أحمد سيف حاشد
343 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
: إذا كنا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعة نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..
*
كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضرورات في عملية طويلة ومعقَدة وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
سلسلة طويلة من الصدف والضرورات لا تكف ولا تتوقف، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسير، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمر نهاية!
المكان لا يكف عن السير، والزمن يتسرمد للأبد، ومألات الكون غامضة ومجهولة.
ولكن لماذا من علِق منّا في رحم الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى واجهة الكون صارخا بالبكاء؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلان وجود، أم هو رفض واحتجاج على هكذا وجود؟! هل هو فزع من العالم أم خوف من المجهول؟!
لماذا لا نخرج إلى واجهة الكون فرحين أو مقهقهين، أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولود من بني البشر لا يستهل حياته إلاّ بصرخة بكاء حادة؟! هل صرخة البكاء هذه هي تعبيراً عن رفض لقدر لم يختاره هذا المولود، أو لم يكن لإرادته فيه شأنا أو خيارا؟!
يحاول أن يجيب الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير بقوله ساخرا: "في لحظة الولادة نبكي لأننا قادمون إلى مسرح مكتظ بالحمقى".
بين صرخة الولادة وشهقة الموت عمر مثقل بالمعاناة وعالم من المتاعب والأحزان والأشياء والتفاصيل.
عندما تتعثر خطاك على الدوام، ويلحق السوء بحظك كلعنة لا تفارقك، وتخيب أمنيات حياتك، وتبطش بك الأقدار يميناً وشمالاً، وتصير فريسة للحرمان والمتاعب.. هل تكفر بنعمة من كان سببا ومعجزة في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كل ما هو تعيس وخائب؟!
*
أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاء لما أتيت إلى هذا الوجود، وكنت في حكم العدم.. وينطبق هذه على التراتُبيات كلّها.. إلى كل الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.
ماذا لو أجهضتني أمي في بطنها، حالما كنت لا أعي، ولا أفقه شيئا ولا أبالي بألم؟!
ماذا لو انتحرت يوما، أسحق فيه أنانيتي، وغريزة تتشبث بحياة من جحيم، أبقتني مثقل بمعاناة مؤلمة، وآلام عمر مُجهد، أمتد طويلا حتى شارف على بلوغ كهولته؟!!
وماذا نقول عمّا أسموه قتل الرحمة إشفاقا بصاحبه، وخلاص من مرض أدركه اليأس، وألم يلسع كالنار، لا يُوقفه إلا عتق النفس وتحريرها من محبسها الجسدي الضيّق، والأشد من محبس الحديد..؟!!
***
(2)
زواج "أمّي":
تزوجت "أمّي" مرتين قبل أبي.. كنت يومها في حكم العدم.. يبدو ذلك العدم حال مقارنته بوجودي اللاحق خالي من كل شيء.. فراغ كبير، لا مكان له ولا زمان.. فراغ لا وعاء له ولا حدود.. ليس فيه هم ولا معاناة ولا جحيم.. لا يوجد فيه أي مظهر من مظاهر الإحساس أو الوجود من أي نوع كان.. حالة لا يمكن تصورها أو وصفها بغير العدم أو ما في حكمه..
لتجد مقاربه لفهم عدمك، عليك اطلاق عنان وعيك، لتتصور هذا العدم.. عليك أن تتخيل عدمك إن كنت تَغرق في الخيال، والتفكير العميق.. عليك أن تطلق الأسئلة في فضاءات استكشاف الوجود واللاوجود.. اسأل وعيك إن كنت تعي: ماذا كنت قبل ألف عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكون قبل مليون سنة؟! وماذا كنت تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى الصفر لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفر دون..
زوج "أمّي" الأول:
أعود من هذا التيه في العدم واللاوجود، إلى الوجود، وما أنا بصدده هنا.. كان زوج "أمي" الأول من أقاربها.. كان هذا الزواج على "أمي" باكرا، ولم يغادر عمر "أمي" عند عقد هذا القران، سن الطفولة الباكر.. كانت قاصرة، وعمرها لم يتعدَّ في أفضل الأحوال الـ 12عام، فيما الشاب الذي تزوجها كان يكبرها بأعوام..
أستمر زواجهما أربع سنوات، أو دونها أو أزيد منها بقليل، ولم تنجب "أمي" من هذا الزواج الذي جاء ربما قبل طمثها الأول بسنين، ومع ذلك لم اسمع من أمي يوما إنها ذمّت هذا الزواج، أو قدحت فيه، أما لجهلها أو لرضاها، أو لبقايا ذكريات وحنين جميل تنزع إليه..
أراد زوجها أن يذهب بها معه إلى مدينة عدن، حيث يعمل ويقيم، غير أن أب الزوج كانت له سلطة القرار الأول في الرفض أو القبول، وكان منه المنع والرفض جازما وحازما، وفرض على الزوجين خياره هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيل.. كان بإمكانه أن يتدخل ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجته في القرية، وهو ما حدث، وكان باب لمشكلة يوما تداعت..
كان على الزوجة رغم صغر سنّها، بذل ما في وسعها لخدمة أسرة الأب وطاعته، أما الابن فيجب أن يكون خاضعا ومطيعا، لا يرد للأب أمرا، ولا له حق أن يعترض أو يغالب إرادة والده إذا ما شاء وأراد..
كان من المعيب، بل ومن المعصية والعقوق أن يتصدى الابن لرغبة وسلطة أبيه، حتى وإن سحق الأب سعادة ابنه وحُبه لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطة أسرة الزوجة هي الأخرى، وبدعوى حماية ابنتهم من تعسف أسرة الزوج، فتبدأ المقامرة بمصير الزوجية ومستقبلها، وكثيرا ما كان يؤدّي هذا التدخل والتضاد، إلى الطلاق والفراق الكبير..
تدخلت سلطة "أم أمي" وكان
ت الأم ذو شخصية نافذة، وإرادة قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجين يجهشان بالبكاء، لا يريدان طلاق أو فراق.. الاثنان يجهشان بالبكاء، ويزيد من مرارة الحال، أن ليس لهما في مصير زواجهما وحبهما حولا ولا قوة، ولا يد لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرة أرباب الأسر، وباحتدام الخلاف بين أب الزوج وأم الزوجة، وعدم الاكتراث والحفاظ على ما أمكن، خسر الحب المغلوب بالطاعة والمقامرة، وأنتهي به المآل الى الُخُلع، والفراق إلى الأبد..
*
زوج "أمّي" الثاني:
تزوجت "أمي" للمرة الثانية من منطقة بعيدة نسبيا، ومن غير الأقارب.. ولكن هذا الزواج كان قصيرا وعابرا.. لم تمكث "أمي" لدى هذا الزوج الطيب والكريم، غير أسابيع قليلة، كان الحب ناقصا، ومن طرف واحد، ولم يستطع سخاء الزوج وكرمه، أن يسد ما نقص من الحب الفاقد نصفه..
لقد تم زفاف "أمي" في زواجها الثاني، دون سابق معرفة بمن أرادها للزواج، بل ودون أن تراه أو تُستشار، ودون أن يكون لها كلمة في قبول أو رفض أو خيار.. لم تراه "أمي" إلا في ليلة الزفاف.. كان الزواج بالنسبة لـ "أمي" وربما للزوج أيضا، أشبه بالبخت، وضرب الحظ واليانصيب..
يبدو أن قلب "أمي" لم ينجذب لمن أختاره لها أهلها، أو لمن كان له طلب اليد والاختيار.. ربما أخفق حظها، أو كان قلب "أمي" مُحبطا، أو معلقا في رجاء يائس، أو ربما لازال بعض من الحب القديم ينبض بسر وكتمان.. فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتها، وتظل في الذاكرة فترة قد تطول وتمتد إلى الكهولة، ويظل الحنين إلى القديم المعتق، يرفض أن يغادر أو يموت..
ما لبث عقد هذا الزواج أن أنفض وأدركه الفراق باكرا، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنه أدركه الحمل، ورزقت "أمي" منه بنتا، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفة باهظة، تستمر من الولادة حتى آخر العمر.. واقع اجتماعي ثقيل وظالم، يحملها على أن تدفع ضريبة وجودها وجع وإرغام، وانتقاص يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها التراب!.
لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجة أخطاء غيره، وعلى هذا النحو من الكلفة الباهظة التي ترافقه حتى اللحظة الأخيرة من العمر، بل وتمتد إلى تحت التراب؟! لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئة وأخطاء لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعونها هم؟!
لماذا الأبناء والأحفاد يتحملون أخطاء وخطايا الأجداد البعاد؟!! لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا هو الحال ـ أن يتحملون خطيئة أمَنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمان، إن كان للزمان آخر وختام؟!
أختي هذه بنقاء البلور وبساطة القديسين.. مستسلمة للأقدار بسذاجة البلهاء الصبورين.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمن أخطاء آخرين.. لا زالت مستسلمة لأقدار لم تصنعها، ولم تشارك في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا. عاشت طفولة بائسة، وزُوجت وهي طفلة لرجل يكبرها بحدود الثلاثين عام.. أختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدار السيئة على غير ما تريد... آخر نكبة لها وآخر مصاب جلل أصابها كان مقتل ولدها، في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تم الاستيلاء عليه من قبل أمراء الحرب، وأرباب الفساد، وتجار الحروب والأوطان.. حتى اسمها يبدو أنه قدر مخادع..
اسمها ليس على مسمى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر.. حتى أسماءنا بتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر، أنها كانت مجرد وهم على وهم، وسراب فوق سراب.
*
زواج "أمي" من أبي:
كانت أمي لا تريد الزواج مرة ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني.. ولكن تم إقناعها بالزواج للمرة الثالثة من قبل إخوانها، وإغرائها بوصف "أبي" ـ التي لا تعرفه ـ بالشهامة والمرؤة والشرف ، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد..
قالوا لها: إن البنت لن تفيدك في حياتك، إنها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خير عائن وساند في حياتك، وضماناً لمستقبلك من قادم الأيام، وما قد تحمله لك من نوائب ومجهول..
كل له منطقه وحججه في ظل واقع ملغوم، وغير آمن للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطة عميقة ومتجذِّرة، وفي المحصلة كلمته عليها هي فصل الخطاب.. وليس لـ"حذام" قولا هنا، ولم تقطع "جهينة" قول كل خطيب..
"أبي" شاهد "أمي" في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها.. تزوج "أبي" قبل "أمي" خمس نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدة بقت في عصمته، إنها أم أخي علي.. وكان علي الولد الناجي الوحيد من الموت، والمتبقي لها، وظلت زوجة لأبي حتى توفاها الأجل، وكانت أمي أم لسبعة ناجين بنات وبنين، وكانت أمي مسك الختام..
عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى "البقطة علّقت على هذا الزواج بقولها: "حنش مع محنوش" وكأن لسان حالها يقول: خيبتها على خيبته.. "جنِّي تزوج جنِّية".. تعدد زواج "أبي"، وتعدد أزواج "أمي"، فـ "أبي" سبق أن تزوج قبل "أم
ي" أربع زيجات، وأمي تزوجت قبل "أبي" اثنين وتلاهما "أبي" ثالثاً..
ربما بدأ الأمر في نظر البعض تجارب فشل متعددة من الجانبين، وربما نظر البعض أن كليهما بات خبيرا في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواج إلى نهاية العمر، متحديا ومغالبا عواصف هوجاء وأحداث دهماء، ومصائب عظام، وما كان ليصمد من الزواج أعظمه أمام واحدة منها..
استمر هذا الزواج طويلا في صمود اسطوري ندر مثله.. زواج اشبه بزواج البحر والجبل.. عراك دائم مدا وجزرا.. وضجيج مستمر لا يقر ولا يستكين، ولكنه لم يتخل أو يدر احدهما ظهره للآخر في قطيعة تدوم.. عظمة هذا الزواج هو صموده الخرافي، واستمراره مقاوما كل عوامل الفراق والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أي صدام أو احتدام.. لم يستسلم لعامل أو طارئ، وإن كان بحجم كارثة، ولم يهتز بجزع أو هلع، أو بقطع رجل ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكا للختام..
أما أنا فكنت الجامع والمشترك الذي ظل يمنح الصبر والبقاء، والرقم الذي رفض أن يخرج من حساب المعادلة.. أنا الولد الغائب الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عقد قران "أمي" على "أبي".. أنا الذي سيكون في حياة أمي ضماناً لمستقبلها في قادم الأيام، وما قد تحمله من نوائب ومجهول.. وكنت لها هذا الضمان، بل والوجود كله..
*
(3)
عدن..
أثقال العيب..
• في "كافورستان" كان للكشف متعة ولذاذة.. غرق في النشوة القصوى.. الكشف الأول في سن الحلم.. استعجال لمعرفة تتأخر بسبب الجهل بتثمين الوقت، والجهل بعمر عابر كالريح.. رفض ألتاع بأسئلة الحيرة.. أسئلة الكشف الباحث عن رد أو مُعطى.. أسئلة الجُرأة فتحت أبوابا كبرى في كشف مجاهيل الكون..

• في "كافورستان" كانت محاولتي الأولى، لرمي بعض من ثقل مُرهق.. جبل الواقع ناخ بحمله على كاهل غر مُتعب.. سحقا لرتابة مسكونه بالعيب.. العيب أن تقضي حياتك بيدق.. العار أن تعيش مسلوبِ الوعي..
• اسئلة الحيرة ليست وسواسا من عمل الشيطان.. اسئلة الحيرة لا تغفلها حتى تزيح عنها الحيرة.. لا تقمعها ولا تغفل شك.. ارمي حجرا إلى قاع الماء الآسن، لترى ماذا يوجد في القاع! غوص إلى قاع وخوابي النهر.. غامر وابحث عن أصداف وكنوز البحر.. لا تبقي ثابت كالخشبة في الردهة، أو في الجدار كالمسمار ..
• ما أسوأ أن يستوطننا الجهل الكاسح.. ويستعمرنا الخوف من سن حضانتنا الأولى حتى الموت.. ما أسوأ أن نظل نستجر التالف، ونلوك الماضي الغارب.. محبوسين في قمقمه.. لا نخرج إلا لخدمته.. "شبيك لبيك نحن طوع يديك"..
• في "كافورستان" بدأنا (ألف) التجريب، وكشف مجاهيل الذات، واكتشاف الآخر أيضا.. التجريب معرفة تتنامى.. تتراكم في سلاليم العلم.. اطلق عنان الرغبة من قمقمها إلى فضاء الممكن.. ولا تحبس عقلك في الردهة.. اطلق عنان العقل في أبعاد الكون..
• أسئلة تداهمني، وتتناسل كالضوء.. لماذا لا نتصالح مع أنفسنا؟! لماذا نولع بالكذب؟! لماذا نستمري الدجل على أنفسنا وعلى العالم..؟! ونتخفّى خلف أقنعة الزيف.؟! ونتصنع ما ليس فينا؟! لماذا لا نخجل من أنفسنا..؟!
• شكرا يا "كافكا" ولا تخجل، فقد أدركت زحمة هذا الزيف، ونزعت عنّا هذا التنكير، وأزحت مساحيق التجميل عن وجه حقيقتنا.. شكرا يا"كافكا" وأنت تعلنها بالفعل وبالقول: "خجلتُ من نَفسي عندما أدركتُ، أنّ الحياة حفلةٌ تنكَرية، وأنا حضرتها بوجهي الحقيقي".
• لماذا نجلُّ الوهم الباذخ ، ونصنع منه أربابا وقوانينا تطفئ ما فينا من نور.. كم نحن جلاوزة وجلادون.. يتملكنا غباء فادح، وسياط العته الأحمق.. سجانون للعقل المتحفز للنور.. جلادون بعنف وجنون.. بمهول الجهل والخوف القامع والعيب الوخم، نجلد أنفسنا حتى الموت.. ما أوطئ وأحط من هذا العيب الذي يثقل كاهلنا إلا قانون العيب!!
• أزيحوا أقنعة العيب من وجه الحقيقة العاري.. الكذب أم كبائرنا وخطيئتنا الأولى.. متى نتصالح مع أنفسنا؟! ونزيح من وجه الصدق أقنعة الزيف، وهذا الكم الباذخ، من فحش الكذب والتدليس..
• لا تحرج يا أستاذي "راشد" من هذا العيب، ولا تخجل إن جمعت صدفتنا ثلاثة.. إيابك وذهابي و"كافورستان".. لا تُحرج من تلميذك إن شرب كلانا من نفس الحوض، فالغفران رابعنا دوما حاضرا.. سحقا للعيب.. كم نحن بشرا يا أستاذ.. علينا أن نتصالح مع أنفسنا؛ لنكون أفضل مما نحن فيه..
• لا تشغل بالك يا أستاذ إن غلبك يوما هذا العيب؛ فالزمن كفيلا بكسر الغلبة.. ولكن قاوم ولا تستسلم.. دع الكبت المتراكم والمحبوس يبحث عن تنفيس، والشكر "لكافورستان".. الجمع يعاني يا أستاذ ويبحث عن منفس.. كل منّا في شواية تصليه.. كل منا مرميا في ضغاطه عيب أضيق من قبر..
• في بيت من شعر نزار، وضُعنا جميعا تحت السكين.. نحن بصيغة أخرى كذلك، في واقع هذا الحرمان، الكل تحت سكين العطش المالح.. الأيام جحيم وسعير لا تسأل من أنت:" لا يمـينٌ يجيرنا أو يسـارٌ.. تحت حد السكين نحن سواء"..
شكرا "كافورستان" أخففتِ عنّا بعض من هذا الحمل الملقي على الكاهل..
*
(4)
للوشاية عيون:
• لتعيش حياتك لا تهدر فرصك بالوهم الزائف،
وأعلم أن فرص الموت المتربص أكثر.. اسمع وحي "أوليفر هولمز" وهو يقول: "يقرص الموت أذني ويقول عش حياتك! فأنا قادم.." شكك بالثابت حتى تتيقن.. ابحث في الثابت للنفي أو التأكيد أو اصلاح المعوج، دون أن تغفل علم يضيء دربك للمستقبل..
• العمر قصير جدا، والشباب أقصر، كلمح البصر العابر، فلا تهدره في التيه حتى لا تندم على عمر ضاع وشباب ما عاد يوما إلا حسرة وندم.. ابحث عن الجمال المكنوز، لتواجه قبح العالم ودمامته.. افرح لتعيش أيامك، وتواجه أياما. كُثر مطبوعة بالحزن والندم الأكبر..
• في "قلعة إستان" أقمنا للعشق ولائم.. بروق ورعود.. أنسام الكون تتمايل.. ترقص طربا.. تبتهج خواصرها.. همينا مزنا، وقطفنا النشوة.. عبقنا برائحة الطين الممطور.. سال السيل، وسالت مسايلنا تسقي الأرض البور، والبوادي العطشى على التنور.. أخضرّ المجرود، وبألوان الطيف تفتحت زهور وورود.. وما كان قاحل مجدوب صار عشب وسجاجيد..
• عُذال ووشاة ضربوا الطوق علينا.. رصدوا ايقاع الأنفاس.. جسّوا نبضات القلب وخفقانه.. آذان تسمع دبيب النمل.. تسرق السمع عن بُعد.. وعيون ترصد أنفاس الليل.. حراس المعبد لا هم لهم إلا القبض على همسات العشق وخطوات الليل..
• صار للوشاية جدران .. آذان وعيون.. تتلصص وتسترق السمع من شرص الباب.. أبواب مخادعنا.. باتت تتحين فرصة للوثبة.. للضبط المتلبس.. تبصبص من شقوق نوافذنا الملتاعة بالعشق.. تستطلع خوافينا وخوابئنا، وما يجوس في بطن الشاعر.. تفتش في ذهن العاشق المولع عن دليل دامغ.. والعاشق غارق تسبيحا في ملكوت الله..
• أحسسنا بالضيق والجور الخانق.. قررنا كسر الأغلال، وتحرير العشق المغلول.. اطلقنا أيدينا المعقوفة، وفردناها للأحضان .. اطلقنا سراح العشق من أقبية العتمة.. حررناه من سرداب السجن المدفون تحت الأرض العمياء.. اطلقناه إلى فضاءات وفسحات الكون..
• صار العشق يقامر ويغامر في صولات وجولات الحرب.. والنصر الذي كاد يهرب منّا، أعدناه إلى الأحضان.. والهزيمة التي كادت تغلبنا يوما، كسرنا غلبتها، وذللناها.. ونزعنا مالا ينزع من شدق الضيغم..
• غنينا حتى ثمل العشق، والقمر الحاضر يرقص طربا على أنغام الدان:
"وعلى عينك يا حاسد..
تلاقينا والقمر شاهد..
حبيبي جاء على وعده
ونفذ في الهوى عهده..
يا سعدي ويا سعده.."
• في ليلة رأس العام، احتفلت معنا مجرتنا بقدوم العام.. دارت على خواصرنا حتى داخت من الدوران.. أثملها خمر العشق الذائب في ملكوت الله.. درنا معها حتى دخنا.. وخلقنا كونا في ستة أيام.. وبشرى زُفت بكرم العام القادم عشقا.. خمرا ولذائذ.. عشق أكثر وأكبر مما عشناه..
أما صنعاء، وفي هذا العهد المظلم، والضارب فيما قبل الألف سنة، باتت ميتم، ملفوفة بالعتمة والظلمة.. وحداد لا يبلى..
*
(5)
ذكريات لا تعود:
خور مكسر:
• "خور مكسر" التي حملنا إليه رأس السنة بأجنحة الزوغان المجنّح، لنحتفل مع السحاب والملائكة.. التعليم الجوال الذي أجاد إيصال أبجديات المعرفة فيما نجهله.. توتر أعصابنا واشتعال أوصالنا، والحمى اللذيذة التي تجتاح الجسد وكينونته.. العيون المشتعلة بالشوق العاصف إلى الممنوع.. تمرد العيون على المحاجر لساعات طوال، حتى توغل في الرجاء والتمني أن لا يكون للزمان نهاية أو مطاف..

• عيون تحررت من محابسها لترى ماذا يحدث خلف الأبواب المغلقة بالنار والحديد.. الروح الماطرة تلقح الأطيان العاشقة بالبهجة والفرح.. وآهات لم نسمع مثلها من قبل.. الحضور البهي الذي يستعيد توازنه المختل بالجنون، واستعادة آماد الفقدان والغياب المحظور.. الاستقصاء الأول في المجهول طلبا لمعرفة اجتاحتنا كسيل عرمرم.. قشرت الحياء المهشمة والمتطايرة والمُجتاحة بحمم البراكين المسالة من رأس الجبل..

*
حي القطيع:
• عدن حي "القطيع" الذي أقتطع بعض من وجودي، ومن خيالي الكثير.. سكنته في الحب متيما، وسكن هو دواخلي ووجداني المحب، وامتد إلى أقاصي الروح وآمادي البعيدة.. لي في حي "القطيع" إلياذة وحياة، لازالت جذوتها تومض في الزوايا المعتمة، لازلت تتوقد في مخابئ ذاكرتي، والوعي الضارب عمقه..

• كم تلظّى الهوى في هذا الحي، وكم في فؤادي شب؟! كم غلبني خجلي فيه، وكم خاب الظن؟! ولازال الحب الأول آسر.. مات البعض، ورحل الآخر، وما خمد اشتعال دمي.. لوعة تتأجج في أوردتي وشراييني، من ذاك اليوم، إلى هذا اليوم المتخشب وعده، والمتحلل عهده..

• رن اسم "القطيع" وغنّى على مسمعي ما شجى، وكم عزف نياط القلب المتيم بالحبيب.. حي "القطيع" لطالما هزّني الشوق إليه، وأثار فيني كثيرا من شجون الطفولة والصبا، وحرك في أعماقي عاصفة من الحنين والذكريات التي لا تتكرر ولا تعود..

***
دار سعد:
• عدن "دار سعد" الذي سكنته في عهد الطفولة الندي، ونعومة الاظافر، ثم سكنته وأنا مراهق ويافع. دار سعد الوحدة والتنوع.. الفسيفساء الجميلة والحياة العامرة بالتعايش والاندماج.. اليمني والصومالي.. البدوي والضالعي.. الهندي والزبيدي.. الزيدي والوهطي.. الشحاري والقباطي.. دار سعد دار لكل الناس
.. يستقبل الجميع ويفتح لهم القلب والوجدان والمنافس.. لا يتأفف ولا يتعالى ولا يرد محتاج..

• دار سعد أعمامي فريد، والحربي، والعم سعيد الكراعين.. الحمادي والقعود وعاشور وحيدره وصلوح وعبد السلام، وربيح وكل الطيبين.. دار سعد شارع الأمل وشارع السلام والبساتين..

• دار سعد مطعم الحمادي، وفول ثابت، والمسبح الذي اختلس إليه، وتمنيت أن أكون فيه سمكة إلى الأبد، أو مسبح عنه الشمس لا تغرب ولا تغيب.. دار سعد إيقاع ومتعة، لطالما استمعت فيه واستمتعت بالصوت الشجي ووجه الفرح والابتسامة المُحلاة.. الفنان أحمد يوسف الزبيدي وهو يغنّي:
"القلـب فـي حيـرة ما بين حـب اثنين..
أعطي لمن قلبي واعطي لمن ذي العين ..
إن قلت للأسمر يا اسمـر أنـا أهـواك..
يجــوّب الأبيـــض با تروح مني فين"

*
صلاح الدين:
• عدن "صلاح الدين".. ميدان الحركة النظامية والطواف الأسود، واللباس المبلل بالعرق.. منطقة الحشد في رأس عباس، وسباق الضاحية من عمق الصحراء المتلوية بالعطش، والمرمى الذي رمينا فيه السهام على الهدف، وحراسة "القاعدة" في رأس عمران..

• الكلية العسكرية في صلاح الدين، ومجالدة الجلد.. الإرادة والطموح والقيادة والرجولة.. الجهد المبذول والعرق المسال أضاحي لانتصار يدرئ كثير من نزيف الدم في المعركة.. الصدارة والتفوق، والفرحة التي لا تُنسى مهما حييت.. أسئلة الوحي المتمردة التي تجوس في أعماقي حيال بعض ما اتعلمه..

• الكلية التي تشربت فيها العسكرية والنظام، وما حبسته من تحفظات وقناعات رافضة لما أراه في غير محل قناعة.. السوية التي تجعلني مع تمردي متصالحا مع النفس، والرغبة التواقة إلى فضاء اوسع من الحرية، حتى أشعر أنني أمارس وجودي الحي، ورفضي للظلم أينما كان..

*
مدينة الشعب:
• عدن "مدينة الشعب" التي درست وتفوقت بدراستي فيها، هي نفسها التي أحببت في إحدى كلياتها، وفشلت في الحب بتفوق ايضا.. الخيبة التي تنافست مع تفوق كان.. لطالما شعرت أن فشلي هذا كان متفوقا على نحو منقطع النظير.. مدينة الشعب التعليم الجاد، والحب الذي خاب، والأصدقاء الذي أحببتهم، ولا يتسع المقام هنا لذكرهم..

*
عدن التي كانت:
• عدن البريقة والغدير وكود النمر ورأس عمران.. عدن المصافي والعمال والنقابات.. عدن صيرة والصيادين، وأغاني البحر الشجية "هيلا.. هيلا هيلا.." .. عدن جبل شمسان، وجبل حديد، وجزيرة العمال.. عدن صهاريج الطويلة، وقلعة صيرة، ومنارة عدن، ومسجد أبان، وخرطوم الفيل، وساعة "بيج بن عدن" والمتحف العسكري، وجامع البينيان، وكنائس المسيحيين، وبقية معابد الأقليات..
• عدن ليست قليلة، والعتب واللوم بل وأكثر منه على من جعلها قليلة، أو أستهان بها وجعلها غير ذي أهمية.. عدن ثاني ميناء عالمي في ترتيب الموانئ بعد نيويورك.. عدن أول بريد، وأول مصفاة، وأول مكتب صرافة، وأول إذاعة، وأول تلفزيون، وأول صحفية، وأول انتخابات تشرعية، وأول غرفة تجارية في المنطقة.. عدن أول قانون للنقابات العمالية في البلاد العربية، وثاني قانون متحرر للأسرة والأحوال الشخصية في الوطن العربي، يحمي حقوق المرأة والطفل..
• عدن التي تمنى قابوس عمان، حالما كان يدرس فيها أن تكون مسقط مثلها، وتمنى أن يكون له مثلها زايد الإمارات، وصبّاح الكويت.. عدن التي كانت تبهر وتأسر المواطن الخليجي بنظامها ونظافتها وقوانينها ورقيها..
• عدن السلام والقانون والنظام والتعايش.. عدن التي جمعت الاطياف والأجناس والأديان والطوائف.. عدن التي أجتمع فيها الهنود والأفارقة والزيود والزبود واليهود.. عدن التي سكن إليها وأقام في حناياها البهرة والفرس والبانيان والباكستانيين والصومال والايرانيين، وكل القادمين الباحثين عن أمل أو عمل أو حياة..

• عدن التي قال عنها امين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" إنها تجمع المسلم والفارسي والبانيان والمسيحي والاسماعيلي واليهودي .. وأضاف: أن وكل هؤلاء يتاجرون ولا يتنافرون، ويربحون ولا يفاخرون.:
• عدن البحر والسماء والنوارس.. الميناء والخلجان والشواطئ.. منتزه نشوان، ونادي البحارة، والعروسة، والنادي الدبلوماسي، والكمسري.. عدن الساحل الذهبي، وساحل الغدير، وساحل أبين، وساحل العشاق، والعشق المكلل بالأرجوان وشبيب النار..
• عدن الحاضنة للبحر والسماء، والقادمين الباحثين عن الأمل والحب والحياة.. عدن المحبة، والرزق الحلال الآتي بالكد وعرق الجبين.. عدن الثغر الباسم و”الكفر الحلو*” والإيمان المسالم..
• عدن مقهاية زكو، ومطعم الشيباني، ومرق الدبعي، وحلويات القباطي، وتجارة الأغبري ، واستيديو العبسي، وقات المقطري..
• عدن الرز، والصانونة، والمطفاية، والصيادية، والزربيان، والسمك الباغة، والزينوب، والرطب، والرشوش والحُلبة الحامض، وخبز الطاوة، والمطبقيىة، والشاي العدني، والعصملِّي..
*
عدن التاريخ والثقافة:
• عدن موطن مملكة أوسان القديمة.. والحاضرة في تاريخ سبأ وحمير، وفي أسفار العهد القديم، وفي كتابات ابن خلدون، وابن منظور، والهمداني، وابن بطوطة، وياقوت الحموي و
أمين الريحاني.. عدن الحاضرة في كتب الطبقات، وأخبار الملوك، والسير والرحلات..
• عدن التي كانت حاضنة للثقافة وفيها ما لا يقل عن "11" نادي ورابطة ومنظمة، تعمل بالثقافة والأدب والوعي.. عدن مكتبات مسواط وباذيب والإكليل.. مسرح التواهي، وسينما أروى وريجل وبلقيس.. عدن نادي التلال، ونادي شمسان، ونادي الميناء، ونادي الوحدة، ونادي الجيش الرياضي..
• عدن أحمد سعيد جراده، وإدريس حنبلة، ومحمد الجابري، محمد عبده غانم، ولطفي جعفر أمان.. عدن أبو بكر السقاف، وعمر الجاوي، ومحمد عبدالولي، وسلطان ناجي، وحسين الحبيشي، وعبد الرحمن إبراهيم، وفريد بركات..
• عدن الفن والفنانون أحمد قاسم، ومحمد مرشد ناجي، ومحمد جمعة خان، ومحمد سعد عبدالله، وإسكندر ثابت، ومحمد عبده زيدي.. عدن أولياء الله الصالحين، العيدروس، والهاشمي، والشيخ عثمان، والشيخ عبدالله بن أحمد، وحسين الأهدل..
• عدن عبدالله باذيب، وفيصل عبداللطيف، وكل الحالمين.. عدن التي لاذ بها الهاربون والملاحقون من ظلم سلطات الشمال.. عدن الأحرار الميامين الباحثين عن وطن عامر بالعدالة والحرية والكرامة والمواطنة..
• عدن تلك التي كانت ولم نعد نجدها أو نراها اليوم حتى بالمجاهر..
*
حال عدن اليوم:
• من كان يتخيل أنه سيأتي يوم نشاهد فيه عدن بلا ميناء..!! وأن مرسى صيانه السفن يتم بيعه بسعر الكيلو للحديد الخردة.. من كان يتخيل أن يرى "مملاح عدن" يتعرض للسطو..!! ويرى عصابات ومافيات الأراضي تتعدي وتستولي على الأرضي العامة والخاصة، بل وأيضا على المنتجعات والشوارع والمعالم السياحية والتاريخية..؟!!
• من كان يتصور إن المتحف الحربي، وما يشمله من تاريخ عسكري مجيد، وما يحتوي أقسامه وجنباته من قطع أثرية وتاريخية عسكرية، يزيد عددها على الخمسة آلاف قطعة من تاريخ حافل، بات اليوم فارغا ومنهوبا، وزائد على هذا صار دكاكين وخوازيق وجحور ومسالخ دجاج، وأشياء أخرى..!!
• من كان يتخيل أن المتحف الوطني يُنهب، وتاج الملكة يباع في حراج عدن.. وبعض من الآثار التي كان يحفظها ويكتنزها هذا المتحف المنكوب، تباع في مزادات لندن وباريس و وشنطن..
• من كان يتخيل حتى في كوابيس النوم أن نشاهد في القنوات الفضائية خبر عاجل: "اشتباكات مسلحة بين أبناء "السيلة" و"المحاريق" في الشيخ عثمان بعدن"..
من كان يفكر بأن الانفلات الأمني في عدن يبلغ هذا الحد، ويصل إلى أشدّه لمدى سنوات طوال، وأن القتل اليومي لا يجد له من يزجره أو يردعه، ولم نر مجرما أو قاتلا واحدا يُقاد إلى عدالة أو قضاء..
• من كان يتخيل إن الأمّية التي تم القضاء عليها قضاء مبرما في ثمانينات القرن المنصرم، تعود في عهدنا المتأخر، بهذا القدر من التوحش والتجهم والغلظة في جيل حديث السن، على مشارف العقد الثالث من الألفية الثالثة..
• من كان يخطر على باله يوماً إن المرأة في عدن والتي نالت حقوقها كاملة قبل عقود، وتم مساواتها بالرجل وعلى نحو قل نظيره في بلاد العرب من الخليج إلى المحيط، أن تأتي مرحلة سوداء كثيفة الظلم والظلام تبتلعها هي وحقوقها على نحو يحز في النفس، ويدعو للحزن العميق..
• من كان يتوقع ان المرأة في عدن، والتي تجاوزت واقعها بخمسين عام أو أكثر نحو المستقبل الذي ترومه، أن تداهمها هذه الردة الحضارية الملتحية والمتخلفة، وتعيدها جريا وهرولة إلى ما قبل أكثر من ألف عام..
• اليوم عدن باتت مثقلة بالكراهية والعنصرية والمناطقية والقروية، وكل العصبيات المنتنة.. عدن باتت اليوم تعتبي بكل ما هو بشع وفج وقبيح يدمر ما بقي من وعي وعلاقات ومجتمع وثقافة وتعليم واقتصاد ومؤسسات.. وصارت الممكنات المُعطلة تعمل بنجاح وكفاءة لا تضاهى، ويجري هدم وتدمير كلما له علاقة بالدولة وأجهزتها، أو بالأحرى ما بقي منها أو ما بقي من ملامحها المتلاشية..
• استباح التوحش تعايشها وجمالها وطيبة أهلها.. وحولوها إلى "فود" وغنيمة.. وظل القادمين من خارج العصر ينهشونها ويمزقونها كالضباع.. قتل يومي، وخراب متسع، وشعب يعاني من جميع أطراف الحرب التي ارتكبت الكوارث والخطايا بحق وطن، وشعب لطالما أنهكوه ودمروه حتى صار لا يقوى حتى على الاحتجاج أو المناشدة..
• عدن التي كانت تفيض بالتسامح والمحبة والتعايش لم تعد كذلك.. عدن اليوم مشوهة ومشلولة ومحتلة ونازفة.. عدن مثقلة بالمعاناة والحروب.. عدن اليوم ومثلها غيرها من مدن ومناطق اليمن باتت أشلاء ممزقة وبلا أمن ولا نزاهة ولا قانون ولا نظام ولا استقرار.. عدن منهكة لم تعد تقوى حتى على الأنين..
• عدن لم تعد كما كانت ولا ندري متى ستعود.. وهذا لا يعني أن صنعاء أفضل حالا منها..
*
من المسؤول؟؟!:
• العيب ليس في عدن أو غيرها من مدن اليمن، ولكن في السلطات والنخب التي تداولت حكمها، أو التي حكمت اليمن مشطرا، ثم اليمن الموحد؛ ومن ضمنها الساسة المراهقون، والفاسدون، والعصبويون بمختلف مسمياتهم، من الماضي نسبيا إلى اليوم..

• لقد جرّفت تلك السلطات والنخب التي نحن بصددها، أو ساهمت كل منها بهذا القدر أو ذاك، بتجريف التراكم المع
رفي والعملي لمدينة عدن، والذي تكّون خلال ما يقارب المائتين عام أو أكثر، وعلى كل الصعد تقريبا.. المجتمع والثقافة والسياسة، وكذا الإدارة والمؤسسات وبناء الدولة..

• المسؤولية على الساسة والنخب والسلطات التي كانت تحكم عدن ثم اليمن الواحد، وفشلت في حل خلافاتها بالطرق السلمية والمدنية، واستسهلت البدائل الكارثية، حيث غامرت وقامرت باليمن ومستقبله، عندما لجأت لاغتصاب السلطة من خلال الحروب، والغلبة، ودورات العنف، والإقصاء، والتهميش، لمن لا ينتمي لها، أو يختلف معها، أو يعارضها حتى وإن كان هذا المعارض بعض منها..

• المسؤولية على تلك السلطات والنخب والساسة الذين حكموا اليمن، وفرضوا ولاءاتهم المناطقية والجهوية والسياسية والعصبوية، وأمعنوا في أريفت عدن، بل وكل مدن اليمن في الإدارة والمؤسسات والاقتصاد والسياسية والثقافة..

• وقد كان يتم كل هذا على حساب الكفاءة والنزاهة والخبرة والمواطنة والديمقراطية والمدنية.. ولا يختلف الحال كثيرا بالنسبة لصنعاء أيضا.. باتت عدن اليوم، ومثلها صنعاء، غنيمة حرب، وسلطة غلبة متحكمة ومدعومة من الخارج..

• باتت اليوم ـ وعلى صعيد اليمن كله ـ السلطات ونخبها الدميمة فيه ـ مرتهنة لمصالح وأجندات غير وطنية، بل وتتضارب وتتصادم مصالحها وأجنداتها مع المصالح الوطنية، ومع اليمن الواحد القوي، والديمقراطي، والمستقر، بل وتنحاز لصالح التدخل والعدوان والاحتلال، والتخلف العميق كما هو حال صنعاء، وعلى نحو فيه تفريط صارخ، بوحدة اليمن، واليمن الحديث والتنموي، وسلامة أراضيه، واستقلاله وسيادته، ومستقبله، وازدهاره..

***
عدن التي أحببتها :
• عدن ملاذي الأول، وحبي الأول كان في عدن، وزوجتي أم عيالي من عدن.. نصف حياتي الأجمل كان في عدن، ونصف حزني أيضا في عدن.. رفاة أخي، وإحدى بناتي، واختين لي في حنايا عدن.. عدن بضعة مني وأنا بضعة منها إلى يوم القيامة، إن كان للقيامة قيام.

• تشكَّل وعيي في عدن، وتعليمي الأهم كان في عدن، ورزقنا الأول جاء من عدن، وهجرتنا الأولى والثانية كانت إلى عدن.. ولي في عدن ملاذ ووطن، ولي فيها حبيبة لا تموت إلى أن أموت.

• أحب عدن التي كانت.. عدن الحب، والحنين الجارف، والذكريات التي تجوس في مغاور الوجدان، وتشتعل صبابة في دمي.. عدن الذكريات الندية والعصية التي تتحدّى النسيان، وتمنع عنها غفلة الزمان..

• ذكريات عدن تطل بوجهها البهي مشرقة، كلما تشابهت أيامي الخائبات التي أعيشها اليوم.. ذكريات عدن صارت بعض من كينونتي، وعروتها التي لا تنفصل.. حتى ذكرياتي الحزينة وأيامي الخالية فيها، صارت بطعم النبيذ المعتق، الذي ينسيني بعض مما أعيشه اليوم من غم وهم وقيود، مرغما ومُكرها..

• عدن التي كنت أتجشم وعثاء السفر لأصل إليها، مغالبا القيض والغبار والريح والشمس التي تلفح الوجوه.. أتنفس البنزين المحترق، وبسببه والدوار الشديد، أكاد أتقيأ معدتي ودواخلي.. أغالب ضعف البدن، وأشعر بتهتك أوصالي المبعثرة.. إرهاق يهرس عظمي.. يتمدد في أطرافي المكرفسة .. أحس بمسامير ودبابيس تنغرز رؤوسها الحاده تحت إذني وصدغي وشدقي، وفكي أحيانا عندما أفتحه لأقذف ماء فمي، يعلق.. وأستمر للحظات فاغر الفاه..

• افعل كل ما أمكن، وأنا أتصبب عرقا، ليؤجل القيء قليلا من موعده أو يمدده.. حتى حبوب منع القيء التي استخدمها في بعض السفرات قبل ركوب السيارة، لا تمنع عنّي القي، وأجد مفعولها يأتي بنتائج عكسية، بل وتجلب القيء الشديد، بدلا من طرده، وهو ما أثار استغرابي وحيرتي.. كنت أسأل نفسي: لماذا العلم لم يكتشف حتى الآن ما هو أحسن من هذا العلاج الفاقد للمفعول؟! كل هذا وغيره كان يحدث، ولا يمنعني مانعا عن عدن التي أشتاق لها وألتاع.. أغالب المسافات الطوال، وأكابد العناء الأشد، من أجل أن أصل برحال شوقي إلى معشوقتي عدن..

• كنت أعاني من مشقة السفر إلى عدن، ولكنني لا أتردد في الإقدام عليه رغم ما فيه من ضنك ومشقة.. كنت وأنا مسافر استعجل الوصول إليها، ولطالما تمنيت أن يكون معي بساطا للريح يسابق شوقي الجارف، وينقلني إليها بسرعة وذهول.. ولطالما تمنيت براقا أو معراجا أو كرامة ولي، يملك جنون الدهشة، ويوصلني إليها بسرعة الريح التي أتمناها.. وإن اُستحيل هذا وذاك، تمنيت أن أملك الجن، وأصدر الأمر أن ينقُلني احدهم إليها بلمح البصر.. إنه الشوق الجارف والملتاع يا عدن..

• كانت عدن تأسرني أضواءها المتلألئة، كلما اقتربت منها، وأنا مسافرا إليها ليلا، عبر طور الباحة وخبت الرجاع والوهط.. كنت ما أن أصل إلى مشارف الوهط حتى أفيق وألملم أشتاتي، وأنفض عنّي ما نالني من وعث وإرهاق وقيء.. كان الفرح يملئني، وتتفتح أسارير وجهي المنقبض، وتنتعش وتنشط حواسي كلها، بمجرد أن أصل إلى الطريق الاسفلتية في تقاطع خط الوهط الترابي مع خط عدن لحج الأسفلتي.. كنت اتفرس الناس والسيارات والعمران والحياة على طول خط السير، وفي محاذاته وجنباته حتى أصل إلى قلب عدن الأغن.. كنت في كل مرة أسافر إليها، أبدوا فيها وكأنني أكتشفها لأول
تمزيق الممزق
وتفتيت المفتت
جاري التنفيذ على قدم وساق
مرة، وكنت في كل وصول إليها، أشعر وكأن وصولي هذا هو الوصول الأول..

• عندما كنت أغادر عدن نحو قريتي النائية البعيدة، القابعة خلف حدود الشطرين، أتأمل وأمعن النظر في تفاصيل عدن، وأسأل نفسي بتكرار حزين وحسرة: يا ترى هل سأرى مرة أخرى، ما أراه الآن؟! هل سيطول بي العمر، وأرى عدن مرة ثانية..؟! هل سأعود إليها أم هي المرة الأخيرة التي أرى فيها عدن؟! إنني اشتاق إليها قبل أن أغادرها، وأشتاق إليها حال مغادرتها والرحيل.. أخاف أن لا أرى عدن مرة أخرى؛ لاحتمالات مفجعة تجوس في دهاليز وعيي وردهات مخاوفي..

• عدن التي كانت تثير شجوني وأنا بعيد عنها.. ولطالما أشجاني وأنا بعيد عنها صوت الفنان وهو يغني:" عدن عدن ياريت عدن مسير يوم.. شاسير به ليلة ماشرقد النوم.." وكذا أغنية "يا طائرة طيري على بندر عدن.. زاد الهوى زاد النوى زاد الشجن.. عالهجـر مقـدرش أنـا.. أشـوف يومـي سـنـة.. ذي جنة الدنيا حواها..".

• عدن التي أحببتها هي تلك التي وصفها صديقي محمد اللوزي في إحدى كتابته بقوله "عدن درة المدن، ونجمتنا التي تبزغ فينا ولا تأفل.. زنبقة الفرح، والطلع النضيد.. الدعة التي تجيء إليك راضية، وتقدم نفسها حبا، وتغار من أن أحدا يأخذك خارج مدارها.. عدن رائعة الكون.. عدن الدهشة كلها.. لا يعرف عدن غير العاشق الصب لأنها تسكب روحها فيه.."

• أحببت عدن التي قصدها الشاعر الفرنسي "رامبو" باحثا عن الحرية والعمل، وآثرها على فرنسا، ورغم جحيم عدن وتذمره منها، وهجيه لها مرات عديدة في لحظات ضيقه، إلا أن المقام انتهى به إلى التكيف معها، بل والإقرار إنها "«أفضل مكان في العالم». وقد أوفت معه عدن بعد موته، وأسمت إحدى شواطئها الجميلة باسمه، وحولت منزله في عدن إلى مركز للقاء والتبادل الابداعي الشعري.

• عدن التي أحببتها هي تلك التي فضلها الشاعر السوداني مبارك حسن الخليفة على "دبي" الإمارات.. الشاعر والدكتور الذي لم يطب له المقام في موطن الثلج، وطابت له عدن اليمن 34 عاما، عمل فيها محاضراً وأديبا وشاعرا وناقدا في جامعاتها.. سكنها وسكنته، وألّف فيها الكتب، ودبج عنها وفيها وفي البعد القصائد، وكان صوتها الأغن بعناوينها النابضة بالجمال والهوى والحنين: «عدن هواها قد تملك مهجتي» و«البعد يا عدن» و« إلى حبيبتي عدن» و«عدن الجميلة».

• أحببت عدن التي جاءها جورج حبش خائفا عليها حد الفجيعة، من قادم ينتظرها، بتحفز شيطان، باكيا عليها بدموع سخينة، محاولا إنقاذها من كارثة حلت عليها لاحقا، في 13 يناير 1986 وكانت دامية ومؤسفة، ولازلنا نعيش آثارها الدميمة إلى اليوم الذي خلناه بعيدا جدا، لن يطول ولن يُطاول.. حلت على عدن الكارثة، كما حلت عليها على ما يبدو اللعنة، والتي لازالت ترفض التلاشي أو المغادرة إلى اليوم..

• أحببت عدن الوفاء التي لاذ بها وإليها أحرار العرب والعالم، ومنهم البروفسور العراقي توفيق رشدي في أواسط سبعينات القرن المنصرم، والذي صار أستاذا يدرّس طلابها في إحدى جامعتها، وعند اغتياله فعلت عدن من أجله ما لم تفعله الدول.. رفضت كل المساومات والمغريات والدعم السخي، مقابل الصمت والسكوت عن مقتله، بل وحاكمت القتلة علانية، وبُثت المحاكمة من قاعة المحكمة، وكشفت كل شيء أمام الرأي العام كله، في فضيحة سياسية غير مسبوقة.. جريمة بحجم فضيحة بكل المقاييس، للقتلة والدولة التي تقف وراءهم..


• عدن التي أحببتها هي تلك التي أنتمي إليها.. عدن الإنسان والأهل والأحباب والناس الطيبين.. عدن التعايش والأمل والعمل والملاذ.. عدن الحب والشوق والعشق والحياة والذكريات..

.....................
يتبع..
السلسلة الثالثة
طفولتي في عدن
(1)
مغالبة “الحصبة”
أراد أبي أن يلم شملنا تحت سقف واحد في عدن.. أراد أن يلملم أشتات أسرتنا الصغيرة والبعيدة، بمسكن صغير في أطراف ضواحي المدينة بـ "دار سعد" يأوينا إليه، محاطين بقدر من السكينة والدعة التي نبحث عنها.. أسرتنا كانت خمستنا دون دخيل.. ولكن دخلت علينا الحصبة بدمامتها وقُبحها، وما تحمله من بشاعة وافتراس..

في عدن مرضتُ بالحصبة .. كان مرض الحصبة ينتشر ويفتك بالأطفال.. الحصبة فيروس انتقالي حاد ومعدي يصيب الأطفال، ويسبب لهم مضاعفات خطيرة في بعض الأحيان.

كان مرض الحصبة أكثر الأمراض انتشارا في سن الطفولة بصفه خاصة، ومن أعراضه ارتفاع في درجة الحرارة مصحوب برشح وسعال ورمد وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم.. ورغم اكتشاف لقاح الحصبة في ستينات القرن الماضي، إلا أنه لم يقوض هذا المرض ويصيره نادرا إلا في بداية التسعينات من القرن الماضي.

أول معركة ربما خضتها وأنا طفل في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال.. كان نذير موت يتهدد حياتي، ويتربص بي بإصرار واشتهاء.. كل يوم يمُرُّ وأنا لازلت على قيد الحياة كان يعني لأبي وأمي معجزة من الصمود العنيد في مواجهة الموت، وربما كان يعني مرور اليوم بالنسبة لي، اجتراح بطولة خارقة على مرض يتسع وينتشر.. يفتك بالطفولة دون أن يراعي أو يكترث.. فيروس موت لا يعود من بيت فقير إلا وقد نهب من أطفالها روح من يشتهي..

غالبتُ مرض الحصبة، وقويت على المقاومة والصمود، بفضل بعض النصائح التي أسدتها جارتنا لأمي التي كانت لاتزال قليلة التجربة، أو معدومة الخبرة والمعرفة في أمور كتلك.. استفادت أمي من نصائح جارتها التي كان لديها بعض الدراية بكيفية التعاطي مع هكذا حالة، ومعرفة بالوسائل التي باستطاعتها أن تخفف من وحشية وآثار هذا المرض، فالجهل يمكن أن يضاعف الحالة ويفاقمها، وهو المساند الأول للمرض، وربما يلعب دور السبب الأول للوفاة قبل المرض إن لم يحتاط له.. تضافرت أسباب الحياة وسندت بعضها، وانتصرت على فيروس الموت، وتعافيت منه، واكتسبت مناعة منه مدى الحياة.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(2)
سقم وهزال
وبعد شهور مرضت بمرض لا أعرفه.. أصابني هزال وفقدان شهية.. هزل جسمي إلى درجة جعلني أشبه بأطفال مجاعة إفريقيا الذين نشاهدهم في الصور وشاشات التلفزة.. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراع مع الموت من أجل البقاء.. أمّا أن تغلب المرض أو يغلبك.. الموت يحوم عليك ويتربص بك كل يوم وساعة..

جارنا عبد الكريم فاضل كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول ودون مقدمات: “ابنك سيموت ولن يعيش”. جملة صغيرة ربما نزلت على رأس أبي مثل ضرب المطرقة.. أثارت مخاوفه واستنفرت اهتمامه.. ربما هذه الجملة الصغيرة والصادمة، كانت سببا لأن أتجاوز الموت وأعيش.. هذه الجملة المشبعة بالمخاوف، بدت صاعقة لأبي، وجعلته يهرع توا وعلى الفور إلى مشفى في عدن، غير أن الطبيب أخبره أن حالتي صعبة، والأمل في أن أعيش ضعيف.

شار جارنا لوالدي أن يذهب بي إلى طبيب ماهر في لحج، لربما هناك وجد بصيص أمل.. أبي الباحث عن أمل يذوي ويخفت في سواد كثيف ووخيم من اليأس، ينتابه هلع شديد.. أستطيع أن أتخيل هلع أبي وأنا في حضنه أو مسنودا بيده إلى ضلعه الحنون.. اسمع خافقه.. قلبه يدق كالطبل، صعود وهبوط أنفاسه ككير حداد.. ودمدمة هلعه تهز وجدانه وكيانه..

هذا ما شعرت به يوما أنا أيضا، عندما كنت أسابق الموت، وأحاول إنقاذ أبني فادي، عندما كان أيضا بسني تقريبا أو أكبر قليلا.. كان والدي يحاول إنقاذي، وهو مصحوبا بالهلع.. الشعور إنك تسابق الموت وتمنعه عن انتزاع طفلك من بين يديك، شعور كثيف الحضور، ولا يمكن نسيانه مهما طال بك العمر.. لقد عشت مثل هذه اللحظة الكثيفة طفلا كما عشتها أبا.. سارع والدي لإنقاذي من موت محقق بات يثقل جفوني المسبلة..

و في لحج قال الطبيب لوالدي بأن حالتي سيئة جداً، وأنني لم أعد أحتمل الإبر، ولن استطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، ولكن “لعل وعسى” قرر لي وصفة علاج دون إبر..

استجاب جسمي للعلاج وأخذت حالتي تتحسن ببطء، بدأت أقبل على الطعام بنهم يزداد كل يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطل من اللحم في اليوم أتناوله كله لوحدي، ولا أترك لأهلي شيئا منه يأكلونه. هذا ما كانت تحكيه لي أمي.. كانوا إذا أعطوني قطعة منه، ما ألبث أن أعود أطلب أخرى، حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي.. استطيع أن أتخيل سعادة أبي وأمي.. أستطيع أن أتخيل لحظتها قلب أمي صرة فرح، يكاد أن يطير من بين جوانحها.. أتخيل أبي والسعادة تغمره، وتتفتح أسارير وجهه كزنابق على شرفات عريس.. يا له من شعور أخاذ وآسر..

نجوت وتعافيت، بل وصرت مشاغباً وشقياً.. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها.. أكسر زير الماء.. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء.. اكسر الزجاج .. أرمي بأواني الطعام.. ارتكب كل الحماقات وأرمي كل ما تطاله يدي على ما تقع عليه عيني.. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، وتغضب أحيانا أخرى، وتعاقبني بقسوة في معظم الأ
حيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملأ البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي.. كنت مزعجا لأهلي وللجيران والمؤجر .. لم أكف عن الشقاوة والبكاء والضجيج والصراخ.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(3)
بؤس وشقاوة
كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات في العمل المضنى والجهيد، من أجل إبقاءنا على قيد الحياة، وسد لقمة عيشنا المتواضعة، وكذا عيش أسرته الأخرى التي يعيلها في القرية، والتي تنتظر بفارغ الصبر ما يأتيها من والدي المثقل بمسؤولية إعاشتنا جميعا..

كانت الحياة صعبة، وصراعنا كان هو من أجل البقاء، فالستر واستمرارنا بالحياة هي أقصى ما نحلم به ونريد.

كانت أمي تطلب من أبي أن يغلق علينا الباب من الخارج، خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة “شيخ” كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها، ويغلق الباب علينا من الخارج حتى يعود من العمل آخر النهار.

كانت أمي شديدة الحياء والمحافظة والتوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران.. لا تفتح نافذة ولا باب.. أبي هو وحده من يفتح الباب ومن يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف، وغسل الملابس والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت..

ولكن لماذا أنا أيضا يتم حبسي ولا يُسمح لي أن أخرج للشارع لألعب مع الاطفال أو أطل عليهم من نافذة.. أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت.. أريد أرى الوجوه والناس والحركة وصخب الحياة..

كل ساعات النهار والليل ـ عدا النوم ـ نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شق في نافذة ولا خرم مفتاح في باب..

أسمع بعض ما يحدث خارج البيت ولكنني لا أراه.. فضولي مقموعا بجدران من اسمنت، وخشب من ساج، ولا مجال ولا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه..

أريد أن اعرف العالم خارج حيطان بيتنا.. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، والمحوطة بالصرر والقراطيس والأشياء الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..

أريد أن أرى كل التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره.. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. كل شيء ضيق في البيت كصدري الضيق، وجمجمتي الصغيرة.. أشعر أنني أقضي أيامي في قمقم صغير مغلق بالحديد، يحصرني ويحاصرني ويكتم أنفاسي.. فكان طبيعيا أن أكون شقيا، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي والمتمرد بين جدران البيت وسقفه وحصاره.

***
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(4)
الموت يداهمنا.. تساؤل ..

لماذا الموت يا إلهي؟! أعلم أنك حكيم، ولكن السؤال أيضا يبحث عن الحكمة والبيان؟! نحن شغوفون بالمعرفة، وربما جُبلنا على هذا، وربما في المعرفة تحدي وجودي للإنسان.. إننا نحاول فهم ما لا يتأتى فهمه، وإماطة اللثام عنه، وكشف ألغازه ومجاهله، ومعرفة ما لا نعرفه، حتى وإن كان عصيا عن الفهم والمعرفة منذ البداية، أو تحتاج الإجابة على الأسئلة إلى مداها الزمني المستحق، إلا أن شرف المحاولة فيه ممارسة وجودية، تجعلنا نستحق هذا الوجود الذي نعيشه..

المعرفة ربما لا تأتي بالتسليم، أو بتجاهل مالا ينبغي تجاهله، ولكنها تأتي من اعتمال العقل والتجربة، واثارت الأسئلة، ومناقشة الفرضيات والنظريات، أو استبدالها أو تصحيحها.. فالخواء لا يقدم علم أو معرفة أو فهم.. ينبغي للأسئلة لتفعل فعلها، أن تنفذ إلى الدخل وتغوص في العمق، ويجري البحث عن الإجابة عليها، وبذل ما في الوسع والاستطاعة من الجهد؛ لاكتشاف ما هو مجهول وغامض، وإزالة كل لبس أو غبش.. سلطان العلم هو ما نحتاجه لننفذ به إلى أقطار السموات العُلا، والأشياء الكبيرة كما قالوا تبدأ بسؤال صغير".. وقيل "إنما شفاء العي السؤال".

الأسئلة هي بوابات المعرفة، وهي السبيل إلى ما نسعى إليه من يقين، أو هي وسيلة تدلنا من أجل الوصول إليه.. نحن هنا نسأل أو نتسأل لنبدد حيرة، تجلي شيئا من معرفة، أو ناصية من علم، أو دليل أو وسيلة، في خدمة الإنسان ومستقبله..

ما كان في دروب الأمس عصيا على الفهم والعلم، أو مستحيلا عليه، صار اليوم معلوما أو واقعا مفهوما وماثلا أمام العيون، ويغدو المستحيل ممكنا، وما كان اليوم عصيا على الفهم والعلم، ربما يصير غدا بديهية معرفية، وما لا نطول جوابه اليوم، سنطوله غدا، وغدا لا ينفذ ولا ينتهي في درب الزمن الطويل أو السرمدي..

المستقبل الذي نروم ونعمل لأجله، سيفكك كثير من أسرار الكون وغموضه.. فالكون مكنوز بالأسرار الهائلة التي لا تنتهي، وربما تفوق كل تصور وخيال.. والمعرفة لا حدود لها.. وطالما بقي إنسان في وجوده، سيظل يحتار ويسأل ويتسأل حتى يصل ويطمئن إلى ما يمكن الوصول إليه، أو يظل يعدل فيما كان يظنه يقين، حتى يصل إليه، أو الحد الأدنى منه، ويستمر تراكم العلم لاكتشاف المزيد، ويستمر الإنسان في حصاد المعرفة، وفي مدى ربما لا ينتهي..

يتسأل البعض: إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة فأنت يا الله على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات، ولم يخلق الله الخلائ
ق، ولم تشهد الأكوان والعوالم حياة ولا موت؟!
ثم يجيب: ربما لو حدث هذا لانعدم الحزن الوخيم الذي يملئ هذا الوجود على اتساع ما نتخيله..
هكذا أحيانا يجوس ويتمرد علينا السؤال في محبسه، ولاسيما عندما تصير كلفة السؤال أو الإجابة عليه حياة صاحبه..

أنا أكره الموت يا الله، عندما يخطف منا من نعزّهم ونحبّهم.. البقاء غريزة قوية فينا أو جاءت معنا عندما جئنا، لا دخل لنا فيها، ولا حولا ولا قوة.. أكره الموت عندما يخطف منا حبيبا أو عزيزا أو كريما..

الموت رهيب جدا.. الموت سكونا موحشا.. ربما عدما وفراغا يدوم.. ربما الموت فراق للأبد، ورحيل بلا نهاية.. الموت خراب وحزن ثقيل جدا على بني البشر.. هذا ما أشعر به عند رحيل كل عزيز وحبيب، فيما الموت عند الميت ربما شيء مغاير ومختلف..

الموت حالة ربما تتأخر، ولكن مجيئها في حكم الأكيد.. كبار المسلَّمات ربما تكون محل ظن وشك، وأما الموت فحقيقة ويقين.. هو ناموس كما قيل، لا يقبل الشك ولا التفاوض.. ولكن لا يدري الجميع أو الكثير أو البعض بيقين ماذا يحدث لنا بعد الموت والغياب الطويل..

***
(5)
موت الأختين

أسرتنا الصغيرة في عدن ـ كما قلت سالفا ـ كانت تتكون من أبي وأمي وأنا وأختين توأم، نور وسامية.. أسرة صغيرة وبسيطة تربص بها الموت مليا حتى ظفر بالزهرتين..

جاء الموت على نحو غريب وغامض، لا زلت أجهل سببه وتفسيره إلى اليوم. شيء أخذ من أسرتنا الصغيرة الأختين (نور، وسامية) وكدت أكون أنا الثالث لولا اللطائف.

أختي نور ماتت، وكان عمرها لا يتجاوز العام .. كانت تصرخ فجأة صراخ طافح وقوي، وما أن يتم حملها تسكت، وعندما يتم وضعها على الأرض تعود بنفس الصراخ، حتى يكاد ينقطع نفسها، فيتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي، فتكف عن الصراخ، ويستمر هذا الحال فترة طويلة إلى أن تنام محمولة.. وفجأة صرخت ولم تستعد أنفاسها، وماتت في الحال.

أختي (سامية) عندما كان عمرها أكثر من عام، تكرر معها نفس الحال والأعراض.. تصرخ فجأة دون سبب معروف، ثم يتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي فتسكت، وعندما يتم إنزالها إلى القاع أو الفراش، تصرخ مجددا وبصوت قارح، فيتم حملها بسرعة، وينتهي الأمر إلى أن تنام محمولة..

وفي يوم صرخت أختي سامية، فسارع أبي لحملها، ولكن أنقطع نفَسها، ولم تعد، ولم نعرف سببا لموتها إلى اليوم.. قال البعض هراء: ماتت لأن البيت التي نحن فيها مسكونة بالجن، وقال آخرون ماتت "فرحة".. وأي فرحة إذاً وصرخة موتها يشق الجدار.

كنت أحب أختي سامية، كانت جميلة وبهية.. كانت حياتها خاطفة وسريعة.. حياة قصيرة كلحظة عاشق.. كحلم عَجول.. أما أختي نور فكانت حياتها أقصر وأسرع وتفاصيلها عصية على الذاكرة، بعد خمسين عاماً من طفولة باكرة.

(6)
فقدان موحش وغياب لا ينتهي
لازلت أذكر سامية وهي مسجاة على الفراش.. كانت الرغبة تستبد بي لأعرف ماذا حدث!! كان الغموض عندي بكثافة مجرة مملوءة بالأسرار العصية على الفهم..

كنت أنظر إليها مشدوها كأنني أشاهدها واكتشفها لأول مرة.. رغم الموت كان وجهها نابضا بالنور، وعيونها مشرقة رغم السكون، كانت تلبس ثوبا بلون دم الغزال.. لا زال هذا اللون أثيرا لنفسي وإن كان يذكرني بفراق طويل..

لم أكن أدرك حينها إن الموت خطفها وغيبها للأبد.. لم استوعب أنها لم تعد بيننا وإنها لن تعود..

كنت ابحث عنها على الدوام وابكي وأقول لأمي ابحثي عنها في مكان نومها، أريد أختي، أريد ألعب معها.. لم تحتمل أمي كلماتي الموجعة التي تنز دما وحرقة.. كانت تحاول تبلع غصصها وتداري حسرتها البالغة، فيفضحها انهمار دموعها، فتنفجر بالبكاء وأبكي معها دون أن أعرف السبب..

كرهت الموت من حينها، غير أن أمي كانت تعزيني، وتخفف من وجعي ووجعها، وتقول إنها في السماء، وإنها مرتاحة هناك، وسعيدة بين بنات الحور، وإنها تأكل التفاح واللحم وكل أنواع الفاكهة.. كل ما أنا محروم منه في الدنيا الفانية هي تأكله، وتنعم به في الحياة الثانية..

ربما بعد حين هممت بمغادرة هذا الدنيا الفانية إلى دار الآخرة، لاستمتع بتلك الحياة الرغيدة، وأعوض كل حرمان عشته في هذه الدنيا، ولكن شق علي أن أترك أمي وحدها تنتحب بقية عمرها.. رأيت أن المغادرة بمفردي دونها أنانية تبتليني، ورأيت إن البقاء عذاب لا ينتهي إلا برحيلي.. هكذا بات الأمر سيان، وكأنني أدور في مدار من عذاب لا يريد أن ينتهي.

أخبرتني أمي أنني سألتقي بأختي نور وسامية يوم القيامة.. ومتى ستأتي يوم القيامة؟! إنني أكره الموت والفراق الطويل؟! العجيب إن أمي بعد حين، كانت تقول لي أن الإخوة لا يلتقون في الدار الثانية إلا يوم القيامة، أما بعد القيامة، فلا وصل ولا لقاء بين الإخوة، بنينا أو بنات.. ربما كانت أمي أو من جلب لها هذا القول، يقصد تعميق أواصر الأخوة وتوثيق المحبة بين الإخوة في هذه الدنيا، ولكن كان الأمر بالنسبة لي يعني حزن عميق على فراق لازال بعيد، وحسرة طويلة من الفراق الأبدي البعيد يأتي بعد يوم القيامة..

من فرط تعلقي بأختي سامية، جاءت مولودة لاحقا،
ضد الحرب..
اوقفوا الحرب في اليمن
اوقفوا الحرب على اليمن
الحروب وسيلة قذرة لفرض الاجندات القذرة
فأسموها سامية، تعويضا وتخفيفا من فراغ موحش تركه هذا الموت الذي يغيِّب عنّا من نحب.. هذا الموت القاسي والخالي من الرحمة والمشاعر.. سامية أختي الجديدة جاءت شفيفة ومرهفة وحميمة، ومسكونة بالسمو والنبل الجميل.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(7)
كدت أموت
ماتت نور وسامية وكدت أكون ثالثهما.. مررت بنفس الحال والأعراض.. كنت أصرخ فجأة كزمجرة رعد على حين غرة، فيما يسارع أبي أو أمي في حملي من الأرض أو قاع المكان، وما أن أعود للأرض مرة أخرى حتى يعود الصراخ.. وأظل محمولا حتى أنام، وأحياناً أقوم من نومي صارخا، ويتكرر المشهد، وتزداد مخاوف أبي وأمي وتوجسهما أنني للحياة مفارق.

لماذا أصرخ ؟! لا زلت أذكر.. لا أستطيع أنسى ما كنت أشاهده.. ما زال المشهد عالقا بالذاكرة، حافرا فيها، وما زال تفسيره وكنهه غامضا وعصيّا على فهمي إلى اليوم.

كنت أشاهد ثعبان أبيض يخرج من القاع.. طوله بحدود المتر.. له أرجل.. أرجله منتشرة على حافتيه ورأسه مربعا متناسق مع جسمه باستثناء أنه مميز بعينين مدورتين، وعرض رأسه أكبر بقليل من عرض جسمه، ولديه شعرتان في مقدمة رأسه وكأنها للاستشعار..

أشاهده بغته يخرج من القاع يجري؛ فأصرخ بهلع بالغ، كما كانت تصرخ الأختان (نور، سامية) صراخ قارح وناري يشق الجدار.. كزمجرة رعد يأتي بغته على نحو صادم في لحظة شرود وتيه.. صراخ ليس له موعدا يشق الليل أو النهار.. ينم عن مشاهدة أمر صادم، مرعب وفظيع.. شيء ما يجعل الفزع والجزع يشقني نصفين.

وعندما كانا يحملاني أبي أو أمي يختفي هذا الثعبان بالقاع، لا أدري كيف يختفي، ولكنه يختفي، وعندما يطرحاني على الأرض، أراه من جديد يخرج من الإسمنت، ويزحف بسرعة في قاع الغرفة، ويتكرر هذا المشهد، ومعه يتكرر الصراخ.. أبي وأمي لا يرونه، أنا كنت الوحيد الذي أراه، ولذلك لم يستطيعا اكتشاف سبب الصراخ وما أشاهده، إن كان لما أشاهده وجود.

في إحدى المرات، تكرر مشهد الصراخ وعندما لمح أبي على يدي خربشات قلم، قام بمسحها، فانتهى صراخي ولم أعد أراه.. فهم الأمر على ما كان سائدا من وعي وثقافة، وتبّدا له الأمر أنني كتبت على يدي اسم شيطان.. ولكن هذا التفسير غير مقنع، ولا يستقيم، لأن حالات كثيرة تكررت معي ومع سامية ونور، دون أن تكون هناك كتابة أو شخابيط .. كم أخشى من ظُلمنا للشيطان، وربما الشيطان بنا كان رحيم.

***
حبي الأول في عدن
اعتذار إلى زوجتي وبناتي العزيزات..
خلال دراستي في ثانوية "البروليتاريا" أحببت فتاة من عدن.. جميلة ورقيقة وجاذبة.. كانت حبي الأول الذي لم تكتب له الأقدار نصيبا أو حتى لقاء عابر سبيل.. حب مشبوب باشتياقي المنفرد الذي استمر متأججا دون انقطاع ثلاث سنوات طوال.. أنا أبن الريف المملوء بالحياء والمسكون بالخجل الوخيم.. اشتياقي يشتعل تحت طبقات صمتي بين الضلوع وأجنحتي المتكسرة.. أنا المصلوب بخجلي الذي لا يبارى، ولا يوجد ما يضاهيه..

كنت أقطع المسافات الطوال من المدرسة إلى "قطيع عدن" لأراها فقط عندما تطل من بلكونة بيتها.. خمسة عشر كيلو متر أقطعها في الذهاب، ومثلها في الإياب، وبعض من هذه وتلك أقطعها راجلا بحذاء مهتري، وأعود من رحلتي ـ التي تشبه غزوة أو سفر ـ أما متوجا بالنصر والفرح إن رأيتها، أو مكسورا ومهزوما وحاملا كُرب ألف منكوب إن لم تكتحل عيني بها..

بفارغ الصبر انتظر يوم الخميس، بقلب ولوع ووجدان مشتعل.. استعجل الأيام إلى يوم الخميس.. انتظره كمن ينتظر ليلة القدر أو "كريسميس" رأس السنة.. أخرج من سكني الداخلي في المدرسة وأقطع تلك المسافة لأراها فقط..

إن رأيتها يصيبني في الوهلة الأولى إرباك كوني يسري بفوضوية في جميع أوصالي وأرجائي.. ترتجف أطرافي وكأنها مسكونة بالعفاريت.. يُربك كياني بزلزال اضطراب واحتدام مشاعري.. استعيد بعضي بعد وهلة، فتداهمني دهشة بحجم السماء.. يتخلق فيني وجود آخر حافل بالعجب، وكأن انفجار كوني قد حدث وتولّد هذا الوجود الذي يزدحم ويكتظ داخلي.. ثم يتبدى أمامي كرنفال من الفرح بعد جزع ودهشة.. قلبي يرقص كمهرجان في الفضاء، ثم يهمي كالمطر.. لحظات كثيفة تحتدم في الوعي حتى شعرت أن لا أحد غيري يعيش مثلها، أو يمر بها في الدنيا سواي..

“بلكون” بيتها في الطابق الثاني، فيما بيت قريبنا مقابلها في الطابق الثالث.. انتظرها كثيرا حتى يحبِّر الانتظار شرفة قلبي المتيم.. أحاول أطل من النافذة كلما وجدت ثغرة للمرور في حقل ألغام العيون، أو فسحة أو فرصة في غفلة من الحضور.. أناور وانتظر.. قلبي يخفق وعيوني تلتاع وتضطرب في انتظار يطول معظم الأحيان..

تخرج لنشر أو جلب الثياب التي جفت على حبل الغسيل.. وأحيانا منتزهة متفتحة كأزهار الربيع.. تقف على السياج ملكة بكنز جمالها وتاجها وسحرها الذي يخطف الألباب والأفئدة، فيما عيوني تتوسل وتستجدي عيونها، وترتجى منها المدد..

إن لمحتها ومنعني محيطي من الطلول؛ أو أفسدت صدفتنا النحوس الباذخة.. أضطرب وألفت نظر من في الجوار، فأبدو وكأن الطير على رأسي وقف.. أحاول أن أداري اضطرابي وأجمع أشتات صوابي فيدركني الفشل؛ فأدّعي أنني معتري ومحموم المفاصل والجسد.. معركة صامته أخوضها في الآن نفسه على جبهتي.. الأولى مع نفسي المتحفزة بالشوق والمُربكة بالاضطراب، والثانية مع الحصار الذي يضربه عليّ من في الجوار..

عندما أراها أهفو إليها بجماح خيل محبوس في قبوه، ومربوط إلى وتد الحديد.. ملجوما وممنوعا من الحراك والصهيل.. روحي تريد أن تغادرني وتتحرر من قيد الجسد.. أنا المكبل بقيودي واختناقي من ثقل الركام.. أنا الرازح تحت ركام العيب أكثر من ألف عام.. خجلي ووجلي أثقلا كاهلي.. انتظرها على صفيح ساخن لأختلس نظرة محب أظناه الهوى.. استجدي منها لفتة أو رشقة حور.. آه يا قلبي المحب كم حملت من الحب الذي تيم صاحبه، وكم عانيت من العذاب والصبر الثقيل!!

أراقبها حتى تغبش عيوني المتعبة.. انتظرها ساعات طوال، فإن ظفرت بنظرة منها، أقع أنا وقلبي من سابع سماء.. تبرق سحبي وتمطر سماء قلبي بمزن البهجة والفرح.. وترقص روحي كطفل تحت المطر..

ثلاث سنوات أتلوع بها.. غارقا إلى شعر رأسي في حبها.. وهي لم تدرِ ولم تعلم بحبي لها إلا قبل رحيلها ببرهة زمن.. ثلاث سنين ذهبت سدى؛ فما عساي وما عسانا أن نفعل عند ساعات الرحيل؟!! فات القطار .. فات القطار.. يبست الأحلام الندية في مدرات الفراغ.. يا لخيبة رجائي التي ابتلعت أرجائي وأبعادي الأربعة، وقبلها أنا وحبي المُنتحب..

يا لحظّي الذي أدركته تعاسة وخيبة كل الحظوظ.. قلبت لي الأرض المجن، وأدارت لي السماء قفاها المبتئس، وعواثري بحوافر وحشية رفست أزهاري الجميلة بألف رفسه.. بلعت الخيبة آمالي العراض.. صرتُ مُشبع بالوهم حتى صار الوهم على الوهم مصاب جلل.. يا لخسراني المبين!! لا عزاء للمُصاب.. رحلت هي إلى الأبد وأقام في روحي الكمد..


أقداري راكمتني بخيباتها، واستكثرت أن ألتقي يوما بها.. صادر النحس الصُدف، وتخلّت عنّي كل الحظوظ السعيدة.. ثلاث سنوات طوال وحبي الجم ملجوما ومحبوسا ومكبوسا في أعماقي السحيقة، مسيجا بكتمانه الشديد، وبالعوازل والحديد.. يا لقهقه تشبه انفجار الحزن في أعماقي السحيقة..

غادرت مع أهلها حي “القطيع”.. كل الطرق تؤدي إلى "روما"، غير أن "روميتي" لا أثر لها.. لا دليل ولا طريق.. تقطعت كل السبل في متاه المستحيل.. فألهمتني بوحا في التمرد، وثورتني في وجه الغياب..

حد العصيان أحببتها.. اجتاحني تسونامي
حبها، واجتاحني معه الفشل الذريع.. احتشدت في وجهي قرارات الاتهام وسبابات الأصابع حين قالت: من هنا مر الفشل.. ثارت ثورتي وتمردي.. أجتاح الكفر البواح كفر النعمة والمجاز.. تمردت حياتي على مسلماتي الكاسحة، وثارت الأسئلة في وجه الرتابة والثوابت والغياب؛ فكتبت على لوح نافذة غرفة سكني الداخلي ما بلغ إليه تمردي، ووجعي الذي باح بكاتمي.. ورغم فداحة خيبتي والمصاب، إلا إنها منحتني الأهم.. فقد أصابت ثورتي رأس الحقيقة أو بعضها..

خانتني شجاعتي، ولم أجروا على السؤال!! ما اسمها؟! أثقل العيب كواهلي، وصيرني ركاما من حطام.. جمعت أشتات شجاعتي من الدنا والأقاص، في وجه خجلي العرمرم؛ ثم سألت ابن قريبنا عن اسمها؛ فأجاباني.. خانني السمع وتوسدنِ الخجل.. لم أجروا على السؤال ثانية.. يا لخذلان وعطب الذاكرة.. هل اسمها ليندا؟!! أم اسمها رنده..؟!! هل ينتهي اسمها بألف أم بياء مقصورة أم بهاء ؟!! لطالما ألتبس عليّ اسمها دون أن أرسي إلى مرسى أو استقر على اسم ضاعت مني أحرفه!!

انقضى عهد وسنوات طوال.. وبقي الحنين ممانعا عني الرحيل.. أسميت أحدى بناتي رنده، والأخرى ليندا تحوطا ومداركة.. هكذا هو جنون الحب الذي لا ندركه.. يا للحنين المقاوم لنسياننا.. والصامد في وجه السنين الطوال مهما تقادمت.. يا للحنين الذي يأبى أن يموت أو ينطفئ..

كم أنا “خائن” في الحب يا زوجتي وحبيبتي، وكم هو عمري مكللا بـ "الخيانة".. لا تغضبين، فأنت البقية الباقية.. أنت العشرة الطويلة وما بقى لي في حياتي الباقية.. حبنا الأكيد باقي وعشرتنا الطويلة لطالما أمتحنها الزمان ألف مرّة.. صمدنا في وجه أحداث كبار وخضات كثيرة.. عبرنا حروب وصمدنا في وجه الأخيرة التي صارت أهوالها أكبر من أهوال يوم القيامة.. كم أنا بشر يا زوجتي وبناتي العزيزات.. اجعلن من الصفح والغفران والعفو الكريم مسك ختام حتى تسكن وترتاح روحي المتعبة..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
ازمات المشتقات النفطية في جلها تنتهي بجرعة جديدة ثم تنتهي الأزمة
سياسة لطالما عشناها على نحو مكرر.. ونظل نحن ندور في حلقة مفرغة
وثائق جديدة عن مخالفات رئاسة مجلس النواب
وأمانتها العامة
وثائق جديدة عن مخالفات رئاسة مجلس النواب
وأمانتها العامة