أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
تم إعادة الوتس الخاص بي
لم يتم إخباري عن سبب حظري رغم أنني طلبت منهم ذلك
لا بأس..
بامكانكم الآن ضمي إلى مجموعاتكم..
اتمنى أن لا يتم حظري هذه المرة أيضا.
وفي كل حال أنا ملتزم بمعايير الخصوصية للوتس.
رقم الوتس الخاص بي هو 738040566
أحداث يناير 1986
(3)
“آه يا عيالي”
• كانت كريتر أقل المناطق صداما ومواجهة في أحداث يناير1986مقارنة بغيرها، حيث لم تشهد مصادمات واشتباكات عنيفة إلا على نحو محدود ومتقطع.. كان توزيعنا الأول جوار حماية البريد وما يقاربه.. تحوّل مبنى البريد على ما يبدو إلى نقطة قيادة تدار منه العمليات في "كريتر" للفريق التابع لأنصار عنتر وفتاح..

• لا أدري أو لم أعد أتذكر أين غاب زميلي يحيى الشعبي، فلم أعلم أين كانت وجهته، وعلى الأرجح أنه تمكن من العودة إلى منزله في "القلوعة".. اظن أنه عرض فكرة كتلك، ولكن كانت تعتريني مخاوف الاعتراض في الطريق قبل الوصول إلى البيت فآثرت البقاء.. وفي نفسي أيضا فتاة أعجبت بها منذ شهور، كانت تقيم على مقربة من البريد، خلف عزبة الرفاق التي لذت إليها في البداية، وكنت أكتم ما بنفسي عنهم، وأتحاشى كثيرا أن ألفت نظرهم إلى هكذا أمر..

• تذكرت تلك الرواية التي كنت قد قرأتها في إجازة إحدى سنوات الثانوية العامة.. إنها رواية خان الخليلي لنجيب محفوظ، وفيها جانب من الحب في حضرة الحرب، ولي وقفة بصدد من أعجبت بها لعلي أتتطرق إليها في موضع لاحق..

• تم تكليف الجندي الردفاني الذي كان معنا، والمرتدي زيا عسكريا، بمهمة اعتلاء قمة منارة عدن كنقطة مراقبة، والتنبيه عليه أن يحذر من القنص الذي يمكن أن يستهدفه من الطرف الآخر.. فيما تم تحويل تمركزي أنا وقريبي إلى عمارة مطلة على البريد ومنارة عدن وجانبا من سور ميدان الحبيشي.. عمارة على الشارع العام الذي يفصلنا عن مبنى البريد.. اعتلينا سطوح العمارة وبقينا عليها، وتناوبنا على حراسة بوابتها في الشارع..

• في ليلة اليوم الثالث من الأحداث على الأرجح، وفيما كنت أحرس بوابة العمارة، صرخ قريبي من السطح يخبرني أن هناك محاولة تسلل لاقتحامها من الخلف، فيما كنت حينها في بوابة العمارة، وتحركت بسرعة إلى زقاق المدخل الذي يؤدي إلى فتحة "الجلىّ" خلف العمارة “، وبدأت بإطلاق دفعات من الرصاص، محتملا وجود تسلل أو اقتحام، فيما كان قريبي ومن معه في سطح العمارة يطلقون الرصاص إلى الأسفل من فوق الجدار المطل على خلف العمارة، وفي الصباح لم نجد أثرا لأحد، فبدا لنا الأمر أنه كان محاولة تسلل أو استطلاع أو مجرد جساً للنبض.

• بعدها طُلب مني أن أتجه إلى منطقة متقدمة من خط التماس، وتحديدا إلى شقة "سالم معروف" وهي قريبة من المصرف اليمني وسط "كريتر" على إثر قنص شخص من فريقنا، وهو من أبناء منطقة الجليلة ـ الضالع ـ وطُلب منّا رفع جثمانه إلى السيارة المعدة لنقله، ومن ثم المرابطة بالشقة التي انتقلنا إليها.. شعرت بحجم المخاطرة في مهمة نقل الجثة، ولاسيما من قناصة الطرف الآخر، أو حتى من المرابطين في المواقع من الجهة الأخرى، ولكن لا مجال للتردد أو للتنصل من مهمة كتلك..

• وجدنا المقتول ممددا، وفي جزء منه منحنيا في بوابة العمارة التي فيها شقة "سالم معروف"، ووجدنا بمقربة الجثة ذلك الجندي الردفاني الشجاع الذي كان قد سبق وتموضع رأس المنارة، ويبدو أنه أسندت له مهمة الانتقال إلى تلك العمارة..

• أخبرنا الجندي الردفاني أنه كان موجودا جوار هذا الرجل لحظة قنصه من قبل الفريق الآخر.. قال لنا أنه سمع زميله المقتول وهو يتآوه قبل أن يفارق الحياة ويقول: ”آه يا عيالي”

• ”آه يا عيالي” .. هذه الجملة الصغيرة أحسست أنها أشبه برصاصة قناص قد أصابتني في مكان مكين.. أحسست أن فأسا ضرب رأسي حتى شجه نصفين .. شعرت أن عمود خرساني قسم ظهري.. تمردت دموعي وساحت غصبا عني.. من حق الدموع أن تتمرد علينا عندما نريد قمعها في حضرت مشهد مأساوي كهذا.. أحسست لحظتها بفظاعة الحرب وبشاعتها.. حملنا الضحية إلى السيارة، التي غادرت مسرعة، وعدنا نحن لشقة الوالد "سالم معروف"، والتي كانت عائلته قد غادرتها في وقت سابق..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
اعادة نشر..
هذا العام
رمضان شهر الموت
والصيام !!
للانضمام إلى جروب يمنات على الواتس آب
https://chat.whatsapp.com/BBhD3E4FVDCJqIDDXI5M1m

قناة موقع يمنات على التليجرام
https://telegram.me/yemenat0
https://yemenat.net/2021/04/385989/
رواية الوزير .. التعذيب بالكذب
https://yemenat.net/2021/04/385939/
يوم أرغمت على الاعتذار
https://yemenat.net/2021/04/385811/
اثارة احتجازي في السياسي برلمانيا
https://yemenat.net/2021/04/385773/
التوجيه بإخلاء سبيلي
من مذكراتي.. الأمن السياسي .. 1 - 13
(1)
احتجازي في الأمن السياسي
في تاريخ 10 اكتوبر 2006 أتجهنا من مكتب النائب العام إلى بوابة الأمن السياسي بعد أن حصلنا على الأرجح معلومة غير مؤكدة، وربما استنتاج شبه مؤكد أن الأمن السياسي هو من مارس الإخفاء القسري بحق الناشط الحقوقي علي الديلمي، وأنه الآن معتقل في مبنى جهاز الأمن السياسي في صنعاء..

أذكر أنني كنت أحد أصحاب اقتراح نقل تجمعنا واحتجاجنا من النيابة العامة إلى أمام بوابة الأمن السياسي، حاملين مذكرة من النائب العام موجهة إلى رئيس جهاز الأمن السياسي تتضمن السؤال، وطلب الافادة عمّا إذا كان علي الديلمي محتجزا لديهم..

كان جهاز الأمن السياسي آنذاك مهابا إلى حد بعيد، وربما الاحتجاج أمام بوابته كان محذورا ولا يخلوا من مغامرة، وزائد عليه أنه فعل غير مسبوق.. خطوة غير معتادة تنال من هيبة هذا الجهاز ومقامه ليس فقط في وعي الناس، بل حتى في وعي العاملين فيه والقائمين عليه..

انتقلنا من مكتب النائب العام إلى أمام بوابة المقر الرئيسي للجهاز، وعندما كنّا نتعرض إلى الإبعاد قسرا من البوابة الرئيسية تحت عنوان "ممنوع" انسحبنا إلى تحت الشجرة التي تبعد بحدود المائة متر أو أكثر من البوابة الرئيسي..

ورغم هذا أستمرت ضدنا الاستفزازات اللافتة من قبل ضباط وجنود الأمن، وحدثت بعض المناوشات المستفزة من قبلهم، وكانت تجري اتصالات بين ضباط الأمن ومسؤوليه على الأرجح لا أعرف مضمونها، ولكن تلك الاستفزازات كانت تكبر، وتكاد تتحول إلى اعتداء على المعتصمين..

أخرجت الكاميرا من الجاكت الذي كنت ارتديه، وربما أنا من حاول التصوير أو ناولتها شخص من المحتجين ليقوم به.. وأتذكر إن اضاءة فلاش الكاميرا عند التصوير قد لفتت نظر ضباط وجنود الأمن..

هرعوا نحونا وكأنهم ممسوسين.. بعضهم كان قريبا جدا منّا، وبعضهم كان بعيدا.. فلاش كاميرا كان يكفي لاستنفار واسع لا مبرر له غير الهلع.. ناولتُ الكاميرا التي صارت في يدي لرضية المتوكل التي كانت تقف خلفي، والتي أخبتها في حقيبتها..

لم يستطع الجنود معرفة أين ذهبت الكاميرا، ولكني أخبرتهم أنها تتبعني، ولم أكشف لهم أين هي، وبأي حيازة صارت.. كانوا مصرين على الوصول إليها وأخذها.. وعوضا عن هذا أخبرتهم أنني عضو مجلس النواب، وأنني من قمتُ بالتصوير.. فيما ظلت مطالبتهم بتسليم الكاميرا لحوحة ومتشددة..

تمت اتصالات عدة بين ضباط الأمن ومسؤوليهم، ويبدو أن الأوامر صدرت باحتجازي.. هددوني باستخدام القوة ضدي، وسحبي من بين المحتجين، ثم حاولوا بالفعل انفاذ تهديدهم والذي يبدو أنه كان تنفيذا لأوامر تلقوها من قيادتهم العليا.. بدا لي الأمر لا يقبل المراوحة، ومع ذلك ظللت مستغرقا في رفضي أن أسلم لهم الكاميرا أو أدلهم عليها.

بدت لي بوادر المواجهة تشتد وتكاد تحتدم.. شاهدت رجال الأمن يحاولون انتزاعي من بين المحتجين، فيما المحتجين يحاولون منعهم، بل والدفاع عني حد المواجهة.. بدت المواجهة بتدافع الأيدي والأجساد بين مهاجم ومدافع..

كان الأمر يحتاج إلى مبادرة وقرار إنقاذ سريع من قبلي.. أحسست إن نتيجة أي مواجهه ستكون بكلفة أكبر، ومفتوحة على المجهول؛ فخرجت من الجمع، وقررت أن أذهب معهم برغبتي وإرادتي تجنبا لما كان سيحدث.. أظن أن قراري هذا كان صائبا إلى حد بعيد، لا سيما أن المواجهة كادت تكون أكيدة، والاحتدام وشيك.. لم أرغب بمزيد من التداعي للموقف الذي بدا لي حساسا، وينذر بشؤم الاحتدام..

ذهبت معهم إلى داخل مبنى الجهاز.. تركت خلفي مخاوف الأحبة، وحبهم الذي ذادوا به عني.. تهيئت لكل احتمال ومجهول بعيدا عنهم.. اقتادوني مجموعة من الضباط والجنود إلى الداخل.. أول مرة أتجاوز بوابة جهاز الأمن السياسي إلى الداخل.. وفي الداخل شاهدت الفناء واسعا.. مباني متعددة.. طرق ومماشي عدة.. بديت وهم حولي وخلفي أشبه بمن نفذوا غزوة حربية، وعادوا بي إلى ديارهم كغنيمة حرب..

اقتادوني يسارا ويمين.. ثم يمينا ويسار.. سلموني لأحدهم كان في انتظاري يبدو أنه ضباط أرفع رتبة.. كان مرتديا قميصا وسروالا مدنيا.. بدا لي حاد الملامح وشديد التحفز لالتهامي.. وجهه مستطيل لا يخلوا من تكشيرة كلب بولسي حالما ينقض على مجرم خطير بتوجيه من سيده..

كان واضحا عليه أنه ينتظرني بصبر كاد ينفذ.. شاهدت سؤال يكاد يثب من عينيه كذئب: من هذا النائب أو من هذا الذي يجرؤ على التصوير ويرفض تسليم الكاميرا لجهاز يخافه ويهابه كل الناس؟!! كانت عيناه المتوعدتان تقدح شرا وشررا.. بدا لي ومن أول وهلة سيء الطباع وفض القلب والمعاملة.. هنا الاخلاق نحو الضحايا أشبه بالأمر المستحيل.. لا يتأتى إلا عن طريق التمثيل وتقمص الدور بتصنع وتكلف شديد، لا يخلوا من معاناة جمة..
سار أمامي وطلب مني أن اتبعه.. قادني إلى محبس غرفة صغيرة.. كنت أسير خلفة كنسمه بينما كان هو أمامي ينفخ ككير حداد.. وصلت ومجموعة تنتظرني في الجحر كفريسة، ولكنهم ربما كانوا ينتظرون الأوامر أن تأتي.. أمن سادي وشرِه ومفترس لا يعرف للإنسان قيمة أو حرمة..

أودعوني الغرفة، وفيما كنت أنتظر أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، أتوا بحارس في مستهل العشرينات من عمره، وبمعيته سلاحا آليا وجعبة.. لا أدري دواعي هذا الإجراء، وقد صرت في قبضتهم، وهي قبضة أمنية حديدية تزدري الدستور والقانون والحقوق..

*

(2)
سجون سيئة السمعة والصيت

حاولت الدخول إلى جهاز ومقرات الأمن السياسي باعتباري عضوا في مجلس النواب، وعضوا في لجنة الحريات وحقوق الإنسان في المجلس، ولكن الاستحالة في جلّها كانت أكبر منّي؛ واليوم باتت الاستحالة أشد وطأة، بل ربما أكبر وأكثر من أن تقارن..

حاولت كثيرا أن أعبر إلى داخل سجن هذا الجهاز بصفتي الحقوقية، ولكن كانت الموانع والظروف المانعة قاهرة، بل وساحقة أحيانا، وتعذر تحقيق أمنية كتلك على النحو الذي أريد، بل عشت كثيرا بين الخيبة والأسف..

أخفقت كثيرا رغم محاولاتي العديدة، ومع ذلك نجحت بوجه ما في الدخول إلى أربعة من ملحقاته في الحديدة وذمار والبيضاء وحجة ـ سآتي على ذكر تفاصيلها لاحقا ـ ورغم محاولاتي الكديدة وفشلي في الدخول إلى مقر الجهاز الرئيسي في صنعاء بصفتي البرلمانية والحقوقية، إلا أنني نجحت هذه المرة في الدخول إليه متضامنا، بل ومُنتهك الحقوق والحريات أيضاً.. يا للبؤس والمفارقة!!!

في حقبة سابقه كنت أعرف إن هذا الجهاز سيء الصيت، وقد ألتقيت ببعض ممن خرجوا منه، ومن السجون التابعة له، ووجدت بعضهم مجنونا أو نصف مجنون، وآخرين تم تعذيبهم على نحو بشع، والبعض خرج منه وهو يحمل حالة نفسية ثقيلة أو قاتلة.. كتبت ونشرت جزء من هذا الملف في صحيفة "المستقلة" التي كنت أمتلكها..

سمعت عدد من ضحايا الأمن السياسي، وقبله ما كان يسمى بالأمن الوطني، وما هذا إلا امتدادا لذاك، ولازال بعضهم أحياء عاشوا تجربة تعذيب مؤلمة ومرعبة، وهناك آخرون سمعت عنهم أنهم ماتوا تحت التعذيب، وبالتأكيد أن من لم أسمعهم أو أسمع عنهم هم طابورا طويلا يستصعب عده..
إن هذا السجن والسجون التابعة له بمسمياتهم المختلفة السابقة واللاحقة تمت فيهم ممارسة سيل من الانتهاكات الكثيرة، بل والتعذيب المرعب.. انتهاكات لا عد لها ولا حصر.. سجون سيئة السمعة والصيت ابتداء من عهد الأمن الوطني ورئيسه محمد خميس، ومرورا بمن تلاه، ولازال إلى اليوم تحت مسمى جهاز الأمن والمخابرات، مع ملاحظة أن اليوم تعيش تلك السجون وما يجري فيها، حالا أسوأ كثيرا من كل الحقب السابقة.

*


(3)
الوعد الذي قطعته على نفسي

وفيما أنا محتجزا في الغرفة الشاحبة والكئيبة، كنت أفكر وأتسأل وأتذكّر.. كنت أحدث نفسي وأقول: "صرت قريبا من أمكنة لا شك إنه حدث فيها ما هو مروع ومفزع.. الآن صار لا يفصلني عنها غير مئات الأمتار، بل ربما بعضها صارت على مرمى حجر.. أقبية مرعبة تحت الأرض.. دهاليز موحشة.. زنازين تشبه القبور في ضيقها.. غرف تحقيق وتعذيب حدث فيها ما هو بشع ومزلزل، وما يزال..

كثيرون مروا من هنا.. بعضهم خرجوا افذاذا، وقد تصلب عودهم، ولم ينل من إرادتهم انكسار أو هزيمة، وبعضهم عبروا إلى الموت بإرادة أقوى وأكبر من إرادة سجانيهم بعد تعذيب يشبه الجحيم.. بعضهم جن من تعذيب مهول، وبعضهم أصيب بحالات وتصدعات نفسية عميقة وغائرة، أو أُلحقت بهم عاهات جسدية لازمتهم ما بقي لهم من عُمر وحياة ناقصة وبائسة.."

هنا في هذه الغرفة الكئيبة والمملة وجدت الوقت على قصره يطول، والانتظار يتمطى ويتطاول أكثر.. تحس إن الوقت قد توقف، أو أنه يزحف ببطيء سلحفاة، وربما تشعر أحيانا أنه قد عكس وجهته زاحفا إلى الوراء، بدلا من أن يتقدم إلى الأمام..

هنا يوجد فراغ لديك يمكنك مواجهته بإطلاق خيالك وذاكرتك.. بإمكانك أن تتذكر أشياء وتفاصيل كثيرة، ومنها ما له شبه أو صلة بما أنت فيه، أو بالحرية التي تبحث عنها أو تناضل من أجلها.. تذكرت بعض من اُعتقل، أو تم إخفائه قسرا، هنا أو هناك.. كثيرون هم الضحايا، وأكثر منها البشاعة التي تم ممارستها ضدهم، والجرائم التي تم اقترافها بحقهم..

هنا بوسعك أن تتذكر كثير من قصص التعذيب التي سمعت عنها، وهي في جلها يشيب لها رأس الطفل الرضيع.. سمعت بعضها من الضحايا أنفسهم أو من أقاربهم أو من كانوا شهود عيان عليها من زملائهم الذي عاشوا التعذيب، أو كان مصدرها من هم ذوي صلة أو علاقة بالضحايا..

تذكرت ابن قريتنا الصلب والشهم، جمال علي عبدالملك الذي جرى عليه تعذيب مريع أبتدأ من الصعق بالكهرباء والتغطيس بالماء، ومرورا بالخصي وأنتهى بالتعذيب الأثقل وطأة.. جمال لم يتم اطلاق سراحه إلا وقد أصيب بحالة نفسية غائرة.. خرج كوم من حطام يمشي على قدمين لا تقويان على حمله.. ثم مات بعد خروجه بفترة لم تطل..
تذكرت ما كنت قد سمعته بنفسي من فاه الرفيقة زعفران، وما جرى لها ولزوجها من تعذيب مرعب وأليم في المعتقل، وكذا ما سمعته من آخرين أيضا، وفيه ما يكتظ ويزدحم، وأكثر منه ما يثقل الوعي، ويفطر القلب ويدمي الذاكرة..

*

في تلك الغرفة البليدة والمملة عادت بي الذاكرة إلى الفلم الوثائقي الذي لا يُنسى "جرائم المخابرات المركزية الأمريكية" (السي أي إيه) والذي كنت قد شاهدته في مرحلة باكرة من مطلع شبابي الأول، وما شاهدته كان يزدحم بكل بشع ومرعب..
لازالت تلك المشاهدة عالقة في ذهني رغم تقادم الزمن.. لازالت تلك المشاهد تضرب وتدا في قلبي المثقل بالوجع، وتكز في ذاكرتي وتدميها إلى اليوم، وتذكرني بأشياء وتفاصيل كثيرة ذات صلة أو علاقة..

في نفس المقام تذكرت مشاهد في الفلم نفسه تثير الإعجاب الكبير الذي تجله في نفسك، وربما يصير جزء من تكوينك النفسي الذي تحرص أن تكون عليه.. شجاعة نادرة ومقاومة فذه لبعض من يتم تعذيبهم، ملأتني وأسرتني حتى منتهاي..

منها على سبيل المثال لا الحصر، ذلك المعارض الذي على الأرجح كان ينتمي لإحدى دول المغرب العربي.. تم تعذيبه بقسوة، وهو مقيد ومثبت على كرسي، وآلة طويلة حادة بيد الجلاد يغلها بحقده، ويغرزها في جسد هذا المعارض الشجاع، فيما كان هذا الأخير في الدقيقة الأخيرة من حياته، يتلوى ألما، ويستجمع قواه من كل جسمه، ويستجمع بصاقه في فمه بصبر عنيد، ، ليقذفه في وجه جلاده كقذيفة مدفع، ولعنة تاريخ لن تزول، وعار لن ينتهي في وجه القمع والتعذيب والطغيان كله..

تذكرت في الغرفة أيضا تلك الرواية التي كنت قد قرأتها على الأرجح قبل عشرين عام أو أكثر، اسمها "شرق المتوسط" للروائي القدير عبدالرحمن منيف، يتحدث فيها بطل الرواية رجب اسماعيل عن نفسه وهو يقول: "إنني لم أحمل بندقية، ولم أقتل أحداً، ومع ذلك دق رأسي بالجدران مئات المرات، كما تدق المسامير في أخشاب السنديان".

رجب اسماعيل الذي تم تعذيبه قرابة الخمس سنين، صفعا وجلدا وضربا، وتعليقا لأيام.. جروه من خصيتيه، وعذبوه بالكهرباء، واطفاء السجائر على أجزاء متفرقة وحساسة من جسده المنهك والمريض.. خرج من سجنه بعد خمس سنين وقد سُرق منه كل شيء.. صحته وأمه وحبيبته وكل أحلامه ومستقبله..

مات البطل، ولكن لم تمت الحياة، ولم تعلق أو تقف عند موت رجب.. الحياة ولادة ومستمرة.. وتشي الرواية إلى جيل لن ينسى ما حدث، ويواصل المشوار من بعده، حامد زوج أخته، وعادل وليلى أبناء أخته أنيسه.. تتواصل الحياة بهم على درب النضال والصمود، ومقاومة قهر السلطة والقمع والتعذيب.. وربما نحن القراء أيضا.. غير أن الخلاصة وجدتها فيما قاله الطبيب الفرنسي لرجب: "يبدو أن كل شعب يجب أن يدفع ثمن حريته، والحرية أغلب الأحيان غالية الثمن".

وفي نفس المقام تذكرت أيضا شجاعة وصمود زعفران "أم حمير" المرأة اليمنية الشجاعة التي صمدت ليس فقط في وجه محمد خميس المروع والمهاب، ولكن أيضا في وجه التعذيب البشع، بل وفي وجه كل شيء تقريبا، دون أن ينتزع الجلاد منها نتفة من اعتراف بحق رفيق..

وفي المقام نفسه تذكرت ما قرأته وسمعته في مواضع أخرى إن الأيام الأولى في السجن هي الأصعب، ثم تتعود عليه، وتتعايش معه، وتتغلب على معاناته القاسية، وتتجلد فيه كل يوم أكثر من سابقة.. ومن يدري!! ربما تخرج منه بطلا أو ثائرا أو قائدا، أو تخرج شهيدا أو ذكرى سيعتز بها شعب سيأتي، أو لعنة تاريخ أبدية ستظل تلاحق الحكام، وتحاكم طغيانهم..

*


هذه الغرفة التي طوقني بكآبتها الثقيلة، ومكثتُ فيها نزرا من الوقت، ذكرتني بتفاصيل كثيرة، ومآس بالغة، جعلتني أفكر فيها باستغراق عميق، بل جعلتني أقطع وعدا لنفسي على نفسي أن أفعل شيئا في المستقبل على هذا الصعيد، وينصب تحديدا في كشف ما أُرتكب بحق الإنسان في هذه السجون والمعتقلات من جرائم بشعة، وتعذيب مروع، وقمع مهول فاق في بعضه كل معقول..

وبالفعل وفيتُ بما وعدت، وفتحت ملف التعذيب في العام 2009 باسم منظمة التغيير للحقوق والحريات التي أرأسها، فيما نشرت ووثقت صحيفة "المستقلة" التي أملكها، ما أمكن من شهادات تحكي في جلها مدى البشاعة والطغيان الذي بلغته سلطات القمع والتعذيب في تلك المعتقلات والسجون والغرف المغلقة، فاق في بعضه حدود التصور، ولازلت على يقين أن ما لم يُكتب ولم يوثّق أكثر بكثير مما تم كشفه وتوثيقه، على نحو عصي حتّى على المقارنة..

رغم تلك الكآبة التي كانت تحاصرني وتحيط بي في تلك الغرفة، فإنها كانت أشبه بنزهة أو فسحة واستراحة، ربما تمناها غيري ممن مرّوا هنا، أو من لا زالوا يتمنونها ممن هم الآن على مقربة من هذا المكان، أو مروا يوما على ملحقاته في المحافظات المختلفة.. أما المقارنة بما يحدث اليوم، ففي اليوم ما فيه، "حدّث ولا حرج"..