الخوف.. لا يبيع ولا يساوم ضميرهم ال
قلق واليقظ دوما، وإن عرضوا لأصحابه مال الأرض، ونجوم السماء، ووعدوه أيضا بالآخرة أو الدار الثانية، ولم تستطع جهنم الحمراء والسوداء أن تكرههم على الاستكانة والخضوع للطغاة وأرباب الحكم المُغتصب..
يتبع..
يتبع..
قسوة وطفولة بطعم التمرد
احمد سيف حاشد
(12)
خذلني القدر بعد مائة صلاة
الآباء يحنون على أولادهم.. يغمرونهم بالعطف والمحبة، ويحيطونهم بالرعاية والاهتمام.. لا يردوا لهم رجاء أو طلب إن تأتّى، أو كان تحقيقه في الوسع والمقدرة، فإن أستحال وتعذّر التمسوا منهم السماح والعذر المؤكد.. أبي هو الوحيد الذي من بين ألف طلب لا يستجيب لي بنصف طلب، لا رجاء يجدي معه ولا توسل.. أبي لا يرتخي طبعه حتى في يوم العيد.. أبي صعب المراس كالفولاذ، وقلبه من حجر الصوان.. هذه هي الصورة التي ترسخت في ذهني الذي خابت كثير من أمانيه المتواضعة..
الآباء لا يمنعون أولادهم من الذهاب للموالد البعيدة، وأفراح الأعراس، ومجالس العزاء.. أبي لا يمانع فقط، بل ومستعد أن يرتكب أي حماقة إن فعلتها عنوة، أو تجاوزتُ قرار المنع.. أبي يستثيره التحدّي كثور إسباني، ولاسيما إن كان هذا التحدّي صادرا مني أنا.. يكفيه أن يظن ولا حاجة إلى تقصي أو إثبات ما يخالف ظنه..
“الخضر”، ولي صالح لم يسبق أن حضرت “مولده”، أو قمت بزيارة مزاره.. كنت اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من “مولده” كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام، ويسردونها بغبطة تموج، وفرح يكاد يطير صاحبه، وكأنهم ارتادوا كوكب آخر، أو زاروا سطح القمر..
عندما يسردون الحكايات والتفاصيل أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني والمرارة تذبحني لأنني ممنوعا ومقموعا، وزيارته أمل بظهر الغيب المخيب للآمال..
في “المولد” يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجاً وفرحاً.. كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ بمثل هذه المناسبة.. مشاهد لا تتكرر إلا بعد عام..
البيارق وألوانها الفاقعة تأسر اللب والنظر، وتشعر بالبهجة عارمة في نفوس الحاضرين، وتضفي على المناسبة تميزا وجلالة قدر.. روحانية تغمرك في بعض الأماكن والمشاهد.. حتى المبالغات في الموالد جاذبة وتأنس إليها.. والكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحيانا تفوق الخيال..
المجاذيب ترى منهم ما يدهش ويذهل.. هنالك ترى من يغرس رأسه بالساطور، وهنالك ترى من يخرج عينه من مكانها إلى يده برأس السيف ثم يعيدها إلى مكانها دون أن ترى توجع أو أثر.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقا لأن تراها ألف مرة دون أن تمل، وتحضر دهشتها وتفاصيلها بكل روحك وحواسك.
من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعيت الله أسبوعا أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلا من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلا من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلاف وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقا حتى يسمح لي بحضور “مولد” الخضر هذا العام وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته، وتأجل من عام إلى عام.
ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول وعرض السماء، وظل قلب أبي صعباً، لم يرق ولم يلين..
أمي أيضا تبذل مساعيها من قبل أسبوع، ولكنها أخفقت وأصابتها الخيبة من انتزاع رضى وموافقة أبي؛ فأبي عندما يمعن في الإصرار والعناد، وتتصلب مواقفه، يحتاج لتغييرها قضاء وقدر.. أو هذا ما أتخيله، إن لم أكن قد عشته بالفعل
.
***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
احمد سيف حاشد
(12)
خذلني القدر بعد مائة صلاة
الآباء يحنون على أولادهم.. يغمرونهم بالعطف والمحبة، ويحيطونهم بالرعاية والاهتمام.. لا يردوا لهم رجاء أو طلب إن تأتّى، أو كان تحقيقه في الوسع والمقدرة، فإن أستحال وتعذّر التمسوا منهم السماح والعذر المؤكد.. أبي هو الوحيد الذي من بين ألف طلب لا يستجيب لي بنصف طلب، لا رجاء يجدي معه ولا توسل.. أبي لا يرتخي طبعه حتى في يوم العيد.. أبي صعب المراس كالفولاذ، وقلبه من حجر الصوان.. هذه هي الصورة التي ترسخت في ذهني الذي خابت كثير من أمانيه المتواضعة..
الآباء لا يمنعون أولادهم من الذهاب للموالد البعيدة، وأفراح الأعراس، ومجالس العزاء.. أبي لا يمانع فقط، بل ومستعد أن يرتكب أي حماقة إن فعلتها عنوة، أو تجاوزتُ قرار المنع.. أبي يستثيره التحدّي كثور إسباني، ولاسيما إن كان هذا التحدّي صادرا مني أنا.. يكفيه أن يظن ولا حاجة إلى تقصي أو إثبات ما يخالف ظنه..
“الخضر”، ولي صالح لم يسبق أن حضرت “مولده”، أو قمت بزيارة مزاره.. كنت اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من “مولده” كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام، ويسردونها بغبطة تموج، وفرح يكاد يطير صاحبه، وكأنهم ارتادوا كوكب آخر، أو زاروا سطح القمر..
عندما يسردون الحكايات والتفاصيل أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني والمرارة تذبحني لأنني ممنوعا ومقموعا، وزيارته أمل بظهر الغيب المخيب للآمال..
في “المولد” يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجاً وفرحاً.. كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ بمثل هذه المناسبة.. مشاهد لا تتكرر إلا بعد عام..
البيارق وألوانها الفاقعة تأسر اللب والنظر، وتشعر بالبهجة عارمة في نفوس الحاضرين، وتضفي على المناسبة تميزا وجلالة قدر.. روحانية تغمرك في بعض الأماكن والمشاهد.. حتى المبالغات في الموالد جاذبة وتأنس إليها.. والكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحيانا تفوق الخيال..
المجاذيب ترى منهم ما يدهش ويذهل.. هنالك ترى من يغرس رأسه بالساطور، وهنالك ترى من يخرج عينه من مكانها إلى يده برأس السيف ثم يعيدها إلى مكانها دون أن ترى توجع أو أثر.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقا لأن تراها ألف مرة دون أن تمل، وتحضر دهشتها وتفاصيلها بكل روحك وحواسك.
من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعيت الله أسبوعا أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلا من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلا من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلاف وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقا حتى يسمح لي بحضور “مولد” الخضر هذا العام وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته، وتأجل من عام إلى عام.
ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول وعرض السماء، وظل قلب أبي صعباً، لم يرق ولم يلين..
أمي أيضا تبذل مساعيها من قبل أسبوع، ولكنها أخفقت وأصابتها الخيبة من انتزاع رضى وموافقة أبي؛ فأبي عندما يمعن في الإصرار والعناد، وتتصلب مواقفه، يحتاج لتغييرها قضاء وقدر.. أو هذا ما أتخيله، إن لم أكن قد عشته بالفعل
.
***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
طفولة بطعم التمرد
احمد سيف حاشد:
(13)
محاولة انتحار..
حاولت التحدِّي وأذهب عنوة مولد الخضر، ولكنه كتَّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروسا في قاع الدكان، وضربني بعنف وقسوة لا أنساها ولا تنساها السنين الطوال، ولكنني أسامح ومعتاد على التسامح..
ظللت على وثاقي أكثر من ساعات حتى انتهى فيها كل شيء، وأجفل الناس والصبية، وعادوا من “المولد” إلى البيوت.. ذهب أبي وفكت أمي وثاقي، وانتابتني نوبة سخط واستنفار جنوني..
وبعد أن خرج الجميع من الدار، صعدت إلى حجرة والدي، ووجدت السلاح في متناول يدي.. أخذت بندقيته الآلية، وعمرتها وتمددت، وضعتُ فوهتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أتم إطلاق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعت خوار بقرة أمي، وكأنها تريد مني نظرة وداع أحتاجها أنا أيضا، أو ربما تريدني أن أكف عما أنتوي فعله، وربما غريزة البقاء كانت أقوى مني..
ذهبت لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة، وأول ما رأيتها شعرت أنها تترجى وتتوسل بألا أفعل.. هذا ما خلته في خاطرة مرت على بالي القلق.. أحسست أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعدا أو فراقا.. قبّلت ناصيتها، ومسحت ظهرها، وراحت أكفي تداعب عنقها وضممته بحرارة مفارق.. كانت تصرفاتي معها أشبه بتصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلهاً أو معبوداً مقدس..
شعرت بحبها الجارف، وبادلتها محبة غامرة.. شعرت أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.. غالبتُ دموعي، ولكنها كانت تنهمر سخينة.. رأيتها تشتمَّني بلهفة، وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار.. أحسست أنها هي أيضا تغالب دموعها.. بقرتنا المحروسة من العين بحرز معلق على رقبتها كمصد يصد العين والحسد.. وأنا المحروس أيضا بحرز السبعة العهود من الجن والشياطين، ولكن من يحرسني من قسوة أبي؟!!
ذهبت لأسرق لها الطحين، وأصب عليه الماء، وأقدمه لها كحساء وداع أخير.. كنت اختلس لها كل يوم القليل من الطحين وأصب عليه الماء لتشرب وتستمتع، ولكن المختلس من الدقيق في الوداع الأخير تضاعف ثلاثا عمّا هو معتاد.. لم أعد أخشى انكشاف الأمر لأن القادم سيكون جلل، وسيجعل الجميع لا يفكر بذرة طحين.. إنه حساء لن يتكرر أبدا، ولن يعاد فيما بقي لها من عمر وحياة على ظهر هذه الأرض..
امطرتها بقبل بدت لي إنها قبلات الوداع الأخير. وفيما أنا ذاهب عنها، رأيتها ممعنة بالنظر نحوي، وأحسست أنها تتوسل وترتجي ألا أفعل وألا أرحل.. كنت أفسر الحميمية التي بيننا على مقاس تلك اللحظة التي أحس بها، أو بما ينسجم معها.. كانت مناجاة ومحاكاة لها عمق في نفسي، وتفيض بمشاعر وعواطف جياشة بدت لي حقيقية، لا وهم فيها ولا سراب..
تطلعت صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. شعور وداع الأبد ليس مثله وداع.. الوداع الأبدي يجعلك ترى كثير من تفاصيل الأشياء قبل الرحيل لن تراها في أحوالك العادية أو الطبيعية.. وجدت نفسي أودع كل شيء بما فيها التفاصيل التي لا تخطر على بال، فأنا على موعد مع الموت واستيفاء الأجل.. كنت أتفرس في كل الأشياء التي يقع عليها نظري وكأنني أراها للمرة الأولى.. الجدران والخشب والأواني وملابس أمي..
تذكرت أمي وحب أمي.. أمي التي ضحت بأشياء كثيرة من أجلي.. أمي التي تشربت ألف عذاب، وصبرت لأجلي وإخوتي على حمل ما لا تحتمله الجبال.. عاشت صراعاً لا تحتمله أرض ولا سماء.. كنت أشعر ببكاء السماء في كل مكروه يصيبها..
لم أكن في تلك اللحظة أتخيل أن ثمة شيء يثنيني عن الانتحار والذهاب إلى جهنم، ولا حتى بقرتنا الطيبة، لكن ربما غريزة البقاء غلبتني، وربما حب أمي هو من غلبني، فلا يوجد شخص أحبني أكثر من أمي.. تذكرتها وهي تكرر لي فيما مضى: “إن حدث لك مكروه سأموت كمدا وقهراً”.
لا أستطيع أن أتخيل أمي وهي تراني منتحراً ومضرجاً بدمائي.. كنت أتصور أن مشهدا كهذا سيكون صادماً وصاعقاً وفاجعاً للإنسان الوحيد الذي أهتم له؛ مشهد لا استطيع تخيُّل مأساته الثقيلة على أمي التي تحملت الكثير من أجلي.. مشهد لن يحس بمدى فاجعته غير أمي التي لا شك سيكمدها الحدث..
بسبب أمي وحبها وأخواتي أحجمت عن الحماقة لتنتصر الحياة على الموت؛ ولا بأس من احتجاج أخف ضرراً وأقل كلفة، وهو ما سأقدم عليه الآن بدلا من الانتحار..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
احمد سيف حاشد:
(13)
محاولة انتحار..
حاولت التحدِّي وأذهب عنوة مولد الخضر، ولكنه كتَّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروسا في قاع الدكان، وضربني بعنف وقسوة لا أنساها ولا تنساها السنين الطوال، ولكنني أسامح ومعتاد على التسامح..
ظللت على وثاقي أكثر من ساعات حتى انتهى فيها كل شيء، وأجفل الناس والصبية، وعادوا من “المولد” إلى البيوت.. ذهب أبي وفكت أمي وثاقي، وانتابتني نوبة سخط واستنفار جنوني..
وبعد أن خرج الجميع من الدار، صعدت إلى حجرة والدي، ووجدت السلاح في متناول يدي.. أخذت بندقيته الآلية، وعمرتها وتمددت، وضعتُ فوهتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أتم إطلاق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعت خوار بقرة أمي، وكأنها تريد مني نظرة وداع أحتاجها أنا أيضا، أو ربما تريدني أن أكف عما أنتوي فعله، وربما غريزة البقاء كانت أقوى مني..
ذهبت لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة، وأول ما رأيتها شعرت أنها تترجى وتتوسل بألا أفعل.. هذا ما خلته في خاطرة مرت على بالي القلق.. أحسست أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعدا أو فراقا.. قبّلت ناصيتها، ومسحت ظهرها، وراحت أكفي تداعب عنقها وضممته بحرارة مفارق.. كانت تصرفاتي معها أشبه بتصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلهاً أو معبوداً مقدس..
شعرت بحبها الجارف، وبادلتها محبة غامرة.. شعرت أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.. غالبتُ دموعي، ولكنها كانت تنهمر سخينة.. رأيتها تشتمَّني بلهفة، وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار.. أحسست أنها هي أيضا تغالب دموعها.. بقرتنا المحروسة من العين بحرز معلق على رقبتها كمصد يصد العين والحسد.. وأنا المحروس أيضا بحرز السبعة العهود من الجن والشياطين، ولكن من يحرسني من قسوة أبي؟!!
ذهبت لأسرق لها الطحين، وأصب عليه الماء، وأقدمه لها كحساء وداع أخير.. كنت اختلس لها كل يوم القليل من الطحين وأصب عليه الماء لتشرب وتستمتع، ولكن المختلس من الدقيق في الوداع الأخير تضاعف ثلاثا عمّا هو معتاد.. لم أعد أخشى انكشاف الأمر لأن القادم سيكون جلل، وسيجعل الجميع لا يفكر بذرة طحين.. إنه حساء لن يتكرر أبدا، ولن يعاد فيما بقي لها من عمر وحياة على ظهر هذه الأرض..
امطرتها بقبل بدت لي إنها قبلات الوداع الأخير. وفيما أنا ذاهب عنها، رأيتها ممعنة بالنظر نحوي، وأحسست أنها تتوسل وترتجي ألا أفعل وألا أرحل.. كنت أفسر الحميمية التي بيننا على مقاس تلك اللحظة التي أحس بها، أو بما ينسجم معها.. كانت مناجاة ومحاكاة لها عمق في نفسي، وتفيض بمشاعر وعواطف جياشة بدت لي حقيقية، لا وهم فيها ولا سراب..
تطلعت صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. شعور وداع الأبد ليس مثله وداع.. الوداع الأبدي يجعلك ترى كثير من تفاصيل الأشياء قبل الرحيل لن تراها في أحوالك العادية أو الطبيعية.. وجدت نفسي أودع كل شيء بما فيها التفاصيل التي لا تخطر على بال، فأنا على موعد مع الموت واستيفاء الأجل.. كنت أتفرس في كل الأشياء التي يقع عليها نظري وكأنني أراها للمرة الأولى.. الجدران والخشب والأواني وملابس أمي..
تذكرت أمي وحب أمي.. أمي التي ضحت بأشياء كثيرة من أجلي.. أمي التي تشربت ألف عذاب، وصبرت لأجلي وإخوتي على حمل ما لا تحتمله الجبال.. عاشت صراعاً لا تحتمله أرض ولا سماء.. كنت أشعر ببكاء السماء في كل مكروه يصيبها..
لم أكن في تلك اللحظة أتخيل أن ثمة شيء يثنيني عن الانتحار والذهاب إلى جهنم، ولا حتى بقرتنا الطيبة، لكن ربما غريزة البقاء غلبتني، وربما حب أمي هو من غلبني، فلا يوجد شخص أحبني أكثر من أمي.. تذكرتها وهي تكرر لي فيما مضى: “إن حدث لك مكروه سأموت كمدا وقهراً”.
لا أستطيع أن أتخيل أمي وهي تراني منتحراً ومضرجاً بدمائي.. كنت أتصور أن مشهدا كهذا سيكون صادماً وصاعقاً وفاجعاً للإنسان الوحيد الذي أهتم له؛ مشهد لا استطيع تخيُّل مأساته الثقيلة على أمي التي تحملت الكثير من أجلي.. مشهد لن يحس بمدى فاجعته غير أمي التي لا شك سيكمدها الحدث..
بسبب أمي وحبها وأخواتي أحجمت عن الحماقة لتنتصر الحياة على الموت؛ ولا بأس من احتجاج أخف ضرراً وأقل كلفة، وهو ما سأقدم عليه الآن بدلا من الانتحار..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
طفولة بطعم التمرد
احمد سيف حاشد:
(14)
بديلا عن الانتحار!!
أحجمت عن الانتحار، ولكني أريد أن أقوم بفعل أقل كلفة منه.. أريد ضجيج أعبر فيه عن رفضي وتمردي ضد القمع الذي مارسه عليّ أبي.. لن يكون هذا إلا بمزيد من الشقاوة والتمرد.. أريد أبي أن يندم على فعله.. أريد أن يسمع أبي بعض من جنوني، احتجاجا على قمعه لي، وأرد له بعض من جنونه بالقدر المتاح..
لا أستطيع أن أبلغ قهري وأصمت.. لابد من أن فعل شيء.. أريد أن أعاقب أبي واسمعه بعض من احتجاجي.. يجب أن يسمع أبي مظلمتي ويسمعها كل الناس.. أريد أبي أن يندم لما فعله بي.. كان لا زال الغضب والانفعال يتراكض في رأسي، ويفعل فعله في عروقي..
نزلت من الحجرة إلى الديوان بعد أن أغلقت باب الدار بالمزلاج والمرزح، وضعت "صحارة" - ألواح خشبية تستخدم لنقل "أتناك" الجاز، وتحميلها على الجمال عند نقلها ـ انبطحت خلفها، وحاولت تشبيك البندقية عليها مع يدي لتقلل من الارتداد أثناء إطلاق النار، ووضعت أصبعي على الزناد، وأنا في وضعية الاستعداد والبندقية جاهزة لإطلاق النار الكثيف بمجرد الضغط على الزناد بأصبعي المتحفزة للضغط حتى إفراغ ما فيه من الرصاص.. تبدأ حالة تشبه نوبة ”هسترية” وأنا أضغط على الزناد وافرغ ما في مخزن البندقية من الرصاص..
لم أكن أعرف إن كل ذلك الغبار سيكتظ من الداخل على ذلك النحو الكثيف، ولفترة بدت لي غير وجيزة.. لم أعرف أن الرصاص الراجع سيفعل بالجدران ما فعل!! الحقيقة لا أدري كيف نجوت؟!! وكيف وجدت للمستحيل طريقاً؟! لم أكن أعرف أن صوت الرصاص والغبار الكثيف سيكون بذلك القدر الذي يجعل من يرى الدار من الخارج ويسمع لعلعة الرصاص في داخل الدار، يعتقد أن ثمة زلزال قد حل فيه.. صارت الجدران مخرّمة كوجوه عبث بها الجدري.. فيما كانت رائحة البارود نفاذة تملأ المكان..
النسوة والرجال والأطفال هرعوا إلى الدار ليرون ماذا حدث!! باب الدار مغلق، وأنا اطمئنهم من مفرج الديوان إنه لم يحدث شيء.. الأسئلة تتزاحم عمّا حدث، والدهشة تستبد بوجوه الحاضرين على عجل.. وبعضهم يدقوا باب الدار بقوة ويهمون بكسره، وأمي تهرع وتتصرف كمجنونة.. تصرخ وتبكي وتنوح؛ بقلب مخلوع، ومفطور بالفجيعة.. نزلت وفتحت الباب وامي تفتش جسمي وملابسي لترى ماذا صنعت بنفسي. وعندما تأكدت من سلامتي ذهبت لتخفيني من أبي بديوان آخر في الدار مظلم ومملوء بحزم الزرع اليابس.. أما أبي فقد هرع لينتقم مني أشد انتقام، ولكنه لم يجدنِ وأبلغته أمي أنني قد هربت الجبل..
مكثت أياماً في مخبئي السري لا تواسيني غير أمي، وحنانها وخبزها. ومع ذلك لم أنجُ من عقاب تأجّل، ولم تنج أمي من ألف سؤال ومشكلة..
مللت مخبئي وملّني هو الآخر.. طلبت من أمي أن تترك لي فسحة بين أخوتي النيام لأنام بينهم ثم توقظني قبل حلول الفجر لأعود إلى مخبئي خلسة دون أن يراني أبي.. ولكن أنكشف أمري بعد ساعة زمن.. يا لخيبة حيلتي وحيلة أمي!!
مر أبي على أخوتي النيام قرابة الساعة العاشرة ليلاً وهم يغطون بالنوم. أنا الوحيد بينهم من كنت متوجساً ويقضاً أسمع دبيب النمل.. سمعته يعد أخوتي ويقول لأمي هناك واحد زائد في العدد، وهي تشكك وتناور وتحاول أن توهمه وتصرفه إلى موضوع آخر؛ لكن أبي جثي على ركبتيه بيننا، وبدأ يتحسس ويعد الرؤوس ويسميها لأمي، وأمي مرتعدة الفرائص تحاول أن تقرأ بكتمانها سورة ياسين.. عددنا ستة، وأبي يعد ويتحسس الرؤوس، وما أن وصل إلى رأسي عرفني حتى أخذ يدقه بالأرض، فانقَّضت أمي على أبي كذئبه، وراحا يتشاجران وصوتي وصوت إخوتي المذعورين وصوت الشجار يملأ فضاء القرية وجوارها، يمزق سكينة ليل أناخ واستتب، ويصيب أهل قريتنا وما حولها بالحيرة والأسئلة والفزع..
استفدت من لحظة الشجار بين أبي وأمي ونفذت بجلدي. قفزت من فوق الدار.. كانت مجازفة غير أن الخوف والهلع صنع المعجزة، وربما مادة الأدرينالين التي تفرزها الغدد الكظرية في الجسم في مثل هكذا حالة تجنبنا ما قد يلحق بنا من ضرر محتمل..
***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
احمد سيف حاشد:
(14)
بديلا عن الانتحار!!
أحجمت عن الانتحار، ولكني أريد أن أقوم بفعل أقل كلفة منه.. أريد ضجيج أعبر فيه عن رفضي وتمردي ضد القمع الذي مارسه عليّ أبي.. لن يكون هذا إلا بمزيد من الشقاوة والتمرد.. أريد أبي أن يندم على فعله.. أريد أن يسمع أبي بعض من جنوني، احتجاجا على قمعه لي، وأرد له بعض من جنونه بالقدر المتاح..
لا أستطيع أن أبلغ قهري وأصمت.. لابد من أن فعل شيء.. أريد أن أعاقب أبي واسمعه بعض من احتجاجي.. يجب أن يسمع أبي مظلمتي ويسمعها كل الناس.. أريد أبي أن يندم لما فعله بي.. كان لا زال الغضب والانفعال يتراكض في رأسي، ويفعل فعله في عروقي..
نزلت من الحجرة إلى الديوان بعد أن أغلقت باب الدار بالمزلاج والمرزح، وضعت "صحارة" - ألواح خشبية تستخدم لنقل "أتناك" الجاز، وتحميلها على الجمال عند نقلها ـ انبطحت خلفها، وحاولت تشبيك البندقية عليها مع يدي لتقلل من الارتداد أثناء إطلاق النار، ووضعت أصبعي على الزناد، وأنا في وضعية الاستعداد والبندقية جاهزة لإطلاق النار الكثيف بمجرد الضغط على الزناد بأصبعي المتحفزة للضغط حتى إفراغ ما فيه من الرصاص.. تبدأ حالة تشبه نوبة ”هسترية” وأنا أضغط على الزناد وافرغ ما في مخزن البندقية من الرصاص..
لم أكن أعرف إن كل ذلك الغبار سيكتظ من الداخل على ذلك النحو الكثيف، ولفترة بدت لي غير وجيزة.. لم أعرف أن الرصاص الراجع سيفعل بالجدران ما فعل!! الحقيقة لا أدري كيف نجوت؟!! وكيف وجدت للمستحيل طريقاً؟! لم أكن أعرف أن صوت الرصاص والغبار الكثيف سيكون بذلك القدر الذي يجعل من يرى الدار من الخارج ويسمع لعلعة الرصاص في داخل الدار، يعتقد أن ثمة زلزال قد حل فيه.. صارت الجدران مخرّمة كوجوه عبث بها الجدري.. فيما كانت رائحة البارود نفاذة تملأ المكان..
النسوة والرجال والأطفال هرعوا إلى الدار ليرون ماذا حدث!! باب الدار مغلق، وأنا اطمئنهم من مفرج الديوان إنه لم يحدث شيء.. الأسئلة تتزاحم عمّا حدث، والدهشة تستبد بوجوه الحاضرين على عجل.. وبعضهم يدقوا باب الدار بقوة ويهمون بكسره، وأمي تهرع وتتصرف كمجنونة.. تصرخ وتبكي وتنوح؛ بقلب مخلوع، ومفطور بالفجيعة.. نزلت وفتحت الباب وامي تفتش جسمي وملابسي لترى ماذا صنعت بنفسي. وعندما تأكدت من سلامتي ذهبت لتخفيني من أبي بديوان آخر في الدار مظلم ومملوء بحزم الزرع اليابس.. أما أبي فقد هرع لينتقم مني أشد انتقام، ولكنه لم يجدنِ وأبلغته أمي أنني قد هربت الجبل..
مكثت أياماً في مخبئي السري لا تواسيني غير أمي، وحنانها وخبزها. ومع ذلك لم أنجُ من عقاب تأجّل، ولم تنج أمي من ألف سؤال ومشكلة..
مللت مخبئي وملّني هو الآخر.. طلبت من أمي أن تترك لي فسحة بين أخوتي النيام لأنام بينهم ثم توقظني قبل حلول الفجر لأعود إلى مخبئي خلسة دون أن يراني أبي.. ولكن أنكشف أمري بعد ساعة زمن.. يا لخيبة حيلتي وحيلة أمي!!
مر أبي على أخوتي النيام قرابة الساعة العاشرة ليلاً وهم يغطون بالنوم. أنا الوحيد بينهم من كنت متوجساً ويقضاً أسمع دبيب النمل.. سمعته يعد أخوتي ويقول لأمي هناك واحد زائد في العدد، وهي تشكك وتناور وتحاول أن توهمه وتصرفه إلى موضوع آخر؛ لكن أبي جثي على ركبتيه بيننا، وبدأ يتحسس ويعد الرؤوس ويسميها لأمي، وأمي مرتعدة الفرائص تحاول أن تقرأ بكتمانها سورة ياسين.. عددنا ستة، وأبي يعد ويتحسس الرؤوس، وما أن وصل إلى رأسي عرفني حتى أخذ يدقه بالأرض، فانقَّضت أمي على أبي كذئبه، وراحا يتشاجران وصوتي وصوت إخوتي المذعورين وصوت الشجار يملأ فضاء القرية وجوارها، يمزق سكينة ليل أناخ واستتب، ويصيب أهل قريتنا وما حولها بالحيرة والأسئلة والفزع..
استفدت من لحظة الشجار بين أبي وأمي ونفذت بجلدي. قفزت من فوق الدار.. كانت مجازفة غير أن الخوف والهلع صنع المعجزة، وربما مادة الأدرينالين التي تفرزها الغدد الكظرية في الجسم في مثل هكذا حالة تجنبنا ما قد يلحق بنا من ضرر محتمل..
***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
ارشيف الذاكرة .. أسئلة تتناسل كالضوء
يمنات
أحمد سيف حاشد
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، و أحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في الغموض الشديد، و مُستصعب فهم أبجدياته، بل و بديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول ملامسة أعتاب المعرفة الأولى، و طرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب و الحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، و في مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، محفزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة و المتكاثرة، و التي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، و أحيانا أجد نفسي أغرق في بحر من الحيرة التي لا تهدأ و لا تستكين، بسبب عدم رضائي و اقتناعي بإجابات تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد و مألوف، و أطرق باب المسكوت عنه، و أجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، و أثقال العيب، و سطوة الخوف، و الزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
لقد كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى و مبرر العيب..؟! كنت أسأل عن وجودي، و كيف خرجت من بطنها إلى واجهة الكون، و من أي منفذ خرجت بالتحديد..؟! و عندما تولد أمي و أرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته .. فيما كانت أمي في البداية تجيبيني و هي تضحك أننا خرجنا من ركبتها .. ثم تثير فضولي أكثر و أسألها كيف..؟! و المولود أكبر من ركبتها؛ فأحتار و أتسأل أكثر..!!
بدت لي إجابة أمي على السؤال غير مقنعة و لم تمنحنِ الرضى، و لم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر و تتسع، و ظل السؤال عالقا في الذهن، و ظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدت أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء..!! و لا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رض أو سحن أو جرح يدعم مزعمها .. فركبتها سليمة و معافاة، و لا أثر لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي..!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله..؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها و لكن على نحو مغلوط، و ظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني كحمار وحشي، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، و تبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها و لا تتنازل عنها إلا بعد حين، و إلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي الخاطئة، و لم يعقلها عقلي الصغير..!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة و يسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي .. و الفارق شتّان..
كنت أستمع لولولة أمي و عذابها و هي تلد، و لكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل و يتم إبعادي أكثر من المكان الذي أقف فيه، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، و أُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، و سيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا..!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء .. و عند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، و يستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، و الحلتيت و المر، و غيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع و آثار الولادة، و لكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولود..؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
و بعد حين من الأسئلة اللحوحة و إجاباتها التي لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى، حاولت أمي اقناعي بأنّي و أخواني خرجنا من سُرّتها، و هي إجابة رفستني أكثر من السؤال..! و فجرت فيني حيرة و عدم اقتناع بما أجابت .. بل و زادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، و تراجعت لدي مصداقيتها .. و تسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي و سرتها مجتمعين..
و بعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، و شعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا و إخوتي من فمها .. و لكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج منه، مولود أكبر منه..!! و لماذا لم تختنق به..؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير..؟!!
لطالما أتعبتني تلك الأسئلة، و حيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة، و المتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عني، و تجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، و الضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالضحك، و إصرارها على إجابة
يمنات
أحمد سيف حاشد
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، و أحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في الغموض الشديد، و مُستصعب فهم أبجدياته، بل و بديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول ملامسة أعتاب المعرفة الأولى، و طرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب و الحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، و في مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، محفزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة و المتكاثرة، و التي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، و أحيانا أجد نفسي أغرق في بحر من الحيرة التي لا تهدأ و لا تستكين، بسبب عدم رضائي و اقتناعي بإجابات تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد و مألوف، و أطرق باب المسكوت عنه، و أجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، و أثقال العيب، و سطوة الخوف، و الزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
لقد كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى و مبرر العيب..؟! كنت أسأل عن وجودي، و كيف خرجت من بطنها إلى واجهة الكون، و من أي منفذ خرجت بالتحديد..؟! و عندما تولد أمي و أرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته .. فيما كانت أمي في البداية تجيبيني و هي تضحك أننا خرجنا من ركبتها .. ثم تثير فضولي أكثر و أسألها كيف..؟! و المولود أكبر من ركبتها؛ فأحتار و أتسأل أكثر..!!
بدت لي إجابة أمي على السؤال غير مقنعة و لم تمنحنِ الرضى، و لم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر و تتسع، و ظل السؤال عالقا في الذهن، و ظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدت أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء..!! و لا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رض أو سحن أو جرح يدعم مزعمها .. فركبتها سليمة و معافاة، و لا أثر لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي..!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله..؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها و لكن على نحو مغلوط، و ظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني كحمار وحشي، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، و تبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها و لا تتنازل عنها إلا بعد حين، و إلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي الخاطئة، و لم يعقلها عقلي الصغير..!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة و يسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي .. و الفارق شتّان..
كنت أستمع لولولة أمي و عذابها و هي تلد، و لكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل و يتم إبعادي أكثر من المكان الذي أقف فيه، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، و أُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، و سيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا..!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء .. و عند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، و يستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، و الحلتيت و المر، و غيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع و آثار الولادة، و لكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولود..؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
و بعد حين من الأسئلة اللحوحة و إجاباتها التي لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى، حاولت أمي اقناعي بأنّي و أخواني خرجنا من سُرّتها، و هي إجابة رفستني أكثر من السؤال..! و فجرت فيني حيرة و عدم اقتناع بما أجابت .. بل و زادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، و تراجعت لدي مصداقيتها .. و تسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي و سرتها مجتمعين..
و بعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، و شعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا و إخوتي من فمها .. و لكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج منه، مولود أكبر منه..!! و لماذا لم تختنق به..؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير..؟!!
لطالما أتعبتني تلك الأسئلة، و حيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة، و المتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عني، و تجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، و الضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالضحك، و إصرارها على إجابة
تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..
عرفت الحقيقة، و لكن بعد فترة لم أراها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام .. و اكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، و عرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، و وجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، و بحد يجب أن لا نستسهله..
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، و قياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا و هناك، و ردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، و حفاظا على ماء الحياء، و دواعي الاحتشام في ذلك الزمان .. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، و خياناتهم و فسادهم و نهبهم، و ارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار و قتل المواطن، إلى إفقار و قتل الوطن..
***
و أنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب و فرح و استراحة و سعادة .. و هو يراني في كل حال .. و أتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، و لا يتركاني حتى عند الدخول للحمام..
كنت أسأل عن الله، و أتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، و هو مستريح عليها ينظر إلينا و يتابع أفعالنا، و أحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة و ثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي .. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي و أنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي و يتوعدني بالعقاب و النار.
كنت أسأل أمي و أسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه .. كنت أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، و أحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، و لا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، و لكنني أتشكك بصحته، و يميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..
كانت تبدو الأسئلة بسيطة، و لكنها تشبه السهل الممتنع.. و كانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، و أحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، و في بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف و الهلع.
كانت الأسئلة كبيرة، و ربما صغيرة، و لكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، و إن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار، و كانت بعض الأسئلة تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف الهلوع، و تسارع بتحذيري الشديد، و بما هو مرعب و مهول، و تقمع سؤالي بشدة و صرامة..
طبعا تلك الأسئلة لم تكن بهذه الصيغة التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا و أكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر، و تتناسل كالضوء، يواجهها قمع و تعنيف و غياب جواب أو جواب خطاء أو مغلوط لا استسيغه و لا أبلعه، أو أبلعه بصعوبة إلى حين.
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير و هو طيب و مكافح و يكدح بأجر قليل..؟! و لماذا “فلان” غني و ظالم و محتال و شرير..؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ و في الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..
كنت أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد .. و لماذا أصلا نذبحه و نسفك دمه..؟!
فتحكي لي قصة اسماعيل و والده إبراهيم عليه السلام..
كنت أسأل: لماذا قطتنا المسكينة و الأليفة تأكل صغارها، و ما ذنب الصغار ليتم أكلهم..؟!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..
و تسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من دومها في لجة الليل البهيم .. كانت تصرخ و تستغيث بصوت مفجوع يفطر القلب.. صوت لم أسمع مثله من قبل .. كان أوجع من الموت و أكبر من مكبر الصوت، و لا مغيث و لا مجير .. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، و كأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها..؟!
ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة المعادل للصوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، و أخمد صوتها و أنفاسها إلى الأبد .. كدت يومها أن أحتج على الرب، و على هذه الحياة الكاسرة .. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد خمسين عام خلت .. لقد مزق صوتها سكون الليل، و قدح صوتها الصارخ بالشرر..
كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض..؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال .. و هكذا وجدت إن جواب أمي بات يفوق حتّى خيالي..
كنت أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل و السيول..؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس شرار، و سمي ذلك السيل باسمه .. كنت أتخيل المشهد و أنا أذهب كل صباح لمدرسة المعرفة بثوجان مشيا على الأقدام، و أمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، و الذي قيل أن السيل سحب حميد منه .. كنت أتخيل المشهد و أتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، و دفر السيل العنيف العرمرم..
كنت أسأل: لماذا الأمراض تفتك بالصغار..؟!
لماذا الحصبة
عرفت الحقيقة، و لكن بعد فترة لم أراها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام .. و اكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، و عرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، و وجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، و بحد يجب أن لا نستسهله..
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، و قياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا و هناك، و ردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، و حفاظا على ماء الحياء، و دواعي الاحتشام في ذلك الزمان .. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، و خياناتهم و فسادهم و نهبهم، و ارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار و قتل المواطن، إلى إفقار و قتل الوطن..
***
و أنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب و فرح و استراحة و سعادة .. و هو يراني في كل حال .. و أتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، و لا يتركاني حتى عند الدخول للحمام..
كنت أسأل عن الله، و أتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، و هو مستريح عليها ينظر إلينا و يتابع أفعالنا، و أحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة و ثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي .. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي و أنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي و يتوعدني بالعقاب و النار.
كنت أسأل أمي و أسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه .. كنت أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، و أحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، و لا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، و لكنني أتشكك بصحته، و يميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..
كانت تبدو الأسئلة بسيطة، و لكنها تشبه السهل الممتنع.. و كانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، و أحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، و في بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف و الهلع.
كانت الأسئلة كبيرة، و ربما صغيرة، و لكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، و إن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار، و كانت بعض الأسئلة تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف الهلوع، و تسارع بتحذيري الشديد، و بما هو مرعب و مهول، و تقمع سؤالي بشدة و صرامة..
طبعا تلك الأسئلة لم تكن بهذه الصيغة التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا و أكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر، و تتناسل كالضوء، يواجهها قمع و تعنيف و غياب جواب أو جواب خطاء أو مغلوط لا استسيغه و لا أبلعه، أو أبلعه بصعوبة إلى حين.
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير و هو طيب و مكافح و يكدح بأجر قليل..؟! و لماذا “فلان” غني و ظالم و محتال و شرير..؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ و في الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..
كنت أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد .. و لماذا أصلا نذبحه و نسفك دمه..؟!
فتحكي لي قصة اسماعيل و والده إبراهيم عليه السلام..
كنت أسأل: لماذا قطتنا المسكينة و الأليفة تأكل صغارها، و ما ذنب الصغار ليتم أكلهم..؟!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..
و تسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من دومها في لجة الليل البهيم .. كانت تصرخ و تستغيث بصوت مفجوع يفطر القلب.. صوت لم أسمع مثله من قبل .. كان أوجع من الموت و أكبر من مكبر الصوت، و لا مغيث و لا مجير .. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، و كأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها..؟!
ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة المعادل للصوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، و أخمد صوتها و أنفاسها إلى الأبد .. كدت يومها أن أحتج على الرب، و على هذه الحياة الكاسرة .. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد خمسين عام خلت .. لقد مزق صوتها سكون الليل، و قدح صوتها الصارخ بالشرر..
كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض..؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال .. و هكذا وجدت إن جواب أمي بات يفوق حتّى خيالي..
كنت أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل و السيول..؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس شرار، و سمي ذلك السيل باسمه .. كنت أتخيل المشهد و أنا أذهب كل صباح لمدرسة المعرفة بثوجان مشيا على الأقدام، و أمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، و الذي قيل أن السيل سحب حميد منه .. كنت أتخيل المشهد و أتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، و دفر السيل العنيف العرمرم..
كنت أسأل: لماذا الأمراض تفتك بالصغار..؟!
لماذا الحصبة
التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، و من هم أصغر مني .. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، و يرغمون بالموت على فراق من يحبون..؟!
فتجيب أمي ان الأطفال الموتى يقيمون في الجنة .. و الجنة فيها كل ما يلذ و يطيب ويتمناه الانسان، و ان أختى نور و سامية مع بنات الحور في الجنة، و انهن سيشفعان لنا يوم القيامة.
كنت أسأل لماذا الموت أعور..؟!
فتجيبني أمي لأن نبي الله موسى فقع عينه..
كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز و تقمعني و تمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر و عذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته و خشيتي من عقابه.
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، و لم أجد لها جوابا كاف و شاف .. كنت أسخط على من يستسهل الموت، و يهدر الحياة، و ينتج العنف و القسوة، و يسوّغ الظلم و يبرره.
كنت أسأل نفسي و أسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب..؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته و حفظه طالما هو كتابه و وحيه..؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو..؟! و كيف أوجد نفسه..؟! و كيف كان الحال قبله..؟! فلا ألاقي جوبا، بل ألاقي غضب يشتد، و زجر يمنعني من السؤال ثانية .. و لكن تظل الاسئلة تجوس داخلي، و لا تهدأ و لا تتعب..
كانت أعرب عن رغبتي في الزواج من جارتنا التي كانت تكبرني بأربعة أضعاف عمري..؟! و في إحدى الأيام حاولت أن أتشبث بها و أمنعها من الرواح من دارنا، لأنني أريد أن أتزوجها، دون أن أعلم شيئا عن حقيقة الزواج و ماهيته، أكثر من مكوثها معنا في دارنا..
و عندما كبرت قليلا بدأت أعرف شيئا عن الزواج، و كنت أشاهد وجهي في المرآة و أرى قبحي في جحوظ عيناي، فأسأل أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين وةلم يساوينِ بأقراني..؟! فأجابت أمي أنها سمعت أبي يقول انني أشبه جدي “هاشم” في عيونه..
و عندما كبرت أكثر كنت أسأل نفسي: عندما أصير شابا هل سترضى بي من أحبها أن تتزوجني، رغم تلك البشاعة التي خلقها الله في عيوني، و حرمني من وسامة ما كان ينبغي أن يحرمني الله منها..؟! و عندما كبرت وجدت لست وحدي من ناله القبح و احتج عليه، بل سبقني إليه الشاعر الحطيئة و هو يهجي وجهه:
أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَ قُبِّحَ حَامِلُهُ.
و عندما ترشحت لعضوية مجلس النواب ألصق فريق حملتي الانتخابية صور في إحدى مناطق دائرتي الانتخابية، و عند مروري فيها، لاحظت بعض الصور قد تم تشويهها بخرف عيونها، و ترك باقيها كما هو من دون عيون .. فاستيقظ احتجاجي، و دفعني هذا إلى بذل نشاط مضاعف، و إصرار عنيد على انتزاع النجاح، ردا على ممارسة القبح الذي وجدته يُصبَ على عيوني المتعبة و المعذبة..
أما اليوم و بسبب حساسية باتت مزمنة في عيوني، مضافا إليها كثرة السهر و قلة النوم، بات الاحمرار في عيوني شديد و ملازما، و لكن بات من يحملون القبح في عيونهم و عقولهم ، ينسبون لي تهمة “اللبقة”، و قصدهم أنني سكرانا طوال الليل و النهار، و هو جزء من الكيد السياسي الذي يستخدمه هنا بعض الخصوم السياسيين في التشويه أمام العامة الذين يشنعون على شارب الخمر أكثر من تشنيعهم على القتلة و النهابة و الفاسدين و المحتالين..
لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..
كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس .. و كنت أستمع إلى شرحه، و تتكرر كلمة “البراز” في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا “البراز”..!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة و لا أعرف ماذا تعني..!! بالتأكيد زملائي مثلي و لكنهم ربما لا يتجرؤون على السؤال .. سألت الأستاذ: أيش هو هذا “البراز”..؟!
فأجاب بضيق و طفش طافح، و بحركة عصبية من يده و قدمه محاولا أن يشعرني بغبائي و إحراجه من الجواب بقوله: “الخر”.. فضحك من في الفصل .. و هو ما جعلني أصاب بإحراج شديد .. و لو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجز الجميع .. أغرقني الخجل في الصف، و تحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب.
يتبع
https://yemenat.net/2020/02/365082/
فتجيب أمي ان الأطفال الموتى يقيمون في الجنة .. و الجنة فيها كل ما يلذ و يطيب ويتمناه الانسان، و ان أختى نور و سامية مع بنات الحور في الجنة، و انهن سيشفعان لنا يوم القيامة.
كنت أسأل لماذا الموت أعور..؟!
فتجيبني أمي لأن نبي الله موسى فقع عينه..
كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز و تقمعني و تمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر و عذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته و خشيتي من عقابه.
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، و لم أجد لها جوابا كاف و شاف .. كنت أسخط على من يستسهل الموت، و يهدر الحياة، و ينتج العنف و القسوة، و يسوّغ الظلم و يبرره.
كنت أسأل نفسي و أسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب..؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته و حفظه طالما هو كتابه و وحيه..؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو..؟! و كيف أوجد نفسه..؟! و كيف كان الحال قبله..؟! فلا ألاقي جوبا، بل ألاقي غضب يشتد، و زجر يمنعني من السؤال ثانية .. و لكن تظل الاسئلة تجوس داخلي، و لا تهدأ و لا تتعب..
كانت أعرب عن رغبتي في الزواج من جارتنا التي كانت تكبرني بأربعة أضعاف عمري..؟! و في إحدى الأيام حاولت أن أتشبث بها و أمنعها من الرواح من دارنا، لأنني أريد أن أتزوجها، دون أن أعلم شيئا عن حقيقة الزواج و ماهيته، أكثر من مكوثها معنا في دارنا..
و عندما كبرت قليلا بدأت أعرف شيئا عن الزواج، و كنت أشاهد وجهي في المرآة و أرى قبحي في جحوظ عيناي، فأسأل أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين وةلم يساوينِ بأقراني..؟! فأجابت أمي أنها سمعت أبي يقول انني أشبه جدي “هاشم” في عيونه..
و عندما كبرت أكثر كنت أسأل نفسي: عندما أصير شابا هل سترضى بي من أحبها أن تتزوجني، رغم تلك البشاعة التي خلقها الله في عيوني، و حرمني من وسامة ما كان ينبغي أن يحرمني الله منها..؟! و عندما كبرت وجدت لست وحدي من ناله القبح و احتج عليه، بل سبقني إليه الشاعر الحطيئة و هو يهجي وجهه:
أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَ قُبِّحَ حَامِلُهُ.
و عندما ترشحت لعضوية مجلس النواب ألصق فريق حملتي الانتخابية صور في إحدى مناطق دائرتي الانتخابية، و عند مروري فيها، لاحظت بعض الصور قد تم تشويهها بخرف عيونها، و ترك باقيها كما هو من دون عيون .. فاستيقظ احتجاجي، و دفعني هذا إلى بذل نشاط مضاعف، و إصرار عنيد على انتزاع النجاح، ردا على ممارسة القبح الذي وجدته يُصبَ على عيوني المتعبة و المعذبة..
أما اليوم و بسبب حساسية باتت مزمنة في عيوني، مضافا إليها كثرة السهر و قلة النوم، بات الاحمرار في عيوني شديد و ملازما، و لكن بات من يحملون القبح في عيونهم و عقولهم ، ينسبون لي تهمة “اللبقة”، و قصدهم أنني سكرانا طوال الليل و النهار، و هو جزء من الكيد السياسي الذي يستخدمه هنا بعض الخصوم السياسيين في التشويه أمام العامة الذين يشنعون على شارب الخمر أكثر من تشنيعهم على القتلة و النهابة و الفاسدين و المحتالين..
لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..
كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس .. و كنت أستمع إلى شرحه، و تتكرر كلمة “البراز” في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا “البراز”..!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة و لا أعرف ماذا تعني..!! بالتأكيد زملائي مثلي و لكنهم ربما لا يتجرؤون على السؤال .. سألت الأستاذ: أيش هو هذا “البراز”..؟!
فأجاب بضيق و طفش طافح، و بحركة عصبية من يده و قدمه محاولا أن يشعرني بغبائي و إحراجه من الجواب بقوله: “الخر”.. فضحك من في الفصل .. و هو ما جعلني أصاب بإحراج شديد .. و لو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجز الجميع .. أغرقني الخجل في الصف، و تحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب.
يتبع
https://yemenat.net/2020/02/365082/
موقع يمنات الأخباري
ارشيف الذاكرة .. أسئلة تتناسل كالضوء - موقع يمنات الأخباري
يمنات أحمد سيف حاشد كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، و أحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لا