أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
هذا العام
رمضان شهر الموت
والصيام !!
للانضمام إلى جروب يمنات على الواتس آب
https://chat.whatsapp.com/BBhD3E4FVDCJqIDDXI5M1m

قناة موقع يمنات على التليجرام
https://telegram.me/yemenat0
https://yemenat.net/2021/04/385989/
رواية الوزير .. التعذيب بالكذب
https://yemenat.net/2021/04/385939/
يوم أرغمت على الاعتذار
https://yemenat.net/2021/04/385811/
اثارة احتجازي في السياسي برلمانيا
https://yemenat.net/2021/04/385773/
التوجيه بإخلاء سبيلي
من مذكراتي.. الأمن السياسي .. 1 - 13
(1)
احتجازي في الأمن السياسي
في تاريخ 10 اكتوبر 2006 أتجهنا من مكتب النائب العام إلى بوابة الأمن السياسي بعد أن حصلنا على الأرجح معلومة غير مؤكدة، وربما استنتاج شبه مؤكد أن الأمن السياسي هو من مارس الإخفاء القسري بحق الناشط الحقوقي علي الديلمي، وأنه الآن معتقل في مبنى جهاز الأمن السياسي في صنعاء..

أذكر أنني كنت أحد أصحاب اقتراح نقل تجمعنا واحتجاجنا من النيابة العامة إلى أمام بوابة الأمن السياسي، حاملين مذكرة من النائب العام موجهة إلى رئيس جهاز الأمن السياسي تتضمن السؤال، وطلب الافادة عمّا إذا كان علي الديلمي محتجزا لديهم..

كان جهاز الأمن السياسي آنذاك مهابا إلى حد بعيد، وربما الاحتجاج أمام بوابته كان محذورا ولا يخلوا من مغامرة، وزائد عليه أنه فعل غير مسبوق.. خطوة غير معتادة تنال من هيبة هذا الجهاز ومقامه ليس فقط في وعي الناس، بل حتى في وعي العاملين فيه والقائمين عليه..

انتقلنا من مكتب النائب العام إلى أمام بوابة المقر الرئيسي للجهاز، وعندما كنّا نتعرض إلى الإبعاد قسرا من البوابة الرئيسية تحت عنوان "ممنوع" انسحبنا إلى تحت الشجرة التي تبعد بحدود المائة متر أو أكثر من البوابة الرئيسي..

ورغم هذا أستمرت ضدنا الاستفزازات اللافتة من قبل ضباط وجنود الأمن، وحدثت بعض المناوشات المستفزة من قبلهم، وكانت تجري اتصالات بين ضباط الأمن ومسؤوليه على الأرجح لا أعرف مضمونها، ولكن تلك الاستفزازات كانت تكبر، وتكاد تتحول إلى اعتداء على المعتصمين..

أخرجت الكاميرا من الجاكت الذي كنت ارتديه، وربما أنا من حاول التصوير أو ناولتها شخص من المحتجين ليقوم به.. وأتذكر إن اضاءة فلاش الكاميرا عند التصوير قد لفتت نظر ضباط وجنود الأمن..

هرعوا نحونا وكأنهم ممسوسين.. بعضهم كان قريبا جدا منّا، وبعضهم كان بعيدا.. فلاش كاميرا كان يكفي لاستنفار واسع لا مبرر له غير الهلع.. ناولتُ الكاميرا التي صارت في يدي لرضية المتوكل التي كانت تقف خلفي، والتي أخبتها في حقيبتها..

لم يستطع الجنود معرفة أين ذهبت الكاميرا، ولكني أخبرتهم أنها تتبعني، ولم أكشف لهم أين هي، وبأي حيازة صارت.. كانوا مصرين على الوصول إليها وأخذها.. وعوضا عن هذا أخبرتهم أنني عضو مجلس النواب، وأنني من قمتُ بالتصوير.. فيما ظلت مطالبتهم بتسليم الكاميرا لحوحة ومتشددة..

تمت اتصالات عدة بين ضباط الأمن ومسؤوليهم، ويبدو أن الأوامر صدرت باحتجازي.. هددوني باستخدام القوة ضدي، وسحبي من بين المحتجين، ثم حاولوا بالفعل انفاذ تهديدهم والذي يبدو أنه كان تنفيذا لأوامر تلقوها من قيادتهم العليا.. بدا لي الأمر لا يقبل المراوحة، ومع ذلك ظللت مستغرقا في رفضي أن أسلم لهم الكاميرا أو أدلهم عليها.

بدت لي بوادر المواجهة تشتد وتكاد تحتدم.. شاهدت رجال الأمن يحاولون انتزاعي من بين المحتجين، فيما المحتجين يحاولون منعهم، بل والدفاع عني حد المواجهة.. بدت المواجهة بتدافع الأيدي والأجساد بين مهاجم ومدافع..

كان الأمر يحتاج إلى مبادرة وقرار إنقاذ سريع من قبلي.. أحسست إن نتيجة أي مواجهه ستكون بكلفة أكبر، ومفتوحة على المجهول؛ فخرجت من الجمع، وقررت أن أذهب معهم برغبتي وإرادتي تجنبا لما كان سيحدث.. أظن أن قراري هذا كان صائبا إلى حد بعيد، لا سيما أن المواجهة كادت تكون أكيدة، والاحتدام وشيك.. لم أرغب بمزيد من التداعي للموقف الذي بدا لي حساسا، وينذر بشؤم الاحتدام..

ذهبت معهم إلى داخل مبنى الجهاز.. تركت خلفي مخاوف الأحبة، وحبهم الذي ذادوا به عني.. تهيئت لكل احتمال ومجهول بعيدا عنهم.. اقتادوني مجموعة من الضباط والجنود إلى الداخل.. أول مرة أتجاوز بوابة جهاز الأمن السياسي إلى الداخل.. وفي الداخل شاهدت الفناء واسعا.. مباني متعددة.. طرق ومماشي عدة.. بديت وهم حولي وخلفي أشبه بمن نفذوا غزوة حربية، وعادوا بي إلى ديارهم كغنيمة حرب..

اقتادوني يسارا ويمين.. ثم يمينا ويسار.. سلموني لأحدهم كان في انتظاري يبدو أنه ضباط أرفع رتبة.. كان مرتديا قميصا وسروالا مدنيا.. بدا لي حاد الملامح وشديد التحفز لالتهامي.. وجهه مستطيل لا يخلوا من تكشيرة كلب بولسي حالما ينقض على مجرم خطير بتوجيه من سيده..

كان واضحا عليه أنه ينتظرني بصبر كاد ينفذ.. شاهدت سؤال يكاد يثب من عينيه كذئب: من هذا النائب أو من هذا الذي يجرؤ على التصوير ويرفض تسليم الكاميرا لجهاز يخافه ويهابه كل الناس؟!! كانت عيناه المتوعدتان تقدح شرا وشررا.. بدا لي ومن أول وهلة سيء الطباع وفض القلب والمعاملة.. هنا الاخلاق نحو الضحايا أشبه بالأمر المستحيل.. لا يتأتى إلا عن طريق التمثيل وتقمص الدور بتصنع وتكلف شديد، لا يخلوا من معاناة جمة..
سار أمامي وطلب مني أن اتبعه.. قادني إلى محبس غرفة صغيرة.. كنت أسير خلفة كنسمه بينما كان هو أمامي ينفخ ككير حداد.. وصلت ومجموعة تنتظرني في الجحر كفريسة، ولكنهم ربما كانوا ينتظرون الأوامر أن تأتي.. أمن سادي وشرِه ومفترس لا يعرف للإنسان قيمة أو حرمة..

أودعوني الغرفة، وفيما كنت أنتظر أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، أتوا بحارس في مستهل العشرينات من عمره، وبمعيته سلاحا آليا وجعبة.. لا أدري دواعي هذا الإجراء، وقد صرت في قبضتهم، وهي قبضة أمنية حديدية تزدري الدستور والقانون والحقوق..

*

(2)
سجون سيئة السمعة والصيت

حاولت الدخول إلى جهاز ومقرات الأمن السياسي باعتباري عضوا في مجلس النواب، وعضوا في لجنة الحريات وحقوق الإنسان في المجلس، ولكن الاستحالة في جلّها كانت أكبر منّي؛ واليوم باتت الاستحالة أشد وطأة، بل ربما أكبر وأكثر من أن تقارن..

حاولت كثيرا أن أعبر إلى داخل سجن هذا الجهاز بصفتي الحقوقية، ولكن كانت الموانع والظروف المانعة قاهرة، بل وساحقة أحيانا، وتعذر تحقيق أمنية كتلك على النحو الذي أريد، بل عشت كثيرا بين الخيبة والأسف..

أخفقت كثيرا رغم محاولاتي العديدة، ومع ذلك نجحت بوجه ما في الدخول إلى أربعة من ملحقاته في الحديدة وذمار والبيضاء وحجة ـ سآتي على ذكر تفاصيلها لاحقا ـ ورغم محاولاتي الكديدة وفشلي في الدخول إلى مقر الجهاز الرئيسي في صنعاء بصفتي البرلمانية والحقوقية، إلا أنني نجحت هذه المرة في الدخول إليه متضامنا، بل ومُنتهك الحقوق والحريات أيضاً.. يا للبؤس والمفارقة!!!

في حقبة سابقه كنت أعرف إن هذا الجهاز سيء الصيت، وقد ألتقيت ببعض ممن خرجوا منه، ومن السجون التابعة له، ووجدت بعضهم مجنونا أو نصف مجنون، وآخرين تم تعذيبهم على نحو بشع، والبعض خرج منه وهو يحمل حالة نفسية ثقيلة أو قاتلة.. كتبت ونشرت جزء من هذا الملف في صحيفة "المستقلة" التي كنت أمتلكها..

سمعت عدد من ضحايا الأمن السياسي، وقبله ما كان يسمى بالأمن الوطني، وما هذا إلا امتدادا لذاك، ولازال بعضهم أحياء عاشوا تجربة تعذيب مؤلمة ومرعبة، وهناك آخرون سمعت عنهم أنهم ماتوا تحت التعذيب، وبالتأكيد أن من لم أسمعهم أو أسمع عنهم هم طابورا طويلا يستصعب عده..
إن هذا السجن والسجون التابعة له بمسمياتهم المختلفة السابقة واللاحقة تمت فيهم ممارسة سيل من الانتهاكات الكثيرة، بل والتعذيب المرعب.. انتهاكات لا عد لها ولا حصر.. سجون سيئة السمعة والصيت ابتداء من عهد الأمن الوطني ورئيسه محمد خميس، ومرورا بمن تلاه، ولازال إلى اليوم تحت مسمى جهاز الأمن والمخابرات، مع ملاحظة أن اليوم تعيش تلك السجون وما يجري فيها، حالا أسوأ كثيرا من كل الحقب السابقة.

*


(3)
الوعد الذي قطعته على نفسي

وفيما أنا محتجزا في الغرفة الشاحبة والكئيبة، كنت أفكر وأتسأل وأتذكّر.. كنت أحدث نفسي وأقول: "صرت قريبا من أمكنة لا شك إنه حدث فيها ما هو مروع ومفزع.. الآن صار لا يفصلني عنها غير مئات الأمتار، بل ربما بعضها صارت على مرمى حجر.. أقبية مرعبة تحت الأرض.. دهاليز موحشة.. زنازين تشبه القبور في ضيقها.. غرف تحقيق وتعذيب حدث فيها ما هو بشع ومزلزل، وما يزال..

كثيرون مروا من هنا.. بعضهم خرجوا افذاذا، وقد تصلب عودهم، ولم ينل من إرادتهم انكسار أو هزيمة، وبعضهم عبروا إلى الموت بإرادة أقوى وأكبر من إرادة سجانيهم بعد تعذيب يشبه الجحيم.. بعضهم جن من تعذيب مهول، وبعضهم أصيب بحالات وتصدعات نفسية عميقة وغائرة، أو أُلحقت بهم عاهات جسدية لازمتهم ما بقي لهم من عُمر وحياة ناقصة وبائسة.."

هنا في هذه الغرفة الكئيبة والمملة وجدت الوقت على قصره يطول، والانتظار يتمطى ويتطاول أكثر.. تحس إن الوقت قد توقف، أو أنه يزحف ببطيء سلحفاة، وربما تشعر أحيانا أنه قد عكس وجهته زاحفا إلى الوراء، بدلا من أن يتقدم إلى الأمام..

هنا يوجد فراغ لديك يمكنك مواجهته بإطلاق خيالك وذاكرتك.. بإمكانك أن تتذكر أشياء وتفاصيل كثيرة، ومنها ما له شبه أو صلة بما أنت فيه، أو بالحرية التي تبحث عنها أو تناضل من أجلها.. تذكرت بعض من اُعتقل، أو تم إخفائه قسرا، هنا أو هناك.. كثيرون هم الضحايا، وأكثر منها البشاعة التي تم ممارستها ضدهم، والجرائم التي تم اقترافها بحقهم..

هنا بوسعك أن تتذكر كثير من قصص التعذيب التي سمعت عنها، وهي في جلها يشيب لها رأس الطفل الرضيع.. سمعت بعضها من الضحايا أنفسهم أو من أقاربهم أو من كانوا شهود عيان عليها من زملائهم الذي عاشوا التعذيب، أو كان مصدرها من هم ذوي صلة أو علاقة بالضحايا..

تذكرت ابن قريتنا الصلب والشهم، جمال علي عبدالملك الذي جرى عليه تعذيب مريع أبتدأ من الصعق بالكهرباء والتغطيس بالماء، ومرورا بالخصي وأنتهى بالتعذيب الأثقل وطأة.. جمال لم يتم اطلاق سراحه إلا وقد أصيب بحالة نفسية غائرة.. خرج كوم من حطام يمشي على قدمين لا تقويان على حمله.. ثم مات بعد خروجه بفترة لم تطل..
تذكرت ما كنت قد سمعته بنفسي من فاه الرفيقة زعفران، وما جرى لها ولزوجها من تعذيب مرعب وأليم في المعتقل، وكذا ما سمعته من آخرين أيضا، وفيه ما يكتظ ويزدحم، وأكثر منه ما يثقل الوعي، ويفطر القلب ويدمي الذاكرة..

*

في تلك الغرفة البليدة والمملة عادت بي الذاكرة إلى الفلم الوثائقي الذي لا يُنسى "جرائم المخابرات المركزية الأمريكية" (السي أي إيه) والذي كنت قد شاهدته في مرحلة باكرة من مطلع شبابي الأول، وما شاهدته كان يزدحم بكل بشع ومرعب..
لازالت تلك المشاهدة عالقة في ذهني رغم تقادم الزمن.. لازالت تلك المشاهد تضرب وتدا في قلبي المثقل بالوجع، وتكز في ذاكرتي وتدميها إلى اليوم، وتذكرني بأشياء وتفاصيل كثيرة ذات صلة أو علاقة..

في نفس المقام تذكرت مشاهد في الفلم نفسه تثير الإعجاب الكبير الذي تجله في نفسك، وربما يصير جزء من تكوينك النفسي الذي تحرص أن تكون عليه.. شجاعة نادرة ومقاومة فذه لبعض من يتم تعذيبهم، ملأتني وأسرتني حتى منتهاي..

منها على سبيل المثال لا الحصر، ذلك المعارض الذي على الأرجح كان ينتمي لإحدى دول المغرب العربي.. تم تعذيبه بقسوة، وهو مقيد ومثبت على كرسي، وآلة طويلة حادة بيد الجلاد يغلها بحقده، ويغرزها في جسد هذا المعارض الشجاع، فيما كان هذا الأخير في الدقيقة الأخيرة من حياته، يتلوى ألما، ويستجمع قواه من كل جسمه، ويستجمع بصاقه في فمه بصبر عنيد، ، ليقذفه في وجه جلاده كقذيفة مدفع، ولعنة تاريخ لن تزول، وعار لن ينتهي في وجه القمع والتعذيب والطغيان كله..

تذكرت في الغرفة أيضا تلك الرواية التي كنت قد قرأتها على الأرجح قبل عشرين عام أو أكثر، اسمها "شرق المتوسط" للروائي القدير عبدالرحمن منيف، يتحدث فيها بطل الرواية رجب اسماعيل عن نفسه وهو يقول: "إنني لم أحمل بندقية، ولم أقتل أحداً، ومع ذلك دق رأسي بالجدران مئات المرات، كما تدق المسامير في أخشاب السنديان".

رجب اسماعيل الذي تم تعذيبه قرابة الخمس سنين، صفعا وجلدا وضربا، وتعليقا لأيام.. جروه من خصيتيه، وعذبوه بالكهرباء، واطفاء السجائر على أجزاء متفرقة وحساسة من جسده المنهك والمريض.. خرج من سجنه بعد خمس سنين وقد سُرق منه كل شيء.. صحته وأمه وحبيبته وكل أحلامه ومستقبله..

مات البطل، ولكن لم تمت الحياة، ولم تعلق أو تقف عند موت رجب.. الحياة ولادة ومستمرة.. وتشي الرواية إلى جيل لن ينسى ما حدث، ويواصل المشوار من بعده، حامد زوج أخته، وعادل وليلى أبناء أخته أنيسه.. تتواصل الحياة بهم على درب النضال والصمود، ومقاومة قهر السلطة والقمع والتعذيب.. وربما نحن القراء أيضا.. غير أن الخلاصة وجدتها فيما قاله الطبيب الفرنسي لرجب: "يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريته، والحرية أغلب الأحيان غالية الثمن".

وفي نفس المقام تذكرت أيضا شجاعة وصمود زعفران "أم حمير" المرأة اليمنية الشجاعة التي صمدت ليس فقط في وجه محمد خميس المروع والمهاب، ولكن أيضا في وجه التعذيب البشع، بل وفي وجه كل شيء تقريبا، دون أن ينتزع الجلاد منها نتفة من اعتراف بحق رفيق..

وفي المقام نفسه تذكرت ما قرأته وسمعته في مواضع أخرى إن الأيام الأولى في السجن هي الأصعب، ثم تتعود عليه، وتتعايش معه، وتتغلب على معاناته القاسية، وتتجلد فيه كل يوم أكثر من سابقة.. ومن يدري!! ربما تخرج منه بطلا أو ثائرا أو قائدا، أو تخرج شهيدا أو ذكرى سيعتز بها شعب سيأتي، أو لعنة تاريخ أبدية ستظل تلاحق الحكام، وتحاكم طغيانهم..

*


هذه الغرفة التي طوقني بكآبتها الثقيلة، ومكثتُ فيها نزرا من الوقت، ذكرتني بتفاصيل كثيرة، ومآس بالغة، جعلتني أفكر فيها باستغراق عميق، بل جعلتني أقطع وعدا لنفسي على نفسي أن أفعل شيئا في المستقبل على هذا الصعيد، وينصب تحديدا في كشف ما أُرتكب بحق الإنسان في هذه السجون والمعتقلات من جرائم بشعة، وتعذيب مروع، وقمع مهول فاق في بعضه كل معقول..

وبالفعل وفيتُ بما وعدت، وفتحت ملف التعذيب في العام 2009 باسم منظمة التغيير للحقوق والحريات التي أرأسها، فيما نشرت ووثقت صحيفة "المستقلة" التي أملكها، ما أمكن من شهادات تحكي في جلها مدى البشاعة والطغيان الذي بلغته سلطات القمع والتعذيب في تلك المعتقلات والسجون والغرف المغلقة، فاق في بعضه حدود التصور، ولازلت على يقين أن ما لم يُكتب ولم يوثّق أكثر بكثير مما تم كشفه وتوثيقه، على نحو عصي حتّى على المقارنة..

رغم تلك الكآبة التي كانت تحاصرني وتحيط بي في تلك الغرفة، فإنها كانت أشبه بنزهة أو فسحة واستراحة، ربما تمناها غيري ممن مرّوا هنا، أو من لا زالوا يتمنونها ممن هم الآن على مقربة من هذا المكان، أو مروا يوما على ملحقاته في المحافظات المختلفة.. أما المقارنة بما يحدث اليوم، ففي اليوم ما فيه، "حدّث ولا حرج"..
من ثاروا بالأمس باتو هم طغاة اليوم.. ولكم أنطبق على هذا الحال ما قاله جورج أورويل في الأمس “ثائر اليوم هو طاغية الغد".. جل الاستهداف في الأمس كان ينصب على من يفهموا أو بدأوا يفهموا، أما اليوم فالاستهداف يطال الجميع من قبل كل سلطات الحرب والفساد والجشع الفاحش، بات اليوم شعب بأكمله محلا للاستهداف الواسع، وكل من جهته يمارس ما قدر عليه من الطغيان الذي فاق كل الحدود..

تستطيع أن تكتشف اليوم وبسهولة، ودون أن تمنح لأحد صك غفران، مدى السقوط السحيق، والتراجع الحقوقي الفاجع بين العام 2006 وما قبله من حقب وعهود، وما يحدث اليوم من طغيان يفوق كل وصف وخيال..

تستطيع أن ترى اليوم بيسر ما هو شاخصا للعيان من رعب وبشاعة، هنا أو هناك، لا ينكره إلا مناكر لا حيلة له.. تستطيع أن ترى الطغيان اليوم حتى وإن كنت أعمى أو لا تملك أعين.. الطغيان هو اليوم من يسودونا جميعا، ويدومنا ليلا ونهارا، وفي كل آن وحين.. شعبنا ينزف ويجوع ويموت وينسحق بين رحاهم وحروبهم المهلكة.. شعب منكوب بطغيان حكامه.. شعب تعصره الخيبة القاتلة، ويلويه الألم الأشد، ويعبث فيه كل ما هو بشع ومرعب..

*

(4)
لمحة من التعذيب السياسي

وفيما كنت أتوقع أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، جاءوا لي بجندي مسلح، ومعه كرسيا ليجلس هو عليه.. لم أتنازل لهم، ولم أطلب منهم شيئا.. هنا التنازل لغير الله مذلّة.. الضباط ينظرون إليك بأعين فاحصة ومرتابة.. ينتظرون الأوامر، ويتحفزون لتنفيذها بدافع سادي شديد.. إحساس كثيف بالوحشة والغربة في مكان لا تجد فيه من يساعدك أو يخفف عنك..

الغرفة التي احتجزت فيها كانت فارغة إلا من طاولة منهكة.. بدت لي كأنها هي الأخرى قيد الاحتجاز.. لا أنيس لي هنا إلا هي.. أحسست إنها تقاسمني الحال الذي أنا فيه، وتريد أن تقدم لي المساعدة لتخفف عنّي ما أعانيه.. الأشياء في وحدتك تشعرك بحضورها وقيمتها ومعناها المختلف عمّا هو معتاد..

خالجني شعور رهيف.. أحسست إن الطاولة تتعاطف معي، وتعزّيني، وتبادلني بعض مشاعر حزني، وتحاول أن تخفف من اكتئابي.. تريد أن تقدم لي المساعدة دون أن طلب.. استجبت لها بامتنان، جلست عليها برفق، وأسندت ظهري للجدار..

الطاولات ليست واحده.. إنها تختلف بعضها عن بعضها الآخر كأقدار الناس.. بين طاولة وأخرى ربما تجد ثمة فرق شاسع وكبير.. هذا الاختلاف نقلني إلى ماضٍ يعود إلى ما يقارب الستة عشرة عام خلت..

*


بعد الوحدة في العام 1990جئت من عدن إلى صنعاء، وسمعت من زميل لي في القضاء العسكري قصص تعذيب مروعة.. لم أعد أتذكر أسماء الضحايا الذي ذكرهم لي، ليس لأنني تجاهلتها، أو لأنني لا أهتم بها، بل لأن ذاكرة الأسماء لدي ضعيفة، ومع ذلك حفرت تلك الوقائع المرعبة التي سمعتها منه، أخاديدا عميقة في ذاكرتي المنهكة.. ما سمعته كان يفوق المعقول، ووقعه على الوجدان أشبه بصدمة وزلزلة..

ومما رواه زميلي هذا هو أن أحد ضحايا التعذيب قبل مباشرة التحقيق معه، تم تثبيت كفيه بالمسامير على الطاولة.. ولم يكتفوا بهذا النوع من التعذيب البشع أثناء التحقيق الذي أستمر لساعات طوال، بل واستخدموا معه أيضا وسائل تعذيب أخرى، فبدا لي الحال على الضحية أشد من الجحيم.. وأثناء فتح ونشر ملف التعذيب في العام 2008 ، تم التثبت والتأكد من صحة هذه الواقعة.. وكان الضحية شخص اسمه علي قلهيز..

واقعة أخرى تتلخص في كسر يد أحد ضحايا التعذيب، ويقومون بتجبيرها حتى تكاد تتماثل للشفاء، ثم يحضر الجلاد ويسلّم على الضحية، ويعصر يده ليكسرها مرة أخرى، ويصرخ الضحية بصرخة وجع مدوية يسمعها ويهتز لها الجميع، إلا الجلادين لا يسمعون ولا يكترثون بصرخة وجع حتى وإن شُقّت الأرض وتشطرت السموات العُلا، بل تجدهم يغرقون باستمتاع لا مثيل له..

***

عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي أحدى ضحايا تلك السجون والمعتقلات المرعبة.. تم اعتقاله أربع مرات قضى في إحداها فترة أربع سنوات، تعرض فيها للتعذيب الجسدي والنفسي، ومنها الضرب الشديد أثناء التعليق على طريقة (كنتاكي)، والتغميس في برك الماء أثناء البرد القارس، وكسر الأيدي، ونزع الأظافر، واستخدام الكهرباء، والصفع على الوجه، واستخدام الحرب النفسية، والحبس الانفرادي، والتهديد بالقتل، والايهام بتنفيذ الاعدام عن طريق اطلاق الرصاص..

ولاتزال بعض الأثار باقية على جسده، ومنها آثار كسور في يده اليسرى، وضعف حاد في السمع، وآثار الربط بأسلاك الكهرباء.. وقد حكى بعض من معاناته في السجن بقصيدة نقتطف نتف منها:
"في السجن .. في زنزانة ظلماء كالقبر
مكبل بالقيود والسلاسل والأغلال..
تلهبني سياط الجلادين..
ونعالهم الحقيرة،
أموت في كل ثانية مرة واحدة
أو مرتين .."
ويذكر آخرين ممن تعرضوا للتعذيب البشع والمروع، ومنهم علي قلهيز، الذي دقوا المسامير في يديه، وعبده الكوري الذي تم كسر أحد أضلاعه، والعبادي الذي أصيب بالجنون بسبب التعذيب بطرق بشعة، وعبد القوي رافع الذي حُبس لمدة 12 سنة، وكانوا يحققون معه ويضربون بجانبه الرصاص، وهو معصوب العينين، وعبد الحفيظ جازم الذي كانوا يضربون رأسه بالمطرقة، وعلي بشر القباطي الذي كانوا يعذبونه ويقضمون صلعته بأسنانهم..

*

وعودة إلى زعفران "أم حمير" أحدى ضحايا التعذيب المؤلم والمرعب جاء في شهادتها إنها تعرضت للضرب بطواية أسلاك كهربائية، وصعقها بالكهرباء، والتغطيس في برك مياه باردة، والتعليق عن طريق الأرجل إلى سقف الزنزانة، والضرب رغم حملها..

ولم ينحصر أو يقتصر التعذيب عليها وحدها من بنات جنسها، بل تذكر بعض رفيقاتها اللاتي تعرضن للتعذيب الشديد في معتقلات وسجون السلطة آنذاك، ذكرت منهنّ على سبيل المثال لا الحصر: طيبة بركات، وأمينة محمد رشيد، ودرة الفاتش التي عذبوها، وعلقوها في السجن، وشنقوها، وزعموا أنها انتحرت..

وهناك حكايات تعذيب أخرى مؤلمة عاشها آخرون مثل: أبو القصب الشلال، وعبد الرحمن الأهدل، ويحيى أمين زيدان، ويحيى علامة، وعلي مكنون، وعبد الباري محمد سعيد، وعبدالباري طاهر، وأحمد علي الوادعي، وسلطان الصريمي، وغيرهم الكثير ممن سمعنا عنهم، ومن لم نسمع عنهم هم أكثر من الكثير..

*


فرحان عبد الله وهفان من عمران واحد ممن تعرضوا أيضا لبعض صنوف التعذيب حيث يقول: كانوا يخرجونا في بعض الليالي يطوفون بنا حول بركة ماء، ونحن مثقلين بقيود حديدية، ونظل نطوف حول البركة، ولسعات العصيان تنزل على ظهورنا، وأخيرا يقذفوا بنا إلى داخل البركة الباردة كريهة الرائحة.. "

وعن الآخرين ممن تم تعذيبهم يقول: "أتذكر من الذين تعرضوا للتعذيب "زعفران" زوجة أحمد فارع، وزوجة عبد الله نجاد وأبنته، وأبناءه الاثنين (سند ورشاد) وعلي المولّد، وأيضا صالح المولد، أبناء عم صالح المولد، والأستاذ عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي، وعبد الرحمن غالب المقطري.."

ويستغرق في تذكره الذي لا يخلوا من مرارة وألم فيقول: أتذكر أن محمد خميس كان يلوي يد علي المولد وهي المصابة بطلقة نارية، ومكسورة، ويزيد من ليها، فيصرخ حتى يسمع صوته كل من كان في غرف السجن، وقد ظلت عاهة يده ملازمة له أيضا، فيما زعفران كان محمد خميس يعذبها بعصا غليظة.. يضربها على بطنها بمنتهى القسوة، وهي حامل وعلى وشك أن تلد، وبالفعل ولدت داخل السجن، وأسمت ابنها على اسم السجن “حمير” سلام على أم حمير..

*

سلطان أحمد زيد أيضا تعرض في سجنه للسب والشتم، والقيد على الرجلين، والحبس الانفرادي، والحرمان من النوم، والمنع من التبول وقضاء الحاجة، لفترات طويلة، فضلا عن مصادرة كثير من حقوقه الوظيفية والمادية..

وعن الزملاء الذي تعرف عليهم في السجن وتعرضوا لصنوف التعذيب يقول: تعرفت بعد فترة من الاعتقال في زنزانتي الانفرادية على بعض من الزملاء في الزنازين الأخرى، أتذكر منهم: الأستاذ أبو القصب الشلال الأديب والشاعر المعروف، والفقيد المناضل أحمد صالح جبران، وعلي العلفي، وعبدالعزيز قائد سيف، والأستاذ عبدالله الرديني الناقد والكاتب، وعلي محمد محرز موظف في البنك المركزي، والضابط فوزي الذي اعتقل عشية زفافه في تعز، وهو أحد المخفيين قسريا إلى اليوم..

ويشير أن هؤلاء المعتقلين الذين اعتقلوا وعذبوا لا لشيء غير آرائهم السياسية، ويضيف: علمت لاحقاً بأن أغلبهم لاقوا صنوفاً من التعذيب والمعاملة القاسية، ومنهم المناضل الفقيد جمال المخلافي الصحفي الذي عذب بالضرب على الخصية، ولم يخرج من المعتقل إلاّ فاقداً لعقله، إلى جانب الحرمان من زوجته وتطليقها منه بالقوة..

ومن وسائل التعذيب الذي يستخدمها الجلادون ضد الضحايا، يذكر سلطان أحمد زيد بعض منها، كعصر الرقبة، والصفع المفاجئ على الوجه، والتعليق في قضيب خشبي عبر اليدين والركبتين وربطهما معاً، والضرب بالسلك على الفلكة "باطن القدمين" حتى الإغماء، أو ساعات تمتد طوال التحقيق، ولا يسمح له بشربة ماء واحده، ثم يعود بك الجلاد إلى الزنزانة ويقذف بك كالقمامة..

وفي الخلاصة نشير أن هذا كان مجرد لمحة شديدة الاقتضاب عن التعذيب في الأمس.. أما اليوم فالتعذيب بات أكبر من أن يستوعبه عقل أو وصف أو لغة..

*


(5)
التوجيه بإخلاء سبيلي

رغم الحجز كنت أحاول أن أكتشف محيطي.. أرمق الذين يتجولون في الساحة القريبة بلباس مدني أو عسكري.. أحاول أن أمعن النظر في أشكالهم.. أتفرس في وجوههم إن أمكن، وهم يتجولون في الساحة، أو يمرقون منها ذهابا وإيابا، فيما كان بعضهم يطل من باب الغرفة يتفرّس فيني، وكأنني مخلوق عجيب جاء من الفضاء، أو حيوان بري عدواني، أو غير معروف، في سياجه الحديدي المخصص بحديقة الحيوان..