#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(16)
سوق الخميس والعولقية !!
أحمد سيف حاشد
عندما كنّا أطفالا في القرية، كنا ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر، ولو طلبت الأقدار منّا التمنّي بما نرغب ونشتهي، لطلبنا منها أن تجعل كل أيامنا خميسا لا ينقطع ولا ينتهي..
كان يغمرنا الفرح حالما نرتاد سوق الخميس.. ننتظره بشوق ولهفة.. كان هذا السوق بالنسبة لنا نحن الاطفال أشبه ببازار أو كرنفال بهيج.. الخميس يوم زاه ومميز في أيام الأسبوع.. لولا هذا اليوم لاختلطت أيامنا حابلها بنابلها.. كانت أيام الخميس تيجان أيامنا، وفواصلها البهيجة.. أيامنا القادمات والذاهبات ليس لها معنى بدون يوم الخميس.. يوم الخميس فسحتنا الجميلة التي نرى فيها ما لا نراه ولا نسمعه في الأيام الأخريات..
كان الهدير والصخب يميز هذا المكان وهذا اليوم البهيج.. إنه المكان الذي يجتمع فيه الناس.. يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب.. يقطعون المسافات البعيدة، ويتجشمون مشقة التضاريس، ويتحدّون حدود التشطير، ويلتقون في سوق الخميس.. يسلمون على بعض بلهفة واشتياق، ويتحدثون إلى بعضهم بحفاوة وحرارة..
يكتظ مركز السوق برواده، وتمتد أطرافه.. يموج بالبشر والسلع.. بيعا وشراء وحياة تدب فيه دبوب.. تسمع هدير وهمهمات السوق قبل أن تراه أو تصل إليه.. صخب وجلبة وحياة ونشاط دؤوب.. يبتاعون ويشترون .. يتحدثون ويقهقهون..
بعضهم يتناول فطور الصباح، وبعضهم يحتسي الشاي والقهوة، وبعضهم يتناول وجبة الغداء في عز النهار.. هناك مقهى لـ “دولة” وهي امرأة بيضاء فارعة الطول، مليحة الوجه وزاد الوشم فيه جمالا وتأنقا.. ولم تكن جائحة التشدد والتزمت بعد قد وصلت إلي قرانا، ولم يكن يومها الخمار يُضرب على وجوه النساء، وكانت العفة والبراءة والطيبة هي التي تسود دون خدش حياء أو تعرّض لتحرش، أو وجود ما يفسد البراءة والحياة..
في سوق الخميس كان هناك مقهى لـ”رُكيز” الرجل المبتسم الطيب، الذي تشعر وأنت تراه بالألفة والرضى والارتياح.. كان ما تصنع يداه من الطعام مشتهى، وقهوته تحسّن الكيف وتعدّل المزاج.. وهناك حميد أنعم الرجل الفقير والطيب، يبيع الماء البارد والليم الحامض ؛ ويعلن بصوته الرخيم "البانهيس.. البانهيس"..
كثيرون في السوق يعلنون ويروّجون لسلعهم، وأحيانا يعتلي “المطرِّب” مكان مرتفع من السوق، وتسمع إعلانات للموالد والمناسبات أو ما يهم الناس من شأن عام، ويُستهل الإعلان بـ “الحاضر يعلم الغائب..” جميع هؤلاء الناس رحلوا، ووجدنا اليوم أنفسنا في حضرة الحرب والخراب والدمار والدماء، وسط الأوغاد واللصوص والمجرمين.. يا إلهي كم كانت تلك الأيام جميلة، وكم كان ناسها طيبين..!
***
كانت أيام الخميس بالنسبة للأطفال الذين يرتادون السوق أعيادا بهيجة.. ولكن كان إحداها بالنسبة لي يوم غضب وعراك.. كان المجنون على عبدالله نائف، ويدعى “العولقية” مشهورا لدى الاطفال.. كانت تداهمه نوبه توتر وتشنج عصبي.. حركة انفعال تهب فيه فجأة، وفيها نوع من العدوانية، وافراغ شحنة من التوتر والغضب، تصاحبها اطلاق كلمات شاتمة وألفاظ سب، ويستحضر فيها اسم “العولقية”..
الحقيقة لا ندري ما سر هذه “العولقية” في حياة هذا “المجنون”!! وما علاقته بها!! ليتم تسميته باسمها!! “العولقية” هي اللغز المغلق في حياة هذا الرجل المبتلى بحالة نفسية وعصبية وضربا من الـ “جنون”..
تذكرت هذا، وأنا أقرأ قصة نجيب محفوظ “همس الجنون”، والذي كتبها في ثلاثينات القرن الماضي، متقمصا الحالة، وفيها يحاول الإجابة على سؤال ما هو الجنون؟! كتب في مستهلها: "إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، والجوهر، فسر مغلق"
كان “المجنون” “عولقية” يشكل هاجسا قلقا وخوفا للأطفال في السوق.. كانوا يذعرون منه عندما يشاهدونه.. وكان أحيانا يهاجمهم ويلاحقهم، دون سبب، لاسيما إذا انتابته الحالة، فيهجم ويضرب بيده من يجده أمامه من الاطفال، ويواصل سيره دون أن يعير بالا لأحد..
وفي بعض الأحيان كان يراجم بالحجارة، ويقوم بحركات متعدية، تجلب الفزع والخوف للأطفال، وأحيانا يعترضه الكبار، ويصرخون في وجهه: “بلا جنان فجّعت الجهال” لا أدري في الحقيقة لماذا يفعل هذا؟! لماذا عدوانية هذا “الجنون” تتجه في شطر منها نحو الأطفال؟! هل ألحق الاطفال فيه يوما اعتداء أو أذى أو استفزازا مثيرا؟!! لا أدري!
ومع هذا “المجنون” كان لي قصة.. لا أدري كم كان عمري يومها عندما تفاجأت وهو يشق الزحام في السوق، ويسكع رأسي من قفاي بضربه قوية.. لا أدري كيف ركبتني نوبة غضب وانفعال “مجنون”.. اعتركت معه، وكان المجنون يطلب من الناس التدخل لفض العراك ويسألهم: ابن من هذا المجنون؟!! فيما كان الأطفال يحيطون بنا، ويتابعون ما يحدث..
(16)
سوق الخميس والعولقية !!
أحمد سيف حاشد
عندما كنّا أطفالا في القرية، كنا ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر، ولو طلبت الأقدار منّا التمنّي بما نرغب ونشتهي، لطلبنا منها أن تجعل كل أيامنا خميسا لا ينقطع ولا ينتهي..
كان يغمرنا الفرح حالما نرتاد سوق الخميس.. ننتظره بشوق ولهفة.. كان هذا السوق بالنسبة لنا نحن الاطفال أشبه ببازار أو كرنفال بهيج.. الخميس يوم زاه ومميز في أيام الأسبوع.. لولا هذا اليوم لاختلطت أيامنا حابلها بنابلها.. كانت أيام الخميس تيجان أيامنا، وفواصلها البهيجة.. أيامنا القادمات والذاهبات ليس لها معنى بدون يوم الخميس.. يوم الخميس فسحتنا الجميلة التي نرى فيها ما لا نراه ولا نسمعه في الأيام الأخريات..
كان الهدير والصخب يميز هذا المكان وهذا اليوم البهيج.. إنه المكان الذي يجتمع فيه الناس.. يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب.. يقطعون المسافات البعيدة، ويتجشمون مشقة التضاريس، ويتحدّون حدود التشطير، ويلتقون في سوق الخميس.. يسلمون على بعض بلهفة واشتياق، ويتحدثون إلى بعضهم بحفاوة وحرارة..
يكتظ مركز السوق برواده، وتمتد أطرافه.. يموج بالبشر والسلع.. بيعا وشراء وحياة تدب فيه دبوب.. تسمع هدير وهمهمات السوق قبل أن تراه أو تصل إليه.. صخب وجلبة وحياة ونشاط دؤوب.. يبتاعون ويشترون .. يتحدثون ويقهقهون..
بعضهم يتناول فطور الصباح، وبعضهم يحتسي الشاي والقهوة، وبعضهم يتناول وجبة الغداء في عز النهار.. هناك مقهى لـ “دولة” وهي امرأة بيضاء فارعة الطول، مليحة الوجه وزاد الوشم فيه جمالا وتأنقا.. ولم تكن جائحة التشدد والتزمت بعد قد وصلت إلي قرانا، ولم يكن يومها الخمار يُضرب على وجوه النساء، وكانت العفة والبراءة والطيبة هي التي تسود دون خدش حياء أو تعرّض لتحرش، أو وجود ما يفسد البراءة والحياة..
في سوق الخميس كان هناك مقهى لـ”رُكيز” الرجل المبتسم الطيب، الذي تشعر وأنت تراه بالألفة والرضى والارتياح.. كان ما تصنع يداه من الطعام مشتهى، وقهوته تحسّن الكيف وتعدّل المزاج.. وهناك حميد أنعم الرجل الفقير والطيب، يبيع الماء البارد والليم الحامض ؛ ويعلن بصوته الرخيم "البانهيس.. البانهيس"..
كثيرون في السوق يعلنون ويروّجون لسلعهم، وأحيانا يعتلي “المطرِّب” مكان مرتفع من السوق، وتسمع إعلانات للموالد والمناسبات أو ما يهم الناس من شأن عام، ويُستهل الإعلان بـ “الحاضر يعلم الغائب..” جميع هؤلاء الناس رحلوا، ووجدنا اليوم أنفسنا في حضرة الحرب والخراب والدمار والدماء، وسط الأوغاد واللصوص والمجرمين.. يا إلهي كم كانت تلك الأيام جميلة، وكم كان ناسها طيبين..!
***
كانت أيام الخميس بالنسبة للأطفال الذين يرتادون السوق أعيادا بهيجة.. ولكن كان إحداها بالنسبة لي يوم غضب وعراك.. كان المجنون على عبدالله نائف، ويدعى “العولقية” مشهورا لدى الاطفال.. كانت تداهمه نوبه توتر وتشنج عصبي.. حركة انفعال تهب فيه فجأة، وفيها نوع من العدوانية، وافراغ شحنة من التوتر والغضب، تصاحبها اطلاق كلمات شاتمة وألفاظ سب، ويستحضر فيها اسم “العولقية”..
الحقيقة لا ندري ما سر هذه “العولقية” في حياة هذا “المجنون”!! وما علاقته بها!! ليتم تسميته باسمها!! “العولقية” هي اللغز المغلق في حياة هذا الرجل المبتلى بحالة نفسية وعصبية وضربا من الـ “جنون”..
تذكرت هذا، وأنا أقرأ قصة نجيب محفوظ “همس الجنون”، والذي كتبها في ثلاثينات القرن الماضي، متقمصا الحالة، وفيها يحاول الإجابة على سؤال ما هو الجنون؟! كتب في مستهلها: "إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، والجوهر، فسر مغلق"
كان “المجنون” “عولقية” يشكل هاجسا قلقا وخوفا للأطفال في السوق.. كانوا يذعرون منه عندما يشاهدونه.. وكان أحيانا يهاجمهم ويلاحقهم، دون سبب، لاسيما إذا انتابته الحالة، فيهجم ويضرب بيده من يجده أمامه من الاطفال، ويواصل سيره دون أن يعير بالا لأحد..
وفي بعض الأحيان كان يراجم بالحجارة، ويقوم بحركات متعدية، تجلب الفزع والخوف للأطفال، وأحيانا يعترضه الكبار، ويصرخون في وجهه: “بلا جنان فجّعت الجهال” لا أدري في الحقيقة لماذا يفعل هذا؟! لماذا عدوانية هذا “الجنون” تتجه في شطر منها نحو الأطفال؟! هل ألحق الاطفال فيه يوما اعتداء أو أذى أو استفزازا مثيرا؟!! لا أدري!
ومع هذا “المجنون” كان لي قصة.. لا أدري كم كان عمري يومها عندما تفاجأت وهو يشق الزحام في السوق، ويسكع رأسي من قفاي بضربه قوية.. لا أدري كيف ركبتني نوبة غضب وانفعال “مجنون”.. اعتركت معه، وكان المجنون يطلب من الناس التدخل لفض العراك ويسألهم: ابن من هذا المجنون؟!! فيما كان الأطفال يحيطون بنا، ويتابعون ما يحدث..
تدخّل الناس وفضّوا العراك.. بدا لي يومها أن الجنون مع الجنون يفلح.. تذكرت هذا قبل سنوات، وأنا اشتبك بالكلام مع بعض المجانين، غير أنني اكتشفت مؤخرا أن لا تضيّع كثيرا من وقتك بمراجمة المجانين، أو لا بأس أن تعترك معهم، دون أن تكف عن البحث عمن يقف وراءهم، وداعميهم.. فإذا وجدتهم عليك بهم، هؤلاء الأوغاد يستحقون الجنون، وحتى النتائج مهما غلظت وعظمت عليك..
بدأ “العولقية” يسأل عن والدي، وعندما دلوه عليه، وكان معروفا في السوق، شكاني إليه وقال له: “
- معك ابن مجنون.. شوف ابنك ايش فعل بي! ..
وكان يعرض على والدي قميصه المقطوع، وأثار الأظافر والخربشة على يديه وبعضا من أجزاء جسده!.. غير أن الأطفال الموجودين، ومنهم ياسين عبد الوهاب أنجدوني بشهادة لصالحي، وشهدوا أن “العولقية” هو من بدأ بلطمي في رأسي، وبتلك الشهادة، نجوت من عقاب قاس كان ينتظرني من والدي المعهود بالشدة والصرامة.. من يومها قيل إن “عولقية” كف عن العدوانية حيال الأطفال..
رحل “العولقية” قبل سنوات قليلة، وقيل إنه تعافي من حالته النفسية قبل أن يموت.. ولكن لم تمهله أمراضه الأخرى كثيرا من الوقت.. لم أره منذ وقت بعيد.. رحل عن الحياة بهدوء.. رحمة ربنا تغشاه..
*
كانت البراءة في تلك الأيام غامرة، وكانت حرية المرأة أكبر، والسواد على النساء لا نراه إلا بثوب "الثبيت" الجميل قبل أن تفتك بنا الوهابية والأفكار السلفية المتشددة التي جاءت من خارج اليمن في مستهل الثمانينات..
لازلت أذكر كلمات عمتي "سنبلة" أم عبده فريد مع أحد مسوقي التشدد والتزمُّت في قرانا في تلك الأيام، حالما كان يحاول أن يسلّم عليها بطرف أصابعه، وهو يلفها بخرقة القماش التي كان طرفاها مسدولين على جانب يديه ومدوره على عدنيه من الخلف..
فقالت له:
- إلى أمس يا ابني وأنت تبول فوقي.. كنت "أبوّلك" و"أخرّيك" واليوم لا تريد أن تسلِّم عليّ إلا بالمشدة.. أني مثل أمك.. من أين أتيتم بهذا الدين؟!!
لقد كان احتجاجا قاسيا على هذا الجحود والتصرف السطحي الذي أبداه هذا الصغير على مرأة بسن ومقام أمه.. ولكن كان هذا الجحود يتم باسم الدين، وقد اغتالوا البراءة والطيبة التي كانت تسود..
*
يتبع..
الصورة لبقايا أطلال سوق الخميس الذي تلاشى أو صار أثرا بعد عين..
بدأ “العولقية” يسأل عن والدي، وعندما دلوه عليه، وكان معروفا في السوق، شكاني إليه وقال له: “
- معك ابن مجنون.. شوف ابنك ايش فعل بي! ..
وكان يعرض على والدي قميصه المقطوع، وأثار الأظافر والخربشة على يديه وبعضا من أجزاء جسده!.. غير أن الأطفال الموجودين، ومنهم ياسين عبد الوهاب أنجدوني بشهادة لصالحي، وشهدوا أن “العولقية” هو من بدأ بلطمي في رأسي، وبتلك الشهادة، نجوت من عقاب قاس كان ينتظرني من والدي المعهود بالشدة والصرامة.. من يومها قيل إن “عولقية” كف عن العدوانية حيال الأطفال..
رحل “العولقية” قبل سنوات قليلة، وقيل إنه تعافي من حالته النفسية قبل أن يموت.. ولكن لم تمهله أمراضه الأخرى كثيرا من الوقت.. لم أره منذ وقت بعيد.. رحل عن الحياة بهدوء.. رحمة ربنا تغشاه..
*
كانت البراءة في تلك الأيام غامرة، وكانت حرية المرأة أكبر، والسواد على النساء لا نراه إلا بثوب "الثبيت" الجميل قبل أن تفتك بنا الوهابية والأفكار السلفية المتشددة التي جاءت من خارج اليمن في مستهل الثمانينات..
لازلت أذكر كلمات عمتي "سنبلة" أم عبده فريد مع أحد مسوقي التشدد والتزمُّت في قرانا في تلك الأيام، حالما كان يحاول أن يسلّم عليها بطرف أصابعه، وهو يلفها بخرقة القماش التي كان طرفاها مسدولين على جانب يديه ومدوره على عدنيه من الخلف..
فقالت له:
- إلى أمس يا ابني وأنت تبول فوقي.. كنت "أبوّلك" و"أخرّيك" واليوم لا تريد أن تسلِّم عليّ إلا بالمشدة.. أني مثل أمك.. من أين أتيتم بهذا الدين؟!!
لقد كان احتجاجا قاسيا على هذا الجحود والتصرف السطحي الذي أبداه هذا الصغير على مرأة بسن ومقام أمه.. ولكن كان هذا الجحود يتم باسم الدين، وقد اغتالوا البراءة والطيبة التي كانت تسود..
*
يتبع..
الصورة لبقايا أطلال سوق الخميس الذي تلاشى أو صار أثرا بعد عين..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(17)
رهافة طفل!
أحمد سيف حاشد
كنت طفلا صغيرا مُرهف الحس والحواس.. جياش العواطف والمشاعر.. كثير من التصرفات التي تبدّت منّي في تلك المرحلة ربما كانت طبيعية بفعل كثافة وتدافع تلك الأحاسيس والمشاعر في عهد الطفولة المتـأججة بها، أمّا أن ترافقني بعضها في كِبري، بل وأنا متجها نحو ستينات عمري، فربما بدت للكثيرين غير سوية، إن لم تكن بلهاء وساذجة..
لازلت أتذكّر وأنا أضع أنواع من الحبوب على أبوب بيوت النمل لتقتات منها، وقد رمتُ أن تعيش برغد ورخاء، أو أخفف عنها تعب وإملاق، وأجنّبها خطر أشد.. أحيانا أفيض عليها بالكرم إن توقعتُ تأخر مجيئي إليها في المرة القادمة.. كنت لا أريدها أن تذهب بعيدا عن بيوتها، حتى لا تخاطر بحياتها، وتتعرض للدوس تحت أقدام البشر، أو السحق تحت حوافر الماشية..
أساعدها في بناء بيوت لها غائرة في الطين، وأحصّنها بالحجارة والصفيح حتى أقيئها من خراب السيل، وغمر المطر، وحتّى تظل بيوتها عامرة لا يطولها هدم أو خراب.. هكذا كنتُ أفكر، وأكثر منه أحاول التحدث إليها في خلوتي معها لإفهامها بما أفعله، وما أريده منها، وما أحاول أن أجنّبها إياه من المخاطر التي أراها وشيكة أو مُحدقة..
كنت أحيانا أجمع بعض النمل الشارد والتائه، وأبني لها مستوطنة، داخل صفيح عُلبة الحليب “النيدو” الفارغة، بعد أن أملاؤها بعجين الطين، وابني لها غرف ومخازن أقوم بتعبئتها بأنواع الحبوب، حتى لا تموت ولا تجوع، ولا تهجر ديارها المستحدثة..
حرستُ النمل ورعيتها أياما وأسابيعا، وعند سفري الى عدن ذهبت بعلبة الصفيح إلى مكان قصي وآمن.. غرستها في أرض أبي، ووفرت لها كثيرا من الحبوب لتقتات وتعيش أطول فترة ممكنة، رغم ضجيج الخالة، ومعارضتها لما أفعله، حتى بديت أمامها كطفل مختل ومعتوه وهي تسترق السمع، وأنا أتحدث إلى النمل في خلوتي معها..
*
وفي واقعة أخرى وضعتُ مصيدة للفئران.. وفي الصباح وجدت الفأرة هامدة، وقد وقعت في قبضة المصيدة الضارب حديدها على عنقها المخنوق، والمسنود من الأسفل بنتوءات وأسنان حداد صارت ناشبة في أسفل عنقها، وقد فاض روحها، ربما منذ ساعات..
رأيتُ فأرا صغيرا بجوارها، يكاد يكون لصيقا بها في مشهد مؤثر ومُحزن.. شاهدته وكأن الحسرة تتملكه وتشل قواه.. رأيته يتنفس بسرعة، مثقلا بحزن وحيرة.. توقعتُ أن يهرب لمجرد أن يرى قدومي إليه وأنا أقترب منه، ولكنه لم يهرب ولم يحاول.. حاولتُ أن أستثير نفوره وأثير فيه غريزة الحياة أو النجاة، لكنه بدأ لي غير مبال ولا مكترث.. رفض الهروب أو مبارحة المكان.. تسألت مع نفسي: هل هو قليل الخبرة بالموت أم أنه لا يدرك أفعال البشر..؟! أم أنه لم يأنس إلا بالبقاء جوار أمه المخنوقة، واستحال عليه فراقها، حتى وإن لحق بها؟!
تأثرت بالمشهد، وساحت من عيوني الدموع.. رجوتُ الصفح من ضحية فارقتها الحياة، غير أنها لم تعد تقوى على الصفح والغفران، وقد ذهبت روحها إلى باريها في السماء.. حاولت أن أكفّر عن جريرتي بإطعام صغيرها، وتحريره بنقله إلى مكان يقتات منه، وتشتد فيه قواه، ويعيش حرا طليقا، ودعوتُ له بطول العُمر وطيب الإقامة..
ربما تمنيت أن أرثي الأم القتيلة، ولكن من يوحي لي بآية، أو يتلبسني لأبدع القصيدة؟!! ندمت على فعلتي أشد الندم.. حزنتُ كثيرا لهذا القدر.. دعوتُ الله، وطلبت منه المغفرة، وقرأت لروحها ما حفظتُ من سور قصار من القرآن، وشيعتها بمراسيم دفن بدت مهيبة..
رحلت روحها إلى باريها، وبقي السؤال إلى اليوم ينهش رأسي، وينقر ذاكرتي المنهكة؛ لماذا يحدث كل هذا وما ماثله، وأكثر منه ما هو فادح في حرب أكثر بشاعة و وخامه..؟! الحقيقة أنه أكثر من سؤال.. أكبر من حيرة، وألغز من لغز لم أجب عليه حتى يومنا هذا، وقد صرتُ أدنو من الستين..!! فيما رجع الصدى كان يجوس داخلي ويخبرني ويعترض: لا يمكن أن تكون عبثية الحياة والموت حكمة!!
*
في العام 2005 إن لم يكن في العام الذي يليه، حدثت حالة مماثلة، في عمارة “الفاقوس” بصنعاء التي كنت أقيم فيها، بعد أن وضع أحد أبنائي دون علمي مصيدة للفئران؛ فأمسكت بيد أحد الفئران، والعجيب أن عدد من الفئران ظلوا يحومون حوله.. ربما يحاولون فعل شيء ليس بمقدورهم فعله، وربما حتّى فهمه.. كانوا يتوجعون لما أصاب رفيقهم، وربما يحاولون إنقاذه، أو هذا ما كانوا يرجونه في لحظة قاسية كتلك..
عندما رأيت هذا المشهد، هرعت لإطلاق الفأر الواقع يده في قبضة شرك المصيدة، وفضلا عن ذلك حرصتُ على منح النجاة لجميع الفئران الذين كانوا يحومون حوله، وعلى مقربة منه.. إنهم يستحقون النجاة على الأقل لأنهم لم يخذلوه ولم يتركوه.. كانوا الأكثر وفاء له في محنته، وفي أسره ومُصابه..
***
كنت وأنا صغيرا أمنع أمي أن تذبح دجاجة لتعينني على المرض.. معالجة المرض بمرق الدجاج ولحمها، كان لدي غير مستساغ ولا مستلطف، إن لم يكن أحيانا أشبه بمعالجة المريض بالكي ووسم الجلد بالنار قبل أن أعتاد على الحال..
(17)
رهافة طفل!
أحمد سيف حاشد
كنت طفلا صغيرا مُرهف الحس والحواس.. جياش العواطف والمشاعر.. كثير من التصرفات التي تبدّت منّي في تلك المرحلة ربما كانت طبيعية بفعل كثافة وتدافع تلك الأحاسيس والمشاعر في عهد الطفولة المتـأججة بها، أمّا أن ترافقني بعضها في كِبري، بل وأنا متجها نحو ستينات عمري، فربما بدت للكثيرين غير سوية، إن لم تكن بلهاء وساذجة..
لازلت أتذكّر وأنا أضع أنواع من الحبوب على أبوب بيوت النمل لتقتات منها، وقد رمتُ أن تعيش برغد ورخاء، أو أخفف عنها تعب وإملاق، وأجنّبها خطر أشد.. أحيانا أفيض عليها بالكرم إن توقعتُ تأخر مجيئي إليها في المرة القادمة.. كنت لا أريدها أن تذهب بعيدا عن بيوتها، حتى لا تخاطر بحياتها، وتتعرض للدوس تحت أقدام البشر، أو السحق تحت حوافر الماشية..
أساعدها في بناء بيوت لها غائرة في الطين، وأحصّنها بالحجارة والصفيح حتى أقيئها من خراب السيل، وغمر المطر، وحتّى تظل بيوتها عامرة لا يطولها هدم أو خراب.. هكذا كنتُ أفكر، وأكثر منه أحاول التحدث إليها في خلوتي معها لإفهامها بما أفعله، وما أريده منها، وما أحاول أن أجنّبها إياه من المخاطر التي أراها وشيكة أو مُحدقة..
كنت أحيانا أجمع بعض النمل الشارد والتائه، وأبني لها مستوطنة، داخل صفيح عُلبة الحليب “النيدو” الفارغة، بعد أن أملاؤها بعجين الطين، وابني لها غرف ومخازن أقوم بتعبئتها بأنواع الحبوب، حتى لا تموت ولا تجوع، ولا تهجر ديارها المستحدثة..
حرستُ النمل ورعيتها أياما وأسابيعا، وعند سفري الى عدن ذهبت بعلبة الصفيح إلى مكان قصي وآمن.. غرستها في أرض أبي، ووفرت لها كثيرا من الحبوب لتقتات وتعيش أطول فترة ممكنة، رغم ضجيج الخالة، ومعارضتها لما أفعله، حتى بديت أمامها كطفل مختل ومعتوه وهي تسترق السمع، وأنا أتحدث إلى النمل في خلوتي معها..
*
وفي واقعة أخرى وضعتُ مصيدة للفئران.. وفي الصباح وجدت الفأرة هامدة، وقد وقعت في قبضة المصيدة الضارب حديدها على عنقها المخنوق، والمسنود من الأسفل بنتوءات وأسنان حداد صارت ناشبة في أسفل عنقها، وقد فاض روحها، ربما منذ ساعات..
رأيتُ فأرا صغيرا بجوارها، يكاد يكون لصيقا بها في مشهد مؤثر ومُحزن.. شاهدته وكأن الحسرة تتملكه وتشل قواه.. رأيته يتنفس بسرعة، مثقلا بحزن وحيرة.. توقعتُ أن يهرب لمجرد أن يرى قدومي إليه وأنا أقترب منه، ولكنه لم يهرب ولم يحاول.. حاولتُ أن أستثير نفوره وأثير فيه غريزة الحياة أو النجاة، لكنه بدأ لي غير مبال ولا مكترث.. رفض الهروب أو مبارحة المكان.. تسألت مع نفسي: هل هو قليل الخبرة بالموت أم أنه لا يدرك أفعال البشر..؟! أم أنه لم يأنس إلا بالبقاء جوار أمه المخنوقة، واستحال عليه فراقها، حتى وإن لحق بها؟!
تأثرت بالمشهد، وساحت من عيوني الدموع.. رجوتُ الصفح من ضحية فارقتها الحياة، غير أنها لم تعد تقوى على الصفح والغفران، وقد ذهبت روحها إلى باريها في السماء.. حاولت أن أكفّر عن جريرتي بإطعام صغيرها، وتحريره بنقله إلى مكان يقتات منه، وتشتد فيه قواه، ويعيش حرا طليقا، ودعوتُ له بطول العُمر وطيب الإقامة..
ربما تمنيت أن أرثي الأم القتيلة، ولكن من يوحي لي بآية، أو يتلبسني لأبدع القصيدة؟!! ندمت على فعلتي أشد الندم.. حزنتُ كثيرا لهذا القدر.. دعوتُ الله، وطلبت منه المغفرة، وقرأت لروحها ما حفظتُ من سور قصار من القرآن، وشيعتها بمراسيم دفن بدت مهيبة..
رحلت روحها إلى باريها، وبقي السؤال إلى اليوم ينهش رأسي، وينقر ذاكرتي المنهكة؛ لماذا يحدث كل هذا وما ماثله، وأكثر منه ما هو فادح في حرب أكثر بشاعة و وخامه..؟! الحقيقة أنه أكثر من سؤال.. أكبر من حيرة، وألغز من لغز لم أجب عليه حتى يومنا هذا، وقد صرتُ أدنو من الستين..!! فيما رجع الصدى كان يجوس داخلي ويخبرني ويعترض: لا يمكن أن تكون عبثية الحياة والموت حكمة!!
*
في العام 2005 إن لم يكن في العام الذي يليه، حدثت حالة مماثلة، في عمارة “الفاقوس” بصنعاء التي كنت أقيم فيها، بعد أن وضع أحد أبنائي دون علمي مصيدة للفئران؛ فأمسكت بيد أحد الفئران، والعجيب أن عدد من الفئران ظلوا يحومون حوله.. ربما يحاولون فعل شيء ليس بمقدورهم فعله، وربما حتّى فهمه.. كانوا يتوجعون لما أصاب رفيقهم، وربما يحاولون إنقاذه، أو هذا ما كانوا يرجونه في لحظة قاسية كتلك..
عندما رأيت هذا المشهد، هرعت لإطلاق الفأر الواقع يده في قبضة شرك المصيدة، وفضلا عن ذلك حرصتُ على منح النجاة لجميع الفئران الذين كانوا يحومون حوله، وعلى مقربة منه.. إنهم يستحقون النجاة على الأقل لأنهم لم يخذلوه ولم يتركوه.. كانوا الأكثر وفاء له في محنته، وفي أسره ومُصابه..
***
كنت وأنا صغيرا أمنع أمي أن تذبح دجاجة لتعينني على المرض.. معالجة المرض بمرق الدجاج ولحمها، كان لدي غير مستساغ ولا مستلطف، إن لم يكن أحيانا أشبه بمعالجة المريض بالكي ووسم الجلد بالنار قبل أن أعتاد على الحال..
كنت أشعر بسعادة غامرة، وأنا أطيل في عمر دجاجنا، وأكتفي ببيضها.. أشعر براحة عميقة، وأنا أرى الدجاج تعيش، وقد أنقذتها من مصير ذابح وأليم.. تغمرني السعادة وأنا أسمع صوتها طربة في الأيام التي تلي يوم إنقاذها، أو أراها مشرقة وعاشقة للحياة.. أشعر مليا أن الحياة أولى وأحق من الموت والمرض.. ولكن واقع اليوم صادم ومُراغم فرض علينا شروطه وقسوته، والعالم مُحيّر عظيم، والحيرة صارت كبيرة، وطغيانها علينا صار أشد وأثقل.
*
تملكتُ يوما أنثى قرد صغيرة أهدتني إياها إحدى العجائز، أو ربما اشترتها لي أمي بعد أن لاحظت تعلقي بها من النظرة الأولى كعاشق لهوف.. الحقيقة لم أعد أذكر كيف تملكتها، ولكن أذكر إن السعادة كانت تغمرني إلى حد يفوق التصور.. أول مرة أرى "قردة" بهذا القُرب في المسافة، وأرى بعض تصرفاتها تحاكي أو تقارب تصرفاتنا، بل وتمنحنا الفرح والضحك والابتسامات العريضة والمُشرقة..
كانت هذه “القردة” تلاطفني وتبادلني مشاعر الود والبراءة.. تملأ فراغي وتجلب لي كثير من الفرح والسعادة والعجب.. كانت تملأ حياتي بهجة، وربما أعوّضها وتعوضني كثير من حنان فقده كلانا.. أحبها بجنون.. تأسرني وآسرها بحميمية تغمرنا وتفيض.. أهتم بها إلى حد بعيد، وهي أيضا تهتم بي على نحو لا يصدق..
جاء والدي من عدن، وأول ما رآني معها وكأن تدرّعه ألف شيطان.. ضربني وضربها.. كنت جلدا وقادرا على احتمال الضرب، غير أنني غير قادرا على فراقها.. ولكنه أرغمني مكرها على تركها للجبل، ومصير لازال مجهول..
كانت الفكرة لديّ والتي سمعتها من إحدى العمّات بما معناه أن قطيع القرود في الجبل لا يقبلوا ”قردة” من خارج قطيعهم بل سيهاجمونها بشدة.. سيفتكون بها وسيأكلونها، لأنها فقط غريبة عنهم ولا تنتمي إلى قطيعهم، ولأن رائحة البشر تظل عالقة فيها ولن تفارقها.. كنت أتخيل مصيرها فاجعا ووحشيا..
عشتُ ألما بالغا ربما أضعاف الألم الذي كنتُ أتخيلها فيه.. عشت كآبة تشبه كآبة الحِداد.. حسرة بدت لي لا حدود لها.. كان حالي أشبه بمن فقد عزيز حميم لا يستطيع العيش دونه.. حميم غيب الموت صاحبه، أو حبيب غيب الموت محبه للأبد..
كنت أتخيّلها وهي في الجبل تعاني الجوع والعطش, ويعصرها ألم الفراق، وكثير مما لا تطيق من تيه وفقدان، ومصير بات مجهولا، واحتمالاته مفُزعة.. أغلب الظن بل لا شك إن نهايتها ستكون فاجعة وأليمة..
صرتُ لوقت أعاني أكثر مما أحتمل.. أشعر أن جسمي النحيل بات محطما ومهدودا لا حيل له.. خيالي يسرح بعيدا مستقصيا معاناتها المريرة.. مصابنا جلل، ومعاناة كلانا تبدو مهولة..
كنت أتخيلها وهي تلوذ إلى قطيع القردة تسترحمهم وترجوهم، فيما القرود تهاجمها ببشاعة، وتنهشها بشراهة وحوش آكلة اللحوم.. تُمزق جلدها، وتغرس أنيابها في جسدها النحيل، وتتنازع أوصالها وأشلاءها.. عشت ألم وحسرة فاق يومها ذاكرتي المنهكة..
لقد كانت طفولة في جانب منها تنزع نحو تمرد إنساني ربما في بعضها كان من نوع آخر.. أحسست أنها طفولة تليق بإنسانيتي، وفيه يختلج احتجاج على الموت والعبث وهذه الحياة البائسة..
*
رهافتي لازالت ترافقني على الكِبر، وترفض أن تغادرني حتّى وإن سخرت منّي مكابرة الرجولة.. لازال ضميري يعاتبني حالما أتجاهله.. لازالت احتجاجات الوجود تضج داخلي وتملئني بالضجيج.. لازال داخلي إنسان يصرخ ويستنطق ضميري في كل موقف ومأساة..
في هذه الحرب البشعة والمرعبة باتت مأساتنا أجل وأكبر من هذا الكون الكبير، ومن هذه الحرب الضروس التي طال آمادها.. هذه الحرب التي صبت على رؤوسنا جحيما وويلات كبار، ولم تعد تميّز بين الحجارة والبشر.. كبرتُ وخبرتُ الحياة أكثر، ولازالت رهافتي تتسع، واحتجاجي لازال يكبر..
لازلتُ إلى اليوم في كثير منّي مسكونا بذلك الطفل الصغير، وقد صرتُ أوغل في المشيب، وربما أدنو من كهولة تقترب.. باتت السنة الواحدة في هذه الحرب الضروس أكبر من سبع سنوات عجاف، وصارت الحرب بطولها لا تريد أن تنتهي..
نفي النفي ينتظرني على حواف قبر ليهيل على جسدي التراب، والمجهول بات يسارع خطاه في المجيء نحونا دون كفن ولا قبر.. القبور تزاحمت.. ضاقت بنا المقابر.. المقابر باتت بلا شُرفات أو منافس، والأجساد باتت تبحث عن أكفانها، في وطن تلاشى حتّى بات أصغر من قبر لازال يجهل عمر صاحبه..
***
يتبع..
*
تملكتُ يوما أنثى قرد صغيرة أهدتني إياها إحدى العجائز، أو ربما اشترتها لي أمي بعد أن لاحظت تعلقي بها من النظرة الأولى كعاشق لهوف.. الحقيقة لم أعد أذكر كيف تملكتها، ولكن أذكر إن السعادة كانت تغمرني إلى حد يفوق التصور.. أول مرة أرى "قردة" بهذا القُرب في المسافة، وأرى بعض تصرفاتها تحاكي أو تقارب تصرفاتنا، بل وتمنحنا الفرح والضحك والابتسامات العريضة والمُشرقة..
كانت هذه “القردة” تلاطفني وتبادلني مشاعر الود والبراءة.. تملأ فراغي وتجلب لي كثير من الفرح والسعادة والعجب.. كانت تملأ حياتي بهجة، وربما أعوّضها وتعوضني كثير من حنان فقده كلانا.. أحبها بجنون.. تأسرني وآسرها بحميمية تغمرنا وتفيض.. أهتم بها إلى حد بعيد، وهي أيضا تهتم بي على نحو لا يصدق..
جاء والدي من عدن، وأول ما رآني معها وكأن تدرّعه ألف شيطان.. ضربني وضربها.. كنت جلدا وقادرا على احتمال الضرب، غير أنني غير قادرا على فراقها.. ولكنه أرغمني مكرها على تركها للجبل، ومصير لازال مجهول..
كانت الفكرة لديّ والتي سمعتها من إحدى العمّات بما معناه أن قطيع القرود في الجبل لا يقبلوا ”قردة” من خارج قطيعهم بل سيهاجمونها بشدة.. سيفتكون بها وسيأكلونها، لأنها فقط غريبة عنهم ولا تنتمي إلى قطيعهم، ولأن رائحة البشر تظل عالقة فيها ولن تفارقها.. كنت أتخيل مصيرها فاجعا ووحشيا..
عشتُ ألما بالغا ربما أضعاف الألم الذي كنتُ أتخيلها فيه.. عشت كآبة تشبه كآبة الحِداد.. حسرة بدت لي لا حدود لها.. كان حالي أشبه بمن فقد عزيز حميم لا يستطيع العيش دونه.. حميم غيب الموت صاحبه، أو حبيب غيب الموت محبه للأبد..
كنت أتخيّلها وهي في الجبل تعاني الجوع والعطش, ويعصرها ألم الفراق، وكثير مما لا تطيق من تيه وفقدان، ومصير بات مجهولا، واحتمالاته مفُزعة.. أغلب الظن بل لا شك إن نهايتها ستكون فاجعة وأليمة..
صرتُ لوقت أعاني أكثر مما أحتمل.. أشعر أن جسمي النحيل بات محطما ومهدودا لا حيل له.. خيالي يسرح بعيدا مستقصيا معاناتها المريرة.. مصابنا جلل، ومعاناة كلانا تبدو مهولة..
كنت أتخيلها وهي تلوذ إلى قطيع القردة تسترحمهم وترجوهم، فيما القرود تهاجمها ببشاعة، وتنهشها بشراهة وحوش آكلة اللحوم.. تُمزق جلدها، وتغرس أنيابها في جسدها النحيل، وتتنازع أوصالها وأشلاءها.. عشت ألم وحسرة فاق يومها ذاكرتي المنهكة..
لقد كانت طفولة في جانب منها تنزع نحو تمرد إنساني ربما في بعضها كان من نوع آخر.. أحسست أنها طفولة تليق بإنسانيتي، وفيه يختلج احتجاج على الموت والعبث وهذه الحياة البائسة..
*
رهافتي لازالت ترافقني على الكِبر، وترفض أن تغادرني حتّى وإن سخرت منّي مكابرة الرجولة.. لازال ضميري يعاتبني حالما أتجاهله.. لازالت احتجاجات الوجود تضج داخلي وتملئني بالضجيج.. لازال داخلي إنسان يصرخ ويستنطق ضميري في كل موقف ومأساة..
في هذه الحرب البشعة والمرعبة باتت مأساتنا أجل وأكبر من هذا الكون الكبير، ومن هذه الحرب الضروس التي طال آمادها.. هذه الحرب التي صبت على رؤوسنا جحيما وويلات كبار، ولم تعد تميّز بين الحجارة والبشر.. كبرتُ وخبرتُ الحياة أكثر، ولازالت رهافتي تتسع، واحتجاجي لازال يكبر..
لازلتُ إلى اليوم في كثير منّي مسكونا بذلك الطفل الصغير، وقد صرتُ أوغل في المشيب، وربما أدنو من كهولة تقترب.. باتت السنة الواحدة في هذه الحرب الضروس أكبر من سبع سنوات عجاف، وصارت الحرب بطولها لا تريد أن تنتهي..
نفي النفي ينتظرني على حواف قبر ليهيل على جسدي التراب، والمجهول بات يسارع خطاه في المجيء نحونا دون كفن ولا قبر.. القبور تزاحمت.. ضاقت بنا المقابر.. المقابر باتت بلا شُرفات أو منافس، والأجساد باتت تبحث عن أكفانها، في وطن تلاشى حتّى بات أصغر من قبر لازال يجهل عمر صاحبه..
***
يتبع..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
خليل العُمري ( إعـــلامي ) - تويتر:
كان وطنيا ومازال وطنيا، وخطابه المهاجم للأنصار له ما يبرره من فساد وممارسات وأحيانا خطاب سلالي مستفز من هذا وذاك، وذباب إلكتروني يعتبر الأقذر في العالم كم طفش ونفر علينا مناصرين من العيار الثقيل.
وكل سلطة في بلداننا تعتبر العداء لها خيانة والتطبيل وطنية.
خليل العُمري ( إعـــلامي ) - تويتر:
كان وطنيا ومازال وطنيا، وخطابه المهاجم للأنصار له ما يبرره من فساد وممارسات وأحيانا خطاب سلالي مستفز من هذا وذاك، وذباب إلكتروني يعتبر الأقذر في العالم كم طفش ونفر علينا مناصرين من العيار الثقيل.
وكل سلطة في بلداننا تعتبر العداء لها خيانة والتطبيل وطنية.
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
مجلس نواب صنعاء
لا يوفر السكر للبوفية
ولا بياض للجان لسحب التقارير
إننا نعيش عهد القحط والجراد
مجلس نواب صنعاء
لا يوفر السكر للبوفية
ولا بياض للجان لسحب التقارير
إننا نعيش عهد القحط والجراد
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
سياسة الصدمة
في عدن يرفعوا الصرف ضعفين وثلاثة ويرجعوك تطالب زيادة ضعفين ويعفوك من الثالث..
في مجلس نواب صنعاء تطالب بحقوق الشعب يجننونك ويرجعوك تلاحق ما بقي لك من حقوق..
تطالبهم بالحسابات الختامية يرجعوك تطالب بحق البياض لتصوير تقارير المجلس وسكر للبوفيه..
سياسة بنت كلب..
سياسة الصدمة
في عدن يرفعوا الصرف ضعفين وثلاثة ويرجعوك تطالب زيادة ضعفين ويعفوك من الثالث..
في مجلس نواب صنعاء تطالب بحقوق الشعب يجننونك ويرجعوك تلاحق ما بقي لك من حقوق..
تطالبهم بالحسابات الختامية يرجعوك تطالب بحق البياض لتصوير تقارير المجلس وسكر للبوفيه..
سياسة بنت كلب..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
خالد الصعدي عضو مجلس نواب:
خبر عاجل :
هيئة الرئاسه تريد خصم مبالغ ماليه حق التأمينات علي الموظفين وبعض الأعضاء وهذه المبالغ مسلمه للتأمينات كامله ويريدو يمررو هذا عبر تقرير من لجنة القوى العامله حيث تم استدعاء التأمينات الي اللجنه الخاصه بهذا الخصوص وتحدثوا الينا انه لا يوجد اي مبالغ عند المجلس..
خالد الصعدي عضو مجلس نواب:
خبر عاجل :
هيئة الرئاسه تريد خصم مبالغ ماليه حق التأمينات علي الموظفين وبعض الأعضاء وهذه المبالغ مسلمه للتأمينات كامله ويريدو يمررو هذا عبر تقرير من لجنة القوى العامله حيث تم استدعاء التأمينات الي اللجنه الخاصه بهذا الخصوص وتحدثوا الينا انه لا يوجد اي مبالغ عند المجلس..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
يقولوا لك: صنعاء تقصف..
وهم كل يوم يقصفوا الشعب في حقوقه..
الشعب الذي لا يريدوا أن نتحدث عنه الا على نحو يغطي قصفه اليومي..
يقولوا لك: صنعاء تقصف..
وهم كل يوم يقصفوا الشعب في حقوقه..
الشعب الذي لا يريدوا أن نتحدث عنه الا على نحو يغطي قصفه اليومي..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(18)
توجهات ونوازع وشرور
في المرحلة الأولى من حياتي كنتُ حساسا كجهاز قياس شديد الحساسية.. انطوائي وخجول وشفاف.. مرهف الحس وجياش العواطف.. متمردا إلى الحد الذي أثور فيه على أبي.. عاطفي إلى الحد الذي أفكر فيه بالخلاص من الحياة.. شقيا أحيانا إلى حد الجنون.. صراع أنتهى أن أنتصر فيه الخير على الشر، والحياة على الموت، والإنسان على ما عداه..
ربما يوما عبرت فكرة فاسدة في خاطري، ولكن سرعان ما يقاومها نقيضها داخلي.. ربما أردت يوما أن تكون لدي خيزرانه أنال بها من هم دوني كما كان يفعل الأستاذ مع طلابه، ثم أتذكر ما مررت به، فأطردها ولا أسمح لها أن تعاودني..
في طفولتي اعتديت على بيوت الدبابير، وكانت توا تلاحقني، ونالت لسعاتها مني، وتورم من لسعاتها وجهي، وثخن عنقي وأطرافي، وسرى سمّها في جسدي النحيل، وكان بعضها يحتاج إلى أيام لأتعافى وأبرأ من ورمها، والحمّى التي تعتريني بسبب لسعاتها..
كنت يومها أنا المعتدي، وكانت هي تدافع عن حقها في الحياة.. حقها في أن تعيش وقد وجدت نفسها في حياة مُرغمة.. لم أفطن هذا الحال يومها.. وعندما كبرتُ وجدت تلك الحياة لا تروقني، وتؤلمني شرورها.. أبحث عن العدالة، والخير المحض، وعالم لم يأت بعد وربما لن يأتي..
*
من أهم الكتب التي لعبت دورا في صياغة وعيي وتفكيري لاحقا، كتاب نقد الفكر الديني لصادق جلال العظم، وكتاب من تاريخ التعذيب السياسي في الإسلام لهادي العلوي، والنزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية لحسين مروّه، والحقيقة الغائبة لفرج فوده، وبعض كتب سلامة موسى، ورواية قرية البتول لمحمد حنيبر وغيرها.
حلمتُ أن أكون شهيدا.. تأثرت بقصة استشهاد سناء محيدلي.. كبرت ولم أنسِ قصتها، وأسميت ابنتي الأولى سناء تيمنا وأعجابا بهذه الفتاة اللبنانية التي نفذت عملية انتحارية ضد رتل من عربات الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان..
أعجبت وقرأت عن الثورة الكوبية، وعن الثوري جيفارا في مرحلة باكرة من حياتي.. أسميت ابني فيدل قبل أن يصير اسمه فادي عرفانا لفيدل كسترو ولكوبا قلعة الصمود، والصوت الذي كان ينحاز إلى قضايا العرب في المحافل الدولية إبان حرب "أمريكا" على العراق..
انتميت إلى اليسار، وأسميت ابني الثاني يسار قبل أن يصير اسمه يسري.. في مرحلة من حياتي صار انحيازي للفقراء ولليسار في الاقتصاد، وربما في مرحلة أخرى ملت للبرله فيما يتعلق بحرية الفكر، ولكن لاحقا وجدت اللبرلة كلها ربما لا تتسع لفكرة أو كتاب.
أما اليوم فأدعي أنني صرت صاحب رأي، وأنتمي للإنسان أولا، وأنزع للاستقلالية كثيرا، وأرفض أن أكون واحد في قطيع، ولا أحب القيود التي تريدني أن أعيش في جحورها، أو ماضيها البليد.. أقاوم الظلم والقهر والاستبداد تحت أي عنوان يجيء به، أو بأي مسمى كان.. صرت أعشق الحرية الى أبعد الحدود..
*
أن تكون في مرحلة من طفولتك أو كلّها مرهف الحس ورقيق المشاعر لا يعني أنك لم ترتكب في مرحلة ما حماقات وانفعالات وأفعال غير سوية، ربما يصل بعضها حد الجريمة أو يكاد.. عوامل شتّى ربما تدفعك في لحظة حرجة إلى فقدان صوابك، وعدم تقدير نتائج أفعالك، وربما تكون أنت والضحية معا ضحايا لواقعك..
أن تكون طفلا جيّاش العواطف لا يعني أنك ستكون حدثا سويا على وجه التمام، وأن حياتك المراهقة ستكون خالية من النتوءات الحادة أحيانا، وأنها لن تخرج عن المسلك السوي، وربما على نحو فظ.. حياة سيكتنفها كثير من التمرد، وربما الشقاوة والقساوة أيضا بوجه ما في مجتمع يمارس القسوة كفضيلة..
عشت قسوة الحياة في واقع أشد قساوة، وربما وجدت نفسي في لحظات ما وإن كانت عابرة مطبوعا بانفعال حاد، وارتكبت أو كدت أرتكب ما هو خارج سياقي ويتعارض مع طبيعتي وفطرتي، ولكن سرعان ما يعقبها الندم، أو الشعور بالذنب، والتمنّي أن لا أكون قد فعلت ما فعلته..
حياتي في جزء من طفولتي ومراهقتي ربما أتسمت فيها علاقتي مع والدي في بعضها بالقسوة، ولكن يمكنني القول أنه في العشر السنوات الأخيرة من حياة أبي قبل وفاته والذي توفى على الأرجح في الربع الأخير من نهاية العام 1997 كانت على خير ما يرام.. حب وود وإحساس كثيف كل منّا بالأخر..
مات أبي وهو راض عنّي إلى حد بعيد، وكنت راضيا عنه إلى ذلك الحد وأكثر.. تنازل هو عن قسوته وسلطته الأبوية الآمرة، وتنازلت أنا عن تمرداتي عليه.. وساد بيننا كثيرا من الحب والاحترام والتقدير..
فيما ظل تمردي ضد السلطة السياسية إلى يومنا هذا.. أعيش عناد لا يكل.. رفض ومراغمة ومقاومة مستمرة معها، ربما لأن السلطة المستبدة بأي لباس كانت غير أبي، ترفض التنازل عن سلطتها للناس، وتسعى بكدها وكديدها وعنفها إلى إخضاعهم لها، وتملكهم، وتملك حاضرهم ومستقبلهم أيضا..
لا أملك إلا أن أقول شكرا يا أبي، كنت لي مدرسة تعلمت ونهلت منها أن أقاوم السلطة التي تسعى لفرض سطوتها وسلطتها ورؤاها على الناس، وتريد أن تتملكهم، وتتملك حاضرهم ومستقبلهم إلى الأبد.
(18)
توجهات ونوازع وشرور
في المرحلة الأولى من حياتي كنتُ حساسا كجهاز قياس شديد الحساسية.. انطوائي وخجول وشفاف.. مرهف الحس وجياش العواطف.. متمردا إلى الحد الذي أثور فيه على أبي.. عاطفي إلى الحد الذي أفكر فيه بالخلاص من الحياة.. شقيا أحيانا إلى حد الجنون.. صراع أنتهى أن أنتصر فيه الخير على الشر، والحياة على الموت، والإنسان على ما عداه..
ربما يوما عبرت فكرة فاسدة في خاطري، ولكن سرعان ما يقاومها نقيضها داخلي.. ربما أردت يوما أن تكون لدي خيزرانه أنال بها من هم دوني كما كان يفعل الأستاذ مع طلابه، ثم أتذكر ما مررت به، فأطردها ولا أسمح لها أن تعاودني..
في طفولتي اعتديت على بيوت الدبابير، وكانت توا تلاحقني، ونالت لسعاتها مني، وتورم من لسعاتها وجهي، وثخن عنقي وأطرافي، وسرى سمّها في جسدي النحيل، وكان بعضها يحتاج إلى أيام لأتعافى وأبرأ من ورمها، والحمّى التي تعتريني بسبب لسعاتها..
كنت يومها أنا المعتدي، وكانت هي تدافع عن حقها في الحياة.. حقها في أن تعيش وقد وجدت نفسها في حياة مُرغمة.. لم أفطن هذا الحال يومها.. وعندما كبرتُ وجدت تلك الحياة لا تروقني، وتؤلمني شرورها.. أبحث عن العدالة، والخير المحض، وعالم لم يأت بعد وربما لن يأتي..
*
من أهم الكتب التي لعبت دورا في صياغة وعيي وتفكيري لاحقا، كتاب نقد الفكر الديني لصادق جلال العظم، وكتاب من تاريخ التعذيب السياسي في الإسلام لهادي العلوي، والنزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية لحسين مروّه، والحقيقة الغائبة لفرج فوده، وبعض كتب سلامة موسى، ورواية قرية البتول لمحمد حنيبر وغيرها.
حلمتُ أن أكون شهيدا.. تأثرت بقصة استشهاد سناء محيدلي.. كبرت ولم أنسِ قصتها، وأسميت ابنتي الأولى سناء تيمنا وأعجابا بهذه الفتاة اللبنانية التي نفذت عملية انتحارية ضد رتل من عربات الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان..
أعجبت وقرأت عن الثورة الكوبية، وعن الثوري جيفارا في مرحلة باكرة من حياتي.. أسميت ابني فيدل قبل أن يصير اسمه فادي عرفانا لفيدل كسترو ولكوبا قلعة الصمود، والصوت الذي كان ينحاز إلى قضايا العرب في المحافل الدولية إبان حرب "أمريكا" على العراق..
انتميت إلى اليسار، وأسميت ابني الثاني يسار قبل أن يصير اسمه يسري.. في مرحلة من حياتي صار انحيازي للفقراء ولليسار في الاقتصاد، وربما في مرحلة أخرى ملت للبرله فيما يتعلق بحرية الفكر، ولكن لاحقا وجدت اللبرلة كلها ربما لا تتسع لفكرة أو كتاب.
أما اليوم فأدعي أنني صرت صاحب رأي، وأنتمي للإنسان أولا، وأنزع للاستقلالية كثيرا، وأرفض أن أكون واحد في قطيع، ولا أحب القيود التي تريدني أن أعيش في جحورها، أو ماضيها البليد.. أقاوم الظلم والقهر والاستبداد تحت أي عنوان يجيء به، أو بأي مسمى كان.. صرت أعشق الحرية الى أبعد الحدود..
*
أن تكون في مرحلة من طفولتك أو كلّها مرهف الحس ورقيق المشاعر لا يعني أنك لم ترتكب في مرحلة ما حماقات وانفعالات وأفعال غير سوية، ربما يصل بعضها حد الجريمة أو يكاد.. عوامل شتّى ربما تدفعك في لحظة حرجة إلى فقدان صوابك، وعدم تقدير نتائج أفعالك، وربما تكون أنت والضحية معا ضحايا لواقعك..
أن تكون طفلا جيّاش العواطف لا يعني أنك ستكون حدثا سويا على وجه التمام، وأن حياتك المراهقة ستكون خالية من النتوءات الحادة أحيانا، وأنها لن تخرج عن المسلك السوي، وربما على نحو فظ.. حياة سيكتنفها كثير من التمرد، وربما الشقاوة والقساوة أيضا بوجه ما في مجتمع يمارس القسوة كفضيلة..
عشت قسوة الحياة في واقع أشد قساوة، وربما وجدت نفسي في لحظات ما وإن كانت عابرة مطبوعا بانفعال حاد، وارتكبت أو كدت أرتكب ما هو خارج سياقي ويتعارض مع طبيعتي وفطرتي، ولكن سرعان ما يعقبها الندم، أو الشعور بالذنب، والتمنّي أن لا أكون قد فعلت ما فعلته..
حياتي في جزء من طفولتي ومراهقتي ربما أتسمت فيها علاقتي مع والدي في بعضها بالقسوة، ولكن يمكنني القول أنه في العشر السنوات الأخيرة من حياة أبي قبل وفاته والذي توفى على الأرجح في الربع الأخير من نهاية العام 1997 كانت على خير ما يرام.. حب وود وإحساس كثيف كل منّا بالأخر..
مات أبي وهو راض عنّي إلى حد بعيد، وكنت راضيا عنه إلى ذلك الحد وأكثر.. تنازل هو عن قسوته وسلطته الأبوية الآمرة، وتنازلت أنا عن تمرداتي عليه.. وساد بيننا كثيرا من الحب والاحترام والتقدير..
فيما ظل تمردي ضد السلطة السياسية إلى يومنا هذا.. أعيش عناد لا يكل.. رفض ومراغمة ومقاومة مستمرة معها، ربما لأن السلطة المستبدة بأي لباس كانت غير أبي، ترفض التنازل عن سلطتها للناس، وتسعى بكدها وكديدها وعنفها إلى إخضاعهم لها، وتملكهم، وتملك حاضرهم ومستقبلهم أيضا..
لا أملك إلا أن أقول شكرا يا أبي، كنت لي مدرسة تعلمت ونهلت منها أن أقاوم السلطة التي تسعى لفرض سطوتها وسلطتها ورؤاها على الناس، وتريد أن تتملكهم، وتتملك حاضرهم ومستقبلهم إلى الأبد.
وفي المقام نفسه أزعم أن الحياة والمآسي والمشاهد الكثيرة والقراءة لما هو إنساني علمتني مجملة أن أرفض ممارسة الظلم وقهر الناس، وأتجنب الطيش والانفعالات الحادة التي تؤدي بي إلى الندم والشعور بالذنب.. أحرص أن يكون ضميري هو دليلي ورقيبي، ضد الظلم تحت أي مسمى كان..
أجد نفسي ضد انتهاكات حقوق الإنسان وحرياته مهما كانت ادعاءات السلطة المنتهكة للحقوق.. ضد الظلم والاستبداد بكل صُوره وأولها اللابسة لباس الدين والتي تلبس ظلمها واستبدادها لباس المقدّس.. منحاز لقضايا الفقراء الذي أجد نفسي منتميا لهم، ولكن دون أن ينال ذلك من مكان ومقام الإنسان وكرامته.. درست القانون والقضاء ودافعت عن حقوق وحريات الناس.. أعشق الحريات وأحلم أن يكون سقفها السماء، بل وأكثر من ذلك إن كان ممكناً..
*
أعلم أن المجرم لم يُخلق مجرما، أو يُولد وهو يشتهي الإجرام، ولكن هناك عوامل شتى، وظروف متكاثرة وضاغطة تتظافر، ودروب زلقة تغلب المحاذير.. فبعض بني البشر ينفذ صبرهم في لحظة ضعف وأنانية، أو عجل و حمق و طيش..
بين السوية والإجرام الذي أعنيه خيط رفيع في لحظة ضيق وعمى لا نراه، فننزلق إلى ما لا يُحمد عقباه، وإن داهم الندم أي منّا؛ ردت الأقدار عليه: لقد أطلقت للجنون عنانة؛ فانزلقت شر منزلق، ووقعت في محذور جلل، و “لات ساعة مندم”.. هنا تكون سلطة العقاب ضرورية دون إفراط أو تسيس أو إخلال بالعدالة..
ربما تصير النسمات الندية في موقد الحدّاد كتلة من لهب.. ربما يصير رقيق الإحساس ورهيف المشاعر مجرم يتهدد من حوله بالخطر، ومن كان حساسا وجياش العواطف، ربما تجتاحه لوثة في عقلة، أو نوبة من جنون.. ربما من كان يرعى النمل ويطعمها ويحنو عليها، ومن كان يطلق سراح الفئران من المصيدة ويتعاطف معها ويتفهم حاجتها للحياة، يصير مرة واحدة، قاتل أبيه..
ربما من كان مقدّرا له أن يكون في مستقبل حياته قاضيا أو محاميا أو حقوقيا من الطراز الرفيع، يصير بسقطة في ليل، أو فلتة في نهار قاتل لإنسان.. ربما السوي في لحظة ضعف أو نوبة غضب، يصير مجرما..
*
أنا بشر كاد يغلبني الشر يوما.. كدت أكون يوما ضحية ظروفي، وطيشي الأول، و تعجّلي وحماقاتي، وربما أيضا انانيتي البغيضة، وانفعالاتي الشاردة التي فلت منّي عقالها وراغمت المحاذير.. كدت يوما أن أكون مجرما قاتل أبيه، وفي نفس الوقت ضحية هذا الواقع المحكوم بالأقدار والمجاهيل..
لازلت أذكر عندما ذهبت أبحث عن ماء النار في قطيع عدن، لأشتريه بمال قليل كنت أعوز إليه في حاجتي الأخرى.. و لكن قال لي البائع يومها أنه لا يبيع ماء النار إلا بترخيص..
ذهبت أبحث عن وسيلة أخرى، و أنا أغتلي وأثور.. أكظم غيضي الكبير، وأداري حممي في دواخلي إلى حين.. اشتريت سكينا و طويتها بورقة بيضاء، ووضعتها تحت الحزام.. أخفيتها بقميصي ومازري.. وذهبت أبحث عنه في المساجد المعتاد ارتيادها، ولكنني لم أجده، وكأن “الحافظ” يومها حماه أو أنحاز إليه.. أو كنت أنا محميا بملاك أو حظ أو لطائف قدر..
بحثت عنه في كل الأمكنة التي يرتادها، والمفترض أن أجده فيها، ولكن يومها لم أجد له أثرا أو لمح بصر، وكأن الحظ أو لطف القدر كان قاصدا و متعمدا أن يحميني من نفسي و ينجيه..
كنت وأنا أبحث عنه أتخيل ما سأفعله.. كانت يدي اليمنى تتحفز كصقر يتحين الانقضاض.. كانت تقفز يدي منّي في الهواء لتفعل ما أتخيله وانتويه.. كنت وأنا أسير بعصبية شبيه ذلك المجنون الذي يُدعى “العولقية” المنعوت بها، وشهرة غلبت اسمه الذي تلاشى في مدارات الضياع..
كان يطلق يده بعصبية في الهواء، وكأنه يقصد غرز يده في بطن من يراه أمامه ونحن لا نراه ونتعجب.. كأنها عقدة تتنفس من محبسها الغائر والدفين..
عندما هدأ الدم في عروقي المشتعلة، وخمدت الحمم والنيران التي كانت تجتاحني وتأكلني وتضطرم في دواخلي الغاضبة، شعرت بالندم الكبير، فاتجهت إلى “صالح الهارش” في “الخساف”، وأهديته السكين ربما دون أن أخبره بقصتها، وشكرت في داخل نفسي الحظ والقدر الحليف؛ لأنه خذلني في نوبة من طيشي وجنوني.. كان عمري يومها دون الـ 18 عام..
اليوم ومخيالي يستعيد ذاكرة طمرها الزمن وألقى عليها سدوله، أتخيل ذلك الموقف المرعب والمخيف، وأرى نفسي أنني كدت أن أكون أشبه بأولئك المجرمين الذين وقعوا فيما هو محذور و جلل، في لحظة ضعف وأنانية، أو طيش غضوب، أو رعونة مُستفزة.. أتذكر الحماقة التي كادت يوما تأخذني معها إلى السجن، وعار سيلاحقني دون أن ينتهي، وأقضي بعدها بقية عمري نادما وحزينا وحسيرا..
وبين اليوم و الأمس البعيد أختلف كل شيء .. صرت أرى مد اليد تخلفا فظا، وبذاءة اللسان أمرا لا يليق بإنسان..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
أجد نفسي ضد انتهاكات حقوق الإنسان وحرياته مهما كانت ادعاءات السلطة المنتهكة للحقوق.. ضد الظلم والاستبداد بكل صُوره وأولها اللابسة لباس الدين والتي تلبس ظلمها واستبدادها لباس المقدّس.. منحاز لقضايا الفقراء الذي أجد نفسي منتميا لهم، ولكن دون أن ينال ذلك من مكان ومقام الإنسان وكرامته.. درست القانون والقضاء ودافعت عن حقوق وحريات الناس.. أعشق الحريات وأحلم أن يكون سقفها السماء، بل وأكثر من ذلك إن كان ممكناً..
*
أعلم أن المجرم لم يُخلق مجرما، أو يُولد وهو يشتهي الإجرام، ولكن هناك عوامل شتى، وظروف متكاثرة وضاغطة تتظافر، ودروب زلقة تغلب المحاذير.. فبعض بني البشر ينفذ صبرهم في لحظة ضعف وأنانية، أو عجل و حمق و طيش..
بين السوية والإجرام الذي أعنيه خيط رفيع في لحظة ضيق وعمى لا نراه، فننزلق إلى ما لا يُحمد عقباه، وإن داهم الندم أي منّا؛ ردت الأقدار عليه: لقد أطلقت للجنون عنانة؛ فانزلقت شر منزلق، ووقعت في محذور جلل، و “لات ساعة مندم”.. هنا تكون سلطة العقاب ضرورية دون إفراط أو تسيس أو إخلال بالعدالة..
ربما تصير النسمات الندية في موقد الحدّاد كتلة من لهب.. ربما يصير رقيق الإحساس ورهيف المشاعر مجرم يتهدد من حوله بالخطر، ومن كان حساسا وجياش العواطف، ربما تجتاحه لوثة في عقلة، أو نوبة من جنون.. ربما من كان يرعى النمل ويطعمها ويحنو عليها، ومن كان يطلق سراح الفئران من المصيدة ويتعاطف معها ويتفهم حاجتها للحياة، يصير مرة واحدة، قاتل أبيه..
ربما من كان مقدّرا له أن يكون في مستقبل حياته قاضيا أو محاميا أو حقوقيا من الطراز الرفيع، يصير بسقطة في ليل، أو فلتة في نهار قاتل لإنسان.. ربما السوي في لحظة ضعف أو نوبة غضب، يصير مجرما..
*
أنا بشر كاد يغلبني الشر يوما.. كدت أكون يوما ضحية ظروفي، وطيشي الأول، و تعجّلي وحماقاتي، وربما أيضا انانيتي البغيضة، وانفعالاتي الشاردة التي فلت منّي عقالها وراغمت المحاذير.. كدت يوما أن أكون مجرما قاتل أبيه، وفي نفس الوقت ضحية هذا الواقع المحكوم بالأقدار والمجاهيل..
لازلت أذكر عندما ذهبت أبحث عن ماء النار في قطيع عدن، لأشتريه بمال قليل كنت أعوز إليه في حاجتي الأخرى.. و لكن قال لي البائع يومها أنه لا يبيع ماء النار إلا بترخيص..
ذهبت أبحث عن وسيلة أخرى، و أنا أغتلي وأثور.. أكظم غيضي الكبير، وأداري حممي في دواخلي إلى حين.. اشتريت سكينا و طويتها بورقة بيضاء، ووضعتها تحت الحزام.. أخفيتها بقميصي ومازري.. وذهبت أبحث عنه في المساجد المعتاد ارتيادها، ولكنني لم أجده، وكأن “الحافظ” يومها حماه أو أنحاز إليه.. أو كنت أنا محميا بملاك أو حظ أو لطائف قدر..
بحثت عنه في كل الأمكنة التي يرتادها، والمفترض أن أجده فيها، ولكن يومها لم أجد له أثرا أو لمح بصر، وكأن الحظ أو لطف القدر كان قاصدا و متعمدا أن يحميني من نفسي و ينجيه..
كنت وأنا أبحث عنه أتخيل ما سأفعله.. كانت يدي اليمنى تتحفز كصقر يتحين الانقضاض.. كانت تقفز يدي منّي في الهواء لتفعل ما أتخيله وانتويه.. كنت وأنا أسير بعصبية شبيه ذلك المجنون الذي يُدعى “العولقية” المنعوت بها، وشهرة غلبت اسمه الذي تلاشى في مدارات الضياع..
كان يطلق يده بعصبية في الهواء، وكأنه يقصد غرز يده في بطن من يراه أمامه ونحن لا نراه ونتعجب.. كأنها عقدة تتنفس من محبسها الغائر والدفين..
عندما هدأ الدم في عروقي المشتعلة، وخمدت الحمم والنيران التي كانت تجتاحني وتأكلني وتضطرم في دواخلي الغاضبة، شعرت بالندم الكبير، فاتجهت إلى “صالح الهارش” في “الخساف”، وأهديته السكين ربما دون أن أخبره بقصتها، وشكرت في داخل نفسي الحظ والقدر الحليف؛ لأنه خذلني في نوبة من طيشي وجنوني.. كان عمري يومها دون الـ 18 عام..
اليوم ومخيالي يستعيد ذاكرة طمرها الزمن وألقى عليها سدوله، أتخيل ذلك الموقف المرعب والمخيف، وأرى نفسي أنني كدت أن أكون أشبه بأولئك المجرمين الذين وقعوا فيما هو محذور و جلل، في لحظة ضعف وأنانية، أو طيش غضوب، أو رعونة مُستفزة.. أتذكر الحماقة التي كادت يوما تأخذني معها إلى السجن، وعار سيلاحقني دون أن ينتهي، وأقضي بعدها بقية عمري نادما وحزينا وحسيرا..
وبين اليوم و الأمس البعيد أختلف كل شيء .. صرت أرى مد اليد تخلفا فظا، وبذاءة اللسان أمرا لا يليق بإنسان..
***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
السلسلة الخامسة
أبي
(1)
منكوبون بالبطالة وبطالة اليوم كارثية
بعد سنتين من إقامتنا في عدن استغنت شركةُ "البِس" التي كان يعمل فيها والدي عن عددٍ من العمّال، وكان أبي من ضمنهم.. مصابٌ جلل، وقدرٌ بات أكبرَ منّا.. أيُّ نكبةٍ أصابتنا يا الله؟! يا لسوء الطالعِ وعاثرِ الحظّ.. خوفنا مما هو قادم ومجهول بات يكبر ويزداد!! أبي فقد عمله، ولا بديل يعوضه، ولا من يسدُّ لنا هذا القدَر الّذي بدا أمامنا ثقبا أسودا، وفراغا كونيَّاً يريد ابتلاعنا وتغييبنا في مجاهل الجحيم..
لا رجاء سعفنا، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق.. وجُومٌ في السماء، وكلَحٌ في الأرض، ويأس يتمطّى في الشرايين.. لم يعُد هنالك من مصدرِ دخلٍ لنا.. ظروفنا ازدادت سوءًا وانحدارا، وزدنا نحن عوزا وفاقة.. لم يكن أمام أبي من خَيارٍ إلّا أنْ يعودَ بنا إلى قريتنا التي تُهرسُ بؤسا وشقاءً شديدا، ومعاناة تطول، ولا نور في نهاية النفق.. ما أسود الحياة عندما تفقد عملك، وتُقطع أسباب رزقك!
فادحا أصابنا، وفادحٌ مضاعفٌ أصابَ أبي.. مأساةُ أسرةٍ فقد فيها ربها دخله المحدود، وأسرة أخرى في القرية تتضور جوعا، لا دخل لها ولا عوض غير ما يرسل به أبي.. حكم إعدام أنزله علينا القدر دون تروٍ أو مَهَل..
أبي يَهيمُ على وجهه، يبحث عن وجهِ الله لعلَّه يجده.. كان الشعور بالضَّياع وفقدانِ الأمل قاسيا بل وساحقا.. أتخيل الحالَ أنَّ صخرةً بحجمِ كوكبٍ عبوس، قذفتها السماء على رأس أبي، وأصابتنا معه في مقتلٍ أطاحَ بالجميع..
الخَيارات محدودةٌ وصعبة، بل في الحقيقة ليس أمامنا من خَيار.. لا عملَ ولا أيّ فرصةٍ تنجي لقمة عيشنا، وكلَّ ما يمكن أن تفكِّر به من مساعدة غائبٍ ومعدوم.. أنت مبلوع في لُجَّة البحر، بلا يد ولا مجداف ولا حتّى قشة ترجوها أو تمسك بها مسكة غريق.. جميعنا يغرق في التّيهِ والمجهول وأصقاعِ الضياع..
عاد بنا أبي إلى القرية.. وبات المُصاب والألم مضاعف.. أسرتان تعانيان الجوع، وكل شيء فيها عزيز، ولا أمل في انتظار ينقذنا من حالنا البائس، ولم تبق أمام أبي إلّا المُغامرةُ والرحيلُ إلى الغربة؛ يبحث فيها عن فرصة عمل أخرى تسعفنا من حالة البؤس والموت البطيء..
حدث هذا قبلَ استقلالِ الجنوبِ من الاحتلال البريطاني.. ضاقت الدنيا في وجهِ أبي ودلهمّت.. بعد أن فقدنا مصدر رزقنا وما نقتات في عدن.. عُدنا مع أبي إلى القرية التي جئنا منها، كأسماك السّلمون التي تعود من مهجرها لتموت في مسقط رأسها، أمّا أبي فعليه أن يواصل الهِيامَ والبحثَ عن فرصة عمل.. عليه أن يشقّ البرَّ والبحر؛ ليجد عملا نقتات منه، ولا عذر ليتخلّى عن مسؤوليته، حتى وإن كان مصابنا وقدرنا أكبر من الجميع.. فكانت وجهته هذه المرة إلى "بربرة" في الصومال الشقيق.
***
اليومَ يا أبي أسوأ من أمسه المنكوب.. فما حدث لنا ولليمن تجعل مأساتنا في الأمس رغم كبرها تبدو بحجم رأس دبوس.. ما نشهده اليوم، هو محيط من العذاب والموت والبشاعة.. نحن في زمن بات وقد تعاظمت فيه مصائبه وبشاعته.. وما كان في الأمس مصابٌ مقدورٌ عليه بممكن أو بمعركة مع المستحيل، بات اليومَ كوارثُ تفوقُ ما تحتمله الجبالُ، بل ولا تقوى عليه اليمن كلُّها، وقد جمع لنا العالمُ، وصبَّ فوق رؤوسنا، كلَّ فساده ورعبه وبشاعته..
الفارقُ بين مصائبِ الأمسِ وازدحامِ كوارث اليوم تفوق كل ممكن ومعقول.. اليوم السّنة السابعة نعيشُ حربا ضروسا، وهروبا إلى مزيد من التشظّي والجحيم.. حروب متعددة تشُبُّ وتنشب هنا وهناك بألف رأسٍ وأميرِ حرب.. اليمن باتت نتفا ممزقة بينهم.. كل يقضم منها ما أستطاع؛ وصار السؤال الأهم أين هي اليمن؟! وياتي الجواب الصادم من واقع الحال: كانت هنا يمن..
سنواتٌ عجاف أكل فيها شعبُنا دواخلَه، وأكل المجتمعُ الواحدُ بعضَه بعضا، وأكلت النار معظمه.. حروبٌ دميمة وبشعة، سحقت شعبنا طولا وعرضا.. مـأساةٌ بعمقٍ سحيق، وطولٍ وأبعادٍ تبدّت لنا كمحيط دون أطراف ولا خِلجان ولا منتهى..
لك أن تتخيَّلَ حجم الكارثة، وأنت ترى العملة تتدهور على نحو غير مسبوق، بل أن قدرتها الشرائية باتت تتلاشى على نحو فاجع ومخيف، دون اكتراث أو شعور بالمسؤولية من قبل سلطات الأمر الواقع الغارقة بالنهب واللصوصية والفساد المهول.
أكثر من مليون ونصف موظفٍ ومتقاعدٍ، ومستفيدٍ، قُطعت رواتبهم، وقُطعت معها أسبابٌ الرزق الشريف، وأطراف الحرب والصراع تتكايد مع بعضها لتتخلى عن المسؤولية حيال هذا العدد الذي يعيل قرابة عشرة مليون مواطن، باتوا مُفقرين ومعدمِين ومُعوزين..
تزداد البطالة كل يوم، وربما تتضاعف كل عام، وتُمارس أطراف الحرب سياسة إفقار متعمدة حيال هذا الشعب المنكوب بها، وتنتشر الأمراض والأوبئة، والمجاعة والتشرّد، والضياع، كما تفتِك الحربُ بهذا الشعب المنهك منذُ سنواتٍ طوال، وفي محيطنا عالمٌ متوحِّش لا يبالي بما وصلنا إليه من حال ومحال..
السلسلة الخامسة
أبي
(1)
منكوبون بالبطالة وبطالة اليوم كارثية
بعد سنتين من إقامتنا في عدن استغنت شركةُ "البِس" التي كان يعمل فيها والدي عن عددٍ من العمّال، وكان أبي من ضمنهم.. مصابٌ جلل، وقدرٌ بات أكبرَ منّا.. أيُّ نكبةٍ أصابتنا يا الله؟! يا لسوء الطالعِ وعاثرِ الحظّ.. خوفنا مما هو قادم ومجهول بات يكبر ويزداد!! أبي فقد عمله، ولا بديل يعوضه، ولا من يسدُّ لنا هذا القدَر الّذي بدا أمامنا ثقبا أسودا، وفراغا كونيَّاً يريد ابتلاعنا وتغييبنا في مجاهل الجحيم..
لا رجاء سعفنا، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق.. وجُومٌ في السماء، وكلَحٌ في الأرض، ويأس يتمطّى في الشرايين.. لم يعُد هنالك من مصدرِ دخلٍ لنا.. ظروفنا ازدادت سوءًا وانحدارا، وزدنا نحن عوزا وفاقة.. لم يكن أمام أبي من خَيارٍ إلّا أنْ يعودَ بنا إلى قريتنا التي تُهرسُ بؤسا وشقاءً شديدا، ومعاناة تطول، ولا نور في نهاية النفق.. ما أسود الحياة عندما تفقد عملك، وتُقطع أسباب رزقك!
فادحا أصابنا، وفادحٌ مضاعفٌ أصابَ أبي.. مأساةُ أسرةٍ فقد فيها ربها دخله المحدود، وأسرة أخرى في القرية تتضور جوعا، لا دخل لها ولا عوض غير ما يرسل به أبي.. حكم إعدام أنزله علينا القدر دون تروٍ أو مَهَل..
أبي يَهيمُ على وجهه، يبحث عن وجهِ الله لعلَّه يجده.. كان الشعور بالضَّياع وفقدانِ الأمل قاسيا بل وساحقا.. أتخيل الحالَ أنَّ صخرةً بحجمِ كوكبٍ عبوس، قذفتها السماء على رأس أبي، وأصابتنا معه في مقتلٍ أطاحَ بالجميع..
الخَيارات محدودةٌ وصعبة، بل في الحقيقة ليس أمامنا من خَيار.. لا عملَ ولا أيّ فرصةٍ تنجي لقمة عيشنا، وكلَّ ما يمكن أن تفكِّر به من مساعدة غائبٍ ومعدوم.. أنت مبلوع في لُجَّة البحر، بلا يد ولا مجداف ولا حتّى قشة ترجوها أو تمسك بها مسكة غريق.. جميعنا يغرق في التّيهِ والمجهول وأصقاعِ الضياع..
عاد بنا أبي إلى القرية.. وبات المُصاب والألم مضاعف.. أسرتان تعانيان الجوع، وكل شيء فيها عزيز، ولا أمل في انتظار ينقذنا من حالنا البائس، ولم تبق أمام أبي إلّا المُغامرةُ والرحيلُ إلى الغربة؛ يبحث فيها عن فرصة عمل أخرى تسعفنا من حالة البؤس والموت البطيء..
حدث هذا قبلَ استقلالِ الجنوبِ من الاحتلال البريطاني.. ضاقت الدنيا في وجهِ أبي ودلهمّت.. بعد أن فقدنا مصدر رزقنا وما نقتات في عدن.. عُدنا مع أبي إلى القرية التي جئنا منها، كأسماك السّلمون التي تعود من مهجرها لتموت في مسقط رأسها، أمّا أبي فعليه أن يواصل الهِيامَ والبحثَ عن فرصة عمل.. عليه أن يشقّ البرَّ والبحر؛ ليجد عملا نقتات منه، ولا عذر ليتخلّى عن مسؤوليته، حتى وإن كان مصابنا وقدرنا أكبر من الجميع.. فكانت وجهته هذه المرة إلى "بربرة" في الصومال الشقيق.
***
اليومَ يا أبي أسوأ من أمسه المنكوب.. فما حدث لنا ولليمن تجعل مأساتنا في الأمس رغم كبرها تبدو بحجم رأس دبوس.. ما نشهده اليوم، هو محيط من العذاب والموت والبشاعة.. نحن في زمن بات وقد تعاظمت فيه مصائبه وبشاعته.. وما كان في الأمس مصابٌ مقدورٌ عليه بممكن أو بمعركة مع المستحيل، بات اليومَ كوارثُ تفوقُ ما تحتمله الجبالُ، بل ولا تقوى عليه اليمن كلُّها، وقد جمع لنا العالمُ، وصبَّ فوق رؤوسنا، كلَّ فساده ورعبه وبشاعته..
الفارقُ بين مصائبِ الأمسِ وازدحامِ كوارث اليوم تفوق كل ممكن ومعقول.. اليوم السّنة السابعة نعيشُ حربا ضروسا، وهروبا إلى مزيد من التشظّي والجحيم.. حروب متعددة تشُبُّ وتنشب هنا وهناك بألف رأسٍ وأميرِ حرب.. اليمن باتت نتفا ممزقة بينهم.. كل يقضم منها ما أستطاع؛ وصار السؤال الأهم أين هي اليمن؟! وياتي الجواب الصادم من واقع الحال: كانت هنا يمن..
سنواتٌ عجاف أكل فيها شعبُنا دواخلَه، وأكل المجتمعُ الواحدُ بعضَه بعضا، وأكلت النار معظمه.. حروبٌ دميمة وبشعة، سحقت شعبنا طولا وعرضا.. مـأساةٌ بعمقٍ سحيق، وطولٍ وأبعادٍ تبدّت لنا كمحيط دون أطراف ولا خِلجان ولا منتهى..
لك أن تتخيَّلَ حجم الكارثة، وأنت ترى العملة تتدهور على نحو غير مسبوق، بل أن قدرتها الشرائية باتت تتلاشى على نحو فاجع ومخيف، دون اكتراث أو شعور بالمسؤولية من قبل سلطات الأمر الواقع الغارقة بالنهب واللصوصية والفساد المهول.
أكثر من مليون ونصف موظفٍ ومتقاعدٍ، ومستفيدٍ، قُطعت رواتبهم، وقُطعت معها أسبابٌ الرزق الشريف، وأطراف الحرب والصراع تتكايد مع بعضها لتتخلى عن المسؤولية حيال هذا العدد الذي يعيل قرابة عشرة مليون مواطن، باتوا مُفقرين ومعدمِين ومُعوزين..
تزداد البطالة كل يوم، وربما تتضاعف كل عام، وتُمارس أطراف الحرب سياسة إفقار متعمدة حيال هذا الشعب المنكوب بها، وتنتشر الأمراض والأوبئة، والمجاعة والتشرّد، والضياع، كما تفتِك الحربُ بهذا الشعب المنهك منذُ سنواتٍ طوال، وفي محيطنا عالمٌ متوحِّش لا يبالي بما وصلنا إليه من حال ومحال..
أكثرُ من مليونِ مواطنٍ يقتل بعضه بعضا في الخنادق والجبهات، بل وحماية حدود المعتدي.. سلطات مُغتصِبة وأرض تُغتصب.. قيمٌ إنسانية مُهدرة، وحقوق شعب تستباح.. نهبٌ وانهيار.. أمراءُ حرب وجهلة، وعملاءُ يتسلطون.. عدوانٌ كبير واحتلالُ غاشم، وهمجيٌ غيرُ مسبوق.. ما حدث كان أكبرُ من أن يُوصَف، ولم يكن يخطر على بالٍ وما كان بحسبان..
***
يتبع..
صورة لأبي في بربرة الصومال
***
يتبع..
صورة لأبي في بربرة الصومال