أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
"الشارك" أو غيره من المشروبات والمنشطات؛ فلماذا لا يكون الحليب أحدى الخيارات المتاحة؟! لماذا لا ندع الحليب يقول في القات كلمته؟!! الحليب بالتأكيد أطيب وأفيد من كل ما سبق.. لو يجربوه ربما بعضهم يتشيعون له، ويسعون لتعميمه، واستلذاذ حضرته، وطز في المطري الذي يريدنا عنوة أن ننهل من منهله، ويريد أن يستبد علينا بمقيله..

• وأمضي في الحديث مع نفسي: لا بأس فيما عزمت عليه.. لن أعر بالا لمن يحاول أن يحبطني، ويشعرني أنني مارقا عن القوم، وخارجاً عن الجماعة.. الإيغال في الرتابة موت.. الخروج والتمرد مهم لكسر رتابة تدوم وملل لا يغادر، وطالما أستلذ طعم القات مع الحليب فلماذا أمنع نفسي عنه؟!!

• من خلال خبرتي المتواضعة ربما وجدت أن هناك انسجام تام بين القات والحليب.. القات يحلّق بي في مدارات وفضاءات واسعه، وكما هو باعث على النشاط والروقان، فهو أيضا مستساغا مع الحليب، ويعطيه نكهة مميزة، وبقدر ما يجعل القات متماسك في فمي، فأنه يفكك مرارته المقذعة، ويمنحني طعم مستساغ ونكهة مرغوبة، بالإضافة أنه يمتص قدر من سموم القات، ويبطن المعدة بما يقئها ويقيئك، أو يخفف من نسبة تلك السموم، فضلا عن أن الحليب غني بالكالسيوم، وربما يحمي أسناننا من التسوس والاسوداد.. هكذا ربما فكرت!

• عزمني زميلي الودود والمرح علي المعمري عضو مجلس النواب إلى مقيله.. حضرت المقيل وكان مجلسه ممتلئ بالحاضرين.. على الأرجح كان هذا في العام 2004 كما أذكر أنه كان حاضرا ذلك المجلس نايف حسان ونبيل سبيع، وكان برفقتي مجيد الشعبي، وربما أيضا أحمد محمد سيف الشعبي..

شعرت أنه لا يكفيني في هذا المقيل قرطاسين من الحليب، ولكن كان عليّ أن لا أهدر وقار كرّسه عرف من عهد بعيد، ومع ذلك يبقى شيء في نفسي لكسر ما هو بال ومعتاد.. لازلت أذكر يومها رشقات سهام بعض الناظرين في المجلس، وأنا مخزِّن وأمص الحليب من قرطاسه بأنبوب رفيع، حتى بديت أمام نفسي، وكأنني اختبر صبر الحضور في المقيل..

• شعرت أن هناك من يكبت ويكتم في صدره الصغير ضحكة بحجم المكان، ولكن أصحابها حاولوا قمعها في مشهد الحضور، ورموني بدلا عنها ببعض الأسئلة، مثل: كيف طعم القات مع الحليب؟!!! فيما أنا أجيبهم: رائع.. كنت أتخيل إجابتي مناسبة لعرض اعلاني اكثر روعة .. في الحقيقة كنت أشعر أن أصحاب مصانع الحليب قد فاتهم عرض إعلاني مميز، وربما كان الناس قد هجروا الماء مع القات من زمن بعيد، واستبدلوه بالحليب وربما الأجبان..

أقلعت عن الحليب مع القات بعد إدمان، لاعتقادي أنه يؤدّي إلى تخليق الحجارة في الكليتين، رغم أنني كنت قد اخترقت أحيانا هذا الإقلاع بخلط الحليب مع العسل في قنينة اطويها بجريده وربل.. ولكن حتى هذه العادة أقلعت عنها، ليس فقط لارتفاع سعر العسل، ولكن لأنني لاحظت غمز ولمز لا أفهمه حتى نصحني صديق لي بالقول: أن البعض يذهب به الظن إلى حد بعيد.. ومع ذلك أجد نفسي أعود إلى هذا وذاك في بعض الأحايين من باب الحنين، وربما التمرد وكسر العادة، ولأنني لا أحب قطيعة الأبد، وأترك بعض النهايات مفتوحة للرجوع..

• غير أن هناك لازال ما هو طريف في الأمر.. في إحدى الأيام وفيما كنت أنا ونبيل الحسام مع ابن عمي عبده فريد في سيارته، وكان مقررا التخزين والمقيل مع بعض.. نزل من السيارة إلى الدكان؛ وقال:
- أيش تشتو أجيب لكم مع القات؟
فطلب احدنا حليب فيما طلب الآخر مانجو..
إلا أن صاحبنا لم يتمالك أعصابه، وأعادنا إلى البيت فورا وقال:
- انزلوا من السيارة.. أنا تغديت.. باروّح أرقد..
ولنا وقفة قادمة مع المانجو والقات..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


(11)
قات مع المانجو
• بالصدفة أكتشفت أن القات يصلح تعاطيه مع المانجو، بديت أمام نفسي مثل ذلك الراعي الذي أكتشف القات صدفة في الحبشة، حالما كان يتأمل أغنامه كل يوم، وهي تخزن وتستجر من تلك الشجرة، ثم تغرق بكيف عميق، واستمتاع بالغ، وتبدي تصرفات عجيبة ولافتة..

• اتجهنا للمقيل عند المحامي الكبير والممتلئ أحمد علي الوادعي.. وفي الطريق كان بمعيتي القاضي عبدالوهاب قطران، والمحامي نجيب الحاج، ومروان الحاج، وأظن حضر ذلك المقيل القاضي أحمد الخبي، والأخ نبيل الحسام.. توقفنا أمام البقالة القريبة من المكان، وطلبتُ من مروان أن ينزل من السيارة التي تقلنا، يشتري ماء، وعلبتين "راوخ عنب"، وعاجلناه كي لا يتأخر، ويبدو إن بوابة البقالة كانت مكتظة بالزبائن..

• طلب مروان من ابن البقالة ـ وهو لا زال حديث سن وقاصر ـ ماء و"راوخ عنب"، غير أن الولد الصغير جلب "راوخ مانجو"، وحشاها في الكيس تحت قناني الماء.. وعاد مروان بنصف الطلب، وفي نصفه على غير ما طلبنا، ولم نتبين ذلك إلا في غمرة المقيل.

• بدأت بتناول القات وفتحت العلبة، ورشفت منها، دون أن أعي أن ما أشربه مع القات هو "مانجو".. كنت مندمج بالحديث والفرفشة، وكلما أوغلت في المقيل، بدأت أكثر كيفا وروقة..

• في حضرت محامينا الجليل أحمد علي الوادعي، كان الحديث متدفقا وشيقا، وفيه ما يشد اهتمام الجميع.. نضحك وننكت وننتقل
من حديث إلى آخر كالنحل.. كنت مستمتعا أيضا بشرب المانجو مع القات، وصارت مرارة القات المقذعة تستدعي مزيد من الرشف وتذوّق المانجو..

• لم انتبه ولم ينتبه مروان ولا الحاضرين لما حدث.. قاسمني القاضي قطران المانجو، وأخذ العلبة الأخرى، وفتحها ورشف منها ثم قال:
- أيش هذا يا خبره .. مانجو مع القات..

قالها؛ وهو يقرأ المكتوب بالخط العريض على العلبة "مانجو" .. فيما كان مروان يبرر فعلته بمعاجلتنا له، وأتهم الابن الصغير الذي باع له بالغباء.. ضحك الجميع، فيما وضع القاضي قطران العلبة على طاولته بعد رشفة واحدة، بدأ لي إنها لم تعجبه، وما يناسبني لا يناسبه.. وأن طبائعنا في هكذا أمور متصادمة..

• فكرت أنني سآخذ علبة المانجو الثانية من أمام قطران، بمجرد أن أنتهي من العلبة الأولى .. لقد راق لي المانجو مع القات، بل هو أفضل من أي مشروب أخر، سبق أن تعاطيته من قبل مع القات..

• وفي أوج المقيل، وعندما شاهدني قطران بمزاج رائق ومستمتع، بدأ هو ومن غير إعلان بشرب المانجو من العلبة التي كان قد عبر عن امتعاضه حيالها من الرشفة الأولى.. وما أن تهتُ قليلا في الحديث والاستماع، كان القاضي قطران قد أفرغ علبة المانجو، برشفات متعاقبة لم يفصلها عن بعضها غير قليل من الوقت.. لقد أحتسى قطران علبة المانجو كاملة مع القات، وأنا في غفلة منه، وقبل أن أناصف علبتي.. بل وتفاجأت بعلبة قطران قد صارت فارغة مرمية في السلة التي أمامه..
- قلت له باستغراب واندهاش: شربتها !!
- قال: شفتك منسجم ومستمتع وأنت تشربها مع القات، فعلت مثلك..
وقهقه الجميع..

• أستمر مشروبي المفضل مع القات (راوخ مانجو) وسط امتعاض ودهشة المخزنين، إن كان في مقيلي أو مقيل بعض الأصدقاء، بل وأحيانا أفعلها في مقايل الغرباء بدم بارد وأعصاب هادئة..

• كثيرون هم الذين يبدون اندهاشهم غير مصدقين لما أفعله.. بعضهم لا يستطيعون كبت أو منع أسئلتهم الوثابة أو التي تتدفق باستغراب واندهاش.. قات ومانجو مرة واحدة .. بدأتُ أمام البعض أشبه بمن يجمع بين عسرين، قات لا أجيد تعاطيه كما يجب، ومانجو مع القات لا جامع بينهما ولا صلة..

• حاولت أن أقنع البعض إن يجربوا ما أفعله، وأغريهم برواق المزاج والكيف من الرشفة الأولى التي يمكنها أن تستدرجهم إلى آخر قطرة في العلبة..

• بعد مدة شاهدت بعض أصدقائي يخزنون مع المانجو، وأحيانا أشتري أنا المانجو، وهم يستحسنونه مع القات.. وفي آخر مرة وجدت أن القاضي قطران والقاضي الخبي مخزنين قات ويحتسون معه المانجو الطازج.. قفشتهم وهم يفعلون ذلك، وبديت أكثر اندهاشا مما أراه، فيما كان القاضي الخبي يضحك ويعقب بالقول: نحن على مذهب قائدنا..

• أقلعت عن احتساء المانجو مع القات، ليس بسبب ظني وتوهمي أنها هي من أبرزت كرشي إلى الأمام كثيرا، بل وأيضا كونها سلعة تأتينا من السعودية، أو عبر وكيلها السعودي، وربما هذا ما دفع بعض أصدقائي إلى تناول المانجو الطازج مع القات.. ثم تم إضافة سبب ثالث منعنا من المضي فيما نحن عليه هو غلاء القات والحليب والمانجو..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(12)
ما نخشاه يوما أن لا نجد حتى الأحذية
• عندما لا أخزن القات بسبب الطفر أو نحوه من الأسباب، أعيش حالة ضجر وتوتر وعصبية في مواعيد القات نهارا، ويستمر حتى أعود إلى القات أو أقلع عنه بعد معاناة تستمر أياما متتالية.. عند النوم أعيش ليال متواليات من صراع مخيف ومحتدم مع الجاثوم.. كوابيس تصل بي إلى حافة الموت ومشارف الهلاك، أو هكذا أشعر.. عالم من الرعب والهلع والشلل المخيف.. أشعر وكأنني أعيش أهوال يوم القيامة.. أظن أن الدول التي صنفت القات ضمن الممنوعات كانت محقة إلى حد بعيد..

• إن أشد ما أعانيه عند انقطاع القات، الكوابيس والضجر والتوتر والعصبية.. إنها تحكي حالة إدمان بوجه ما، وإن كنت أصنف نفسي فيما دونها، ولم أكن أتوقع يوما أنني سأصل إليها.. حاولت مقاومة الكوابيس عندما أجدها تداهمني، وأكون في حالة نصف يقظة، وذلك من خلال حالة أخرى في سياق مختلف، وعلى نحو اعتراضي، بحيث تخرجني إلى عالم يختلف عن كوابيس القات.. إنها حالة تحضير الأرواح التي قرأت عنها من قبل، وحاولت في يوما ما تطبيقها وكدت أن أجن.. وقد وجدتها في بعض الأحيان لا كلها تنجح في إخراجي من عالم الكوابيس المرعب إلى عالم أخف وطأة..

• نصحني أحدهم بشرب الماء عندما تأتي الكوابيس، لأن الماء يخفف من لزوجة الدم، ويجنبني ما هو أشد، فوجدت الماء لا يمنع من استمرار الكوابيس، وإن كان يخفف من شعوري بالشلل، ربما على نحو يصير أخف من ذي قبل..

• نصحني أحدهم بوضع قطعة حديد تحت رأسي، وأشار لي بوضع سكين، ونصحني آخر بوضع المسدس تحت رأسي حالما أنام، ولكن كلما حدث هو تبدل في الحالة.. صارت كوابيس مختلفة وغريبة، لم تخرجني من رعبي الذي أعيشه.. نصحني آخرون أن أقرأ ما تيسر من القرآن قبل النوم، ولكن حتى هذا لم ينقذني، ولم يخفف مما أنا فيه..

• صديقي نبيل الحسام هو من نصحني أن أضع "صندل" تحت رأسي عندما أنقطع عن القات،
وأريد أن أنام لأتجنب الكوابيس.. نظرت إلى صندله ثم إلى جزمتي، ولأنه لا يوجد لدي "صندل"، لم أعرف هل "الجزمة" تقوم بالمهمة أم لا!!

• عند بداية دخولي إلى النوم داهمتني الكوابيس من كل اتجاه.. حالة رعب كادت تتحول إلى شلل.. حالة جعلتني أنهض وروحي تكاد تخرج من فمي، وأنفاسي تتصاعد، وصدري ينتفخ وينكمش تحت وطأة من الهلع .. وجدت الأمر لا يستحمل تجربه "الجزمة".. يجب البحث عن "صندل" كما قال صديقي نبيل.. إنها تجربة مجرِّب، ولا تتسع تلك اللحظة لتجريب ما هو محتمل أن يخيب..

• أخذت فردة "صندل" ابني فادي، و وضعتها تحت رأسي، وعليها غطاء من القماش.. وملت نحو النوم، وغمرني النوم العميق.. نمت دون أن أشعر ما يعكر نومي.. قمت وأنا أتسأل: يا إلهي.. ما هي علاقة الحذاء بالكوابيس.. من الذي أكتشف هذا الأمر.. وكيف تم اكتشافه..؟ّ!!! فيما ابني قام يبحث عن صندله، ووجد فردة صندله مفقودة، وأعياه البحث عنها، وكاد لا يذهب إلى معهده، قبل أن أبلغه أن فردة صندلة موجودة تحت رأسي، فيما كانت علامة الدهشة والغرابة تبدو على وجوه من سمعني، وأنا أدل ابني على طريق فردة حذاءه المفقودة..

• وفي اليوم الثاني تكرر الأمر، وقمت أبحث عن "صندل" ولم أجد صندل ابني فادي.. ووجدت "صندل" أخرى، ظننتها فردة "صندل" ابني يُسري، وطويتها بالقماش، ونمت عليها، وليلتها لم أغرق في النوم فقط، ولكن حلمت أحلام وردية جميلة لا تأتيني إلا نادرا..

• حلمت أنني أرقص ـ وأنا لا أجيد الرقص ـ نعم .. حلمت أنني أرقص رقصة تونسية نشطة وفي غاية الروعة والخفة والجمال ومن تراقصني كانت أجمل.. الحقيقة لا أدري أصل تلك الرقصة هل هي بالضبط تونسية أم مغربية أم تركية!! ولكن الغريب أنني رقصتها على إيقاع دقة البرع.. وكان في الجوار القريب يرقصون البرع..

• وعندما استيقظت بعد نوم هنيء وأحلام سعيدة ووردية، أردت أن أعيد فردة الحذاء إلى صالة المكان، الذي أخذتها منه، ولكن تفاجأت إن فردة "الصندل" لم تكن لأبني، بل كانت فردة "صندل" "الحمام"..

• إنه اكتشاف تم أيضا بالصدفة، وذلك لمن يريد أحلام سعيدة.. أرأيتم إلى أين أوصلنا الإدمان على القات؟!! لقد أوصلنا إلى أن نتوسد أحذية "الحمام".. أوصلنا إلى ما لم يصله مدمن الخمر.. ولكن "علمائنا" المسلمين أو بعضهم أجازوا القات وحرموا "البيرة" بل وحرموا معها الغناء، وكرهوه حتى ونحن نتوسد الأحذية.. حرموا الرقص، وكسروا آلات العود والموسيقى، ولم يبقوا لنا غير الحرب ورقصة البرع.. ما صرت أخشاه أن يأتي يوما ولم يعد لدينا حتّى أحذية نتوسدها أو نمشي بها!!

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(13)
مائة يوم من مقاطعة القات
• كان قرار مقاطعتي للقات مائة يوم في البداية لأسباب اقتصادية، وظروف معيشية، ورغم حصول عدة انفراجات في هذا الجانب، خلال تلك المدة، إلا أنني مضيت في اكمال ما كنت قد بدأته، وعقدت العزم عليه، ونجحت في أن أكون بمستوى ما اتخذته من قرار، وبمستوى ما فيه من تحدّي، واختبار عصامية أزعم إنني كنت بمستواها، أو هي دوني، أو هكذا أعتقد.

• أن لا تخزِّن في اليمن ليس بالأمر السهل، ولاسيما إن كنت شخصية اجتماعية.. كما أن جهاد النفس محل صعوبة، أو على الأقل لا يخلوا من معاناة، في أمر تكتشف أنك أدمنته، وأعتدت عليه.. تشعر حال مقاطعته بوحدتك وغربتك في مجتمع لا يجتمع في الغالب والأعم إلا بالقات والمقيل.. مجتمع يأثر الشخص فيه أن يجوع على أن لا يخزن.. تشعر بعزلة يضربها عليك أفراده وجماعاته.. تشعر أن المحيط يضيّق عليك كل متسع.. تحس على نحو كثيف بالحصار والاختناق وكتم الأنفاس.,

• شعرت أنني مللت نفسي، وأن الوقت قد صار هو الآخر يملّني.. حاولت أتعلم الرقص لطرد السأم والملل وتخفيف الوزن، ولكن دون فائدة، حاولت أتعلم الرقص مع صديقي عبد الجبار الحاج الذي كان مقيما لدينا أنداك، فكان كل ما حولنا يضحك علينا، حتى أصابتنا العين..

• لكسر حالة الملل والسأم، حاولت أن أرافق أصدقائي المخزنين في مقايلهم، وفي مقايل بعض الأصدقاء، ومعي ثلاجة صغيرة اشتريتها لهذا الغرض أملأها بالشاهي المترع بالجوز والهيل والقرنفل، لأقضي معهم بيقظة بعض وقت المقيل، ولكن بدا لي الأمر بائخا، وربما مُستهجنا من قبل البعض..

• كان قبول أصدقائي لقراري الحاسم لا يخلوا من عدم الرضى، بل صارحني أحدهم بأنني خُربت بعد قراري هذا.. كنت أشعر إنهم يتجشمون قرارا فرضته على نفسي عنوة، وفرضت نتائجه عليهم أيضا باستثناء صديقين، أحدهم تطرف فيه وزاد على المائة يوم ما شاء الله، وهو القاضي أحمد الخبي، فيما صديقي أنس دماج القباطي ماثلني بقرار المقاطعة للقات مائة يوم، وتعلّم معي الرقص أيضا دون أن نجيد ما تعلمناه.

• وفي إطار محاولتي كسر عزلتي قررت مع أصدقائي حضور مقيل بمعيتهم لدى مجلس أستاذنا د. سيف العسلي.. كان جميع الحاضرين بمستوى عالي من اليقظة والتوقد والحضور.. فيما كنت ثقيلا وغاطسا في خمول عميق.. كنت أبلها حتى في تصنّع الحضور..

• كنت أشاهد زملائي شعلة من التيقظ والتفاعل والتقاط كل شارد
بياضها واسعا ومنتظما.. مهما يكون لديك من حق وصواب، تبدو أمام المجتمع المخزّن، وكأنك شاذ عن القاعدة، ومنحرف عن السلوك، وأشبه من يعمد إلى شق عصاء الجماعة، وكثيرا ما تحس أنك صرت تثقل مقيل الحضور وتعكر مزاجهم وروقهم..

• مجتمع لا زال يرى السوية على غير حقيقتها.. مجتمع يرى السوية تنطبق مع المثل الشعبي "مع أخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب" .. مجتمع خرج يوما يتظاهر ويدعو بموت من يطالب بمنع زراعة القات حيث هتف:
"عبدالفتاح يا كهنوت .. الغرسة تحيا وانت تموت".

• مجتمع كهذا يحتاج إلى ثورة حقيقية، وسلطة قوية تجعل من قرارها قدرا لا تتنازل عنه.. سلطة لديها إرادة من فولاذ، لا أقل منه.. وهذا يبدو أنه غير متأتي على الأقل في المدى المنظور، إن لم يكن على المدى البعيد.. لا يوجد بطل في المشهد الراهن يمكن التعويل عليه.. حتى من لا يخزن القات في السلطة بات يستحسن ضرائبه.. المتدينون إن وجدوا أنفسهم في السلطة فإنهم يأثرون مال الضرائب على أي قرار يمنعه.. برجماتية فجة حتى في عقول المتدينين إن وجدوا أنفسهم في سدة الحكم..

• ربما اليأس في تغيير من هذا القبيل يجعل البعض يرى إن القيامة تبدو أقرب بكثير من أن يُمنع القات في اليمن.. غير أني أستدرك وأقول، ما قاله أحد الأبطال ضد الاحتلال، وربما في ذروة يأسه : "لا يأس مع الحياه".. الحياة اليائسة موت طويل وهزيمة ساحقة بلا نهاية.. علينا أن نغالب اليأس بالأمل الذي لا يموت.. لن نموت طالما لازال فينا أمل لا يموت..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ة وواردة، فيما كنت في زاويتي أخوض معاركي بانعزالية مع جحافل النعاس، أحاول أستعين بالهيل والقرنفل لأشحذ بعض اليقظة، ولكن دون جدوى.. كنت أفرك عيوني وأقرص جفوني، وأدعك وجهي بيدي، لأنفض عنه نعاسي، فأفشل فشلا ذريعا، أحاول أن أعض بأسناني على أصبعي حتى تكاد تنفطر دما؛ لأقاوم نعاسي دون نجاح أو فائدة..

• كان النعاس يداهمني كأمواج بحر هائج.. أمواج النعاس تغمرني مرارا.. تعبث بي كعشب في شاطئه، خارت قواه تحت صفعات وضربات أمواجه المتلاطمه والمتعاقبه.. الأمواج تدومه ذهابا وإيابا.. مستسلما في حراكه وحركته، منتظرا انتهاء الوقت وموعد الجزر والرواح.. ثم ألعن نفسي على ما بديت فيه من حال غير مُرضي، وقد أحس بنعاسي جميع من في المقيل..

• كنت أحاول أقضي قليلا من الوقت في محاولة كسر عزلتي، وأذهب لمقيل صديقي محمد المقالح القريب من مكان إقامتي، ولكنني قاطعته بعد أن شبّه حالي في المقيل بالعريان وسط مكتسين، فيما عبد الفتاح حيدرة شبّه حالي بالمخبر وسط جمع المقيل، فيما ثالث شبهه الحال بشيخ يصّلي وسط بار يكتظ بالسكارى الثملين.. فقررت مقاطعة مقيله حتى تمر المائة يوم.

• شعرت أن رفاقي تضرروا إلى حد بعيد، وربما تفرقوا قليلا، وتشتت شملهم، وأول مرة تشهد علاقتي بأحدهم قطيعة كادت تطول ولا تعود.. اكتشفت أن قرار مقاطعة القات في اليمن ليس سهلا، وليس مستطابا، وكان أصدقائي يستعجلون مرور المائة يوم، وما لقاء يمر إلا ويسألون عمّا بقي من أيام مقاطعة القات.. شعرت أن القرار قد نال منهم أكثر مما نال منّي.

• حدث لدى أصدقائي هايل القاعدي وعبد الوهاب قطران ونجيب الحاج، خطأ في حساب المائة يوم، فاستعجلوها قبل أن تنتهي بثلاث أيام، وفاجئوني بتجهيز احتفالية انقضى المائة يوم قبل انقضاءها بثلاث أيام، فاحتفلنا مقدما دون أن أعفي نفسي من استكمال المائة يوم بالكمال والتمام دون اختلال أو نقصان.

• ومع ذلك كانت المائة يوم فترة إنجاز في حياتي لم أتعلم فيها فقط الرقص بمستوى محدود أجمع فيها ثلاث رقصات في واحدة مع خطوات التنظيم العسكرية، ولكن تعلمت أيضا العصامية ومجاهدة النفس، وأنجزت كتابة ثلاثة وستون حلقة من أرشيف الذاكرة، بحجم كتاب، وما كنت أنجز هذا لولا مقاطعة القات، والصرامة المتشددة في تنفيذ القرار.. إنه قرار المائة يوم مقاطعة للقات..

• في 20 اكتوبر 2018 بدأت تنفيذ قرار مقاطعة القات لأنتهي منه في 28 يناير 2019 تجربة استغرقت مائة يوم، وبقدر ما كانت حافلة بالعصامية والمعاناة، أظنها كانت حافلة بالنجاح والإنجاز..

• وفي عام 2020 ومع انتشار وباء كورونا قررت مقاطعة القات مرة ثانية والتفرغ للكتابة، ومراجعة ما سبق نشره إلا ما كان في حكم النادر أو الاضطراري أو التمرد عند السأم..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(14)
شهادة لصالح "المقاوته"
• أسواق القات تكتظ بالأيمان وبالناس.. البائع يمطر كل زبون بألف يمين وألف طلاق.. دون دمار دون خراب.. لغو يتلاشى كسراب.. لا فتوى فيها ولا كفارة.. الويل لك ثم الويل من إيمان يتخاتل.. يتلصص في لج الليل.. الويل لك من وعد بات هلام، وعهد منكوث بالعيب الأسود، وأيمانا يطلقها الأوغاد.. غبي من صدّقها..

• أيمان القات مهما ثقلت وطأتها، وصارت بثقل الفيل.. مهما انتفخت كالمنطاد، تظل أخف وزنا من خف حنين.. أخف من وزن الريشة.. ودون بألف من ويل الساسة، ومكر الأوغاد.. مكر الأوغاد أشد غلظة.. أيمان القات بنا أرأف بالمليون من فتوى شيخ المعبد.. رب المعبد شيخ زاهد، يلقي بكوارثه كرما في وجه الناس..

• يمين الوغد سحقا مَحقا لا ترى منه يوما خيرا.. مهما كدّيت بحثا عنه حد الإعياء ونفاذ الصبر.. لن تجد إلا خيبة بطعم العلقم.. يطلق وعدا دون وفاء.. يعاهدك ثم يخون في نفس اللحظة، قبل جفاف الحبر على البردة، وإن طال باله وتعمم حكمة، يمكر فيك قبل مرور العام.. إن ضيّقت عليه أشربك السم الناقع.. عهد الوغد لا تأمنه مهما غلظ العهد.. الوغد مملوء بالمكر.. مسكونا بالحيلة يتنفس كذبه.. يمين الوغد مقلب ماكر لن تنساه مهما حييت..

• ندم يحتلك من رأسك إلى قاع القدمين، يستولي على ما بقي لك من عمر وحياة وحنين.. الوغد ينفذ من أنفاسك ومسامك.. يخترقك كالريح الأحمر.. يتسلل تحت الجلد، ولا ينفك منك إلا ونزع عنك اللحم وعض العظم.. يقتاتك بشهية ضبع جائع..

• ندم جم يلاحقك كلعنة فرعون.. سم لا يكف عن السريان حتى تغادر روحك خلف الشمس.. معروفك مهما تراكم، وبدا مثل الجبل الضخم، يسحقه الوغد من أول يوم، بل من أول وهلة تمكين..

• وعد الوغد آنية زهور.. يرميها من سابع دور عند أول طلعة.. الوغد تصافحه وتستودعه سلاما باسم الرب، بعد ثوان تتفقد نفسك، وعمّا ضاع منك، وما الناقص فيك؛ فتجد نفسك مقطوع اليد، ومهدود الحيل..

• أيمان القات تنفذ من جعبة صاحبها في ساعة أو بعض من يوم.. تتلاشى كخيط دخان.. ولا كأن ما كان في يوم كان.. أيمان الأوغاد والساسة دستورية بتأصيل "فقهي ديني"، فيها سلب للروح.. تجريف للوعي وغصب متوحش لإرادة أمة باسم الله..

الوغد يتسلل تقية.. يخدعُنا حتى يصل البغية.. يصير الطُهر مبغى.. يتفرعن أكثر من فرعون.. يقتل.. ينهب.. يفسد.. يتصحّر في وجه ماء الوجه.. يتصخّر في وجه الناس.. يسود الأمة بالغلبة..

• يأخذ ما يعجبه من الدستور، وما راق له من القانون.. وتحتفل الحشرات بطنين وضجيج يتلاشى فيها صوتك.. ينفجر بوجهك .. يحطم أضلاعك.. يهرس عظام الساقين.. يكسر رأسك نصفين.. وإن كان القانون ضده، رماه في مزبلة نتنة؛ وقال: هذا القانون رميم.. هذا القانون دميم لا يعنينا البتة..

• يبدأ صلواته باسم الله.. يأخذ دارك في الدنيا، ويهديك قبرا بدلا عنه.. بات القبر أغلى من بيت في الزمن الماضي.. لا يظفر بالقبر إلا من كان سعيدا صاحب مال أو ضربة حظ.. يوعدك بالدار الثاني، ويمنّ الشعب بأماني الوهمٍ، والغيث سرابا في أنفاس القيض..

• تشتعل الصحراء بالحر وبالقيض.. تنتصر الخدعة تلو الخدعة، ويحتفل المنتصرون بالنصر الجاثم على حطام وأحلام الناس.. تقع من رأسك، وترتطم بالصخر الصلد.. تكتشفَ كم كنت غبيا.. كم كنتَ ضريرا.. كم بلغ فيك العته.. عليك يا هذا أن لا تُخدع، وأن لا تُلدغ من جحر الأفعى أكثر من مرّة..

• أيمان الباعة للقات، تتم دون تلفزة أو بث.. دون خسران أو ضجة إعلام.. الساسة على أطياف البث يبثون الدجل اليومي والناس جياع.. كل سياسي يدعمه ألف سفيه يقتات من مال الشعب، ونزيف الروح.. التعيين لا ينفذ دون يمين.. الساسة بألف قناع، وأوغاد الأوغاد من الخلف يديرون المشهد عن بُعد بالموت وبالدم والغلبة..

• البائع يحلف أيمانه ويده على قاته أو دونه، فيما الساسة يضعون أيديهم على القرآن.. يحلفون الأيمان دون أن تهتز لأحدهم شعرة.. كفوفا تثقلها الآثام، وأصابع مجذومة تتمطى كتاب الله.. تُستعمر بالدين وبالغلظة.. شعب مغدور بإيمان الساسة وفتاوى رجال الدين..
***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(15)
ضد القات
• القات بالنسبة لي لا يتعدى في المقام الأول جانبه الاجتماعي، حيث لا أجد فيه أكثر من كونه جامع للرفقة والصداقة، وكذا المجاملات، وما تفرضه بعض اللقاءات، والمناسبات الاجتماعية، كما أجده أحيانا أو في أغلب الأحيان، وسيلة للتعارف، واللقاء عن قرب مع أي شخص آنس إليه، أو أحبذ اللقاء به، أو أجد ما يدفعني للقاء به في مقيل..

• ويأتي هذا مني تمشيا مع البيئة والمحيط، والوسط الاجتماعي السائد، والأعراف والتقاليد التي يمكنها ـ إن قررت مصادمتها وحدك ـ أن تعزلك أو تبعدك، عن واقع مجتمع يفرض عليك شروطه..

• أشعر أن هذا الواقع المجتمعي يشبه إلى حد بعيد، فرض سلطة الأمر الواقع للواقع الذي تريد، والتي تفرض عليك خياراتها، وبالمقابل تصادر أو تضيِّق حقك في الاختيار، طالما أنت محكوم بواقع يفرض عليك شروطه وخياراته، في لحظة لازالت ظروف التغيير فيها عصيّة أو غائبة..

• ومع ذلك استطيع التخلّص من عادة مضغ القات في أي وقت بعد معاناة لن تطول، وقد جربتها مرتين ونجحت.. وسأكون مدعوما بإرادة ووعي لازمين وكافيين أن أتخلص من هذه العادة التي أعتدتها في مجتمع لازال عصي عن التغيير، وأجد نفسي مذعنا له على غرار المثل القائل: "مكرها أخاك لا بطل" .. ومع هذا سأكون إلى جانب أي قرار أو قانون أو سلطة تمنع أو تحد من تعاطي القات في اليمن أو في أي جزء فيها..

• جل المجتمع مدمن قات.. أكثر المجتمع مهوسا بالقات من قاع القدمين حتى قمة الرأس.. صار القات عند الغالبية الهم اليومي الأول.. كثيرون هم الذين يحرصون على أكل سيء، من أجل توفير قات أفضل.. كثيرون هم من باعوا أصواتهم الانتخابية يوما ما بحزمة قات صغيرة ليوم أو أسبوع، ليتلقّوا بعدها لكمات وصفعات عدد من السنين الطوال والعجاف.. كثير هم من ذهبوا إلى محارق الموت من أجل القات، وتلبية قليل من الاحتياج..

• يجري توفير القات بكثير من الحرص والاهتمام من قبل كل سلطات الأمر الواقع وأمراء الحرب للمقاتلين في الجبهات.. هكذا يتم استغلال حاجات الناس وولعهم وإدمانهم على القات لصالح المعركة، وتوظفيه في معظم الجبهات لكسب النصر، ولصالح مزيد من القتال، واشتداد ضراوته، واستمراريته إلى نهاية غير معلومة.. تم إفلاس الجيوب، وقطع المرتبات، وإفقار الجمهور العريض من أجل جعل هذا الجمهور محاطب حرب لا تنتهي..

• إننا نعيش في مجتمع فيه إدمان القات سوية، والذي لا يخزن قات عليه أن يعاني من عزلة المجتمع له، والانطواء عن الأصدقاء والرفقة والناس، ومعاناة الغربة في الوطن، أو يصل الأمر إلى هذا الحد من الشعور والمخاوف..الحقيقة صرنا في ألح الحاجة وأكثر من أي وقت مضى لإعادة النظر والمراجعة لكل قيمنا التي ترسخت على مدى طويل من الوقت، وإعادة تقيمها بجرأة، وهدم التالف منه،ا أو التي ألحقت بالمجتمع الفتك والضرر، واستبدالها بما هو أنسب أو أخف ضررا على المجتمع وأفراده..

• إن حضرت إلى مجلس قات، وأنت لا تخزن، تكسر الكيف، وتسيء إلى مزاج المخزنيين.. إن لم تخزن تبدو في مجلس المخزنيين كندبة شوها في صفحة الوجه "الجميل" أو لطخة سواء جسورة وغير منتظمة، في صفحة كان
حكايتي مع الأشباح
(1)
العجوز الشمطاء
حالما كان عمري بحدود الخمس سنوات كانت أمي تحذرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، ربما هذا القمع هو من دفع طفولتي إلى الفضول، وحب الاستكشاف، والاستمتاع بما أجهله، وكأن طفولتي كانت تريد أن تعرف تفاصيل نفسها في المرآة التي ربما تبدو عالما قائما بذاته؛ عالم المرآة يثير العجب والأسئلة!! وأنا أريد أن اكتشف عوالمي من خلال هذه المرآة، التي صارت في متناول يدي؟!

كيف يبدو وجهي أمام الناس؟!! أريد من المرآة أن تحكي لي ذلك وبوضوح وبأدق التفاصيل.. الآن لا يوجد أحد في حضرتي غير المرآة وخلوتي.. هذا ما يجب اغتنامه، ولا أهدر لحظة منه.. الفضول هو شغف المعرفة، والمنع أعطى للمعرفة قيمة، واستحثاث لحوح للاكتشاف..

اليوم وعمري يشارف الستين أحاول أن أمنطق وجها من طفولتي التي كانت لازالت في حدود عمر الخمس سنين.. وبين هذا العمر وذاك عوالم وأحداث وتفاصيل أشعر أنها من الكثرة لا تتسع لها مجرّة.. وبين الطفولة والكهولة التي أقترب منها رويدا، مدى قطعته كالمسافة من السديم إلى الوجود الكثيف، نحو الكهولة والتلاشي..

كنت أحملق في وجهي بالمرآة.. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، وعلى نحو أستطيع تخيله في أي وقت أريد، وفي أي حال وهيئة أكون فيها.. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة .. ولطالما تمنيت أن يكون الخالق قد خلق لنا عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا وكل الجسد بيسر وسهولة..

عندما وجدت الخلوة و الفراغ و الوقت الكافي لإشباع رغبتي، حدث لي شيئا غريبا لازلت أذكره إلى اليوم.. كنت في الحجرة العليا بدارنا القديم، والذي صار اليوم مهجورا .. كانت الحجرة مسقوف نصفها، و نصفها بدون سقف.. تلك الحجرة نسميها “البرادة”، كان مفرج الدار يتكئ في أحدى زواياها في نصفها المكشوف .. وتبدو تلك الحجرة مؤنسه، وتمنح بعض الشعور بالراحة، أكثر من أي مكان آخر في الدار.

أذكر أن تلك المرآة كانت بمساحة وجهي، أو أكبر من مساحته بقليل.. مستطيلة الشكل في إطار أنيق.. بدت لي الخلوة مع المرآة ستكون ممتعة وسعيدة.. لا أحد معي في الحجرة غيرها.. نحن بقلتنا كثير.. عوالمي التي تخصني، وعالم المرآة القائم بذاته.. لا أذكر تحديدا أين كانت أمي وخالتي وقاطني الدار.. أغلب الظن أنهم كانوا منشغلين في أماكن أخرى من الدار أو خارجه.. الأكيد أنني استغليت غفلة أهلي واستفردت بنفسي مع المرآة.. أريد ضمن ما أريده أن استمتع بخلوتي وبالمرآة التي بحوزتي أكثر وقت متاح وممكن..

كنت أشاهد صورتي في المرآة، وأقلّد حركات الوجوه.. أتجهم، وأتصنع الضحك والبكاء والغضب.. أزم شفتاي و أرخيها.. أغلظها وأخفي نصفها.. أقطب جبيني و أرخيه، واستعجب!! أخرج لساني إلى الأمام كمستفز محاسد، وأقلّبها في كل اتجاه.. أقطب حواجبي وأعقد شفتاي نحو اليمين ونحو اليسار.. أغمز وأحملق.. أفغر فاهي وأغلقه.. أجحض العينين وأضيّقها، وأحدج بها في كل اتجاه.. أهرّج مع نفسي أكثر من مهرّج.. أحاول اكتشف تفاصيل وجهي.. لو وقف ساعتها أحدهم على ما أفعله لأنفجر ضاحكا، و فجر بالضحك طابق الدار الذي كنت أختلي فيه..

بغته ومن غير مقدمات صدمني ما شاهدته في المرآة .. بدا وجهي قد اختطف واستبدل بوجه آخر.. لم يعد الذي في المرآة وجهي الذي أشاهده.. شاهدت وجه غير وجهي يملأ وجه المرآة .. وجه شديد القبح لعجوز شمطاء، بتجاعيد عميقة وكثيرة، كخريطة طبوغرافية معقدة التضاريس وشديدة الانحدارات.. وجه ألقى ي نفسي الرعب والزلزلة، و حفر في ذاكرتي تفاصيله إلى اليوم.. لا استطيع نسيانه ما حييت.. وجه مدرج بالتجاعيد العميقة والمتزاحمة كمدرجات الجبل.. وجه صارم وجهوم ومخيف.. يصعقك بالصدمة والفزع والرعب..

كدت أصرخ.. رميت من يدي المرآة بسرعة الفزع.. خرجت مرعوبا وبسرعة من الحجرة إلى السطح المكشوف المجاور.. خرجت إلى جوار “غرب” الماء المقطرن.. كاد قلبي يقفز مذعورا من قفصي الصدري.. انتابني هلع شديد، كدت معه أفقد عقلي.. تذكرت على إثرها تحذيرات أمي التي كانت تنصحني دوما على عدم إطالة مشاهدة صورتي في المرآة..

الحقيقة لا أدري من أين جاءت أمي بهذه النصيحة..؟! لعلها سمعت بحدوث أشياء مشابهة لما حدث لي؛ كأنها أخبرتني عن فتاة حدث لها مثل هذا الذي حدث لي ولم أكترث.. كنت محظوظا، فيما الفتاة كما قيل لي طار عقلها.. لعل نصيحتها جاء على هكذا مبنى أو سماع .. تجربة بالنسبة لي أقل ما يمكن أن توصف بالمخيفة..

أخبرتني أمي إن ما شاهدته في المرآة هي جنّية، وكدت أجن مما حدث، وكان الجنون أكيد إن أطلت المشاهدة برهة زمن.. وبعد أيام من القطيعة مع المرآة، وبدافع الفضول والتأكد عمّا إذا كنت أستطيع أن أشاهد صورتي في المرآة مرة أخرى أم ستكون القطيعة مع المرآة إلى الأبد.. عدت لأشاهد صورتي بحضور أمي، وكنت أختلس النظر إلى المرآة خلسة وبحذر شديد، لأشاهد ملمح صورتي فيها، فوجدتها أنها صورتي بالفعل، وليست
صورة العجوز، أطمأنت إنني بخير، وإن الدنيا وأنا لا زالنا بسلام..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(2)
جنية عاشقة..
• عندما كنت صغيرا ـ لم أعد أتذكر بأي عمر ـ ربما في الخامسة أو أقل منها أو أكثر بقليل، كنت أخاف، وأعيش رعب الجن والظلام.. أسمع أمي تتحدث عن جن "الداجنة" القريبة من بيت أهلها القديم، وعن نساء الجن اللاتي ضروعهن معطوفين ومسدولين على ظهرهن.. وعن أخوها الذي حاول بكتاب "شمس المعارف" أن يملك الجن، وكاد يجن وهو يسمع ركض الجن على سقف وحدته في "جلب موجر".

• كما كنت اسمع أبي يتحدث عن الجن، ويروي بعض الحكايات عنهم.. الجنية الجميلة الممشوقة القوام التي توقف السيارات في وقت متأخر من الليل في "عقبة عدن"، ثم تركب مع السائق وهي تتضوع عطرا وسحرا، وفيها كلما يجذب ويخدع، ليكتشف السائق في نهاية الأمر إنها برجلي حمار.. وأحيانا تختفي فجأة من السيارة، فينصدم السائق بهذا الاختفاء ويجن.. وحكاية النساء اللاتي على البئر يرشين بالدلى لغرف الماء في حلكة الليل، وهو يسمع الرشاء واللهيف، وما أن يقترب حتى يختفين بغته، فيصاب بالهلع الشديد.. هي حكايات كثيرة كنت أسمع بها كل ما لا يقوى على سماعه طفل بعمري الصغير..

• كنت أرتعد من الخوف.. أتخيل عالم الجن، وتنتابني المخاوف أن ينتزعوني من عالمي الصغير، وعالم أمي الكبير إلى عالم من رعب ومجهول.. كل مفردة في كل حكاية كانت سرعان ما تجد وقعها على وعيي وتحدث فيه زلزلة.. ما يحكوه يرتسم في مخيلتي على نحو سريع ومذهل، وكأنني لاقط بث ، أو رادار سريع الالتقاط لرعب مهول..

• كل تلك الحكايات، كانت تسرح بي إلى البعيد.. كنت وأنا أسمع تلك الحكايات أعيش بذهن طفل، وقلبي الصغير يخفق داخلي، ويدق كالطبل الكبير، ويحتشد في وعيي اللزج كالصمغ ما هو مرعب ومخيف.. وأنا أحاول كتمان مشاعر الخوف التي تزلزلني من الداخل بصمت كتوم.

• كنت أشعر بالوحشة والخوف والهلع وهم يتحدثون عن الجن والشياطين.. كان الظلام يخيفني، وكانت درج دارنا القديم مظلمة، إلا من بصيص نور خافت يتسلل من كوة أو كوتين صغيرتين في الجدار.. كنت عندما أصعد أو أنزل الدرج منفردا، أركض مسرعا كالريح، دون أن ألتفت إلى الوراء، حتى انجو، والحيلولة دون أن تلحقني يد جني أو جنية أو مس شيطان، ربما يختبئ في إحدى الزوايا المعتمة في سلم درج الدار.. عشت وأنا في تلك السن الصغيرة معاناة يومية مع الجن والدرج والظلام..

• وعندما انتقلت إلى دارنا الجديد الذي بني على مراحل، وكان يومها دكانا فوقه ديوان، لازال بابه مكشوفا، ومن دون باب، غير حزمة من الزرب تُنحَى مع الفجر، وتعاد إليه قبل النوم أو بعد المساء بقليل، وفي مدخله كان يوجد مطبخاً صغيراً..

• كنّا يومها ننام في الديوان ونترك الفانوس يضيء على نحو خافت أثناء النوم.. صحيت أنا وأبي مذعورين من الفراش على صوت أمي، وهي تستنجد بأبي وتقول: "خربي خربي.. البندق البندق"..

• لقد شاهدت أمي يدا ترمينا بالحصاء، من جانب قطب الدرج جوار مطبخنا الصغير.. كانت أمي قد لمحت وجه متخفي باللثام.. هرع أبي ببندقيته النصف آلية ووضعه في شقها، وهي تحاول أن تهدئ من روعنا، لنكتشف جميعنا في مسك الختام أنها امرأة رشيقة وجميلة جدا ومغامرة، تلبس في دجى الليل لبس الرجال.. عندما كبرتُ تمنيت أن يكونوا الجن مثلها، وقلت لنفسي: غبي من تردد في الذهاب مع مثل تلك الجميلة..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(3)
مملكة الجن

• كنت أسمع عن خالي الذي فاق طموحه اللامعقول، وحاول اقتحام عالم الجن لا ليكون واحد منهم، بل ليتوج نفسه ملكا عليهم، ويجعلهم له طائعين ومخلصين.. أراد أن لا تعصى أوامره ولا تُرد بحال.. أراد أن يسمع منهم: "شبيك لبيك نحن بين يديك".. أوامره مطاعة من أول وهلة، ومستجابه من اللحظة الأولى، وتنفذ دون تلكؤ أو تردد، ومن غير نقاش أو سؤال.. أراد أن تكون لكل إيماءة تصدر منه ألف حساب.. باختصار أراد أن يكون "سوبرمان" ولكن على نمط ذلك العهد الموجود في المخيال الشعبي..

• كان خالي هذا لا يريد أن يكون وزيرا في مملكتهم، بل يريد أن يكون هو ذات الملك.. أراد امتلاك جميع الجن ليكونوا له عبيدا طائعين.. أراد أن يعيش ملكا في عالم خرافي لا يخترقه ولا يجرؤ بالتفكير به إلا من يملك شجاعة فذة، ورباطة جأش نادرة.. ربما بدا له المستقبل، عالم خرافي يستحق المغامرة.. لا بأس في أمر على هذه الدرجة من الأهمية أن يغامر ويجازف، فأما أن يكون ملكا في عالم الجن، أو مجنونا في عالم البشر..

• ومن "جلب موجر" في الجبل، أراد الانطلاق إلى عالم الجن بكتاب "شمس المعارف"، ليعترش مملكتهم بكتاب.. أراد المغامرة التي تبدأ باستحضار الجن الذي يتبدون في البداية برؤية حشرات وثعابين وحيوانات، ثم تنتهي بثعبان ضخم يبتلع بعضك أو معظمك.. يستعير الجن هنا الكثير من الصور قبل أن تمتلكهم، وتلج عالمهم الخرافي..

• يجب عليك أن تستمر بقراءة الكتاب مهما كانت الخطوب، ومهما أشتد الرعب عليك.. يجب أن تمضي للنهاية لنيل ما تريد.. إنها تجربه ربما بدت أف
يخذلك القرآن يا أستاذ أحمد، بل أنت من خذلت نفسك، واعلم إن القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، أما حرز السبعة العهود فهو شرك وشعوذة، أسأل الله أن يردك إليه ردا جميلا..
* قلت.. ونعم بالله.. هو أيضا مترعا بذكر ربي، وآيات من ذكره الحكيم، ولن أعيد ما جاء في المثل الشعبي الموثّق عند كبارهم: "اقرأ ياسين وبيدك حجر"، ولكن أقول الذي خذلني هو مسيرتكم التي مرّت جنازيرها يوم على جسدي، عندما خرجت أطالب برواتب أكثر من مليون ونصف المليون موظف ومتقاعد، تقطعت بهم السبل، وقُطعت رواتبهم ومصدر عيشهم..

،،،،،،،،،،،،،،،،،

(5)
الشبح الذي أعترض طريقي
• في نهاية سنة أولى على الأرجح من مرحلة الثانوية، سافرت من عدن عائدا إلى القرية عن طريق منطقة "شعب" التي كنّا نرخي فيها الرحال لبعض الوقت لنستريح حتى يأتي الغلس، ثم ننتقل منها إلى قريتنا البعيدة عبر طرق تحتال على نقاط أمن الشمال..

• كانت هناك مزاعم قديمة في ذهني من أيام الطفولة الأولى تحكي أن المنطقة الخالية من السكان في "موجران" تحت الدار الأبيض من جهة الشرق، مسكونة بالأشباح والعفاريت، وقد كان لي في هذا المكان حكاية..

• كان الغلس قد دخل أوجه، وكنت حينها أحمل بيدي مسدسا نوع "تاتا" روسي الصنع، معمرا وجاهزا لإطلاق النار، والتعامل مع أي مفاجأة أو طارئ قد يعترض طريقي في ذلك المكان أو في غيره من أمكنة الطريق.. كان المسدس يعطيني شعورا بقدر من الأمان والثقة الكبيرة بالنفس حتى مع الأشباح التي بات اعتقادي بوجودها يتضاءل، أو صارت معتقداتي بها أقل حدة بكثير من تلك التي كانت تعيش في ذهني أيام طفولتي الأولى..

• فجأة وفي المكان الخالي والتي تكثر فيه مزاعم الأشباح والعفاريت، شاهدت شيئا أسودا.. مميزا يشبه الشبح ظل يكبر.. شبح أكثر سوادا مما حوله.. بدأ لي جسما ضخما يقارب حجم الفيل.. يتوسط الطريق وكأنه جاهزا لاعتراض طريقي، بل أحسست أني وطريقي بتنا مُستهدفين منه..

• أردت أن أنحو نحو اليمين بعيدا عن هذا الذي أشاهده وسط الطريق ملتبسا في الظلام، متجنبا الصدام معه على افتراض وجوده.. تنحيت يمينا في محاذاة الجبل، ولكني شاهدته ينحو معي نحو اليمين، عدت المحاولة على نحو معاكس، في الاتجاه الآخر نحو اليسار، فوجدته أيضا ينحو معي في المقابل نحو اليسار.. إنه يعترض طريقي أينما ملت..

• توجست أكثر وقلت لنفسي: يبدو هذا الشبح الضخم لا يريد لي المرور من ذلك المكان، ولكن لا طريق سواه.. لا معبر الآن غيره ممكن ومتاح.. التقهقر والعودة إلى الوراء من حيث أتيت عار وعيب إلى آخر العمر وبعده.. ماذا أقول لمن أعود إليهم؟! هل أقول عفريت أعترض طريقي؟! هل أقول لهم شبح ردّني من وسط الطريق؟! هل أقول لهم أنني رعديد، أو صرت خائفا وجبانا؟! ثم حتى إن عدت لأبحث عن مسلك آخر بعيد، أظل أمام نفسي جبانا ورعديد.. وأجيب على نفسي بحزم وتحدّي: لن أعود مهما بلغت كلفة المرور..

ثم أن خزنة المسدس محشوة بالرصاص، ورصاصة واحدة قادرة أن تقتل فيل أو على الأقل أن تعوقه.. فما البال والمسدس في خزنته ثمان طلقات، والتاسعة في بطن المسدس، جاهزات للانطلاق، تنتظر ضغطة بسيطة على الزناد، ومتابعة الاطلاق..

• يجب أن أتقدم إلى الأمام ويكون ما يكون.. لا خيار لي إلا التقدم في مواجهة هذا الشبح المريب في مقصده.. أخذت أتقدم نحوه مع وضع من الانحناء والجاهزية لإطلاق الرصاص.. أتقدم رويدا رويدا.. لا تخلوا خطواتي من بعض المخاتلة، ولكن مع التقدم إلى الأمام نحو الذي كان قد تبدّى ضخما ومرعبا..

• سبابتي معقوفة بجاهزية تامة على الزناد.. بدت لي مشحونة بإرادة الضغط في حالة اصطدامي بأي هول أو مفاجأة.. أرسل وعيي إشاراته إلى أعصابي كلها، بما فيها يدي وسبابتي الجاهزة للضغط على "المقص"..

• برمجتي العصبية باتت تسري في كل أوصالي، وبثقة إنها لن تخذلني مهما كان هول المفاجأة.. صرت جاهزا واوثقا من مسدسي وبرمجتي العصبية التي تسكن مربض سهامها في أصبعي المعقوفة على الزناد، والجاهزة لإطلاق النار على الفور.

• تقدمت إلى الأمام في وضعية منحنية ومتسللا نحو ذلك الشيء الملتبس لاكتشف ماهيته.. أصبعي على الزناد تتحين لحظة الضغط، والمسدس المسدد إلى الشبح في وضعية الجاهزية الكاملة لإطلاق الرصاص في أي لحظة..

• تقدمت أكثر وأكثر.. اقتربت ودنيت من الشبح، وعندما صرت قريبا منه، وعلى شفق خفيف تفاجأت على نحو غير ما توقعت.. اكتشفت إنها نخلة متوسطة الحجم، وريح خفيفة تحرك سعفها، وبالتباسها بالظلام وبقايا الوهم القديم الذي سمعته عن المكان بدت لي كشبح يميل يمينا ويسارا حتى توهمت أنه قاصدا اعتراض طريقي ومنعي من المرور، أو تحمل النتائج في حال اصراري على هذا المرور..

• أنكشف كل شيء وتبدد كل وهم، وأولهما وهمي ومخاوفي.. تنفست الصعداء وأنا أضحك من نفسي على نفسي.. ونصحت من حكيت لهم قصتي أن يتغلبوا على خوفهم ووهمهم، ويتغلبوا على الأشباح التي تعترض طريقهم حتى بدون مسدس أو سلاح..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الشبح الأبيض
(6)
• كانت النقاط الأمنية التي
اب..!! لم أجد منطق يسندني أو تفسير مقنع يشفي حيرتي عن حقيقة ما حدث.. بقي السؤال الرئيس بالنسبة لي دون جواب.. ماذا الذي حدث وكيف؟!!!

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ضل من الانتظار إلى ليلة القدر التي ندرتها في احتمالية المرور عليك، أقل من يوم في ألف شهر..

• عليك أن تتسمّر في مكانك واعتكافك دون أن تحيد عنه، لا تلتفت إلى ما حولك، ولا تبالي بغير قراءة الكتاب حتى منتهاه، ليتوجك الجن ملكا عليهم.. يجب أن تندمج في القراءة وتنغمس فيها حتى شحمة إذنيك وشعر رأسك.. يجب أن تمضي في شجاعتك إلى النهاية دون اكتراث بأي مخاوف أو رعب يحيط بك.. حضور الجن سيبدأ في صورة حشرات وثعابين وحيوانات، ومن البسيط إلى الصعب والمعقّد، ومن السهل إلى ما هو مرعب ومهول.. أراد خالي أن يقتحم التحدي المستحيل للوصول إلى المُلك في عالم الجن والمجهول..

• كاد يجن وهو يقرأه في خلوة موحشة، لتحقيق حلما عصيا على التحقيق، يحتاج منه إلى شجاعة مفرطة ورباطة جأش خارقة.. كانت أمي تروي التفاصيل المخيفة، والتي انتهت تجربته بسماع حوافر الخيل على السقف الذي كاد يسقط عليه، أو هكذا بدأ له الأمر، أو جاءت الأخبار عنه.. فرمى بالكتاب فزعا، وغادرة خلوته والمكان راكضا ومرعوبا ومذعورا، بعد أن فاق حمله تحمُّله وقدرته..

• أراد أن يختصر طموحه نحو المملكة، فكانت مملكة الجن عليه عصية ومرعبة.. في تجربة كهذه تطال نتائج الفشل صاحبها، وإن تعدته نتائجها، ربما لا تتعدى أسرته وذويه إن لج في الجنون.. فيما مملكة البشر وفي بلاد مثل اليمن تعتبر أكثر رعبا وتوحشا، ويحتاج الأمر فيها إلى استباحة الحياة، وازهاق الأنفس، وسفك برك من الدم، وخراب كبير، لا يمكن تحمل ضخامته، ولا يخلوا الأمر من غدر ومكر وخساسة ومؤامرات..

• لا يصل المرء في بلاد مثل اليمن إلى سدة الحكم، وهو الغالب والأعم، إلا عن طريق الدم والمؤامرات، وربما يمر أيضا من بوابة المخابرات، وأن أراد أن يستمر بالحكم، عليه أن يستمر بالرقص على رؤوس الثعابين، كما جاء في تاريخنا الحميري..

• يجب البحث عن البديل، وهو الانحياز للناس الطيبين، وتبنّي قضاياهم، والتفاني من أجلهم، ولابأس من اجتراح بوابة الخلود المؤجل بعد الرحيل، حتّى وإن هالوا عليك التراب.. كن جنرالا مع الناس لا ضدهم، وهذا هو الأهم..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(4)
عندما خذلتني المسيرة
• عندما صار دارنا الجديد ثلاث طباق، كنت أنام في الديوان مع أمي وأبي وأخوتي الصغار، وفي ليل شاتي وداجي استيقظت من النوم.. كان الليل حالكا والسواد شديدا، فيما السكون المحيط يُسمعك أنفاس من في الجوار، بل ويكاد يُسمعك دبيب النمل، وأنفاسه أيضا..

• بعد وقت قصير، صرت اسمع حركة بقرتنا في أسفل الدار، والدجاج في قنوهن الصغير خارجه.. بدأت أسمع وقع خطوات ثقيلة على سقفنا الذي ننام تحته.. فتح الأبواب وغلقها.. صارت لديّ حدة في السمع، أو حدة في وقع الوهم على السمع.. ظللت ما أسمعه يشتد ويزداد.. ما كان وقعه خافتا صار أكثر وضوحا على مسامعي..

• بدأت أسمع كلام وأصوات تزداد وتتضح مع مرور الوقت، وذلك كلما استمريت في الترقب والإمعان في السماع.. أمي وأبي يغطون في النوم.. استغربت أنهم لا يسمعوا ما أسمعه، بعد أن صار أكثر وقعا ووضوحا..

• قرأت مع نفسي سورة الفاتحة التي أتعبني حفظها، ولم أحسن قراءتها.. وبقراءتي لها لم يتغير الحال.. ظننت إن عدم فاعلية سورة الفاتحة راجعا إلى كثرة أخطائي في قراءتها.. قرأت سور الناس والفلق والإخلاص، وهو كل ما في جعبتي من حيلة ووسيلة، وكل ما كنت أحفظه من القرآن لأحمي فيه نفسي الخائفة، وأطرد ما قد يعتريني من توهم أو وسوسة، أو لأحرق الجن كما كان المعتقد يسود في ذهني، وسمعته عن أمي وأبي ذات يوم، ولكن دون جدوى أو فائدة.. ظل أملي بمنقذ يتلاشى بمرور الوقت..

• الأصوات تزداد وضوحا.. همهمه تتسع.. بكاء طفل.. صوت امرأة تصرخ في وجه بقرتنا الحلوبة.. صرير الأبواب فتحا وإغلاقا.. صرت كأنني في عالم آخر غير ذلك الذي كان قبل قليل مملوء بالسكينة والسكون..

• بدا لا مجال أمامي لأنقذ نفسي مما أنا فيه غير أن أصرخ بكل صوتي، فصرخت مرعوبا ومذعورا، وشق صوتي الليل والمكان.. قفز أبي وأمي من نومهما العميق، وما أن شاهدت "تريك" والدي المنتفض يضيء بيده، شعرت بالنجاة وعودة النفَس، فيما كانت أمي تحتضنني بخوف وقلب هلوع..

• أمي توغل في تعويذاتها من الشيطان الرجيم، وتسألني بقلق عمّا حدث، كانت تعتقد أن حلم مفزع أو كابوس ما قد داهم نومي.. وأنا اجيبها بتقطع وتوتر عمّا سمعت.. أبي يقرأ سورة الجن لحرق الجن الذي عجزت أنا عن إحراقهم..

• كنت أرتجف رعبا وهلعا كأرنب صغير في وجه سكين.. أحاول أن أستعيد حالتي الطبيعية تدريجيا.. أحاول أن أخرج عن روعي وأنا أسمع أبي يقرأ سورة الجن.. كنت أريد أن أسمع أيضا صراخ الجن وهم يتصارخون من الحريق، ولكني لم أسمع شيئا مما كنت أعتقد!!

• قامت أمي وأخرجت من صندوقها الحديدي حرز "السبعة العهود" وألبستي إياه.. نلبسه حرزا في الشأن الجلل والعظيم.. شعرت بالسكينة والاطمئنان، ولم ينام أبي وأمي ليلتها إلا بعد أن ولجت في النعاس ثانية، ورحت أغط في نوم عميق..

• وعندما صرت أستاذا قال لي أحدهم:
- لم
تم نشرها في الثمانينات من القرن المنصرم في مناطقنا النائية، ترغمنا على تجاوزها من خلال الالتفاف عليها، وسلك طرق غير سالكة، وعبور أكثر من منحدر، وتسلق الوعر منها؛ لتجنب الاحتكاك بتلك النقاط أو الاصطدام بها..

• في إحدى المرات سلكت طريق التفافي في جبل محاذي لـ "سوق الخميس" وكانت الساعة بحدود الواحدة بعد منتصف الليل.. القمر يتوارى خلف الجبال العالية، وضوؤه الشاحب يتلاشى نحو الزوال، والظلمة تقتفي أثره وتلاشيه.. شاهدت كتلة بيضاء تتحرك.. انزويت في مكان لأرقب الأمر بحذر..

• أقترب الشبح الأبيض منّي أكثر دون أن يشعر بوجودي.. كان يلبس قميصا أبيضا، ومعمما، وحازما عمامته وصدغيه بقطعة قماش أبيض.. ربما بدا لي في هيئة أشبه بولي من أولياء الله، أو رجل من عباده الصالحين المصطفين الذين يظهرون نادرا على بعض أبناء البشر، ويجلبون لهم الحظ والسعادة، أو يبعثون في نفوسهم من الفأل والأمل احسنه..

• داهمتني الأسئلة والاحتمالات: ربما يكون الخضر!! ولكن لماذا الخضر عليه السلام يترك الطريق السالكة، ويجلب لنفسه العناء والمشقّة، ويتسلق الوعورة والجدران؟!! أنا أفعل ما أفعله، وأعبر طريق غير سالكة، لأنني أتحاشى الاصطدام بنقطة الحراسة، ولكن لماذا هو يفعل هذا طالما أنه ولي الله أو نبيه؟!!

• نسمة عطر فواحة تسللت نحوي وهي تسبق صاحبها الذي بدى ملهوفا.. أحسست بانتعاش روحي التي أنهكها السفر والاحتيال على نقاط الحراسة والتفتيش.. صار الشبح الأبيض يقترب منّي أكثر وهو يتسلق الجدار الذي يؤدي إلى المكان الذي أنا كامنا فيه.. لم يعد هناك متسعا لأتجنب الاصطدام به، فيما هو لا يشعر بوجودي.. أسأل نفسي بسرّي وأتعجب: ما أسمعه هو أن الخضر يتجلى بهيئة رجل رضي أو شيخ بثياب بيضاء أو خضراء، ولكني لم اسمع أنه يتعطر بعد منتصف الليل؟!!

• هل هو جني؟! الجن ربما يتسلقون الجدران، ولكن لا أظنهم يلبسون ملابس التقى والورع، ولا أظنهم يتعطرون إلا إذا كانت "جنية" تريد إغواء الرجال، أما هذا الشبح الأبيض فهو بخلاف ما هو مسموع ومروي عن الجن؟! وأما لو كان الخضر عليه السلام أو أحد من أولياء الله الصالحين لكان حري به أن يدرك أن في طريقه فتى يده على المقبض وسبابته على الزناد، من المحتمل أن يطلق الرصاص عليه في أي لحظة؟! لم أسمع يوما أن رجال التقى والورع يتسلقون الجدران في هزيع الليل، وينثرون عطرا يهبل النساء في لجته؟!! أشتد عجبي وارتيابي وشكوكي في الأمر من أوله إلى آخره..

• بعد لحظات وجدت نفسي بمواجهته تماما، لا تفصل بيننا إلا مسافة في حدود المترين.. لا محالة سيصطدم بي قبل أن يبدأ بتسلق الجدار المسنود ظهري إليه..

• الاصطدام وشيك.. انتفضت من مكمني مباغته، وهجمت عليه واضعا فوهة بندقيتي الآلية بين جنبيه، وأنا أباشره بالسؤال: من؟! من معي؟! كانت المفاجئة له صادمة وصاعقة.. تكاد أصبعي تضغط على الزناد واطلاق النار وشيك في حال أبدى أي حركة مريبة أو مقاومة منه، وحتما سينتهي الأمر هنا بقتيل مجهول قاتله.. غير أن ردة فعله كانت مملؤة بالجزع والارتباك، وأجابني بصوته الهلوع: عمّك "فلان.." عمّك "فلان.." عمّك "فلان..".. أحسست أن قلبه يكاد يقفز من بين ضلعيه.. كدت أسمع خفقات قلبه.. الخوف يجتاح جسده، والهلع ينتشر في أوصاله..

• أنزحت عنه وتركته يمضي، وتمنيت أن يكون هذا العاشق أغلب الظن قد أحتال علي وقال لي "أنا وليكم الخضر" لو فعلها وأحتال وبرر لاختلفت الحكاية هنا، ولا أدري ما كنت سأنتهي إليه.. لو قالها وأستطاع تبديد شكوكي والإجابة على أسئلتي لربما كانت القصة أكثر تشويقا مما هي عليه الآن.. لو تطفلت عليه، وكشف لي عن سره، وباح لي عن تفاصيل عشقه وحبيبته، لكانت قصته اليوم مع قصتي أشوق وأمتع مما هي عليه الآن..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
صمود وغموض!
(7)
• صارت الأشباح في وعيي شيئا من الماضي.. ليس فيها ما هو واقعي.. ربما بدت لي مجرد وهم في رؤوس بعض البشر المعتقدين بوجودها.. صرت أعتقد أن لا أثر لهم ولا وجود.. قناعة بدت لي راسخة وقوية، مع بقاء بعض الغموض في تفسير تلك الحادثتين التي تعرضت لهما أيام طفولتي، الثعبان الذي شاهدته على الأرض، والعجوز الشمطاء التي شاهدتها في المرآة، ومع ذلك لازلت أعتقد أن هناك تفسير علمي حتى لهاتين الحادثتين، أو حتى توهمي لهما، يختلف قطعا عمّا هو سائد في وعي الناس..

• لم أعد ذلك الطفل الذي يخاف من الأشباح والظلام، صرت أبحث عن أولئك الأشباح، ولا أجدهم.. أضع لما أسمع من حكايات الأشباح ألف تفسير وافتراض إلا افتراض وجودهم.. ولكن حدث أمر غريب، يستحق السؤال المعرفي أو التفسير العلمي لما حدث، بعيدا عمّا هو شايع وراسخ في وعي الناس، مع التأكيد مرة أخرى أن طرحي للأمر هنا هو من قبيل السؤال المعرفي ليس إلا.. من المهم معرفة حقيقة الواقع كما هو بالضبط، وتصحيح ما يستحوذ في وعي الناس من معتقدات وأفكار خاطئة، وكشف ما لا زال غامضا أو ملتبسا أو عصيا على الفهم..

• كنت قد صرت أحمل يقينا أن لا وجود للأشباح إلا
في وعي الناس، وفي زيارة لأسرتي ودارنا في القرية أثير ما هو غامض ويلقي الحيرة والسؤال.. ففي أول يوم الزيارة، وقبل أن أنام بمعية أفراد أسرتي، سمعت وقع خطوات، وركض، وحركة نشطة على سقف الديوان الذي ننام فيه.. تتالت تعليقات الأهل.. واحدا يقول: “ندّروا” وآخر يجيب: “وقتهم”، وثالث يعلق: “دروا أنه بدأ موعد نومنا”، ورابع يقول: “الحين زامهم”.. كان أهل البيت قد تعودوا و تعايشوا مع هكذا وضع، فيما أنا وجدتها فرصة لاستكشاف الأمر وأعيش التجربة بنفسي..

• كان اللافت والأهم بالنسبة لي أنني ليست وحدي من يسمع ما أسمع، بل كلنا نسمع وبالتفاصيل.. أي حركة نسمعها جميعنا.. ليس فينا واحد يسمع ما لا يسمعه الآخرين.. كنّا نسمع ركض أشبه بركض أطفال يلعبوا على السقف.. تلتها حركة نشطة وكأنها ذهاب و إياب لبعض الأفراد على ممشى السقف.. ثم وقع خطوات ثقيلة جدا، تبدو وكأنها لشخص ثقيل الحجم، تستطيع أن تعد خطواته وهو يمشي.. الحقيقة لم أشعر بالخوف، بل شعرت إنها فرصتي لاستكناه الأمر بنفسي، ومعرفة ما يحدث وسببه!!

• سألت شقيقي عبدالكريم من متى يحدث هذا الأمر الغريب..؟! فأجاب:
- أكثر من شهر..! يتكرر بشكل يومي.. ما ان نهم بالنوم حتى نسمع هذه الاصوات، احترت كثيرا و لجأت إلى عدة حيل لمعرفة السر وحدوث هذا الأمر الغريب .. استشرت عدة اشخاص ممن اثق في رأيهم و لم تكن اجابة أي منهم مقنعة أو مفيدة..

• ويضيف:
- لجأت لشخص يدعى بـ ”السيد” لكن ما قاله لم يكن مقنعا.. لجأت الى عدة اساليب وحيل عملية لرصد ما يحدث وكشفه.. ذررت رماد على السقف لعلي اجد اثر لقدم او لمرور أي شيء و لكن دون جدوى.. حاولت أن أضع صاعق قنبلة وخيط يمكنه أن ينفجر بمرور أي جسم، فأنفجر عن طريق الخطاء فوق أمي! وفي كل حال لم اصل الى نتيجة تستحق شيئا من التعويل أو الاهتمام.. عندما أنزل من السقف للنوم، وما ان اغلق باب الديوان لننام نسمع ما تسمعه الآن.. أذهب لأستطلع الامر ولا اجد شيئا مما أبحث عنه.. افتش كل الأمكنة في الدار ولم أجد أي أثر لأي شيء غير عادي..

• بعد شرحه لما فعله، زاد شغف فضولي المعرفي المتحفز لتفسير ما يحدث!! وجدت من المهم أن اعتمد على تجربتي وحواسي، ومحاولة استكشاف الأمر بنفسي.. حملت بندقيتي، وعمّرتها، وصارت جاهزة لإطلاق الرصاص، ووضعت أصبعي على الزناد.. تسللت إلى السقف ومكثت مدة ساعة أرقب الأمر..

• لم أرَ شيئا!! لم أسمع شيئا غير طبيعيا، بل كان الصمت يلف المكان!! السكون يسود ويطغى.. أعود إلى الديوان أسمع كل شيء أنا وأسرتي.. أعود مرة ثانية إلى السقف لا أسمع شيئا، فيما أسرتي التي في الديوان يرقبون الأمر معي من مكانهم، ولم تنقطع الأصوات التي في السقف عنهم..

• أضيء الكشاف.. أفتش السقف، وكل ما له صلة فيه أو لصيقا به، ولكني لم أجد شيئا، ولم أسمع أكثر من حركتي وأنفاسي التي أحاول خفضها وتعويضها بمجال أوسع لصالح السمع.. أنزل مرة أرى إلى الديوان فاسمع ما يسمعه الجميع.. أعود فلا أسمع ولا أرى شيئا.. حيرة بلغت حد أغرقتني في الذهول..

• شعرت بفشلي المؤكد، غير أن فضولي ظل متحفزا، يرفض الاستسلام، ويتوق لمعرفة ما هو غامض.. انتظر قليلا في الديوان وما أن أسمع بركضة في السقف أهرع إليه بسرعة وكأنني أريد ان ألحق ما أريد اكتشافه أو القبض عليه متلبسا.. أعود بتحدي أكثر وبحب وشغف معرفي وعناد مثابر.. فلا أجد ولا أرى شيئا غير طبيعي في السقف.. أمكث بعض الوقت حد الملل والسأم ولم ألحظ أي شيء، ولم أسمع إلا صمت مطبق كصمت المقابر.. أفتش كل شيء في الدار ولا أجد ولا أسمع شيئا.. وأتسأل بحيرة: كيف أكون بالسقف ولا أسمع شيئا، فيما لا تنقطع الأصوات عمّن هم في الديوان..؟!

• أعيتني الحيلة وأعجزتني الوسيلة لاكتشف شيئا ما.. كنت شغوف لأعرف شيئا يفسر الأمر.. كانت دوافعي معرفية أكثر من أي شيئا آخر.. لم أنس فرضية أو احتمال إلا ووضعته في الحسبان.. لم أترك احتمال إلا واختبرته.. أريد أن أعرف السبب لأبدد حيرة استولت على تفكيري، وبدلا من إزالتها كبرت حيرتي واستغرقني الذهول..

• لاذ أحد أقربائي إلى الطلاسم والتعاويذ وبعض من الذكر، غير إن الأمر أشتد يومين حتى بتنا وكأننا نغالب قدر يريد إخراجنا من منزلنا بالقوة تحت تأثير الرعب والهلع.. رفضنا الخروج.. قاومنا احتلال مسكننا بإصرار عنيد.. لم نتخلِ عن قيد أنملة منه.

• كان الرعب يشتد، ولكن كنا نواجه هذا الرعب باستحالة الخروج مهما اشتدت وبلغت كلفة البقاء في منزلنا.. إنه العنوان الأول لأبجديات وطن يستحق الدفاع.. كانت لاتزال تلك العبارة على منصة الاستعراض العسكري في الميدان الأسود بالكلية العسكرية شديدة الحضور في نفسي وأعماقي: "وطن لا نحميه لا نستحقه".

• بعد يومين أو ثلاث أيام من صمودنا العنيد زالت صناعة الخوف.. أنتهى كل شيء لصالحنا.. كسبنا الحرب وانسحبت الأشباح وقد خسرت حربها معنا.. وبقي غموض تلك التجربة يحتاج إلى علم وبحث ومعرفة..

• ظل غموض ما مررنا فيه من تجربة قائما إلى اليوم، وبقيت الأسئلة بالنسبة لي دون جو
أحداث 13 يناير
(1)
“غربان يا نظيره”
• في نصف العام الدراسي الأول بكلية الحقوق كنّا على موعد وشيك لامتحان القانون الروماني.. ذهبت أنا وزميلي يحيي الشعيبي للمذاكرة على البحر في صيرة وحُقّات.. كلانا كان يسكن في "القلوعة" أو ما كان يُطلق عليه "حي الثورة".. زميلي يحيى منتدب ومفرّغ للدراسة من وزارة الداخلية، ويحمل رتبة نقيب، وكان يعمل في مصلحة الهجرة والجوازات في عدن قبل انتدابه وتفرغه للدراسة.. عرفته متزنا وغير متحمسا لأحد أطراف الصراع، وكنت أسمع بعض زملائنا المتشددين من خلفه لا يروق لهم رأيه، لأنه كان حذرا وحصيفا وعقلانيا..

• ذلك اليوم هو تاريخ 13 يناير.. كان موعدنا مع البحر والقانون الروماني الذي سنرتاد امتحانه بعد يوم، أو يومين على الأرجح.. شعرنا بانقباض ما.. شيء غير طبيعي يحدث.. بدت لنا السماء وكأنها مكتئبة.. إحساس بأمر ما غير معتاد.. زميلي يحيى كان إحساسه أكثف.. استعجلني للعودة بعد ساعة من وجودنا في الشاطئ، فيما كنت ضد فكرة العودة المبكرة، ولكني اضطررت أسيفا لمطاوعته، حيث يستصعب عليّ أن أذاكر بمفردي، وقد جرت عادتي أن لا أذاكر وحدي، وكانت تلك المادة جافة، ويزيد من جفافها كثرة مصطلحاتها، وقِدم قوانين المرحلة التي تتناولها تلك المادة، ومدرّسها "القعيطي" الذي يطلب الدقة في الإجابة على أسئلته، وكان حافظا لمادته "ظهر قلب"، وكأنه شربها على الريق ذات صباح..

• كان التوتر السياسي حينها على أشده.. وبعد مسافة قصيرة من طريق عودتنا راجلين سمعنا من العابرين بلبلة وأخبار متضاربة.. كانت هناك حركة ما.. نساء ورجال يطلون من بعض الشرفات والسطوح.. قلق يتبدى على وجوه العابرين، وحركات مريبة تحدث، وشيئا ما يحدث ولا نراه ولا زال لدينا غير مفهوم..

• سمعنا أولا عن اطلاق رصاص في التواهي.. ثم سمعنا أن اطلاق الرصاص الذي يحدث هو في منطقة الفتح.. وسمعنا فوج ثالث من الأقاويل، أهمها إن الرصاص يأتي في سياق حملة تستهدف قتل الغربان.. هكذا كان بداية مدارات وتغطية ما يجري من حقيقه ذابحة ومؤسفة..

• حملة قتل الغربان تم استخدامها في أول وهلة للتعمية عمّا يحدث، وتأجيل العلم به.. عندما كنا نسأل عما يحدث كانت الأقاويل تتحدث أن الرصاص إنما تستهدف قتل الغربان في سياق تلك الحملة.. زعم يختصر مستهل المشهد الدامي.. محاولة كسب الوقت والاستفادة من الدقائق واللحظات لتغطية وإنجاز مستهل المأساة المتفجرة.. تأجيل ما أمكن من علم الناس بما يُرتكب من قتل وفظاعة ومؤامرة.. بداية تضع كل شيء أمام مستقبل مخيف ومجهول.. إنجاز مهمة تخلص بعض الرفاق من بعض.. كل دقيقة كانت تمر إنما تعني إيغال الحماقة بحق الوطن والرفاق والمستقبل..

• هكذا كان الأمر قبل أن يتحول إلى عمل مسرحي ساخر في وقت لاحق تحت عنوان "غربان يا نظره" وهذا العنون هي جملة قيل أنه اطلقها الاذاعي والصحفي عوض باحكيم حالما كانت زوجته الطيبة "نظيره" تعد الشاي الذي كانت تجيد صنعه، وعندما سمعت الرصاص وتملكها الفزع قالت لزوجها: "أيش دا اليوم ياعوض!؟" فيما عوض الذي كان يشتهي الشاي، حاول تطمينها أن اطلاق الرصاص يأتي في سياق حملة قتل الغربان التي كان قد تم تدشينها من وقت مضى.. فقال لها مازحا وساخرا "غربان يانظيره".

• تأجيل العلم بمزاعم واقاويل للتعمية عما يحدث لا تنطبق فقط على أحداث 13 يناير 1986، ولكن تنطبق على بداية كل مرحلة شهدت فيها اليمن مؤامرة وحرب ومأساة.. كل مرحلة كانت تؤسس لمرحلة أكثر قبحا وانحطاطا وخرابا من التي قبلها.. مراحل من القتل والدمار والخراب والنصر المزعوم.. ويستمر وهم القوة والانتصار بالدم..

• جراح عميقة عقب كل مرحلة دامية تُترك مفتوحة، حتى تمتلئ بالقيح والصديد، ثم تمعن الجراح في التعفن لتنتهي ببتر عضو في الجسد الدامي والمثخن بالجراح.. حرب الشركاء في عام 1994 ثم الحروب التي أسقطت ما بقي لنا من بقايا وحدة ودولة.. ثم عدوان وحرب مارس 2015 والتي لا زلنا نصطلي بجحيمها للعام السادس على التوالي، وما يُفرض خلالها من أجندات غير وطنية، فيها الاحتلال والوصاية والتقسيم والحدود لتنتهي بتدمير ما بقي لنا من بقايا يمن ووطن وإنسان ومستقبل..

***
(2)
انقسامات
• بين الأمس واليوم مدى من التشظي، وتغييب العقل عن الفعل، واطلاق العنان للحماقة لتفعل ما تشتهي وتريد، ثم يتنافس الحمقى على البيع والارتهان، ليتحول بعضهم إلى بيادق سكوتة صمّا، والبعض الآخر إلى حوامل سياسية مرتهنة لأجندات غير وطنية، ينفّذ بهم الأجنبي ما يشتهي ويريد، ويدفع الشعب الثمن دما ودموعا ومآسي عراض.. إنه الحصاد المُر والخيبة القاتلة..

• تزداد المعاناة، ويستمر التيه والضياع، وتستمر الحروب وآلام الانقسام والتشظي وتفتيت الوطن، فيما يحصد الحمقى فتات الفتات، ومعه مزيد من السقوط المريع، فيما الأجنبي يتمكن من الوصاية على شعبنا واحتلال أراضيه، وينفذ ما يريد من الأجندات على حساب يمن يضيع، ويتلاشى إلى الأبد، إن لم توجد في الأفق معجزة..

• وعودة إلى الأمس وأحداث 13 يناير 1986،
وفيما كنّا مجفلين من البحر، وقبل أن نصل إلى مبنى "بريد كريتر" بدأنا نسمع انفجارات بعيدة.. ثم شاهدنا أناس يتوافدون ويتسلحون من مبنى يقع خلف البريد.. شاهدنا الطابور يزداد ويزدحم أمام المبنى.. أردنا أن نتسلح دون أن نعلم هذا التسليح يتبع أي جهة!! رأينا أنه لابأس أن نتسلح أولا لحماية أنفسنا، وبعدها سيكون لنا موقف وكلام.

• وفي الطابور شاهدت الأستاذ جعفر المعيد في كلية الحقوق يستلم سلاحاً وذخيرة.. تصافحنا.. ثم شاهدت أيضا أحد أقاربي في الطابور المزدحم.. فهمت أن هذا المركز يتبع أنصار فتاح وعنتر.. فيما كان معسكر عشرين المركز الرئيس للمليشيا الشعبية في نفس المدينة "كريتر" التابع في ولائه لعلي ناصر، ومحمد علي أحمد، ويبعد بحدود كيلو متر من المركز الذي نستلم نحن السلاح منه، والتابع للطرف الآخر.

• أستلم كل منّا سلاح آلي وذخيره 120 طلقة، واتجهنا إلى عزبه فيها أصدقاء قريبة من نفس المكان، وبعد قليل صعقنا البيان من الاذاعة وخلاصته أنه تمت محاكمة وإعدام عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح وعلي شائع بتهمة الخيانة العظمى.

• أغاضنا هذا البيان، وكانت الصدمة كبيره.. تسألت: متى كانت الخيانة؟! ومتى تمت المحاكمة؟! ومتى تم تنفيذ أحكام الاعدام؟! وكان السؤال الأهم من بدأ بإشعال الحريق؟!

• ما كنت أعرفه أن هناك ما يشبه العهد بين الفريقين في المكتب السياسي للحزب، وأهم ما يتضمنه العهد أن من يبدأ باستخدام السلاح في حسم الخلاف يعتبر خائنا.. والآن يمكن للمرء أن يستخلص بسهولة أن في الأمر خدعة، وأن الحديث عن المحاكمة هراء، ومزعوم حكم وتنفيذ الإعدام ما هو إلا استباق أحمق وتنفيذ لمؤامرة يفوح منها نتانة الخيانة من الطرف الذي قرر الاحتكام للسلاح، والبادئ أظلم.

• ويستمر الانكشاف.. رباه!! "كريتر" فوهة البركان.. المدينة الصغيرة صارت مقسومة بين فريقين باتا معسكرين!! ثم عرفت أن “الباخشي” قائد المليشيا الشعبية في معسكر عشرين ولاؤه لفريق، فيما الأركان باسلوم وهو نائبه ولاؤه للفريق الآخر.. يا إلهي ماذا يحدث!! ليست "كريتر" وحدها مقسومة قسمين، ولكن أيضا المعسكر الواحد.. قائد المعسكر موالي لاتجاه، والأركان ضده، ومع الاتجاه الآخر.. وهكذا بات المستقبل مجهولا، والمجهول ينتظر الجميع وأولهم الوطن..

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،

(3)
“آه يا عيالي”

• كانت كريتر أقل المناطق صداما ومواجهة في أحداث يناير1986مقارنة بغيرها، حيث لم تشهد مصادمات واشتباكات عنيفة إلا على نحو محدود ومتقطع.. كان توزيعنا الأول جوار حماية البريد وما يقاربه.. تحوّل مبنى البريد على ما يبدو إلى نقطة قيادة تدار منه العمليات في "كريتر" للفريق التابع لأنصار عنتر وفتاح..

• لا أدري أو لم أعد أتذكر أين غاب زميلي يحيى الشعبي، فلم أعلم أين كانت وجهته، وعلى الأرجح أنه تمكن من العودة إلى منزله في "القلوعة".. اظن أنه عرض فكرة كتلك، ولكن كانت تعتريني مخاوف الاعتراض في الطريق قبل الوصول إلى البيت فآثرت البقاء.. وفي نفسي أيضا فتاة أعجبت بها منذ شهور، كانت تقيم على مقربة من البريد، خلف عزبة الرفاق التي لذت إليها في البداية، وكنت أكتم ما بنفسي عنهم، وأتحاشى كثيرا أن ألفت نظرهم إلى هكذا أمر..

• تذكرت تلك الرواية التي كنت قد قرأتها في إجازة إحدى سنوات الثانوية العامة.. إنها رواية خان الخليلي لنجيب محفوظ، وفيها جانب من الحب في حضرة الحرب، ولي وقفة بصدد من أعجبت بها لعلي أتتطرق إليها في موضع لاحق..

• تم تكليف الجندي الردفاني الذي كان معنا، والمرتدي زيا عسكريا، بمهمة اعتلاء قمة منارة عدن كنقطة مراقبة، والتنبيه عليه أن يحذر من القنص الذي يمكن أن يستهدفه من الطرف الآخر.. فيما تم تحويل تمركزي أنا وقريبي إلى عمارة مطلة على البريد ومنارة عدن وجانبا من سور ميدان الحبيشي.. عمارة على الشارع العام الذي يفصلنا عن مبنى البريد.. اعتلينا سطوح العمارة وبقينا عليها، وتناوبنا على حراسة بوابتها في الشارع..

• في ليلة اليوم الثالث من الأحداث على الأرجح، وفيما كنت أحرس بوابة العمارة، صرخ قريبي من السطح يخبرني أن هناك محاولة تسلل لاقتحامها من الخلف، فيما كنت حينها في بوابة العمارة، وتحركت بسرعة إلى زقاق المدخل الذي يؤدي إلى فتحة "الجلىّ" خلف العمارة “، وبدأت بإطلاق دفعات من الرصاص، محتملا وجود تسلل أو اقتحام، فيما كان قريبي ومن معه في سطح العمارة يطلقون الرصاص إلى الأسفل من فوق الجدار المطل على خلف العمارة، وفي الصباح لم نجد أثرا لأحد، فبدا لنا الأمر أنه كان محاولة تسلل أو استطلاع أو مجرد جساً للنبض.

• بعدها طُلب مني أن أتجه إلى منطقة متقدمة من خط التماس، وتحديدا إلى شقة "سالم معروف" وهي قريبة من المصرف اليمني وسط "كريتر" على إثر قنص شخص من فريقنا، وهو من أبناء منطقة الجليلة ـ الضالع ـ وطُلب منّا رفع جثمانه إلى السيارة المعدة لنقله، ومن ثم المرابطة بالشقة التي انتقلنا إليها.. شعرت بحجم المخاطرة في مهمة نقل الجثة، ولاسيما من قناصة الطرف الآخر، أو ح
ل..

كريتر صارت واحدة بدلا من اثنتين، ولكن بجرح عميق وواسع.. جرح أكبر من مساحة المدينة كلها.. كريتر أصبحت بفريق منتصر أما المهزوم فجاري البحث عن كل فرد فيه ليتم اعتقاله.. صار كل ما في عدن وغيرها مهشما وممزقا وأولها النفوس.. الجروح غائرة وأغور منها عذاب ومجهول ينتظر.. لم تخذنِ العاطفة بل أخذني أن أرى امتهان الكرامة، واسترخاص حياة الناس..

شاهدت معتقلين جدد يأتون بهم إلى غرفة تحقيق تقع على مسافة قريبة.. سمعت وقائع محزنة عن كيفية الاعتقال من قبل من يقوم به.. كانوا يتفاخرون ببعضها وكنت أتمزق من الألم.. كانت حملات التفتيش والمداهمات للبيوت على أوجها.. كان يتفجر الحزن داخلي كطوفان وأنا أسمع الحكايات.. هذا يداهمون بيته وينزعونه من مخبأه داخل دولاب في غرفة النوم، وهذا ينتزعوه من تحت السرير.. وهذا من تحت الدرج أو من الحمام أو زاوية مهملة في البيت أو السطوح.. كل هذا يتم وسط فجيعة الأهل وصراخ الأطفال والنساء.. واكثر من هذا ارتكب عقب الاعتقال..

وهم يتفاخرون بتفتيش البيوت تذكرت ذلك التفتيش الذي حصل يوما لبيتنا في القرية من قبل حمله أمنية بعد مقتل أخي، وكان أخواني الصغار قد انزاحوا مجبرين إلى اصطبل البقرة والحمار، ولكن ما أن انتهوا من تفتيش البيت، حتى أتجهوا نحو أخواني الصغار في الاصطبل لتفتيشه، وهو مستقل عن المنزل، فصرخوا أخواني بالبكاء الهلع والفجيعة.. صراخ جعل القائمين على الحملة يحجمون عن تفتيشه والاكتفاء بتفتيش منزل والدي ومنزل أخي المقتول.

يوم 18 يناير 1986 فريق بدأ ينتصر فيما الفريق الآخر يخسر المعركة.. اطلق المنتصر على المهزوم تسمية “زمره” فيما أطلق المهزوم على المنتصر تسمية “طغمه” هكذا سمّى الرفاق بعضهم، وكان الحماس جياش والاقصاء شديد، والتعبئة خطيرة وملغومة بالفجيعة، والأسوأ أن بعض الممارسات أثناء وبعد الأحداث بلغت حد البشاعة والطغيان، فيما الشعور بالمسؤولية من الجانبين كان منعدم ومفقود..

18 يناير 1986 بدأ يوما فارقاً بمؤشرات منتصر ومهزوم.. من ألتحق بالفريق المنتصر في هذا التأريخ وبعده كان ينظر إليه أنه تحصيل حاصل، لا يضيف شيئا لقائمة المنتصر، بل يرونه كمن ركب موكب الانتصار بدافع المصلحة، ولم يكن له أي دور فيما سمُوه حسم المعركة.. هكذا سمعت يومها المنتصرون يتباهون ويتحدثون في الساحة التي تم نقلي إليها..

صحيح أن أحد الأطراف ارتكب خطيئة فادحة بحق الوطن عندما قرر الاحتكام للغدر والسلاح، ولكن الطرفين اشتركا معا في القتل المريع خارج القانون، وتعميق الانقسام المجتمعي، والاستقواء والتحشيد المناطقي والجهوي، والشحن والتعبئة على الكراهية المقيتة، وكانت النتيجة هزيمة وطننا في الجنوب عام 1986،

وتكررت الخطايا بعدها حتى هزيمة اليمن في حرب 1994وفي 2015 تم تدمير ما بقي من يمن ووطن ودولة ومستقبل.. ولازلنا نعيش الهزائم ونشارك في تلاشي وضياع اليمن.. إلا أن أسوأ من كل هذا أن نسمي هزائم الوطن انتصارات عظيمة أو مكاسب عظام ..

أما التعذيب وبعض وقفاتي على بعض المآسي فسأفرد لمشاهداتي مقام، وهي بعض من الحقيقة التي عرفتها ذلك اليوم وما تلاه.. وهذا لا يعفينا من البسط والمقام لما نعيشه من حرب ومآسي وموت وطغيان وجوع ومجهول، وهو أكبر ألف مرة مما شهدناه في أحداث يناير 1986..

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،



(7)
تعذيب.. وانتصار ضمير

• في يوم 18 يناير 1986شاهدت معتقلين يجرونهم إلى غرفة التحقيق.. عرفت للوهلة الأولى من لهجتهم ولكنتهم وسحنة وجوههم أنهم مواطنين "بدو" وتحديدا من محافظتي أبين وشبوه.. كنت أسمع صراخهم المشبوب بنار الوجع والألم المتطاير شرره في كل اتجاه..

• شاهدت بعض المحققين يحملون عصي غليظة، يضربون بها بعض المعتقلين بقسوة تبلغ أحيانا أشدّها.. باب الغرفة مفتوحا وكذا النافذة.. تشبه غرفة الحراسة، أو ما يقيم فيها ثلة من الحرس.. يوجد في الغرفة طاولة وكراسي قليلة.. أحد المحققين بدا لي وكأنه يحاول استعرض غلاظته وفجاجته، ويزهو بما يفعله.. كنت أحوم على مقربة من المكان.. أسترق النظر المتأجج بالنار، وأعيش لحظة الألم التي تلسع الضحية كثعبان.. كان فضولي يريد أن يعرف مزيدا عمّا يحدث؟! فيما صوت المضروبين يخترق الجدران كالقذائف، بل أشد وقعا على مسامعي..

• كانت ولولاتهم وصراخهم تستعيد ذاكرتي إلى حكايات أمي حالما كنت طفلا عن شدة العذاب والحساب في القبر.. كنت أسأل نفسي: هل هؤلاء المحققين بشر مثلنا؟! إنهم يشبهون عتيد والحساب الثقيل في المقابر.. لا يمكن أن يكون هؤلاء لأول مرة يمارسون ما يمارسونه من ضرب وإذلال وإهانة الضحايا في غرفة التحقيق، وإلا لكانوا أقل قسوة وأكثر تردد في استخدام الضرب والتعذيب!!

• ويزدحم رأسي بالأسئلة: ما الذي يجعل المحقق يتخلّى عن الحد الأدنى من إنسانيته، ويتحول إلى مجرم بشع دميم؟!! لماذا يتم استخدام هذا القدر المفرط من العنف؟! وعلى افتراض أن بينهم جناة، فالأكيد أيضا أن هناك أبرياء جعلتهم المصادفة أو حظهم التعيس في دائرة الاشتباه؛ فلماذ
ب التي نعيشها اليوم مباحا ومهدورا.. أموال النفط الغزير تصب شرورها وجحيمها للسنة السادسة، على رؤوس أطفالنا ونساءنا ورجالنا في الأسواق والمدارس والمساكن والمياتم والأعراس والتجمعات السكانية.. كل شيء هنا بات مباح لا حذر فيه ولا تمييز.. لا عقل ولا ضمير ولا معترض.. كل شيء صار هنا مهدورا ومستباحا بجحيم الحرب..

• وعودة إلى يناير 1986شعرت أن القذيفة الأولى أريد منها تصحيح الإحداثيات في القذيفة التي تليها، ولا أدري أين كان سقوطها، وكم كان حصادها؟!! كل ما أدريه أننا في مدينة تزدحم بساكنيها.. فيما القذيفة الثانية كانت على مسافة خمسين متر، وقد ظننت أن الثالثة ستكون حتما على رؤوسنا، ولكن رفق بنا القدر، ولم يتم معاودة القصف تلك الليلة بعد هذه القذيفة المرعبة.

• خلال أحداث يناير 1986 كنت حريصا أن استخدم سلاحي في حدود الدفاع عن النفس، ولم أشترك في أي صدام مسلح، ولم أشارك في اشتباك أو قنص، ولم تخرج رصاصة واحدة من فوهة بندقيتي باستثناء تلك المرة التي قيل أن العمارة الموجودين فيها يتم التسلل إليها، فلزم علينا الدفاع عن النفس من استهداف محتمل..

• اليوم وأنا أكتب ما أكتب يغضب البعض ممن دمروا حاضر اليمن ومستقبله؛ لأنني اكتب قصتي واتناول الماضي بكل ما فيه، وهو ماضي يشرفني أنني خرجت منه ومن منعطفاته الحاده، دون أن أقتل كلب أو قطة، ولم اقتلع فيه شجرة، بل وندمت يوما أنني قتلت فأرة، وحالما شاهدت صغيرها يحوم جوارها بحسرة، ولا يكترث بما حوله، شعرت بالأسى والندم، وكتبت عنه، واحتجيت على هذه الحياة الظالمة، وقوانينها الغير عادلة..

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


(6)
يوم اكتشافي بعض الحقيقة

في تاريخ 18 يناير 1986 تم ابلاغي ونقلي إلى الساحة الواقعة بين بريد عدن من الجهة البحرية، والبوابة التي صارت تابعة لمكاتب ومحافظ محافظة عدن، وكان هذا اليوم بالنسبة لي مختلف، حيث أزعم أنني اكتشفت فيه بعض الحقيقة..

كان المنتصرون يعتقلون المهزومين والمشتبه بالانتماء لهم.. سمعت أصوات مكتومة تستغيث بطلب الماء، وكأنها تصعد من قاع بئر ماتت، وجف ماءها منذ سنين، ورُدم سطحها بالخشب والحجارة وهالوا عليها التراب.. لم أكن أعلم أنه يوجد معتقلين محشورين خلف الجدران الغليظة التي أمامي.. لم أكن أعلم أن خلف الباب السميك أناس يتهددهم الموت بالعطش وانقطاع النفس..

فتح السجان الباب، وكانت مفاجئتي بمشاهدتي الاكتظاظ الذي يفوق التصور .. اكتظاظ محبوس عنه الهواء، وقاطعا للنفس.. إن وقف أحدهم لا يستطيع الجلوس مرة أخرى إلا بشق الأنفس وطلوع الروح، بسبب الازدحام الأكثر من شديد.. إنه اكتظاظ أظنه لو طال قليلا سيكون قاتلا ومميتا.. عشرات الأشخاص ربما يفوقون الثلاثين أو الأربعين محشورين في مكان لا يتسع لزحمة خمسة عشر شخص بالكثير..

عندما تم فتح باب هذا المعتقل كنت كأنني أشاهد فتح علبة لحم مفروم.. يا إلهي ما هذا؟! شيء غير معقول.. شيء أكبر من أن يصدّق.. رباه ما هذا الذي أراه؟! هل أنا في حلم أو علم، أم في واقع يشبه الجحيم..

بدت طلّتنا عليهم وكأننا فسحة فرج ساقها القدر ليستعيدوا أنفاسهم، بعد يأس قنوط وصد عبوس.. كأننا جئنا لهم طوق نجاة من موت مؤكد.. شاهدونا وكأن السماء فتحت لهم أبوابها.. هناك من يستغيث ويطلب الماء، وهناك من باتت استغاثته حشرجة لم تعد تفهم صاحبها ماذا يقول إلا بالإشارة.. تداخلت الأصوات واكتظ الكلام مثلهم، وعلى نحو لم نعد نعرف أوله من آخره.. لا ضوء ولا هواء.. قليل من الهواء وقطرات من ماء صارت هنا كل ما بقي لهم من أمل في حياة باتت مثقلة بالعطش والعذاب وانقطاع النفس.. إن من يرى هذا الحشر والاكتظاظ والموت باديا على الوجوه، ولا يحرك ساكنا، يكون قد أرتكب جريرة لا تغتفر.. ووزر كبير، وفعل جُرم عظيم..

ثارت انسانيتي داخلي وخالطها الغضب.. كفرت وعصيت وكدت أتمرد وأثور.. إنه مشهد بالنسبة لي صادم وغير مسبوق، وما كنت أظن يوما سيأتي وأشهد ما أشهده.. هرعت لأحضر لهم الماء.. كدت أعترك مع أحد السجانين الذين كان يمنعني أن أمكنّهم دبة الماء.. كان يحاول يمنعني بالقوة من أيصال الماء إليهم.. كان يقول لي : “هؤلاء أجبروا رفاقنا أن يشربوا من البلاليع”..

كنت مهيّاً أن أفعل أي شيء مجنون، من أجل أغيث هؤلاء المعتقلين بالماء، مستعد أن ارتكب أي فعل فيه إيقاظ من بقي له ضمير.. كنت مهيئا لكل الاحتمالات إن تم منعي بالقوة من مناولتهم الماء.. نعم كنت مهيأ نفسيا لأن أفعل أي شيء!! حتى من عارض إيصال الماء للمعتقلين كان يدرك مقدار انفعالي الذي لا يخلو من هياج.. كادت أعصابي تنفلت مني!!

كل عضلة في جسدي وفي وجهي على وجه الخصوص ترتعش.. كان جلدي كقشرة أرض رفيعة يتهيج تحتها بركان عنيف.. ربما لذلك تمكنت من أيصال الماء إليهم.. نعم لقد نجحت وأوصلت الماء إلى من يستغيث.. أحسست أنني نجحت في رسالة تشبه رسالة نبي أغاث قوم دون أن يقتل ولم يهدر روح إنسان.. نجحت في إغاثة قوم محشورين في مساحة لا يزيد طولها وعرضها عن سبعة أمتار في سبعة إن عرض وطا
ا يتم ضربهم؟!! الجميع هنا يفترض أن يكونوا مشتبهين فقط وليس حتى متهمين.. ثم أليس القانون يمنع التعذيب والإهانة حتى وإن كانوا جناة؛ فلماذا يحدث ما يحدث الآن؟!!

• ويستمر تداعي الأسئلة: هل هو الفشل وقلة الحيلة؟!! هل هو مركب نقص مرضي يسعى المحقق لاستيفائه ليبدو كاملا؟!! هل هي الأيديولوجيا عندما تطبق وطأتها على العقول، أو تفعل فعلها في الرؤوس الخاوية؟! وأين؟! وضد من؟! .. هل هو مرض "السادية" الذي يوغل ويتوحش في نفوس المحققين الذين يبدو أنهم باتوا فيها مدمنون؟!! أنها الأسئلة الأكثر وجاهة وإيلاما..

• مثل هذه الأسئلة تتكاثر اليوم أيضا هنا وهناك.. سلطات الأمر الواقع وعلى مختلف توجهاتها وأطرافها وأماكن سيطرتها توغل بممارسة كل صنوف التعذيب، وتصل به إلى أقصاه.. تعذيب يبلغ حد القتل دون رادع أو زاجر.. تقييد حرية لا يوجد من يمنعها.. رجال سلطة جلاف وأمراء حرب مطلق لهم العنان يفعلون ما يشاؤون، ولم نسمع ونحن في السنة السادسة حرب، أن سلطة أمر واقع أحالت أحدهم إلى المحاكمة، ونالت العدالة منه جزاء وعقاب.. إذلال وامتهان كرامه، بل واستباحة عريضة للحقوق، دون أن تهتز لأحد فيهم رمش أو جفن..

• من غير العدالة أن ننحصر في نقد الماضي ومن رحلوا، دون أن نشير إلى الحاضر الأكثر بشاعة.. بين الأمس واليوم انقلبت الأحوال رأسا على عقب.. حدث ما لم يكن يخطر على بال.. صار الجلاد ضحية، والضحية صار جلادا أسوأ من سابقيه.. اليوم يجري استسهال التعذيب والاعتقال وتقيد الحرية وانتهاك الحقوق والقوانين على نحو لا سابق له..

• اليوم يتم الإيغال في التعذيب بعد تقويض شهدناه.. اتسع القبح وتم استباحة الحقوق طولا وعرضا، حتى ضاقت اليمن به، ولم يعد للعدالة ثمة متسع.. تكاثر الضحايا وتم الإيغال في التعذيب، والقتل تحت طائله و وطأته.. بات القتل خارج القانون باذخا حد العبث.. فيما السلطات التي تدّعي أنها تحمي القانون وتحرسه، باتت ترعى تلك الانتهاكات، أو تتستر عليها، وتحامي لعدم النيل من المجرمين، إن لم تكن قد صارت لسان حالهم، وكأنها قد أمنت مكر التاريخ، وباتت واثقة إن الأيام لم تعد دولا، وأن هي خاتمة الزمان..

• وعودة إلى يناير 1986 كانت المشاهد التي رأيتها صادمة، وغير متوقعة، وساحقة لأحلامي الكبار.. تتصادم مع مُثلي، وما أزعم أنني أحمله من مبادئ وقيم سامية.. مهينة لآمالي العراض، وبعض قناعاتي التي كانت تجهل الكثير مما يحدث في مجاهل المعتقلات، وغرف التحقيق، وكواليس السياسية، أو ربما أكون أنا من قصّرت في فهم الحقيقة أو في البحث عنها، واكتشاف ما يجري في الواقع من فادح ومآس وآلام.. كنت أرى الحياة بسوئها أفضل مما هي عليه.. لم أتوقع مشاهد ووقائع ما كانت تخطر على بالي يوما، وما كنت أظن أنني سأقف عليها وأشاهدها جهارا في وضح النهار..

• في أفضل الأحوال يمكن أن تلتمس للمحققين عذرا غير مقبول، كأن تقول كانوا يومها يبحثون عن اعترافات سريعة، ربما يحتاجونها، وكانت من الضرورة بمكان.. ولكن تراكمت لدي المشاهدة والسماع في فترات لاحقة حتى بلغت اليقين الناسف للأعذار كلها..

• كان لوقع الضرب والعنف الذي مارسه المحققون مع بعض المعتقلين، يعيد ذاكرتي إلى فلم وثائقي لم أنساه “جرائم المخابرات المركزية الأمريكية” فلم شاهدته في سينما “دار سعد” حالما كنت أدرس الثانوية في مدرسة البروليتاريا، وهو يتحدث بالصوت والصورة عن انتهاكات فضيعه لحقوق الإنسان طالت نشطاء وسياسيين ومقاومين لأنظمة دكتاتورية في أمريكا اللاتينية والوسطى والمغرب العربي وغيره.. كنت وأنا أشاهد الفلم أشعر أن الموت بالنسبة للمعتقل المعذب صار أمنية بعيدة المنال.. ها أنا أشاهد تعذيب حي وبأم عيناي وإن كان دون مستواه.. أسمع صراخ التعذيب دون وسيط أو تصوير.. أما ما يحدث اليوم، فدونه حتى الجحيم..

• في نفس المكان واليوم تاريخ 18 يناير 1986 عرض أحد المحققين عليّ أن أشارك في التحقيق بعد أن عرف أنني أدرس في كلية الحقوق.. فرفضت عرضه، وحدثت نفسي: يا إلهي.. أيعقل هذا !! أنا الحالم بالعدالة في الأرض كلها أصير مجرما كبيرا وعاتيا.. أنا أريد أن أكون قاضيا أو محاميا، وهذا يريد أن يحولني إلى جلاد.. يجب أن أغادر هذا المكان البشع، وأن لا أعود إليه.. وجب على ضميري أن يستريح من الوجع وتأنيب الضمير.. صراع مرير مع ضميري، وآن الآن لضميري أن يستريح..

• ذهبت لمقابلة القيادة بمعاونة صديقي.. كانت القيادة تتمركز في مبنى البريد.. كان أحدهم يافعي يعمل مديرا لمؤسسة اقتصادية، والأخر قيادي عسكري.. طلبت الأذن بالمغادرة، وأردت تسليم سلاحي.. كان صديقي ينتظر الموافقة ليستلم سلاحي وذخيرتي، وبالفعل حدث هذا، وعدت إلى بيتي دون سلاح أو ذخيرة.. لم يفعلها أحد، ولم أسمع بمنتصر سلم سلاحه وعاد إلى بيته.

• نعم في هذا اليوم 18 يناير 1986عندما كان يتجه المزايدون والنفعيون والانتهازيون للانضمام للفريق المنتصر، كنت أنا أسلمّ سلاحي وذخيرتي وأغادر ساحته إلى البيت.. كان عليّ أن أبدأ دورة أخرى من معاناة ومأسي
الحال قبل أن أعانيه..

استمريت بمعركة الصمود مع الحرب.. واستمرت معركتي مع ضميري على نحو شرس.. صرت في مواجهة على جبهتين.. وكانت المعركة مع ضميري هي الأشد.. ضميري الذي رفض أن ينام..

***.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(5)
بسكويت وقذيفة مدفعية..
• يهبط الليل.. الشوارع خالية وموحشة.. الأشباح وحدها التي تتنقل بحذر وكلمة سر.. اطلاق نار متقطع.. دوي انفجار قذيفة مدفعية بعيدا نسبيا عن موقعنا، ولا أدري ماذا كان حصاد هذا الانفجار من نفوس وجنايات!!

• وبعد نصف ساعة صعقنا دوى انفجار عنيف ظنناه في العمارة التي نحن متواجدين فيها، وما لبثنا ثواني حتى غزت أنوفنا رائحة البارود النفاذة.. اطلينا من النافذة التي على الشارع العام.. شاهدنا دخان متصاعد كثيف من موقع انفجار قذيفة المدفعية التي أصابت الجزء الأسفل من مبنى مصرف اليمن، والذي لا يبعد عن بوابة العمارة المتواجدين فيها أكثر من خمسين متر، وعن المتحف العسكري بحدود المائتي متر.

• تسألت مع نفسي: ما هذا الجنون؟! منازل المواطنين لا تفصلها عن موقع الانفجار غير عشرات الأمتار.. منازل تكتظ بالأطفال والنساء والمسنين، والمدنيين العزل الذين ليس بمقدورهم تركها أو مغادرتها، فوجدوا أنفسهم في أتون حرب عمياء ليس لهم فيها ناقة ولا جمل!! كيف لبشر أن يستخدموا قذائف مدفعية عمياء من العيار الثقيل في لجة الليل، ترمى من مسافات بعيدة، على مدينة يكتظ في بيوتها ساكنيها؟!! إن كانت تلك المنازل قد اهتزت من وقع انفجار القذيفة على ذلك النحو، فإنه لاشك سيكون وقع صوت الانفجار على الأطفال والنساء مروّعا.. كيف لقلوبهم أن تحتمل كل هذا الرعب الباذخ الذي نزل عليهم كالصاعقة..

• سمعت صيحات هلع وصراخ أطفال ونساء انخلعت قلوبهم من دوي انفجار بهذا القرب الذي أذعرنا، وأوقع منّا قلوبنا نحن الكبار.. لطف القدر بسلامة رؤوسهم، ولكن حجم الهلع الواقع في نفوسهم ربما يفوق التصور.. وإذا كان القدر قد كتب النجاة لهؤلاء؛ فكيف حال الآخرين في مدن وأحياء التواهي وخور مكسر والمعلا، وغيرها من تلك التي كانت مسرحا لكثير من عشوائية القصف ونوبات الجنون..

• تذكرت لحظتها ذلك الطفل الذي يناهز عمره حوالي العشر سنين، حالما مررت في اليوم الثالث من الحرب في أحدى الأزقة.. طل من نافذة بيت قديم شبه مهترئ.. جدرانها مرقعة بالإسمنت تشبه تلك الرسومات التي كان يرسمها ناجي العلي على ثياب المواطن الفلسطيني والعربي المكدود..

• نوافذ البيت مشبّكة بألواح الخشب الرفيع على نحو متعاكس يترك مجالا لثقوب يستطيع الرائي من الداخل أن يراك دون أن تراه.. النافذة المفتوحة مزاحة عنها الستارة البيضاء على اليمين واليسار، ومنها طل الطفل البهي.. كان الواضح من الملمح العام للبيت أن من يقطنها أسرة فقيرة المال، ولكنها باغتتني بالطيبة والكرم..

• ناداني الطفل: "يا رجال.. يا رجال".. تطلعت إليه فيما كان محياه مشرقا وابتسامته البريئة ترتسم على شفتيه.. أحسست أن خلفه امرأة مختبئة تهمس قرب أذنيه.. أخرج كيس نايلون وفيه شيء ما.. رمى به أليّ.. بدأت حذرا في مستهل الأمر، ولكن ما أن شاهدت أنه يحتوي على ثلاثة قراطيس بسكويت أبو ولد، دنوت نحوه وتناولته بيدي.. فيما كان رأس الطفل متدليا من النافذة، والابتسامة لازالت بهيجة على شفتيه.. أجبته: "هذا لي؟!" فأومأ لي برأسه أنها لي، وابتسامته الجميلة تزداد إضاءة على الشفاه..

• ارتسمت على وجهي فرحة طفل تشبهه.. شكرته من أعماقي.. امتنيت له بتكرار كلمة شكرا ثلاثة وأربعا.. أعظم هدية في حرب أن تقتات ما يسد به رمقك، فيما قواك تهتد وتخور من الجوع.. ما أطيب الفقراء وهم يحاولون مساعدتك، وما أهنأ نفوسهم رغم هذه الحرب التي تحاصرهم، وتثقل وطأتها على مقدراتهم، وحاجتهم الأشد في ظرف كهذا..

• غادرت المكان فيما استمرت لفتاتي إلى الخلف، ونظراتي ترمق الطفل بين حين وآخر، ألوّح له بيدي تحية وسلام ووداعا يليق.. وقبل أن أغيب في المنعطف، شاهدته هو أيضا يلوّح لي بسلام يبعث فيني الابتهاج، وينبعث منه شعور بسعادة غامرة..

• أحدث نفسي: يا إلهي كيف يجرؤون على فعل كهذا؟! كيف يطلقون للجنون العنان؟! كيف يقصفون بالقذائف أحياء ومساكن مكتظة بأهلها.. قذائف تهدد الأطفال وامهاتهم بحصد رؤوسهم وبعثرت أشلائهم، وهدم السقوف والجدران التي يحتمون بها من رعب مجهول أو محتمل، لتلقي أثقالها على رؤوسهم وأجسادهم المنهكة.. هؤلاء يمنحونا البسكويت في الحرب، وما لديهم عزيز، فيما نحن نقدم لهم كل هذا الترويع والهلع والموت، ونصب النار والجحيم على رؤوسهم.. أيها القبح الدميم رفقا بنا.. لا يستحمل الضمير كل هذه البشاعة العابثة..

• وبين تلك الحرب واليوم كثير من الحروب.. ولكن حرب اليوم التي نعيش في رحاها عامها السادس على التوالي، نعجز عن وصفها، وأقل وصف لها إنها أكثر من مجنونة وعمياء.. أكثر من مروعة بما لا يقاس ولا يُقارن.. إن الحروب جرئيه على ارتكاب البشاعات.. لا اخلاق ولا قيم ولا قواعد حرب أو اشتباك.. كل شيء بات في الحر
تى من المرابطين في المواقع من الجهة الأخرى، ولكن لا مجال للتردد أو للتنصل من مهمة كتلك..

• وجدنا المقتول ممددا، وفي جزء منه منحنيا في بوابة العمارة التي فيها شقة "سالم معروف"، ووجدنا بمقربة الجثة ذلك الجندي الردفاني الشجاع الذي كان قد سبق وتموضع رأس المنارة، ويبدو أنه أسندت له مهمة الانتقال إلى تلك العمارة..

• أخبرنا الجندي الردفاني أنه كان موجودا جوار هذا الرجل لحظة قنصه من قبل الفريق الآخر.. قال لنا أنه سمع زميله المقتول وهو يتآوه قبل أن يفارق الحياة ويقول: ”آه يا عيالي”

• ”آه يا عيالي” .. هذه الجملة الصغيرة أحسست أنها أشبه برصاصة قناص قد أصابتني في مكان مكين.. أحسست أن فأسا ضرب رأسي حتى شجه نصفين .. شعرت أن عمود خرساني قسم ظهري.. تمردت دموعي وساحت غصبا عني.. من حق الدموع أن تتمرد علينا عندما نريد قمعها في حضرت مشهد مأساوي كهذا.. أحسست لحظتها بفظاعة الحرب وبشاعتها.. حملنا الضحية إلى السيارة، التي غادرت مسرعة، وعدنا نحن لشقة الوالد "سالم معروف"، والتي كانت عائلته قد غادرتها في وقت سابق..

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(4)
هل أنا جاني.. ؟!
• أطللت من نافذة الشقة.. رأيت أطفال يحملون أوعية مملوءة بالماء أثقل من أوزانهم.. أجسامهم نحيلة منهكة، وكأنهم يجالدون أقدارهم الثقيلة التي لا ترحم ولا تشفق لطفل..

• شاهدت طفلة تحمل ما هو أثقل من وزنها مرتين.. سطل من الماء لا تقوى على حمله فوق رأسها، ولا تقدر على العتل بيديها إلا بحدود العشر خطوات، وكأنها تسحب عمرها التعيس المأسوف عليه.. تستريح قليلا لتسترد أنفاسها التي تكاد تنقطع.. ثم تواصل إيابها إلى بيتها بالماء على مائة مرحلة وألف خطوة لتنتصر.. هنا للخطوة قيمة حياة إنسان يريد أن يعيش محترم.. العودة بجلب الماء ربما ينقذ أسرة من الموت عطشا.. كانت تعاود بذل جهدها وتتعثر خطواتها وتقل في كل مرحلة.. عودتها بالماء إلى بيتها معجزة!! كنت أسأل نفسي: متى ستصل بيتها؟! وهل بالفعل ستصل؟! ثم يتبدى أمامي السؤال: هل نحن جناة؟!!

• شاهدت النساء وهن يجلبن الماء، ويتزاحمن على مورده في المكان المقابل.. شاهدت معاناة حرب لا تكترث بما تجلبه من ويلات على الناس المسالمين والطيبين.. نساء وأطفال ومسنون يخاطرون بحياتهم لمواجهة العطش الذي أشتد عليهم بعد أيام من الانقطاع.. يخوضون معركتهم حتى لا يفنيهم الموت في بيوتهم مستسلمين.. رأيت المواطنين العزل الطيبين يشقّون بصعوبة في زحام الحرب طريقا للبقاء والحياة..

• داهمني السؤال: كيف للضمير أن يتنصل من مسؤوليته في ظرف كهذا؟! ثم أدافع عن نفسي كمتهم!: لست من صنع هذا الواقع المؤلم!! ثم ماذا الذي بيدي لأغيّر من واقع الحال، أو أقلب فيه المعادلة لصالح هؤلاء الطيبين؟! إن الواقع الآن يفرض معطياته على الجميع، وأنا صرت أعيش جحيمي أيضا، وحياتي بكف عفريت، والمستقبل إن نجوت فهو مجهول ومرهون بمن ينتصر.. الواقع بات أكبر مني بكثير، بل بما لا يُقارن ولا يُقاس، فما عساي أن أفعل؟! وماذا بيدي أن أفعله؟! وهل ما سأفعله سيغير واقع الحال؟!

• ورغم دفاعي هذا أستمر وجع ضميري حاضرا يرفض الذهاب أو المغادرة.. ظل الوجع يشتد ويلسعني بالألم كسوط جلاد؟! وظل السؤال يلح: هل أنا جاني؟! وبقي هذا السؤال يقرع مسمعي، وعالقا في ذهني المكتظ بما يراه ويسمع، ووعيي المُرهق بكل ما يحدث ويمور.

• الاتصالات مقطوعة، والماء لازال مقطوع ولا أمل قريب بعودته، والمجهول يتربص في كل شارع ومنعطف.. ولكن ما ذنب المواطنين العزل الذين ليس لهم علاقة بالحرب لا من قريب ولا من بعيد؟! بل هم مجنيا عليهم فيها بامتياز.. يخوضون معركتهم الأصيلة من أجل البقاء على قيد الحياة.. يستبسلون في مواجهة الموت والمخاوف الكثيرة والمتعددة.. كم هي عادلة وإنسانية معركتهم تلك أيتها الحياة!!

• تحدّيهم للموت كان على أوجه، وهم يخوضون غمار تلك المعركة الهامة بين الطرفين المتحاربين الساعي كل منهما للفوز والانتصار.. المواطنون العزل هم الأكثرية الذين لم يشاركوا في صناعة هذه الحرب، ولكنهم أول من يتحملون أوزارها، ونتائجها الكارثية، وويلاتها ومآسيها التي تدوم.. إنهم أكثر استحقاقا للحياة من الجميع..

• إن لم تتحد الموت وتخرج لمنازلته، سيأتي يخمد أنفاسك لتموت في جحرك الذي لم تغادره.. في ظروف كهذه إن لم تخرج لمنازلة الموت، وتنال حظك من الحياة، ستموت عطشا وجوعا وكمدا.. سيأتي الموت إليك حتما، وأنت مختبئ ذليل مرتعد..

• كنت مُرهقا ذلك اليوم، حيث لم أنم الليلة السابقة، ولا نهار ذلك اليوم.. وضعت يدي على رأسي ووجدت نتف من شعر رأسي يتساقط على نحو سهل وكأنه ليس بعض مني.. حاولت تفقده فوجدته يتساقط نتفا بمجرد تمرير راحة يدي عليه، دون أن أشعر أنه كان نابتا في فروة رأسي.. قررت أن أتركه ولا أحاول مرة أخرى حتى لا أجد نفسي فجأة دون شعر ولا فروة.. ظننت أن مرضا خصني وأعطب فروة الرأس!! سألت الجندي الردفاني الذي معي عمّا إذا كان هو أيضا يعاني ما أعانيه، فوجدته أنه عانى هو من هذا