أحمد سيف حاشد
344 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
والاستبداد والطغيان دون أي اعتراض أو معترض..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(9)
خصي كبش العيد
لازلت أتذكر وهم يخصون كبش العيد.. شاهدتهم بكثرتهم وهم ينزلون عليه بكل قواهم وأثقالهم.. يأخذونه بأربعته ورأسه ومؤخرته، ويمددونه على الارض، ويفتحون رجليه، فيما يحاول هو الركل والمقاومة بددا.. وضعوا حجرا أملسا صلدا قرب فخضا رجليه، ووضعوا خصيتيه على تلك الحجر، ثم شرعوا بضرب الخصيتين وأعقابها، بمطرقة من حديد، فيما كان هو يتألم ويقاوم عبثا دون جدوى أو خلاص تحت طائل كثرة وقوة نازلة عليه كالقدر، ولمّا أتموا ما يريدونه حتى النهاية، اطلقوا سراحه بعد أن قتلوا فحولته بمطرقة من حديد..

كنت غارقا في ذهول.. لا أعرف ماذا يفعلون!! لم يقولوا لي شيئا من قبل، أو عمّا ينتون فعله، أو ما سيقدمون عليه.. كنت متحيرا لماذا يفعلوا ما يفعلون.. لماذا يضربوا خصيتيه بالمطرقة؟!! ماذا فعلت بهم الخصيتين؟! كنت الوحيد من الموجودين الذي أعيش جحيم اللحظة، وأشاركه فيها الألم ..

كنت الوحيد الغارق في الذهول حيال ما يحدث!! والوحيد الذي يجوس في أعماقه السؤال!! فيما الآخرين لم يكترثون بي، ولم يكن بيدي سلطة أو قرار يمنعهم عن فعلهم بالغ القسوة..

فضولي الذي ظل حبيسا داخلي لم يستطع الاعتراض، ولكن أستطاع سؤال أمي بعد أن أنتهى كل شيء.. ماذا فعلتم ولماذا؟! فكانت إجابة أمي: من أجل أن يكبر بسرعة، ويطيب لحمه وشحمه في العيد.. الحقيقة لم تكن الإجابة تفِ برضاي!! فما علاقة خصيتيه بما زعمه الجواب..

وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة.. عرفت كيف تسلب السلطة فحولة الرجال، وكيف يمتطي الطغاة من ينحنون لهم.. عرفت كيف تسلب السلطة إرادة من كانوا يفترض بهم أن ينحازوا للناس، وكيف يتحولون بالترهيب والترغيب إلى بيادق تحركهم الأصابع، وأحذية ينتعلها الطغاة في المستنقعات الموحلة ..

عرفت كيف يمارس المال سلطته على كثير من المثقفين، وحملة الشهادات العليا الذين يتحولون إلى أبواق بلا إرادة ولا موقف ولا ضمير.. عرفت حجم خواء المثقف المنقاد وراء السياسي الوغد، أو المستعبد من قبل أمير الحرب..

عرفت هشاشة المثقف الذي يبيع ضميره من أول عرض.. عرفت الهشاشة التي تنهار من أول ضربة مطرقة على الرأس أو على الخصيتين.. عرفت المثقف الذي بات تابعا يدور في مدار صنمه وطمطمه، فاقدا لضميره ووجوده.. عرفت أتباع بلا عقل ولا مبدأ ولا قيم.. عرفت رجالا بلا رجولة ولا فحولة..

وفي المقابل عرفت أناسا أفذاذ بقامة النخيل وصمود الجبال الرواسي.. أحرارا ميامين يأثرون التضحية على الاستسلام، والمقاومة على الخضوع، والشجاعة على الخوف.. لا يبيع ولا يساوم ضميرهم القلق واليقظ دوما، وإن عرضوا لأصحابه مال الأرض، ونجوم السماء، ووعدوه أيضا بالآخرة أو الدار الثانية، ولم تستطع جهنم الحمراء والسوداء أن تكرههم على الاستكانة والخضوع للطغاة وأرباب الحكم المُغتصب..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(10)
ذبح كبش العيد .. والذبح اليوم
خروف العيد الذي رعيته واعتنيت به، وعشت معه يوما بيوم، وصار رفيقاً حميما، لماذا يذبحونه؟! كنت أشاهده يوم العيد متوترا ومتسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته ومفارقة عائلته، التي بدت لي على درجة عالية من الترقب والانتباه، وكأنها تشعر أنه سيقع حدثا ما، لا تحبذ وقوعه.. فيما أنا كنت مسحوقا بالألم ومخنوقا بالاحتجاج..

شاهدتهم وهم يكبوّنه ويرغمونه على السير كُرها وعنوة، وكأنه كان يدرك أنه ذاهب للذبح والسلخ.. كنت أشاهده مملوء بالفزع والخوف، فيما كانت عيوني ترصد الموقف، وهي تعتب وتحتج بصمت يكاد ينفجر، وعبرات في الحلق تعترض على واقع الحال، وأنا أمارس ضدها ما استطعت من القمع الكتوم..

عيناه هلعه ومرعوبة وهي ترى السكين.. كان يدور في نفس المكان بقلق ورعب وحيرة، وكأنه يبحث عن قدر ينجيه، ولا نجاة من السكين في يوم العيد.. لا أدري أي إحساس داهمه، وكيف عرف إن السكين معدة لذبحه، وإنه المستهدف منها، رغم أنه لم يسبق أن رأى سكينا أو نصله سكين.. لازال السؤال عالق في ذهني كخشبة: كيف عرف أنه ذاهب للذبح أو الموت؟!! حال في الرعب والهلع المماثل، شاهدته في الأرانب أيضا.. شاهدت أرنب وهو يذبح، كان يبكي كالطفل.. كم هو هذا العالم مثقل بالألم؟!

كانوا يقدموا للخروف الماء ليشرب قبل الذبح، فيما هو يرفض، وكأنه يحتج على أقدار ونواميس ذا الكون..
كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان مرعوبا ويرتعش فزعا وخوفا.. كان يعيش اللحظة كما هي.. وكنت عاجزا عن إنقاذه.. كان الأمر للكبار حصرا، ولم يكن لي فيه حيلة أو قرار..

يا إلهي.. لماذا هذه العالم يفترس بعضه بعضا، حتى وإن اختلفت صيغة هذا الافتراس؟!! هل بالضرورة أن يكون القتل والدم والذبح قانون وجوديا لابد منه، ولا خيار أرحم أو أقل ألما منه؟!! لماذا هذه الحياة كاسرة ومسفوكة الدم وإزهاق النفوس..؟!

كل حيوان له نفس مثلنا، ولكن تبدو الحياة قاسية ومهدرة.. ربما الجميع ضحايا لقوانين أكبر منّا ومنها.. حيوانات الغابة تفترس بعضها البعض، بدا
فع الغريزة والجوع، أو الضرورة الملجئه ؟! ولكن نحن البشر يمكن أن نقتل بعضنا بدوافع غير الضرورة.. نحن نقتل بعضنا حمقا أو طمعا أو بدافع الانتقام.. وفوق قتل بعضنا، نقتل المخلوقات دوننا، لنأكل لحمها ونُتخم..

بدا لي كطفل موجوع بالسؤال، وببراءة غير ملوثة، إن هذا العالم مؤلم جدا، والحكمة في فوضى هذا العالم المفترس تحتاج إلى بحث وإعادة نظر.. الحياة ستكون أفضل بدون قتل، وبدون دم، وبدون إزهاق للنفوس.. لندع المهمة إلى عزرائيل يتولاها، ولكن من دون دم..

ربما وأنا طفل أردت أن أقول كل هذا وغيره على لسان محامي عنّا وعن المخلوقات دوننا.. ولكن لا محامي للنفوس المظلومة، وكبش العيد بات أضحية في تاريخنا كله، قدر لابد منه، من يوم فدى اسماعيل ابن نبي الله إبراهيم.. وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة، ووجدت ما هو أكبر وأكثر..

كنت أتمزق من الألم والحزن وكبشنا يُذبح، بل شعرتُ أنني أنا من يُذبح أكثر منه.. ثم ألوذ بالهرب وهم يذبحونه، وأنا مسكونا بالرفض والامتعاض المُر، من أن يكون العالم بشع بذلك القدر..

كنت طفلا، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، وأشاهد ما هو أكثر من فادح ومرعب وبشع.. ناس يجزون رؤوس ناس تقربا إلى الله وطلبا لغفرانه ورضوانه.. ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين.. حروب وقتل وظلم فادح لا تحتمله الجبال.. سفه ما بعده سفه.. مجرمون يستهوون القتل، ويمعنون فيه حد الغرق في الدم، دون أن يشعرون بذنب أو تأنيب ضمير..

ما كنت أدرك أن أرباب المال في العالم، وتجار الحروب والحرائق يصنعون كل تلك البشاعات التي فاقت كل مهول ومرعب.. ما كنت أظن إن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ماكنت أدري إن هناك اكتظاظا على أبواب الجنة من أجل الحور العين، والجنس الذي يمتد ويعمّر إلى الأبد، دون انتقاص أو ضعف انتصاب.. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيُخطف ويُغتصب، وأن أحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجُرأة والبشاعة والدموية المُغرقة..

لم أكن أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق أو ستُغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من خمسة آلاف عام سيطوله كل هذا الدمار والخراب، وأن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون، ويُعاث في الأرض كل هذا الفساد القادم من البشر لا من الشياطين..

ما كنت أظن أننا سنشهد حروب مثل هذه الحروب القذرة التي تشهدها اليمن اليوم.. ماكنت أظن إنني سأعيش وأرى كل هذا الموت والدمار والخراب يقتات منه حفنة من المجرمين.. أرباب العالم وتجار الحروب وصناع المآسي لهذا العالم المثقل بهم..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(11)
عيدي غير سعيد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد إلا أنا، أنا المنكوب بعاثر الحظ، لا يسلم فرحي بالعيد من قدر يفسده ويسِّود صفحته. عيدي هذا العام موجوع بأمي الهاربة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار أستمر وزاد عما يحتمل..

عيدي بعيد عن أمي لا طعم له ولا لون، أشعر أن الوحشة والغربة والحزن قد سكنوني مجتمعين في أيام يفترض أن تكون بهجة وسروراً وفرحا..

في العيد يتسربل الصبية بالسعادة ولباس العيد؛ ترى الفرح في وجوههم كالعصافير ومحياهم نور على نور.
وجوم ليالي العام أو جلّها، ظلمتها، وحشتها، تجهُّمها، رتابتها، وحدها التي تكسره بهجة العيد، تمزقه فرقعات “الطماش” ووميضها.. السرور يغمر المُهج والقلوب.. أما أنا فشأني مُختلف.. لم يفسد هذا العيد غياب أمي فقط ولكن أفسدته أيضا وشاية ابن جارنا..

سبب صغير وبحجم أصغر من حبة فول، كان لدى والدي يكفي أن يشعل حيالي حربا عالمية.. وما يستفزه أكثر من ذلك أن لا يراني مستجديا لرحمته..

عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه وأنتقص من هيبته وهو المهاب..

عدم مناجاة عطفه يعني أنني أتحداه وأثير غيضه وحفيظته.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة وموغل في التحدي لسلطته وداعي مثير لإعادة اعتباره ومهابته..

إذا ما داعاني لأمر وتوانيت فقط في إجابته؛ تجد وكأن الجن تلبسوه، وركب فوق رأسه ألف عفريت..

حاول قتلي طعنا بـ “الجنبية”، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون قتلي وأخطأتني الطعنة لتصيب ابن عمي عبده في يده، بينما كان يحاول منعها من أن تخترق جسدي المُنهك والمثقل بالتعب..

تحول العيد في وجهي إلى احلك من ليل وأكثف من ظلام سرداب سحيق..

هربت من سطوته مائة متر، فيما هو يحاول قتلي بالرصاص تداريت بجذع شجرة “السُقم”، كنت أختلس النظر من محاذاتها فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حماقته وحميته كما يثير المصارع الاسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران وقد أصابه المصارع في طعنة سيف..

العراك على أشده؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي فيما هو يصر على محاولة قتلي؛ كنت أسائل نفسي بهلع عما إذا كان بمقدور الرصاص أن ينفذ من جذع الشجرة فيطالني، أعود لأطمئن نفسي إن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص! غير أنني وجدت أن القرار الأفضل والأكثر أماناً أن استفيد من لحظة العراك وأطلق أرجلي للريح، و
كب أي حماقة إن فعلتها عنوة، أو تجاوزتُ قرار المنع.. أبي يستثيره التحدّي كثور إسباني، ولاسيما إن كان هذا التحدّي صادرا مني أنا.. يكفيه أن يظن ولا حاجة إلى تقصي أو إثبات ما يخالف ظنه..

“الخضر”، ولي صالح لم يسبق أن حضرت “مولده”، أو قمت بزيارة مزاره.. كنت اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من “مولده” كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام، ويسردونها بغبطة تموج، وفرح يكاد يطير صاحبه، وكأنهم ارتادوا كوكب آخر، أو زاروا سطح القمر..

عندما يسردون الحكايات ويتنافسون في ذكر التفاصيل أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني والمرارة تذبحني لأنني ممنوعا ومقموعا، وزيارته أمل بظهر الغيب المخيب للآمال..

في “المولد” يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجاً وفرحاً.. كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ بمثل هذه المناسبة.. مشاهد لا تتكرر إلا بعد عام..

البيارق وألوانها الفاقعة تأسر اللب والنظر، وتشعر بالبهجة عارمة في نفوس الحاضرين، وتضفي على المناسبة تميزا وجلالة قدر.. روحانية تغمرك في بعض الأماكن والمشاهد.. حتى المبالغات في الموالد جاذبة وتأنس إليها.. والكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحيانا تفوق الخيال..

المجاذيب ترى منهم ما يدهش ويذهل.. هنالك ترى من يغرس رأسه بالساطور، وهنالك ترى من يخرج عينه من مكانها إلى يده برأس السيف ثم يعيدها إلى مكانها دون أن ترى توجع أو أثر.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقا لأن تراها ألف مرة دون أن تمل، وتحضر دهشتها وتفاصيلها بكل روحك وحواسك.

من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعيت الله أسبوعا أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلا من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلا من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلاف وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقا حتى يسمح لي بحضور “مولد” الخضر هذا العام وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته، وتأجل من عام إلى عام.

ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول وعرض السماء، وظل قلب أبي صعباً، لم يرق ولم يلين..

أمي أيضا تبذل مساعيها من قبل أسبوع، ولكنها أخفقت وأصابتها الخيبة من انتزاع رضى وموافقة أبي؛ فأبي عندما يمعن في الإصرار والعناد، وتتصلب مواقفه، يحتاج لتغييرها قضاء وقدر.. أو هذا ما أتخيله، إن لم أكن قد عشته بالفعل.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(14)
محاولة انتحار..
حاولت التحدِّي وأذهب عنوة مولد الخضر، ولكن أبي كتَّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروسا في قاع الدكان، وضربني بعنف وقسوة لا أنساها ولا تنساها السنين الطوال، ولكنني أسامح ومعتاد على التسامح، غير أن التسامح لا يعني النسيان، وإنما يعني السمو والحب والغفران..

استمريت مربوطا على عمود الخشب عدة ساعات، حتى فات موعد الذهاب، وأجفل الناس والصبية، وعادوا من “المولد” إلى البيوت.. ذهب أبي وفكت أمي وثاقي، وانتابتني نوبة سخط واستنفار جنوني..

وبعد أن خرج الجميع من الدار، صعدت إلى حجرة والدي، ووجدت السلاح في متناول يدي.. أخذت بندقيته الآلية، وعمرتها وتمددت، ووضعتُ فوهتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أتم إطلاق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعت خوار بقرة أمي، وكأنها تريد مني نظرة وداع أحتاجها أنا أيضا، أو ربما تريدني أن أكف عما أنتوي فعله، وربما غريزة البقاء كانت أقوى مني..

ذهبت لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة، وأول ما رأيتها شعرت أنها تترجى وتتوسل بألا أفعل.. هذا ما خلته في خاطرة مرت على بالي القلق.. أحسست أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعدا أو فراقا.. قبّلت ناصيتها، ومسحت ظهرها، وراحت أكفي تداعب عنقها وضممته بحرارة مفارق.. كانت تصرفاتي معها أشبه بتصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلهاً أو معبوداً مقدس..

شعرت بحبها الجارف، وبادلتها محبة غامرة.. شعرت أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.. غالبتُ دموعي، ولكنها كانت تنهمر سخينة.. رأيتها تشتمَّني بلهفة، وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار.. أحسست أنها هي أيضا تغالب دموعها.. بقرتنا المحروسة من العين بحرز معلق على رقبتها كمصد يصد العين والحسد.. وأنا المحروس أيضا بحرز السبعة العهود من الجن والشياطين، ولكن من يحرسني من قسوة أبي؟!!

ذهبت لأسرق لها الطحين، وأصب عليه الماء، وأقدمه لها كحساء وداع أخير..
امطرتها بقبل بدت لي إنها قبلات الوداع الأخير. وفيما أنا ذاهب عنها، رأيتها ممعنة بالنظر نحوي، وأحسست أنها تتوسل وترتجي ألا أفعل وألا أرحل.. كنت أفسر الحميمية التي بيننا على مقاس تلك اللحظة التي أحس بها، أو بما ينسجم معها.. كانت مناجاة ومحاكاة لها عمق في نفسي، وتفيض بمشاعر وعواطف جياشة بدت لي حقيقية، لا وهم فيها ولا سراب..

تطلعت صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. شعور وداع الأبد ليس مثله وداع.. الو
أنجو بهروب سريع.. هربت والذعر يضاعف سرعتي، كتب الله نجاتي، كما كتب أيضا مزيدا من العذاب والخيبات..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(12)
هروب وعودة
هربت إلى دار “الشناغب” دار جدي ـ والد أمي ـ الذي يبعد عن منزل أبي بحدود خمسة كيلو مترات، يقع في منطقة محاذية لحدود دولة الجنوب.. وهو دار حربي في أعلى أحدى الجبال متوسط الارتفاع، ولا توجد منازل في ذلك الجبل غيره، أو قريبة منه، ولكن توجد منازل في بعض الجهات المقابلة..

في الجوار الملاصق للمنزل خزان ماء أرضي، وفي الدار كواو، وشقوق طولية ضيقة، يمكن استخدامها في المراقبة، واطلاق النار من البندقية إلى الخارج حيث تسمح بمرور ماسورة البندقية إلى الخارج بقطاع وزاوية معنية.. ويبدو إن هذا الدار قد شهد شيئا مما خصص له في زمن خلاء.

أما جدي سالم مانع الذي يملك دار أخر، وكان يقطن أيضا هذا الدار في عهد طفولتي، وسكنت أمي قبل مجيئي فترة فيه.. جدي سالم رجل فاضل، مسالم، طيب القلب، نقي السريرة، يقضي كثيراً من وقته في قراءة القرآن والحديث في تفاسيره، كان تقيا، ورعا، محبا، لا يحمل ضغينة، ولا يضمر شرا، ولم يعر بالا أو اكتراثا للسياسة، ومع ذلك دفع حياته لاحقا ثمنا لأفعال الساسة.

أقبل أبي بعد سويعات من هروبي، رأيته من دار "الشناغب" دون أن يراني، رأيته يمتطي حماره الأبيض، كان حمار أبي يشبه الحصان، وكان والدي يهتم به.. رأيت بندقية أبي مسطوحا أمامه، يبدو مستعدا لاستخدامها في أول وهلة يراني فيها، رأيت في مَقدمه شرا ونارا، أنخلع قلب أمي الهاربة في بيت جدي.. خرجت مذعورا من الدار إلى الجبل في الاتجاه المعاكس لمقدمه متجها نحو حدود دولة الجنوب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.. هنالك دولة ونظام لعله يتولَّى حمايتي، ولجم حماقة أبي.. هذا ما حدثتُ به نفسي وانا أهم بالتوجه إلى الحدود عبر مسلك وعر..

خالتي أخت أمي أبلغت والدي أنني خرجت من الدار وهربت؛ كانت خالتي قوية الشخصية.. كانت صارمة وحازمة، تجيد الاستبسال، والمواجهة، والتحريض أيضا، وقراءة كتاب الرمل وفك طلاسمه والتعاطي معه بما ترجوه أو يرجوه الكتاب..

أدرك أبي وجهتي، واستطاع الإسراع بحماره إلى المكان الغربي من الوادي، والذي بإمكانه أن يحول دون وصولي إلى الحدود، وأشهر بندقيته نحو الجبل، فيما أنا كنت قد أخبئت نفسي خلف نتوء في كنف الجبل، وبعد طول تفاوض مع خالتي مريم، ورجال خيريين من عابري السبيل، التزم أبي بأن لا يؤذيني، مقابل أن أعود إلى بيته؛ طمئنني الجميع أن الأحوال ستكون على ما يرام، ولن يحدث لي أي مكروه؛ والدي تعهد أمام من شهد الموقف ألا يلحق بي أذى أو انتقام، نزلت من الجبل بعد ما يشبه عملية التفاوض الذي قادته خالتي من جهتي، وعاد أبي وهو يبلع غيظه شاعراً بعدم الرضا؛ لأنه لم يشبع حماقته، ولم يشفِ غليله الفوار..

عدت بموكب يحيطني، كانت بعض النسوة وأختي من أمي هناء إلى جواري يرافقن عودتي وخمسمائة متر تفصلنا عن مسير أبي وحماره، كان أبي ينتظرنا في كل منعطف حتى نقترب منه.. بدأت المسافة مع السير تضيق وتضيق.. وعندما بلغنا منطقة تسمى بـ: “سوق الخميس”، لم يحتمل أبي أن أسجل عليه ما بدا له انتصاراً، استفزه منظري الذي بديت فيه المنتصر، وساورته الريبة بأنني أُشمت به، وأنال من سلطته وسلطانه، لم يحتمل ما جاس في صدره، ثارت حماقته مرة أخرى، تمتم بالسباب الحمق، وصوّب بندقيته بانفعال نحوي، حمتني النسوة بأجسادهن؛ تعالى الصراخ والذعر، تدخل المارة، وكل من كان على مقربة منّا؛ انتهت الجلبة حينما قطع أبي على مضض عهدا آخر للناس بألا يُلحق بي سوءاً أو ضررا، وبر هذه المرة بوعده، ولكن على كره ومرارة ومضض.. لم يطق ابي أن يشاهد ما تصوره انتصاري المستمر عليه، وحتى لا ينكث عهدا قطعه مرتين أمام مشهد من الناس؛ أعادني مباشرة إلى منزل أخي علي في نفس القرية..

عاد أبي بعد أيام ليتصالح مع أمي وأهلها، ثم عدت إلى بيت أبي من جديد في حضرة أمي التي ندمت أشـد الندم على ما حدث، وعلى تركها لي أياماً كنت خلالها أحوج ما أكون إليها بجانبي.. ومر العيد بسلام بعد أن كاد يتحول إلى ميتم أو مجهول.. وكنت أنا السبب الأهم في استمرار زواج أبي وأمي، رغم الخطوب المتعددة، وما شاب له الدهر..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(13)
خذلني القدر بعد مائة صلاة
الآباء يحنون على أولادهم.. يغمرونهم بالعطف والمحبة، ويحيطونهم بالرعاية والاهتمام.. لا يردوا لهم رجاء أو طلب إن تأتّى، أو كان تحقيقه في الوسع والمقدرة، فإن أستحال وتعذّر التمسوا منهم السماح والعذر المؤكد.. أبي هو الوحيد الذي من بين ألف طلب لا يستجيب لي بنصف طلب، لا رجاء يجدي معه ولا توسل.. أبي لا يرتخي طبعه حتى في يوم العيد.. أبي صعب المراس كالفولاذ، وقلبه من حجر الصوان.. هذه هي الصورة التي علقت في ذهني عن أبي، ولكن ما أن كبرت ونضجت فهمت أشياء كثيرة..

الآباء لا يمنعون أولادهم من الذهاب للموالد البعيدة، وأفراح الأعراس، ومجالس العزاء.. أبي لا يمانع فقط، بل ومستعد أن يرت
ي وصوت إخوتي المذعورين وصوت الشجار يملأ فضاء القرية وجوارها، يمزق سكينة ليل أناخ واستتب، ويصيب أهل قريتنا وما حولها بالحيرة والأسئلة والفزع..

استفدت من لحظة الشجار بين أبي وأمي ونفذت بجلدي. قفزت من فوق الدار.. كانت مجازفة غير أن الخوف والهلع صنع المعجزة، وربما مادة الأدرينالين التي تفرزها الغدد الكظرية في الجسم في مثل هكذا حالة تجنبنا ما قد يلحق بنا من ضرر محتمل..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(16)
ما أجمل الفقراء..
هربت إلى مكان قريب.. ثم تسللت إلى مقبرة صغيرة في عرض الجبل ”إجت الجفيف”، شعرت بالوحشة ولم اهدأ ولم يأتني نوم ولم اطمئن.. كنت أتوجس أن يخرج الأموات من قبورهم.. اسمع حكايات كثيرة عن حياة الأموات في القبور.. أردت أن أجد مكانا أكثر أماناً حتى إذا ما داهمني "طاهش" أو ضبع مفترس أجد من يسارع في نجدتي.. لقد سمعت عن رجال كبار أكلهم "الطاهش" والضباع، ولم يبقَ منهم سوى بقايا من عظام وأطراف..

لجأت إلى مكان قريب من منزل شخص كان يطحنه الفقر، شخص اسمه ثابت صالح.. كان يكدح من الصباح إلى المساء بإيجار قليل.. يحرث ويحمل الحجار على ظهره طول النهار .. يبني الناس بيوتهم، فيما كان بيته متواضعاً جدا، ولكن قلبه كان أكبر من قصر ملك، وأخلاقه عظيمةً، أعظم من أصحاب كل القصور.

سمع “ثابت” خطواتي في الجبل، والليل في ريفنا له أذان.. سمع حصى تتساقط بسب تسلقي بعض الجدران ونتوءات الجبل، أيقن أن هناك أمرا ما.. وجه الضوء نحو الصوت وبدأ ينادي من هناك؟! كرر الأمر مرتين وثلاث.. أزداد يقينا بوجود شيء يستدعي الاهتمام..

صعد إلى المكان الذي كنت فيه.. وجدني وعرفني وألح عليّ أن أنزل لأبيت عند أسرته.. نزلت معه.. رحبت بي زوجته وكانت صديقة أمي.. لم تصدق أنني من وجده زوجها في الجبل.. رحبت بي ترحيب الأم المحب.. أكرمتني وأشعرتني أن لدي أب حنون وأم ثانية.. سألتني عمّا حدث ولماذا كان كل ذاك الصراخ الذي سمعوه في بيتنا؟!

حكيت لها ما حدث.. اغرورقت عيناها بالدموع وسالت.. شعرت بعاطفة جارفة عندهم وحب كبير.. ما أجملكم أيها الفقراء.. قلوبكم بيضاء نقية دافقة بالحب والطيبة والحنان والمعروف..

وفي اليوم الثاني زفَّت زوجة ثابت الخبر لأمي المريضة بسبب ما حدث لها مني ومن أبي، وطمأنتها، وبعد ثلاثة أيام عدت للمنزل بعد مفاوضات بدت صعبة لكنها تمت على خير..

عدت إلى المنزل وكان أبي يشكو لأخي الأكبر ـ من أبي ـ “علي” والذي كان مسافراً عندما حدث ما حدث.. سمعت أبي وهو يقول له”: شوف أخوك أيش أشتغل”.. وكان يريه جدران الديوان المجدورة بالرصاص، وما لحق بها من ضرر.. ومن يومها أخذني أخي إلى بيته في القرية عند خالتي التي أغرقتني بحنانها وعطفها..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(17)
يوم أهداني أبي ساعة
كان ذلك اليوم بالنسبة لي يوما استثنائيا فريدا لا يشبهه أي يوم من أيام حياتي التي خلت وأجفلت.. كنت أشعر أن فرحتي يومها تكفي أن تغمر الكون كله، وتفيض على كل متسع في أطرافه وأرجائه البعيدة التي لا يعرفها علم ولا نظر.. كنت أشعر إنه فرح يعدل الحزن كله، بل ويميحه بغسيل ومسحوق يزيل الكلس والصدأ وما حجّره الزمن البعيد..

كانت فرحتي كبيرة وكثيرة لا يتسع لها حجم ولا عد ولا حصر.. كانت فرحتي أكبر وأكثر من فرحة تائب تاب إلى الأبد ونال الجنة مناة.. جنة عرضها السموات والارض، وبها ما لذ وطاب وفاق كل خيال..

كانت فرحتي أكبر من فرحة راهب ظفر بجنة الله التي لطالما حلم بها، وكابد من أجلها، وعاش في دنياه شظف العيش، وضنك الحال، وضيق اليد، وأنكر حقه في الحياة لينالها في الدار الثانية.. فرحة ذلك الذي صبر وجالد وعبد الله العمر كله حتى نالها..

يا إلهي .. أبي يهديني ساعته الصليب السويسرية، بعد أن أهداه صهره القادم من “إنجلترا” ساعة “أورنت”.. كان وقع هديته في النفس وقع الدهشة التي لا توصف، وأثرها في النفس والذاكرة حيا لا يزول إلا بزوالها..

بين ساعة أبي وساعتي التي أهداها لي أبي طفره تكنولوجية.. ساعتي تعمل يدويا بتدوير كمانها حتى يستغرق كل دورانه، فتركض وتدور عقاربها دون توقف يوما وليلة، فيما ساعة أبي تعتمد على حركة اليد والنبض، أو كما كان يقول أبي: “تمشي على الدم” وهو أمر لطالما كان يحيرني ويثير تساؤلاتي!!

يا إلهي.. أنا المعجون بالحرمان والتمني.. أنا الطفل الذي لطالما تمنى يوما ساعة من ورق أو بلاستيك، فخابت مناه، ولم ينل ما تمناه، وحصد مرارة وحسرة، فعوّض تمنيه أن رسم خربشة ساعة على معصمه، واكتفاء بها ليصنع منها سعادته، وإن كانت وهما وزيفا وسرابا..

يا إلهي.. كيف احتوي فرحتي، وقد وجدت ما هو أكثر من الحلم والتمني.. كانت ساعة الصليب في عمري ذاك، وفي ذاك الزمان، ليس حلم بعيد المنال، بل هي من أحلام المستحيل.. تأتي بها صدفة عجيبة لا تتكرر مرة في الالف.. شيء لا يصدّق.. مفاجأة فرح مهول لا يحتملها قلبي الصغير.. تحول قلبي إلى صرة فرح يطير إلى السموات البعاد.. تحول قلبي الصغير إلى منطاد ملون يحلِّق في البعيد.. يصعد ل
داع الأبدي يجعلك ترى كثير من تفاصيل الأشياء قبل الرحيل لن تراها في أحوالك العادية أو الطبيعية.. وجدت نفسي أودع كل شيء بما فيها التفاصيل التي لا تخطر على بال، فأنا على موعد مع الموت واستيفاء الأجل.. كنت أتفرس في كل الأشياء التي يقع عليها نظري وكأنني أراها للمرة الأولى.. الجدران والخشب والأواني وملابس أمي..

تذكرت أمي وحب أمي.. أمي التي ضحت بأشياء كثيرة من أجلي.. أمي التي تشربت ألف عذاب، وصبرت لأجلي وإخوتي على حمل ما لا تحتمله الجبال.. عاشت صراعاً لا تحتمله أرض ولا سماء.. كنت أشعر ببكاء السماء في كل مكروه يصيبها..

لم أكن في تلك اللحظة أتخيل أن ثمة شيء يثنيني عن الانتحار والذهاب إلى جهنم، ولا حتى بقرتنا الطيبة، لكن ربما غريزة البقاء غلبتني، وربما حب أمي هو من غلبني، فلا يوجد شخص أحبني أكثر من أمي.. تذكرتها وهي تكرر لي فيما مضى: “إن حدث لك مكروه سأموت كمدا وقهراً”.

لا أستطيع أن أتخيل أمي وهي تراني منتحراً ومضرجاً بدمائي.. كنت أتصور أن مشهدا كهذا سيكون صادماً وصاعقاً وفاجعاً للإنسان الوحيد الذي أهتم له؛ مشهد لا استطيع تخيُّل مأساته الثقيلة على أمي التي تحملت الكثير من أجلي.. مشهد لن يحس بمدى فاجعته غير أمي التي لا شك سيكمدها الحدث..

بسبب أمي وحبها وأخواتي أحجمت عن الحماقة لتنتصر الحياة على الموت؛ ولا بأس من احتجاج أخف ضرراً وأقل كلفة، وهو ما سأقدم عليه الآن بدلا من الانتحار..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(15)
بديلا عن الانتحار!!
أحجمت عن الانتحار، ولكني أريد أن أقوم بفعل أقل كلفة منه.. أريد ضجيج أعبر فيه عن رفضي وتمردي ضد القمع الذي مارسه عليّ أبي.. لن يكون هذا إلا بمزيد من الشقاوة والتمرد.. أريد أبي أن يندم على فعله.. أريده أن يسمع بعض من جنوني، احتجاجا على قمعه لي، وأرد له بعض من جنونه بالقدر المتاح..

لا أستطيع أن أبلع قهري وأصمت.. لا بد من أن أفعل شيء.. أريد أن أعاقب أبي واسمعه بعض من احتجاجي.. يجب أن يسمع أبي مظلمتي ويسمعها كل الناس.. أريد أبي أن يندم لما فعله بي.. كان لا زال الغضب والانفعال يتراكض في رأسي، ويفعل فعله في عروقي..

نزلت من الحجرة إلى الديوان بعد أن أغلقت باب الدار بالمزلاج والمرزح، وضعت "صحارة" - ألواح خشبية تستخدم لنقل صفائح الجاز، وتحميلها على الجمال عند نقلها ـ انبطحت خلفها، وحاولت تشبيك البندقية عليها مع يدي لتقلل من الارتداد أثناء إطلاق النار، ووضعت أصبعي على الزناد، وأنا في وضعية الاستعداد والبندقية جاهزة لإطلاق النار الكثيف بمجرد الضغط على الزناد بأصبعي المتحفزة للضغط حتى إفراغ ما فيه من الرصاص.. تبدأ حالة تشبه نوبة ”هسترية” وأنا أضغط على الزناد وافرغ ما في مخزن البندقية من الرصاص..

لم أكن أعرف إن كل ذلك الغبار سيكتظ من الداخل على ذلك النحو الكثيف، ولفترة بدت لي غير وجيزة.. لم أعرف أن الرصاص الراجع سيفعل بالجدران ما فعل!! الحقيقة لا أدري كيف نجوت؟!! وكيف وجدت للمستحيل طريقاً؟! لعل الخضر كان حاضرا معي.. لم أكن أعرف أن صوت الرصاص والغبار الكثيف سيكون بذلك القدر الذي يجعل من يرى الدار من الخارج ويسمع لعلعة الرصاص في داخل الدار، يعتقد أن ثمة زلزال قد حل فيه.. صارت الجدران مخرّمة كوجوه عبث بها الجدري.. فيما كانت رائحة البارود نفاذة تملأ المكان..

النسوة والرجال والأطفال هرعوا إلى الدار ليرون ماذا حدث!! باب الدار مغلق، وأنا اطمئنهم من مفرج الديوان إنه لم يحدث شيء.. الأسئلة تتزاحم عمّا حدث، والدهشة تستبد بوجوه الحاضرين على عجل.. وبعضهم يدقوا باب الدار بقوة ويهمّون بكسره، وأمي تهرع وتتصرف كمجنونة.. تصرخ وتبكي وتنوح؛ بقلب مخلوع، ومفطور بالفجيعة.. نزلت وفتحت الباب وامي تفتش جسمي وملابسي لترى ماذا صنعت بنفسي. وعندما تأكدت من سلامتي ذهبت لتخفيني من أبي بديوان آخر في الدار مظلم ومملوء بحزم الزرع اليابس.. أما أبي فقد هرع من رأس "شرار" لينتقم مني أشد انتقام، ولكنه لم يجدنِ وأبلغته أمي أنني قد هربت الجبل..

مكثت أياماً في مخبئي السري لا تواسيني غير أمي، وحنانها وخبزها. ومع ذلك لم أنجُ من عقاب تأجّل، ولم تنج أمي من ألف سؤال ومشكلة..

مللت مخبئي وملّني هو الآخر.. طلبت من أمي أن تترك لي فسحة بين أخوتي النيام لأنام بينهم ثم توقظني قبل حلول الفجر لأعود إلى مخبئي خلسة دون أن يراني أبي.. ولكن أنكشف أمري بعد ساعة زمن.. يا لخيبة حيلتي وحيلة أمي!!

مر أبي على أخوتي النيام قرابة الساعة العاشرة ليلاً وهم يغطون بالنوم. أنا الوحيد بينهم من كنت متوجساً ويقضاً أسمع دبيب النمل.. سمعته يعد أخوتي ويقول لأمي هناك واحد زائد في العدد، وهي تشكك وتناور وتحاول أن توهمه وتصرفه إلى موضوع آخر؛ لكن أبي جثي على ركبتيه بيننا، وبدأ يتحسس ويعد الرؤوس ويسميها لأمي، وأمي مرتعدة الفرائص تحاول أن تقرأ بكتمانها سورة ياسين، فيما أبي يعد ويتحسس الرؤوس، وما أن وصل إلى رأسي عرفني حتى أخذ يدقه بالأرض، فانقَّضت أمي على أبي كذئبه، وراحا يتشاجران وصوت
لسماء بزهو وانتشاء منقطع النظير..

أنقصتُ من طول سلسها الفضي أكثر من نصفه لتمسك جيدا على معصمي المنهك والنحيل.. كنت أرى الكون كله معلقا في يدي.. يا إلهي.. كانت الفرحة لا تسعني، ولا تفارق عيني معصمي.. فرحة تبلغ حد البكاء فرحاً.. فرحة عابرة للخيال ولكل الحدود والمفاهيم وما هو معروف ومعتاد..

ليلتها لم أنام.. كنت ألتذ بها تارة كعاشق وأخرى كعريس.. أحتسي السعادة حتى الثمالة.. لم أشعر أن الحياة جميلة كذلك اليوم.. كانت عقاربها الفسفورية الخضراء تضيء في الظلام كجوهرة وتأسر العيون.. كانت جاذبة وأخاذه.. كانت تأخذني من معصمي بعلمي وحلمي إلى ما بين النجوم ، بل وتعبر بي إلى تخوم الكون..

كان صوتها يحييني ويشجيني.. يشعرني بسعادة غامرة لا حد لها ولا مدى.. كان صوتها يسري في رأسي كنشوة فارس منتصر على جيش عرمرم.. كان صوتها يشبه نبض جنين في بطن أمه.. كقيثارة فنان غجري يستعرض ابداعه أمام من يحب.. كنت مثل عاشق بلغ فيه العشق ذروته.. كنت اسمعها وأسمع خفقات قلبي، وأنا المتيم في حبها والمبهور بها حد الدهشة والذهول..

كيف لي أن أنام والسعادة تجرف النوم من عيوني المستمتعة بلون عقاربها الفسفوري الأخضر؟!! كيف أنام وخفقات قلبي تتداخل وتتماهى مع صوت نبضها الآسر، كمعزوفة نادرة لا تشبهها معزوفة أو وجود إلا من باب المجاز..

تقلبني الفرحة على فراشي يمنا ويسرى، وأنا استمتع بلونها الفسفوري كعاشق ولهان حين يلقي حبيبته في غلس الليل ودياجي العاشقين.. اتابع سحر عقاربها في الجريان كمن يتابع عشيقته في ضفاف النهر.. كل لحظة أسألها عن الوقت الذي يستغرقني حد التيه.. اجعل من الليل محطات ومواقف، وأسألها في كل فنية وأخرى عما بلغه الليل من مدى نحو الصباح الجلي.. لم أسمح للنوم ليلتها أن يأخذ مني فرحتي إلا غفوة قرب الصباح.. وكانت غفوة ناعمة وحالمة، تشبه غفوة نبي على أرجوحة السماء بين الأكوان البعيدة..

وفي الصباح استعجلت النهوض.. كنت شبيها للصباح والضياء، وكنت أرى العجب العجاب يحيط بمعصم يدي النحيلة المتوجة بتاج ملك، أجل من تاج هرقل وكسرى.. كنت أشعر أنني قد صرت مركز الكون وأن الكون كله يزف فرحتي..

تلك الفرحة النادرة غفرت لأبي سنوات قساوته الأولى، وجعلتني أشعر أن الحياة فيها ما يستحق البقاء، بل الفرح الكبير..

وفيما أنا اليوم أتخيل تلك الفرحة العريضة؛ أسأل بأثر رجعي: كم ستكون فرحتي في تلك الأيام لو كان أبي أهدا لي جهاز “إيباد” أو “لابتوب” أو تلفون مطور؟!! لو حدث هذا زمن أبي لكنت من يومها إلى اليوم عالقا في فرحتي دون ملل أو انقطاع أو فكاك.. كانت فرحتنا في تلك الأيام تختلف عن أفراح اليوم..
.......................
(18)
تمردي يليق بك..
ربما أهدأ قليلا في فسحة لا تطول.. ربما أنتزع استراحة محارب.. ربما أنحني للعاصفة حتى تمر.. ولكن لا استطيع أن أموت بصمت دون ضجيج.. عندما يريدون صمتي أمام المظالم، لا أستطيع أن أموت مكبودا أو مختنق..

لا أقبل أن يعترشني من يريد امتطائي كالحمار.. قلق التحدّي يجوس داخلي كالأسد في محبسه.. وإن غرقت بالصمت حينا، فالمدى داخلي مكتظ بالضجيج.. جلبة وصخب المعارك حامية تحتدم داخلي، وإن تغطت بوحشة الصمت، فوقت الصمت قصيرا لا يطول.. ولا يستريح ضميري حتى ينتصر..

وإن أصابتني حراب أوغاد، أو لداد الخصوم، فأنا الأسد الجريح.. لا أريد غابة لا أكون فيها الملك، ولا اريد أسد يموت في محبس الصمت المسيّج بالحديد.. وإن كان قضاء القدر قد قال فيك فصل الخطاب، فلابأس للأسد الجريح اطلاق وجعه المحبوس من أعلى العرين، وإن كان جور قد قضاء بأن تذرع المكان في كل وقت كالأسد الحبيس، فاطلق زئيرك في المدى.. ايقظ شعبك النائم بزئير أسد لا يضام.. اطلق صوتك الجلل المهاب.. أكد وجودك الذي لا ينطفئ، واشعل احتجاجك الذي لا يستكين، وابلغ العالم أنك لازلت حيا لم تمت..

لدي ضميرا من قلق، وقلقي لا يروق الطغاة.. ضميري ينتصر على الأنا مهما أوغلت.. ضميري ينحاز للحق العظيم.. معاركي حامية في أعماقي والمدى،، بين الأنا والضمير الحي الذي لا يستكين.. في المعارك التي خاض الضمير رحاها، لطالما أنتصر الضمير.. ضميري أولا قبل الجميع، حتى وإن كنتُ فيه أنا.. ضميري يستصعب الصمت الجبان، في وجه ظلم العتاة وطغيان الطغاة.. عالم يموج بالألم الوخيم، ويوغل في التوحش كل يوم..

أشرب الماء بنكهة القرنفل.. والحياة المملّحة بطعم التمرد.. والإنجاز الشهي بالتميز، والتفرد باللذاذة.. تمرد على سلطة الأب التي تلغي من الحياة وجود، أو تستبيح كينونتك كما تشتهي.. حرر معالي الوعي من جب الحضانة.. تمرد على وصفات الغباء الجاهزة في المدرسة والجامعة.. تمرد على الوهم الكبير، حتى لا تعيش مستلبا أو مقهورا ذليل..

إن وجدت الحق، أمسك به واستميت كالغريق.. اقبض عليه باليدين.. عض عليه بأسنانك والنواجذ.. لا تقبل إذعان وإرغام وطغيان.. لا تقبل من يلغي من الوجود وجودك .. لا تخاتل ..لا تساوم.. ولا تنازل عن حقوقك.. ولا تستمرئ الظلم يوما، حتى وإن حُش
ي بالعسل..

.......................
يابع..
بعض من تفاصيل حياتيالسلسلة الخامسة 1 - 18
قسوة .. وطفولة بطعم التمرد
(1)
معاناة في الطفولة
كان الحمل ثقيلا.. كنت أقوم بما لا يقوم به أقراني من الأطفال الذكور.. لطالما كنست الدار، ونظفت كل ملاحقه ومرافقه، ورعيت الغنم، وحملت على رأسي روث البقر.. ساعدتُ أمي فيما لا تقوى عليه خصوصا عند الحمل والولادة.. وبسبب الكنس، والدخان، وتجريب الشقاوة، أنقطع النَفَس، وأصبتُ بالربو، وكدت أفارق الحياة مرتين..

في الصف الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم أكثر من عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة وعشرة مثلها عند الإياب.. كما عشتُ لاحقا وانا أدرس في القسم الداخلي، معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية..

لازلت أذكر قسوة والدي في مرحلة من حياته، والتي تجاوزت الضرب إلى التعليق والطعن والشروع بإطلاق الرصاص..

تمردت على أبي، وسلطته المفرطة.. قاومت أكثر من ظلم أثقل كاهلي.. كنت أشعر أن الظلم العنيف يفترسني ويهرس عظامي.. رأيت الموت أكثر من مرة، وتحديت الأقدار، وثرت في وجهها بألف سؤال.. فكرت باقتحام الموت واستيفاء الأجل، ولم أعب بجهنم وبأقوال أمي إن المنتحر يذهب إلى النار.

بلغ شعوري بالظلم حد أرى فيها الحياة والموت سيان.. حاولت الانتحار احتجاجا على واقع مُر، وكرامة بدت لي مهدرة، غير أن العدول عن هذه الحماقة كان فيه انتصار للحياة والحب والإنسان.

كان لدى أبي سياسة خاطئة في التربية، تختلف عمّا هي موجودة لدى الناس، أو متعارف عليها بينهم.. كانت سياسته تستند إلى الشدة والقسوة والعنف، بل وأعتبرها مجرّبة ونتائجها أكيدة، وغير قابلة للنقاش أو الملاحظة، فضلا عن إعادة النظر، ولاسيما إنه طبق بعض منها على أخي علي ، وكانت النتيجة كما راءها قد أتت على ما أراد وأشتهى، فتشرف به، واعتز باسمه وبأنه ابنه..

كان أبي يضربني كثيرا.. ضرب يومي لا عد له ولا حصر.. ضرب يومي يبدأ مع الفجر ولا ينتهي في العاشرة من الليالي الداجنات.. أن يتم ضربي كثيرا بات أمرا طبيعيا ولا يثير عجب أو سؤال.. ولكن الغير طبيعي والعجب أنه يضربني في يومي أقل من ثلاث مرات.. إن حدث مثل هذا فهو بالنسبة لي يوم مائز ومختلف.. لو حصل وضربني أقل من ثلاث مرات، فيعني لي إنه يوم عيد، لربما لا يعاد إلا في العام الذي يليه.. يوم كهذا يستحق مني الاحتفال.

عشت الواقع بكل مراراته وقسوته.. كنت أشعر بإهانة بالغة ومهانة لا تطاق.. رفضت أن أعتاد الأمر أو أتصالح معه، وكنت أعبّر عن رفضي بحالات تمرد كثيرة، بعضها كان عابراً للموت والمجهول، أو يكاد يكون الحال كذلك في بعض الأحيان..

كان هذا الضرب يحدث غالبا أمام مشهد من الناس، وكان بعض هذا الضرب يتم بالحذاء.. كنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني.. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي وما جرى من أبي.. كنت حديثهم اليومي الذي يقتاتون عليه، أو هذا ما أخاله.. كنت أشعر أن الإهانة تسحق عظامي.. كنت أبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصاب.

ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر، وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين، ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً، وهي الانتصار للمقموعين والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح.. أدافع عن الضحايا بتفاني، ولو كلفني حياتي مرتين، أو هذا ما أخاله وأظنه..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(2)
قصتي مع المرآة
حالما كان عمري بحدود الخمس سنوات كانت أمي تحذرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، ربما هذا القمع هو من دفع طفولتي إلى الفضول، وحب الاستكشاف، والاستمتاع بما أجهله، وكأن طفولتي كانت تريد أن تعرف تفاصيل نفسها في المرآة التي ربما تبدو عالما قائما بذاته؛ عالم المرآة يثير العجب والأسئلة!! وأنا أريد أن اكتشف عوالمي من خلال هذه المرآة، التي صارت في متناول يدي؟!

كيف يبدو وجهي أمام الناس؟!! أريد من المرآة أن تحكي لي ذلك وبوضوح وبأدق التفاصيل.. الآن لا يوجد أحد في حضرتي غير المرآة وخلوتي.. هذا ما يجب اغتنامه، ولا أهدر لحظة منه.. الفضول هو شغف المعرفة، والمنع أعطى للمعرفة قيمة، واستحثاث لحوح للاكتشاف..

اليوم وعمري يشارف الستين أحاول أن أمنطق وجها من طفولتي التي كانت لازالت في حدود عمر الخمس سنين.. وبين هذا العمر وذاك عوالم وأحداث وتفاصيل أشعر أنها من الكثرة لا تتسع لها مجرّة.. وبين الطفولة والكهولة التي أقترب منها رويدا، مدى قطعته كالمسافة من السديم إلى الوجود الكثيف، نحو الكهولة والتلاشي..

كنت أحملق في وجهي بالمرآة.. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، وعلى نحو أستطيع تخيله في أي وقت أريد، وفي أي حال وهيئة أكون فيها.. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة .. ولطالما تمنيت أن يكون الخالق قد خلق لنا عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا وكل الجسد بيسر وسهولة..

عندما و
جدت الخلوة و الفراغ و الوقت الكافي لإشباع رغبتي، حدث لي شيئا غريبا لازلت أذكره إلى اليوم.. كنت في الحجرة العليا بدارنا القديم، والذي صار اليوم مهجورا .. كانت الحجرة مسقوف نصفها، و نصفها بدون سقف.. تلك الحجرة نسميها “البرادة”، كان مفرج الدار يتكئ في أحدى زواياها في نصفها المكشوف .. وتبدو تلك الحجرة مؤنسه، وتمنح بعض الشعور بالراحة، أكثر من أي مكان آخر في الدار.

أذكر أن تلك المرآة كانت بمساحة وجهي، أو أكبر من مساحته بقليل.. مستطيلة الشكل في إطار أنيق.. بدت لي الخلوة مع المرآة ستكون ممتعة وسعيدة.. لا أحد معي في الحجرة غيرها.. نحن بقلتنا كثير.. عوالمي التي تخصني، وعالم المرآة القائم بذاته.. لا أذكر تحديدا أين كانت أمي وخالتي وقاطني الدار.. أغلب الظن أنهم كانوا منشغلين في أماكن أخرى من الدار أو خارجه.. الأكيد أنني استغليت غفلة أهلي واستفردت بنفسي مع المرآة.. أريد ضمن ما أريده أن استمتع بخلوتي وبالمرآة التي بحوزتي أكثر وقت متاح وممكن..

كنت أشاهد صورتي في المرآة، وأقلّد حركات الوجوه.. أتجهم، وأتصنع الضحك والبكاء والغضب.. أزم شفتاي و أرخيها.. أغلظها وأخفي نصفها.. أقطب جبيني و أرخيه، واستعجب!! أخرج لساني إلى الأمام كمستفز محاسد، وأقلّبها في كل اتجاه.. أقطب حواجبي وأعقد شفتاي نحو اليمين ونحو اليسار.. أغمز وأحملق.. أفغر فاهي وأغلقه.. أجحض العينين وأضيّقها، وأحدج بها في كل اتجاه.. أهرّج مع نفسي أكثر من مهرّج.. أحاول اكتشف تفاصيل وجهي.. لو وقف ساعتها أحدهم على ما أفعله لأنفجر ضاحكا، و فجر بالضحك طابق الدار الذي كنت أختلي فيه..

بغته ومن غير مقدمات صدمني ما شاهدته في المرآة .. بدا وجهي قد اختطف واستبدل بوجه آخر.. لم يعد الذي في المرآة وجهي الذي أشاهده.. شاهدت وجه غير وجهي يملأ وجه المرآة .. وجه شديد القبح لعجوز شمطاء، بتجاعيد عميقة وكثيرة، كخريطة طبوغرافية معقدة التضاريس وشديدة الانحدارات.. وجه ألقى ي نفسي الرعب والزلزلة، و حفر في ذاكرتي تفاصيله إلى اليوم.. لا استطيع نسيانه ما حييت.. وجه مدرج بالتجاعيد العميقة والمتزاحمة كمدرجات الجبل.. وجه صارم وجهوم ومخيف.. يصعقك بالصدمة والفزع والرعب..

كدت أصرخ.. رميت من يدي المرآة بسرعة الفزع.. خرجت مرعوبا وبسرعة من الحجرة إلى السطح المكشوف المجاور.. خرجت إلى جوار “غرب” الماء المقطرن.. كاد قلبي يقفز مذعورا من قفصي الصدري.. انتابني هلع شديد، كدت معه أفقد عقلي.. تذكرت على إثرها تحذيرات أمي التي كانت تنصحني دوما على عدم إطالة مشاهدة صورتي في المرآة..

الحقيقة لا أدري من أين جاءت أمي بهذه النصيحة..؟! لعلها سمعت بحدوث أشياء مشابهة لما حدث لي؛ كأنها أخبرتني عن فتاة حدث لها مثل هذا الذي حدث لي ولم أكترث.. كنت محظوظا، فيما الفتاة كما قيل لي طار عقلها.. لعل نصيحتها جاء على هكذا مبنى أو سماع .. تجربة بالنسبة لي أقل ما يمكن أن توصف بالمخيفة..

أخبرتني أمي إن ما شاهدته في المرآة هي جنّية، وكدت أجن مما حدث، وكان الجنون أكيد إن أطلت المشاهدة برهة زمن.. وبعد أيام من القطيعة مع المرآة، وبدافع الفضول والتأكد عمّا إذا كنت أستطيع أن أشاهد صورتي في المرآة مرة أخرى أم ستكون القطيعة مع المرآة إلى الأبد.. عدت لأشاهد صورتي بحضور أمي، وكنت أختلس النظر إلى المرآة خلسة وبحذر شديد، لأشاهد ملمح صورتي فيها، فوجدتها أنها صورتي بالفعل، وليست صورة العجوز، أطمأنت إنني بخير، وإن الدنيا وأنا لا زالنا بسلام..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(3)
فاتحة وصلاة وسفينة
أريد "سفينة النجاة".. سفينة الرب إلى ما يريد ويرضى ويطيب.. أريد أن أصلّي.. أريد أن أدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد.. لا حزن هناك ولا موت.. لا جوع فيها ولا عوز.. أريد الجنة وما فيها من تعويض لحرمان، ضاق معه العيش، وأشتد فيه النكد.. أريد الجنة بما فيها من حياة أبدية لا مثيل لها ولا نظير.. كنت اطيل استفسار أمي، وهي تحكي عن الجنة وتطيل، وتشرح ما يجذب ويغري ويفيض..

أريد "سفينة النجاة" التي تعلّمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة.. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، وتشوقت له كثيرا، ومرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بواحد منها.. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، ويُرجئها من شهر إلى آخر، وبعد انتظار طال، ووعود كثيرة خابت، أوفى والدي بآخر وعد له، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله..

عندما ناولني أبي "سفينة النجاة" كانت دهشتي أكبر من عالمي، وكانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي.. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب..

قلبي عامر بالفرح.. يرقص ويغني ويطير كفراشة.. وأنا أعيش الدهشة بكل المعاني، وأردد محفوظاتي الطرية:
“أنا طفل بطل شاطر*** وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر*** وأدعو الله يهديني”

ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وأنكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طن
ينه إلى اليوم..

“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث الذي لا أدري ما مدى صحته وموثوقيته، أشقاني، ونال مني الكثير، حتى أنني وقد قاربت الستين، لم أحسن ما ضُربت لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير..

خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة.. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي وحذائه، فطيّر عقلي وطار صوابه، ووجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها الضباع والسباع.. تهدج صوتي، وأضطرب تفكيري كبحر وعاصفة.. أتشتت روحي كنثار رمل في الريح، وتطايرتُ كشرر نار الحديد تحت مطرقة الحداد..

أنساني التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون مواسم، وتتساقط بعض الكلمات من فمي، فألمّ بعضها ويتساقط أخرى أكثر منها.. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..

يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، وتتداخل الألوان ببعضها، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا يعرف، ولا يعرف سامعه ماذا أقول..

ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة الجحيم، في روحي المهشمة وأجنحتي المتكسرة..

أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت ألتّها وأفتّها إلى يوم القيامة.. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي في قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في "كريتر" عدن.

أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة أيضا مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، وتعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبي، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن..

ثم ترك أخي عدن، وولّى هاربا من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح .. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: "سجل 16 سنة".. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عام..

غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..

فيما قصتي مع "سفينة النجاة" يشابه ما حدث لسفينة "تيتانيك".. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، و"الرب خير حامي وحارس"..

"سفينة النجاة"، وجدتها، ولكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدت خيبتي التي تبتلع المحيط.. وسفينة "تيتانيك" التي ساد الاعتقاد يومها إنها ضد الغرق، غرقت في قاع المحيط..

"تيتانيك" بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق للمحيط ، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم..

فيما خالتي "سعيدة" أم علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها "الفاتحة" أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..

خالتي "سعيدة" كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..

..................................

(4)
رعي للغنم والعنزة "بيرق"
رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا حالما يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية ربما قل مثيلها.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة من الزهور، تملؤوا عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل لا تُنسى، بل أثبتت خمسون سنة مضت، إنها عصية على التلاشي ما حييت، ولا يدركها غروب أو نسيان..

ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لم أنسها إلى اليوم، رغم مرور نصف قرن من عمر حافل ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لن أنساها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، أو صعدتُ علوا منها إلى سطح القمر..

ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..

لازلت أذكر إ
لى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أذكر أشكالهن وحكايتهن وكثير من التفاصيل.. أذكر "حجب" و"بيرق" و"خرص" و"عنب" و"شمار" و"غبراء" و"خضاب" و"فرح" و"مرش" و"سواد" و"حلق" و"حنّا" و"حمراء" و"نشم" و"بحرية" و"قدرية"..

كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!! لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها، وعدم بعدها عن اليوم بمرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد لازال غير بعيد..

في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في "الأنترفيو"عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ وأفتُّ فيها وأذكرها مرتين..

فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منّا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين ونحوهم..

لازلت أذكر العنزة "حجب" اللبون، وجسمها الضخم والممتلئ، والمنحدر أصلخا من سلالة هندية عريقة.. "حجب" التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم عين وماتت، أو هكذا قيل..

لازلت أذكر "خرص" أم "بيرق"، وتمرد "عنب" و"حِنّا" اللاتي ينطبق عليهن مثل "أينما غلّسه باتت"، ونشم "الذكية"، وسواد الطيبة، و"مرش" النافرة، و"قدرية" و"بحرية" أغنام أمي المساكين..

أذكر العنزة "خرص" التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن "خرص" "بيرق" قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي..

قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا " أما أنا فعشقت "بيرق" قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..

عشقت "بيرق" وهي لازالت ببطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر موسم البذار، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة يوم عيده، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..

خرجت "بيرق" من بطن أمها إلى فسحة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الكون والوجود.. شبت "بيرق" الجرعاء من دون قرون.. "بيرق" لا تحب الحروب.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بياضها كبياض الجليد.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد..

ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما على يوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت "بيرق" تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصور، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..

ربما "بيرق" لا تصلي ولا تنافق، ولكن لها من العفة ما تسقي بلاد وأهلها بالماء الطهور.. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا والشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم والعقاقير.. تنمو بمهل، وليس بسرعة الفساد في دويلات ومقاطعات مليشيات أمراء الحروب.. تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش حمام وحرير، ولا تصنع الفن من نقيق الضفادع..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(5)
ممنوع اللعب..
كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته.. تكسّر أجنحتي، وتطيح بجمجمتي.. تُهشّم أضلاعي حتى تختلط ببعض؛ فتبدو البشاعة مرعبة في وجه طفولتي المتعبة، ويتجهم الواقع في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه، في أن ألعب وألهو وأفرح، مثل غيري من الاطفال..

تبتلع الحسرة وجودي الحقيقي الذي أحبه، وكلما يشعرني إن الحياة لا تزال رائعة، وأنها تستحق أن نعيشها، فيما تترك بقاياي كعصف مأكول.. ومعها كثير من الحزن والألم والغصص..

كنت أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون ويعيشون حياة لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو، مقموع بالأوامر الصارمة، وبسلطة تشبه القدر الذي لا رد له..

كنت استغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرد عنه، وأنغمس في اللعب حتى الاذنين، ولكنه كان انغماسا لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلا قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولك
نها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي.. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصرخ في مناداتي، فما أن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل ودفعة واحدة، لا قسط ولا تأخير فيه، على تمردي القليل عن طاعته، والشارد عن سلطته وولايته..

كنت استغل أحيانا ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، وألهو وألعب دون أن أمل أو أتعب، فيما كانت جدتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها، حبيسة بيتها رأس الجبل ومفرجها المطل على الوادي، وما أن ترى أبي في بداية الوادي عائدا إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولا إلى بيتنا، وأبدوا في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والدة في عدم الخروج واللعب في غيابه.. هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب والتخفي والتمرد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحملتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبّر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم..

كنت أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بالمحبة والرجاء، فيما كنت أنا أمضغ جروحي، وأختنق بالعبر، وأُذبح بغصص كالسكاكين.

كنت أسأل ربي: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقنِ هذا الرب في مكان آخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمي معي، فلا قدرة لي على فراقها..

كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ولين، بل وتقدير أيضا وكأنهم كبار في عمر آباؤهم؟!.

كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي سببه” وكانت الفكرة لدى أبي في التربية "الضرب يشحط” ويجعل الرجال أفذاذا.. كان أبي يعتقد أنها تربية مجربة، وقد أتت أُكلها من قبل، وبما رام وأرتجى..

أنا وأبي – ربما – كل منا كان يقرأ الأمور بطريقته، وكل منّا يرى الحق معه.. ورغم تمردي لم أفكر يوما أن أسجل بطولة عليه، بل ربما التمس له العذر أيضا.. إن الواقع مر، والاستلاب فاحش، والتنشئة مشوَّهة، والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.

ربما من أسباب التضييق على حياتي من قبل أبي، ترجع في بعضها إلى كونه يعيش زحمة مشاغل وتوتر ومسؤوليات تفوق طاقته وطاقة أمي.. كانت المشقات والمسؤوليات كثار.. دكان، وبيع وشراء على مدار النهار وحتى مدخل الليل بحين، ورعاية أخواني الصغار تحتاج أيضا لكثير من الاهتمام، وصناعة الحلاوة وبيعها، وفلاحة الأرض، وتعدد الأعمال بها بحسب المواسم، من الذري إلى الحصاد، وكذا لا أنسي وجود مواشي لنا، بقرة وحمار وثور وأغنام، ومسؤوليات وتفاصيل كثيرة، تثقل كاهل أبي وأمي المتعبين..

كانا يغرقان في العمل كثيرا، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلا.. كنت أعلم أنهم مثقلين بالكثير من المهام وتفاصيل الحياة اليومية تلك، وكنت أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليل، أو غير متاح، وأحايين كثيرة أجد فرمانا عثمانيا من بابه العالي فعالا يقول "ممنوع اللعب" فيكون مني الالتزام، ويكون مني التمرد أيضا، مهما كانت كلفته..

ورغم كل شيء، كنت أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموت بسبب.. هو أيضا كان يحبني، وربما يرى ما يفعله هو لصالحي وبدافع الحب أيضا.. وربما خرج كلانا في ذروة الغضب قليلا عن هذا وذاك..

كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا لازلت صغيرا لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(6)
من أين ولدتّ يا ماما؟!!

كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في الغموض الشديد، ومُستصعب فهم أبجدياته، بل وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول ملامسة أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.

اسئلة صارت الإجابة عليها، محفزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة والمتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي أغرق في بحر من الحيرة التي لا تهدأ ولا تستكين، بسبب عدم رضائي واقتناعي بإجابات تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة..

كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنو
ع..

لقد كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى ومبرر العيب؟! كنت أسأل عن وجودي، وكيف خرجت من بطنها إلى واجهة الكون، ومن أي منفذ خرجت بالتحديد؟! وعندما تولد أمي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته.. فيما كانت أمي في البداية تجيبيني وهي تضحك أننا خرجنا من ركبتها.. ثم تثير فضولي أكثر وأسألها كيف؟! والمولود أكبر من ركبتها؛ فأحتار وأتسأل أكثر!!

بدت لي إجابة أمي على السؤال غير مقنعة ولم تمنحنِ الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، وظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدت أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..

ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رض أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. فركبتها سليمة ومعافاة، ولا أثر لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!

كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني كحمار وحشي، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..

كانت أمي تصر على إجابتها ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي الخاطئة، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..

كنت أسمع ولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي أكثر من المكان الذي أقف فيه، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، وأُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!

كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..

وبعد حين من الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى، حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بما أجابت.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..

وبعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، وشعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا وإخوتي من فمها.. ولكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج مولود أكبر منه!! ولماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!

لطالما أتعبتني تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة، والمتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عني، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالضحك أحيانا، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..

عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام.. واكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، وبحد يجب أن لا نستسهله..

كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(7)
أسئلة تتناسل كالضوء

وأنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب وفرح واستراحة وسعادة.. وهو يراني في كل حال.. وأتخيل الملكان يرافقانني
في كل الأوقات، ولا يتركاني حتى عند الدخول إلى الحمام لقضاء حاجتي..

كنت أسأل عن الله، وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وهو مستريح عليها ينظر إلينا ويتابع أفعالنا، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي.. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي وأنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.

كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.. أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، ولا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، ولكنني أتشكك بصحته، ويميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..

لأول وهلة تبدو بعض الأسئلة بسيطة، ولكنها تشبه السهل الممتنع.. وكانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف والهلع.

كانت بعض الأسئلة كبيرة، وربما صغيرة، ولكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار.. بعض الأسئلة كانت تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف الهلع، وتسارع بتحذيري الشديد، وبما هو مرعب ومهول، وتقمع سؤالي بشدة وصرامة..

طبعا تلك الأسئلة وما قبلها لم تكن بهذه الصيغ التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا وأكتبه.

أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر، وتتناسل كالضوء، تواجه بقمع وتعنيف وغياب جواب، أو جواب خطاء أو مغلوط لا استسيغ بلعه، أو أبلعه بصعوبة إلى حين.

كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وظالم ومحتال وشرير؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..

أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد.. ولماذا أصلا نذبحه ونسفك دمه؟!
فتحكي لي أمي قصة اسماعيل ووالده إبراهيم عليه السلام..

أسأل: لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..

وتسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من دومها في لجة الليل البهيم.. كانت تصرخ وتستغيث بصوت مفجوع يفطر القلب.. صوت لم أسمع مثله من قبل.. كان أوجع من الموت وأكبر من مكبر الصوت، ولا مغيث ولا مجير.. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، وكأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها؟!

ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة الذي ربما يعادل صوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، وأخمد صوتها وأنفاسها إلى الأبد.. كدت يومها أن أحتج على الرب، وعلى هذه الحياة الكاسرة.. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد خمسين عام خلت.. لقد مزق صوتها سكون الليل، وقدح صوتها الصارخ بالشرر..

كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال.. وهكذا وجدت إن جواب أمي بات يفوق حتّى خيالي..

أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس شرار، وسمي ذلك السيل باسمه.. كنت أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة المعرفة بثوجان مشيا على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، والذي قيل أن السيل سحب حميد منه.. كنت أتخيل المشهد وأتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، ودفر السيل العنيف العرمرم..

أسأل: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، ومن هم أصغر مني.. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، ويرغمون بالموت على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنة.. والجنة فيها كل ما يطيب ويتمناه الإنسان، وإن أختي نور وسامية مع بنات الحور في الجنة، وإنهن سيشفعان لنا يوم القيامة..

كنت أسأل لماذا الموت أعور؟!
فتجيبني أمي: لأن نبي الله موسى فقع عينه..

كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه..

كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، ولم أجد لها جوابا كاف وشاف.. كنت أسخط على من يستسهل الموت، ويهدر الحياة، وينتج العنف والقسوة، ويسوّغ الظلم ويبرره.

أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه ووحيه؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو؟! وكيف أوجد نفسه؟! وكيف كان الحال قبله؟! فلا ألاقي جوبا، بل أجد صدّا وغضبا يشتد، وزجر يمنعني من السؤال ثانية.. ولكن تظل الاسئلة تجوس داخلي، ولا تهدأ ولا تتعب..

قبل أن أعرف معنى الزواج، كنت أعرب عن ر
إفساد ضميرك حتى آخره .. يريدون الإيغال في ممارسة القتل والفساد والاستبداد والطغيان دون أي اعتراض أو معترض..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(9)
خصي كبش العيد
لازلت أتذكر وهم يخصون كبش العيد.. شاهدتهم بكثرتهم وهم ينزلون عليه بكل قواهم وأثقالهم.. يأخذونه بأربعته ورأسه ومؤخرته، ويمددونه على الارض، ويفتحون رجليه، فيما يحاول هو الركل والمقاومة بددا.. وضعوا حجرا أملسا صلدا قرب فخضا رجليه، ووضعوا خصيتيه على تلك الحجر، ثم شرعوا بضرب الخصيتين وأعقابها، بمطرقة من حديد، فيما كان هو يتألم ويقاوم عبثا دون جدوى أو خلاص تحت طائل كثرة وقوة نازلة عليه كالقدر، ولمّا أتموا ما يريدونه حتى النهاية، اطلقوا سراحه بعد أن قتلوا فحولته بمطرقة من حديد..

كنت غارقا في ذهول.. لا أعرف ماذا يفعلون!! لم يقولوا لي شيئا من قبل، أو عمّا ينتون فعله، أو ما سيقدمون عليه.. كنت متحيرا لماذا يفعلوا ما يفعلون.. لماذا يضربوا خصيتيه بالمطرقة؟!! ماذا فعلت بهم الخصيتين؟! كنت الوحيد من الموجودين الذي أعيش جحيم اللحظة، وأشاركه فيها الألم ..

كنت الوحيد الغارق في الذهول حيال ما يحدث!! والوحيد الذي يجوس في أعماقه السؤال!! فيما الآخرين لم يكترثون بي، ولم يكن بيدي سلطة أو قرار يمنعهم عن فعلهم بالغ القسوة..

فضولي الذي ظل حبيسا داخلي لم يستطع الاعتراض، ولكن أستطاع سؤال أمي بعد أن أنتهى كل شيء.. ماذا فعلتم ولماذا؟! فكانت إجابة أمي: من أجل أن يكبر بسرعة، ويطيب لحمه وشحمه في العيد.. الحقيقة لم تكن الإجابة تفِ برضاي!! فما علاقة خصيتيه بما زعمه الجواب..

وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة.. عرفت كيف تسلب السلطة فحولة الرجال، وكيف يمتطي الطغاة من ينحنون لهم.. عرفت كيف تسلب السلطة إرادة من كانوا يفترض بهم أن ينحازوا للناس، وكيف يتحولون بالترهيب والترغيب إلى بيادق تحركهم الأصابع، وأحذية ينتعلها الطغاة في المستنقعات الموحلة ..

عرفت كيف يمارس المال سلطته على كثير من المثقفين، وحملة الشهادات العليا الذين يتحولون إلى أبواق بلا إرادة ولا موقف ولا ضمير.. عرفت حجم خواء المثقف المنقاد وراء السياسي الوغد، أو المستعبد من قبل أمير الحرب..

عرفت هشاشة المثقف الذي يبيع ضميره من أول عرض.. عرفت الهشاشة التي تنهار من أول ضربة مطرقة على الرأس أو على الخصيتين.. عرفت المثقف الذي بات تابعا يدور في مدار صنمه وطمطمه، فاقدا لضميره ووجوده.. عرفت أتباع بلا عقل ولا مبدأ ولا قيم.. عرفت رجالا بلا رجولة ولا فحولة..

وفي المقابل عرفت أناسا أفذاذ بقامة النخيل وصمود الجبال الرواسي.. أحرارا ميامين يأثرون التضحية على الاستسلام، والمقاومة على الخضوع، والشجاعة على الخوف.. لا يبيع ولا يساوم ضميرهم القلق واليقظ دوما، وإن عرضوا لأصحابه مال الأرض، ونجوم السماء، ووعدوه أيضا بالآخرة أو الدار الثانية، ولم تستطع جهنم الحمراء والسوداء أن تكرههم على الاستكانة والخضوع للطغاة وأرباب الحكم المُغتصب..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(10)
ذبح كبش العيد .. والذبح اليوم
خروف العيد الذي رعيته واعتنيت به، وعشت معه يوما بيوم، وصار رفيقاً حميما، لماذا يذبحونه؟! كنت أشاهده يوم العيد متوترا ومتسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته ومفارقة عائلته، التي بدت لي على درجة عالية من الترقب والانتباه، وكأنها تشعر أنه سيقع حدثا ما، لا تحبذ وقوعه.. فيما أنا كنت مسحوقا بالألم ومخنوقا بالاحتجاج..

شاهدتهم وهم يكبوّنه ويرغمونه على السير كُرها وعنوة، وكأنه كان يدرك أنه ذاهب للذبح والسلخ.. كنت أشاهده مملوء بالفزع والخوف، فيما كانت عيوني ترصد الموقف، وهي تعتب وتحتج بصمت يكاد ينفجر، وعبرات في الحلق تعترض على واقع الحال، وأنا أمارس ضدها ما استطعت من القمع الكتوم..

عيناه هلعه ومرعوبة وهي ترى السكين.. كان يدور في نفس المكان بقلق ورعب وحيرة، وكأنه يبحث عن قدر ينجيه، ولا نجاة من السكين في يوم العيد.. لا أدري أي إحساس داهمه، وكيف عرف إن السكين معدة لذبحه، وإنه المستهدف منها، رغم أنه لم يسبق أن رأى سكينا أو نصله سكين.. لازال السؤال عالق في ذهني كخشبة: كيف عرف أنه ذاهب للذبح أو الموت؟!! حال في الرعب والهلع المماثل، شاهدته في الأرانب أيضا.. شاهدت أرنب وهو يذبح، كان يبكي كالطفل.. كم هو هذا العالم مثقل بالألم؟!

كانوا يقدموا للخروف الماء ليشرب قبل الذبح، فيما هو يرفض، وكأنه يحتج على أقدار ونواميس ذا الكون..
كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان مرعوبا ويرتعش فزعا وخوفا.. كان يعيش اللحظة كما هي.. وكنت عاجزا عن إنقاذه.. كان الأمر للكبار حصرا، ولم يكن لي فيه حيلة أو قرار..

يا إلهي.. لماذا هذه العالم يفترس بعضه بعضا، حتى وإن اختلفت صيغة هذا الافتراس؟!! هل بالضرورة أن يكون القتل والدم والذبح قانون وجوديا لابد منه، ولا خيار أرحم أو أقل ألما منه؟!! لماذا هذه الحياة كاسرة ومسفوكة الدم وإزهاق النفوس..؟!

كل حيوان له نفس مثلنا، ولكن تبدو الحياة قاسية ومهدرة.. ربما الجميع ضحايا ل
غبتي في الزواج من جارتنا التي تكبرني بأربعة أضعاف عمري؟! وفي إحدى الأيام حاولت أن أتشبث بها وأمنعها من الرواح من دارنا، لأنني أريد أن أتزوجها، دون أن أعلم شيئا عن حقيقة الزواج وماهيته، أكثر من مكوثها معنا في دارنا..

وعندما كبرت قليلا بدأت أعرف شيئا عن الزواج، وكنت أشاهد وجهي في المرآة وأرى قبحي في جحوظ عيناي، فأسأل أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساوينِ بأقراني؟! فأجابت أمي أنها سمعت أبي يقول انني أشبه جدي “هاشم” في عيونه..

وعندما كبرت أكثر كنت أسأل نفسي: عندما أصير شابا هل سترضى بي من أحبها أن تتزوجني، رغم تلك البشاعة التي خلقها الله في عيوني، وحرمني من وسامة ما كان ينبغي أن يحرمني الله منها؟! وعندما كبرت وجدت لست وحدي من ناله القبح واحتج عليه، بل سبقني إليه الشاعر الحطيئة وهو يهجي وجهه:
"أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ"

وعندما ترشحت لعضوية مجلس النواب ألصق فريق حملتي الانتخابية صور في إحدى مناطق دائرتي الانتخابية، وعند مروري فيها، لاحظت بعض الصور قد تم تشويهها بخرف عيونها، وترك باقيها كما هو من دون عيون.. فاستيقظ احتجاجي، ودفعني هذا إلى بذل نشاط مضاعف، وإصرار عنيد على انتزاع النجاح، ردا على ممارسة القبح الذي وجدته يُصبَ على عيوني المتعبة والمعذّبة..

أما اليوم وبسبب حساسية باتت مزمنة في عيوني، مضافا إليها كثرة السهر وقلة النوم، بات الاحمرار في عيوني شديدة وملازما، ولكن بات من يحملون القبح في عيونهم وعقولهم ، ينسبون لي تهمة "اللبقة"، وقصدهم أنني سكرانا طوال الليل والنهار، وهو جزء من الكيد السياسي الذي يستخدمه هنا بعض الخصوم السياسيين في التشويه أمام العامة الذين يشنعون على شارب الخمر أكثر من تشنيعهم على القتلة والنهابة والفاسدين والمحتالين..


لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..

كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس.. وكنت أستمع إلى شرحه، وتتكرر كلمة "البراز" في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا "البراز"!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة ولا أعرف ماذا تعني!! بالتأكيد زملائي مثلي ولكنهم ربما لم يتجرؤون على السؤال.. سألت الأستاذ: أيش هو هذا "البراز"؟!

فأجاب بضيق وطفش طافح، وبحركة عصبية من يده وقدمه محاولا أن يشعرني بغبائي وإحراجه من الجواب بقوله: "الخر".. فضحك من في الفصل.. وهو ما جعلني أصاب بإحراج شديد.. ولو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجز الجميع.. أغرقني الخجل في الصف، وتحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(8)
ذبح أرنب وإعدام معنوي
صرت طفلا قادرا على التمييز، بوسعة إدراك أبجديات معنى الحياة والموت، أو بديهية الفرق بين البقاء والرحيل.. مررت بمشاهد لا تنساها الذاكرة مهما تقادمت عليها الأيام والسنون.. خمسون عاما خلت، وربما أكثر منها بقليل، ولازالت حية في الذاكرة، وعصية على الطي، ولا غالب لها بنسيان.. شاهدتهم يذبحوا ارنبا، لازال صوته الصارخ يفجر ذاكرتي بالوجع، كلما استجريته بمناسبة، أو ذكّرني إليه مشهد من اليوم..

أتذكر صراخه الفاجع قبل الذبح ببرهة، وكأن طفل قد تلبسه، وصار يصرخ بصوته المفجوع والمنفجر.. أتذكر وضع السكين على حنجرته المحشرجة بدمدمة، وخفقات قلبه التي تشبه في خفقانها أمواج البحر المتلاطمة بحواف الجبل، وأنفاسه التي تشبه أنفاس المشاركون في سباق الضاحية، وجسده المهتاج بالحمى التي تعتريه وتداهمه..

وعند الشروع بذبحه، أتذكر اليد الثقيلة المطبقة على فمه، وهي تحاول تخنق صوته وعبرته، وتخمد أنفاسه، فيما كان بعض من صوته المصعوق يتطاير كالشرر، من بين أصابع اليد المطبقة على فمه.. وكأنه صوت احتجاج وجودي مقاوم لواقع مرعب وبشع في تفاصيله..

لطالما تذكرت هذا المشهد المؤلم كما هو، وكأنه وقع اليوم، وأنا أقارنه بمشاهد مؤلمة، مرت أو لازلت تمر إلى اليوم.. أتذكره وأنا أرى خنق أي صوت يريد أن يبوح بأوجاعه أو بأوجاع الناس، أو يريد الاحتجاج على الظلم الذي ينيخ بثقله على الكواهل، والقلب النازف، والمكروب من السلطة والمنكوب بالغلبة، والقلم الذي يريدون إعدامه، وربما بلغوا في المطالبة بإعدام صاحبه معه..

يريدون كتم أنفاس الناس، وإخراس أصواتهم المذبوحة حتى لا يسمعها أحد.. يستخدمون يد السلطة والغلبة الثقيلة لقهرهم وإخمادهم إلى الأبد.. يريدون إغلال أيدي الناس إلى أعناقهم، وكسر مقاومتهم، وإعدام صوت المستغيث، ولا مغيث غير الاجل..

إعدام معنوي يمارسونه بحق مواطنيهم لصالح طغيانهم.. يريدونهم منقادين لهم كالقطعان.. مستكينين ومستسلمين لهم كالعبيد.. لا يريدون من أحد أن يبدي احتجاجا أو اعتراضا أو موقفا أو رأيا تمارس فيه حتى الحد الأدنى من وجودك وإنسانيتك..

يريدونك أن تكون هم لا أنت.. يريدون أن يقلعون لسانك من الجذور.. يريدون استلاب عقلك، وانتعال حريتك، واستباحة استقلاليتك، و
قوانين أكبر منّا ومنها.. حيوانات الغابة تفترس بعضها البعض، بدافع الغريزة والجوع، أو الضرورة الملجئه ؟! ولكن نحن البشر يمكن أن نقتل بعضنا بدوافع غير الضرورة.. نحن نقتل بعضنا حمقا أو طمعا أو بدافع الانتقام.. وفوق قتل بعضنا، نقتل المخلوقات دوننا، لنأكل لحمها ونُتخم..

بدا لي كطفل موجوع بالسؤال، وببراءة غير ملوثة، إن هذا العالم مؤلم جدا، والحكمة في فوضى هذا العالم المفترس تحتاج إلى بحث وإعادة نظر.. الحياة ستكون أفضل بدون قتل، وبدون دم، وبدون إزهاق للنفوس.. لندع المهمة إلى عزرائيل يتولاها، ولكن من دون دم..

ربما وأنا طفل أردت أن أقول كل هذا وغيره على لسان محامي عنّا وعن المخلوقات دوننا.. ولكن لا محامي للنفوس المظلومة، وكبش العيد بات أضحية في تاريخنا كله، قدر لابد منه، من يوم فدى اسماعيل ابن نبي الله إبراهيم.. وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة، ووجدت ما هو أكبر وأكثر..

كنت أتمزق من الألم والحزن وكبشنا يُذبح، بل شعرتُ أنني أنا من يُذبح أكثر منه.. ثم ألوذ بالهرب وهم يذبحونه، وأنا مسكونا بالرفض والامتعاض المُر، من أن يكون العالم بشع بذلك القدر..

كنت طفلا، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، وأشاهد ما هو أكثر من فادح ومرعب وبشع.. ناس يجزون رؤوس ناس تقربا إلى الله وطلبا لغفرانه ورضوانه.. ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين.. حروب وقتل وظلم فادح لا تحتمله الجبال.. سفه ما بعده سفه.. مجرمون يستهوون القتل، ويمعنون فيه حد الغرق في الدم، دون أن يشعرون بذنب أو تأنيب ضمير..

ما كنت أدرك أن أرباب المال في العالم، وتجار الحروب والحرائق يصنعون كل تلك البشاعات التي فاقت كل مهول ومرعب.. ما كنت أظن إن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ماكنت أدري إن هناك اكتظاظا على أبواب الجنة من أجل الحور العين، والجنس الذي يمتد ويعمّر إلى الأبد، دون انتقاص أو ضعف انتصاب.. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيُخطف ويُغتصب، وأن أحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجُرأة والبشاعة والدموية المُغرقة..

لم أكن أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق أو ستُغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من خمسة آلاف عام سيطوله كل هذا الدمار والخراب، وأن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون، ويُعاث في الأرض كل هذا الفساد القادم من البشر لا من الشياطين..

ما كنت أظن أننا سنشهد حروب مثل هذه الحروب القذرة التي تشهدها اليمن اليوم.. ماكنت أظن إنني سأعيش وأرى كل هذا الموت والدمار والخراب يقتات منه حفنة من المجرمين.. أرباب العالم وتجار الحروب وصناع المآسي لهذا العالم المثقل بهم..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(11)
عيدي غير سعيد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد إلا أنا، أنا المنكوب بعاثر الحظ، لا يسلم فرحي بالعيد من قدر يفسده ويسِّود صفحته. عيدي هذا العام موجوع بأمي الهاربة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار أستمر وزاد عما يحتمل..

عيدي بعيد عن أمي لا طعم له ولا لون، أشعر أن الوحشة والغربة والحزن قد سكنوني مجتمعين في أيام يفترض أن تكون بهجة وسروراً وفرحا..

في العيد يتسربل الصبية بالسعادة ولباس العيد؛ ترى الفرح في وجوههم كالعصافير ومحياهم نور على نور.
وجوم ليالي العام أو جلّها، ظلمتها، وحشتها، تجهُّمها، رتابتها، وحدها التي تكسره بهجة العيد، تمزقه فرقعات “الطماش” ووميضها.. السرور يغمر المُهج والقلوب.. أما أنا فشأني مُختلف.. لم يفسد هذا العيد غياب أمي فقط ولكن أفسدته أيضا وشاية ابن جارنا..

سبب صغير وبحجم أصغر من حبة فول، كان لدى والدي يكفي أن يشعل حيالي حربا عالمية.. وما يستفزه أكثر من ذلك أن لا يراني مستجديا لرحمته..

عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه وأنتقص من هيبته وهو المهاب..

عدم مناجاة عطفه يعني أنني أتحداه وأثير غيضه وحفيظته.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة وموغل في التحدي لسلطته وداعي مثير لإعادة اعتباره ومهابته..

إذا ما داعاني لأمر وتوانيت فقط في إجابته؛ تجد وكأن الجن تلبسوه، وركب فوق رأسه ألف عفريت..

حاول قتلي طعنا بـ “الجنبية”، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون قتلي وأخطأتني الطعنة لتصيب ابن عمي عبده في يده، بينما كان يحاول منعها من أن تخترق جسدي المُنهك والمثقل بالتعب..

تحول العيد في وجهي إلى احلك من ليل وأكثف من ظلام سرداب سحيق..

هربت من سطوته مائة متر، فيما هو يحاول قتلي بالرصاص تداريت بجذع شجرة “السُقم”، كنت أختلس النظر من محاذاتها فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حماقته وحميته كما يثير المصارع الاسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران وقد أصابه المصارع في طعنة سيف..

العراك على أشده؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي فيما هو يصر على محاولة قتلي؛ كنت أسائل نفسي بهلع عما إذا كان بمقدور الرصاص أن ينفذ من جذع الشجرة فيطالني، أعود لأطمئن نفسي إن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص! غير أنني وجدت أن القرار الأفض
ل والأكثر أماناً أن استفيد من لحظة العراك وأطلق أرجلي للريح، وأنجو بهروب سريع.. هربت والذعر يضاعف سرعتي، كتب الله نجاتي، كما كتب أيضا مزيدا من العذاب والخيبات..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(12)
هروب وعودة
هربت إلى دار “الشناغب” دار جدي ـ والد أمي ـ الذي يبعد عن منزل أبي بحدود خمسة كيلو مترات، يقع في منطقة محاذية لحدود دولة الجنوب.. وهو دار حربي في أعلى أحدى الجبال متوسط الارتفاع، ولا توجد منازل في ذلك الجبل غيره، أو قريبة منه، ولكن توجد منازل في بعض الجهات المقابلة..

في الجوار الملاصق للمنزل خزان ماء أرضي، وفي الدار كواو، وشقوق طولية ضيقة، يمكن استخدامها في المراقبة، واطلاق النار من البندقية إلى الخارج حيث تسمح بمرور ماسورة البندقية إلى الخارج بقطاع وزاوية معنية.. ويبدو إن هذا الدار قد شهد شيئا مما خصص له في زمن خلاء.

أما جدي سالم مانع الذي يملك دار أخر، وكان يقطن أيضا هذا الدار في عهد طفولتي، وسكنت أمي قبل مجيئي فترة فيه.. جدي سالم رجل فاضل، مسالم، طيب القلب، نقي السريرة، يقضي كثيراً من وقته في قراءة القرآن والحديث في تفاسيره، كان تقيا، ورعا، محبا، لا يحمل ضغينة، ولا يضمر شرا، ولم يعر بالا أو اكتراثا للسياسة، ومع ذلك دفع حياته لاحقا ثمنا لأفعال الساسة.

أقبل أبي بعد سويعات من هروبي، رأيته من دار "الشناغب" دون أن يراني، رأيته يمتطي حماره الأبيض، كان حمار أبي يشبه الحصان، وكان والدي يهتم به.. رأيت بندقية أبي مسطوحا أمامه، يبدو مستعدا لاستخدامها في أول وهلة يراني فيها، رأيت في مَقدمه شرا ونارا، أنخلع قلب أمي الهاربة في بيت جدي.. خرجت مذعورا من الدار إلى الجبل في الاتجاه المعاكس لمقدمه متجها نحو حدود دولة الجنوب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.. هنالك دولة ونظام لعله يتولَّى حمايتي، ولجم حماقة أبي.. هذا ما حدثتُ به نفسي وانا أهم بالتوجه إلى الحدود عبر مسلك وعر..

خالتي أخت أمي أبلغت والدي أنني خرجت من الدار وهربت؛ كانت خالتي قوية الشخصية.. كانت صارمة وحازمة، تجيد الاستبسال، والمواجهة، والتحريض أيضا، وقراءة كتاب الرمل وفك طلاسمه والتعاطي معه بما ترجوه أو يرجوه الكتاب..

أدرك أبي وجهتي، واستطاع الإسراع بحماره إلى المكان الغربي من الوادي، والذي بإمكانه أن يحول دون وصولي إلى الحدود، وأشهر بندقيته نحو الجبل، فيما أنا كنت قد أخبئت نفسي خلف نتوء في كنف الجبل، وبعد طول تفاوض مع خالتي مريم، ورجال خيريين من عابري السبيل، التزم أبي بأن لا يؤذيني، مقابل أن أعود إلى بيته؛ طمئنني الجميع أن الأحوال ستكون على ما يرام، ولن يحدث لي أي مكروه؛ والدي تعهد أمام من شهد الموقف ألا يلحق بي أذى أو انتقام، نزلت من الجبل بعد ما يشبه عملية التفاوض الذي قادته خالتي من جهتي، وعاد أبي وهو يبلع غيظه شاعراً بعدم الرضا؛ لأنه لم يشبع حماقته، ولم يشفِ غليله الفوار..

عدت بموكب يحيطني، كانت بعض النسوة وأختي من أمي هناء إلى جواري يرافقن عودتي وخمسمائة متر تفصلنا عن مسير أبي وحماره، كان أبي ينتظرنا في كل منعطف حتى نقترب منه.. بدأت المسافة مع السير تضيق وتضيق.. وعندما بلغنا منطقة تسمى بـ: “سوق الخميس”، لم يحتمل أبي أن أسجل عليه ما بدا له انتصاراً، استفزه منظري الذي بديت فيه المنتصر، وساورته الريبة بأنني أُشمت به، وأنال من سلطته وسلطانه، لم يحتمل ما جاس في صدره، ثارت حماقته مرة أخرى، تمتم بالسباب الحمق، وصوّب بندقيته بانفعال نحوي، حمتني النسوة بأجسادهن؛ تعالى الصراخ والذعر، تدخل المارة، وكل من كان على مقربة منّا؛ انتهت الجلبة حينما قطع أبي على مضض عهدا آخر للناس بألا يُلحق بي سوءاً أو ضررا، وبر هذه المرة بوعده، ولكن على كره ومرارة ومضض.. لم يطق ابي أن يشاهد ما تصوره انتصاري المستمر عليه، وحتى لا ينكث عهدا قطعه مرتين أمام مشهد من الناس؛ أعادني مباشرة إلى منزل أخي علي في نفس القرية..

عاد أبي بعد أيام ليتصالح مع أمي وأهلها، ثم عدت إلى بيت أبي من جديد في حضرة أمي التي ندمت أشـد الندم على ما حدث، وعلى تركها لي أياماً كنت خلالها أحوج ما أكون إليها بجانبي.. ومر العيد بسلام بعد أن كاد يتحول إلى ميتم أو مجهول.. وكنت أنا السبب الأهم في استمرار زواج أبي وأمي، رغم الخطوب المتعددة، وما شاب له الدهر..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(13)
خذلني القدر بعد مائة صلاة
الآباء يحنون على أولادهم.. يغمرونهم بالعطف والمحبة، ويحيطونهم بالرعاية والاهتمام.. لا يردوا لهم رجاء أو طلب إن تأتّى، أو كان تحقيقه في الوسع والمقدرة، فإن أستحال وتعذّر التمسوا منهم السماح والعذر المؤكد.. أبي هو الوحيد الذي من بين ألف طلب لا يستجيب لي بنصف طلب، لا رجاء يجدي معه ولا توسل.. أبي لا يرتخي طبعه حتى في يوم العيد.. أبي صعب المراس كالفولاذ، وقلبه من حجر الصوان.. هذه هي الصورة التي علقت في ذهني عن أبي، ولكن ما أن كبرت ونضجت فهمت أشياء كثيرة..

الآباء لا يمنعون أولادهم من الذهاب للموالد البعيدة، وأفر
اح الأعراس، ومجالس العزاء.. أبي لا يمانع فقط، بل ومستعد أن يرتكب أي حماقة إن فعلتها عنوة، أو تجاوزتُ قرار المنع.. أبي يستثيره التحدّي كثور إسباني، ولاسيما إن كان هذا التحدّي صادرا مني أنا.. يكفيه أن يظن ولا حاجة إلى تقصي أو إثبات ما يخالف ظنه..

“الخضر”، ولي صالح لم يسبق أن حضرت “مولده”، أو قمت بزيارة مزاره.. كنت اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من “مولده” كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام، ويسردونها بغبطة تموج، وفرح يكاد يطير صاحبه، وكأنهم ارتادوا كوكب آخر، أو زاروا سطح القمر..

عندما يسردون الحكايات ويتنافسون في ذكر التفاصيل أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني والمرارة تذبحني لأنني ممنوعا ومقموعا، وزيارته أمل بظهر الغيب المخيب للآمال..

في “المولد” يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجاً وفرحاً.. كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ بمثل هذه المناسبة.. مشاهد لا تتكرر إلا بعد عام..

البيارق وألوانها الفاقعة تأسر اللب والنظر، وتشعر بالبهجة عارمة في نفوس الحاضرين، وتضفي على المناسبة تميزا وجلالة قدر.. روحانية تغمرك في بعض الأماكن والمشاهد.. حتى المبالغات في الموالد جاذبة وتأنس إليها.. والكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحيانا تفوق الخيال..

المجاذيب ترى منهم ما يدهش ويذهل.. هنالك ترى من يغرس رأسه بالساطور، وهنالك ترى من يخرج عينه من مكانها إلى يده برأس السيف ثم يعيدها إلى مكانها دون أن ترى توجع أو أثر.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقا لأن تراها ألف مرة دون أن تمل، وتحضر دهشتها وتفاصيلها بكل روحك وحواسك.

من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعيت الله أسبوعا أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلا من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلا من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلاف وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقا حتى يسمح لي بحضور “مولد” الخضر هذا العام وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته، وتأجل من عام إلى عام.

ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول وعرض السماء، وظل قلب أبي صعباً، لم يرق ولم يلين..

أمي أيضا تبذل مساعيها من قبل أسبوع، ولكنها أخفقت وأصابتها الخيبة من انتزاع رضى وموافقة أبي؛ فأبي عندما يمعن في الإصرار والعناد، وتتصلب مواقفه، يحتاج لتغييرها قضاء وقدر.. أو هذا ما أتخيله، إن لم أكن قد عشته بالفعل.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

(14)
محاولة انتحار..
حاولت التحدِّي وأذهب عنوة مولد الخضر، ولكن أبي كتَّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروسا في قاع الدكان، وضربني بعنف وقسوة لا أنساها ولا تنساها السنين الطوال، ولكنني أسامح ومعتاد على التسامح، غير أن التسامح لا يعني النسيان، وإنما يعني السمو والحب والغفران..

استمريت مربوطا على عمود الخشب عدة ساعات، حتى فات موعد الذهاب، وأجفل الناس والصبية، وعادوا من “المولد” إلى البيوت.. ذهب أبي وفكت أمي وثاقي، وانتابتني نوبة سخط واستنفار جنوني..

وبعد أن خرج الجميع من الدار، صعدت إلى حجرة والدي، ووجدت السلاح في متناول يدي.. أخذت بندقيته الآلية، وعمرتها وتمددت، ووضعتُ فوهتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أتم إطلاق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعت خوار بقرة أمي، وكأنها تريد مني نظرة وداع أحتاجها أنا أيضا، أو ربما تريدني أن أكف عما أنتوي فعله، وربما غريزة البقاء كانت أقوى مني..

ذهبت لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة، وأول ما رأيتها شعرت أنها تترجى وتتوسل بألا أفعل.. هذا ما خلته في خاطرة مرت على بالي القلق.. أحسست أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعدا أو فراقا.. قبّلت ناصيتها، ومسحت ظهرها، وراحت أكفي تداعب عنقها وضممته بحرارة مفارق.. كانت تصرفاتي معها أشبه بتصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلهاً أو معبوداً مقدس..

شعرت بحبها الجارف، وبادلتها محبة غامرة.. شعرت أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.. غالبتُ دموعي، ولكنها كانت تنهمر سخينة.. رأيتها تشتمَّني بلهفة، وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار.. أحسست أنها هي أيضا تغالب دموعها.. بقرتنا المحروسة من العين بحرز معلق على رقبتها كمصد يصد العين والحسد.. وأنا المحروس أيضا بحرز السبعة العهود من الجن والشياطين، ولكن من يحرسني من قسوة أبي؟!!

ذهبت لأسرق لها الطحين، وأصب عليه الماء، وأقدمه لها كحساء وداع أخير..
امطرتها بقبل بدت لي إنها قبلات الوداع الأخير. وفيما أنا ذاهب عنها، رأيتها ممعنة بالنظر نحوي، وأحسست أنها تتوسل وترتجي ألا أفعل وألا أرحل.. كنت أفسر الحميمية التي بيننا على مقاس تلك اللحظة التي أحس بها، أو بما ينسجم معها.. كانت مناجاة ومحاكاة لها عمق في نفسي، وتفيض بمشاعر وعواطف جياشة بدت لي حقيقية، لا وهم فيها ولا سراب..

تطلعت صوب الجبل و
ساوم.. ولا تنازل عن حقوقك.. ولا تستمرئ الظلم يوما، حتى وإن حُشي بالعسل..

.......................
يابع..
بعض من تفاصيل حياتي