#القاضي_احمد_سيف_حاشد
(3)
وجودي و ولادتي
أحمد سيف حاشد
في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي آفل، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته.. مسقط رأسي كان في حجرة حاسرة الضوء، وميالة للعتمة.. كواء بالكاد تسمح بمرور بصيص من ضوء باهت، بزاوية مكسورة تصد الضوء.. الضوء الخافت لا يكفي، وعليك أن تمعن نظرك.. تجهد عينيك قليلا لترى أشياءك..
الباب إن أنفرج أو فُتح إلى أقصاه.. بالكاد يمر قليل من ضوء خافت.. يتسلل من طابقنا العلوي.. يتكسر في درج الممشى إلى الأسفل.. يتلاشى في طريق ملوي على قطب الدار.. يصل إلى الحجرة شحوب متعب..
في قاع الحجرة هناك وعاء مملوء بالماء واشياء أخرى، وفي الكوة حلتيت ولبان عربي وبخور.. وسراج تحاول ذبالته المحترقة أن تنشر ضوء منهك بين السقف والجدران.. السقف من أعواد أشجار العاط، وخشب السدر المثقل بالطين.. المطر إن كب على السطح بات قاع الحجرة أوعية وآوني تتلقّف نطفة..
أمي تتلوى ألما.. تعيش لحظات مخاض.. حبل مربوط إلى خشبة سقف الحجرة.. يداها ممسكة عُقد الحبل بثبات أملا في عبور جدار من وجع وولادة.. ولولة والألم يمتد ويزداد، والوسواس يوسوس، فيدركها خوف الموت نفاس..
خرجتُ من بطن الأم إلى ظهر الدنيا أصرخ ببكائي محتدا محتجا على مجهول قدمتُ إليه دون إرادة.. كنتُ منهوكا ووجهي مكتظا بوجوم وعبوس.. ولدتُ شقيّا في ريف ناء صعب..
لا حول لي ولا قوة.. أقدار فرضت ما ليس لي فيه حيلة.. استقبلت الحجرة وجودي العابث بضوء خافت كاد صراخي يمزقه إربا.. لو كان خيار لي قبل وجودي وبوعيي هذا لما أخترت وجودي.. وسخرت من حياة فيها البؤس عميم.. حياة تكتظ بالظلم والعبث المكتظ..
استهديت على تاريخ ميلادي بصعوبة.. ولدتُ في 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان وعام هجري تاهت مني أرقامه.. قالوا طالعك الحوت والبرج هو الدلو.. وقالوا في حساب الأحرف برج الأسد على اسم الأم، وقالوا الجدي "شواح بواح" على اسم الأم المتقادم عهده..
يدا العمة زوجة عمي، استقبلت جسدي المنهك من أول طله منكوت الرأس.. قالوا المولود يأخذ من قابلته بعض طباع وصفات.. هذا ما يُحكى ويشاع على العادة في قرانا المسكونة بحكايات الجدّات..
خبر وجودي المتعوس خبر سار على وجه الأهل.. فرحة تموج على وجه أبي.. ووجوه الأخوال تنبض بهجة.. أمّي غمرتها الفرحة.. كان القادم ذكرا لا أُنثى.. ذكر يُبنى له متراس.. وعي ذكوري ووجوم يكلح إن كانت المولودة أنثى.. لازلنا نعيش الزمن الغابر..
الأنثى أمر واقع، وفيه قبول المُكره.. مضض من أول وهلة.. ثم يعتادون عليه.. كانت أمي تميزني بفيض زائد.. في الحب والمأكل والمشرب.. تريدني بسرعة ريح صرصار أكبر وأشتد في وجه الدنيا..
كان لخالي صالح باعا في التنجيم وفي "الرمل".. يبحث في طالعنا والأبراج.. أسماني أحمد.. قال إن ميلادي سعيدا، بل وأكثر من هذا قال، غير أن الواقع كان فيه القول الفصل.. حظ عاثر وبؤس ومتاعب.. نصيبي من السعد قليل.. البؤس حل معي طوال عقود ستة.. صار بعض مني أو صرتُ بعض منه.. تعاندني الأقدار وأحيانا تتخاتل وتخادعني.. حياتي بؤس وشقاء.. حظي في وجه الريح أشتات، وأهداب تقاتل سيف..
يتوالى السوء والحظ العاثر.. الفرحة إن تمت فبشق النفس.. أجتهد وأكدُّ وحصاد لا يشبع جوع.. جهد يُضني وحال يشتد.. الجني قليل، والقلة تستولي على الوفرة.. الوفرة تستولي عليها الغلبة بالسيف.. صرت أناهز ستينا والحال أقرف من أمس.. كد وتعب.. مجهول وضيق في العيش وظنك حياة..
أنا الموجود دون رضاي.. جئت إلى بطن الأفعى.. تلويني الأفعى كي تهضمني على جذع شجرة يبست من عهد، وصارت أصلب من صخر صوان.. تهرس جمجمتي وعظامي.. تعصرني بالحمض الناري.. تحرق آمالي.. الواقع عسف ووبال.. أنا موجود غصبا عني.. وجدتُ ولم أجد فسحة رفض قبل وجودي.. ولا مهلة فيها أشاور نفسي.. قطعوا عني طرق العودة..
النار أمامي تجتاح مداي، والبحر يركض بعدي فاغر فاه.. أنا لم أختر اسمي أو معتقدي.. لم أختار مكان وجودي.. ولا حتى تاريخ الميلاد.. الغربة تلاحقني والويل يتوعدني، أعيش معركة الإرغام ليل نهار.. والمجهول يترصد خطواتي ذهابا وإياب..
لو كنت على وعيي هذا وكان علي أن أختار.. لاخترت عدمي، ورفضت وجودي بدل المرة ألف.. وجودي قسري رغما عنّي.. ولهذا أتمرد وأثور.. فيزداد جحيمي، ولا أستسلم..
أُكرهتُ على هذا الحال.. أُكرهتُ حياة ووجود.. لست راض بحياة يفرضها البؤس ويتعممها الطغيان.. لست راض عن حال فيه استغلال إنسان لأخيه الإنسان.. يسفك دمه ويزهق روحة في عبث لا تجرؤ عليها وحوش الغاب.. هل قرأت كتاب "الجنس البشري الملعون" لـ "مارك توين".. أنا من وجد نفسه في مقولة فيلسوف قال: "من يوم ميلادي وجدت نفسي مع العالم على غير وفاق".
(3)
وجودي و ولادتي
أحمد سيف حاشد
في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي آفل، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته.. مسقط رأسي كان في حجرة حاسرة الضوء، وميالة للعتمة.. كواء بالكاد تسمح بمرور بصيص من ضوء باهت، بزاوية مكسورة تصد الضوء.. الضوء الخافت لا يكفي، وعليك أن تمعن نظرك.. تجهد عينيك قليلا لترى أشياءك..
الباب إن أنفرج أو فُتح إلى أقصاه.. بالكاد يمر قليل من ضوء خافت.. يتسلل من طابقنا العلوي.. يتكسر في درج الممشى إلى الأسفل.. يتلاشى في طريق ملوي على قطب الدار.. يصل إلى الحجرة شحوب متعب..
في قاع الحجرة هناك وعاء مملوء بالماء واشياء أخرى، وفي الكوة حلتيت ولبان عربي وبخور.. وسراج تحاول ذبالته المحترقة أن تنشر ضوء منهك بين السقف والجدران.. السقف من أعواد أشجار العاط، وخشب السدر المثقل بالطين.. المطر إن كب على السطح بات قاع الحجرة أوعية وآوني تتلقّف نطفة..
أمي تتلوى ألما.. تعيش لحظات مخاض.. حبل مربوط إلى خشبة سقف الحجرة.. يداها ممسكة عُقد الحبل بثبات أملا في عبور جدار من وجع وولادة.. ولولة والألم يمتد ويزداد، والوسواس يوسوس، فيدركها خوف الموت نفاس..
خرجتُ من بطن الأم إلى ظهر الدنيا أصرخ ببكائي محتدا محتجا على مجهول قدمتُ إليه دون إرادة.. كنتُ منهوكا ووجهي مكتظا بوجوم وعبوس.. ولدتُ شقيّا في ريف ناء صعب..
لا حول لي ولا قوة.. أقدار فرضت ما ليس لي فيه حيلة.. استقبلت الحجرة وجودي العابث بضوء خافت كاد صراخي يمزقه إربا.. لو كان خيار لي قبل وجودي وبوعيي هذا لما أخترت وجودي.. وسخرت من حياة فيها البؤس عميم.. حياة تكتظ بالظلم والعبث المكتظ..
استهديت على تاريخ ميلادي بصعوبة.. ولدتُ في 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان وعام هجري تاهت مني أرقامه.. قالوا طالعك الحوت والبرج هو الدلو.. وقالوا في حساب الأحرف برج الأسد على اسم الأم، وقالوا الجدي "شواح بواح" على اسم الأم المتقادم عهده..
يدا العمة زوجة عمي، استقبلت جسدي المنهك من أول طله منكوت الرأس.. قالوا المولود يأخذ من قابلته بعض طباع وصفات.. هذا ما يُحكى ويشاع على العادة في قرانا المسكونة بحكايات الجدّات..
خبر وجودي المتعوس خبر سار على وجه الأهل.. فرحة تموج على وجه أبي.. ووجوه الأخوال تنبض بهجة.. أمّي غمرتها الفرحة.. كان القادم ذكرا لا أُنثى.. ذكر يُبنى له متراس.. وعي ذكوري ووجوم يكلح إن كانت المولودة أنثى.. لازلنا نعيش الزمن الغابر..
الأنثى أمر واقع، وفيه قبول المُكره.. مضض من أول وهلة.. ثم يعتادون عليه.. كانت أمي تميزني بفيض زائد.. في الحب والمأكل والمشرب.. تريدني بسرعة ريح صرصار أكبر وأشتد في وجه الدنيا..
كان لخالي صالح باعا في التنجيم وفي "الرمل".. يبحث في طالعنا والأبراج.. أسماني أحمد.. قال إن ميلادي سعيدا، بل وأكثر من هذا قال، غير أن الواقع كان فيه القول الفصل.. حظ عاثر وبؤس ومتاعب.. نصيبي من السعد قليل.. البؤس حل معي طوال عقود ستة.. صار بعض مني أو صرتُ بعض منه.. تعاندني الأقدار وأحيانا تتخاتل وتخادعني.. حياتي بؤس وشقاء.. حظي في وجه الريح أشتات، وأهداب تقاتل سيف..
يتوالى السوء والحظ العاثر.. الفرحة إن تمت فبشق النفس.. أجتهد وأكدُّ وحصاد لا يشبع جوع.. جهد يُضني وحال يشتد.. الجني قليل، والقلة تستولي على الوفرة.. الوفرة تستولي عليها الغلبة بالسيف.. صرت أناهز ستينا والحال أقرف من أمس.. كد وتعب.. مجهول وضيق في العيش وظنك حياة..
أنا الموجود دون رضاي.. جئت إلى بطن الأفعى.. تلويني الأفعى كي تهضمني على جذع شجرة يبست من عهد، وصارت أصلب من صخر صوان.. تهرس جمجمتي وعظامي.. تعصرني بالحمض الناري.. تحرق آمالي.. الواقع عسف ووبال.. أنا موجود غصبا عني.. وجدتُ ولم أجد فسحة رفض قبل وجودي.. ولا مهلة فيها أشاور نفسي.. قطعوا عني طرق العودة..
النار أمامي تجتاح مداي، والبحر يركض بعدي فاغر فاه.. أنا لم أختر اسمي أو معتقدي.. لم أختار مكان وجودي.. ولا حتى تاريخ الميلاد.. الغربة تلاحقني والويل يتوعدني، أعيش معركة الإرغام ليل نهار.. والمجهول يترصد خطواتي ذهابا وإياب..
لو كنت على وعيي هذا وكان علي أن أختار.. لاخترت عدمي، ورفضت وجودي بدل المرة ألف.. وجودي قسري رغما عنّي.. ولهذا أتمرد وأثور.. فيزداد جحيمي، ولا أستسلم..
أُكرهتُ على هذا الحال.. أُكرهتُ حياة ووجود.. لست راض بحياة يفرضها البؤس ويتعممها الطغيان.. لست راض عن حال فيه استغلال إنسان لأخيه الإنسان.. يسفك دمه ويزهق روحة في عبث لا تجرؤ عليها وحوش الغاب.. هل قرأت كتاب "الجنس البشري الملعون" لـ "مارك توين".. أنا من وجد نفسه في مقولة فيلسوف قال: "من يوم ميلادي وجدت نفسي مع العالم على غير وفاق".
أحيانا احتفل بميلادي كسرا لروتين العام.. بعيد الميلاد أسافر بعيدا عن وعيي.. أخرج من وعيي محتجا أخفف بعض معاناة وجودي.. أنتزع لحظة سعد من رأس عام قادم ليس أقل سوادا من سابقه.. الكاهل مثقل بالحزن، والحظ العاثر يرافقني طوال العام..
الواقع سيء، والحقيقة مُرة.. قالتها نوال السعداوي.. الحقيقة "وحشية وخطيرة"؛ فألوذ بخيال لأعوض فقداني وكثيرا من حرماني.. أتمرد على ما يفرضه الواقع من أقدار في وسط تتقبله الكثرة بخضوع وسكون..
في وجه الظالم أقول "لا" وأكررها في سط ينعم بـ "نعم" طوال العام.. أتذكر مجد الأمل المنهك بالوعي وهو يقول: "المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم." أدفع كلفتها مهما كان كبيرا.. أدفع كلفتها وأمضي.. أدفع كلفة ولا استسلم.. جحيمي هذا ونزيف الروح بعض منها..
***
.. يتبع طفولتي في عدن
بعض من تفاصيل حياتي
المجسم للفنان الكويتي سامي عبدالله
الواقع سيء، والحقيقة مُرة.. قالتها نوال السعداوي.. الحقيقة "وحشية وخطيرة"؛ فألوذ بخيال لأعوض فقداني وكثيرا من حرماني.. أتمرد على ما يفرضه الواقع من أقدار في وسط تتقبله الكثرة بخضوع وسكون..
في وجه الظالم أقول "لا" وأكررها في سط ينعم بـ "نعم" طوال العام.. أتذكر مجد الأمل المنهك بالوعي وهو يقول: "المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم." أدفع كلفتها مهما كان كبيرا.. أدفع كلفتها وأمضي.. أدفع كلفة ولا استسلم.. جحيمي هذا ونزيف الروح بعض منها..
***
.. يتبع طفولتي في عدن
بعض من تفاصيل حياتي
المجسم للفنان الكويتي سامي عبدالله
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
في محاكمة صورية وغير علنية قضت محكمة غرب صنعاء،اليوم بالسجن خمس سنوات ضد عارضة الأزياء الفنانة إنتصار الحمادي، بتهمة الإخلال بالآداب العامة.
وتعرضت إنتصار للمعاملة القاسية والإعتقال في ظروف خارجة عن القانون، كما تعرضت للتشهير من قبل قناة الهوية، والجيش الألكتروني التابع لحركة“انصار ... الله” وحاولت الإنتحار في السجن المودعة فيه أثناء المحاكمة.
في محاكمة صورية وغير علنية قضت محكمة غرب صنعاء،اليوم بالسجن خمس سنوات ضد عارضة الأزياء الفنانة إنتصار الحمادي، بتهمة الإخلال بالآداب العامة.
وتعرضت إنتصار للمعاملة القاسية والإعتقال في ظروف خارجة عن القانون، كما تعرضت للتشهير من قبل قناة الهوية، والجيش الألكتروني التابع لحركة“انصار ... الله” وحاولت الإنتحار في السجن المودعة فيه أثناء المحاكمة.
عهد منحط وزائف ومتعفن
أحمد سيف حاشد
https://www.facebook.com/profile.php?id=100073460206686
(1)
اسمي المصادر رابعه
نشأتُ وترعرعت دون أن أشعر إن اسمي عبء على كاهلي.. لم يكن لي مع اسمي الرابع مشكلة.. لم أجد بصدده ما يجعله محل مأخذ أو نظر.. وفي عدن وخلال مدة طويلة حللتُ وأقمتُ فيها دون أن أشعر يوما إن اسمي كان عبئا أو عقبة أمام نيل حقوقي أو مسّها بحال.. كل شيء كان يسير على ما يرام.
في عدن وتحديدا في السبعينات على الأرجح، تم إلغاء أسماء المحافظات الست المكونة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية واستبدالها بالأرقام.. عدن المحافظة الأولى، ولحج الثانية، وأبين الثالثة، وشبوه الرابعة، وحضرموت الخامسة، والمهرة السادسة، وتم منع نسب الأسماء إلى المناطق أو إلى القبائل.. خطوة كانت في الطريق الصحيح..
تم إلغاء لقب الجوفي والحسني والمهري وغيرها من ألقاب كبار أسماء قادة البلاد، ومع ذلك وبسبب الصراع السياسي في النصف الأول من الثمانينات أنقلب الحال، وتم التحريض والتعبئة المناطقية بفجاجة، وعلى نحو جرّار، ثم تم تعميدها بالدم والدموع..
*
في هذه الحرب المرعبة باتت جل سلطات الأمر الواقع هنا وهناك تتعاطى مع الأسماء كانتماءات سياسية وطائفية وجهوية وقبلية ومناطقية تكلف أحيانا دفع كلفة باهضه على أصحابها.. ربما بسببها تكلفك بعض مشقة في حياتك، أو تطول وتستهدف حياتك نفسها.. من المحتمل بسببها تفقد أشياء كثيرة، وربما تفقد كل الأشياء بسبب اسمك المرتاب به..
أصبحت الأسماء عبء على أصحابها، فإن كانت هنا تجلب لك حظ ووفرة وتسهيل، فإنها في منطقة أخرى ربما تعني تهديد وخسران.. في الحرب وفي هذا العهد الأكثر توحش ودمامة صارت اسمائنا عبء علينا وربما خطرا محتملا يتهدد حياتنا، في واقع قبلي ومناطقي وعنصري يتعقب الأسماء، ويبحث عن أنفاسها حتى وإن كانت بدون أنفاس..
*
عندما أتيتُ إلى صنعاء من عدن عام 1990بعد الوحدة كان اسمي أحمد سيف حاشد هاشم. كان هذا هو اسمي في بطائقي وكل وثائقي التي أتيت بها معي من ألفها إلى ياءها.. جميعها تحكي هذا الاسم لا سواه.. لا تغيير فيه ولا تبديل..
في 1990عندما أتيت إلى صنعاء ليس على اسمي لبس أو غبار، ثم تم تغيير اسم "حاشد" إلى اسم "قائد" في كشوفات الدائرة المالية التابعة لوزارة الدفاع، وخضت مراجعة مضنية استمرت لشهور؛ لأستعيد اسم جدي حاشد في كشف المرتب الشهري، فيما ابن عمي عبده فريد حاشد المستشار في وزارة الخارجية في إحدى معاملاته استبدلوا اسم حاشد بـ "حامد" حتى تمكن هو الآخر من استعادة اسم جده بعد مراجعة..
لم أسي الظن يومها بما حدث، ولم أرجعه إلى سوء فهم أو فساد طوية، ولكن في إحدى نقاشاتي اللاحقة مع أحد مدراءي المنتمي إلى حجة، أحسست باستكثار أن يكون اسم جدي حاشد، وكان يومها لحاشد القبيلة جاه وهيبة، ومكانة اجتماعية أكثر من غيرها..
أما اليوم وفي ظل سلطة الأمر الواقع في صنعاء، فقد صادرت من كلينا اسم جدنا "هاشم".
*
عندما بدأ عهد "الفيسيوك"، كنت لا أحسن استخدامه في أول الأمر.. كان يتم فتح حسابات في "الفيسبوك" بأسمائنا دون علمنا.. كان بعض الخبثاء ينتحلوا شخصياتنا ويتلبسون بأسمائنا..
طلبتُ من صديقي وأحد المساعدين لي وهو صادق غانم أن يفتح لي حساب "فيسبوكي" باسمي حيث كنت حينها لا أجيد فتح حساب لي فيه.. كان لدي "الفيسبوك" لا زال عالم مجهول لا أعرف منه غير عتبة داره، وبالكاد..
فتح صادق غانم لي حساب باسم أحمد حاشد هاشم، وأخبرني أن الفيس رفض قبول اسم سيف لوجود حسابات أخرى تطابق اسمي، فاستعاض عن اسم أحمد سيف حاشد هاشم بأحمد حاشد هاشم، وهو ما كان متاحا يومها.
اسم هاشم هذا هو اسم جدي الثاني، وهو اسم حقيقي، وليس مجلوبا أو دخيلا على اسمي الرباعي، وتعاطيت مع اسم أحمد حاشد هاشم في وسائل التواصل الاجتماعي، دون تسيس أو بحث عن انتماء نسب، أو توجه سياسي، بل لم أفكر في أمر كهذا مطلقا حتى من باب الاحتمال الضعيف.. لم أكن أفكر أو أعلم بمكسب أو عبئ وتبعات لهذا الاسم، وصديقي أيضا هو الأخر لم يفكر بهذا..
لم أكن أعلم أن هاشم وهو بعض من اسمي الرباعي سيتم استخدامه للإساءة، ويتم اتهامي باستخدام اسم "هاشم" لأغراض انتهازية أو سياسية أو اجتماعية..
*
وظف ناشطوا حزب التجمع اليمني للإصلاح اسم هاشم للنيل مني على نحو واسع وكثيف.. شنوا بكثافة حملة شعواء على هذا الاسم، وتحديدا بعد مؤتمر “اليمن إلى أين” عام 2012 والذي أنعقد في بيروت.. خصت صحيفة "الناس" و "الأهالي" مقالات عدة ومتجنية علي شخصي وبسبب اسم "هاشم".. رموني بما هو فيهم من تخلف وعاهة..
ورغم توضيحي الصادق الذي نشرته في صحيفة "المستقلة" يومها إلا أن كثافة الضخ لاسيما في وسائل التواصل الاجتماعي كانت طاغية على الحقيقة، ووجدتُ نفسي وأنا أوغل في الإيضاح كمن يحرثُ في البحر.
***
أحمد سيف حاشد
https://www.facebook.com/profile.php?id=100073460206686
(1)
اسمي المصادر رابعه
نشأتُ وترعرعت دون أن أشعر إن اسمي عبء على كاهلي.. لم يكن لي مع اسمي الرابع مشكلة.. لم أجد بصدده ما يجعله محل مأخذ أو نظر.. وفي عدن وخلال مدة طويلة حللتُ وأقمتُ فيها دون أن أشعر يوما إن اسمي كان عبئا أو عقبة أمام نيل حقوقي أو مسّها بحال.. كل شيء كان يسير على ما يرام.
في عدن وتحديدا في السبعينات على الأرجح، تم إلغاء أسماء المحافظات الست المكونة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية واستبدالها بالأرقام.. عدن المحافظة الأولى، ولحج الثانية، وأبين الثالثة، وشبوه الرابعة، وحضرموت الخامسة، والمهرة السادسة، وتم منع نسب الأسماء إلى المناطق أو إلى القبائل.. خطوة كانت في الطريق الصحيح..
تم إلغاء لقب الجوفي والحسني والمهري وغيرها من ألقاب كبار أسماء قادة البلاد، ومع ذلك وبسبب الصراع السياسي في النصف الأول من الثمانينات أنقلب الحال، وتم التحريض والتعبئة المناطقية بفجاجة، وعلى نحو جرّار، ثم تم تعميدها بالدم والدموع..
*
في هذه الحرب المرعبة باتت جل سلطات الأمر الواقع هنا وهناك تتعاطى مع الأسماء كانتماءات سياسية وطائفية وجهوية وقبلية ومناطقية تكلف أحيانا دفع كلفة باهضه على أصحابها.. ربما بسببها تكلفك بعض مشقة في حياتك، أو تطول وتستهدف حياتك نفسها.. من المحتمل بسببها تفقد أشياء كثيرة، وربما تفقد كل الأشياء بسبب اسمك المرتاب به..
أصبحت الأسماء عبء على أصحابها، فإن كانت هنا تجلب لك حظ ووفرة وتسهيل، فإنها في منطقة أخرى ربما تعني تهديد وخسران.. في الحرب وفي هذا العهد الأكثر توحش ودمامة صارت اسمائنا عبء علينا وربما خطرا محتملا يتهدد حياتنا، في واقع قبلي ومناطقي وعنصري يتعقب الأسماء، ويبحث عن أنفاسها حتى وإن كانت بدون أنفاس..
*
عندما أتيتُ إلى صنعاء من عدن عام 1990بعد الوحدة كان اسمي أحمد سيف حاشد هاشم. كان هذا هو اسمي في بطائقي وكل وثائقي التي أتيت بها معي من ألفها إلى ياءها.. جميعها تحكي هذا الاسم لا سواه.. لا تغيير فيه ولا تبديل..
في 1990عندما أتيت إلى صنعاء ليس على اسمي لبس أو غبار، ثم تم تغيير اسم "حاشد" إلى اسم "قائد" في كشوفات الدائرة المالية التابعة لوزارة الدفاع، وخضت مراجعة مضنية استمرت لشهور؛ لأستعيد اسم جدي حاشد في كشف المرتب الشهري، فيما ابن عمي عبده فريد حاشد المستشار في وزارة الخارجية في إحدى معاملاته استبدلوا اسم حاشد بـ "حامد" حتى تمكن هو الآخر من استعادة اسم جده بعد مراجعة..
لم أسي الظن يومها بما حدث، ولم أرجعه إلى سوء فهم أو فساد طوية، ولكن في إحدى نقاشاتي اللاحقة مع أحد مدراءي المنتمي إلى حجة، أحسست باستكثار أن يكون اسم جدي حاشد، وكان يومها لحاشد القبيلة جاه وهيبة، ومكانة اجتماعية أكثر من غيرها..
أما اليوم وفي ظل سلطة الأمر الواقع في صنعاء، فقد صادرت من كلينا اسم جدنا "هاشم".
*
عندما بدأ عهد "الفيسيوك"، كنت لا أحسن استخدامه في أول الأمر.. كان يتم فتح حسابات في "الفيسبوك" بأسمائنا دون علمنا.. كان بعض الخبثاء ينتحلوا شخصياتنا ويتلبسون بأسمائنا..
طلبتُ من صديقي وأحد المساعدين لي وهو صادق غانم أن يفتح لي حساب "فيسبوكي" باسمي حيث كنت حينها لا أجيد فتح حساب لي فيه.. كان لدي "الفيسبوك" لا زال عالم مجهول لا أعرف منه غير عتبة داره، وبالكاد..
فتح صادق غانم لي حساب باسم أحمد حاشد هاشم، وأخبرني أن الفيس رفض قبول اسم سيف لوجود حسابات أخرى تطابق اسمي، فاستعاض عن اسم أحمد سيف حاشد هاشم بأحمد حاشد هاشم، وهو ما كان متاحا يومها.
اسم هاشم هذا هو اسم جدي الثاني، وهو اسم حقيقي، وليس مجلوبا أو دخيلا على اسمي الرباعي، وتعاطيت مع اسم أحمد حاشد هاشم في وسائل التواصل الاجتماعي، دون تسيس أو بحث عن انتماء نسب، أو توجه سياسي، بل لم أفكر في أمر كهذا مطلقا حتى من باب الاحتمال الضعيف.. لم أكن أفكر أو أعلم بمكسب أو عبئ وتبعات لهذا الاسم، وصديقي أيضا هو الأخر لم يفكر بهذا..
لم أكن أعلم أن هاشم وهو بعض من اسمي الرباعي سيتم استخدامه للإساءة، ويتم اتهامي باستخدام اسم "هاشم" لأغراض انتهازية أو سياسية أو اجتماعية..
*
وظف ناشطوا حزب التجمع اليمني للإصلاح اسم هاشم للنيل مني على نحو واسع وكثيف.. شنوا بكثافة حملة شعواء على هذا الاسم، وتحديدا بعد مؤتمر “اليمن إلى أين” عام 2012 والذي أنعقد في بيروت.. خصت صحيفة "الناس" و "الأهالي" مقالات عدة ومتجنية علي شخصي وبسبب اسم "هاشم".. رموني بما هو فيهم من تخلف وعاهة..
ورغم توضيحي الصادق الذي نشرته في صحيفة "المستقلة" يومها إلا أن كثافة الضخ لاسيما في وسائل التواصل الاجتماعي كانت طاغية على الحقيقة، ووجدتُ نفسي وأنا أوغل في الإيضاح كمن يحرثُ في البحر.
***
Facebook
Log in or sign up to view
See posts, photos and more on Facebook.
واليوم وفي هذه الحرب لازلتُ أدفع ثمن اسم لم أختاره أنا، ولكن ببساطة أجدادنا لم يعلموا أنه سيأتي عهد متخلّف وأحمق ندفع نحن فيه ثمن الأسماء التي اختارها آباء أجددانا لأبنائهم..
آباء أجددانا كانوا بسطاء ولا يعلمون أننا سنأتي على أيام غارقة في الجهل والعصبيات المنتنة.. لم يكن يخطر ببالهم إن الأمور ستأخذ هذا المنحى وهذا القدر من الهبوط والانحطاط الذي وصلنا إليه اليوم.. كانوا لا يعلمون أن أسماء مثل حاشد وهاشم ستصير جريرة وخطيئة على أبنائهم وأحفادهم.. كانوا لا يدركون إننا سنستجير صراع 1400 عام، ونستعيد ذكرياته الأليمة، بل ونحييه بانتشاء وانتقام، ونعيد إحياء عهده بإمعان وإصرار.
*
توجهت في نهاية شهر ديسمبر 2016 مع زملاء في لجنة العفو العام الفرعية والخاصة بأبناء محافظة لحج من صنعاء إلى تعز، وكانت وجهتنا إلى سجون مدينة الصالح في تعز؛ وذلك لتطبيق القرار بحدود الاختصاص، وكانت هي المرة الأولى التي اتجه فيها إلي تعز منذ بداية الحرب..
والعجيب أن سلطة صنعاء في الحرب غيرت أسم جامع الصالح إلى جامع الشعب، ومؤسسة الصالح إلى مؤسسة الشعب، ولكنها لم تغير أسم مدينة الصالح التي استحدثوا فيها أو حولوا بعضها إلى سجون، موزعين فيها المعتقلين الكثار.. لم يتم تحويل اسمها إلى "سجن الشعب" على غرار جامع الشعب أو مؤسسة الشعب، وإنما أبقوا على اسمها وأضافوا إليها اسم "سجن" لتصير "سجن مدينة الصالح"!
في رحلتي تلك شاهدت عشرات النقاط العسكرية على طول طريق صنعاء تعز، ولم أشاهد علم الجمهورية باستثناء علم واحد في نقطة واحدة بعد نقيل يسلح، بل هو بقايا علم ممزق ومهترئ ومتآكل يجسد الحال كما هو في الواقع دون زيف أو رتوش، فيما علم الجماعة كان في كل نقطة عسكرية يعلن سيادته وانتصاره.
بعض النقاط العسكرية عندما كانت تسألني عن هويتي كنتُ أعرض بطاقة عضويتي الخاصة بمجلس النواب، والثابت اسمي فيها "أحمد سيف حاشد هاشم".. كنت ألاحظ أحيانا لمن يقرأ حيرة من يطلبها، ثم يعلِّق بعضهم بسؤال: كيف حاشد وهاشم ؟! كان يعقّب بعضهم: حاشد وهاشم ما تركب!! ويسألني بعضهم: هاشم من أين؟!
*
كل وثائقي ومؤهلاتي بما فيها بطاقتي الشخصية العسكرية تحكي اسمي الرباعي، غير أن جواز سفري تم إثبات وتغيير اسم "هاشم" باسم منطقتي دون رغبتي وإرادتي، وفي هذه الحرب أيضا تم منحي بطاقة شخصية تم فيها تغيير هاشم بنسبي إلى منطقتي رغما عن إرادتي أيضا، وعن حقيقة اسمي الرباعي..
وفي هذه الأيام مضى أكثر من عام ، وأنا أدنو من الأجل أريد تسجيل رقمي الوظيفي في الخدمة المدنية، ولا أريد أن أورّث أبنائي المتاعب في حقوق تخصهم بعد رحيلي في هذا العهد المُغالِ أو العصي لهوله حتى على التسمية والتعاريف..
سنة كاملة من المتابعة ولم أستطع استعادة اسمي الرباعي.. لقد قضموا أكثر من خُمس اسمي بكبر وعصبية وباذخ من عناد.. كم سنة أحتاج لدى أمن ومخابرات صنعاء لأثبت لهم اسمي الثابت في وثائقي الأكيدة والمسلمة نسخة لها عبر مندوب الأحوال الشخصية ولأكثر من مرة.؟!. كم أحتاج من الوقت ليقبلوا اسمي كما هو..؟! ما ذنبي أن يأتي اسم "حاشد" على "هاشم". ولماذا يستكثرون اسم "هاشم" علىّ وأنا لا أعده أكثر من اسم متمما لاسمي الرباعي؟!
إنه بعض من اسمي الحقيقي لا يجوز إقصائه أو تغييره واستبداله.. إنني لم أدّعِ ولا أنازع به في ملك ولا ولاية.. إنني أدعو دوما للمساواة والمواطنة والعدالة منذ ريعان شبابي إلى اليوم، ولم أحيد عنها يوما قيد أنملة.. إنني أريد فقط تأكيد حقيقة اسمي وهويتي التي تريد عُقدهم المتجذرة في وعيهم مصادرتها عنّي.. أريد بطاقة تثبت هويتي بالاسم الذي يتطابق مع كل مؤهلاتي ووثائقي ومع الحقيقة قبلها.. أنا لا أدعو ولن أدعو يوما إلى أي عصبية منتنة.. أنا إنسان لم أتنازل يوما عن إنسانيتي.
من مأساة الوعي والتاريخ أن نجد أنفسنا ندفع ثمنا في حياتنا لما لم يكن على بال.. إننا اليوم نعيش عهد الحمقى الناضح بالرداءة والتعاسة، والوعي المشوه والدميم.. عهد صارت فيه الأسماء والألقاب تجني على أصحابها المعاناة، وربما تبلغ حد مصادرة مستقبل أصحابها، أو قطع العيش والمعاش عنهم، وربما استلاب الحياة..
اسمي تتفحصه وتمنعه عنّي المخابرات .. ما هذا السمج والهراء والعقل المثقل بعصبية لا تطاق.. من أين آتي لهم باسم آخر؟! اسمي أحمد سيف حاشد هاشم .. ليس لدي مشكلة مع الأسماء.. هذا اسمي الحقيقي منذ الولادة وسيظل كذلك حتى بعد الرحيل وأظنه بات وشيك.. يصرون على استنفاذ ما بقي لدي من حياة في متابعة استعادة اسمي الرباعي الذي صادروه، أو يريدون مصادرته ما بقيت حيا ثم ميتا وإلى الأبد إن كان هذا بإمكان..
لقد نشرت تعليقا على هذه المعاناة بالقول: أريد أن أنتزع منهم حقي في اسمي قبل أن يقتلوني..!! هل يريدون الانتقام حتى من أطفالنا في حقوقهم بعد أن نموت.. كم هم مرعبين وحاقدين وصغار.. ما أصغرهم..!!
آباء أجددانا كانوا بسطاء ولا يعلمون أننا سنأتي على أيام غارقة في الجهل والعصبيات المنتنة.. لم يكن يخطر ببالهم إن الأمور ستأخذ هذا المنحى وهذا القدر من الهبوط والانحطاط الذي وصلنا إليه اليوم.. كانوا لا يعلمون أن أسماء مثل حاشد وهاشم ستصير جريرة وخطيئة على أبنائهم وأحفادهم.. كانوا لا يدركون إننا سنستجير صراع 1400 عام، ونستعيد ذكرياته الأليمة، بل ونحييه بانتشاء وانتقام، ونعيد إحياء عهده بإمعان وإصرار.
*
توجهت في نهاية شهر ديسمبر 2016 مع زملاء في لجنة العفو العام الفرعية والخاصة بأبناء محافظة لحج من صنعاء إلى تعز، وكانت وجهتنا إلى سجون مدينة الصالح في تعز؛ وذلك لتطبيق القرار بحدود الاختصاص، وكانت هي المرة الأولى التي اتجه فيها إلي تعز منذ بداية الحرب..
والعجيب أن سلطة صنعاء في الحرب غيرت أسم جامع الصالح إلى جامع الشعب، ومؤسسة الصالح إلى مؤسسة الشعب، ولكنها لم تغير أسم مدينة الصالح التي استحدثوا فيها أو حولوا بعضها إلى سجون، موزعين فيها المعتقلين الكثار.. لم يتم تحويل اسمها إلى "سجن الشعب" على غرار جامع الشعب أو مؤسسة الشعب، وإنما أبقوا على اسمها وأضافوا إليها اسم "سجن" لتصير "سجن مدينة الصالح"!
في رحلتي تلك شاهدت عشرات النقاط العسكرية على طول طريق صنعاء تعز، ولم أشاهد علم الجمهورية باستثناء علم واحد في نقطة واحدة بعد نقيل يسلح، بل هو بقايا علم ممزق ومهترئ ومتآكل يجسد الحال كما هو في الواقع دون زيف أو رتوش، فيما علم الجماعة كان في كل نقطة عسكرية يعلن سيادته وانتصاره.
بعض النقاط العسكرية عندما كانت تسألني عن هويتي كنتُ أعرض بطاقة عضويتي الخاصة بمجلس النواب، والثابت اسمي فيها "أحمد سيف حاشد هاشم".. كنت ألاحظ أحيانا لمن يقرأ حيرة من يطلبها، ثم يعلِّق بعضهم بسؤال: كيف حاشد وهاشم ؟! كان يعقّب بعضهم: حاشد وهاشم ما تركب!! ويسألني بعضهم: هاشم من أين؟!
*
كل وثائقي ومؤهلاتي بما فيها بطاقتي الشخصية العسكرية تحكي اسمي الرباعي، غير أن جواز سفري تم إثبات وتغيير اسم "هاشم" باسم منطقتي دون رغبتي وإرادتي، وفي هذه الحرب أيضا تم منحي بطاقة شخصية تم فيها تغيير هاشم بنسبي إلى منطقتي رغما عن إرادتي أيضا، وعن حقيقة اسمي الرباعي..
وفي هذه الأيام مضى أكثر من عام ، وأنا أدنو من الأجل أريد تسجيل رقمي الوظيفي في الخدمة المدنية، ولا أريد أن أورّث أبنائي المتاعب في حقوق تخصهم بعد رحيلي في هذا العهد المُغالِ أو العصي لهوله حتى على التسمية والتعاريف..
سنة كاملة من المتابعة ولم أستطع استعادة اسمي الرباعي.. لقد قضموا أكثر من خُمس اسمي بكبر وعصبية وباذخ من عناد.. كم سنة أحتاج لدى أمن ومخابرات صنعاء لأثبت لهم اسمي الثابت في وثائقي الأكيدة والمسلمة نسخة لها عبر مندوب الأحوال الشخصية ولأكثر من مرة.؟!. كم أحتاج من الوقت ليقبلوا اسمي كما هو..؟! ما ذنبي أن يأتي اسم "حاشد" على "هاشم". ولماذا يستكثرون اسم "هاشم" علىّ وأنا لا أعده أكثر من اسم متمما لاسمي الرباعي؟!
إنه بعض من اسمي الحقيقي لا يجوز إقصائه أو تغييره واستبداله.. إنني لم أدّعِ ولا أنازع به في ملك ولا ولاية.. إنني أدعو دوما للمساواة والمواطنة والعدالة منذ ريعان شبابي إلى اليوم، ولم أحيد عنها يوما قيد أنملة.. إنني أريد فقط تأكيد حقيقة اسمي وهويتي التي تريد عُقدهم المتجذرة في وعيهم مصادرتها عنّي.. أريد بطاقة تثبت هويتي بالاسم الذي يتطابق مع كل مؤهلاتي ووثائقي ومع الحقيقة قبلها.. أنا لا أدعو ولن أدعو يوما إلى أي عصبية منتنة.. أنا إنسان لم أتنازل يوما عن إنسانيتي.
من مأساة الوعي والتاريخ أن نجد أنفسنا ندفع ثمنا في حياتنا لما لم يكن على بال.. إننا اليوم نعيش عهد الحمقى الناضح بالرداءة والتعاسة، والوعي المشوه والدميم.. عهد صارت فيه الأسماء والألقاب تجني على أصحابها المعاناة، وربما تبلغ حد مصادرة مستقبل أصحابها، أو قطع العيش والمعاش عنهم، وربما استلاب الحياة..
اسمي تتفحصه وتمنعه عنّي المخابرات .. ما هذا السمج والهراء والعقل المثقل بعصبية لا تطاق.. من أين آتي لهم باسم آخر؟! اسمي أحمد سيف حاشد هاشم .. ليس لدي مشكلة مع الأسماء.. هذا اسمي الحقيقي منذ الولادة وسيظل كذلك حتى بعد الرحيل وأظنه بات وشيك.. يصرون على استنفاذ ما بقي لدي من حياة في متابعة استعادة اسمي الرباعي الذي صادروه، أو يريدون مصادرته ما بقيت حيا ثم ميتا وإلى الأبد إن كان هذا بإمكان..
لقد نشرت تعليقا على هذه المعاناة بالقول: أريد أن أنتزع منهم حقي في اسمي قبل أن يقتلوني..!! هل يريدون الانتقام حتى من أطفالنا في حقوقهم بعد أن نموت.. كم هم مرعبين وحاقدين وصغار.. ما أصغرهم..!!
مأساة أسماءنا تطول وتذكرني بما كتبه الأديب السوري الساخر محمد الماغوط:
"سأنجب طفلا أسميه آدم، لأن الأسامي في زماننا تهمة"
*
أنا أحمد سيف حاشد هاشم ابن الدباغ الإنسان.. الطريف أن أحد المرافقين لمسؤول كبير أخبرني أن كنيته كانت "أبو هاشم" وعندما قرأ في تفاصيل حياتي إنني ابن "الدباغ" قلب اسمه إلى أبو علي.. أنا أحترم كل المهن وكل الناس الذين يأكلون من كدهم وعرق جبينهم، بل واعتبرهم عظماء كبار.. ليس لدي عُقد أو مواقف استنقاص حيال أي إنسان حر وشريف..
واذا كان لدينا مأخذا أو نقدا في المسميات فهي تلك التي تحتدم أسماءها مع جوهرها ومضامينها.. تلك الأسماء التي تتنافي مع توجهات وحقيقة مسمياتها المظللة والمخادعة للناس والشعب، مثل مسميات حزب "الإصلاح" و "أنصار الله" التي جلبت لنا وللوطن أقدارا من الجحيم.. جعلونا فحما وشواء.. صلبونا على جدران الجوع.. سامونا الضيم والعذاب.. معاناة تطول ولا تنتهي بانتهاء ما بقي لنا من عمر، بل وعمر أولادنا وأحفادنا..
*
(2)
سلطات متعفنة
إننا نعيش اليوم عهد أشد وطأة.. عهد ما كان يخطر على بال.. عهد أكثر سفورا وقبحا وفجاجة.. ربما يجلب فيه اسمك وانتمائك وولائك حظ وغنيمة واحتكار، أو حرمانا ودونية، لا يبتدئ من الوظيفة العامة مرورا بالترقية، ولا ينتهي بشغل المناصب العليا، وما يلازمها من امتياز ووفرة أو تضييق وحرمان..
عهد جريء على نحو صارخ.. موغل في غب الباطل.. يعطي حقك الأصيل من لا يستحق.. يتجاوز حدودك وما وراء بحارك، ويغتصب حقوقك بفضاضة وبداوة.. يستبيح ما لك من حقوق بتحدٍ وإرغام.. يستولي بغلاظة ما ليس له فيه حق ولا شبهة.. يهبك بسخاء حقوق الغير الذي يكابد حرمان حقوقه المستحقة حتى يموت جوعا وضيقا وكمدا..
أصابوا أسمائنا بكل مقيت حتى باتت وبالا يصيبنا ويصيب أصحابها، في صراع محتدم تسوسه العنصرية البغيضة، والعصبيات المنتنة، والمصالح الضيقة، وتاريخ دامي ومرعب، ومسخ وعي دميم، عمره أكثر من 1400 عام، ولازال يمتد ببشاعته ودمامته إلى اليوم، وبلعنة لا تريد أن تجفل أو تغادر حياتنا وحياة من سياتي بعدنا.
*
السلطات المتعاقبة لدينا لا تنهض ببناء حقيقي ولا تقدم تنمية شاملة.. السلطات لدينا طفيلية ومتعفنة الوعي في جلها، تعتاش وتقتات على ما قبلها. هي تفشل في إحداث اقتصاد معافى وتنمية مستدامه.. وأكثر من هذا تعجز على نحو مضطرد في تحسين أحوال مواطنيها، بل وتجلب لهم الحروب والفوضى والكوارث المعيشية.. وتستعيض عن فشلها بفرض نفسها بالغلبة والحيلة واستخدام مقدرات الشعب في تكريس فكرها وسياساتها وأيديولوجياتها في الوعي، وتطفّل على ما سبقها من بناء متواضع ربما جله هدايا من شعوب أخرى أو معونات، فتستبدل الأسماء القائمة على المدارس والشوارع والمنشآت بأسمائها التي تكرّس فيها عصبتها وأيديولوجيتها وفكرها وسياساتها وثقافاتها وانحيازاتها..
بات اليوم أسود من أمسه؛ فنقول جوازا وحقيقة: لا يبنون مصانعا ولا مدارسا..! لا يبنون مدنا ولا يرصفون شوارع..! بل يحولون بعض المنشآت المدنية إلى سجون.. يتسولون ويتأمرون على أوطاننا.. يفسدونها بإمعان.. يعيدون تسميتها.. ينهبونها بجرأة.. يهدموها وينشرون الفساد والخراب فيها على نحو مرعب ومهول..
يصنعون دميا وأصناما وكوارثا ويتباهون ويتفاخرون بها دون حياء.. يطلقون التسميات على مسميات هي منها ومنهم براء، بل هم يعيشون أكبر عوزا وفقدانا لها..
*
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
"سأنجب طفلا أسميه آدم، لأن الأسامي في زماننا تهمة"
*
أنا أحمد سيف حاشد هاشم ابن الدباغ الإنسان.. الطريف أن أحد المرافقين لمسؤول كبير أخبرني أن كنيته كانت "أبو هاشم" وعندما قرأ في تفاصيل حياتي إنني ابن "الدباغ" قلب اسمه إلى أبو علي.. أنا أحترم كل المهن وكل الناس الذين يأكلون من كدهم وعرق جبينهم، بل واعتبرهم عظماء كبار.. ليس لدي عُقد أو مواقف استنقاص حيال أي إنسان حر وشريف..
واذا كان لدينا مأخذا أو نقدا في المسميات فهي تلك التي تحتدم أسماءها مع جوهرها ومضامينها.. تلك الأسماء التي تتنافي مع توجهات وحقيقة مسمياتها المظللة والمخادعة للناس والشعب، مثل مسميات حزب "الإصلاح" و "أنصار الله" التي جلبت لنا وللوطن أقدارا من الجحيم.. جعلونا فحما وشواء.. صلبونا على جدران الجوع.. سامونا الضيم والعذاب.. معاناة تطول ولا تنتهي بانتهاء ما بقي لنا من عمر، بل وعمر أولادنا وأحفادنا..
*
(2)
سلطات متعفنة
إننا نعيش اليوم عهد أشد وطأة.. عهد ما كان يخطر على بال.. عهد أكثر سفورا وقبحا وفجاجة.. ربما يجلب فيه اسمك وانتمائك وولائك حظ وغنيمة واحتكار، أو حرمانا ودونية، لا يبتدئ من الوظيفة العامة مرورا بالترقية، ولا ينتهي بشغل المناصب العليا، وما يلازمها من امتياز ووفرة أو تضييق وحرمان..
عهد جريء على نحو صارخ.. موغل في غب الباطل.. يعطي حقك الأصيل من لا يستحق.. يتجاوز حدودك وما وراء بحارك، ويغتصب حقوقك بفضاضة وبداوة.. يستبيح ما لك من حقوق بتحدٍ وإرغام.. يستولي بغلاظة ما ليس له فيه حق ولا شبهة.. يهبك بسخاء حقوق الغير الذي يكابد حرمان حقوقه المستحقة حتى يموت جوعا وضيقا وكمدا..
أصابوا أسمائنا بكل مقيت حتى باتت وبالا يصيبنا ويصيب أصحابها، في صراع محتدم تسوسه العنصرية البغيضة، والعصبيات المنتنة، والمصالح الضيقة، وتاريخ دامي ومرعب، ومسخ وعي دميم، عمره أكثر من 1400 عام، ولازال يمتد ببشاعته ودمامته إلى اليوم، وبلعنة لا تريد أن تجفل أو تغادر حياتنا وحياة من سياتي بعدنا.
*
السلطات المتعاقبة لدينا لا تنهض ببناء حقيقي ولا تقدم تنمية شاملة.. السلطات لدينا طفيلية ومتعفنة الوعي في جلها، تعتاش وتقتات على ما قبلها. هي تفشل في إحداث اقتصاد معافى وتنمية مستدامه.. وأكثر من هذا تعجز على نحو مضطرد في تحسين أحوال مواطنيها، بل وتجلب لهم الحروب والفوضى والكوارث المعيشية.. وتستعيض عن فشلها بفرض نفسها بالغلبة والحيلة واستخدام مقدرات الشعب في تكريس فكرها وسياساتها وأيديولوجياتها في الوعي، وتطفّل على ما سبقها من بناء متواضع ربما جله هدايا من شعوب أخرى أو معونات، فتستبدل الأسماء القائمة على المدارس والشوارع والمنشآت بأسمائها التي تكرّس فيها عصبتها وأيديولوجيتها وفكرها وسياساتها وثقافاتها وانحيازاتها..
بات اليوم أسود من أمسه؛ فنقول جوازا وحقيقة: لا يبنون مصانعا ولا مدارسا..! لا يبنون مدنا ولا يرصفون شوارع..! بل يحولون بعض المنشآت المدنية إلى سجون.. يتسولون ويتأمرون على أوطاننا.. يفسدونها بإمعان.. يعيدون تسميتها.. ينهبونها بجرأة.. يهدموها وينشرون الفساد والخراب فيها على نحو مرعب ومهول..
يصنعون دميا وأصناما وكوارثا ويتباهون ويتفاخرون بها دون حياء.. يطلقون التسميات على مسميات هي منها ومنهم براء، بل هم يعيشون أكبر عوزا وفقدانا لها..
*
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
ربما ينتهي ما يحدث في مارب إلى توقيع اتفاق ما بوساطة دولية ويتم تقسيم اليمن حته حته..
إنه السلام " المحتحت" الذي اشرت إليه قبل توقيع الاتفاق الذي تم في السويد.
مشروع تفكيك اليمن مستمر ويتم بحوامل محلية وشرعنة محلية ودولية..
ربما ينتهي ما يحدث في مارب إلى توقيع اتفاق ما بوساطة دولية ويتم تقسيم اليمن حته حته..
إنه السلام " المحتحت" الذي اشرت إليه قبل توقيع الاتفاق الذي تم في السويد.
مشروع تفكيك اليمن مستمر ويتم بحوامل محلية وشرعنة محلية ودولية..
#القاضي_احمد_سيف_حاشد
السلسلة الثانية
طفولتي في عدن
أحمد سيف حاشد
جزءٌ من طفولتي الأولى التي أتذكّر بعضها بصعوبةٍ كانت في عدن حال ما كان والدي يعمل بشركة "البس"..
بعد سنين من عمله في شركة (البس)، جاء بنا من القريةِ لنكونَ معه وإلى جواره.. وفّر له العمل قدرا من الدخل المحدود والمستقر، لِيلُمَّ به شملنا، ويفي باستقرارٍ معيشي متواضع، وإن كان هذا قد جاء على حساب صحته في المقام الأول، وكان إيثارا منه لم نعلمْه إلّا بعد نوباتِ السُّعال الّتي كان كانت تجتاحه بين حين وآخر..
أقمنا في (دار سعد) إحدى ضواحي عدن، وكان عُمري يومها سنتين وبضعة أشهر، ومعي أختان توأم (نور وسامية) وعمرهما أقل من عام.. وفي (دار سعد) كنّا قد سكنَّا منزلا صغيرا استأجره والدي، يتكون من غرفةٍ وحمامٍ، ومطبخٍ، وصالة.
*
(1)
مغالبة "الحصبة"
أراد أبي أن يَلُمَّ شملَنا تحت سقفٍ واحد في عدن.. أراد أن يُلملِمَ أشتات أسرتنا الصغيرة والبعيدة، بمسكن صغير في أطراف ضواحي المدينة المعروفة بـ "دار سعد" يؤينا إليه، محاطين بقْدرٍ من السّكينة والدِّعة التي نبحث عنها.. ولكن دخلت علينا الحصْبةُ بدمامتِها وقُبحها، وما تحمِلهُ من بشاعةٍ وافتراس..
في عدن مرضتُ بالحصْبة.. كان مرضُ الحصْبةِ ينتشر ويفتِكُ بالأطفال.. الحصْبةُ فيروسا انتقالي حاد ومُعدي يُصيبُ الأطفال، ويسبّب لهم مضاعفاتٍ خطيرةٍ في بعض الأحيان.
كان مرضُ الحصْبةِ أكثرَ الأمراضِ انتشارا في سِنِّ الطفولة بصفه خاصة، ومن أعراضه ارتفاعٌ في درجةِ الحرارة مصحوبٌ برشَحٍ وسُعال، ورمد، وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم.. ورغم اكتشاف لُقاح الحصبة في ستينيّات القرن الماضي، إلا أنه لم يقوّض هذا المرض ويصيّره نادرا إلا في بداية التسعينيّات من القرن الماضي بحسب بعض المصادر.
أوّل معركةٍ رُبّما خُضتُها وأنا طفل في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال.. كان نذيرُ موتٍ يتهدَّدُ حياتي، ويتربّصُ بي بإصرار واشتهاء.. كلُّ يوم يمُرُّ وأنا لاأزال على قيد الحياة، كان يعني لأبي وأمي معجزةً من الصمود العنيد في مواجهة الموت، ورُبّما كان يعني مرور اليوم بالنسبة لي اجتراح بطولة على مرض يتَّسعُ وينتشر.. يفتك بالطفولة دون أن يراعي أو يكترث.. فيروس موت لا يعود من بيت فقير إلا وقد نهب من أطفالها روح من يشتهيه..
غالبتُ مرض الحصْبة، وقوِيْتُ على المقاومةِ والصُّمود، بفضل بعض النصائح التي أسْدَتْها جارتُنا لأمِّي التي كانت لاتزال قليلة التجربة، أو مُعدِمة الخبرة والمعرفة في أمور كتلك..
استفادت أمِّي من نصائح جارتها الّتي كان لديها بعضُ الدِّرايةِ بكيفية التعاطي مع هكذا حالة، ومعرفة بالوسائل الّتي باستطاعتها أن تخفِّفَ من وحشيَّة وآثار هذا المرض، فالجهل يمكن أنْ يضاعِفَ الحالة ويفاقِمَها، وهو المُساند الأول للمرض، وربّما يلعبُ دور السبب الأول للوفاة قبل المرض إنْ لم يُحتاطْ له.. تضافرت أسباب الحياة وسندت بعضها، فانتصرتُ على فيروس الموت، وتعافيتُ منه، واكتسبتُ مناعة منه مدى الحياة.
*
(2)
سَقَمٌ وهُزال.
بعدَ شهورٍ مرِضتُ بمرضٍ لا أعرفه.. أصابني هُزالٌ وفُقدان شهية.. هَزُلَ جسمي إلى درجةٍ جعلني أشبه بأطفالِ مجاعةِ إفريقيا الّذين نشاهدهم في الصُّورِ وشاشاتِ التّلفزة.. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراعا مع الموت من أجل البقاء.. إمّا أنْ تغلبَ المرض أو يغلبك.. الموت يحوم عليك ويتربَّص بك كلَّ يومٍ وحين..
جارُنا "عبد الكريم فاضل" كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول ودون مقدمات: “ابنك سيموت ولن يعيش”. جملة قصيرة ربما نزلت على رأس أبي مثل ضرب المطرقة..
أثارت مخاوفه واستنفرت اهتمامه.. ربما هذه الجملة الصادمة، كانت سببا لأن أتجاوز الموت وأعيش.. هذه الجملة المُشبَعة بالمخاوف، بدت صاعقة لأبي، وجعلته يُهرع توَّا وعلى الفور إلى مشفى في عدن، غير أنَّ الطبيبَ أخبره أنَّ حالتي صعبة، والأمل في أنْ أعيشَ ضعيف.
أشار جارنا لوالدي أنْ يذهب بي إلى طبيبٍ ماهرٍ في لحج، لرُبّما هناك يجد بصيص أمل.. أبي الباحث على أملٍ يَذوي ويخفُت في سوادِ كثيفٍ من اليأس.. ينتابه هلعٌ شديد.. أستطيع أن أتخيّلَ هلعَ أبي وأنا في حُضنه أو مسنودٌ بيده إلى ضلعه الحنون.. أسمع خفقاته.. قلبه يدق كالطّبل، صدره يصعد ويهبط، وأنفاسه تأرجحني، ودمْدمَة هلعه تهزُّ وجدانه وكيانه..
هذا ما شعرت به يوما أنا أيضا، عندما كنت أسابق الموت، وأحاول إنقاذ ابني فادي من نوبة ربو، عندما كان في سنِّي تقريبا أو أكبر قليلا.. كان والدي يحاول إنقاذي، وهو مصحوب بالهلع.. الشعور بأنّك تسابق الموت وتمنعه عن انتزاع طفلك من بين يديك، شعور كثيف الحضور، ولا يمكن نسيانه مهما تقادمت السنين وطال بك العمر.. لقد عشتُ مثل هذه اللحظة الكثيفة طفلا كما عشتُها أبا.. سارع والدي لإنقاذي من موتٍ محققٍ كان يُثقل جفوني المسبلة..
السلسلة الثانية
طفولتي في عدن
أحمد سيف حاشد
جزءٌ من طفولتي الأولى التي أتذكّر بعضها بصعوبةٍ كانت في عدن حال ما كان والدي يعمل بشركة "البس"..
بعد سنين من عمله في شركة (البس)، جاء بنا من القريةِ لنكونَ معه وإلى جواره.. وفّر له العمل قدرا من الدخل المحدود والمستقر، لِيلُمَّ به شملنا، ويفي باستقرارٍ معيشي متواضع، وإن كان هذا قد جاء على حساب صحته في المقام الأول، وكان إيثارا منه لم نعلمْه إلّا بعد نوباتِ السُّعال الّتي كان كانت تجتاحه بين حين وآخر..
أقمنا في (دار سعد) إحدى ضواحي عدن، وكان عُمري يومها سنتين وبضعة أشهر، ومعي أختان توأم (نور وسامية) وعمرهما أقل من عام.. وفي (دار سعد) كنّا قد سكنَّا منزلا صغيرا استأجره والدي، يتكون من غرفةٍ وحمامٍ، ومطبخٍ، وصالة.
*
(1)
مغالبة "الحصبة"
أراد أبي أن يَلُمَّ شملَنا تحت سقفٍ واحد في عدن.. أراد أن يُلملِمَ أشتات أسرتنا الصغيرة والبعيدة، بمسكن صغير في أطراف ضواحي المدينة المعروفة بـ "دار سعد" يؤينا إليه، محاطين بقْدرٍ من السّكينة والدِّعة التي نبحث عنها.. ولكن دخلت علينا الحصْبةُ بدمامتِها وقُبحها، وما تحمِلهُ من بشاعةٍ وافتراس..
في عدن مرضتُ بالحصْبة.. كان مرضُ الحصْبةِ ينتشر ويفتِكُ بالأطفال.. الحصْبةُ فيروسا انتقالي حاد ومُعدي يُصيبُ الأطفال، ويسبّب لهم مضاعفاتٍ خطيرةٍ في بعض الأحيان.
كان مرضُ الحصْبةِ أكثرَ الأمراضِ انتشارا في سِنِّ الطفولة بصفه خاصة، ومن أعراضه ارتفاعٌ في درجةِ الحرارة مصحوبٌ برشَحٍ وسُعال، ورمد، وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم.. ورغم اكتشاف لُقاح الحصبة في ستينيّات القرن الماضي، إلا أنه لم يقوّض هذا المرض ويصيّره نادرا إلا في بداية التسعينيّات من القرن الماضي بحسب بعض المصادر.
أوّل معركةٍ رُبّما خُضتُها وأنا طفل في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال.. كان نذيرُ موتٍ يتهدَّدُ حياتي، ويتربّصُ بي بإصرار واشتهاء.. كلُّ يوم يمُرُّ وأنا لاأزال على قيد الحياة، كان يعني لأبي وأمي معجزةً من الصمود العنيد في مواجهة الموت، ورُبّما كان يعني مرور اليوم بالنسبة لي اجتراح بطولة على مرض يتَّسعُ وينتشر.. يفتك بالطفولة دون أن يراعي أو يكترث.. فيروس موت لا يعود من بيت فقير إلا وقد نهب من أطفالها روح من يشتهيه..
غالبتُ مرض الحصْبة، وقوِيْتُ على المقاومةِ والصُّمود، بفضل بعض النصائح التي أسْدَتْها جارتُنا لأمِّي التي كانت لاتزال قليلة التجربة، أو مُعدِمة الخبرة والمعرفة في أمور كتلك..
استفادت أمِّي من نصائح جارتها الّتي كان لديها بعضُ الدِّرايةِ بكيفية التعاطي مع هكذا حالة، ومعرفة بالوسائل الّتي باستطاعتها أن تخفِّفَ من وحشيَّة وآثار هذا المرض، فالجهل يمكن أنْ يضاعِفَ الحالة ويفاقِمَها، وهو المُساند الأول للمرض، وربّما يلعبُ دور السبب الأول للوفاة قبل المرض إنْ لم يُحتاطْ له.. تضافرت أسباب الحياة وسندت بعضها، فانتصرتُ على فيروس الموت، وتعافيتُ منه، واكتسبتُ مناعة منه مدى الحياة.
*
(2)
سَقَمٌ وهُزال.
بعدَ شهورٍ مرِضتُ بمرضٍ لا أعرفه.. أصابني هُزالٌ وفُقدان شهية.. هَزُلَ جسمي إلى درجةٍ جعلني أشبه بأطفالِ مجاعةِ إفريقيا الّذين نشاهدهم في الصُّورِ وشاشاتِ التّلفزة.. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراعا مع الموت من أجل البقاء.. إمّا أنْ تغلبَ المرض أو يغلبك.. الموت يحوم عليك ويتربَّص بك كلَّ يومٍ وحين..
جارُنا "عبد الكريم فاضل" كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول ودون مقدمات: “ابنك سيموت ولن يعيش”. جملة قصيرة ربما نزلت على رأس أبي مثل ضرب المطرقة..
أثارت مخاوفه واستنفرت اهتمامه.. ربما هذه الجملة الصادمة، كانت سببا لأن أتجاوز الموت وأعيش.. هذه الجملة المُشبَعة بالمخاوف، بدت صاعقة لأبي، وجعلته يُهرع توَّا وعلى الفور إلى مشفى في عدن، غير أنَّ الطبيبَ أخبره أنَّ حالتي صعبة، والأمل في أنْ أعيشَ ضعيف.
أشار جارنا لوالدي أنْ يذهب بي إلى طبيبٍ ماهرٍ في لحج، لرُبّما هناك يجد بصيص أمل.. أبي الباحث على أملٍ يَذوي ويخفُت في سوادِ كثيفٍ من اليأس.. ينتابه هلعٌ شديد.. أستطيع أن أتخيّلَ هلعَ أبي وأنا في حُضنه أو مسنودٌ بيده إلى ضلعه الحنون.. أسمع خفقاته.. قلبه يدق كالطّبل، صدره يصعد ويهبط، وأنفاسه تأرجحني، ودمْدمَة هلعه تهزُّ وجدانه وكيانه..
هذا ما شعرت به يوما أنا أيضا، عندما كنت أسابق الموت، وأحاول إنقاذ ابني فادي من نوبة ربو، عندما كان في سنِّي تقريبا أو أكبر قليلا.. كان والدي يحاول إنقاذي، وهو مصحوب بالهلع.. الشعور بأنّك تسابق الموت وتمنعه عن انتزاع طفلك من بين يديك، شعور كثيف الحضور، ولا يمكن نسيانه مهما تقادمت السنين وطال بك العمر.. لقد عشتُ مثل هذه اللحظة الكثيفة طفلا كما عشتُها أبا.. سارع والدي لإنقاذي من موتٍ محققٍ كان يُثقل جفوني المسبلة..
وفي لحج قال الطبيب لوالدي، إنّ حالتي سيئة جداً، وإنني لم أعد أحتمل الإبر، ولن أستطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، ولكن “لعل وعسى” وقرر لي وصفة علاج دون إبر..
استجاب جسمي للعلاج وأخذتْ حالتي تتحسن ببطء.. بدأت أُقبل على الطعام بنهَمٍ يزداد كلّ يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطلا من اللحم في اليوم أتناوله كله لوحدي، ولا أترك للبقية شيئا منه يأكلونه.. هذا ما كانت تحكيه لي أمي.. كانوا إذا أعطوني قطعة منه، ما ألبث أن أعود فأطلب أخرى، حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي.. أستطيع أن أتخيل سعادة أبي وأمي..
أستطيع أن أتخيل لحظتها قلب أمي صرة فرح، وهو يكاد يطير من بين جوانحها.. أتخيل أبي والسعادة تغمره، وتتفتّح أسارير وجهه كزنابِق على شُرفات بيت عريس.. يا له من شعور أخاذ وآسر!..
نجوت وتعافيت، بل وصرت مشاغباً وشقيّاً.. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها.. أكسر زير الماء.. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء.. أكسر الزجاج.. أرمي بأواني الطعام.. أرتكب كلّ الحماقات وأرمي كل ما تَطالُه يدي على ما تقع عليه عيني.. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، وتغضب أحيانا أخرى، وتعاقبني بقسوة في مُعظم الأحيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملأن البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي.. كنت مزعجا لأهلي وللجيران والمؤجر.. لم أكف عن الشّقاوة والبكاء والضجيج والصراخ.
*
(3)
بُؤسٌ وشقاوة ..
كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات في العمل المضنى والجهيد، من أجل إبقائنا على قيد الحياة، وسدِّ لقمة عيشنا المتواضعة، وكذا عيش أسرته الأخرى التي يعولها في القرية، والّتي تنتظر بفارغ الصّبر ما يأتيها من والدي المثقل بمسؤولية إعاشتنا جميعا..
كانت الحياة صعبة، وصراعنا كله من أجل البقاء، فالستر واستمرارنا بالحياة هي أقصى مانحلم به ونريد.
كانت أمي تطلب من أبي أن يُغلقَ علينا الباب من الخارج، خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها، فيغلق الباب علينا من الخارج حتى يعود من العمل آخر النهار.
كانت أمّي شديدة الحياء والمحافظة والتوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران.. لا تفتح نافذة ولا باب.. أبي هو وحده من يفتح الباب وهو من يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف، وغسل الملابس ، والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت..
ولكن لماذا أنا أيضا يتمُّ حبسي ولا يُسمحُ لي أن أخرج للشارع لألعبَ مع الأطفال أو أُطِل عليهم من نافذة؟!! أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت!! أريد أن أرى الوجوه والنّاس، والحركة ومعها صخب الحياة وضجيجها..
كلّ ساعاتِ النّهار والليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شقٌّ في نافذة ولا خُرمُ مفتاحٍ في باب..
أسمع بعض ما يحدثُ خارجَ البيتِ ولكنّني لا أراه.. فضولي مقموعٌ بجدران من أسمنت، وخشب من ساج، ولا مجال ولا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه..
أريد أن أعرف العالم خارج حيطان بيتنا.. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، والمحوطة بالصّرر والقراطيس، والعلب الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..
أريد أن أرى كلّ التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره.. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. كلّ شيءٍ ضيقٌ في البيت، كصدري الضيق، وجُمجُمتي الصغيرة.. أشعر أنّني أقضي أيامي في قُمقمٍ صغيرٍ مغلقٍ بالحديد، يحصرني ويحاصرني، ويكتم أنفاسي.. فكان طبيعيّا أن أكون شقيّا، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي والمتمرد بين جدران البيت وسقفه، وحصاره.
*
(4)
الموتُ يداهمُنا.. تساؤل ..
لماذا الموت يا إلهي؟! أعلم أنك حكيم، ولكن السؤال أيضا يبحث عن الحكمة والبيان؟! نحن شغوفون بالمعرفة، وربّما جُبلنا على هذا، ورُبّما في المعرفة تحدٍ وجودي للإنسان.. إننا نحاول فهم ما لا يتأتّى فهمه، وإماطة اللثام عنه، وكشف ألغازه ومجاهله، ومعرفة ما لا نعرفه، حتى وإن كان عصيا عن الفهم والمعرفة منذ البداية، أو تحتاج الإجابة على الأسئلة إلى مداها الزمني المستحق، إلّا أنّ شرفَ المحاولة فيه ممارسةٌ وجودية، تجعلنا نستحق هذا الوجود الذي نعيشه..
المعرفة ربما لا تأتي بالتّسليم، أو بتجاهل مالا ينبغي تجاهله، ولكنّها تأتي من اعتمال العقل والتجربة، وإثارة الأسئلة، ومناقشةِ الفَرْضيات والنظريات، أو استبدالها أو تصحيحها.. فالخواء لا يقدِّم علما أو معرفة أو فَهما.. ينبغي للأسئلة لتفعل فعلها، أن تنفُذ إلى الداخل وتغوص في العمق، ويجري البحث عن الإجابة عليها، وبذل ما في الوُسْع والاستطاعة من الجهد؛ لاكتشاف ما هو مجهول وغامض، وإزالة كلّ لَبسٍ أو غبش.. سلطانُ العلم هو ما نحتاجه لننفذ به إلى أقطار السّماوات العُلا، والأشياء الكبيرة كما قالوا تبدأ بسؤال صغير".. وقيل في حديث"إنما شفاء العيِّ السؤال".
استجاب جسمي للعلاج وأخذتْ حالتي تتحسن ببطء.. بدأت أُقبل على الطعام بنهَمٍ يزداد كلّ يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطلا من اللحم في اليوم أتناوله كله لوحدي، ولا أترك للبقية شيئا منه يأكلونه.. هذا ما كانت تحكيه لي أمي.. كانوا إذا أعطوني قطعة منه، ما ألبث أن أعود فأطلب أخرى، حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي.. أستطيع أن أتخيل سعادة أبي وأمي..
أستطيع أن أتخيل لحظتها قلب أمي صرة فرح، وهو يكاد يطير من بين جوانحها.. أتخيل أبي والسعادة تغمره، وتتفتّح أسارير وجهه كزنابِق على شُرفات بيت عريس.. يا له من شعور أخاذ وآسر!..
نجوت وتعافيت، بل وصرت مشاغباً وشقيّاً.. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها.. أكسر زير الماء.. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء.. أكسر الزجاج.. أرمي بأواني الطعام.. أرتكب كلّ الحماقات وأرمي كل ما تَطالُه يدي على ما تقع عليه عيني.. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، وتغضب أحيانا أخرى، وتعاقبني بقسوة في مُعظم الأحيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملأن البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي.. كنت مزعجا لأهلي وللجيران والمؤجر.. لم أكف عن الشّقاوة والبكاء والضجيج والصراخ.
*
(3)
بُؤسٌ وشقاوة ..
كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات في العمل المضنى والجهيد، من أجل إبقائنا على قيد الحياة، وسدِّ لقمة عيشنا المتواضعة، وكذا عيش أسرته الأخرى التي يعولها في القرية، والّتي تنتظر بفارغ الصّبر ما يأتيها من والدي المثقل بمسؤولية إعاشتنا جميعا..
كانت الحياة صعبة، وصراعنا كله من أجل البقاء، فالستر واستمرارنا بالحياة هي أقصى مانحلم به ونريد.
كانت أمي تطلب من أبي أن يُغلقَ علينا الباب من الخارج، خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها، فيغلق الباب علينا من الخارج حتى يعود من العمل آخر النهار.
كانت أمّي شديدة الحياء والمحافظة والتوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران.. لا تفتح نافذة ولا باب.. أبي هو وحده من يفتح الباب وهو من يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف، وغسل الملابس ، والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت..
ولكن لماذا أنا أيضا يتمُّ حبسي ولا يُسمحُ لي أن أخرج للشارع لألعبَ مع الأطفال أو أُطِل عليهم من نافذة؟!! أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت!! أريد أن أرى الوجوه والنّاس، والحركة ومعها صخب الحياة وضجيجها..
كلّ ساعاتِ النّهار والليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شقٌّ في نافذة ولا خُرمُ مفتاحٍ في باب..
أسمع بعض ما يحدثُ خارجَ البيتِ ولكنّني لا أراه.. فضولي مقموعٌ بجدران من أسمنت، وخشب من ساج، ولا مجال ولا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه..
أريد أن أعرف العالم خارج حيطان بيتنا.. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، والمحوطة بالصّرر والقراطيس، والعلب الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..
أريد أن أرى كلّ التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره.. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. كلّ شيءٍ ضيقٌ في البيت، كصدري الضيق، وجُمجُمتي الصغيرة.. أشعر أنّني أقضي أيامي في قُمقمٍ صغيرٍ مغلقٍ بالحديد، يحصرني ويحاصرني، ويكتم أنفاسي.. فكان طبيعيّا أن أكون شقيّا، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي والمتمرد بين جدران البيت وسقفه، وحصاره.
*
(4)
الموتُ يداهمُنا.. تساؤل ..
لماذا الموت يا إلهي؟! أعلم أنك حكيم، ولكن السؤال أيضا يبحث عن الحكمة والبيان؟! نحن شغوفون بالمعرفة، وربّما جُبلنا على هذا، ورُبّما في المعرفة تحدٍ وجودي للإنسان.. إننا نحاول فهم ما لا يتأتّى فهمه، وإماطة اللثام عنه، وكشف ألغازه ومجاهله، ومعرفة ما لا نعرفه، حتى وإن كان عصيا عن الفهم والمعرفة منذ البداية، أو تحتاج الإجابة على الأسئلة إلى مداها الزمني المستحق، إلّا أنّ شرفَ المحاولة فيه ممارسةٌ وجودية، تجعلنا نستحق هذا الوجود الذي نعيشه..
المعرفة ربما لا تأتي بالتّسليم، أو بتجاهل مالا ينبغي تجاهله، ولكنّها تأتي من اعتمال العقل والتجربة، وإثارة الأسئلة، ومناقشةِ الفَرْضيات والنظريات، أو استبدالها أو تصحيحها.. فالخواء لا يقدِّم علما أو معرفة أو فَهما.. ينبغي للأسئلة لتفعل فعلها، أن تنفُذ إلى الداخل وتغوص في العمق، ويجري البحث عن الإجابة عليها، وبذل ما في الوُسْع والاستطاعة من الجهد؛ لاكتشاف ما هو مجهول وغامض، وإزالة كلّ لَبسٍ أو غبش.. سلطانُ العلم هو ما نحتاجه لننفذ به إلى أقطار السّماوات العُلا، والأشياء الكبيرة كما قالوا تبدأ بسؤال صغير".. وقيل في حديث"إنما شفاء العيِّ السؤال".
الأسئلة هي بوابات المعرفة، وهي السبيل إلى ما نسعى إليه من يقين، أو هي وسيلة تدلّنا من أجل الوصول إليه.. نحن هنا نسأل أو نتسأل لنبدِّد حيرةً، تجلي شيئا من معرفة، أو ناصية من علم، أو دليلا، أو وسيلة في خدمة الإنسان ومستقبله..
ما كان في دروب الأمس عصيا على الفهم والعلم، أو مستحيلا عليه، صار اليومَ معلوما أو واقعا مفهوما وماثلا أمام العيون، ويغدو المستحيل ممكنا، وما كان اليوم عصيا على الفهم والعلم، ربما يصير غدا بديهيّة معرفية، وما لا نطول جوابه اليوم، سنطوله غدا، وغدا لا ينفذ ولا ينتهي في درب الزمن السرمدي أو الطويل..
المستقبل الّذي نرومُ ونعملُ لأجله، سيفكِّك كثيرا من أسرار الكون وغموضه.. فالكون مكنوز بالأسرار الهائلة الّتي لا تنتهي، وتفوقُ كلّ تصور وخيال.. والمعرفة لا حدود لها.. وطالما بقي إنسان في وجوده، سيظل يحتار ويسأل، ويتسأل حتى يصل ويطمئن إلى ما يمكن الوصول إليه، أو يظل يعدِّلُ فيما كان يظنه يقين، حتى يصلَ إليه، أو الحد الأدنى منه، ويستمرّ تراكمُ العلم لاكتشاف المزيد، ويستمر الإنسان في حصاد المعرفة، وفي مدى ربما لا ينتهي إلا بفنائه..
يتسألُ البعض: إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة، فأنت يا الله على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات، ولم يخلق الله الخلائق، ولم تشهد الأكوان والعوالم حياةً ولا موتا؟! ثم يجيب: ربما لو حدث هذا لانعدم الحزن الوخيم الذي يملأ هذا الوجود على اتساع ما نتخيله.. هكذا أحيانا يجوس ويتمرّد علينا السؤال في محبسه، ولاسيّما عندما تصير كلفة السؤال أو الإجابة عليه حياة صاحبه..
أنا أكره الموت يا الله، عندما يخطف منّا من نعزّهم ونحبّهم.. البقاء غريزة قوية فينا، أو جاءت معنا عندما جئنا، لا دخل لنا فيها، ولا حولا ولا قوة.. أكره الموت عندما يخطف منّا حبيبا أو عزيزا، أو حميما..
الموت عندما نتعلق بمن نحب رهيب جدا.. الموت سكونٌ موحش.. ربّما عدَما وفراغا يدوم.. ربّما الموت فراق للأبد، ورحيل بلا نهاية.. ربما هو خراب وحزن ثقيل جدا على بني البشر.. هذا ما أشعر به عند رحيل كلّ عزيزٍ، فيما الموت عند الميت ربما شيء مغاير ومختلف..
الموت حالةٌ ربّما تتأخّر، ولكنّ مجيئها في حُكمِ الأكيد.. كبارُ المسلَّمات ربّما تكونُ محلّ ظنٍ وشك، أمّا الموت فحقيقة ويقين.. هو ناموسٌ كما قيل، لا يقبل الشكّ ولا التفاوض.. ولكن لا يدري الجميع أو الكثير أو البعض بيقين ماذا يحدث لنا بعد الموت والغياب الطويل..
*
(5)
موتُ الأختين
أسرتنا الصغيرة في عدن ـ كما أشرت سالفا ـ كانت تتكون من أبي وأمي وأنا وأختين توأم (نور وسامية).. أسرة صغيرة وبسيطة تربّص بها الموت مليّا حتى ظفِر بالزّهرتين.. جاء الموت على نحوٍ غريبٍ وغامض، لازلت أجهل سببه وتفسيره إلى اليوم.. شيء أخذ من أسرتنا الصغيرة الأختين، وكِدتُ أكونُ أنا الثالثُ لولا اللطائف.
أختي (نور) ماتت، وكان عمرها لا يتجاوز العام .. كانت تصرخ فجأة صراخا طافحا وقويا، وما أن يتم حملها تسكت، وعندما يتم وضعها على الأرض تعود بنفس الصراخ، حتى يكاد ينقطع نفسها، فيتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي، فتكفُّ عن الصُّراخ، ويستمرّ هذا الحال فترة طويلة إلى أن تنام محمولة.. وفجأة صرخت ولم تستعد أنفاسها، وماتت في الحال..
توأمها أختي (سامية) عندما صار عمرُها أكثرَ من عام، تكرر معها الحال نفسه والأعراض.. تصرخ فجأة دون سبب معروف، ثم يتم المسارعة لحملها من قِبَل أبي أو أمي فتسكت، وعندما يتم إنزالها إلى القاع أو الفراش، تصرخ مجددا وبصوت متفجر، فيتم حملها بسرعة، وينتهي الأمر إلى أن تنام محمولة..
وفي إحدى الأيام صرخت، فسارع أبي لحملها، ولكن أنقطع نفَسُها، ولم تعُد، ولم نعرف سببا لموتها إلى اليوم.. زعم البعض هُراء إنها ماتت؛ لأن البيت التي نحن فيها مسكونة بالجن، وقال آخرون ماتت "فرحة".. وأيُّ فرحةٍ إذاً وصرخة موتها يشق الجدار.
كنت أحب أختي سامية، كانت جميلة وبهية.. كانت حياتها خاطفة وسريعة.. حياة قصيرة كلحظة عاشق.. كحلم عَجول.. أما أختي نور فكانت حياتها أقصر وأسرع وتفاصيلها عصية على الذاكرة، بعد أكثر من خمسة وخمسين عاماً من طفولة باكرة.
*
(6)
فقدانٌ موحشٌ وغيابٌ لا ينتهي
لازلت أذكر سامية وهي مُسجاه على الفراش.. كانت الرغبة تستبدُّ بي لأعرف ماذا حدث!! كان الغموض عندي بكثافة مجرةٍ مملوءةٍ بالأسرار العصية على الفهم..
كنت أنظر إليها مشدوها كأنني أشاهدها واكتشفها لأول مرة.. رغم الموت كان وجهها نابضا بالنور، وعيونها مشرقة رغم السكون، كانت تلبس ثوبا بلون دمِ الغزال.. مازال هذا اللونُ أثيرا لنفسي وإن كان يُذّكرُني بفراق طويل.. لم أكن أدرك حينها أنّ الموت خطفها وغيّبها للأبد.. لم أستوعبْ أنّها لم تعُد بيننا وأنّها لن تعود..
ما كان في دروب الأمس عصيا على الفهم والعلم، أو مستحيلا عليه، صار اليومَ معلوما أو واقعا مفهوما وماثلا أمام العيون، ويغدو المستحيل ممكنا، وما كان اليوم عصيا على الفهم والعلم، ربما يصير غدا بديهيّة معرفية، وما لا نطول جوابه اليوم، سنطوله غدا، وغدا لا ينفذ ولا ينتهي في درب الزمن السرمدي أو الطويل..
المستقبل الّذي نرومُ ونعملُ لأجله، سيفكِّك كثيرا من أسرار الكون وغموضه.. فالكون مكنوز بالأسرار الهائلة الّتي لا تنتهي، وتفوقُ كلّ تصور وخيال.. والمعرفة لا حدود لها.. وطالما بقي إنسان في وجوده، سيظل يحتار ويسأل، ويتسأل حتى يصل ويطمئن إلى ما يمكن الوصول إليه، أو يظل يعدِّلُ فيما كان يظنه يقين، حتى يصلَ إليه، أو الحد الأدنى منه، ويستمرّ تراكمُ العلم لاكتشاف المزيد، ويستمر الإنسان في حصاد المعرفة، وفي مدى ربما لا ينتهي إلا بفنائه..
يتسألُ البعض: إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة، فأنت يا الله على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات، ولم يخلق الله الخلائق، ولم تشهد الأكوان والعوالم حياةً ولا موتا؟! ثم يجيب: ربما لو حدث هذا لانعدم الحزن الوخيم الذي يملأ هذا الوجود على اتساع ما نتخيله.. هكذا أحيانا يجوس ويتمرّد علينا السؤال في محبسه، ولاسيّما عندما تصير كلفة السؤال أو الإجابة عليه حياة صاحبه..
أنا أكره الموت يا الله، عندما يخطف منّا من نعزّهم ونحبّهم.. البقاء غريزة قوية فينا، أو جاءت معنا عندما جئنا، لا دخل لنا فيها، ولا حولا ولا قوة.. أكره الموت عندما يخطف منّا حبيبا أو عزيزا، أو حميما..
الموت عندما نتعلق بمن نحب رهيب جدا.. الموت سكونٌ موحش.. ربّما عدَما وفراغا يدوم.. ربّما الموت فراق للأبد، ورحيل بلا نهاية.. ربما هو خراب وحزن ثقيل جدا على بني البشر.. هذا ما أشعر به عند رحيل كلّ عزيزٍ، فيما الموت عند الميت ربما شيء مغاير ومختلف..
الموت حالةٌ ربّما تتأخّر، ولكنّ مجيئها في حُكمِ الأكيد.. كبارُ المسلَّمات ربّما تكونُ محلّ ظنٍ وشك، أمّا الموت فحقيقة ويقين.. هو ناموسٌ كما قيل، لا يقبل الشكّ ولا التفاوض.. ولكن لا يدري الجميع أو الكثير أو البعض بيقين ماذا يحدث لنا بعد الموت والغياب الطويل..
*
(5)
موتُ الأختين
أسرتنا الصغيرة في عدن ـ كما أشرت سالفا ـ كانت تتكون من أبي وأمي وأنا وأختين توأم (نور وسامية).. أسرة صغيرة وبسيطة تربّص بها الموت مليّا حتى ظفِر بالزّهرتين.. جاء الموت على نحوٍ غريبٍ وغامض، لازلت أجهل سببه وتفسيره إلى اليوم.. شيء أخذ من أسرتنا الصغيرة الأختين، وكِدتُ أكونُ أنا الثالثُ لولا اللطائف.
أختي (نور) ماتت، وكان عمرها لا يتجاوز العام .. كانت تصرخ فجأة صراخا طافحا وقويا، وما أن يتم حملها تسكت، وعندما يتم وضعها على الأرض تعود بنفس الصراخ، حتى يكاد ينقطع نفسها، فيتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي، فتكفُّ عن الصُّراخ، ويستمرّ هذا الحال فترة طويلة إلى أن تنام محمولة.. وفجأة صرخت ولم تستعد أنفاسها، وماتت في الحال..
توأمها أختي (سامية) عندما صار عمرُها أكثرَ من عام، تكرر معها الحال نفسه والأعراض.. تصرخ فجأة دون سبب معروف، ثم يتم المسارعة لحملها من قِبَل أبي أو أمي فتسكت، وعندما يتم إنزالها إلى القاع أو الفراش، تصرخ مجددا وبصوت متفجر، فيتم حملها بسرعة، وينتهي الأمر إلى أن تنام محمولة..
وفي إحدى الأيام صرخت، فسارع أبي لحملها، ولكن أنقطع نفَسُها، ولم تعُد، ولم نعرف سببا لموتها إلى اليوم.. زعم البعض هُراء إنها ماتت؛ لأن البيت التي نحن فيها مسكونة بالجن، وقال آخرون ماتت "فرحة".. وأيُّ فرحةٍ إذاً وصرخة موتها يشق الجدار.
كنت أحب أختي سامية، كانت جميلة وبهية.. كانت حياتها خاطفة وسريعة.. حياة قصيرة كلحظة عاشق.. كحلم عَجول.. أما أختي نور فكانت حياتها أقصر وأسرع وتفاصيلها عصية على الذاكرة، بعد أكثر من خمسة وخمسين عاماً من طفولة باكرة.
*
(6)
فقدانٌ موحشٌ وغيابٌ لا ينتهي
لازلت أذكر سامية وهي مُسجاه على الفراش.. كانت الرغبة تستبدُّ بي لأعرف ماذا حدث!! كان الغموض عندي بكثافة مجرةٍ مملوءةٍ بالأسرار العصية على الفهم..
كنت أنظر إليها مشدوها كأنني أشاهدها واكتشفها لأول مرة.. رغم الموت كان وجهها نابضا بالنور، وعيونها مشرقة رغم السكون، كانت تلبس ثوبا بلون دمِ الغزال.. مازال هذا اللونُ أثيرا لنفسي وإن كان يُذّكرُني بفراق طويل.. لم أكن أدرك حينها أنّ الموت خطفها وغيّبها للأبد.. لم أستوعبْ أنّها لم تعُد بيننا وأنّها لن تعود..
كنت أبحث عنها على الدوام وابكي وأقول لأمي: ابحثي عنها في مكان نومها، أريد أختي، أريد أن ألعب معها.. لم تحتمل أمي كلماتي الموجعةِ التي تنزف دما وحُرقة.. كانت تحاول تبلع غصصها, وتداري حسرتها البالغة، فيفضحها انهمار دموعها، فتنفجر بالبكاء وأبكي معها دون أن أعرف السبب..
كرهت الموت من حينها، غير أن أمي كانت تعزّيني، وتخفّف من وجعي ووجعها، وتقول: إنها في السماء، وإنها مرتاحة هناك، وسعيدة بين بنات الحور، وإنها تأكل التفاح واللحم، وكلّ أنواع الفاكهة.. كلّ ما أنا محرومٌ منه في الدنيا الفانية هي تأكله، وتنعم به في الحياة الثانية..
ربّما بعد حينٍ همَمْتُ بمغادرة هذه الدنيا الفانية إلى دار الآخرة لأستمتع بتلك الحياة الرغيدة، وأعوّض كلَّ حرمانٍ عشته في هذه الدنيا، ولكن شقَّ علي أن أتركَ أمي وحدها تنتحِب بقيّة عمرها.. رأيت أنّ المغادرة بمفردي دونها أنانية تبتليني، ورأيت إن البقاء عذاب لا ينتهي إلّا برحيلي.. هكذا بات الأمر سيَّان، وكأنّني أدور في مدار من عذاب لا يريد أن ينتهي.. ولكن حب أمي كان عظيما.
أخبرَتْني أمي أنّني سألتقي بأختيَّ (نور وسامية) يوم القيامة.. ومتى ستأتي يوم القيامة؟! إنني أكره الموت والفراق الطويل؟! العجيب أنّ أمّي - بعد حين - كانت تقول لي: إن الإخوة لا يلتقون في الدار الثانية إلّا يوم القيامة، أما بعد القيامة، فلا وصل ولا لقاء بين الإخوة، بنينا أو بنات.. ربّما كانت أمّي أو مَنْ جلبَ لها هذا القول، يقصد تعميق أواصر الأخوة وتوثيق المحبة بين الإخوة في هذه الدنيا، ولكن كان الأمر بالنسبة لي يعني حزنا عميقا على فراق لازال بعيدا، وحسرة طويلة من الفراق الأبديِّ البعيد يأتي بعد يوم القيامة..
من فرْطِ تعلُّقي بأختي سامية، جاءت مولودة لاحقا، فأسموها سامية، تعويضا وتخفيفا من فراغ موحش تركه هذا الموت الذي يغيِّب عنّا من نحب.. هذا الموت القاسي والخالي من الرحمة والمشاعر.. سامية (أختي الجديدة) جاءت شفيفة ومرهفة وحميمة، ومسكونة بالسموّ والنُّبل الجميل.
*
(7)
كُدت أموت!
ماتت نور وسامية وكُدتُ أكون ثالثَهما.. مررت بنفس الحال والأعراض.. كنت أصرخ فجأة كزمجرة رعد على حين غِرّة، فيما يسارع أبي أو أمي في حملي من الأرض أو قاع المكان، وما أن أعود للأرض مرة أخرى حتى يعود الصراخ.. وأظل محمولا حتى أنام، وأحياناً أقوم من نومي صارخا، ويتكرر المشهد، وتزداد مخاوف أبي وأمي وتوجسُّهما أنني للحياة مفارق.
لماذا أصرخ ؟! ما زلت أذكر ولا أدري هل هي أعراض وتهيئات أم ماذا؟!.. أتحدث هنا عن "مشاهده" ربما تكون غير حقيقية أو غير واقعية.. لا أستطيع أنسى ما كنت "أشاهده".. ما زال "المشهد" عالقا بالذّاكرة، حافرا فيها، وما زال تفسيره وكنهه غامضا وعصيّا على فهمي إلى اليوم، وربما العلم قد قال قوله في حالة كتلك من زمن، دون أن اطلع عليه.
كنت "أشاهد" ثعبانا أبيض يخرج من القاع.. طوله بحدود المتر.. له أرجل.. أرجله منتشرة على حافتيه، ورأسه مربعٌ متناسقٌ مع جسمه باستثناء أنه مميزٌ بعينين مدوّرتين، وعرض رأسه أكبر بقليل من عرض جسمه، ولديه شعرتان في مقدمة رأسه وكأنها للاستشعار..
"أشاهده" بغتة! يخرج من القاع يجري؛ فأصرخ بهلع بالغ، كما كانت تصرخ الأختان (نور، سامية) صراخ ناري ومتفجر يشقُّ الجدار.. كزمجرة رعد يأتي بغتة على نحوٍ صادمٍ في لحظةِ شرود وتيه.. صراخا ليس له موعدٌ يشق الليل أو النّهار.. ينمُّ عن "مشاهدة" أمر صادم، ومرعب وفظيع.. شيء ما يجعل الفزع والجزع يشقني نصفين.
وعندما كانا يحملاني (أبي أو أمي) يختفي هذا الثُّعبان بالقاع، لا أدري كيف يختفي، ولكنَّه يختفي، وعندما يطرحاني على الأرض، "أراه" من جديد يخرج من القاع الإسمنتي، ويزحف بسرعة في قاع الغرفة، ويتكرر هذا المشهد، ومعه يتكرر الصراخ.. أبي وأمي لا يريانه، أنا كنت الوحيد الذي "أراه"، ولذلك لم يستطيعا اكتشاف سبب الصراخ وما "أشاهده"، إن كان لما "أشاهده" كشفا بوجه ما، رغم ما يبدو لي اليوم من استحالة واقعيته..
في إحدى المرات، تكرر مشهد الصراخ وعندما لمح أبي على يدي خربشات قلم، قام بمسحها، فانتهى صراخي ولم أعد أراه.. فهم الأمر على ما كان سائدا من وعي وثقافة، وتبدّا له أنني كتبت على يدي اسم "شيطان".. ولكن هذا التفسير غير مقنع، ولا يستقيم، لأن حالات كثيرة تكررت معي ومع سامية ونور، دون أن تكون هناك كتابة أو شخابيط .. فهل ظلمنا الشيطان؟!
*
يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي
كرهت الموت من حينها، غير أن أمي كانت تعزّيني، وتخفّف من وجعي ووجعها، وتقول: إنها في السماء، وإنها مرتاحة هناك، وسعيدة بين بنات الحور، وإنها تأكل التفاح واللحم، وكلّ أنواع الفاكهة.. كلّ ما أنا محرومٌ منه في الدنيا الفانية هي تأكله، وتنعم به في الحياة الثانية..
ربّما بعد حينٍ همَمْتُ بمغادرة هذه الدنيا الفانية إلى دار الآخرة لأستمتع بتلك الحياة الرغيدة، وأعوّض كلَّ حرمانٍ عشته في هذه الدنيا، ولكن شقَّ علي أن أتركَ أمي وحدها تنتحِب بقيّة عمرها.. رأيت أنّ المغادرة بمفردي دونها أنانية تبتليني، ورأيت إن البقاء عذاب لا ينتهي إلّا برحيلي.. هكذا بات الأمر سيَّان، وكأنّني أدور في مدار من عذاب لا يريد أن ينتهي.. ولكن حب أمي كان عظيما.
أخبرَتْني أمي أنّني سألتقي بأختيَّ (نور وسامية) يوم القيامة.. ومتى ستأتي يوم القيامة؟! إنني أكره الموت والفراق الطويل؟! العجيب أنّ أمّي - بعد حين - كانت تقول لي: إن الإخوة لا يلتقون في الدار الثانية إلّا يوم القيامة، أما بعد القيامة، فلا وصل ولا لقاء بين الإخوة، بنينا أو بنات.. ربّما كانت أمّي أو مَنْ جلبَ لها هذا القول، يقصد تعميق أواصر الأخوة وتوثيق المحبة بين الإخوة في هذه الدنيا، ولكن كان الأمر بالنسبة لي يعني حزنا عميقا على فراق لازال بعيدا، وحسرة طويلة من الفراق الأبديِّ البعيد يأتي بعد يوم القيامة..
من فرْطِ تعلُّقي بأختي سامية، جاءت مولودة لاحقا، فأسموها سامية، تعويضا وتخفيفا من فراغ موحش تركه هذا الموت الذي يغيِّب عنّا من نحب.. هذا الموت القاسي والخالي من الرحمة والمشاعر.. سامية (أختي الجديدة) جاءت شفيفة ومرهفة وحميمة، ومسكونة بالسموّ والنُّبل الجميل.
*
(7)
كُدت أموت!
ماتت نور وسامية وكُدتُ أكون ثالثَهما.. مررت بنفس الحال والأعراض.. كنت أصرخ فجأة كزمجرة رعد على حين غِرّة، فيما يسارع أبي أو أمي في حملي من الأرض أو قاع المكان، وما أن أعود للأرض مرة أخرى حتى يعود الصراخ.. وأظل محمولا حتى أنام، وأحياناً أقوم من نومي صارخا، ويتكرر المشهد، وتزداد مخاوف أبي وأمي وتوجسُّهما أنني للحياة مفارق.
لماذا أصرخ ؟! ما زلت أذكر ولا أدري هل هي أعراض وتهيئات أم ماذا؟!.. أتحدث هنا عن "مشاهده" ربما تكون غير حقيقية أو غير واقعية.. لا أستطيع أنسى ما كنت "أشاهده".. ما زال "المشهد" عالقا بالذّاكرة، حافرا فيها، وما زال تفسيره وكنهه غامضا وعصيّا على فهمي إلى اليوم، وربما العلم قد قال قوله في حالة كتلك من زمن، دون أن اطلع عليه.
كنت "أشاهد" ثعبانا أبيض يخرج من القاع.. طوله بحدود المتر.. له أرجل.. أرجله منتشرة على حافتيه، ورأسه مربعٌ متناسقٌ مع جسمه باستثناء أنه مميزٌ بعينين مدوّرتين، وعرض رأسه أكبر بقليل من عرض جسمه، ولديه شعرتان في مقدمة رأسه وكأنها للاستشعار..
"أشاهده" بغتة! يخرج من القاع يجري؛ فأصرخ بهلع بالغ، كما كانت تصرخ الأختان (نور، سامية) صراخ ناري ومتفجر يشقُّ الجدار.. كزمجرة رعد يأتي بغتة على نحوٍ صادمٍ في لحظةِ شرود وتيه.. صراخا ليس له موعدٌ يشق الليل أو النّهار.. ينمُّ عن "مشاهدة" أمر صادم، ومرعب وفظيع.. شيء ما يجعل الفزع والجزع يشقني نصفين.
وعندما كانا يحملاني (أبي أو أمي) يختفي هذا الثُّعبان بالقاع، لا أدري كيف يختفي، ولكنَّه يختفي، وعندما يطرحاني على الأرض، "أراه" من جديد يخرج من القاع الإسمنتي، ويزحف بسرعة في قاع الغرفة، ويتكرر هذا المشهد، ومعه يتكرر الصراخ.. أبي وأمي لا يريانه، أنا كنت الوحيد الذي "أراه"، ولذلك لم يستطيعا اكتشاف سبب الصراخ وما "أشاهده"، إن كان لما "أشاهده" كشفا بوجه ما، رغم ما يبدو لي اليوم من استحالة واقعيته..
في إحدى المرات، تكرر مشهد الصراخ وعندما لمح أبي على يدي خربشات قلم، قام بمسحها، فانتهى صراخي ولم أعد أراه.. فهم الأمر على ما كان سائدا من وعي وثقافة، وتبدّا له أنني كتبت على يدي اسم "شيطان".. ولكن هذا التفسير غير مقنع، ولا يستقيم، لأن حالات كثيرة تكررت معي ومع سامية ونور، دون أن تكون هناك كتابة أو شخابيط .. فهل ظلمنا الشيطان؟!
*
يتبع ..
بعض من تفاصيل حياتي
أحمد سيف حاشد
السلسلة الأولى من تفاصيل حياتي “معدلة” https://yemenat.net/2021/11/392120/
الاهداء:
أهدي ما كتبت إلى المتعبين المكدودين التواقين للحرية..
والمنتمين للمستقبل الذي نروم..
استهلال وبداية
ما دفعني أن أكتب “بعض من تفاصيل حياتي” هي محاولة واطلالة على عهد عشناه بعسره ويسره.. بآماله وخيباته.. بفسحه وضيفه.. بتجاربه المتنوعة ومساراته المتعرجة، محاولين العبور إلى مستقبل ننشده، في واقع شديد الصعوبة والتعقيد، ومجتمع يئد العقل، ويقمع السؤال.. يتوق إلى الماضي ويعشق دجاه..
سبحنا عكس التيار.. أبحرنا في وجه الريح.. عشنا الصمود والتحدّي.. لم نيأس ولم نكف عن الأمل.. حاولنا إشعال النور في محيط يكتظ بالظلام الكثيف.. أشعلنا أعمارنا في محاولة لإزاحة بعض من هذا الظلام الذي يلبّد الحياة بسواده الحالك والمُحتشد..
بذلنا كثير من الجهد الكديد لزحزحة واقع أكبر من قدر.. أصبنا هنا وأخطأنا هناك.. فليتعظ من يأتي بعدنا.. يستفيد مما أصبنا، ويتعلم مما وقعنا فيه من أخطاء وخطايا، بعضها ساهم فيها عاثر الحظ ومنقلب القدر.
في معتركنا حاولنا الثبات في وجه ارتدادات وانكسارات الزمن.. تمرّدنا على رتابة المألوف وما يثقل الحياة من سأم وملل.. انتمينا للمستقبل وعشقناه بولع جموح.. رفضنا الظلم وتمردنا عليه.. قاومنا القهر ورفضنا الإذعان له..
قاومنا وتمردنا على كل السلطات التي أرادت تدجيننا وإخضاعنا في قطعانها، حتّى صيّرنا المستحيل ممكنا بعد اعتراك واستماته.. وإن ناخ علينا واقع كنّا عليه مرغمين، وقدر كان أكبر منّا فرض علينا شروطه ومشيئته، ومنع علينا كل حيلة واختيار، إلا إننا لم نستسلم، ولم نكف عن الحلم والمحاولة، والبحث عن المستقبل دون كلل أو ملل، رغم أثقال اليأس، و وطأة المحبطات..
وفي المقام نفسه ندعو ونحث من بعدنا أن يكونوا أفضل منّا في صناعة ومراكمة الوعي، وإصرارا على المحاولة والنجاح، وأكثر قدرة على تغيير الواقع مهما كانت وطأته، وتحويل ما أمكن من المستحيل إلى ممكن.. وحثهم أن يكونوا أكثر منّا استحقاقا للحياة والكرامة والإنسانية..
ونقول للبسطاء المكدودين ومن يسحقهم القهر لا تستلموا.. تمردوا وثوروا ما استطعتم على واقعكم الثقيل، وحاولوا كسر القيود التي تكبل أقدامكم، والسلطات التي تكتم بوحكم، وتغل الألسنة.. قاوموا ما استطعتم صنوف القهر والإذلال والإرغام الذي يُمارس عليكم، وأكثر منه إن تأتّى أو قدرتم عليه..
قاوموا من يريدكم أن تكونوا قطعانا داجنة، أو بشر منقادين ومستكينين ومستلبين الوعي والإرادة والفعل.. أمواتا مُستلبين الإنسانية والضمير.. مقموعين وممنوعين من ممارسة حق الشك والسؤال والمعرفة.. ابحثوا عن الحرية والمستقبل والحياة التي تليق بكم كأحرار ميامين، جديرين بالحياة والحب والكرامة والعدالة..
قولوا لمن أعتاش يوما على دمكم، وسرق حقوقكم وصادر أحلامكم: التاريخ نحن لا أنتم.. في التاريخ أنتم مجرد طغاة وقتلة ونهابة ولصوص مروا من هنا بلا مجد ولا كرامة..!!
قولوا لهم: أنتم مجرد طغاة وفاسدون تستقرون في نهاية المطاف في مزابل التاريخ المنتنة، وقيعانها السحيقة، ملعونين الذكر في كل حين، فيما نحن البسطاء المكدودين نستحق الحياة والكرامة والمجد كلّه.. نحن من نبني وأنتم من تهدمون.. أنتم الخراب كله..
لا بأس من بعض نرجسية وشموخ أمام خواء وادعاءات كل النرجسيين وحملة مباخرهم ووعّاظهم، الذين يدجنون العقل ويسممون الوعي، ويزيفون التاريخ، ويعتقلون المستقبل ويغتالون الحياة.. الذين يسفكون الدم، ويعممون الموت، ويعيثون في الأرض فسادا وانحطاطا وسقوطا، ودموية..
ما كتبته في هذا الجزء حرصتُ على جوهره ومضمونه العام، أما بخصوص الوقائع وما أكثرها فقد حاولت أتذكر ما استطعت تذكره، وأهملت بعض الوقائع تاركا إياها للذاكرة التلقائية، أو لعلني أذكرُها في مناسبات أخرى قادمة في موضع من الجزء الذي يليه أو ما بعده، دون أن أنسى في المقابل بين الحين والأخر أن أمرق بمناسبات أخرى، وبحضور أشد إلى الحاضر الراهن أو القريب منه، حتى لا أبقى مأسورا في الماضي وأحاديته..
أنتقل إلى الحاضر أو ما قرب منه بحسب الدواعي ورابط الصلة، وأهمية الاستحضار فيما أكون بصدده.. وفي بعض الوقائع العصية على استذكار تفاصيلها، حاولتُ أن أجد مقاربة للممكن وللواقع الذي عاشته..
وهذا الجزء ما هو إلا بداية لمشروع ربما يكبر ويتسع في المستقبل بحسب دواعي مقتضى الحاجة والحال، ودواعي الأهمية، وما يتسع لي من الوقت والعمر، أو ما بقي منه..
حاولت نشر جل ما كتبته في وسائل التواصل الاجتماعي قبل نشره في كتاب، ربما لأصل إلى المقاربة التي أبحث عنها، وإعادة تقيم ومراجعة ما تم نشره مرتين وثلاث، على أمل أن يأتي هذا الكتاب بأخطاء أقل، ربما ليتم تصحيحها أو جلّها، وإغناءها بالمزيد من الدراسة والمراجعة والتحليل في طبعة لاحقة..
السلسلة الأولى من تفاصيل حياتي “معدلة” https://yemenat.net/2021/11/392120/
الاهداء:
أهدي ما كتبت إلى المتعبين المكدودين التواقين للحرية..
والمنتمين للمستقبل الذي نروم..
استهلال وبداية
ما دفعني أن أكتب “بعض من تفاصيل حياتي” هي محاولة واطلالة على عهد عشناه بعسره ويسره.. بآماله وخيباته.. بفسحه وضيفه.. بتجاربه المتنوعة ومساراته المتعرجة، محاولين العبور إلى مستقبل ننشده، في واقع شديد الصعوبة والتعقيد، ومجتمع يئد العقل، ويقمع السؤال.. يتوق إلى الماضي ويعشق دجاه..
سبحنا عكس التيار.. أبحرنا في وجه الريح.. عشنا الصمود والتحدّي.. لم نيأس ولم نكف عن الأمل.. حاولنا إشعال النور في محيط يكتظ بالظلام الكثيف.. أشعلنا أعمارنا في محاولة لإزاحة بعض من هذا الظلام الذي يلبّد الحياة بسواده الحالك والمُحتشد..
بذلنا كثير من الجهد الكديد لزحزحة واقع أكبر من قدر.. أصبنا هنا وأخطأنا هناك.. فليتعظ من يأتي بعدنا.. يستفيد مما أصبنا، ويتعلم مما وقعنا فيه من أخطاء وخطايا، بعضها ساهم فيها عاثر الحظ ومنقلب القدر.
في معتركنا حاولنا الثبات في وجه ارتدادات وانكسارات الزمن.. تمرّدنا على رتابة المألوف وما يثقل الحياة من سأم وملل.. انتمينا للمستقبل وعشقناه بولع جموح.. رفضنا الظلم وتمردنا عليه.. قاومنا القهر ورفضنا الإذعان له..
قاومنا وتمردنا على كل السلطات التي أرادت تدجيننا وإخضاعنا في قطعانها، حتّى صيّرنا المستحيل ممكنا بعد اعتراك واستماته.. وإن ناخ علينا واقع كنّا عليه مرغمين، وقدر كان أكبر منّا فرض علينا شروطه ومشيئته، ومنع علينا كل حيلة واختيار، إلا إننا لم نستسلم، ولم نكف عن الحلم والمحاولة، والبحث عن المستقبل دون كلل أو ملل، رغم أثقال اليأس، و وطأة المحبطات..
وفي المقام نفسه ندعو ونحث من بعدنا أن يكونوا أفضل منّا في صناعة ومراكمة الوعي، وإصرارا على المحاولة والنجاح، وأكثر قدرة على تغيير الواقع مهما كانت وطأته، وتحويل ما أمكن من المستحيل إلى ممكن.. وحثهم أن يكونوا أكثر منّا استحقاقا للحياة والكرامة والإنسانية..
ونقول للبسطاء المكدودين ومن يسحقهم القهر لا تستلموا.. تمردوا وثوروا ما استطعتم على واقعكم الثقيل، وحاولوا كسر القيود التي تكبل أقدامكم، والسلطات التي تكتم بوحكم، وتغل الألسنة.. قاوموا ما استطعتم صنوف القهر والإذلال والإرغام الذي يُمارس عليكم، وأكثر منه إن تأتّى أو قدرتم عليه..
قاوموا من يريدكم أن تكونوا قطعانا داجنة، أو بشر منقادين ومستكينين ومستلبين الوعي والإرادة والفعل.. أمواتا مُستلبين الإنسانية والضمير.. مقموعين وممنوعين من ممارسة حق الشك والسؤال والمعرفة.. ابحثوا عن الحرية والمستقبل والحياة التي تليق بكم كأحرار ميامين، جديرين بالحياة والحب والكرامة والعدالة..
قولوا لمن أعتاش يوما على دمكم، وسرق حقوقكم وصادر أحلامكم: التاريخ نحن لا أنتم.. في التاريخ أنتم مجرد طغاة وقتلة ونهابة ولصوص مروا من هنا بلا مجد ولا كرامة..!!
قولوا لهم: أنتم مجرد طغاة وفاسدون تستقرون في نهاية المطاف في مزابل التاريخ المنتنة، وقيعانها السحيقة، ملعونين الذكر في كل حين، فيما نحن البسطاء المكدودين نستحق الحياة والكرامة والمجد كلّه.. نحن من نبني وأنتم من تهدمون.. أنتم الخراب كله..
لا بأس من بعض نرجسية وشموخ أمام خواء وادعاءات كل النرجسيين وحملة مباخرهم ووعّاظهم، الذين يدجنون العقل ويسممون الوعي، ويزيفون التاريخ، ويعتقلون المستقبل ويغتالون الحياة.. الذين يسفكون الدم، ويعممون الموت، ويعيثون في الأرض فسادا وانحطاطا وسقوطا، ودموية..
ما كتبته في هذا الجزء حرصتُ على جوهره ومضمونه العام، أما بخصوص الوقائع وما أكثرها فقد حاولت أتذكر ما استطعت تذكره، وأهملت بعض الوقائع تاركا إياها للذاكرة التلقائية، أو لعلني أذكرُها في مناسبات أخرى قادمة في موضع من الجزء الذي يليه أو ما بعده، دون أن أنسى في المقابل بين الحين والأخر أن أمرق بمناسبات أخرى، وبحضور أشد إلى الحاضر الراهن أو القريب منه، حتى لا أبقى مأسورا في الماضي وأحاديته..
أنتقل إلى الحاضر أو ما قرب منه بحسب الدواعي ورابط الصلة، وأهمية الاستحضار فيما أكون بصدده.. وفي بعض الوقائع العصية على استذكار تفاصيلها، حاولتُ أن أجد مقاربة للممكن وللواقع الذي عاشته..
وهذا الجزء ما هو إلا بداية لمشروع ربما يكبر ويتسع في المستقبل بحسب دواعي مقتضى الحاجة والحال، ودواعي الأهمية، وما يتسع لي من الوقت والعمر، أو ما بقي منه..
حاولت نشر جل ما كتبته في وسائل التواصل الاجتماعي قبل نشره في كتاب، ربما لأصل إلى المقاربة التي أبحث عنها، وإعادة تقيم ومراجعة ما تم نشره مرتين وثلاث، على أمل أن يأتي هذا الكتاب بأخطاء أقل، ربما ليتم تصحيحها أو جلّها، وإغناءها بالمزيد من الدراسة والمراجعة والتحليل في طبعة لاحقة..
موقع يمنات الأخباري
السلسلة الأولى من تفاصيل حياتي “معدلة” - موقع يمنات الأخباري
يمنات أحمد سيف حاشد الاهداء: أهدي ما كتبت إلى المتعبين المكدودين التواقين للحرية.. والمنتمين للمستقب
*
السلسلة الأولى
(1)
حيرةٌ وأسئلةُ وجودية..!
لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالمِ المزدحمِ والمحتدمِ بالصراعِ والغضبِ والجنونِ.. المليءِ بالقتلِ والظلمِ والبشاعاتِ.. عالمٍ يُنحرُ فيه حقَّ الحياةِ باسم الحياةِ، وتُصلب فيه العدالةُ باسمِ العدالةِ، وتغيب عنه المساواةُ في تكافؤ الفرصِ حدَّ العدمِ أغلب الأحيان!!
مستبدون وطغاةٌ حكموا العالمَ، ولا زالوا بصيغةٍ أو بأخرى يحكمونه إلى اليومِ.. بنوا مجدهم الذي يتغنون به ويطرون عليه ويمجدوه، على حساب دماءِ الشعوبِ المنهوبةِ، واستباحة كرامةِ الإنسانِ، وجوعهِ ووجعهِ وتبديد أحلامهِ ورجائه..
فقراءٌ وتائهون ومحرومون.. مخدوعون حتّى الموت.. مُبتلون بلعنات الأقدارِ التي لا تتركهم ولا تكف عن اللحاق بهم دون أن تترك لهم فسحة أو مهل.. أشقياء بسوءِ الطالع وعاثرِ الحظِ.. يدفعون من فقرهم وعوزهم وشقائهم لغيرهم حياة الترف والبذخ والعبث.. منكوبون في واقع مراغم لم يصنعوه.. قدر أكبر منهم فرض إرغامه عليهم دون مشورة منهم أو سؤال..
الحياةُ بالبر والبحر والجو كاسرةٌ ومتوحشةٌ.. ممتلئةٌ بالظلمِ والألمِ والجنونِ.. عالم تسوده الغلبة في الغالب والأعم.. واقع مرعب أجاد في ضرب مثاله ووصف ملمحا منه الفيلسوف الألماني “شوبنهاور” بقوله: “كائنات معذِبة ومعذَبة.. لا تستطيع أن تعيش إلا بالتهام بعضها بعضا.. كل وحش فيها هو قبر حي لآلاف الوحوش، وطريقة البقاء فيها هي سلسلة من الموت المؤلم..”
وفي عالم البشر نجد هذا التوحش حاضرا بصيغ متعددة، بل أن المفكر والأديب الأمريكي “مارك توين” يذهب إلى إن الإنسان أكثر بشاعة وتوحش من الحيوانات، حيث كتب تحت عنوان “الجنس البشري الملعون” أن التجارب اقنعته بان الإنسان هو الوحيد الذي يحمل في صدره الضغن والأذى والثأر والانتقام والدناءة.. يتعامل مع نوعه بتشفي واذلال وامتهان واستعباد.. الحيوانات تقتل بدوافع لا واعية مثل الجوع أو الخوف، فيما الانسان يتخلّى فيه عن ضميره واخلاقه وإحساسه الانساني، ويرتكب أكبر الشرور فظاعة، وهي الحرب الجماعية المنظمة..
عالمٌ تمَّ حكمُه ولا زال محكوما في الغالب بأسوأ من شريعة الغابِ، وشروط البقاء فيه لازالت للأقوى أو الأدهى أو الأمكر، وكثيرون ممن يسفكون الدمَ باسم الله والمقدّس، أو باسم الفكرة أو الأيديولوجيا، أو العصبية المنتنة تحت أي مسمى، من أجلِ السلطة، أو من أجل أنانيةٍ مفرطةٍ ومستبدةٍ، وجشعٍ يزداد ويستمرُ ولا يتوقف.
*
هل وُجِدنا صدفةً أم ضرورة، أم هناك جوابٌ آخر، أم أنَّ الجوابَ سرٌّ عصيٌّ في عالم الغيبِ واللامعلوم؟! كيف جئنا إلى هذه الحياة؟! سؤال كان مبعثا لحيرة متكررة، أرّق كثير من الفلاسفة والشعراء والمفكرين قديما وحديثا..
الفلكي والفيلسوف والشاعر الفارسي عمر الخيام صاحب الرباعيات، والمتوفى سنة 1124م كانت حيرته وشكه سببا في أن يتم اتهامه بالزندقة والإلحاد؛ حيث قال:
“لقد أُكرهت على نزول ساحة الحياة
فما زادتني زيارتها إلا حَيْرة …
وها أنا ذا أهجرها مكرهاً
فليتني أعلم القصد من رحيلي، ومن مقدمي وإقامتي!!”
***
ويبدو أن الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة (الطلاسم) قد أستل فكرة مطلع قصيدته من تلك الرباعية.
تساؤلات وجودية كثيرة أثارها الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة طويلة له مكونة من 340 بيت تقريبا أستهلّها بـ :
“جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ
وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ
وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ
كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي..
لَستُ أَدري”
ثم تتابع الأسئلة وتتناسل وتتكاثر وتغلق كل مقطوعة منها بجواب لست أدري، غير أن هذا الإغلاق كان ممتلئا بالحيرة التي تثير كثير من الجاذبية المعرفية، وتستحث مزيد من الفضول والمحاولة للاستكشاف وسبر الأغوار، وتلقي مزيد من الأسئلة الولادة للمعرفة.. الأسئلة الفاتحة لثقوب الشك التي تتسع، ومطارقها التي تطرق أبواب الوعي، وتظل تلح عليه حتى تُفتح الأبواب والمغالق..
إيليا أبو ماضي الذي عنون قصيدته بـ “الطلاسم” تحكي وتسأل الغموض الداعي للكشف، والمبهم الذي يدعي للإزاحة، واللغز الباحث عن الحل.. يسأل البحر والدير والمقابر.. ويثير الأسئلة الفلسفية القلقة التي تحاول إعادة الوعي المستلب، وإزاحة اليقين الزائف..
“لست أدري” كان يلقيها في نهاية المقطع كمن يسأل النجاة بعد تمرير السؤال الجريء الذي يريد.. أو هكذا أظن.
ويوغل إيليا أبو ماضي في الأسئلة، ويسأل نفسه أسئلة فلسفية سبق أن أثارها فلاسفة ومتكلمون قبل عهود وقرون مضت هل يكون الإنسان في هذا الوجود مخيرا أم مسيّرا غير أنه قدم هذه الإشكالية في قالب شعري جميل:
« هل أنا حر طليق أم أسير في قيود
السلسلة الأولى
(1)
حيرةٌ وأسئلةُ وجودية..!
لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالمِ المزدحمِ والمحتدمِ بالصراعِ والغضبِ والجنونِ.. المليءِ بالقتلِ والظلمِ والبشاعاتِ.. عالمٍ يُنحرُ فيه حقَّ الحياةِ باسم الحياةِ، وتُصلب فيه العدالةُ باسمِ العدالةِ، وتغيب عنه المساواةُ في تكافؤ الفرصِ حدَّ العدمِ أغلب الأحيان!!
مستبدون وطغاةٌ حكموا العالمَ، ولا زالوا بصيغةٍ أو بأخرى يحكمونه إلى اليومِ.. بنوا مجدهم الذي يتغنون به ويطرون عليه ويمجدوه، على حساب دماءِ الشعوبِ المنهوبةِ، واستباحة كرامةِ الإنسانِ، وجوعهِ ووجعهِ وتبديد أحلامهِ ورجائه..
فقراءٌ وتائهون ومحرومون.. مخدوعون حتّى الموت.. مُبتلون بلعنات الأقدارِ التي لا تتركهم ولا تكف عن اللحاق بهم دون أن تترك لهم فسحة أو مهل.. أشقياء بسوءِ الطالع وعاثرِ الحظِ.. يدفعون من فقرهم وعوزهم وشقائهم لغيرهم حياة الترف والبذخ والعبث.. منكوبون في واقع مراغم لم يصنعوه.. قدر أكبر منهم فرض إرغامه عليهم دون مشورة منهم أو سؤال..
الحياةُ بالبر والبحر والجو كاسرةٌ ومتوحشةٌ.. ممتلئةٌ بالظلمِ والألمِ والجنونِ.. عالم تسوده الغلبة في الغالب والأعم.. واقع مرعب أجاد في ضرب مثاله ووصف ملمحا منه الفيلسوف الألماني “شوبنهاور” بقوله: “كائنات معذِبة ومعذَبة.. لا تستطيع أن تعيش إلا بالتهام بعضها بعضا.. كل وحش فيها هو قبر حي لآلاف الوحوش، وطريقة البقاء فيها هي سلسلة من الموت المؤلم..”
وفي عالم البشر نجد هذا التوحش حاضرا بصيغ متعددة، بل أن المفكر والأديب الأمريكي “مارك توين” يذهب إلى إن الإنسان أكثر بشاعة وتوحش من الحيوانات، حيث كتب تحت عنوان “الجنس البشري الملعون” أن التجارب اقنعته بان الإنسان هو الوحيد الذي يحمل في صدره الضغن والأذى والثأر والانتقام والدناءة.. يتعامل مع نوعه بتشفي واذلال وامتهان واستعباد.. الحيوانات تقتل بدوافع لا واعية مثل الجوع أو الخوف، فيما الانسان يتخلّى فيه عن ضميره واخلاقه وإحساسه الانساني، ويرتكب أكبر الشرور فظاعة، وهي الحرب الجماعية المنظمة..
عالمٌ تمَّ حكمُه ولا زال محكوما في الغالب بأسوأ من شريعة الغابِ، وشروط البقاء فيه لازالت للأقوى أو الأدهى أو الأمكر، وكثيرون ممن يسفكون الدمَ باسم الله والمقدّس، أو باسم الفكرة أو الأيديولوجيا، أو العصبية المنتنة تحت أي مسمى، من أجلِ السلطة، أو من أجل أنانيةٍ مفرطةٍ ومستبدةٍ، وجشعٍ يزداد ويستمرُ ولا يتوقف.
*
هل وُجِدنا صدفةً أم ضرورة، أم هناك جوابٌ آخر، أم أنَّ الجوابَ سرٌّ عصيٌّ في عالم الغيبِ واللامعلوم؟! كيف جئنا إلى هذه الحياة؟! سؤال كان مبعثا لحيرة متكررة، أرّق كثير من الفلاسفة والشعراء والمفكرين قديما وحديثا..
الفلكي والفيلسوف والشاعر الفارسي عمر الخيام صاحب الرباعيات، والمتوفى سنة 1124م كانت حيرته وشكه سببا في أن يتم اتهامه بالزندقة والإلحاد؛ حيث قال:
“لقد أُكرهت على نزول ساحة الحياة
فما زادتني زيارتها إلا حَيْرة …
وها أنا ذا أهجرها مكرهاً
فليتني أعلم القصد من رحيلي، ومن مقدمي وإقامتي!!”
***
ويبدو أن الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة (الطلاسم) قد أستل فكرة مطلع قصيدته من تلك الرباعية.
تساؤلات وجودية كثيرة أثارها الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة طويلة له مكونة من 340 بيت تقريبا أستهلّها بـ :
“جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ
وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ
وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ
كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي..
لَستُ أَدري”
ثم تتابع الأسئلة وتتناسل وتتكاثر وتغلق كل مقطوعة منها بجواب لست أدري، غير أن هذا الإغلاق كان ممتلئا بالحيرة التي تثير كثير من الجاذبية المعرفية، وتستحث مزيد من الفضول والمحاولة للاستكشاف وسبر الأغوار، وتلقي مزيد من الأسئلة الولادة للمعرفة.. الأسئلة الفاتحة لثقوب الشك التي تتسع، ومطارقها التي تطرق أبواب الوعي، وتظل تلح عليه حتى تُفتح الأبواب والمغالق..
إيليا أبو ماضي الذي عنون قصيدته بـ “الطلاسم” تحكي وتسأل الغموض الداعي للكشف، والمبهم الذي يدعي للإزاحة، واللغز الباحث عن الحل.. يسأل البحر والدير والمقابر.. ويثير الأسئلة الفلسفية القلقة التي تحاول إعادة الوعي المستلب، وإزاحة اليقين الزائف..
“لست أدري” كان يلقيها في نهاية المقطع كمن يسأل النجاة بعد تمرير السؤال الجريء الذي يريد.. أو هكذا أظن.
ويوغل إيليا أبو ماضي في الأسئلة، ويسأل نفسه أسئلة فلسفية سبق أن أثارها فلاسفة ومتكلمون قبل عهود وقرون مضت هل يكون الإنسان في هذا الوجود مخيرا أم مسيّرا غير أنه قدم هذه الإشكالية في قالب شعري جميل:
« هل أنا حر طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكن…
لستُ أدري»
وفي مقطع آخر من القصيدة يقول:
أَنتَ يا بَحرُ أَسيرٌ آهِ ما أَعظَمَ أَسرَك
أَنتَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ لا تَملِكُ أَمرَك
أَشبَهَت حالُكَ حالي وَحَكى عُذرِيَ عُذرَك
فَمَتى أَنجو مِنَ الأَسر وَتَنجو..
لَستُ أَدري
وفي مقطع ثالث:
“فيكَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ أَصداف وَرَملُ
إِنَّما أَنتَ بِلا ظِل وَلي في الأَرضِ ظِلُّ
إِنَّما أَنتَ بِلا عَقل وَلي يا بَحرُ عَقلُ
فَلِماذا يا تُرى أَمضي وَتَبقى..
لَستُ أَدري”
*
كيف جئنا؟! سؤال قبل ما يقارب المائة عام أثار كثير من الردود والجدل.. وأستمر.. أما اليوم فنحن في وسط يبدو أكثر حلكة وقتامة من ذلك الأمس.. سؤالٌ يمكنه أنْ يُكلِّفك حياتك إن أطلقت لعقلك العنان بحثا عن جواب يحلق بعيد عمّا أعتاد ودرج عليه الناس..
باسم الله والذود عنه، ربما تُزهق روحك، ولا تجد ما تدافع به عن نفسك عند شيخ علم مزعوم، لا يريد أن يسمع إلا صوته وحده، أو جماعة دينية لا تقبل منك نقاش أو جدل إلا بمساحة قمقمها الصغير، ومحبسها الضيق وفتواها الصارمة، أو سلطة مأسورة أو محكومة بثقافة الماضي التي تستسهل الموت أو دونه لمجرد رأي أو اجتهاد أو تفكير، وربما يطالك مثل هذا الاستسهال حتى بمجرد وضع سؤال على الطاولة، أو إثارة تساؤل في أوساط مجتمعك التي تعيش فيه..
هناك اسئلةٌ كثيرةٌ منطقيةٌ ومعرفيةٌ الإعلان عنها أو البحث عن إجابة لها، في وسط صدئٍ ومتخلف، ربما يزُج بك في صدام محتدم مع واقعك الثقيل والقاسي، أو تدفع بك إلى المعتقلِ، أو تُودي بك إلى حتفك الأكيد، وتُصيُّرك قربانا، وجسر عبورٍ لجاهل، يبحث عن الجنةِ والغفرانِ بإزهاق روحك الشفيفة؟!
*
يرى البعضُ أنَّ الحياةَ هي شقاءٌ وتعاسةٌ وعذابٌ للنفس.. وأنَّ الفوزَ بها إنَّما هو فوزٌ بالألمِ والنَّدم والوهمِ، وما يتصوره البعضُ خسرانا، يراه البعضُ الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياةِ وأوجاعها ومشقَّاتِها التي لا تنتهي إلاّ بالموتِ.
الروائي الأمريكي “هرمان ملفيل” مؤلف رواية الحوت الأبيض “موبي ديك” يرى “إن الحياة مجرّد مزحة فظة مارستها الآلهة علينا، وإن أفضل ما يمكننا فعله هو الانضمام إليهم وتشارك اللعبة والضحكات معهم.” فيما الحياة لدى المؤلف المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير ليست سوى خشبة مسرح وممثل بائس مستمر في شعوره بالقلق طوال ساعته على المسرح، وحكاية يملؤها الصخب والغضب ولكنها بلا دلالة.
الفيلسوف الألماني “أرتورشوبنهاور” يرى أنّ الحياة هي المعاناة، وأن الوجود الإنساني فوضويّ، وبلا معنى. ويرى “نيتشة” إن الحياة لم تكن عادلة أبدا، وينكر وجود أي عناية إلهية مشرفة على شئون البشر. أمّا الروائي الروسي “دوستويفسكي” فيرى الحياة هي الجحيم. ويراها “سقرط” الابتلاء، و”راسل” يرى إنها “ليست إلا منافسة يريد فيها كل منّا أن يكون المجرم لا الضحية”. وعلى الضفة الأخرى الحياة عند “بيكاسو” هي الفن، وعند “غاندي” هي الحُب، وعند “اينشتاين” هي المعرفة، وعند “ستيفن هوپكنز” هي الامل.
*
في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضةَ، ويتخلَّق في رحم الأمِ، وما عدا ذلك يفنا ويموت. أي صدفة هذه التي تصل فيه فارق النسبة 1 – 300 مليون، وإيُّهما المحظوظُ، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموتُ والفناءُ؟!
الفيلسوف الروماني المكتئب “إميل سيوران” يرى إن المحظوظين هم أولئك الذين لم يوصلوا أصلا إلى البويضةِ، أما التعساءِ فهم من وصلوا إليها..
ويرى البعض أنَّ ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في الحياة.. يقول “شوبنهاور”: «لقد بينت الطبيعة أنه كلما تفهم أكثر، كلما تزداد قدرتك على الشُعور بالألم، ولا تصل الدرجة القصوى من الفهم، إلا وتصل إلى الدرجة القصوى من المعاناة». ويقول “كافكا”: أول علامات بداية الفهمِ أنْ ترغب في الموتِ، وأنَّ الإفراطَ في الوعي وإدراك الأشياءِ اشدُ خطورة من المخدراتِ.. ويرى سيوران أنَّ الوعي لعنةٌ مزمنةٌ، وكارِثةٌ مهُولةٌ، بل يذهب إلى القول إن الجهل وطن والوعي منفى.. فيما يؤكد دوستويفسكي إنَّ الإفراطَ في امتلاك الوعي علَّةٌ مرضيةٌ حقيقيةٌ وتامةٌ..
*
نجاحُ الواحد في سباق الـ 300 مليون، هو الواحد الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجودٌ لو حاكيناه ربما أختاره البعضُ على أمل، وربما رأى البعضُ في المجهولِ شك، ولا أمل في عالم مملوء بالوهمِ والأكاذيبِ..
ربما رفض البعضُ هذا الوجود لو أُتيحت له الحرية و الإرادة في الاختيارِ.. الاختيارُ الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفةٍ مستفيضةٍ..
قال “دوستويفسكي “: «لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضتُ الوجودَ في ظلِّ ظروفٍ ساخرةٍ إلى هذا الحد. » وفي موضع آخر يقول: “أو ليس من الجنونِ أن نأتي بأطفالٍ في ظل هذه الظروف الحقيرةِ.”
أتمنى أنني أدري ولكن…
لستُ أدري»
وفي مقطع آخر من القصيدة يقول:
أَنتَ يا بَحرُ أَسيرٌ آهِ ما أَعظَمَ أَسرَك
أَنتَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ لا تَملِكُ أَمرَك
أَشبَهَت حالُكَ حالي وَحَكى عُذرِيَ عُذرَك
فَمَتى أَنجو مِنَ الأَسر وَتَنجو..
لَستُ أَدري
وفي مقطع ثالث:
“فيكَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ أَصداف وَرَملُ
إِنَّما أَنتَ بِلا ظِل وَلي في الأَرضِ ظِلُّ
إِنَّما أَنتَ بِلا عَقل وَلي يا بَحرُ عَقلُ
فَلِماذا يا تُرى أَمضي وَتَبقى..
لَستُ أَدري”
*
كيف جئنا؟! سؤال قبل ما يقارب المائة عام أثار كثير من الردود والجدل.. وأستمر.. أما اليوم فنحن في وسط يبدو أكثر حلكة وقتامة من ذلك الأمس.. سؤالٌ يمكنه أنْ يُكلِّفك حياتك إن أطلقت لعقلك العنان بحثا عن جواب يحلق بعيد عمّا أعتاد ودرج عليه الناس..
باسم الله والذود عنه، ربما تُزهق روحك، ولا تجد ما تدافع به عن نفسك عند شيخ علم مزعوم، لا يريد أن يسمع إلا صوته وحده، أو جماعة دينية لا تقبل منك نقاش أو جدل إلا بمساحة قمقمها الصغير، ومحبسها الضيق وفتواها الصارمة، أو سلطة مأسورة أو محكومة بثقافة الماضي التي تستسهل الموت أو دونه لمجرد رأي أو اجتهاد أو تفكير، وربما يطالك مثل هذا الاستسهال حتى بمجرد وضع سؤال على الطاولة، أو إثارة تساؤل في أوساط مجتمعك التي تعيش فيه..
هناك اسئلةٌ كثيرةٌ منطقيةٌ ومعرفيةٌ الإعلان عنها أو البحث عن إجابة لها، في وسط صدئٍ ومتخلف، ربما يزُج بك في صدام محتدم مع واقعك الثقيل والقاسي، أو تدفع بك إلى المعتقلِ، أو تُودي بك إلى حتفك الأكيد، وتُصيُّرك قربانا، وجسر عبورٍ لجاهل، يبحث عن الجنةِ والغفرانِ بإزهاق روحك الشفيفة؟!
*
يرى البعضُ أنَّ الحياةَ هي شقاءٌ وتعاسةٌ وعذابٌ للنفس.. وأنَّ الفوزَ بها إنَّما هو فوزٌ بالألمِ والنَّدم والوهمِ، وما يتصوره البعضُ خسرانا، يراه البعضُ الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياةِ وأوجاعها ومشقَّاتِها التي لا تنتهي إلاّ بالموتِ.
الروائي الأمريكي “هرمان ملفيل” مؤلف رواية الحوت الأبيض “موبي ديك” يرى “إن الحياة مجرّد مزحة فظة مارستها الآلهة علينا، وإن أفضل ما يمكننا فعله هو الانضمام إليهم وتشارك اللعبة والضحكات معهم.” فيما الحياة لدى المؤلف المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير ليست سوى خشبة مسرح وممثل بائس مستمر في شعوره بالقلق طوال ساعته على المسرح، وحكاية يملؤها الصخب والغضب ولكنها بلا دلالة.
الفيلسوف الألماني “أرتورشوبنهاور” يرى أنّ الحياة هي المعاناة، وأن الوجود الإنساني فوضويّ، وبلا معنى. ويرى “نيتشة” إن الحياة لم تكن عادلة أبدا، وينكر وجود أي عناية إلهية مشرفة على شئون البشر. أمّا الروائي الروسي “دوستويفسكي” فيرى الحياة هي الجحيم. ويراها “سقرط” الابتلاء، و”راسل” يرى إنها “ليست إلا منافسة يريد فيها كل منّا أن يكون المجرم لا الضحية”. وعلى الضفة الأخرى الحياة عند “بيكاسو” هي الفن، وعند “غاندي” هي الحُب، وعند “اينشتاين” هي المعرفة، وعند “ستيفن هوپكنز” هي الامل.
*
في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضةَ، ويتخلَّق في رحم الأمِ، وما عدا ذلك يفنا ويموت. أي صدفة هذه التي تصل فيه فارق النسبة 1 – 300 مليون، وإيُّهما المحظوظُ، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموتُ والفناءُ؟!
الفيلسوف الروماني المكتئب “إميل سيوران” يرى إن المحظوظين هم أولئك الذين لم يوصلوا أصلا إلى البويضةِ، أما التعساءِ فهم من وصلوا إليها..
ويرى البعض أنَّ ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في الحياة.. يقول “شوبنهاور”: «لقد بينت الطبيعة أنه كلما تفهم أكثر، كلما تزداد قدرتك على الشُعور بالألم، ولا تصل الدرجة القصوى من الفهم، إلا وتصل إلى الدرجة القصوى من المعاناة». ويقول “كافكا”: أول علامات بداية الفهمِ أنْ ترغب في الموتِ، وأنَّ الإفراطَ في الوعي وإدراك الأشياءِ اشدُ خطورة من المخدراتِ.. ويرى سيوران أنَّ الوعي لعنةٌ مزمنةٌ، وكارِثةٌ مهُولةٌ، بل يذهب إلى القول إن الجهل وطن والوعي منفى.. فيما يؤكد دوستويفسكي إنَّ الإفراطَ في امتلاك الوعي علَّةٌ مرضيةٌ حقيقيةٌ وتامةٌ..
*
نجاحُ الواحد في سباق الـ 300 مليون، هو الواحد الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجودٌ لو حاكيناه ربما أختاره البعضُ على أمل، وربما رأى البعضُ في المجهولِ شك، ولا أمل في عالم مملوء بالوهمِ والأكاذيبِ..
ربما رفض البعضُ هذا الوجود لو أُتيحت له الحرية و الإرادة في الاختيارِ.. الاختيارُ الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفةٍ مستفيضةٍ..
قال “دوستويفسكي “: «لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضتُ الوجودَ في ظلِّ ظروفٍ ساخرةٍ إلى هذا الحد. » وفي موضع آخر يقول: “أو ليس من الجنونِ أن نأتي بأطفالٍ في ظل هذه الظروف الحقيرةِ.”
“اميل سيوران” يقول: «مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوانٍ ، يُولد إنسانٌ يشقى سبعين عاماً».. «اقترفتُ كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً». ويقول أيضا في نفس الصدد «أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم، ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها».
ويرى “شوبنهاور” إن «التضحية باللذة في سبيل تجنب الألم مكسب واضح» ويقول عن الحياة إنها «تتأرجح كالبندول بين الألم والملل».
وأوصى الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أن يكتبوا على قبره:
«هذا ما جناه عليَّ أبي … وما جنيت على أحدِ»
وتبدو الحياةُ في نظر فرانس كافكا حرب: “حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف”.
فيما يرى أنطون تشيخوف أنَّه مع الموت ستكون أنت الرابحُ الأكبرُ، فلا حاجةَ للَّهث وراء الطعامِ ولا الشرابِ ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة ابداً للجدالِ مع الآخرين.. أما إميل سيوران في مأساة الوعي والوجود، فيرى إن الموت هو خلاصنا الأخير..
ويسخر الكاتبُ والأديبُ الأمريكي مارك توين من الحياة والموت فيقول: “يُولد الناسُ ليؤلِم بعضهم بعضا، ثم يموتون” ويسخر آخرين من عبثيةِ الحياةِ كمثل الذي قال: خُلقتْ القطط لتأكل الفئران، وخُلقتْ الفئرانُ لتأكلها القطط.. وتساءل بعضهم عن هذه العبثية بقولهم: إذا كنّا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعةُ نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..
*
كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضروراتُ في عملية طويلةٍ ومعقَدةٍ، وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
سلسلةُ طويلةُ من الصدف والضروراتِ لا تكُف ولا تتوقفُ، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسيرُ، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمرِ نهاية!
المكانُ لا يكُفُّ عن السير، والزمنُ يتسرمد للأبد، ومألات الكون غامضةٌ ومجهولةٌ.
ولكن لماذا من علِق منّا في رحمِ الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى واجهةِ الكونِ صارخا بالبكاءِ؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلانُ وجود، أم هو رفضٌ واحتجاجٌ على هكذا وجود؟! هل هو فزعٌ من العالم أم خوفٌ من المجهولِ؟!
لماذا لا نخرج إلى واجهةِ الكون فرحين أو مقهقهين، أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولودُ من بني البشر لا يستهلُّ حياته إلاّ بصرخةِ بكاءٍ حادةٍ؟! هل صرخةُ البكاء هذه هي تعبيرٌ عن رفضٍ لقدرٍ لم يخترْه هذا المولود، أو لم يكن لإرادته فيه شأنٌ أو خيارٌ؟!
يحاولُ أنْ يجيبَ الشاعرُ والكاتبُ المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير بقوله ساخرا: “في لحظة الولادة نبكي؛ لأننا قادمون إلى مسرحٍ مكتظٍ بالحمقى”.
بين صرخةِ الولادةِ وشهقةِ الموت أو الرحيل بصمت عمرٌ مُثقلٌ بالمعاناةِ، وعَالَمٌ من المتاعبِ والأحزانِ، والأشياء، والتفاصيلِ.
عندما تتعثر خطاك على الدوامِ، ويلحقُ السوءُ بحظك كلعنةٍ لا تفارقك، وتخيب أمنياتُ حياتك، وتبطش بك الأقدارُ يميناً وشمالاً، وتصيرُ فريسةً للحرمانِ والمتاعب.. هل تكفرُ بنعمةِ مَنْ كانَ سبباً ومعجزةً في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كلَّ ما هو تعيسٌ وخائبٌ؟!
*
أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاءِ لما أتيتُ إلى هذا الوجود، وكنتُ في حكم العدمِ.. وينطبقُ هذه على التراتُبياتِ كلّها.. إلى كلِّ الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.
ماذا لو أجهضتني أمي في بطنها، حالما كنت لا أعي، ولا أفقهُ شيئاً ولا أبالي بألم؟!
ماذا لو انتحرتُ يوماً، أسحقُ فيه أنانيَّتي، وغريزةً تتشبث بحياةٍ من جحيمٍ، أبقتني مثقلا بمعاناةٍ مؤلمةٍ، وآلامِ عمرٍ مُجهد، امتدَّ طويلاً حتى شارف على بلوغِ كهولته؟!!
وماذا نقول عمّا أسمَوه قتل الرحمةِ إشفاقا بصاحبه، وخلاصا من مرضٍ أدركهُ اليأسُ، وألمٌ يلسعُ كالنارِ، لا يُوقفه إلاّ عتقُ النفسِ وتحريرُها من محبسِها الجسدي الضيّق، والأشدِّ من محبسِ الحديدِ..؟!!
***
(2)
زواج أمّي قبل وجودي
قبل وجودي تزوجت “أمّي” مرتين قبل أبي.. كنتُ يومَها في حُكمِ العدمِ او هكذا أتخيل الأمر.. يبدو ذلك العدمُ حالَ مقارنتهِ بوجودي اللاحقِ خالياً من كلِّ شيء.. فراغٌ كبيرٌ، لا مكانَ له ولا زمان.. فراغٌ لا وعاءَ له ولا حدود.. ليس فيه همٌّ ولا معاناةٌ، ولا جحيمٌ.. لا يوجد فيه أيُّ مظهرٍ من مظاهرِ الإحساسِ، أو الوجود من أيِّ نوعٍ كان.. حالةٌ لا يمكن تصوُّرُها أو وصفها بغير العدم، أو ما في حكمه، أو مقاربا له..
لتجد مقاربةً لفهمِ عدمك، عليك إطلاقُ عنانِ خيالك، لتتصوَّرَ هذا العدم.. عليك أنْ تتخيَّلَ عدمَك إنْ كنتَ تَغرقُ في الخيالِ، والتفكيرِ العميقِ.. عليك أنْ تطلقَ الأسئلةَ في فضاءاتِ استكشاف الوجودِ واللاوجود..
اسأل وعيك إنْ كنت تعي، أو خيالك إن كنت ذو خيال: ماذا كنتَ قبلَ ألفِ عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكونُ قبلَ مليون سنة؟! ماذا كنت تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى الصفر لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفرِ دون.
ويرى “شوبنهاور” إن «التضحية باللذة في سبيل تجنب الألم مكسب واضح» ويقول عن الحياة إنها «تتأرجح كالبندول بين الألم والملل».
وأوصى الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أن يكتبوا على قبره:
«هذا ما جناه عليَّ أبي … وما جنيت على أحدِ»
وتبدو الحياةُ في نظر فرانس كافكا حرب: “حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف”.
فيما يرى أنطون تشيخوف أنَّه مع الموت ستكون أنت الرابحُ الأكبرُ، فلا حاجةَ للَّهث وراء الطعامِ ولا الشرابِ ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة ابداً للجدالِ مع الآخرين.. أما إميل سيوران في مأساة الوعي والوجود، فيرى إن الموت هو خلاصنا الأخير..
ويسخر الكاتبُ والأديبُ الأمريكي مارك توين من الحياة والموت فيقول: “يُولد الناسُ ليؤلِم بعضهم بعضا، ثم يموتون” ويسخر آخرين من عبثيةِ الحياةِ كمثل الذي قال: خُلقتْ القطط لتأكل الفئران، وخُلقتْ الفئرانُ لتأكلها القطط.. وتساءل بعضهم عن هذه العبثية بقولهم: إذا كنّا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعةُ نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..
*
كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضروراتُ في عملية طويلةٍ ومعقَدةٍ، وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
سلسلةُ طويلةُ من الصدف والضروراتِ لا تكُف ولا تتوقفُ، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسيرُ، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمرِ نهاية!
المكانُ لا يكُفُّ عن السير، والزمنُ يتسرمد للأبد، ومألات الكون غامضةٌ ومجهولةٌ.
ولكن لماذا من علِق منّا في رحمِ الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى واجهةِ الكونِ صارخا بالبكاءِ؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلانُ وجود، أم هو رفضٌ واحتجاجٌ على هكذا وجود؟! هل هو فزعٌ من العالم أم خوفٌ من المجهولِ؟!
لماذا لا نخرج إلى واجهةِ الكون فرحين أو مقهقهين، أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولودُ من بني البشر لا يستهلُّ حياته إلاّ بصرخةِ بكاءٍ حادةٍ؟! هل صرخةُ البكاء هذه هي تعبيرٌ عن رفضٍ لقدرٍ لم يخترْه هذا المولود، أو لم يكن لإرادته فيه شأنٌ أو خيارٌ؟!
يحاولُ أنْ يجيبَ الشاعرُ والكاتبُ المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير بقوله ساخرا: “في لحظة الولادة نبكي؛ لأننا قادمون إلى مسرحٍ مكتظٍ بالحمقى”.
بين صرخةِ الولادةِ وشهقةِ الموت أو الرحيل بصمت عمرٌ مُثقلٌ بالمعاناةِ، وعَالَمٌ من المتاعبِ والأحزانِ، والأشياء، والتفاصيلِ.
عندما تتعثر خطاك على الدوامِ، ويلحقُ السوءُ بحظك كلعنةٍ لا تفارقك، وتخيب أمنياتُ حياتك، وتبطش بك الأقدارُ يميناً وشمالاً، وتصيرُ فريسةً للحرمانِ والمتاعب.. هل تكفرُ بنعمةِ مَنْ كانَ سبباً ومعجزةً في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كلَّ ما هو تعيسٌ وخائبٌ؟!
*
أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاءِ لما أتيتُ إلى هذا الوجود، وكنتُ في حكم العدمِ.. وينطبقُ هذه على التراتُبياتِ كلّها.. إلى كلِّ الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.
ماذا لو أجهضتني أمي في بطنها، حالما كنت لا أعي، ولا أفقهُ شيئاً ولا أبالي بألم؟!
ماذا لو انتحرتُ يوماً، أسحقُ فيه أنانيَّتي، وغريزةً تتشبث بحياةٍ من جحيمٍ، أبقتني مثقلا بمعاناةٍ مؤلمةٍ، وآلامِ عمرٍ مُجهد، امتدَّ طويلاً حتى شارف على بلوغِ كهولته؟!!
وماذا نقول عمّا أسمَوه قتل الرحمةِ إشفاقا بصاحبه، وخلاصا من مرضٍ أدركهُ اليأسُ، وألمٌ يلسعُ كالنارِ، لا يُوقفه إلاّ عتقُ النفسِ وتحريرُها من محبسِها الجسدي الضيّق، والأشدِّ من محبسِ الحديدِ..؟!!
***
(2)
زواج أمّي قبل وجودي
قبل وجودي تزوجت “أمّي” مرتين قبل أبي.. كنتُ يومَها في حُكمِ العدمِ او هكذا أتخيل الأمر.. يبدو ذلك العدمُ حالَ مقارنتهِ بوجودي اللاحقِ خالياً من كلِّ شيء.. فراغٌ كبيرٌ، لا مكانَ له ولا زمان.. فراغٌ لا وعاءَ له ولا حدود.. ليس فيه همٌّ ولا معاناةٌ، ولا جحيمٌ.. لا يوجد فيه أيُّ مظهرٍ من مظاهرِ الإحساسِ، أو الوجود من أيِّ نوعٍ كان.. حالةٌ لا يمكن تصوُّرُها أو وصفها بغير العدم، أو ما في حكمه، أو مقاربا له..
لتجد مقاربةً لفهمِ عدمك، عليك إطلاقُ عنانِ خيالك، لتتصوَّرَ هذا العدم.. عليك أنْ تتخيَّلَ عدمَك إنْ كنتَ تَغرقُ في الخيالِ، والتفكيرِ العميقِ.. عليك أنْ تطلقَ الأسئلةَ في فضاءاتِ استكشاف الوجودِ واللاوجود..
اسأل وعيك إنْ كنت تعي، أو خيالك إن كنت ذو خيال: ماذا كنتَ قبلَ ألفِ عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكونُ قبلَ مليون سنة؟! ماذا كنت تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى الصفر لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفرِ دون.
وبعد وفاتك ربما لن تعني الوجود في شيء، حتى وإن بقي لبصمتك فيه أثر تقول مر من هنا، لن يبقى غير مرورك العابر والقصير في هذه الحياة التي مرقت منها بسرعة الضوء، وما كنتَ عليه فيها..
عمرك القصير الذي يشبه لمح البصر، أو أسرع منه بألف ومليون بمقياس الزمن المسرمد في الأزل، لا بأس هنا أن تطلق عنان خيالك، ولا تثريب عليك، ومع ذلك ربما في رحلة وجودك تغمر الإنسانية بخير وجميل، وربما تقترف الفظاعات، وترتكب الخطايا، وتورثها للوجود قبل تحولك أو رحيلك عنه، ودون أن تعلم نهاية لها، وربما أنا وأنت ـ إن لم يكن في حكم الأكيد ـ وليدا لها، وكل في وجوده له نسبة في الخير والشر قد تنقص وقد تزيد دون محض..
زوج “أمّي” الأول
كان زوجُ “أمي” الأول من أقاربها.. لم يتعدَّ عمرها عندَ عَقدِ قرانها به الاثنا عشر عاما، وهو يَكبُرُها بأعوام.. استمرَّ زواجهما نحو أربع سنوات، ولم تنجب منه، ربَّما لأنه جاء قبلَ طمثِها الأول بسنين، ومع ذلك لم اسمعْ من أمِّي يوما أنَّها ذمّت هذا الزواج، أو قدحتْ فيه، إمَّا لجهلها أو لرضاها، أو لبقايا ذكرياتٍ وحنينٍ جميل تنزع إليه..
أراد زوجها أنْ يذهبَ بها معهُ إلى عدن، حيثُ يعملُ ويقيم، غيرَ أنَّ أبَ الزوج كانت له سلطةُ القرار الأول في الرفضِ أو القبول، وكان منه المنعُ والرفضُ جازما وحازما، وفرض على الزوجين خيارهُ هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيلِ.. كان بإمكانهِ أنْ يتدخلَ ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجتهِ في القرية، وهو ما حدث بالفعل، وكان باب لمشكلةٍ يوما تداعت..
كان على الزوجةِ رغمَ صِغَرِ سنّها، بذل ما في وسعها لخدمةِ أسرة الأب وطاعته، أمّا الابنُ فيجبُ أن يكون خاضعا ومطيعا، لا يُرد للأب أمرا، ولا له حقُّ أنْ يعترضَ أو يغالبَ إرادةِ والدهِ إذا ما شاءَ وأراد..
كان من المعيبِ، بل ومن المعصيةِ والعقوقِ أنْ يتصدَّى الابنُ لرغبةِ وسلطةِ أبيه، حتى وإنْ سحقَ الأبُ سعادةَ ابنهِ وحُبهِ لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطةُ أسرةِ الزوجةِ هي الأخرى، وبدعوى حمايةِ ابنتهم من تعسفِ أسرةِ الزوجِ، فتبدأ المقامرةُ بمصيرِ الزوجيةِ ومستقبلِها، وكثيرا ما كان يؤدّي هذا التدخلُ والتضادُ، إلى الطلاق والفراقِ الكبير..
تدخلتْ سلطةُ “أم أمّي” وكانت الأم ذو شخصيةٍ نافذة، وإرادةٍ قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجين يُجهشانِ بالبكاء، لا يريدان طلاقا أو فراقا.. الاثنان يُجهشانِ بالبكاء، ويزيد من مرارة الحالِ، أنْ ليس لهما في مصيرِ زواجهما وحبِّهما حولا ولا قوةً، ولا يدَ لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرةُ أربابِ الأسر، وباحتدامِ الخلافِ بين أبِ الزوجِ وأمِّ الزوجةِ، وعدم الاكتراثِ والحفاظ على ما أمكن، خسر الحبُّ المغلوبُ بالطاعةِ والمقامرة، وأنتهي به المآلُ الى الُخُلع، والفراقِ إلى الأبد..
***
زوج “أمّي” الثاني
تزوجتْ “أمي” للمرةِ الثانيةِ من منطقةٍ بعيدةٍ نسبيا، ومن غيرِ الأقارب.. ولكنْ هذا الزواجُ كان قصيرا وعابرا.. لم تمكث “أمّي” لدى هذا الزوجِ الطيبِ والكريم، غيرَ أسابيعٍ قليلةٍ، كان الحبُّ ناقصا، أو من طرف واحد، ولم يستطعْ سخاءُ الزوجِ وكرمِه، أن يسدَّ ما نقصَ من الحب الفاقدِ نصفُه..
لقد تم زفاف “أمّي” في زواجها الثاني، دون سابقِ معرفةٍ بمن أرادها للزواج، بل ودون أنْ تراه أو تُستشار، ودون أنْ يكونَ لها كلمةٌ في قبولٍ أو رفضٍ أو خيار.. لم تراه “أمي” إلا في ليلةِ الزفافِ.. كان الزواجُ بالنسبةِ لـ “أمي” ورُبّما للزوجِ أيضا، أشبهَ بالبختِ، وضربِ الحظ، واليانصيب..
يبدو أنَّ قلبَ “أمي” لم ينجذبْ لمن أختاره لها أهلُها، أو لمن كان له طلبُ اليدِ والاختيار.. ربما أخفق حظُّها، أو كان قلبُ “أمي” مُحبطا، أو معلَّقا في رجاءٍ يائس، أو ربما لازال بعضٌ من حبِّ قديمِ ينبضُ بسرٍّ وكتمان.. فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتَها، وتظل في الذاكرة فترةً قد تطول وتمتد إلى الكهولةِ، ويظل الحنينُ إلى القديم يرفض أن يغادر أو يموت..
ما لبث عَقد هذا الزواج أن انفض وتم الفراقُ باكرا، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنّ الحمل أدركه، ورُزقت “أمي” منه بنتا، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفةٍ باهظةٍ، تستمر من الولادة حتى آخر العمرِ.. واقعٌ اجتماعيٌّ ثقيلٌ وظالمٌ، يحملها على أن تدفعَ ضريبةَ وجودِها وجعا وإرغاما، وانتقاصا يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها الترابُ!.
لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجةِ أخطاءِ غيرِه، وعلى هذا النحوِ من الكلفةِ الباهظةِ التي ترافقه حتى اللحظةِ الأخيرةِ من العمر، بل وتمتدُّ إلى تحتِ الترابِ؟! لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئةٍ وأخطاءٍ لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعوها هم؟!
عمرك القصير الذي يشبه لمح البصر، أو أسرع منه بألف ومليون بمقياس الزمن المسرمد في الأزل، لا بأس هنا أن تطلق عنان خيالك، ولا تثريب عليك، ومع ذلك ربما في رحلة وجودك تغمر الإنسانية بخير وجميل، وربما تقترف الفظاعات، وترتكب الخطايا، وتورثها للوجود قبل تحولك أو رحيلك عنه، ودون أن تعلم نهاية لها، وربما أنا وأنت ـ إن لم يكن في حكم الأكيد ـ وليدا لها، وكل في وجوده له نسبة في الخير والشر قد تنقص وقد تزيد دون محض..
زوج “أمّي” الأول
كان زوجُ “أمي” الأول من أقاربها.. لم يتعدَّ عمرها عندَ عَقدِ قرانها به الاثنا عشر عاما، وهو يَكبُرُها بأعوام.. استمرَّ زواجهما نحو أربع سنوات، ولم تنجب منه، ربَّما لأنه جاء قبلَ طمثِها الأول بسنين، ومع ذلك لم اسمعْ من أمِّي يوما أنَّها ذمّت هذا الزواج، أو قدحتْ فيه، إمَّا لجهلها أو لرضاها، أو لبقايا ذكرياتٍ وحنينٍ جميل تنزع إليه..
أراد زوجها أنْ يذهبَ بها معهُ إلى عدن، حيثُ يعملُ ويقيم، غيرَ أنَّ أبَ الزوج كانت له سلطةُ القرار الأول في الرفضِ أو القبول، وكان منه المنعُ والرفضُ جازما وحازما، وفرض على الزوجين خيارهُ هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيلِ.. كان بإمكانهِ أنْ يتدخلَ ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجتهِ في القرية، وهو ما حدث بالفعل، وكان باب لمشكلةٍ يوما تداعت..
كان على الزوجةِ رغمَ صِغَرِ سنّها، بذل ما في وسعها لخدمةِ أسرة الأب وطاعته، أمّا الابنُ فيجبُ أن يكون خاضعا ومطيعا، لا يُرد للأب أمرا، ولا له حقُّ أنْ يعترضَ أو يغالبَ إرادةِ والدهِ إذا ما شاءَ وأراد..
كان من المعيبِ، بل ومن المعصيةِ والعقوقِ أنْ يتصدَّى الابنُ لرغبةِ وسلطةِ أبيه، حتى وإنْ سحقَ الأبُ سعادةَ ابنهِ وحُبهِ لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطةُ أسرةِ الزوجةِ هي الأخرى، وبدعوى حمايةِ ابنتهم من تعسفِ أسرةِ الزوجِ، فتبدأ المقامرةُ بمصيرِ الزوجيةِ ومستقبلِها، وكثيرا ما كان يؤدّي هذا التدخلُ والتضادُ، إلى الطلاق والفراقِ الكبير..
تدخلتْ سلطةُ “أم أمّي” وكانت الأم ذو شخصيةٍ نافذة، وإرادةٍ قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجين يُجهشانِ بالبكاء، لا يريدان طلاقا أو فراقا.. الاثنان يُجهشانِ بالبكاء، ويزيد من مرارة الحالِ، أنْ ليس لهما في مصيرِ زواجهما وحبِّهما حولا ولا قوةً، ولا يدَ لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرةُ أربابِ الأسر، وباحتدامِ الخلافِ بين أبِ الزوجِ وأمِّ الزوجةِ، وعدم الاكتراثِ والحفاظ على ما أمكن، خسر الحبُّ المغلوبُ بالطاعةِ والمقامرة، وأنتهي به المآلُ الى الُخُلع، والفراقِ إلى الأبد..
***
زوج “أمّي” الثاني
تزوجتْ “أمي” للمرةِ الثانيةِ من منطقةٍ بعيدةٍ نسبيا، ومن غيرِ الأقارب.. ولكنْ هذا الزواجُ كان قصيرا وعابرا.. لم تمكث “أمّي” لدى هذا الزوجِ الطيبِ والكريم، غيرَ أسابيعٍ قليلةٍ، كان الحبُّ ناقصا، أو من طرف واحد، ولم يستطعْ سخاءُ الزوجِ وكرمِه، أن يسدَّ ما نقصَ من الحب الفاقدِ نصفُه..
لقد تم زفاف “أمّي” في زواجها الثاني، دون سابقِ معرفةٍ بمن أرادها للزواج، بل ودون أنْ تراه أو تُستشار، ودون أنْ يكونَ لها كلمةٌ في قبولٍ أو رفضٍ أو خيار.. لم تراه “أمي” إلا في ليلةِ الزفافِ.. كان الزواجُ بالنسبةِ لـ “أمي” ورُبّما للزوجِ أيضا، أشبهَ بالبختِ، وضربِ الحظ، واليانصيب..
يبدو أنَّ قلبَ “أمي” لم ينجذبْ لمن أختاره لها أهلُها، أو لمن كان له طلبُ اليدِ والاختيار.. ربما أخفق حظُّها، أو كان قلبُ “أمي” مُحبطا، أو معلَّقا في رجاءٍ يائس، أو ربما لازال بعضٌ من حبِّ قديمِ ينبضُ بسرٍّ وكتمان.. فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتَها، وتظل في الذاكرة فترةً قد تطول وتمتد إلى الكهولةِ، ويظل الحنينُ إلى القديم يرفض أن يغادر أو يموت..
ما لبث عَقد هذا الزواج أن انفض وتم الفراقُ باكرا، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنّ الحمل أدركه، ورُزقت “أمي” منه بنتا، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفةٍ باهظةٍ، تستمر من الولادة حتى آخر العمرِ.. واقعٌ اجتماعيٌّ ثقيلٌ وظالمٌ، يحملها على أن تدفعَ ضريبةَ وجودِها وجعا وإرغاما، وانتقاصا يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها الترابُ!.
لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجةِ أخطاءِ غيرِه، وعلى هذا النحوِ من الكلفةِ الباهظةِ التي ترافقه حتى اللحظةِ الأخيرةِ من العمر، بل وتمتدُّ إلى تحتِ الترابِ؟! لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئةٍ وأخطاءٍ لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعوها هم؟!
لماذا الأبناءُ والأحفادُ يتحملون أخطاءِ وخطايا الأجدادِ البعاد؟!! لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا هو الحال ـ أن يتحملوا خطيئةَ أمِّنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمانِ، إن كان للزمان آخر وختام؟!
أختي هذه بنقاء البلور وبساطةِ الناس الطيبين.. مستسلمةٌ للأقدار بصبر من ليس له حولا ولا قوة.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمنِ أخطاءِ آخرين.. مستسلمةً لأقدار لم تصنعْها، ولم تشاركْ في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا. عاشت طفولةً بائسة، وزُوجت وهي طفلةٌ لرجلٍ يكبُرها بحدود الثلاثين عاما.. أُختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدارُ السيئة على غيرِ ما تريد… آخرُ نكبةٍ لها رحيل ابنتها المريضة، وقبلها مُصابٍ جللٍ أصابها وهو مقتلُ ولدها في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تمّ الاستيلاءُ عليه من قبلِ أمراء الحرب، وأرباب الفسادِ، وتجار الحروبِ والأوطانِ.. حتى اسمها يبدو أنه قدرٌ مخادعٌ..
اسمها ليس على مسمى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر.. حتى أسماؤنا الجميلة منها في جلّها أو بعضها بِتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر، أنها كانت مجرد وهمٍ على وهمٍ، وسرابٍ فوق سراب.
*
زواج “أمي” من أبي
كانت “أمي” لا تريد الزواج مرةً ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني.. ولكنْ تمّ إقناعها بالزواج للمرةِ الثالثة من قِبَلِ إخوانها، وإغرائها بوصف “أبي” ـ التي لا تعرفه ـ بالشهامةِ والمروءة والشرف، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد لهما..
قالوا لها: إنّ البنتَ لن تفييدك في حياتِك، إنّها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خيرٌ معين وساندٌ في حياتك، وضمانٌ لمستقبلك في قادم الأيامِ، وما قد تحمله لك من نوائبِ ومجهولِ..
كلٌّ له منطقهُ وحججهُ في ظل واقعٍ ملغومٍ، وغير آمنٍ للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطةٌ عميقةٌ ومتجذِّرةٌ، وفي المحصلةِ كلمته عليها هي فصل الخطاب.. وليس لـ”حذام” قولٌ هنا، ولم تقطعْ “جهينة” قولَ كلِّ خطيب..
“أبي” شاهد “أمي” في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها.. تزوج “أبي” قبل “أمي” أربع نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدةٍ بقت في عصمته، إنها أم أخي علي.. كان علي الولد الناجي الوحيد من الموت، والمتبقي لها، وظلت زوجةً لأبي حتى توفاها الأجل، وصارت “أمي” أمّا لسبعة ناجين بناتٍ وبنين، وكانت في زواجه مسكَ ختام..
عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى “البقطة” علّقت على هذا الزواج بقولها: “حنش مع محنوش” وكأنَّ لسانَ حالِها يقول: خيبتها على خيبته.. “جنِّي تزوج جنِّية”.. تعدد زواج “أبي”، وتعدد أزواج “أمي”، فـ “أبي” سبق أن تزوج قبل “أمي” أربع زيجات، وأمي تزوجت قبل “أبي” اثنين، وتلاهما “أبي” ثالثاً..
رُبما بدأ الأمرُ في نظر البعض تجاربَ فشلٍ متعددةٍ من الجانبين، ورُبما نظر البعضُ أنّ كليهما بات خبيرا في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواجُ إلى نهايةِ العمر، متحديا ومغالبا مصائبَ وأحداث عظام..
وفي حياتها اختارت أن يكون قبرها جوار قبر أبي في القرية، الذي سبقها بالرحيل عشرين عام، وكان اختيار مرقدها الأخير هو وصيتها الوحيدة والأخيرة، وتم نقل جثمانها من صنعاء إلى القرية لترقد بجواره بسلام وسكون..
لقد استمر زواجهما طويلا في صمودٍ اسطوري ندر مثلُه.. زواجٌ اشبه بزواجِ البحرِ والجبل.. عراك دائم مدّاً وجزرا.. ضجيجٌ مستمرٌ لا يقرُّ ولا يستكين، ولكنه لم يتخلّ أو يُدرْ احدٌهما ظهره للآخر في قطيعةٍ تدوم.. عظمةُ هذا الزواجِ هو صمودُه الخرافي، واستمرارُه مقاوما كلَّ عواملِ الفراقِ والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أيِّ صدامٍ أو احتدام.. لم يستسلم لعاملٍ أو طارئ، وإنْ كان بحجم كارثة، ولم يهتزْ بجزعٍ أو هلع، أو بقطع رِجْلٍ ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكا للختام..
أمّا أنا فكنتُ الجامعُ والمشتِركُ الذي ظلَّ يمنح الصبر والبقاء، والرقمُ الذي رفض أنْ يخرجَ من حسابِ المعادلة بينهما.. أنا الولدُ الغائبُ الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عَقد قرانِ “أمي” على “أبي”.. أنا الذي سيكونُ في حياةِ أمّي ضماناً لمستقبلها في قادمِ الأيام، وما قد تحملهُ من نوائبَ ومجهول.. وكنت لها من وجهة نظرها هذا الضمان، بل وربما الوجود كلُّه..
*
(3)
وجودي وولادتي بغير إرادتي
في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي آفل، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته.. مسقط رأسي كان في حجرة حاسرة الضوء، وميالة للعتمة.. كواء بالكاد تسمح بمرور بصيص من ضوء باهت، بزاوية مكسورة تصد الضوء.. الضوء الخافت لا يكفي، وعليك أن تمعن نظرك.. تجهد عينيك قليلا لترى أشياءك..
أختي هذه بنقاء البلور وبساطةِ الناس الطيبين.. مستسلمةٌ للأقدار بصبر من ليس له حولا ولا قوة.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمنِ أخطاءِ آخرين.. مستسلمةً لأقدار لم تصنعْها، ولم تشاركْ في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا. عاشت طفولةً بائسة، وزُوجت وهي طفلةٌ لرجلٍ يكبُرها بحدود الثلاثين عاما.. أُختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدارُ السيئة على غيرِ ما تريد… آخرُ نكبةٍ لها رحيل ابنتها المريضة، وقبلها مُصابٍ جللٍ أصابها وهو مقتلُ ولدها في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تمّ الاستيلاءُ عليه من قبلِ أمراء الحرب، وأرباب الفسادِ، وتجار الحروبِ والأوطانِ.. حتى اسمها يبدو أنه قدرٌ مخادعٌ..
اسمها ليس على مسمى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر.. حتى أسماؤنا الجميلة منها في جلّها أو بعضها بِتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر، أنها كانت مجرد وهمٍ على وهمٍ، وسرابٍ فوق سراب.
*
زواج “أمي” من أبي
كانت “أمي” لا تريد الزواج مرةً ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني.. ولكنْ تمّ إقناعها بالزواج للمرةِ الثالثة من قِبَلِ إخوانها، وإغرائها بوصف “أبي” ـ التي لا تعرفه ـ بالشهامةِ والمروءة والشرف، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد لهما..
قالوا لها: إنّ البنتَ لن تفييدك في حياتِك، إنّها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خيرٌ معين وساندٌ في حياتك، وضمانٌ لمستقبلك في قادم الأيامِ، وما قد تحمله لك من نوائبِ ومجهولِ..
كلٌّ له منطقهُ وحججهُ في ظل واقعٍ ملغومٍ، وغير آمنٍ للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطةٌ عميقةٌ ومتجذِّرةٌ، وفي المحصلةِ كلمته عليها هي فصل الخطاب.. وليس لـ”حذام” قولٌ هنا، ولم تقطعْ “جهينة” قولَ كلِّ خطيب..
“أبي” شاهد “أمي” في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها.. تزوج “أبي” قبل “أمي” أربع نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدةٍ بقت في عصمته، إنها أم أخي علي.. كان علي الولد الناجي الوحيد من الموت، والمتبقي لها، وظلت زوجةً لأبي حتى توفاها الأجل، وصارت “أمي” أمّا لسبعة ناجين بناتٍ وبنين، وكانت في زواجه مسكَ ختام..
عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى “البقطة” علّقت على هذا الزواج بقولها: “حنش مع محنوش” وكأنَّ لسانَ حالِها يقول: خيبتها على خيبته.. “جنِّي تزوج جنِّية”.. تعدد زواج “أبي”، وتعدد أزواج “أمي”، فـ “أبي” سبق أن تزوج قبل “أمي” أربع زيجات، وأمي تزوجت قبل “أبي” اثنين، وتلاهما “أبي” ثالثاً..
رُبما بدأ الأمرُ في نظر البعض تجاربَ فشلٍ متعددةٍ من الجانبين، ورُبما نظر البعضُ أنّ كليهما بات خبيرا في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواجُ إلى نهايةِ العمر، متحديا ومغالبا مصائبَ وأحداث عظام..
وفي حياتها اختارت أن يكون قبرها جوار قبر أبي في القرية، الذي سبقها بالرحيل عشرين عام، وكان اختيار مرقدها الأخير هو وصيتها الوحيدة والأخيرة، وتم نقل جثمانها من صنعاء إلى القرية لترقد بجواره بسلام وسكون..
لقد استمر زواجهما طويلا في صمودٍ اسطوري ندر مثلُه.. زواجٌ اشبه بزواجِ البحرِ والجبل.. عراك دائم مدّاً وجزرا.. ضجيجٌ مستمرٌ لا يقرُّ ولا يستكين، ولكنه لم يتخلّ أو يُدرْ احدٌهما ظهره للآخر في قطيعةٍ تدوم.. عظمةُ هذا الزواجِ هو صمودُه الخرافي، واستمرارُه مقاوما كلَّ عواملِ الفراقِ والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أيِّ صدامٍ أو احتدام.. لم يستسلم لعاملٍ أو طارئ، وإنْ كان بحجم كارثة، ولم يهتزْ بجزعٍ أو هلع، أو بقطع رِجْلٍ ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكا للختام..
أمّا أنا فكنتُ الجامعُ والمشتِركُ الذي ظلَّ يمنح الصبر والبقاء، والرقمُ الذي رفض أنْ يخرجَ من حسابِ المعادلة بينهما.. أنا الولدُ الغائبُ الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عَقد قرانِ “أمي” على “أبي”.. أنا الذي سيكونُ في حياةِ أمّي ضماناً لمستقبلها في قادمِ الأيام، وما قد تحملهُ من نوائبَ ومجهول.. وكنت لها من وجهة نظرها هذا الضمان، بل وربما الوجود كلُّه..
*
(3)
وجودي وولادتي بغير إرادتي
في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي آفل، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته.. مسقط رأسي كان في حجرة حاسرة الضوء، وميالة للعتمة.. كواء بالكاد تسمح بمرور بصيص من ضوء باهت، بزاوية مكسورة تصد الضوء.. الضوء الخافت لا يكفي، وعليك أن تمعن نظرك.. تجهد عينيك قليلا لترى أشياءك..