أحمد سيف حاشد
343 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
ا يتم ضربهم؟!! الجميع هنا يفترض أن يكونوا مشتبهين فقط وليس حتى متهمين.. ثم أليس القانون يمنع التعذيب والإهانة حتى وإن كانوا جناة؛ فلماذا يحدث ما يحدث الآن؟!!

• ويستمر تداعي الأسئلة: هل هو الفشل وقلة الحيلة؟!! هل هو مركب نقص مرضي يسعى المحقق لاستيفائه ليبدو كاملا؟!! هل هي الأيديولوجيا عندما تطبق وطأتها على العقول، أو تفعل فعلها في الرؤوس الخاوية؟! وأين؟! وضد من؟! .. هل هو مرض "السادية" الذي يوغل ويتوحش في نفوس المحققين الذين يبدو أنهم باتوا فيها مدمنون؟!! أنها الأسئلة الأكثر وجاهة وإيلاما..

• مثل هذه الأسئلة تتكاثر اليوم أيضا هنا وهناك.. سلطات الأمر الواقع وعلى مختلف توجهاتها وأطرافها وأماكن سيطرتها توغل بممارسة كل صنوف التعذيب، وتصل به إلى أقصاه.. تعذيب يبلغ حد القتل دون رادع أو زاجر.. تقييد حرية لا يوجد من يمنعها.. رجال سلطة جلاف وأمراء حرب مطلق لهم العنان يفعلون ما يشاؤون، ولم نسمع ونحن في السنة السادسة حرب، أن سلطة أمر واقع أحالت أحدهم إلى المحاكمة، ونالت العدالة منه جزاء وعقاب.. إذلال وامتهان كرامه، بل واستباحة عريضة للحقوق، دون أن تهتز لأحد فيهم رمش أو جفن..

• من غير العدالة أن ننحصر في نقد الماضي ومن رحلوا، دون أن نشير إلى الحاضر الأكثر بشاعة.. بين الأمس واليوم انقلبت الأحوال رأسا على عقب.. حدث ما لم يكن يخطر على بال.. صار الجلاد ضحية، والضحية صار جلادا أسوأ من سابقيه.. اليوم يجري استسهال التعذيب والاعتقال وتقيد الحرية وانتهاك الحقوق والقوانين على نحو لا سابق له..

• اليوم يتم الإيغال في التعذيب بعد تقويض شهدناه.. اتسع القبح وتم استباحة الحقوق طولا وعرضا، حتى ضاقت اليمن به، ولم يعد للعدالة ثمة متسع.. تكاثر الضحايا وتم الإيغال في التعذيب، والقتل تحت طائله و وطأته.. بات القتل خارج القانون باذخا حد العبث.. فيما السلطات التي تدّعي أنها تحمي القانون وتحرسه، باتت ترعى تلك الانتهاكات، أو تتستر عليها، وتحامي لعدم النيل من المجرمين، إن لم تكن قد صارت لسان حالهم، وكأنها قد أمنت مكر التاريخ، وباتت واثقة إن الأيام لم تعد دولا، وأن هي خاتمة الزمان..

• وعودة إلى يناير 1986 كانت المشاهد التي رأيتها صادمة، وغير متوقعة، وساحقة لأحلامي الكبار.. تتصادم مع مُثلي، وما أزعم أنني أحمله من مبادئ وقيم سامية.. مهينة لآمالي العراض، وبعض قناعاتي التي كانت تجهل الكثير مما يحدث في مجاهل المعتقلات، وغرف التحقيق، وكواليس السياسية، أو ربما أكون أنا من قصّرت في فهم الحقيقة أو في البحث عنها، واكتشاف ما يجري في الواقع من فادح ومآس وآلام.. كنت أرى الحياة بسوئها أفضل مما هي عليه.. لم أتوقع مشاهد ووقائع ما كانت تخطر على بالي يوما، وما كنت أظن أنني سأقف عليها وأشاهدها جهارا في وضح النهار..

• في أفضل الأحوال يمكن أن تلتمس للمحققين عذرا غير مقبول، كأن تقول كانوا يومها يبحثون عن اعترافات سريعة، ربما يحتاجونها، وكانت من الضرورة بمكان.. ولكن تراكمت لدي المشاهدة والسماع في فترات لاحقة حتى بلغت اليقين الناسف للأعذار كلها..

• كان لوقع الضرب والعنف الذي مارسه المحققون مع بعض المعتقلين، يعيد ذاكرتي إلى فلم وثائقي لم أنساه “جرائم المخابرات المركزية الأمريكية” فلم شاهدته في سينما “دار سعد” حالما كنت أدرس الثانوية في مدرسة البروليتاريا، وهو يتحدث بالصوت والصورة عن انتهاكات فضيعه لحقوق الإنسان طالت نشطاء وسياسيين ومقاومين لأنظمة دكتاتورية في أمريكا اللاتينية والوسطى والمغرب العربي وغيره.. كنت وأنا أشاهد الفلم أشعر أن الموت بالنسبة للمعتقل المعذب صار أمنية بعيدة المنال.. ها أنا أشاهد تعذيب حي وبأم عيناي وإن كان دون مستواه.. أسمع صراخ التعذيب دون وسيط أو تصوير.. أما ما يحدث اليوم، فدونه حتى الجحيم..

• في نفس المكان واليوم تاريخ 18 يناير 1986 عرض أحد المحققين عليّ أن أشارك في التحقيق بعد أن عرف أنني أدرس في كلية الحقوق.. فرفضت عرضه، وحدثت نفسي: يا إلهي.. أيعقل هذا !! أنا الحالم بالعدالة في الأرض كلها أصير مجرما كبيرا وعاتيا.. أنا أريد أن أكون قاضيا أو محاميا، وهذا يريد أن يحولني إلى جلاد.. يجب أن أغادر هذا المكان البشع، وأن لا أعود إليه.. وجب على ضميري أن يستريح من الوجع وتأنيب الضمير.. صراع مرير مع ضميري، وآن الآن لضميري أن يستريح..

• ذهبت لمقابلة القيادة بمعاونة صديقي.. كانت القيادة تتمركز في مبنى البريد.. كان أحدهم يافعي يعمل مديرا لمؤسسة اقتصادية، والأخر قيادي عسكري.. طلبت الأذن بالمغادرة، وأردت تسليم سلاحي.. كان صديقي ينتظر الموافقة ليستلم سلاحي وذخيرتي، وبالفعل حدث هذا، وعدت إلى بيتي دون سلاح أو ذخيرة.. لم يفعلها أحد، ولم أسمع بمنتصر سلم سلاحه وعاد إلى بيته.

• نعم في هذا اليوم 18 يناير 1986عندما كان يتجه المزايدون والنفعيون والانتهازيون للانضمام للفريق المنتصر، كنت أنا أسلمّ سلاحي وذخيرتي وأغادر ساحته إلى البيت.. كان عليّ أن أبدأ دورة أخرى من معاناة ومأسي
الحال قبل أن أعانيه..

استمريت بمعركة الصمود مع الحرب.. واستمرت معركتي مع ضميري على نحو شرس.. صرت في مواجهة على جبهتين.. وكانت المعركة مع ضميري هي الأشد.. ضميري الذي رفض أن ينام..

***.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(5)
بسكويت وقذيفة مدفعية..
• يهبط الليل.. الشوارع خالية وموحشة.. الأشباح وحدها التي تتنقل بحذر وكلمة سر.. اطلاق نار متقطع.. دوي انفجار قذيفة مدفعية بعيدا نسبيا عن موقعنا، ولا أدري ماذا كان حصاد هذا الانفجار من نفوس وجنايات!!

• وبعد نصف ساعة صعقنا دوى انفجار عنيف ظنناه في العمارة التي نحن متواجدين فيها، وما لبثنا ثواني حتى غزت أنوفنا رائحة البارود النفاذة.. اطلينا من النافذة التي على الشارع العام.. شاهدنا دخان متصاعد كثيف من موقع انفجار قذيفة المدفعية التي أصابت الجزء الأسفل من مبنى مصرف اليمن، والذي لا يبعد عن بوابة العمارة المتواجدين فيها أكثر من خمسين متر، وعن المتحف العسكري بحدود المائتي متر.

• تسألت مع نفسي: ما هذا الجنون؟! منازل المواطنين لا تفصلها عن موقع الانفجار غير عشرات الأمتار.. منازل تكتظ بالأطفال والنساء والمسنين، والمدنيين العزل الذين ليس بمقدورهم تركها أو مغادرتها، فوجدوا أنفسهم في أتون حرب عمياء ليس لهم فيها ناقة ولا جمل!! كيف لبشر أن يستخدموا قذائف مدفعية عمياء من العيار الثقيل في لجة الليل، ترمى من مسافات بعيدة، على مدينة يكتظ في بيوتها ساكنيها؟!! إن كانت تلك المنازل قد اهتزت من وقع انفجار القذيفة على ذلك النحو، فإنه لاشك سيكون وقع صوت الانفجار على الأطفال والنساء مروّعا.. كيف لقلوبهم أن تحتمل كل هذا الرعب الباذخ الذي نزل عليهم كالصاعقة..

• سمعت صيحات هلع وصراخ أطفال ونساء انخلعت قلوبهم من دوي انفجار بهذا القرب الذي أذعرنا، وأوقع منّا قلوبنا نحن الكبار.. لطف القدر بسلامة رؤوسهم، ولكن حجم الهلع الواقع في نفوسهم ربما يفوق التصور.. وإذا كان القدر قد كتب النجاة لهؤلاء؛ فكيف حال الآخرين في مدن وأحياء التواهي وخور مكسر والمعلا، وغيرها من تلك التي كانت مسرحا لكثير من عشوائية القصف ونوبات الجنون..

• تذكرت لحظتها ذلك الطفل الذي يناهز عمره حوالي العشر سنين، حالما مررت في اليوم الثالث من الحرب في أحدى الأزقة.. طل من نافذة بيت قديم شبه مهترئ.. جدرانها مرقعة بالإسمنت تشبه تلك الرسومات التي كان يرسمها ناجي العلي على ثياب المواطن الفلسطيني والعربي المكدود..

• نوافذ البيت مشبّكة بألواح الخشب الرفيع على نحو متعاكس يترك مجالا لثقوب يستطيع الرائي من الداخل أن يراك دون أن تراه.. النافذة المفتوحة مزاحة عنها الستارة البيضاء على اليمين واليسار، ومنها طل الطفل البهي.. كان الواضح من الملمح العام للبيت أن من يقطنها أسرة فقيرة المال، ولكنها باغتتني بالطيبة والكرم..

• ناداني الطفل: "يا رجال.. يا رجال".. تطلعت إليه فيما كان محياه مشرقا وابتسامته البريئة ترتسم على شفتيه.. أحسست أن خلفه امرأة مختبئة تهمس قرب أذنيه.. أخرج كيس نايلون وفيه شيء ما.. رمى به أليّ.. بدأت حذرا في مستهل الأمر، ولكن ما أن شاهدت أنه يحتوي على ثلاثة قراطيس بسكويت أبو ولد، دنوت نحوه وتناولته بيدي.. فيما كان رأس الطفل متدليا من النافذة، والابتسامة لازالت بهيجة على شفتيه.. أجبته: "هذا لي؟!" فأومأ لي برأسه أنها لي، وابتسامته الجميلة تزداد إضاءة على الشفاه..

• ارتسمت على وجهي فرحة طفل تشبهه.. شكرته من أعماقي.. امتنيت له بتكرار كلمة شكرا ثلاثة وأربعا.. أعظم هدية في حرب أن تقتات ما يسد به رمقك، فيما قواك تهتد وتخور من الجوع.. ما أطيب الفقراء وهم يحاولون مساعدتك، وما أهنأ نفوسهم رغم هذه الحرب التي تحاصرهم، وتثقل وطأتها على مقدراتهم، وحاجتهم الأشد في ظرف كهذا..

• غادرت المكان فيما استمرت لفتاتي إلى الخلف، ونظراتي ترمق الطفل بين حين وآخر، ألوّح له بيدي تحية وسلام ووداعا يليق.. وقبل أن أغيب في المنعطف، شاهدته هو أيضا يلوّح لي بسلام يبعث فيني الابتهاج، وينبعث منه شعور بسعادة غامرة..

• أحدث نفسي: يا إلهي كيف يجرؤون على فعل كهذا؟! كيف يطلقون للجنون العنان؟! كيف يقصفون بالقذائف أحياء ومساكن مكتظة بأهلها.. قذائف تهدد الأطفال وامهاتهم بحصد رؤوسهم وبعثرت أشلائهم، وهدم السقوف والجدران التي يحتمون بها من رعب مجهول أو محتمل، لتلقي أثقالها على رؤوسهم وأجسادهم المنهكة.. هؤلاء يمنحونا البسكويت في الحرب، وما لديهم عزيز، فيما نحن نقدم لهم كل هذا الترويع والهلع والموت، ونصب النار والجحيم على رؤوسهم.. أيها القبح الدميم رفقا بنا.. لا يستحمل الضمير كل هذه البشاعة العابثة..

• وبين تلك الحرب واليوم كثير من الحروب.. ولكن حرب اليوم التي نعيش في رحاها عامها السادس على التوالي، نعجز عن وصفها، وأقل وصف لها إنها أكثر من مجنونة وعمياء.. أكثر من مروعة بما لا يقاس ولا يُقارن.. إن الحروب جرئيه على ارتكاب البشاعات.. لا اخلاق ولا قيم ولا قواعد حرب أو اشتباك.. كل شيء بات في الحر
تى من المرابطين في المواقع من الجهة الأخرى، ولكن لا مجال للتردد أو للتنصل من مهمة كتلك..

• وجدنا المقتول ممددا، وفي جزء منه منحنيا في بوابة العمارة التي فيها شقة "سالم معروف"، ووجدنا بمقربة الجثة ذلك الجندي الردفاني الشجاع الذي كان قد سبق وتموضع رأس المنارة، ويبدو أنه أسندت له مهمة الانتقال إلى تلك العمارة..

• أخبرنا الجندي الردفاني أنه كان موجودا جوار هذا الرجل لحظة قنصه من قبل الفريق الآخر.. قال لنا أنه سمع زميله المقتول وهو يتآوه قبل أن يفارق الحياة ويقول: ”آه يا عيالي”

• ”آه يا عيالي” .. هذه الجملة الصغيرة أحسست أنها أشبه برصاصة قناص قد أصابتني في مكان مكين.. أحسست أن فأسا ضرب رأسي حتى شجه نصفين .. شعرت أن عمود خرساني قسم ظهري.. تمردت دموعي وساحت غصبا عني.. من حق الدموع أن تتمرد علينا عندما نريد قمعها في حضرت مشهد مأساوي كهذا.. أحسست لحظتها بفظاعة الحرب وبشاعتها.. حملنا الضحية إلى السيارة، التي غادرت مسرعة، وعدنا نحن لشقة الوالد "سالم معروف"، والتي كانت عائلته قد غادرتها في وقت سابق..

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(4)
هل أنا جاني.. ؟!
• أطللت من نافذة الشقة.. رأيت أطفال يحملون أوعية مملوءة بالماء أثقل من أوزانهم.. أجسامهم نحيلة منهكة، وكأنهم يجالدون أقدارهم الثقيلة التي لا ترحم ولا تشفق لطفل..

• شاهدت طفلة تحمل ما هو أثقل من وزنها مرتين.. سطل من الماء لا تقوى على حمله فوق رأسها، ولا تقدر على العتل بيديها إلا بحدود العشر خطوات، وكأنها تسحب عمرها التعيس المأسوف عليه.. تستريح قليلا لتسترد أنفاسها التي تكاد تنقطع.. ثم تواصل إيابها إلى بيتها بالماء على مائة مرحلة وألف خطوة لتنتصر.. هنا للخطوة قيمة حياة إنسان يريد أن يعيش محترم.. العودة بجلب الماء ربما ينقذ أسرة من الموت عطشا.. كانت تعاود بذل جهدها وتتعثر خطواتها وتقل في كل مرحلة.. عودتها بالماء إلى بيتها معجزة!! كنت أسأل نفسي: متى ستصل بيتها؟! وهل بالفعل ستصل؟! ثم يتبدى أمامي السؤال: هل نحن جناة؟!!

• شاهدت النساء وهن يجلبن الماء، ويتزاحمن على مورده في المكان المقابل.. شاهدت معاناة حرب لا تكترث بما تجلبه من ويلات على الناس المسالمين والطيبين.. نساء وأطفال ومسنون يخاطرون بحياتهم لمواجهة العطش الذي أشتد عليهم بعد أيام من الانقطاع.. يخوضون معركتهم حتى لا يفنيهم الموت في بيوتهم مستسلمين.. رأيت المواطنين العزل الطيبين يشقّون بصعوبة في زحام الحرب طريقا للبقاء والحياة..

• داهمني السؤال: كيف للضمير أن يتنصل من مسؤوليته في ظرف كهذا؟! ثم أدافع عن نفسي كمتهم!: لست من صنع هذا الواقع المؤلم!! ثم ماذا الذي بيدي لأغيّر من واقع الحال، أو أقلب فيه المعادلة لصالح هؤلاء الطيبين؟! إن الواقع الآن يفرض معطياته على الجميع، وأنا صرت أعيش جحيمي أيضا، وحياتي بكف عفريت، والمستقبل إن نجوت فهو مجهول ومرهون بمن ينتصر.. الواقع بات أكبر مني بكثير، بل بما لا يُقارن ولا يُقاس، فما عساي أن أفعل؟! وماذا بيدي أن أفعله؟! وهل ما سأفعله سيغير واقع الحال؟!

• ورغم دفاعي هذا أستمر وجع ضميري حاضرا يرفض الذهاب أو المغادرة.. ظل الوجع يشتد ويلسعني بالألم كسوط جلاد؟! وظل السؤال يلح: هل أنا جاني؟! وبقي هذا السؤال يقرع مسمعي، وعالقا في ذهني المكتظ بما يراه ويسمع، ووعيي المُرهق بكل ما يحدث ويمور.

• الاتصالات مقطوعة، والماء لازال مقطوع ولا أمل قريب بعودته، والمجهول يتربص في كل شارع ومنعطف.. ولكن ما ذنب المواطنين العزل الذين ليس لهم علاقة بالحرب لا من قريب ولا من بعيد؟! بل هم مجنيا عليهم فيها بامتياز.. يخوضون معركتهم الأصيلة من أجل البقاء على قيد الحياة.. يستبسلون في مواجهة الموت والمخاوف الكثيرة والمتعددة.. كم هي عادلة وإنسانية معركتهم تلك أيتها الحياة!!

• تحدّيهم للموت كان على أوجه، وهم يخوضون غمار تلك المعركة الهامة بين الطرفين المتحاربين الساعي كل منهما للفوز والانتصار.. المواطنون العزل هم الأكثرية الذين لم يشاركوا في صناعة هذه الحرب، ولكنهم أول من يتحملون أوزارها، ونتائجها الكارثية، وويلاتها ومآسيها التي تدوم.. إنهم أكثر استحقاقا للحياة من الجميع..

• إن لم تتحد الموت وتخرج لمنازلته، سيأتي يخمد أنفاسك لتموت في جحرك الذي لم تغادره.. في ظروف كهذه إن لم تخرج لمنازلة الموت، وتنال حظك من الحياة، ستموت عطشا وجوعا وكمدا.. سيأتي الموت إليك حتما، وأنت مختبئ ذليل مرتعد..

• كنت مُرهقا ذلك اليوم، حيث لم أنم الليلة السابقة، ولا نهار ذلك اليوم.. وضعت يدي على رأسي ووجدت نتف من شعر رأسي يتساقط على نحو سهل وكأنه ليس بعض مني.. حاولت تفقده فوجدته يتساقط نتفا بمجرد تمرير راحة يدي عليه، دون أن أشعر أنه كان نابتا في فروة رأسي.. قررت أن أتركه ولا أحاول مرة أخرى حتى لا أجد نفسي فجأة دون شعر ولا فروة.. ظننت أن مرضا خصني وأعطب فروة الرأس!! سألت الجندي الردفاني الذي معي عمّا إذا كان هو أيضا يعاني ما أعانيه، فوجدته أنه عانى هو من هذا
المجتمع، ولكن بضمير منتصر.. وسأستعرض فيما يلي بعضها..

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(8)
إعدام وتصفيات خارج القانون

سلمت سلاحي وعدت إلى البيت.. تواصل بي حسن عبد الله الأعور، وطلب مني المجيء إلى منزله.. كنّا جميعا نسكن في حي الثورة “القلوعة”، وكنت أزوره إلى منزله في معظم الأحيان.. كانت تربطني به علاقات صداقة واحترام، وفضلا عن ذلك نحن من منطقة واحده في الشمال.

حسن عبد الله رجل مكافح اعتمد على نفسه في بناء نفسه.. تغلّب على عاهة فقدان النظر في أحدى عينيه.. مكافح وناجح بعين واحده.. وصل إلى رتبة رائد أو نقيب، وشغل وظيفة النائب السياسي للمليشيا الشعبية في عدن ـ معسكر20ـ حسن عبد الله رجل كادح ومعدم بناء نفسه من الصفر والعدم.. كان يتميز بتواضعه الجم، وأكثر ما يميزه أنه خدوم جدا لكل الناس الذين يقصدونه بما فيهم من يختلفون معه في الرأي أو الموقف.. لا يحمل حقدا أو غلا على من يختلف معه في الرأي السياسي، ولا يتردد هو أيضا في إعلان رأيه..

كان يتعامل معي باحترام فائق، وكنت أكنّ له كثيرا من الود والتقدير والاحترام، ولم تستطع السياسة واختلاف رأينا عن بعض أن يفسد ما بيننا من ود..

حسن عبد الله كان لديه عدد كبير من الأبناء الصغار أكبرهم لم يتجاوز الـ15 سنة فيما زوجته مصابه بمرض في القلب، وتعيش على دواء دائم.. حالتها الصحية تزداد تدهورا..

كنت أشعر أنه في وضع صعب وأن نجاته من هذه الأحداث العاصفة ضئيلا جدا.. أشعر أن الانتقام الأعماء سيكون سيد الموقف، بعيد عن أي عدالة أو قانون أو محاكمة حتى وإن كانت صوريّة.. تصوروا حتى المحاكم الصورية كانت مستحيلة وبعيدة المنال..

كان الموت باذخا، واسترخاص دماء وحياة الخصوم بخسة إلى حد لا يساوي أحيانا قيمة رصاصة.. عندما تبخس حياة الناس إلى هذه الدرجة اعلم إنك تعيش كارثة وطن ومأساة شعب تطول.. ما أرخص حياة الإنسان عند المنتقمين.. أحسست أن أبناؤه الكُثر وجميعهم قاصرين سيكونون أيضا ضحايا جنون هذه الحرب التي عصفت بالرفاق.. أشعر أن ثمة مأساة سيعشونها في قادم الأيام..

ذهبت إلى منزله.. حلّق بي الصغار كأنني سفينة نجاة، وأنا أنشج في داخلي وأغالب حزني الكثيف وغصص مكتومة تذبح حنجرتي من الداخل.. شاهدت الأم مرعوبة من قدر سيأتي.. تبكي بحرقة الفقدان والمستقبل المجهول.. مصاب فادح وجلل سيصيبها وعيالها، وهي تحمل جبل من الهم والأسئلة لزمن عبوس قادم.. كانت ترجو من الأيام الرفق بها من قادم ثقيل وأسود سواد هذه الأحداث الأشد من قاتمة وأكثر من قاتلة..

جو من الكآبة والحزن حاولت أن أغادره، وزوجته تبلغني أنه في منزل لقريب في مكان قريب.. وجعلت من احد أبناءها دليلي لأصل إليه..

ألتقيت به.. أحسست بمأساته وكم من المآسي ستترك هذه الحرب.. عرضت عليه أن يأتي إلى بيتنا، فربما هو أكثر أمانا، فيما المنزل الذي هو فيه ربما إن لم يكن بحكم الأكيد سيتعرض للتفتيش، وسيتم اعتقاله، ولا ندري ماذا بعد الاعتقال!! الاحتمالات المفجعة صارت هي الأكثر ورودا، وما عداها يتحول إلى احتمال ضئيل.. في أفضل الأحوال إن نجاء من الموت، سيجري ضربه وتعذيبه وإهانته واستباحة كل حقوقه في المعتقل، وقد شاهدت بعض مما حدث في "كريتر" قبل يوم..

عرضت عليه أن يختبئ عندي إلى أن نجد مخرجا وما جرى له جرى علينا.. غير أنه أخبرني أنه تواصل بعبد الحافظ قائد ـ وكان من الشخصيات التاريخية الهامة في الحركة الوطنية وفي موضع احترام وتقدير لدى القادة السياسيين في الحزب والدولة وهو من الرجال القلة الممتلئين ـ قال لي أنه عرض وضعه عليه فنصحه أن يسلِّم نفسه وهو سيتابع موضوعه.. هو أيضا فضَّل هذا الخيار على خيار استضافتي له في البيت.. ولكن كان للقتلة خيارهم، وكان القتل منفلت الزمام، ولم يكن القتلة يعبئون بالعقل ولا بالاتزان؛ فخاب تقدير حسن وتقدير حافظنا الطيب.

سلم حسن عبد الله نفسه للفريق المنتصر، وتم إرساله لسجن “صبر” في محافظة لحج، وبعد أسابيع أو شهور تم تصفيته مع كثير من المعتقلين بدون محاكمة.. كان قتلا خارج القانون.. عرفت أن الضوء الأخضر جاء من قائد أمني كبير، ترك مهمة القتل وتقديره لمن هم دونه.. تصفيات وانتقامات متوحشة خارج القانون ارتكبها الطرفين..

قلوب وعيون أطفال حسن وجميعهم قاصرين، وزوجته المريضة أعياهم الانتظار.. ظلوا ينتظرون عودته سنوات طوال.. ظل أفراد الأسرة يترقبون كل يوم أن يطرق حسن الباب، وحسن كان قد غادر قسرا إلى اللاعودة واللااياب.. عذاب يومي ثقيل ومؤلم ظلت أسرته تعيشه طيلة الليل والنهار لسنوات طوال.

لم تقتصر مثل هذه التصفيات على طرف دون آخر بل كلا الطرفين تسابقا وأثخنا بالقتل حد العبث والجنون.. خيرة كوادر الحزب والدولة وكثير من الأبرياء كانوا ضحايا هذه الحرب اللعينة والمملوءة بالقسوة والانتقام.. كانت هذه الحرب بداية لهزيمة كبيرة لاحقه للحزب والجنوب والوطن في 1994.

في أحدث 13 يناير ارتكبت مجازر ومذابح مروّعة بعضها يشبه جرائم “داعش” اليوم . إننا قوم لا ندرك ما بلغناه من جنون القتل
بشع وأكثر ترويعا؟!

عثمان هذا لا تعرفوه.. عثمان ملاك لا تشبهه الملائكة.. إنه النقاء والحب كله.. عثمان الذي غنى لليمن
وللوحدة، وغنى لذلك الشاعر السوري القادم من بعيد، وهو مفتونا باليمن وينشد وحدته:
لمن تمشطين شعرك الجميل يا يمن
ضفيرة صنعاء ضفيرة عدن
فكي شريط الشعر كي تصحو الخصل
لمن فرقت شعرك الرطيب يا يمن؟
ضفيرة صنعاء
ضفيرة عدن

كلا الفريقين منتصر ومهزوم دفعا ثمناً باهضاً وفادحاً، وكانت خسارة الوطن أجل وأفدح، ولازلنا نعيش آثار هذه الأحداث إلى اليوم..

كل مساحيق التجميل التي جاءت باسم التسامح لم تنجح في ردم الشروخ العميقة التي تسببت بها هذه الأحداث المأساوية.. ثم جاء الخصم والعدو ليصنع منها حوامله، واضفاء شرعنه تدخله، وتنفيذ أجنداته وأهدافه، بكل خبث، في إطار مخطط يستهدف اليمن كلها أرضا وجغرافيا ووحدة وإنسان ومستقبل..

جرى إحياء الماضي وحزازاته، وضخ خطاب يستند إلى وعي مشوه، وبث وإثارة عصبيات ما قبل الدولة، وفتح وأنكأ الجروح العميقة في الروح، ووأدا ما بقي من جميل في النفوس.. جرى إحياء وتعميق آثار الماضي وانقساماته وتناقضاته، وأعاد انتاجها على نحو أقبح مما كانت عليه، وأضاف إليها انقسامات وتراكمات جديدة، وأعاد انتاج وتأسيس صراعات جهوية ومناطقية جديدة، بل وعنصرية أيضا، وتم إلى الفادح اضافة ما هو أفدح، وخراب على خرب..

أما اليوم فقد ضاق وطفح الكيل، وبات الواقع يتحدث عن نفسه، وعمّا يحدث، وباتت الكلفة وطن.. ولازال القادم أسوأ، وهذا لا يعني بحال أن الشمال أفضل.. وللحديث بقية..

***
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
والدمار إلا بعد فوات الأون والندم.

بين الأمس اليوم على بشاعة كليهما لا زال هناك فارق لصالح أيام زمان.. قتلوا حسن وكثيرا من أمثاله، ولكنهم لم يقطعوا راتبهم.. أما حرب اليوم فيقتلونك ويقطعون راتبك على أسرتك حتى قبل أن تموت .. قرابة المليون ونصف يمني قطعت رواتبهم، وعاشوا معاناة أكبر من الموت وأكثر من الجحيم.. ويبقى الأكثر بشاعة وجحيما أن العالم توطأ مع هذا الجحيم وتلك المأساة التي لن تنتهي، وستبقى ندباتها في القلب إلى يوم يبعثون..

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

بعض من أحداث يناير
(9)
خاله “خدوج”

محمد قائد هاشم أو كما هو متداول في عدن محمد الحربي هو أبن عم أبي.. غادر والده القرية إلى عدن مبكرا، وعاش فيها حتى توفاه الله.. ولده محمد تنشّأ وكبر في عدن.. أنا لا أعرفه، ولم أزره غير مرة أو مرتين بمعية والدي الذي أراد أن يقول لي: لك هنا في عدن أهل وأقارب.. حدث هذا قبل شهور من أحداث يناير 1986 وجدناه لطيفا ومهذبا وخلوقا معنا، ومرحّبا بنا.. تطبّع بحياة المدينة وروحها.. ملامحه جاذبة تشعرك بالاطمئنان، وإن كان مقلّا في الكلام..

زرتُ زوجته الخالة "خدوج" تاريخ 20 يناير 1986 على الأرجح.. بديت عليها بطلّتي، وتطلّعت هي لمجيئ برجاء هده اليأس والمخاوف.. رأت فيني النجم سهيل، وظننتني قدرا من فرج، غير أن الليل كان موحشا وعبوسا ومكتظا بالكآبة التي تخبو تحتها ما هو أشد..

غريق يبحث عن قشة يرى فيها طوق نجاة، ولا نجاة مع ما كتبه المستحيل.. ليس من السهل أن تعرف هو في أي محبس، فما بالك بنجاة حباله ليست طوع يديك، ولا تملك من أمر زمامها شيئا..

إنه حال يشبه ما نعيشه اليوم، إن لم يكن اليوم أشد وطأة وأكثر وجعا من سابقه.. كان هناك حبس وإعدام خارج القانون، ولكن اليوم صار الحبس والإعدام والفساد مجتمعين.. كان يُحبس في الأسرة أحد أفرادها، أما اليوم فيتم حبس الأسرة كلها، وأسرة اقبال الحكيمي مثال غير بعيد.. كان فساد الأمس محدودا ويحتاج إلى عدسة تكبّره لتراه، أما فساد اليوم فبعرض السماء والأرض.. حدث ولا حرج..

الماضي سيء والحاضر في جله بات أسوأ .. لتعرف فقط أين محبوسك عليك أن تبحث عنه حتى تدوخ.. كل جهة تحبس، وقد بات لدينا منها ما لا يُعد.. كل فرد فيها مهما صغر وتضأل شأنه بمقدوره أن يحبسك.. أسهل ما يفعله هو تقييد حريتك والتنكيل بك بألف عذر، وإن انبريت تدافع عن سلامة حجتك سحقك بالمثل "تريد عذر أو حمار"..

يحبسك ثم تنقطع أخبارك إلى ما شاء الله.. رجاءك ينتحب، والخيبات أكثر، وأنت تبحث عن إبرة في كومة قش، والإفادة عمن تبحث، هي في قبضة أمن سلطة تستبد.. والأهم أن تجد نفسك اليوم في متاهة لا تنتهي.. لا تعرف تخاطب من!! وتتظلم لمن؟! وأين تشتكي؟! ومن بيده أمر اطلاق سراح من تبحث عنه!!

في يناير 1986أخذ المنتصرون زوج "خدوج" من بيته، وغيبوه في محبس مغلق ومكتوم، يشبه ذلك المحبس الذي وقفت على بابه يوم 18 يناير، والمحشورين فيه كومة لحم معتباه، لا يستطيع أحدهم أن يقف على قدميه، أو يبسط أنفاسه وهو قاعد.. عطاشا حد الموت، ومخنوقين حد الكفر البواح..

كان محمد يعاني مرض الربو.. مات اختناقا في محبسه كما قيل، أو هذا ما كشفه بعض رفقائه الذين حالفهم الحظ وكتب لهم النجاة من فك موت شره.. اختنق محمد في محبسه المكتظ باللحم والضيق.. فاضت روحه إلى بارئها بعد أن تحررت من قبضة الجلاد، وترك جثته لدى سجانيه دليل إدانة يدمغهم بالقسوة والإجرام والبشاعة..

أسرة محمد لا تدري إلى اليوم مكان مدفنه، بل ولم تتلق أي إخطار أو علم رسمي بما حدث.. ترك محمد أطفالا صغارا وزوجه ثكلى معذبة بالفقدان والانتظار الذي طال..

"خدوج" تحمل من الحب لزوجها ما لا تحمله حاملة الأحمال في الأرض، ولا تحمله سحابة غيث في السماء.. تزوجا عن قصة حب فيه كثير من العبور والتحِّدي.. كلاهما كان يعملان في مؤسسة عامة مدنية، وكان للحب فضاء ومدار.. حبا بعضهما وتزوجا إلى الأبد.. خالة "خدوج" لا أروع من قلبها، ولا أطيب منه..

"خدوج" مسكونة بطيبة وصبر أهل عدن.. ياااااه كم أهل عدن طيبين ومتسامحين.. كم هم لبعض عند الحاجة والشدة.. علاقاتهم سوية وغامرة بالبراءة.. متصالحين مع أنفسهم.. يحملون قلوب نقية كالكريستال.. وصفحاتهم أبيض من ندف الثلج..

أهل عدن صابرين على كل الشرور التي قذفتها الرياح في وجوههم، وصبّتها الأقدار على رؤوسهم.. كم جنى المتوحشون على عدن وأبناءها الطيبين من الأحزان والآلام والمآسي العراض.

في الحروب شرور وموت لا يشبع، وبعدها انتظار أحبه لا يعودون.. ما أشد وأقسى أن يأخذونك من بين أطفالك وأحضان زوجتك، ثم يغيبونك عن جميع من يحبونك، ويقطعوا عنهم كل أخبارك.. يغيبونك للأبد دون أن يقطعون رجاء عودتك إلى أطفالك وزوجتك.. كم يتعذب من ينتظر رجاء لا يأتي بما يرجوه، و أمل بعد صبر وانتظار طويل يستغرق العمر كله، ثم تكتشف إنك واهما، وأن الأمل الذي تعلقت به، أو راهنت عليه كان سراب في سراب..

كم تتعذب الزوجة عندما يقذف القدر بحبيبها للمجهول لمجرد رأي
وشاهدا على قبح الفعل وإجرام صاحبه..

ملابس عسكرية ومدنية عليها الدماء مرمية على الأرض.. رائحة الدم كانت لا تزال نفاثة.. الممرات تحكي إن الموت مر من هنا.. الموت صال وجال وعبث هنا وهناك .. الوحشة تسكن الأمكنة والزوايا .. والمجازر قابلتها مجازر من الطرف الآخر، أغلبها كان بدافع الانتقام، دون أن يخلوا هذا من طابعه المناطقي، واكتظت الأرض بالضحايا..


الملازم علوان من أبناء محافظة إب كان في نفس سريتي وأيضا جاري في السكن بعدن وهو من خريجي الكلية العسكرية الدفعة الحادية عشر .. أصيب بطلقة في خاصرته عند محاولة الهرب من مصير أكيد وموت محقق لا يفصله عنه غير ساعة زمن أو أقل من ساعة.. نجا بأعجوبة ..

جاء في روايته إن لم تخنِّ الذاكرة:

((أخذونا من السجن مليان بابور بعد أن ربطوا أيدينا إلى الخلف وجميعنا من أبنا الشمال ويافع والضالع وردفان.. كنت أشعر أنهم يريدون تصفيتنا، وكنت أحك الحبل الذي يقيد كفاي إلى نتوء في البابور .. وكان الوقت ليلا والظلام دامس ..

في الطريق تأكدت أنه سيتم تصفيتنا في وادي حسان.. وبعد جهد جهيد استطعت أن أمزق وثاقي بذلك النتوء الذي ظللت أحك وثاقي به خلال مسافة الطريق.. كان بعض الزملاء بعد أن عرفوا وجهتهم وإن الموت صار قريب، بعضهم كان يبكي وبعضهم يترجى..

أحد الضباط اسمه نصر من أبناء ردفان، وكان كما عرفته يغلب عليه حسن النية، بعد أن أدرك أنه ذاهبين به إلى وادي حسان، وإن هناك الموت ينتظرهم هناك، طلب منهم التفاوض وهو يضطرب.. كان أشبه بغريق يحاول الإمساك بقشة.. ولكنهم سخروا منه ومن طلبه.. الضابط نصر واحد من الطيبين الذين لا يعيرون بالا للساسة والسياسة..

الكلام لا زال لعلوان: أنا الوحيد الذي استطعت تمزيق رباطي والقفز من فوق البابور، فتداركوني بإطلاق النار وأصبت برصاصة في خاصرتي، وثانية في يدي، وكان الظلام كثيف، واستمريت بالركض وأنا أنزف ولم يستطيعوا اللحاق بي وقد ساعدني الظلام على الهروب.. عصبت جرحي بقميصي، وأمضيت ساعات طويلة في الركض، وأنا أنزف في الصحراء، حتى وصلت إلى منطقة العلم بين عدن وأبين، وهناك أغمي عليّ حتى وجدتني قوات الاتجاه الآخر فتم إسعافي ونجاة حياتي..))

هناك روايات فاجعة كثيرة .. زميلي الملازم أول الحياني قائد فصيلة في سرية الاستطلاع في اللواء كان ضمن آخرين محشورين في محبس، بلغ عددهم فيه أكثر من ثلاثين ضابط وجندي وصف.. تم إطلاق النار الكثيف عليهم، وقد أصيب الحياني بالرصاص، ولكن لم يمت.. فجاء أحدهم ورمى بقنبلة إلى الغرفة لتقضي على من نجاء من الرصاص ليقضي نحبه بقنبلة..

***

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(11)
خراب على خراب
بعد تاريخ 20 يناير 1986على الأرجح، صعدت باصا للركاب من كريتر باتجاه خور مكسر، وعلى طريق ساحل أبين صعد إلى الباص ثلاثة من طلبة الكلية العسكرية، يبحثون عن بطائق الهوية، وعندما اتموا التحقق من الهويات، أعتذر أحدهم بالقول: “آسفين نحن نبحث عن أصحاب شبوة وأبين”..

كان للتعبئة المناطقية والجهوية دورا مهما في النتائج الكارثية لأحداث 13يناير.. كنت أسأل نفسي كيف لفضاء الأممية أن يصغر ويضيق إلى هذا الحد؟! لماذا تلك النخب أعدمت فضاء كان يمتد من أقصى الأرض إلى أدناها، واستبدلته بعصبيات تصغر وتضيق، حتى بات أكبرها أصغر من قُطر عقلة أصبع!..

لقد كانت التصفيات والاعتقالات في المقام الأول تتم بحسب بطاقة الهوية.. كانت الهوية هي المحور والأساس.. أيام عصيبة صار فيها الاعتقال والموت يختار ضحاياه بحسب البطاقة أو المحافظة والمنطقة..

تم تصفية كثير من رفاقي وزملائي في لواء الوحدة لاعتبارات الانتماء الجغرافي في المقام الأول.. تم استهداف من ينتمي جغرافيا إلى الشمال، ومناطق الضالع وردفان ويافع، وتم التنفيذ بطريقة مروعة.. وفي المقابل حدثت أفعال انتقامية من الطرف الآخر لا تقل مأساة وترويع عمّا أرتكبه الفريق الأول.. لقد أبكت تلك الأحداث السماء دما..

لماذا تم إعدام رفيقي محمد عبدالله العفريت، وجمال محمد عبدالله، وعبده مانع الصعدي، ومحمد عايض الحنشلي، وأحمد حسين الرباط و والريمي ومحمد صالح محمد "عبود"، وهذا الأخير لم يمضِ على توزيعه على قوة اللواء غير ليلة واحدة من 13 يناير؟!!

لماذا تم إعدام المساعد عبده علي، والمساعد حسن ابراهيم، والمساعد البرح وجميعهم من أبناء الشمال؟!! لماذا تم تصفية صديقي محمود سالم من يافع معربان، والملازم الطيب نصر من ردفان، والملازم النقي الحياني من إب، والأخ زيد، وأخاه الطيب النقي علوان الذبحاني، والعشرات من أمثالهم؟!!

لماذا قتلوا عثمان.. الفنان عثمان أرق من نسمة.. الفنان عثمان الصوت الطالع من أعماق الروح.. لماذا أعدموه؟! هذا الذي غنّى للشاعر السوري أيمن أبو الشعر بلحن وصوت شجي وعميق:
علمني بوح جدار السجن أن ارادة رجل حر أقوى من قفل السجان
علمني قبر فدائي أن ركوع شهيد فوق التربة أسمى آيات الايمان..

لماذا قتلتم الأحرار، والنقاء الذي لاذ إليكم، ليحتمي من جور الشمال، فوجد في الجنوب ما هو أ
أو موقف يراه صاحبه إنه الصواب، ثم تظل تنتظره شهور وسنوات، وربما بقية العمر مصلوبة على جدار الانتظار.. إنه عذاب جحيمي طويل، ودرك أسفل من النار..

كثيرون هم الذين دفعوا ثمن أخطاء وخطايا غيرهم.. القادة الذين يرتكبون الحماقات المهلكة بحق الشعوب، وحتى بحق أنصارهم واتباعهم الذي سلّموا وجهلوا ما حدث ويحدث، وتحملوا تبعات وأوزار ما لم يفعلوه.. الضحايا يذهبون إلى الموت والضياع.. كثيرون هم الضحايا الذين تسوقهم قيادتهم في مقامرتها ومغامرتها إلى الهلاك والجحيم.. كثيرون هم ضحايا الحروب والأطماع والتسلّط والشمولية المستبدة..

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

تصفيات..
(10)
جاءت أحداث 13 يناير 1986 وأنا متفرغاً للدراسة سنة أولى كلية الحقوق، ولكن سأذكر هنا الشطر المتعلق بلواء الوحدة، الذي كان يقيم معسكرة في محافظة أبين، ويبعد عن "زنجبار" عاصمة المحافظة " مسافة 2-3 كيلو متر تقريبا، وينتمي كثير من أفراده وضباطه إلى ما كان يُعرف بشمال الوطن الحبيب.. وأزعم أن تفرغي للدراسة في كلية الحقوق هو من أنجاني من موت أكيد، ليس لشيء، وإنما لأنني فقط من الشمال، وقد تم تحت عنوان "شمالي" تصفية جل الضباط والصف والجنود الشماليين..، ولم ينجو منهم إلا القليل، أما أقل القليل وهم بعدد أصابع اليدين، فحامت حولهم حيرة وسؤال..

كان قائد اللواء وكذا رئيس عمليات اللواء لا يروقاني ولا أنا أروقهم.. كنت أشعر بالغربة بمجرد مقابلتهما.. روحي تنقبض كلما تقابلت مع أي منهما، أو حتى مررت بجوارهما.. كان أحيانا يخامرني إحساس ما غير مفهوم يثير انقباضي والشعور بغربتي، ثم كشفت الأيام أنني كنت محقا فيما أشعر وأحدس..

كما كنت غير منحاز سياسيا لهم، وعلاقتي وصداقتي الأكثر كانت بأحد الضباط المشهور باسم "العفريت" وكان نائبا سياسيا لأحدى الكتائب الرئيسية الثلاث في اللواء، وهو من ضمن الذين قدموا من الشمال في أحداث عبدالله عبد العالم، وينتمي سياسيا للحزب الديمقراطي الثوري، ثم إلى حزب الوحدة الشعبية بعد الدمج، فيما كان اجتماعيا ينحدر إلى إحدى الفئات المهمشة، وكان مثلي لا يروق لقائد اللواء، ورئيس العمليات، والعكس أيضا، وقد تمت تصفيته بالفعل في أحداث يناير..

كما كنت مرصودا لديهم بأنني مسؤول خلية حزبية في اللواء، اسمها "خلية الشهيد عبداللطيف الحالمي" تابعة لحزب الوحدة الشعبية "حوشي"، ورغم أن عملنا الحزبي كان ينصب في إطار العمل السياسي والحزبي في الشمال، ولكنه كان يكفي هذا لديهم أن أكون مشبوها بامتياز..

بعد أسبوعين من بداية أحداث 13 يناير ذهبت إلى مقر اللواء، وعرفت أن 85% تقريبا من أصدقائي وزملائي قد تم تصفينهم ضباط وصف ضباط وجنود.. بعضهم تم قتلهم في وادي حسان، وبعضهم في السجون والزنازين والمعتقلات، وبعض آخر تم تصفيتهم في معسكر اللواء نفسه، ممن ملص أو تخلص من الطابور..

لو بقيت في اللواء ما كنت لأنجو أو أفلت من أي مجزرة، حيث كنت منضبط، ودقيق في المواعيد، ولا أخرج من المعسكر إلا قليلا، ولا أزوغ ولا أتهرّب من أي عمل أو مهمة أو مبادرة، ولا أغيب ولا آخذ إجازات مرضية، وبالتالي فأنني في متناول الاستهداف السهل، ونجاتي من أي مجزرة كانت مستحيلة..

ما عرفته خلال زيارتي عما حدث على صعيد اللواء، أنه صباح 13 يناير تم ابلاغ الضباط والصف والجنود بالجمع طوابير بحجة كاذبة هي الخروج لمبادرة بلباس مدني، فيما الحقيقة المُرّة كانت فخا كبيرا، وتنفيذا للمرحلة الأولى من المؤامرة في اللواء، حيث تم الفرز المناطقي الغير معلن في الطابور، ثم تم نقلهم للمعتقلات، ثم جرت في المرحلة الثانية التصفية الجسدية بمجازر بشعة ومروعة..

لقد استهدف هذا الفرز بحدود 85% من ضباط وصف وجنود اللواء المنتميون لمناطق الشمال والضالع ويافع وردفان في اللواء على أساس مناطقي في المقام الأول.. كانت تلك هي المرحلة الأولى من تنفيذ المخطط على صعيد المعسكر.. هكذا تم الاستيلاء على اللواء.. فيما المدنيين في مناطق شتّى طلبوا منهم ضرورة الحضور في اجتماعات حزبية، ومنها تمت الاعتقالات، ولاحقا تمت التصفيات الجسدية.. الحقيقة أن من أطلق على 13 يناير اسم المؤامرة كان محقا إلى حد بعيد..

أسوأ قاعدة لـ "ميكافلي" تم تنفيذها هنا على نحو بشع.. إنها قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة".. دمامة المؤامرة، وقبح الغدر والخديعة .. وبشاعة في التنفيذ.. والأكثر سوءا وتخلفا ورعبا أن أول معايير واعتبارات الفرز، كانت مناطقية على نحو فج وصارخ..

لقد تم تصفية الكثير لمجرد انتماؤهم الجغرافي للشمال والضالع و ردفان ويافع.. بعض من تم تصفيتهم أعرفهم جيدا، وكان لا يهتم ولا يكترث بالسياسة، ولا تربطه رابط بها، ولكن حتى هذا لم يشفع لهم أو يخفف عنهم .. تمت تصفيتهم في جزء تنفيذا لمخطط دامي، وانتقاما لهزيمة مدوية..

عند زيارتي للواء شعرت بالأسى والوحشة والحزن العميق .. شاهدت أثار الدماء على أرض الغرف والجدران .. بقايا شعر رؤوس آدمية هنا وهناك، وبعضها لا زال ملتصق بجدران الغرف وآثار الرصاص لا زال شاخصا
بكره عرسها..
احمد سيف حاشد

• في سباق عمري مع الزمن أنخفض سقف شروطي حيال الفتاة التي أبحث عنها لتكون شريكة حياتي في المستقبل، بعد أن أحسست إن العمر يذهب سريعا، وأني أرزح تحت ضغوط نفسية واجتماعية شتّى ترى من غير العادة والسوية حيال كل من تقدم بالعمر نحو الثلاثين دون زواج، فيما جل أقراني كانوا قد تزوجوا قبل أن يبلغوا سن العشرين عام، أو أكثر بقليل لمن تأخر..

• بدخولي سن الثمان والعشرين عام أحسست أني أخوض مواجهة تشتد كل يوم مع وعي مجتمع مثقل ومحكوم بطغيان موروث من العادات والتقاليد والثقافات التي تستنكر وتنتقص من أي شخص يمضى نحو الثلاثين وهو أعزب.. لا أذكر أحد من اسرتنا أو قبيلتنا قد تأخر في زواجه إلى مثل هذا السن..

• إن ولوجي في عمر الثمان والعشرين سنة قد جعل العنوسة بمعيار مجتمعي تزحف نحوي كتمساح.. تطرق بابي بيد من خشب.. تقذف وجهي الخجول والمتسربل بالحياء بشرر نظراتها وسهامها الحداد.. ومع ذلك لم أتنازل عن الجمال الذي أبحث عنه، وإن تنازلت عن المغالاة المفرطة فيه، واستمريت متمسكا برفضي الشديد أن أفطر بالبصل بعد صيام دام طويلا، وصبر أشبه بـ"صبر الحجر في مدرب السيل وأكثر"..

• كنت أحدث نفسي: إذا توفر الجمال الذي يناسبني، فكل شيء غيره قابل للبحث والتعاطي؛ فطالما هناك فترة خطوبة فالأمر فيه رحب وسعة.. لابأس أن تكون مرحلة الخطوبة مرحلة أفرز فيها ما هو ممكن عمّا هو مستحيل.. تفاوض أحاول أن أجد فيه نفسي أو أحاول إعادة صياغتها في مخاضي مع الحبيب، ثم نمضي معا لنكمل مشوار العمر الطويل، أو ما تبقي لنا منه..

• في فترة الخطوبة يمكن بحث كل شيء، وأولها الملائمة، وأعني ملائمة كل منا للآخر.. وتقدير مدى إمكانية نجاح الزواج مستقبلا من عدمه، ثم اتخاذ القرار أما بالمضي إلى الأمام، أو التراجع إلى الخلف إن وجدت أسباب جدية تحملني على هذا التراجع وفسخ الخطوبة.. هكذا كنت أحدث نفسي، وأنا أفكر وأفترض كل الاحتمالات..

***

• في إحدى الأيام وفيما كنت ذاهبا إلى بيت عمي "الحربي" في دار سعد، شاهدت بالصدفة فتاة تطل من باب بيتها جوار منزله القريب.. استبشرتُ بها وملئني الفرح وغمرتني السعادة.. ظننتها صدفة العمر التي لا تعوض.. ليلة القدر التي لا تعود.. أو على الأقل الفرصة التي يجب أن لا أهدرها دون محاولة.. لقد ملئت تلك الفتاة عيوني وأعادت ثقتي بأن الدنيا لازالت بخير..

• ورغم أن وجهها كان مخلوب بالحنّا، إلا أنه لم يستطع الانتقاص من جمالها الفارط.. وجهها كالشمس التي تتحدى الغيوم.. محياها يشرق وهجاً وبهجة.. صوتها وهي تدعو الصغيرة كالناي والحنين.. رأسها معصوب بقماش ملون تبدو فيه متوجا بجمال الطواويس.. ملكة بكل المقاييس..

• مررتُ من زقاق صغير على مقربة منها، لأن الطريق العام كانت مسدودة بـ "مخدرة" تم تحضيرها لعرس.. وما أن اقتربت من الفتاة أكثر حتى بدت في عيوني مكبّره، سحر يحلق في البعيد.. يحملك إلى أحلامك التي ترف في السماء.. رقة تحتويك من ألفك إلى ياءك ولا تبقي لك همزة.. أنوثة تناديك وتفجر فيك عوالم من شوق وعشق وفرح.. جمالها الطاغي يترامى في مداك، ويتسع بعد احتلاك.. غرقتُ في ذهولي حتى قاع المحيط..

• آسرة إبهارا ودهشة.. رشيقة كغزالة كادت أن تطير.. متحفزه بعنفوان مهرة برّية.. نهودها حقول وضباء وأيائل.. شفتاها نبيذ معتق يصطفيك.. عيونها تبرق حنينا وتغدق بالمطر الهتون.. سحرها غالب لا يُقاوم.. اصطادت قلبي كعصفور.. صادتني بيسر وسهولة.. بديت في لحظة دهشة كسمكة على سناره صياد محترف.. تراجعت إلى الوراء، فتبعتها روحي الهائمة..

• دخلتُ إلى بيت عمي، وقد تملكت الفتاة روحي وقلبي ومشاعري.. رحب عمي بمقدمي والذي كنت أزوره على فترات متباعدة.. جلست وأنا مسلوب اللباب، شاردا في ذهول عميق، فيما كانت خيولي داخلي تركض وتصهل في اشتياق ولوع.. بديت موزعا بين شرودي واضطرابي المحتدم..

- سألني عمي: مالك.. أيش في؟!
أجبت: عادي .. ولا شيء.. تمام
أحسست وأنا أقولها أن لساني تجرُّ قطارا دون عجل.. لم يقتنع عمي بإجابتي وبدأ كأنه يريد أن يساعدني باختراع عذر فقال:
- بائن عليك تعبان.. مريض.. محموم..
أجبته: ولا شيء.. أنا تمام..
أحسست أن الكلمات تفر مني، وعقلي لم يعد قادرا على جمع حروف مفردة واحدة..
حاول عمّي أن يوفر بعض من إحراجي الذي يجتاحني.. أراد أن يخفف عنّي.. دخل إلى غرفة في الجوار ربما لإعطائي فسحة استجمع فيها أشتاتي وكلماتي.. أستعيد اتزاني وبعض من وعيي الشارد أو المضطرب..

• حدثت نفسي وقلت: إنها فرصة يجب أن لا تفوتني.. لطالما الخجل ألحقني بالخسران.. يجب أن أسأل عمّي عن تلك الفتاة! ومدى امكانية طلب يدها؟! يكفي ما أهدرته من فرص وسنين طوال.. أهدراي للفرص يعني أنني لا أستحقها.. فرصة مثل هذه يجب أن لا تذهب سدى!! لطالما أهدرتُ الفرص وخذلتها وخذلتُ معها روحي المتعبة..

• كان بإمكان فرصة واحدة أن تغيّر مجرى النهر.. كان بمقدور فرصة واحدة أن تغيّر ممشى الطريق، وتختصر مشوار الألف ميل.. فرصة واحدة من
سنين طوال كان بإمكانها أن تغيير الحال إلى أفضله.. عاشق وزوج وأب لأطفال يكبرون..

• احتدم التناقض داخلي.. تجاذبني التردد والخجل واستصعاب الحديث، وبين فرصة تستدعي جمع شجاعتي وجُرأتي.. وفي مخاضه قررت الانتصار للفرصة التي لربما تنتظرني، والبوح لعمّي عمّا يُعتمل داخلي من وقوع واحتدام..

وما أن دخل عمّي قلت له وأنا أتصبب عرقا:
- أريد أتزوج يا عم.. فترة طويلة وأنا أبحث عن فتاة تناسبني.. قبل قليل شاهدت فتاة ملئت عيوني في باب البيت التي في جواركم القريب.. أريد أن أخطبها.. أتمنى أن تساعدني في طرح الأمر على أسرتها وتعرفني عليهم ويتعرفون بي.. لعلي أجد فيها نصيب..

• أستفسرني عمّي عن البيت وصفات الفتاة التي شاهدتها بتفصيل أكثر.. فذهبت أصف كل التفاصيل من الصغيرة إلى الكبيرة، حتى لا يحدث أي التباس أو أدنى خطاء يمكنه أن يوقعني ويوقعه في حفرة كبيرة وإحراج أشد..

• أجابني عمي وقد فلتت عليه ضحكة.. أحسست إنها أصابتني بزلزلة.. ثم أعلمني إن “المخدرة” التي تم تجهيزها في الشارع أمام بيتها هي لعرسها.. أمتقع وجهي.. لحظة إرباك اجتاحت كياني.. زادت نبضاتي حتى انعدمت فواصلها وصارت كتيار كهربائي.. عاد قلبي من لديها عصفورا بلا جناح ولا ريش.. عاد يحشرج بصوت مخنوق بغصة ذابحة..

• أحسست بالخجل الأشد يستولى على كياني.. خيبة علقتني فيما يشبه المشنقة.. أردت مواراة وجهي سريعا عندما لم أجد مكانا أدسه فيه.. تمنيت لحظتها حضن أمي لأدس وجهي فيه، وأجهش بالبكاء حتى آخر نشيج، ولكن أمي كانت في البعيد..

• نهضت دون سيقان تقوى على حملي، وأنا أقول: "ليس لي نصيب" فيما كان عمي يطلب استبقائي لأستريح ونتغدّى معا، فيما أنا أستعجل أمري نحو المغادرة، والحزن يعتري بدني والصدمة تكاد تفجر عظامي.. حملت رجلاي التي خارت قواها، ولم تعد تقوى على المشي، وخرجت وأنا مكسورا ومكسوفا ومقطوب الوجه والحاجبين..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
بكره عرسها..
• في سباق عمري مع الزمن أنخفض سقف شروطي حيال الفتاة التي أبحث عنها لتكون شريكة حياتي في المستقبل، بعد أن أحسست إن العمر يذهب سريعا، وأني أرزح تحت ضغوط نفسية واجتماعية شتّى ترى من غير العادة والسوية حيال كل من تقدم بالعمر نحو الثلاثين دون زواج، فيما جل أقراني كانوا قد تزوجوا قبل أن يبلغوا سن العشرين عام، أو أكثر بقليل لمن تأخر..

• بدخولي سن الثمان والعشرين عام أحسست أني أخوض مواجهة تشتد كل يوم مع وعي مجتمع مثقل ومحكوم بطغيان موروث من العادات والتقاليد والثقافات التي تستنكر وتنتقص من أي شخص يمضى نحو الثلاثين وهو أعزب.. لا أذكر أحد من اسرتنا أو قبيلتنا قد تأخر في زواجه إلى مثل هذا السن..

• إن ولوجي في عمر الثمان والعشرين سنة قد جعل العنوسة بمعيار مجتمعي تزحف نحوي كتمساح.. تطرق بابي بيد من خشب.. تقذف وجهي الخجول والمتسربل بالحياء بشرر نظراتها وسهامها الحداد.. ومع ذلك لم أتنازل عن الجمال الذي أبحث عنه، وإن تنازلت عن المغالاة المفرطة فيه، واستمريت متمسكا برفضي الشديد أن أفطر بالبصل بعد صيام دام طويلا، وصبر أشبه بـ"صبر الحجر في مدرب السيل وأكثر"..

• كنت أحدث نفسي: إذا توفر الجمال الذي يناسبني، فكل شيء غيره قابل للبحث والتعاطي؛ فطالما هناك فترة خطوبة فالأمر فيه رحب وسعة.. لابأس أن تكون مرحلة الخطوبة مرحلة أفرز فيها ما هو ممكن عمّا هو مستحيل.. تفاوض أحاول أن أجد فيه نفسي أو أحاول إعادة صياغتها في مخاضي مع الحبيب، ثم نمضي معا لنكمل مشوار العمر الطويل، أو ما تبقي لنا منه..

• في فترة الخطوبة يمكن بحث كل شيء، وأولها الملائمة، وأعني ملائمة كل منا للآخر.. وتقدير مدى إمكانية نجاح الزواج مستقبلا من عدمه، ثم اتخاذ القرار أما بالمضي إلى الأمام، أو التراجع إلى الخلف إن وجدت أسباب جدية تحملني على هذا التراجع وفسخ الخطوبة.. هكذا كنت أحدث نفسي، وأنا أفكر وأفترض كل الاحتمالات..

***

• في إحدى الأيام وفيما كنت ذاهبا إلى بيت عمي "الحربي" في دار سعد، شاهدت بالصدفة فتاة تطل من باب بيتها جوار منزله القريب.. استبشرتُ بها وملئني الفرح وغمرتني السعادة.. ظننتها صدفة العمر التي لا تعوض.. ليلة القدر التي لا تعود.. أو على الأقل الفرصة التي يجب أن لا أهدرها دون محاولة.. لقد ملئت تلك الفتاة عيوني وأعادت ثقتي بأن الدنيا لازالت بخير..

• ورغم أن وجهها كان مخلوب بالحنّا، إلا أنه لم يستطع الانتقاص من جمالها الفارط.. وجهها كالشمس التي تتحدى الغيوم.. محياها يشرق وهجاً وبهجة.. صوتها وهي تدعو الصغيرة كالناي والحنين.. رأسها معصوب بقماش ملون تبدو فيه متوجا بجمال الطواويس.. ملكة بكل المقاييس..

• مررتُ من زقاق صغير على مقربة منها، لأن الطريق العام كانت مسدودة بـ "مخدرة" تم تحضيرها لعرس.. وما أن اقتربت من الفتاة أكثر حتى بدت في عيوني مكبّره، سحر يحلق في البعيد.. يحملك إلى أحلامك التي ترف في السماء.. رقة تحتويك من ألفك إلى ياءك ولا تبقي لك همزة.. أنوثة تناديك وتفجر فيك عوالم من شوق وعشق وفرح.. جمالها الطاغي يترامى في مداك، ويتسع بعد احتلاك.. غرقتُ في ذهولي حتى قاع المحيط..

• آسرة إبهارا ودهشة.. رشيقة كغزالة كادت أن تطير.. متحفزه بعنفوان مهرة برّية.. نهودها حقول وضباء وأيائل.. شفتاها نبيذ معتق يصطفيك.. عيونها تبرق حنينا وتغدق بالمطر الهتون.. سحرها غالب لا يُقاوم.. اصطادت قلبي كعصفور.. صادتني بيسر وسهولة.. بديت في لحظة دهشة كسمكة على سناره صياد محترف.. تراجعت إلى الوراء، فتبعتها روحي الهائمة..

• دخلتُ إلى بيت عمي، وقد تملكت الفتاة روحي وقلبي ومشاعري.. رحب عمي بمقدمي والذي كنت أزوره على فترات متباعدة.. جلست وأنا مسلوب اللباب، شاردا في ذهول عميق، فيما كانت خيولي داخلي تركض وتصهل في اشتياق ولوع.. بديت موزعا بين شرودي واضطرابي المحتدم..

- سألني عمي: مالك.. أيش في؟!
أجبت: عادي .. ولا شيء.. تمام
أحسست وأنا أقولها أن لساني تجرُّ قطارا دون عجل.. لم يقتنع عمي بإجابتي وبدأ كأنه يريد أن يساعدني باختراع عذر فقال:
- بائن عليك تعبان.. مريض.. محموم..
أجبته: ولا شيء.. أنا تمام..
أحسست أن الكلمات تفر مني، وعقلي لم يعد قادرا على جمع حروف مفردة واحدة..
حاول عمّي أن يوفر بعض من إحراجي الذي يجتاحني.. أراد أن يخفف عنّي.. دخل إلى غرفة في الجوار ربما لإعطائي فسحة استجمع فيها أشتاتي وكلماتي.. أستعيد اتزاني وبعض من وعيي الشارد أو المضطرب..

• حدثت نفسي وقلت: إنها فرصة يجب أن لا تفوتني.. لطالما الخجل ألحقني بالخسران.. يجب أن أسأل عمّي عن تلك الفتاة! ومدى امكانية طلب يدها؟! يكفي ما أهدرته من فرص وسنين طوال.. أهدراي للفرص يعني أنني لا أستحقها.. فرصة مثل هذه يجب أن لا تذهب سدى!! لطالما أهدرتُ الفرص وخذلتها وخذلتُ معها روحي المتعبة..

• كان بإمكان فرصة واحدة أن تغيّر مجرى النهر.. كان بمقدور فرصة واحدة أن تغيّر ممشى الطريق، وتختصر مشوار الألف ميل.. فرصة واحدة من سنين طوال كان
بإمكانها أن تغيير الحال إلى أفضله.. عاشق وزوج وأب لأطفال يكبرون..

• احتدم التناقض داخلي.. تجاذبني التردد والخجل واستصعاب الحديث، وبين فرصة تستدعي جمع شجاعتي وجُرأتي.. وفي مخاضه قررت الانتصار للفرصة التي لربما تنتظرني، والبوح لعمّي عمّا يُعتمل داخلي من وقوع واحتدام..

وما أن دخل عمّي قلت له وأنا أتصبب عرقا:
- أريد أتزوج يا عم.. فترة طويلة وأنا أبحث عن فتاة تناسبني.. قبل قليل شاهدت فتاة ملئت عيوني في باب البيت التي في جواركم القريب.. أريد أن أخطبها.. أتمنى أن تساعدني في طرح الأمر على أسرتها وتعرفني عليهم ويتعرفون بي.. لعلي أجد فيها نصيب..

• أستفسرني عمّي عن البيت وصفات الفتاة التي شاهدتها بتفصيل أكثر.. فذهبت أصف كل التفاصيل من الصغيرة إلى الكبيرة، حتى لا يحدث أي التباس أو أدنى خطاء يمكنه أن يوقعني ويوقعه في حفرة كبيرة وإحراج أشد..

• أجابني عمي وقد فلتت عليه ضحكة.. أحسست إنها أصابتني بزلزلة.. ثم أعلمني إن “المخدرة” التي تم تجهيزها في الشارع أمام بيتها هي لعرسها.. أمتقع وجهي.. لحظة إرباك اجتاحت كياني.. زادت نبضاتي حتى انعدمت فواصلها وصارت كتيار كهربائي.. عاد قلبي من لديها عصفورا بلا جناح ولا ريش.. عاد يحشرج بصوت مخنوق بغصة ذابحة..

• أحسست بالخجل الأشد يستولى على كياني.. خيبة علقتني فيما يشبه المشنقة.. أردت مواراة وجهي سريعا عندما لم أجد مكانا أدسه فيه.. تمنيت لحظتها حضن أمي لأدس وجهي فيه، وأجهش بالبكاء حتى آخر نشيج، ولكن أمي كانت في البعيد..

• نهضت دون سيقان تقوى على حملي، وأنا أقول: "ليس لي نصيب" فيما كان عمي يطلب استبقائي لأستريح ونتغدّى معا، فيما أنا أستعجل أمري نحو المغادرة، والحزن يعتري بدني والصدمة تكاد تفجر عظامي.. حملت رجلاي التي خارت قواها، ولم تعد تقوى على المشي، وخرجت وأنا مكسورا ومكسوفا ومقطوب الوجه والحاجبين..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
"أم شريف" أعانت وصولي إلى نصفي
احمد سيف حاشد
• "أم شريف" امرأة بلغت سن التقاعد، ولكنها كانت تبدو متينة وكرّاره.. تشبه الصناعة الجرمانية في قوتها وصلابتها.. وجهها الطولي ذو قسمات وملامح جاذبة تجعلها محل رضى وقبول.. متعافية وتتمتع بصحة وافرة.. لديها من الجُرأة ما تبلغ بها أحيانا حد المغامرة.. تجمعني بها صلة قرابة عن طريق بعض الأقارب من جهة أمي.

• وجدتُ ضالتي في "أم شريف".. إنها الصدفة التي أعانتني في الوصول إلى ما أريد.. فعندما ألتقيت بها كنت محبطا للغاية.. أحسست أن بمقدورها أن تساعد نصف وجودي بالعثور على نصفه الآخر الذي لازال في ظهر الغيب.. لذتُ إليها لاعتقادي أنها ستسرّع خطاي من أجل العثور على زوجة مناسبة، بعد فشلي الذريع وحصادي المُر للخيبات المتعاقبة..

• قلت لها:
- يا أم شريف.. أنا احتاجك.. أعتقد أنك تستطيعين مساعدتي أكثر من أي شخص آخر.. أنتِ "الكمندوز" الذي أراهن عليه.. أنت الإنزال المظلي الذي أعول عليه في الوصول إلى ما لا أستطيع الوصول إليه.. بإمكاني أن أعبر من خلالك الأبواب والغرف المغلقة.. أدخل البيوت التي لم أستطع الدخول إليها.. أنت جسر عبوري أتجاوز بك ما أستصعبه.. أصل من خلالك إلى فتاة أحلامي التي لطالما رمتها، وأخفقتُ في الوصول إليها..
يا أم شريف.. أتوق إلى فتاة جميلة وفقيرة وطيبة لأتزوجها.. لا أهتم كثيرا إن كانت تعمل أو لا تعمل.. لا أكترث إن كانت تقرأ أو لا تقرأ.. أهم شيء لدي أن تكون فتاة جميلة، ولديها الاستعداد أن تعيش ظروفي كيفما كانت، وتعبر معي وادي الجحيم دون حذاء إن أقتضى الحال.. أريد فتاة وفيّة تشاركني وجودي حتى آخر العمر..

• أبدت أم شريف استعدادها الجم واستجابتها المتحمسة والمجملة لما طلبتُ منها، وصرتُ أصحبها معي في غزواتي.. سرية استطلاعي ومفرزتي المتقدمة.. عندما أكلفها بمهمة مهما كانت صعبة وشاقة كانت تؤدّيها بنجاح وجسارة فذه.. انطلاقها عند تنفيذ بعض المهام كانت تشبه الصاروخ وهو ينطلق إلى هدفه.. هكذا كنت أشيد فيها وامتداحها من باب التشبيه وضرب المثل مع الفارق..

• وفي مرحلة من مراحل البحث عن شريكة حياتي شعرتُ أني استنفذت حيلتي، وبديتُ مثل ذلك "الهندي" الذي من شدة ما يعيشه من فقر وطفر يعود ويفتش سجلات جده لعله يجد على الغير دينا مهملا لصالح جده؛ فيذهب يبحث عن المديونيات، ويقوم بتحصيلها.. إنه مثال مع الفارق أيضا.. فتشتُ في ذاكرتي القصيّة.. وعصرت ذهني عشر مرات.. وتذكرتُ وجود أختين ينضحان بالجمال الذي يسلب العقول ويستولي على الوجدان.. عرفتهن قاصرات قبل سنوات حالما كنت أسكن عند عمي فريد في "دار سعد"..

- قلت لأم شريف:
الأن لاشك أن الزهرتين قد بلغتا سن الزواج.. لعل أجد نصيبي في إحداهن.. ربما القدر يعوضني عمّا فاتني من فرص وما طال من انتظار، ويجبر ما لحقني من عذابات وما أصابني من خيبات كثار.. إنهن جميلات يجبرن مصابي مهما بلغ.. جمال ينافس بعضه، ومفاتن تتملك القلوب وتسلب الألباب..

• وعندما سألتني أم شريف عمّا إذا كنت أعرف بيتهن، سارعتُ بالإجابة: نعم؛ ثم صحبتها معي حتى وصلنا باب العمارة، وأطلقتها في المهمة، بعد أن أرأتها الباحة القريبة التي سأنتظر فيها..

• كان قلبي يرجف ويوجف في انتظار طال.. قلق يغلي على موقد نار.. احتدام بين توقعي لخبر سار ومفرح، ينازعه بشدة خوف يبلغ حد الهلع من خيبة أخرى إن أصابتني ستكون فوق بلوغها صادمة تزلزل كياني وتهدهُ إلى آخره.. وجدتُ نفسي في انتظاري بين سقف توقعاتي العالي، وقاع صلد يُحتمل سقوطي عليه من برج مشيّد..

• لم أعد قادرا على ضبط إيقاعات نبضي السريع.. خرج قلبي عن السيطرة.. شعرت بوجود فجوة داخلي تشبه المغارة، وفراغ يتكور في صدري يكبر ويتسع.. قلق واضطراب يزداد ويشتد على روحي الممزقة.. إحساس يخامرني مع كل دقيقة من الوقت تمر أشبه بعربة مجرورة بثمانية وعشرين حصان تمر سنابكها على جسدي المنهك بالبحث والانتظار الذي طال..

• كلما تمادى الوقت أجد نفسي أدور وأذرع المكان الذي أقف عليه طولا وعرضا.. أنتظر الرد بفارغ الصبر.. أتوقع وأفترض وأتكهن.. أزداد اضطرابا كلما طال الانتظار أكثر..

• كنت أسأل نفسي وأتوجس:
- ماذا يا ترى يتحدثون كل هذا الوقت؟! هل أم شريف أحسنت العرض كما يجب؟! هل ارتابوا بقواها العقلية؟! لماذا لا ينادوني إن أرادوا التعرف على شخصي؟! هل أخبرتهم أم شريف بالمكان الذي أقف عليه؟! هل عاينوني من ثقب صغير أو من تحت ستارة النافذة؟! هل شاهدوا حركاتي القلقة ودوراني وذرعي للمكان، فاستمرأوا المشاهدة؛ ليخلصوا إلى الشك بسلامة قواي العقلية والذهنية؟! لماذا لا يدعونني لأثبت لهم أن قواي العقلية سليمة ومعافاة، وإن اعتراها بعض الضيق والإرباك والقلق؟! كانت الأسئلة تتزاحم، ورأسي يكاد ينفجر، فيما الانتظار لازال يطول ويضخ مزيدا من الأسئلة الأكثر قلقا..

• خرجت أم شريف من المنزل وفي صحبتها فتاة أظنها في سن العاشرة أو أكثر بقليل.. كان المفترض أن تأتيني أم شريف وتخبرني بالنتيجة، غير أنها رأتني
في باحتي دون أن تعرني بالا، بل تجاهلتني على نحو غريب، ومضت منقادة كمسحورة خلف الفتاة الصغيرة.. غرقت في استغرابي وحيرتي!! لم أعد أفهم ماذا الذي يحدث؟! تبعتهما وكانت عيناي مصوبة نحوهما وتقتفي أثرهما، فيما قدماي تتخلف عني وكأني أسحب شجرة..

• دخلن إلى شارع فرعي فقير وقصير وغير متسع.. فيه ضوضاء وحركة وأطفال صغار.. تبعتهما بحذر وبمسافة أكبر.. شاهدت الفتاة وأم شريف يدخلان إحدى البيوت المتواضعة.. زدتُ غرقاً في حيرتي وذهولي دون أن أفهم ما الذي يحدث؟! ولماذا تجري الأمور على ذلك النحو؟! بديت غاضبا من أم شريف لأنها لم تكشف لي عند خروجها عمّا حدث!! لم تُفهمني إلى ماذا آل أمري؟! وماذا بخصوص من أتيت لأجلهن؟!

• كان عليّ الانتظار حتى تخرج أم شريف من البيت الأخير الذي ولجته لأسألها عمّا حدث ويحدث، وقد بدأ الغضب يغل ويحتدم في صدري.. وبعد قرابة النصف ساعة ـ وهي فترة بالنسبة لي كانت طويلة وقلقها أشد ـ خرجت من البيت بمفردها.. حاولت أكظم غيضي لأسمع أي نثرة قد حدثت دون علمي.. وما أن وصلت إلى عندي أجابتني باقتضاب وعجل:
- ما لك نصيب في البنات التي تشتي واحده منهن.. الكبيرة تزوجت، والصغيرة مخطوبة..

قلت لها: وليش تتأخرين مادام ليس لي نصيب.. "كلمة ورد غطاها".. أيش جلستي تفعلي كل هذا الوقت بدون فائدة..
- أجابت: جلسنا نتكلم عن بنت دلتني عليها "أم البنات".. ثم ارسلت معي الصغيرة، ودخلتُ أشوف البنت ما شاء الله عليها..

قلت لها: يعني خطبتي لي واحده ما شفتهاش.. ماعرفهاش.. أعجبتك أنتِ.. أنا ماعرفيش حتى بصورة..
- قالت: البنت حلوة وصغيرة ويتيمة بتعجبك.. أني فقط شاورت عليها.. أمها لم تكن موجودة.. قالوا أخوها مات، وراحت بيت الميت، وما بتعود من بيت الميت إلا بعد أسبوع.. عندما تجي سوف يردوا لي جواب..

قلت لها وهواجسي تهاجمني من كل صوب:
ما أدراني إنها جميلة؟! كيف أركن على عيونك؟! أبي شاف أمي ثم ذهب يطلب يدها من أهلها.. كان هذا قبل ثلاثين سنة، وأنا اليوم أطلب يد بنت ما شفتها!! هذه قده يانصيب!! أنا لا أعرفها وهي لا تعرفني.. لم يحدث هذا حتى في زمن جدي!!!

• أحسست أني قد وقعت في ورطة تكاد تكون غلطة العمر.. أتحرق وأشتاط على نفسي في داخلي.. أحاول أكظم غيظي وما يعتمل فيني من غضب.. شرر يتطاير منه إلى خارجي..
قلت لها:
"غلطة الشاطر بعشر" .. من قال لي أصطحب معي مجنونة؟! كم فيني هبالة وخفة عقل!! أين هذه الكلية التي تعلمتُ فيها، وعاد اسمها كلية الحقوق.. والله ما استاهل حتّى بصلة..
فردت أم شريف وقد بدأ غيضها يفيض:
- إذا ما تريدها عادي.. نحن لا خطبنا ولا تزوجنا.. نحن شاورنا بس.. وهم ماردوا.. قالوا لما تعود الأم لنا خبر..

• عادت أم شريف أدراجها، وبقيت أنا أحاول أن أرى الفتاة بأي طريقة، فيما لازالت كلمات أم شريف ترن في مسامعي " بنت ما شاء الله عليها.. حلوه وصغيرة ويتيمة" أثارت تلك الكلمات جماح فضولي.. جعلتني أكثر شغفا لأن أراها.. يومها صلت وجلت في الشارع ولكني لم أراها.. حاولت أمر من أمام بابها مرات عديدة، ولكنها لم تخرج ولم تطل برأسها.. عدتُ مرهقا، ولكن مع إرهاقي ليلتها لم أنم.. عشت ليلا أستعجل صبحه الذي تأخر.. وما أن أشرق الصبح حتى غادرت مكان إقامتي في "القلوعة" نحو بيتها في دار سعد.. أصريتُ أن أراها قبل أن أبدأ بأي خطوة أخرى..

• وفي اليوم الثاني لم تأت الساعة التاسعة صباحا إلا وكنت أنتظرها في مكان يسمح لي أن أرى الدخول والخروج من باب بيتها.. وبعد ساعات رأيت فتاة تكنس وتكرع الكنيس إلى الخارج.. هرعت نحوها.. استطعت أن أشاهدها وهي أيضا شاهدتني.. عدت كرة أخرى فأحسست أنها هي، فيما هي أيضا أحست أنني هو..

• غمرتني سعادة بطول وعرض السماء.. كدت أصرخ مثل أرخميدس "وجدتها.. وجدتها" كدت أطير من الفرح فوق السحاب.. صار حلمي أمام عيوني يقول لي: أنا هنا مُد يداك..

• بات الأمل أكبر مني، فيما اليأس الذي ظل يلاحقني وكاد في الأمس أن يدركني صار مهزوما ومكسورا يتلاشى إلى زوال.. باتت مقولة ناظم حكمت تدق باب قلبي وهي تردد "أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد" خُسراني بات معوضا، وما أصابني من فادح الخيبات صار مجبورا ومملوء بالعافية.. إنها صدفة القدر.. صدفة عثوري على نصف وجودي الذي كاد يتحول إلى مستحيل.. شكرا.. شكراً يا أم شريف..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
تغاريد غير مشفرة 1 - 18
(1)
من المهم أن تسحق مخاوفك..
اعترف..
اتصالح مع نفسك
اسقط كل ما لديهم من ورق..
وافهم من يعتقد أنه سوف يستغل نقاط ضعفك ومخاوفك ليستعبدك
ان الأحرار لا يستعبدون..
أخبرهم أن بإمكانك أن تحويل مخاوفك إلى قوة إن سحقتها..
انتصر على مخاوفك حتى وإن طالك بعض الضرر
"الرصاصة التي لم تصبك تقويك"
ستظل تهزمهم..
والأهم أن يكون ضميرك دوما دليلك إلى ما تريد..
أنك الأنقى والأصدق والأشجع حتى وإن حاصرتك قذارات العالم من كل جانب..
كن عظيما بنفسك رغم أنف حقارة العالم حتى وإن اجتمعت عليك كلها..

(2)
صدق من قال والقائل مجهول:
"نحن نعيش في أسوأ عصر في التاريخ
نحن وسط أقذر مجموعة بشرية
وجدت على الاطلاق"

(3)
لقد بتنا نرى ونسمع ونتألم
نعيش اللحظة بتفاصيلها الحقيرة
بتنا نفهم.. وان تفهم أكثر
يعني أنك صرت فائضا عن الحاجة بل يجب أن تموت

(4)
السفير البريطاني: نحن قريبون من نهاية الحرب في اليمن
قريبون يعني سنة أخرى حرب
وذلك حتى تتمكن بريطانيا وأخواتها من استكمال تقسيم اليمن
ما كذب من قال الاستعمار البغيض

(5)
حقارة العالم تتفرج ونحن نُقتل ونموت ونُغرق..

(6)
يبدو أن موانينا ليست معطلة فقط
ولكن أيضا مفخخة
وجاهزة
إلى أن يحتاج العدو تفجيرها

(7)
الجميع يتعرّى ومن لا يتعرّى سيتم نزع جلده، بل وعورته أيضا التي سيتم نشرها على الجميع سيظل التعرّي مستمرا حتى يصيروا هياكل عظمية أو رميم في متحف يشرح مراحل التعري والبشاعة التي رافقتها حتى صيرتها رميم أتحدث عن النخب السياسية المرتهنة وملحقاتها التي ستوصلنا نحن والوطن إلى خبر كان

(8)
من تقسيم الحصص
إلى تقسيم الوطن
إلى تقاسمه..
رحلة انتهت بنا إلى الجحيم الوخيم

(9)
نريد وقف الحروب على اليمن
نريد وقف الحروب في اليمن
لا نريد تشكيل حكومات..

(10)
ما حدث ويحدث جرائم مؤكدة
تُرتكب بصيغ متعددة
بحق الوطن

(11)
ألا يبرر الفقر الجائح هذا التعري الذي تقع عليه العيون..
كيف يرون التعري حتى وإن كان بحجم حلمة ثدي أنثى
أو حرف اشتياق يكسر رتابة الحياة التي صيروها تشبه الموت..
ولا يرون هذا الكون المتعري
وهذا الفقر الجائح..
والمجاعة التي تتسع كل يوم .
رابط المنشور هنا

(12)
ونحن في العشرين عام من الألفية الثالثة لا توجد لدى السلطة التشريعية في اليمن وهي السلطة الرقابية الأولى نظام محاسبي، بل حتى سجلات محاسبية على النحو الذي يجب..
علما أن (النظام المحاسبي ) في اليمن يعود إلى ما يزيد عن 2500 عام
اليمنيون ابتكروا الدورة المستندية المحاسبية في ذلك التاريخ..
فيما مجلسنا التشريعي اليوم لازال يشكو عدم وجود نظام محاسبي..
إنه الفساد والتخلف الذي ينيخ بثقله على كاهل هذا المجلس، واستمرار تكريسه من قبل سلطة الأمر الواقع..

(13)
مرتب
أنت لا تجيد الحساب..
أو أنك لا تعاني..
أو تعاني الغباء
أنت تستلم صدقة أو فتات..
أنت تنزف ولكنك لا تعي إلى أي حد قد نزفت
أنت تعاني الغياب
وعيك مفقود أو يعاني الدوار
إن كنت لا تستلم
أنت ميت ولكن..
تنتظر أن توارى الثرى
أو تأكل بقاياك الضباع..

(14)
حروب التسويات والتقاسم والمحاصصة..
والحروب الصغيرة المؤجلة..
والنزيف المستمر..
حروب رسم الحدود الداخلية على حساب الوطن الكبير..
لم تعد تضيف شيئا غير مزيد من إضاعة الوقت وهزيمة الوطن..

(15)
فطنا يباع ويُنهب كل يوم
ونحن نتقاتل بشراسة وحميّة
فيما نعيش أزمة مشتقات خانقة
نتناحر وننتحر
نختنق بقدر ما نقتتل
وبقدر ما ينهبون، نحن لا نعترض
نشتريه من السوق السوداء
بما يزيد أربعة أضعاف قيمته
فقدنا إحساسنا
وفقدنا كل الحواس
هذا بعض ما تصنعه الحروب التي لا يريدون لها أن تنتهي.

(16)
بعد شهر من الحظر الظالم أعود وأقول لكم:
الفيسبوك وسيلة تواصل اجتماعي غير مأمونة..
يجب أن تحفظوا ما تكتبونه في الفيس في مكان غيره حتى لا ينتهي ما تكتبوه بسنين طوال خلال لحظة شيطانية..
واعلموا أن الحسابات في الفيس مهددة بالإغلاق والمصادرة..

أقول هذا بعد أن تم إغلاق حسابي السابق ولي فيه أكثر من 58 ألف متابع مضى عليه أكثر من ست سنوات على الأرجح

وصفحة يمنات التي كان لديها أكثر من مليونين متابع ومليونين معجب عمرها اثناء عشر عام وفجأة وكأنها لم تكن.. تم اغلاقها للأبد..

الذباب الإلكتروني التابعة للسلطات أو الجهات والسلطات الممولة للجيوش الإلكترونية هي من تتحكم بمن يبقى ومن يجب أن يرحل عنه.. من خلال البلاغات

كما أن هناك جهات أمنية للسلطات تستطيع اختراق وحذف الاصدقاء وتقليل عدد مشاهديه بوسائل شتّى.. وهذا ما علمته من إحدى المصادر الرفيعة..

تعلمت بكلفة وخسارة أظنها فادحة على شخص مثلي.. فتعلموا أنتم بكلفة أقل واستفيدوا مما مررت به..

لقد لجأت لتوثيق ما أنشر وبعضها لانتشار ما أنشر بوسائل التواصل الاجتماعي الأخرى وهي أفضل وفي الأسوأ أقل ضررا..

1- التويتر
2- الوتس
3- التلجرام


(17)
نريد أولا تغيير "الصلاحي"
عاقل حارة القبة الخضراء
راحوا غيروا محمد البخيتي
وعينوه محافظ لذمار


(18)
من رسالة الأديب ال
روسي العظيم دوستويفسكي من سجنه لأخيه:
“إذا لم يُسمح لي في الكتابة فأظن أنني سوف أموت، وخير لي من ذلك أن أسجن خمسة عشر عاما ويكون في يدي قلم”
...
كثير من النقاد يقولون:
اعترافات جان جاك روسو
أصدق من اعترافات القديس أوغسطين
"أم شريف" أعانت وصولي إلى نصفي
احمد سيف حاشد
• "أم شريف" امرأة بلغت سن التقاعد، ولكنها كانت تبدو متينة وكرّاره.. تشبه الصناعة الجرمانية في قوتها وصلابتها.. وجهها الطولي ذو قسمات وملامح جاذبة تجعلها محل رضى وقبول.. متعافية وتتمتع بصحة وافرة.. لديها من الجُرأة ما تبلغ بها أحيانا حد المغامرة.. تجمعني بها صلة قرابة عن طريق بعض الأقارب من جهة أمي.

• وجدتُ ضالتي في "أم شريف".. إنها الصدفة التي أعانتني في الوصول إلى ما أريد.. فعندما ألتقيت بها كنت محبطا للغاية.. أحسست أن بمقدورها أن تساعد نصف وجودي بالعثور على نصفه الآخر الذي لازال في ظهر الغيب.. لذتُ إليها لاعتقادي أنها ستسرّع خطاي من أجل العثور على زوجة مناسبة، بعد فشلي الذريع وحصادي المُر للخيبات المتعاقبة..

• قلت لها:
- يا أم شريف.. أنا احتاجك.. أعتقد أنك تستطيعين مساعدتي أكثر من أي شخص آخر.. أنتِ "الكمندوز" الذي أراهن عليه.. أنت الإنزال المظلي الذي أعول عليه في الوصول إلى ما لا أستطيع الوصول إليه.. بإمكاني أن أعبر من خلالك الأبواب والغرف المغلقة.. أدخل البيوت التي لم أستطع الدخول إليها.. أنت جسر عبوري أتجاوز بك ما أستصعبه.. أصل من خلالك إلى فتاة أحلامي التي لطالما رمتها، وأخفقتُ في الوصول إليها..
يا أم شريف.. أتوق إلى فتاة جميلة وفقيرة وطيبة لأتزوجها.. لا أهتم كثيرا إن كانت تعمل أو لا تعمل.. لا أكترث إن كانت تقرأ أو لا تقرأ.. أهم شيء لدي أن تكون فتاة جميلة، ولديها الاستعداد أن تعيش ظروفي كيفما كانت، وتعبر معي وادي الجحيم دون حذاء إن أقتضى الحال.. أريد فتاة وفيّة تشاركني وجودي حتى آخر العمر..

• أبدت أم شريف استعدادها الجم واستجابتها المتحمسة والمجملة لما طلبتُ منها، وصرتُ أصحبها معي في غزواتي.. سرية استطلاعي ومفرزتي المتقدمة.. عندما أكلفها بمهمة مهما كانت صعبة وشاقة كانت تؤدّيها بنجاح وجسارة فذه.. انطلاقها عند تنفيذ بعض المهام كانت تشبه الصاروخ وهو ينطلق إلى هدفه.. هكذا كنت أشيد فيها وامتداحها من باب التشبيه وضرب المثل مع الفارق..

• وفي مرحلة من مراحل البحث عن شريكة حياتي شعرتُ أني استنفذت حيلتي، وبديتُ مثل ذلك "الهندي" الذي من شدة ما يعيشه من فقر وطفر يعود ويفتش سجلات جده لعله يجد على الغير دينا مهملا لصالح جده؛ فيذهب يبحث عن المديونيات، ويقوم بتحصيلها.. إنه مثال مع الفارق أيضا.. فتشتُ في ذاكرتي القصيّة.. وعصرت ذهني عشر مرات.. وتذكرتُ وجود أختين ينضحان بالجمال الذي يسلب العقول ويستولي على الوجدان.. عرفتهن قاصرات قبل سنوات حالما كنت أسكن عند عمي فريد في "دار سعد"..

- قلت لأم شريف:
الأن لاشك أن الزهرتين قد بلغتا سن الزواج.. لعل أجد نصيبي في إحداهن.. ربما القدر يعوضني عمّا فاتني من فرص وما طال من انتظار، ويجبر ما لحقني من عذابات وما أصابني من خيبات كثار.. إنهن جميلات يجبرن مصابي مهما بلغ.. جمال ينافس بعضه، ومفاتن تتملك القلوب وتسلب الألباب..

• وعندما سألتني أم شريف عمّا إذا كنت أعرف بيتهن، سارعتُ بالإجابة: نعم؛ ثم صحبتها معي حتى وصلنا باب العمارة، وأطلقتها في المهمة، بعد أن أرأتها الباحة القريبة التي سأنتظر فيها..

• كان قلبي يرجف ويوجف في انتظار طال.. قلق يغلي على موقد نار.. احتدام بين توقعي لخبر سار ومفرح، ينازعه بشدة خوف يبلغ حد الهلع من خيبة أخرى إن أصابتني ستكون فوق بلوغها صادمة تزلزل كياني وتهدهُ إلى آخره.. وجدتُ نفسي في انتظاري بين سقف توقعاتي العالي، وقاع صلد يُحتمل سقوطي عليه من برج مشيّد..

• لم أعد قادرا على ضبط إيقاعات نبضي السريع.. خرج قلبي عن السيطرة.. شعرت بوجود فجوة داخلي تشبه المغارة، وفراغ يتكور في صدري يكبر ويتسع.. قلق واضطراب يزداد ويشتد على روحي الممزقة.. إحساس يخامرني مع كل دقيقة من الوقت تمر أشبه بعربة مجرورة بثمانية وعشرين حصان تمر سنابكها على جسدي المنهك بالبحث والانتظار الذي طال..

• كلما تمادى الوقت أجد نفسي أدور وأذرع المكان الذي أقف عليه طولا وعرضا.. أنتظر الرد بفارغ الصبر.. أتوقع وأفترض وأتكهن.. أزداد اضطرابا كلما طال الانتظار أكثر..

• كنت أسأل نفسي وأتوجس:
- ماذا يا ترى يتحدثون كل هذا الوقت؟! هل أم شريف أحسنت العرض كما يجب؟! هل ارتابوا بقواها العقلية؟! لماذا لا ينادوني إن أرادوا التعرف على شخصي؟! هل أخبرتهم أم شريف بالمكان الذي أقف عليه؟! هل عاينوني من ثقب صغير أو من تحت ستارة النافذة؟! هل شاهدوا حركاتي القلقة ودوراني وذرعي للمكان، فاستمرأوا المشاهدة؛ ليخلصوا إلى الشك بسلامة قواي العقلية والذهنية؟! لماذا لا يدعونني لأثبت لهم أن قواي العقلية سليمة ومعافاة، وإن اعتراها بعض الضيق والإرباك والقلق؟! كانت الأسئلة تتزاحم، ورأسي يكاد ينفجر، فيما الانتظار لازال يطول ويضخ مزيدا من الأسئلة الأكثر قلقا..

• خرجت أم شريف من المنزل وفي صحبتها فتاة أظنها في سن العاشرة أو أكثر بقليل.. كان المفترض أن تأتيني أم شريف وتخبرني بالنتيجة، غير أنها رأتني
في باحتي دون أن تعرني بالا، بل تجاهلتني على نحو غريب، ومضت منقادة كمسحورة خلف الفتاة الصغيرة.. غرقت في استغرابي وحيرتي!! لم أعد أفهم ماذا الذي يحدث؟! تبعتهما وكانت عيناي مصوبة نحوهما وتقتفي أثرهما، فيما قدماي تتخلف عني وكأني أسحب شجرة..

• دخلن إلى شارع فرعي فقير وقصير وغير متسع.. فيه ضوضاء وحركة وأطفال صغار.. تبعتهما بحذر وبمسافة أكبر.. شاهدت الفتاة وأم شريف يدخلان إحدى البيوت المتواضعة.. زدتُ غرقاً في حيرتي وذهولي دون أن أفهم ما الذي يحدث؟! ولماذا تجري الأمور على ذلك النحو؟! بديت غاضبا من أم شريف لأنها لم تكشف لي عند خروجها عمّا حدث!! لم تُفهمني إلى ماذا آل أمري؟! وماذا بخصوص من أتيت لأجلهن؟!

• كان عليّ الانتظار حتى تخرج أم شريف من البيت الأخير الذي ولجته لأسألها عمّا حدث ويحدث، وقد بدأ الغضب يغل ويحتدم في صدري.. وبعد قرابة النصف ساعة ـ وهي فترة بالنسبة لي كانت طويلة وقلقها أشد ـ خرجت من البيت بمفردها.. حاولت أكظم غيضي لأسمع أي نثرة قد حدثت دون علمي.. وما أن وصلت إلى عندي أجابتني باقتضاب وعجل:
- ما لك نصيب في البنات التي تشتي واحده منهن.. الكبيرة تزوجت، والصغيرة مخطوبة..

قلت لها: وليش تتأخرين مادام ليس لي نصيب.. "كلمة ورد غطاها".. أيش جلستي تفعلي كل هذا الوقت بدون فائدة..
- أجابت: جلسنا نتكلم عن بنت دلتني عليها "أم البنات".. ثم ارسلت معي الصغيرة، ودخلتُ أشوف البنت ما شاء الله عليها..

قلت لها: يعني خطبتي لي واحده ما شفتهاش.. ماعرفهاش.. أعجبتك أنتِ.. أنا ماعرفيش حتى بصورة..
- قالت: البنت حلوة وصغيرة ويتيمة بتعجبك.. أني فقط شاورت عليها.. أمها لم تكن موجودة.. قالوا أخوها مات، وراحت بيت الميت، وما بتعود من بيت الميت إلا بعد أسبوع.. عندما تجي سوف يردوا لي جواب..

قلت لها وهواجسي تهاجمني من كل صوب:
ما أدراني إنها جميلة؟! كيف أركن على عيونك؟! أبي شاف أمي ثم ذهب يطلب يدها من أهلها.. كان هذا قبل ثلاثين سنة، وأنا اليوم أطلب يد بنت ما شفتها!! هذه قده يانصيب!! أنا لا أعرفها وهي لا تعرفني.. لم يحدث هذا حتى في زمن جدي!!!

• أحسست أني قد وقعت في ورطة تكاد تكون غلطة العمر.. أتحرق وأشتاط على نفسي في داخلي.. أحاول أكظم غيظي وما يعتمل فيني من غضب.. شرر يتطاير منه إلى خارجي..
قلت لها:
"غلطة الشاطر بعشر" .. من قال لي أصطحب معي مجنونة؟! كم فيني هبالة وخفة عقل!! أين هذه الكلية التي تعلمتُ فيها، وعاد اسمها كلية الحقوق.. والله ما استاهل حتّى بصلة..
فردت أم شريف وقد بدأ غيضها يفيض:
- إذا ما تريدها عادي.. نحن لا خطبنا ولا تزوجنا.. نحن شاورنا بس.. وهم ماردوا.. قالوا لما تعود الأم لنا خبر..

• عادت أم شريف أدراجها، وبقيت أنا أحاول أن أرى الفتاة بأي طريقة، فيما لازالت كلمات أم شريف ترن في مسامعي " بنت ما شاء الله عليها.. حلوه وصغيرة ويتيمة" أثارت تلك الكلمات جماح فضولي.. جعلتني أكثر شغفا لأن أراها.. يومها صلت وجلت في الشارع ولكني لم أراها.. حاولت أمر من أمام بابها مرات عديدة، ولكنها لم تخرج ولم تطل برأسها.. عدتُ مرهقا، ولكن مع إرهاقي ليلتها لم أنم.. عشت ليلا أستعجل صبحه الذي تأخر.. وما أن أشرق الصبح حتى غادرت مكان إقامتي في "القلوعة" نحو بيتها في دار سعد.. أصريتُ أن أراها قبل أن أبدأ بأي خطوة أخرى..

• وفي اليوم الثاني لم تأت الساعة التاسعة صباحا إلا وكنت أنتظرها في مكان يسمح لي أن أرى الدخول والخروج من باب بيتها.. وبعد ساعات رأيت فتاة تكنس وتكرع الكنيس إلى الخارج.. هرعت نحوها.. استطعت أن أشاهدها وهي أيضا شاهدتني.. عدت كرة أخرى فأحسست أنها هي، فيما هي أيضا أحست أنني هو..

• غمرتني سعادة بطول وعرض السماء.. كدت أصرخ مثل أرخميدس "وجدتها.. وجدتها" كدت أطير من الفرح فوق السحاب.. صار حلمي أمام عيوني يقول لي: أنا هنا مُد يداك..

• بات الأمل أكبر مني، فيما اليأس الذي ظل يلاحقني وكاد في الأمس أن يدركني صار مهزوما ومكسورا يتلاشى إلى زوال.. باتت مقولة ناظم حكمت تدق باب قلبي وهي تردد "أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد" خُسراني بات معوضا، وما أصابني من فادح الخيبات صار مجبورا ومملوء بالعافية.. إنها صدفة القدر.. صدفة عثوري على نصف وجودي الذي كاد يتحول إلى مستحيل.. شكرا.. شكراً يا أم شريف..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
أسبوع قبل الخطوبة!
رأيتها وجزمتُ للوهلة الأولى أنها هي لا غيرها، بإشراقها وجمالها وإحساسي بها، بيد أن شك جاس فيني وأعترى.. هاجس إلى نفسي تسرّب وأنتشر.. تشربت منه ظنوني، وأيقظ الشك فيني الأسئلة!! ما أحوج حاصد الخيبات لقلب مطمئن.. لطالما صادني البخت النحوس.. كم خانني الظن، وكم قلَب الحظ في وجهي المجن، كم هويت في مهاوي مُهلكات، وكم وقعتُ في درب الهوى "رأسا على عقب"!

رأيتها في المرة الأولى بأم عيني الاثنتين.. أبهرتني وأحيت الروح فيني من جديد.. عاد الأمل بعد إخفاق ويأس.. رغم هذا بقى في صدري هاجس يجوس.. ربما عيوني كانت مجهدة.. عدتُ وعاودتُ النظر.. فركتُ عيوني ودعكتها بالأصابع واليدين..
سألتُ نفسي: هل ما رأيتُ هي الحقيقة ذاتها؟!
- أجابتني الحقيقة: ذلك ما رأيت..
رغم هذا ظل شيء داخلي يشدّني دون علمي ما هو!! اعتلال أم اختلال واضطراب؟! أخشى التوهم والسراب.. نفسي تريد أن تُصدّق بعد يأس وانتظار!! بلغت الدهشة مبلغا لا يصدّق.. وجب التحقُق والتأكد مرتين..

بعد العيان كرّتين، قالت عيوني "هي.. هي.." طرتُ بأجنحة الفرح فوق السِّحاب.. حلّقتُ في السماء البعيدة والفضاءات الرحيبة.. ثقب من الخوف تسلل إلى نفسي وقال:
- ان تهوي من فوق السحاب أنت مقتُولا لا محالة..
قلت لنفسي: لن أترك باب موارب، أو التباس يربك أم الحواس.. لزم التحرّي وسد كل الشقوق والثقوب والثغور.. لزم التحرر من كل الظنون والمخاوف.. حيرتي أشغلتني.. يا أم شريف بددي حيرة نازعتني بين أكسوم ومارب..

ذهبتُ لأم شريف وأنا مثقلا بالهم الثقيل.. أريد أن أقطع شكّي باليقين.. استجديتها ورجوتها أن تستفيض بما رأت، وما تنامى للمسامع، وتزيل عن فهمي كل لبس محتمل.

أفهمتني وأكدت أنها هي لا سواها.. أختها الكبرى متزوجه، والثانية لازالت صغيرة.. فصلّت أوصافها، وأنا مُنهمك أطابق.. أعاير قولها على ما رأيتُ.. ثم صرتُ أنا من يصف، وهي تردد وتؤكد كل فقرة مرتين.. تلألأت في وجهي العبوس وهج الشموس البهيجة.. كل شيء بات فيني يضيء ويحتفل..

سعادتي باتت أكبر من وجودي.. ورغم هذا لازال فيني إحساس يجوس!! هاجس في داخلي يحثني لتكبير الحقيقة.. لابد للقلب الشغوف أن يطمئن ويستريح.. قلبي الذي عاش أكواما وأكوانا من الخيبة الثقيلة.. كل حيرة يجب أن تبددها الحقيقة.. أو هكذا صرتُ أفكُر عندما أجد الوجود لا يتسع لفرحتي الكبيرة!!

***

في اليوم الثالث ذهبت لعمتي أم عبده فريد، اليد التي التقطت خروجي لواجهة الوجودِ.. طلبت منها أن تزرها وتقريني تفاصيل الكتاب.. تتأكد بأم عينها مما رأيت.. يومها كانت تقيم في مكان قريب من بيت الفتاة.. أعطيتها أوصافها وما سمعتُ من الكلام؛ عادت بتأكيد المؤكد.. ثم قالت: آية في الحسن ومعجزة قلما جاد بمثلهما الزمان..
استمعت لها بألف اذن وألف لهفة، ولم أكف عن السؤال!! بديت كطفل في سن الحضانة.. فاغر الفاه مبلودا بدهشة، وأحيانا أعيد السؤال وأكرره كأبله.. يا لقلة حيلتي!! وعندنا تفرغ ما لديها من الكلام، أرجوها بأن تستمر ولا تتم.. أريد أن أوغل في السماع حتى أسكر..

كنت أرجوها أن تُسهب وتُكثر في الحديث.. وأكثر من الكثير إن تأتّى.. تستفيض إن كان ممكن.. تعرّقتُ وشعرتُ بحرج أشد وهي ترسل نصف ابتسامة حالما سألتها عن نهود من رأيت.. بديتُ كرضيع أو دون سن الفطام.. ظللت مشدوها إلى فمها وهي تُحدّث عمن أحب.. معلقا أنا على الشفة كأجراس الكنيسة.. وشغفي بمعرفة المزيد لا ينتهي، ولا يحط له رحال..

أسبوع كامل صرت فيه أحلم أكثر مما أنام.. أستقطع من يقظتي أكثر من بواقيها.. أنشغل بحلمي أكثر من وقت انشغالاتي، حتى بديتُ حالما على حلم أستغرق صاحبه ألف مرة.. نهاية الأسبوع أرسلتُ رسولي لأكمل ما بديت، غير أن أم الفتاة استمهلت للسؤال عنّي حتى لا تجازف.. وكان عليّ الانتظار..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
بعض تفاصيل حياتي
تغاريد غير مشفرة
ضد تطبيع القتل والتمزيق
احمد سيف حاشد (1)
أنجزوا مهمة تمزيق الأوطان
وإشعال التناحر والاقتتال فيها
وبدأوا في التطبيع المريح والمعلن
وقد صار كل شيئا جاهز لما بعده

(2)
صار كل شيء مُغتصب
وطننا
شعبنا
أطفالنا
ثرواتنا
مستقبلنا
مغتصبين في الوطن
في السجون
في العمل
في المنفى
في المهجر
في الحدود
وفيما يقع تحت سلطات أمراء الحرب

(3)
التطبيع الذي يأتي
على حساب قتلنا وحصارنا
وتمزيق شعوبنا وأوطاننا
واستباحة إنسانيتنا أرفضه ولا أطيقه

(4)
تطبيع الإمارات
أضعفت "حلفاءها" في اليمن وليبيا
وقوّت خصومهم

(5)
مشكلة القوى السياسية اليمنية أو معظمها
لا تضع مسافة بينها وبين داعميها
ولا يتحولون أشخاصها إلى أتباع فقط
وإنما يتحولون إلى واقيات ذكرية
وزائد على هذا تتنافس فيما بينها لتقديم المزيد من التنازل لتكون الأفضل..
إنه حال أكثر من مؤسف

(6)
تستطيع أن ترى مدى العهر السياسي القائم
ونحن نرى الأتباع
بل "العبيد"
وهم يتجادلون ويدافعون عن أصنامهم بحق وباطل

(7)
هناك من القوى السياسية اليمنية
من تريد أوطان أصغر من البحرين بالنسبة للسعودية
وأقل من البحرين بالنسبة للإمارات

(8)
في هذا السقوط المخزي والمريع
هناك يمنيين رخاص ومبتذلين
يريدون أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك
واحد أراد أن يعطيني ألف قرش
وأراد أن يقرشني معه بفلم ملون
والله لا أدردح بكم أمام العالم وأقول كل حاجة..
قدنا ذاك المجنون والمنتحر..