يم سلام.. يضع العسكري يده على محيّاه ويحيِّنا بتحية تَكرِم وتليق.. يحيِّنا وهو بوضع الاستعداد والانتباه بتحية عسكرية مملوءة بالمهابة والتقدير.. وكان رأسي الصغير وأنا أشاهدهم يعج بالأسئلة..
كنت أسأل نفسي ببراءة طفل: هل يتحركون؟! هل يستمرون بهذه الهيئة ليل ونهار؟! تمنيت أن تتوقف سيارة (اللاندروفر) التي تقلّنا وقت طويل أمام كل واحد منهم لأراهم كم يستمرون على وضع (تعظيم سلام)، أريد أن أملئ عيوني من كل واحد منهم ساعات طوال.. اليوم بدا لي أنهم يريدون بهذا الوداع الجميل أن يتركوا انطباعاً حسناً لدى المغادرين إلى أرض الشمال.. وبين أمس واليوم عوالم وتحوّلات لم تكن تخطر ببال.
عدنا من عدن إلى قريتنا (شرار) في (القبيطة) مثقلين بالحزن، والفراق الطويل.. نمضغ بؤسنا كماضغ الملح والصديد، جراحنا مفتوحة وغائرة في النفوس.. عدنا وقد نقصنا عن عدد مجيئنا اثنين "نور وسامية"، وكدت أكون ثالثهما.. مؤسف أن نعود وقد نقص من عدد أسرتنا الصغيرة اثنتين هن زهرات وجودنا.. يا لهول الخسارة.. عدنا ونحن نحمل حزنا ثقيلا وقليلا من المتاع، وتركنا خلفنا ذكريات أليمة، وقبرين صغيرين، حصيلة غربة بدت لنا فادحة ومكلفة.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(3)
"شرار" مسقط الرأس
قريتنا كغيرها من القرى في وادي "شرار" بالقبيطة.. قرانا كانت كغيرها تمضغ فقرها كل يوم وعلى مدار الليل والنهار.. الخبز الجاف مع الشاي أو العصيد و"الوزف" وجبتنا الأساسية التي تبقينا على قيد الحياة.. لـ"الوزف" جميلاً ومعروفاً كبيراً لا ينكره منّا إلا من جحد.. لكم نحن مدانين له بالبقاء والحياة..
(شرار) قُرى متعبة، ووادي شقي يبحث عن مجد وسط الحزن والسياسة والخراب.. مملوء بالتمرد والفقر والصراع.. شرار كالشرق الذي يبحث عن شروق، ولازال الشروق عنه ناءِ وبعيد.. لا أدري لماذا كان اسم الوادي (شرار)، ولكن حكاية تروى أنه عاثر الحظ وكثير القنوع..
حكايته تقول: عندما قسَّم الله البساتين والحدائق على الوديان سأل (وادي شرار) عما إذا كان يريد بستان أو حديقة، فأجابه إجابة قنوعة: (إن زاد وإلا ما أشتيش) فلم يزد لوادي شرار حديقة أو بستان.. "شرار" كثير الصخر والحجر والحرمان، يفتقر لحديقة أو بستان..
(شرار) القنوع الذي يرى البعض أنه خذل رجاءنا قبل مجيئنا، ولازال قنوعا إلى اليوم، ولا زلنا نحن مسكونين بلعنة قناعته التي عشقناها ولم نترك عشقها حتى وإن طوانا الجوع وبرئ عظمنا وسقم الجسد.. لا زلنا بالقناعة نعتز ولم تجفل هي عنّا ولم تنتهِ، وما زلنا مسكونين بالمثل: القناعة كنزا يدوم ولا يفنى.. "شرار" وادى وقرى، ومسقط رأسي الذي لا أقوى على حمله..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(4)
فقر وبؤس
سكان أريافنا فقراء على العموم، وبعضهم معدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال، يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس من أجل لقمة عيش كريمة، لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تدمي القلوب والأظافر.
جبالنا وعرة وشامخة؛ طينها قليل وعزيز؛ الأشجار تغالب الحما والظماء؛ وجذور السدر والعوسج و”العسق” تشق طريق صبور في الصخر والجبل..
الزراعة موسمية؛ أغلب المواسم “تخيب ولا تصيب”، كثير من السحب كاذبة، تبدو وكأنها مثقلة بالغيث، ثم تكتشف بعد ساعات قليلة أنها خادعة لا تحمل غيث ولا مطر؛ مقالب الأقدار كثيرة ؛ قليلة هي المواسم التي أوفت وجادت بالمطر من موعد البذر حتى موعد الحصاد..
الماء شحيح معظم أيام السنة؛ النسوة يخضن معارك ضروسة ولساعات طوال من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة، المرأة تقضي أحيانا ثلث نهار أو ربع ليل لتظفر بدبة ماء واحدة لا يزيد سعتها عن عشرين لتر.. النساء لا يظفرن بالماء أيام النزاف إلا وقد بلغت قلوبهن الحناجر..
الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجر، وسوء التغذية رفيق حميم، والموت طليق يخطف من يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموت ويشتهيهم أطفال وصبية وشباب بعمر الزهور.. في مناطقنا لطالما اجتمعت علينا المخافات الثلاث؛ فقر ومرض وجهل.
أيام عيد الفطر وعيد الأضحى هي أيام فرح العام، وقلما يجد الفرح متسع في غير أيام العيد. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة مرة واحدة في السنة، يلبسونها أيام عيد الفطر ثم يحتفظون بها لعيد الأضحى، ليرموا كما جاء في المثل "عصفورين بحجر واحدة"، قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.
في أريافنا، كان الصراع مرير من أجل الحياة؛ الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتب ولا يفارق لكأنه رفيق حميم، أما النادر فلا حكم له.. أغلب الناس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضأن في العام مرتين؛ وإن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام العيد، فما عليك إلا مُلازمة المرض، وحنون يحبك ويهتم بك؛ وأما أنا فلا يروقُني أن تُذبح من أجلي دجاجة حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي وبلغ السل مخ العظام..
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
(5)
"الشيخ حي" والشيخ أحمد
قرانا متناثرة حول الوديان وعلى ظهور الجبال العا
كنت أسأل نفسي ببراءة طفل: هل يتحركون؟! هل يستمرون بهذه الهيئة ليل ونهار؟! تمنيت أن تتوقف سيارة (اللاندروفر) التي تقلّنا وقت طويل أمام كل واحد منهم لأراهم كم يستمرون على وضع (تعظيم سلام)، أريد أن أملئ عيوني من كل واحد منهم ساعات طوال.. اليوم بدا لي أنهم يريدون بهذا الوداع الجميل أن يتركوا انطباعاً حسناً لدى المغادرين إلى أرض الشمال.. وبين أمس واليوم عوالم وتحوّلات لم تكن تخطر ببال.
عدنا من عدن إلى قريتنا (شرار) في (القبيطة) مثقلين بالحزن، والفراق الطويل.. نمضغ بؤسنا كماضغ الملح والصديد، جراحنا مفتوحة وغائرة في النفوس.. عدنا وقد نقصنا عن عدد مجيئنا اثنين "نور وسامية"، وكدت أكون ثالثهما.. مؤسف أن نعود وقد نقص من عدد أسرتنا الصغيرة اثنتين هن زهرات وجودنا.. يا لهول الخسارة.. عدنا ونحن نحمل حزنا ثقيلا وقليلا من المتاع، وتركنا خلفنا ذكريات أليمة، وقبرين صغيرين، حصيلة غربة بدت لنا فادحة ومكلفة.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(3)
"شرار" مسقط الرأس
قريتنا كغيرها من القرى في وادي "شرار" بالقبيطة.. قرانا كانت كغيرها تمضغ فقرها كل يوم وعلى مدار الليل والنهار.. الخبز الجاف مع الشاي أو العصيد و"الوزف" وجبتنا الأساسية التي تبقينا على قيد الحياة.. لـ"الوزف" جميلاً ومعروفاً كبيراً لا ينكره منّا إلا من جحد.. لكم نحن مدانين له بالبقاء والحياة..
(شرار) قُرى متعبة، ووادي شقي يبحث عن مجد وسط الحزن والسياسة والخراب.. مملوء بالتمرد والفقر والصراع.. شرار كالشرق الذي يبحث عن شروق، ولازال الشروق عنه ناءِ وبعيد.. لا أدري لماذا كان اسم الوادي (شرار)، ولكن حكاية تروى أنه عاثر الحظ وكثير القنوع..
حكايته تقول: عندما قسَّم الله البساتين والحدائق على الوديان سأل (وادي شرار) عما إذا كان يريد بستان أو حديقة، فأجابه إجابة قنوعة: (إن زاد وإلا ما أشتيش) فلم يزد لوادي شرار حديقة أو بستان.. "شرار" كثير الصخر والحجر والحرمان، يفتقر لحديقة أو بستان..
(شرار) القنوع الذي يرى البعض أنه خذل رجاءنا قبل مجيئنا، ولازال قنوعا إلى اليوم، ولا زلنا نحن مسكونين بلعنة قناعته التي عشقناها ولم نترك عشقها حتى وإن طوانا الجوع وبرئ عظمنا وسقم الجسد.. لا زلنا بالقناعة نعتز ولم تجفل هي عنّا ولم تنتهِ، وما زلنا مسكونين بالمثل: القناعة كنزا يدوم ولا يفنى.. "شرار" وادى وقرى، ومسقط رأسي الذي لا أقوى على حمله..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(4)
فقر وبؤس
سكان أريافنا فقراء على العموم، وبعضهم معدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال، يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس من أجل لقمة عيش كريمة، لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تدمي القلوب والأظافر.
جبالنا وعرة وشامخة؛ طينها قليل وعزيز؛ الأشجار تغالب الحما والظماء؛ وجذور السدر والعوسج و”العسق” تشق طريق صبور في الصخر والجبل..
الزراعة موسمية؛ أغلب المواسم “تخيب ولا تصيب”، كثير من السحب كاذبة، تبدو وكأنها مثقلة بالغيث، ثم تكتشف بعد ساعات قليلة أنها خادعة لا تحمل غيث ولا مطر؛ مقالب الأقدار كثيرة ؛ قليلة هي المواسم التي أوفت وجادت بالمطر من موعد البذر حتى موعد الحصاد..
الماء شحيح معظم أيام السنة؛ النسوة يخضن معارك ضروسة ولساعات طوال من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة، المرأة تقضي أحيانا ثلث نهار أو ربع ليل لتظفر بدبة ماء واحدة لا يزيد سعتها عن عشرين لتر.. النساء لا يظفرن بالماء أيام النزاف إلا وقد بلغت قلوبهن الحناجر..
الجوع يعصر البطون، وحزام الفاقة يضعون تحته حجر، وسوء التغذية رفيق حميم، والموت طليق يخطف من يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموت ويشتهيهم أطفال وصبية وشباب بعمر الزهور.. في مناطقنا لطالما اجتمعت علينا المخافات الثلاث؛ فقر ومرض وجهل.
أيام عيد الفطر وعيد الأضحى هي أيام فرح العام، وقلما يجد الفرح متسع في غير أيام العيد. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة مرة واحدة في السنة، يلبسونها أيام عيد الفطر ثم يحتفظون بها لعيد الأضحى، ليرموا كما جاء في المثل "عصفورين بحجر واحدة"، قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.
في أريافنا، كان الصراع مرير من أجل الحياة؛ الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتب ولا يفارق لكأنه رفيق حميم، أما النادر فلا حكم له.. أغلب الناس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضأن في العام مرتين؛ وإن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام العيد، فما عليك إلا مُلازمة المرض، وحنون يحبك ويهتم بك؛ وأما أنا فلا يروقُني أن تُذبح من أجلي دجاجة حتى وإن بلغت “الصفراء” رأسي وبلغ السل مخ العظام..
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
(5)
"الشيخ حي" والشيخ أحمد
قرانا متناثرة حول الوديان وعلى ظهور الجبال العا
بعمق القبر والمكان.. ورغم اعتقاد أمي بالمفعول السحري لتراب جدها إلا أنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدته وتعودت عليه، وكنت ألتهمه سرا أو خفية عن أعين أمي..
ومثلما تلح أمي على أكل تراب جدها، كانت تفعل معي أيضا مع شرب اللبن.. ما أن أنتهي من شرب كمية منه، ترجوني بإلحاح وصوت خفيت على أن أزيد " اشرب.. زيد اشرب.. زيد اشرب.. اشرب مليح .. اشرب".. وصوتها الخفيض كان كمن لا تريد أن يسمع أحد ما بيننا، وتظل تحاول وتحاول أن أشرب المزيد حتى تيأس من أن أعيد.. كانت تحبني أكثر من أبي، وتأثرن عليه في كل شيء، حتى في الحليب الذي كان يتناوله كل مساء..
عندما كانت أمي تمارس إلحاحها، وتحملني على شرب المزيد من حليب البقرة، أشعر أنها تريدني أكبر وأقوى بسرعة، بل أشعر وهي تلح إنها تريدني أكبر في الحال.. أما عن أكل التراب، فكانت تعتقد أنها تودعني سر جدها، وتقيني من كل مرض وشر ومكروه..
الحقيقة لم يكن يغريني حليب البقرة، بل كان حليب "النيدو" هو الذي أروقه ويروقني؛ ربما لأنه كان بعض مني، وكان يسد حاجتي، عندما كان لا يكفيني ضرع أمي التي تعاني، وأنا لازلت دون عمر السنتين.. ولازلت إلى اليوم أشتهي أن أكرعه في فمي بكميات كبيرة، كما كنت أفعل هذا في سن الطفولة وسن المدرسة، بل والمراهقة أيضا، حتى أبدو أمام نفسي شخص غير طبيعي، وأنا العط فيه بنهم شره..
عندما كنت طفلا في السنة الأولى مدرسة على الأرجح، رأيت رؤيا، وفيها أنني أممت الناس بالصلاة في المقام، ورأيت "الشيخ حي" وأشياء أخرى نسيت تفاصيها بعد خمسين عام، رغم أن الرؤيا كانت يومها كفلق الصبح من حيث الوضوح والتفاصيل، بل كأنها كانت حقيقة لا رؤيا..
كانت أمي وأبي مهتمان على غير العادة بهذه الرؤيا، ويطلبان أن أعيد روايتها على مسامعهما، وأشاهد سرور دافق واهتمام لافت منهما بما أرويه.. ربما فهموا الرؤيا إنها تتعلق بمستقبلي البعيد، غير مدركين إن المستقبل في اليمن سيكون للفساد والقتلة والمستبدين.. والأهم أنني طيلة هذا العمر المديد ظللت متماسكا أحذر السقوط، وأحذر من السقوط المريع مرتين..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(7)
غموض واعتقادات..
علاقة أمي بجدودها الأولياء وطيدة، واعتقادها بهم يبلغ حد اليقين، فهي تدعو الله، وتستنجد به، دون أن تنسى جدودها الذين خبرتهم مرارا، وصارت تثق بهم، وتعتقد جازمة إنهم يساعدونها.. عندما تريد شيئاً منهم تنذر، وتنطع الشمع، وتطعم الفقراء، وتذبح لهم الذبائح، إن كان الأمر يسمح، أو هنالك خطب جلل يستحق الذبيحة.. وأستمر هذا الاعتقاد لديها حتى وفاتها عام 2017 وربما أرجع بعضنا السبب إلى ما يسمى "قانون الجذب"، أو شيئا منه أو مثله..
وفي الأحلام كانت أمي تقول إنها ترى جدودها يأتونها في المنام، ويخبرونها بأشياء تتحقق، أو تقع في قادم الأيام، سواء كانت مفرحة أو فاجعة.. أذكر أنها قالت لي في إحدى المرات إن جدتها "جنوب " جاءت تخبرها في المنام، إنه سيحدث (أمر جلل) وتحقق ما قالته خلال أيام قليلة، وكما وصفته بالمعنى المليء دون غموض أو التباس.. لقد كان حلم أشبه بالحقيقة، أو برصاصة اصابت الهدف في الرأس أو المنتصف، دون انحراف بقدر شعرة..
عندما كنت معتصما، ومضربا عن الطعام مع الجرحى في محاذة سور مجلس الوزراء، في مطلع العام 2013 كانت أمي تدعو الله أن يساندني، ويقف معي، ويقف مع من يقف معي.. كانت تدعو جدودها الأولياء أن يكونوا إلى جانبي في المحاذير، وينجوني من المخاطر، ويحضروا معي في كل ملمة ونائبة.. كانت تأخذ بعض الأوراق النقدية فئة ألف ريال، وتسبعها في الماء، وتقرأ عليها القرآن، وتنذرها للمساكين والمحتاجين، وهي مطمئنة إلى ما تعتقد، وتدّعي أن ما تفعله كفيل بان يحفظني من شرور البشر، والتي تعتقد إن شرورهم، تفوق شرور الشياطين.
أمي وبحسب ما ترويه هي أيضا، عندما تضيق بها الدنيا وتشتد، أو يكون هنالك أمر جلل، أو فعل أو قول يؤذي مشاعرها على نحو حاد، أو ما شابه ذلك مما قد يحدث، فتشعر بشيء يبدأ يتكور في داخلها، ثم يكبر كالكرة، ويظل يكبر حد الامتلاء والفيض، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها، ويرتعش جسدها كـ "طبيلة" المجاذيب، أو كأن شيئا يلبسها وبما يخرجها عن طورها، ولا تهدأ ولا تستكين إلا بعد أن تقوم بإفراغ ما في رأسها وصدرها من طاقة بنطح الجدار.. نطح قوي ومتتابع ومثير للدهشة.. وتجعل من يشاهدها يبدو مشدوها وغارقا في الذهول.. ما تفعله كان أكبر من الانتحار والجنون، وكأنها تأخذ حقها من الجدار مرتين وثلاث أو بضعفين وأكثر.
في إحدى المرات تدخلتُ بجُرأة، ومسكتها بقوة، وأبعدتها عن الجدار، للحيلولة دون مواصلتها لنطحه، بدوافع مخاوفي، وبعد أن ظننت أنني سأشهد حطام رأسها متناثرا على الأرض، أو مهشوما كالزجاج، فيما كانت هي تعيش غمرة ما تفعله، وفي لحظة ذروته..
كان الجدار من حجر الجبل الصلد، والشديد في صلابته وتحديه، وعلى نحو راعني، حتى خشيت على رأس أمي، ولم أكن أعلم أن منعها من استمرار فعلها، يؤذيها على نحو لم أكن أتخيله.. ا
ومثلما تلح أمي على أكل تراب جدها، كانت تفعل معي أيضا مع شرب اللبن.. ما أن أنتهي من شرب كمية منه، ترجوني بإلحاح وصوت خفيت على أن أزيد " اشرب.. زيد اشرب.. زيد اشرب.. اشرب مليح .. اشرب".. وصوتها الخفيض كان كمن لا تريد أن يسمع أحد ما بيننا، وتظل تحاول وتحاول أن أشرب المزيد حتى تيأس من أن أعيد.. كانت تحبني أكثر من أبي، وتأثرن عليه في كل شيء، حتى في الحليب الذي كان يتناوله كل مساء..
عندما كانت أمي تمارس إلحاحها، وتحملني على شرب المزيد من حليب البقرة، أشعر أنها تريدني أكبر وأقوى بسرعة، بل أشعر وهي تلح إنها تريدني أكبر في الحال.. أما عن أكل التراب، فكانت تعتقد أنها تودعني سر جدها، وتقيني من كل مرض وشر ومكروه..
الحقيقة لم يكن يغريني حليب البقرة، بل كان حليب "النيدو" هو الذي أروقه ويروقني؛ ربما لأنه كان بعض مني، وكان يسد حاجتي، عندما كان لا يكفيني ضرع أمي التي تعاني، وأنا لازلت دون عمر السنتين.. ولازلت إلى اليوم أشتهي أن أكرعه في فمي بكميات كبيرة، كما كنت أفعل هذا في سن الطفولة وسن المدرسة، بل والمراهقة أيضا، حتى أبدو أمام نفسي شخص غير طبيعي، وأنا العط فيه بنهم شره..
عندما كنت طفلا في السنة الأولى مدرسة على الأرجح، رأيت رؤيا، وفيها أنني أممت الناس بالصلاة في المقام، ورأيت "الشيخ حي" وأشياء أخرى نسيت تفاصيها بعد خمسين عام، رغم أن الرؤيا كانت يومها كفلق الصبح من حيث الوضوح والتفاصيل، بل كأنها كانت حقيقة لا رؤيا..
كانت أمي وأبي مهتمان على غير العادة بهذه الرؤيا، ويطلبان أن أعيد روايتها على مسامعهما، وأشاهد سرور دافق واهتمام لافت منهما بما أرويه.. ربما فهموا الرؤيا إنها تتعلق بمستقبلي البعيد، غير مدركين إن المستقبل في اليمن سيكون للفساد والقتلة والمستبدين.. والأهم أنني طيلة هذا العمر المديد ظللت متماسكا أحذر السقوط، وأحذر من السقوط المريع مرتين..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(7)
غموض واعتقادات..
علاقة أمي بجدودها الأولياء وطيدة، واعتقادها بهم يبلغ حد اليقين، فهي تدعو الله، وتستنجد به، دون أن تنسى جدودها الذين خبرتهم مرارا، وصارت تثق بهم، وتعتقد جازمة إنهم يساعدونها.. عندما تريد شيئاً منهم تنذر، وتنطع الشمع، وتطعم الفقراء، وتذبح لهم الذبائح، إن كان الأمر يسمح، أو هنالك خطب جلل يستحق الذبيحة.. وأستمر هذا الاعتقاد لديها حتى وفاتها عام 2017 وربما أرجع بعضنا السبب إلى ما يسمى "قانون الجذب"، أو شيئا منه أو مثله..
وفي الأحلام كانت أمي تقول إنها ترى جدودها يأتونها في المنام، ويخبرونها بأشياء تتحقق، أو تقع في قادم الأيام، سواء كانت مفرحة أو فاجعة.. أذكر أنها قالت لي في إحدى المرات إن جدتها "جنوب " جاءت تخبرها في المنام، إنه سيحدث (أمر جلل) وتحقق ما قالته خلال أيام قليلة، وكما وصفته بالمعنى المليء دون غموض أو التباس.. لقد كان حلم أشبه بالحقيقة، أو برصاصة اصابت الهدف في الرأس أو المنتصف، دون انحراف بقدر شعرة..
عندما كنت معتصما، ومضربا عن الطعام مع الجرحى في محاذة سور مجلس الوزراء، في مطلع العام 2013 كانت أمي تدعو الله أن يساندني، ويقف معي، ويقف مع من يقف معي.. كانت تدعو جدودها الأولياء أن يكونوا إلى جانبي في المحاذير، وينجوني من المخاطر، ويحضروا معي في كل ملمة ونائبة.. كانت تأخذ بعض الأوراق النقدية فئة ألف ريال، وتسبعها في الماء، وتقرأ عليها القرآن، وتنذرها للمساكين والمحتاجين، وهي مطمئنة إلى ما تعتقد، وتدّعي أن ما تفعله كفيل بان يحفظني من شرور البشر، والتي تعتقد إن شرورهم، تفوق شرور الشياطين.
أمي وبحسب ما ترويه هي أيضا، عندما تضيق بها الدنيا وتشتد، أو يكون هنالك أمر جلل، أو فعل أو قول يؤذي مشاعرها على نحو حاد، أو ما شابه ذلك مما قد يحدث، فتشعر بشيء يبدأ يتكور في داخلها، ثم يكبر كالكرة، ويظل يكبر حد الامتلاء والفيض، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها، ويرتعش جسدها كـ "طبيلة" المجاذيب، أو كأن شيئا يلبسها وبما يخرجها عن طورها، ولا تهدأ ولا تستكين إلا بعد أن تقوم بإفراغ ما في رأسها وصدرها من طاقة بنطح الجدار.. نطح قوي ومتتابع ومثير للدهشة.. وتجعل من يشاهدها يبدو مشدوها وغارقا في الذهول.. ما تفعله كان أكبر من الانتحار والجنون، وكأنها تأخذ حقها من الجدار مرتين وثلاث أو بضعفين وأكثر.
في إحدى المرات تدخلتُ بجُرأة، ومسكتها بقوة، وأبعدتها عن الجدار، للحيلولة دون مواصلتها لنطحه، بدوافع مخاوفي، وبعد أن ظننت أنني سأشهد حطام رأسها متناثرا على الأرض، أو مهشوما كالزجاج، فيما كانت هي تعيش غمرة ما تفعله، وفي لحظة ذروته..
كان الجدار من حجر الجبل الصلد، والشديد في صلابته وتحديه، وعلى نحو راعني، حتى خشيت على رأس أمي، ولم أكن أعلم أن منعها من استمرار فعلها، يؤذيها على نحو لم أكن أتخيله.. ا
ون بالنور، والجمع أبهى من ألف عريس.. وما يفعله المجاذيب يأسرون طفولتك بما لا يُنسى من العجب.. لازلت أذكر المجذوب هنا، وهو يبدأ في الارتعاش.. أخرج جنبيته من غمدها، وبدأ يضع رأسها في راحة يده اليسرى ويمناه قابضة على مقبضها.. مايلها ومايل يديه مرتين وثلاث على زاوية من عينيه، وكأنه يبحث في لمعانها عن شفرة أو سر ينتظر موعده أو تدفقه..
قالوا إنه يبحث وينتظر الشارة التي تأذن له في الدخول إلى غمرة الجذب.. بدأ يهتز كغصن في وجه الريح، أو شجرة كافور في وجه عاصفة.. ثم يجثوا على ركبتيه، ويضرب بحد الجنبية كتفيه ايمنا وأيسرا، دون أن نرى دما أو أثرا.. يعيد وضعية جثيه على أطراف أصابع قدميه متحفزا، ويهيل الضربات على سرفتيه.. يطعن بطنه بضربات متلاحقة، ولا يترك أثر على جسمه رغم كل ما فعل.. لم يترك أثر غير حيرة ودهشة تكسي وجوه طفولتنا الباكرة.. ثم يعود ويفوق من غمرته، ويخرج من نوبة حالته، ويعود إلى طبيعته ولا كأن أمر خارق قد حدث.. ما أجمل تلك الأيام القلائل، وما أجمل الطفولة فيها، وكلاهما قطعا لن يعود..
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
(6)
أكل التراب
كان يشاركني أكل التراب في صغري ابن عمي سالم أحمد محمد هاشم، والذي كان يكبرني بعشرة أشهر، وصار التراب بيننا أكثر من عيش وملح.. شهيتنا لأكل التراب ربما يعود إلى سوء التغذية، ونقص مادة الحديد في الجسم، أو هذا ما قرأته بعد خمسين عام.
تأكل التراب بسبب سوء التغذية، ونقص عنصر الحديد الذي يحتاج له بدنك، وتعاقب بالضرب لسبب خارج عن إرادتك، وربما تضرب بالحديد لأن جسمك ينقصه عنصر الحديد، ويلحقك مزيدا من العذاب، وتسكنك العُقد، وتظل تكبر داخلك، وبأعماق نفسك في الوعي وفي اللاوعي، وتشهد اضطرابات وانحرافات سلوكية تضر بك وبغيرك، وتغيب عدالة الأرض عنك، وربما تتأخر عدالة السماء أيضا إلى يوم الحساب.
لقد أكلتُ التراب وأنا حديث سن في عمر الطفولة الأولى، أعاني من سوء التغذية، فضلا عن نقص عنصر الحديد في الجسم.. كنت ضحية لظروفي منذ نعومة اظافري.. ضحية للسلطة، والجهل، والقمع، والتنشئة الخاطئة.. ضحية هذا الواقع الذي تشارك الجميع في انتاجه وصناعته..
لازال هناك من يريد، بل ويصر أن يبقيك تأكل التراب، ويريدك ضحية إلى آخر العمر، مهموما بنفسك، وغارقا في تفاصيل حياتك اليومية، مثقلا بمعاناتك، ومشغولا عن فساد السلطة وانتهاكاتها، والحيلولة دون أن تدافع عن حقوق وحريات الناس، بل وأيضا إن أستطاع تقليم أظافرك الدامية التي تحاول أن تحفر بها في الصخر، وأكثر من هذا يتمنى أن لا تستطيع حتى التنفس، الذي يحسدك وينفسك عليه.
كانت أمي في الوقت الذي تضربني لأكلي التراب، أجد في مناسبة أخرى أمِّي تدعيني وعلى نحو لحوح لأكل التراب.. عجب ومفارقة ربما لا تخطر على بال.. وبين هذا وذاك طفولة معذبة وبائسة، ومثقلة بالجهل والحرمان الشديد..
كانت أمي تصحبني معها في بعض الأيام، وهي تزور قبر جدها “الشيخ حيى”، وكان يشمل المكان مقامه وغرفته وقبته وبعض الملاحق.. كانت أمي تحمل الشمع الذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجدها، وتسرِّج بها ظلمته، فيما تضع بعض رزم الشمع الغير مستخدم في كوة الغرفة أو على حافة القبر؛ لمن يأتي في يوم آخر ليضيء ظلمة جدنا "الشيخ حي" وتفعل أمي مثل هذا أيضا، مع قبر ومقام جدنا الشيخ أحمد القريب منه..
رأيت أمي عندما تسرج المكان بالشمع والضوء تشعر بفرحة غامرة، وسعادة كبيرة لا تتسع لها.. ثم تمد يدها في كوة موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتخرج بعض فتات التراب، وتأكل منه قليلا، وتعطيني قليلا منه لآكله.. كانت تحثني وتشجعني على التهامه، لأنه كما تعتقد مكنوز بسر جدها الذي جاء من حضرموت ليحط به الرحال والأجل هنا، فقيها وعالما وصاحب كرامات..
لازلت أذكر أمي وهي تشجعني وتحثني وتبدأ هي بالتهام بعضه.. تلح بإصرار أن التهم حصتي منه.. تحاكيني وهي تفعل لأفعل مثلها.. تطلب مني أن أفعل ما تفعله.. تفعل معي كما تفعل الأم مع طفلها وهي تطعمه بعد الفطام.. أتذكرها وهي تحثني على شرب لبن البقرة الدافئ من جحف اللبن، بعد أن تنتهي توا من افراغ ما في ضرع بقرتنا الحلوبة.. كانت أمي تحاول إفهامي جاهدة وأنا ألفح التراب أنني سأخرج من المكان وقد تزودتُ بشيء لم يكن موجودا حال الدخول إليه..
ورغم فقداني للذة التراب الذي كنت معتادا عليه، وأعاني من عقوبة التهامه، ورغم فقدان هذا التراب لنعومته، إلا أن روحانية المكان، وهيبته وجلال المقام، وكرامات صاحبه بحسب روايات أمي، وما تفييده من محامد جدها، وما يحمله من سر جدير بالاهتمام، أو هذا ما كانت أمي تلقّني إياه، وترويه لي بثقة عالية ويقين.. كنت إذا تعرضت لمرض أو مكروه تدعو جدها "الشيخ حي" وجدتها "جنوب" ومعهما الشيخ أحمد أن يشفيني ويحييني ويجنّبني من كل شر، ويزيل عني كل مكروه..
كنت أظن وأنا طفل أن هذا التراب الذي ألتهمه هو من بقايا عظام ورفات جد أمي، ولكن في مرحلة متأخرة أدركت أنه من فوق القبر، لا من جوفه، وأن رفاة جد أمي وبقاياه لازال مدفونا
قالوا إنه يبحث وينتظر الشارة التي تأذن له في الدخول إلى غمرة الجذب.. بدأ يهتز كغصن في وجه الريح، أو شجرة كافور في وجه عاصفة.. ثم يجثوا على ركبتيه، ويضرب بحد الجنبية كتفيه ايمنا وأيسرا، دون أن نرى دما أو أثرا.. يعيد وضعية جثيه على أطراف أصابع قدميه متحفزا، ويهيل الضربات على سرفتيه.. يطعن بطنه بضربات متلاحقة، ولا يترك أثر على جسمه رغم كل ما فعل.. لم يترك أثر غير حيرة ودهشة تكسي وجوه طفولتنا الباكرة.. ثم يعود ويفوق من غمرته، ويخرج من نوبة حالته، ويعود إلى طبيعته ولا كأن أمر خارق قد حدث.. ما أجمل تلك الأيام القلائل، وما أجمل الطفولة فيها، وكلاهما قطعا لن يعود..
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
(6)
أكل التراب
كان يشاركني أكل التراب في صغري ابن عمي سالم أحمد محمد هاشم، والذي كان يكبرني بعشرة أشهر، وصار التراب بيننا أكثر من عيش وملح.. شهيتنا لأكل التراب ربما يعود إلى سوء التغذية، ونقص مادة الحديد في الجسم، أو هذا ما قرأته بعد خمسين عام.
تأكل التراب بسبب سوء التغذية، ونقص عنصر الحديد الذي يحتاج له بدنك، وتعاقب بالضرب لسبب خارج عن إرادتك، وربما تضرب بالحديد لأن جسمك ينقصه عنصر الحديد، ويلحقك مزيدا من العذاب، وتسكنك العُقد، وتظل تكبر داخلك، وبأعماق نفسك في الوعي وفي اللاوعي، وتشهد اضطرابات وانحرافات سلوكية تضر بك وبغيرك، وتغيب عدالة الأرض عنك، وربما تتأخر عدالة السماء أيضا إلى يوم الحساب.
لقد أكلتُ التراب وأنا حديث سن في عمر الطفولة الأولى، أعاني من سوء التغذية، فضلا عن نقص عنصر الحديد في الجسم.. كنت ضحية لظروفي منذ نعومة اظافري.. ضحية للسلطة، والجهل، والقمع، والتنشئة الخاطئة.. ضحية هذا الواقع الذي تشارك الجميع في انتاجه وصناعته..
لازال هناك من يريد، بل ويصر أن يبقيك تأكل التراب، ويريدك ضحية إلى آخر العمر، مهموما بنفسك، وغارقا في تفاصيل حياتك اليومية، مثقلا بمعاناتك، ومشغولا عن فساد السلطة وانتهاكاتها، والحيلولة دون أن تدافع عن حقوق وحريات الناس، بل وأيضا إن أستطاع تقليم أظافرك الدامية التي تحاول أن تحفر بها في الصخر، وأكثر من هذا يتمنى أن لا تستطيع حتى التنفس، الذي يحسدك وينفسك عليه.
كانت أمي في الوقت الذي تضربني لأكلي التراب، أجد في مناسبة أخرى أمِّي تدعيني وعلى نحو لحوح لأكل التراب.. عجب ومفارقة ربما لا تخطر على بال.. وبين هذا وذاك طفولة معذبة وبائسة، ومثقلة بالجهل والحرمان الشديد..
كانت أمي تصحبني معها في بعض الأيام، وهي تزور قبر جدها “الشيخ حيى”، وكان يشمل المكان مقامه وغرفته وقبته وبعض الملاحق.. كانت أمي تحمل الشمع الذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجدها، وتسرِّج بها ظلمته، فيما تضع بعض رزم الشمع الغير مستخدم في كوة الغرفة أو على حافة القبر؛ لمن يأتي في يوم آخر ليضيء ظلمة جدنا "الشيخ حي" وتفعل أمي مثل هذا أيضا، مع قبر ومقام جدنا الشيخ أحمد القريب منه..
رأيت أمي عندما تسرج المكان بالشمع والضوء تشعر بفرحة غامرة، وسعادة كبيرة لا تتسع لها.. ثم تمد يدها في كوة موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتخرج بعض فتات التراب، وتأكل منه قليلا، وتعطيني قليلا منه لآكله.. كانت تحثني وتشجعني على التهامه، لأنه كما تعتقد مكنوز بسر جدها الذي جاء من حضرموت ليحط به الرحال والأجل هنا، فقيها وعالما وصاحب كرامات..
لازلت أذكر أمي وهي تشجعني وتحثني وتبدأ هي بالتهام بعضه.. تلح بإصرار أن التهم حصتي منه.. تحاكيني وهي تفعل لأفعل مثلها.. تطلب مني أن أفعل ما تفعله.. تفعل معي كما تفعل الأم مع طفلها وهي تطعمه بعد الفطام.. أتذكرها وهي تحثني على شرب لبن البقرة الدافئ من جحف اللبن، بعد أن تنتهي توا من افراغ ما في ضرع بقرتنا الحلوبة.. كانت أمي تحاول إفهامي جاهدة وأنا ألفح التراب أنني سأخرج من المكان وقد تزودتُ بشيء لم يكن موجودا حال الدخول إليه..
ورغم فقداني للذة التراب الذي كنت معتادا عليه، وأعاني من عقوبة التهامه، ورغم فقدان هذا التراب لنعومته، إلا أن روحانية المكان، وهيبته وجلال المقام، وكرامات صاحبه بحسب روايات أمي، وما تفييده من محامد جدها، وما يحمله من سر جدير بالاهتمام، أو هذا ما كانت أمي تلقّني إياه، وترويه لي بثقة عالية ويقين.. كنت إذا تعرضت لمرض أو مكروه تدعو جدها "الشيخ حي" وجدتها "جنوب" ومعهما الشيخ أحمد أن يشفيني ويحييني ويجنّبني من كل شر، ويزيل عني كل مكروه..
كنت أظن وأنا طفل أن هذا التراب الذي ألتهمه هو من بقايا عظام ورفات جد أمي، ولكن في مرحلة متأخرة أدركت أنه من فوق القبر، لا من جوفه، وأن رفاة جد أمي وبقاياه لازال مدفونا
نفجرت أمي بالبكاء الشديد، وبحرقة لاسعة، وعتاب مملوء بالخيبة لم أعهده في حياتها من قبل وهي تقول لي: (عثرتني.. عثرتني.. عثرتني) .. ثم مرضت عدة أيام.. ومن بعدها كنت أتركها تؤدي طقسها مع الجدار، وعلى راحتها، والنحو الذي يروق لها، حتى تنتهي منه، وتهدأ كبالونه فُتح ما يسد بابها..
وظل نطح الجدار يحدث مع أمي حتى آخر شهر في حياتها، وقد قارب عمرها على الأرجح الثمانين عام.. وفي السنوات الأخيرة من عمرها حالما كان يحدث معها مثل هكذا فعل، صرنا نتوقع قدوم ما هو سيء.. نقرأه كإحساس منها، لا تستطيع أن تعبّر عنه، إلا بتلك الطريقة الغريبة..
لقد أحاطني يوما الخطر، وأصيبت أمي بنوبة هلع، وردعت الجدار أكثر من مرة، ولم تنته مما هي فيه إلا باتصالي التلفوني العاجل، الذي هدّاء من روعها، وأوقف نوبتها الجنونية.. شعرت يومها أن حميميتنا أكبر منّا، وأن هناك صلة روحية قوية بيننا، أو شيء استثنائي مختلف، وربما هو إحساس غريزي قوي من الأم بما يتهدد ابنها من خطر، والذي تحبه كثيرا، بل أكثر من نفسها، وأكثر من إخوته أيضا..
كانت تقول لي: أسأل الله أن يأخذ ما بقي من سنين عمري، ويطيل بها عمرك.. فطال عمر كلانا.. فقاربت هي من عمر الثمانين، وأنا أقارب الستين.. وقبل أن تموت لم تكن تسمع غيري، ولا تنفذ إلا طلباتي وإن كانت كرها عليها.. عندما أشتد عليها مرض الموت، كانت تأثر الموت على أن تأكل أي شيء.. فإذا طلبتُ منها أن تأكل، استجابت وغصبت نفسها عليه، وعلى نحو أشعر أن ما تفعله، لتنفيذ ما أطلبه، هو بقسوة الموت وطعمه، ثم أتفاجأ بعودة ما أكلته بعد ساعة، وكأنه كان مختبئا في مكان ما بفمها أو شدقها أو بلعومها.. يعود ويخرج من فمها كما دخل، دون تغيير، بعد أن كنت أظن أنه قد أستقر في معدتها، أو ذهب إلى ما بعدها..
لقد تعلقت كطفل بأمي حتى آخر حياتها، وقد قاربتُ الخطى نحو الستين أو أقل منها بقليل.. كنت آثرها على جميع من يعيشون معي، وكنت أنحاز للانتصار لها، غير مكترث لما يصيب غيرها..
كانت أمي هي الخيار الأول دوما، والذي آثره وأفضّله على كل الخيارات.. فإن انفعلت حيالها في لحظة توتر قصوى ونادرة، ما ألبث أن اعتذر لها بندم شديد، وقد أشعرتني إن فسحة قلبها جنة ليس مثيلا لها في وسعها، وغفرانها لا ينتهي..
كانت أمي ما أن تفرغ من نطح الجدار، حتى تهدأ وتستريح.. فإن لم تهدأ، تعاود الأمر مرة أخرى، فتهدأ وتستريح.. فقط عندما أحاطني الخطر، كان الأمر معها أشبه بنوبة لم تهدأ منها أو من روعها إلا باتصال مني والتحدث معها.. لقد كانت تجزم وتلح أنني في لحظة خطر محدق وأكيد، وكان الحال كذلك، وقد أوشك الخطر على الوقوع، ولم تنقذنِ منه غير دقائق قليلة.
مشاهد متفرقة وكثيرة، لا عد لها ولا حصر، شاهدتها وهي تنطح الجدار.. كانت تستعد وتهرول وتنطحه ثلاثا وأربعا وعشراً .. هذا الأمر لم أجد له تفسير علمي إلى اليوم، ولم أفهمه إلا بأنه خارقا للعادة، وبكل تأكيد.. فهي لا تجيد الكذب والمخادعة وخفة الحركة، ولم يسبق لها أن عملت في مسرح عرض ولا سرك..
هنالك كثير من الاعتقادات الغامضة لا زلت أذكرها إلى اليوم.. كان أبي إذا خرج ليلا وأصابته شوكة يعود من الطريق معتقدا إن شر سوف يصيبه إذا تجاهله أو تغافل عنه.. يبدو أنه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة..
أنا وخالتي سعيدة زوجة أبي كنّا إذا حدث أن أنملت أو بالأحرى "سيّرت" بطن أو قاع قدم أحد منّا، يصل أخي علي من صنعاء، أو يهل علينا ضيف نحبه، وإذا "حفّت" يد إحدانا نستلم نقودا، أو شيئا يفرحنا، أو نصافح كريما، أو ضيف يبهجنا.. ولازال هذا يحدث معي إلى اليوم..
لقد كان لنا حدسا وحواسا يقظة، ولم يعد منها اليوم غير أطلال، أو بقايا أقل من القليل.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(8)
عناد وسلطة..
في صغري كنت مغرماً بأكل التراب.. يا إلهي كم كان التراب شهي ولذيذ المذاق.. والأكثر لذاذة أن أفعل هذا في السر والخفية، بعيدا أن أعين أمي.. كانت أمي ما أن تكتشف الأمر، فتسارع بضربي حتى قبل أن تخرج التراب من فمي، ولكن ما أن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل المشبوب بالعناد.. ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب..
"السلطة" لا تشبه أمي بكل تأكيد.. فما فعلته أمي كان دون شك بدافع الحب الجم لضناها التي تحبه أكثر من نفسها، وبدافع الخوف الهلع على صحته التي تأثرها قطعا على صحتها.. أمّا تفعله ما تفعله "السلطة" فلا علاقة له بأي حب، ولا صلة له بالصحة، أو بما هو حميد غيرها، بل يتم بدوافع الإخضاع والتدجين، وربما الاستعباد.. إن المقارنة أحيانا تكون ظالمة، وربما تبدو في عتهها إهدارا للعقل، ولاسيما عندما يكون فارق المقارنة بينهما خرافي، وبأرقام مهولة..
ربما يبدو المتشابه بين أمي و"السلطة"، في استخدام القمع.. ولكن الحق يمنع حتى التأفف من الأم، مهما بلغت بها الكهولة ومهما بلغنا من السلطان، بل والواجب علينا احترامها وإكرامها بالخلق العظيم.. فيما "السلطة" تقمع الشعب وتستبد عليه.. صحيح أن كل منهما تقمع في إطار ولايتها، ولكن "السلطة"
وظل نطح الجدار يحدث مع أمي حتى آخر شهر في حياتها، وقد قارب عمرها على الأرجح الثمانين عام.. وفي السنوات الأخيرة من عمرها حالما كان يحدث معها مثل هكذا فعل، صرنا نتوقع قدوم ما هو سيء.. نقرأه كإحساس منها، لا تستطيع أن تعبّر عنه، إلا بتلك الطريقة الغريبة..
لقد أحاطني يوما الخطر، وأصيبت أمي بنوبة هلع، وردعت الجدار أكثر من مرة، ولم تنته مما هي فيه إلا باتصالي التلفوني العاجل، الذي هدّاء من روعها، وأوقف نوبتها الجنونية.. شعرت يومها أن حميميتنا أكبر منّا، وأن هناك صلة روحية قوية بيننا، أو شيء استثنائي مختلف، وربما هو إحساس غريزي قوي من الأم بما يتهدد ابنها من خطر، والذي تحبه كثيرا، بل أكثر من نفسها، وأكثر من إخوته أيضا..
كانت تقول لي: أسأل الله أن يأخذ ما بقي من سنين عمري، ويطيل بها عمرك.. فطال عمر كلانا.. فقاربت هي من عمر الثمانين، وأنا أقارب الستين.. وقبل أن تموت لم تكن تسمع غيري، ولا تنفذ إلا طلباتي وإن كانت كرها عليها.. عندما أشتد عليها مرض الموت، كانت تأثر الموت على أن تأكل أي شيء.. فإذا طلبتُ منها أن تأكل، استجابت وغصبت نفسها عليه، وعلى نحو أشعر أن ما تفعله، لتنفيذ ما أطلبه، هو بقسوة الموت وطعمه، ثم أتفاجأ بعودة ما أكلته بعد ساعة، وكأنه كان مختبئا في مكان ما بفمها أو شدقها أو بلعومها.. يعود ويخرج من فمها كما دخل، دون تغيير، بعد أن كنت أظن أنه قد أستقر في معدتها، أو ذهب إلى ما بعدها..
لقد تعلقت كطفل بأمي حتى آخر حياتها، وقد قاربتُ الخطى نحو الستين أو أقل منها بقليل.. كنت آثرها على جميع من يعيشون معي، وكنت أنحاز للانتصار لها، غير مكترث لما يصيب غيرها..
كانت أمي هي الخيار الأول دوما، والذي آثره وأفضّله على كل الخيارات.. فإن انفعلت حيالها في لحظة توتر قصوى ونادرة، ما ألبث أن اعتذر لها بندم شديد، وقد أشعرتني إن فسحة قلبها جنة ليس مثيلا لها في وسعها، وغفرانها لا ينتهي..
كانت أمي ما أن تفرغ من نطح الجدار، حتى تهدأ وتستريح.. فإن لم تهدأ، تعاود الأمر مرة أخرى، فتهدأ وتستريح.. فقط عندما أحاطني الخطر، كان الأمر معها أشبه بنوبة لم تهدأ منها أو من روعها إلا باتصال مني والتحدث معها.. لقد كانت تجزم وتلح أنني في لحظة خطر محدق وأكيد، وكان الحال كذلك، وقد أوشك الخطر على الوقوع، ولم تنقذنِ منه غير دقائق قليلة.
مشاهد متفرقة وكثيرة، لا عد لها ولا حصر، شاهدتها وهي تنطح الجدار.. كانت تستعد وتهرول وتنطحه ثلاثا وأربعا وعشراً .. هذا الأمر لم أجد له تفسير علمي إلى اليوم، ولم أفهمه إلا بأنه خارقا للعادة، وبكل تأكيد.. فهي لا تجيد الكذب والمخادعة وخفة الحركة، ولم يسبق لها أن عملت في مسرح عرض ولا سرك..
هنالك كثير من الاعتقادات الغامضة لا زلت أذكرها إلى اليوم.. كان أبي إذا خرج ليلا وأصابته شوكة يعود من الطريق معتقدا إن شر سوف يصيبه إذا تجاهله أو تغافل عنه.. يبدو أنه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة..
أنا وخالتي سعيدة زوجة أبي كنّا إذا حدث أن أنملت أو بالأحرى "سيّرت" بطن أو قاع قدم أحد منّا، يصل أخي علي من صنعاء، أو يهل علينا ضيف نحبه، وإذا "حفّت" يد إحدانا نستلم نقودا، أو شيئا يفرحنا، أو نصافح كريما، أو ضيف يبهجنا.. ولازال هذا يحدث معي إلى اليوم..
لقد كان لنا حدسا وحواسا يقظة، ولم يعد منها اليوم غير أطلال، أو بقايا أقل من القليل.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(8)
عناد وسلطة..
في صغري كنت مغرماً بأكل التراب.. يا إلهي كم كان التراب شهي ولذيذ المذاق.. والأكثر لذاذة أن أفعل هذا في السر والخفية، بعيدا أن أعين أمي.. كانت أمي ما أن تكتشف الأمر، فتسارع بضربي حتى قبل أن تخرج التراب من فمي، ولكن ما أن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل المشبوب بالعناد.. ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب..
"السلطة" لا تشبه أمي بكل تأكيد.. فما فعلته أمي كان دون شك بدافع الحب الجم لضناها التي تحبه أكثر من نفسها، وبدافع الخوف الهلع على صحته التي تأثرها قطعا على صحتها.. أمّا تفعله ما تفعله "السلطة" فلا علاقة له بأي حب، ولا صلة له بالصحة، أو بما هو حميد غيرها، بل يتم بدوافع الإخضاع والتدجين، وربما الاستعباد.. إن المقارنة أحيانا تكون ظالمة، وربما تبدو في عتهها إهدارا للعقل، ولاسيما عندما يكون فارق المقارنة بينهما خرافي، وبأرقام مهولة..
ربما يبدو المتشابه بين أمي و"السلطة"، في استخدام القمع.. ولكن الحق يمنع حتى التأفف من الأم، مهما بلغت بها الكهولة ومهما بلغنا من السلطان، بل والواجب علينا احترامها وإكرامها بالخلق العظيم.. فيما "السلطة" تقمع الشعب وتستبد عليه.. صحيح أن كل منهما تقمع في إطار ولايتها، ولكن "السلطة"
التي بدون مشروعية قد جاءت عن طريق الغلبة والاغتصاب، أو بالمخاتلة والتحايل على الديمقراطية.. أما أمي فمشروعيتها من مشروعية وجودي في المقام الأول.. غير أن السؤال الأهم: لماذا نتمرد على الأم، وهي الأحق بالطاعة والإذعان، ولا نتمرد على "السلطة" ـ أي "سلطة" ـ طالما هي ظالمة ومستبدة؟!!
صحيح أن أمي و"السلطة" تشتركان في الجهل، ولكن جهل أمي له ما يبرره، وهو جزء من واقع، تقع مسؤولية تغييره على "السلطة" أولا؛ والتي يجب عليها أن تناهض الجهل، فما البال و"السلطة" تعمد إلى تكريسه، ليس في الحضانة والتنشئة الأولى فحسب، ولكن أيضا في المدارس والجامعات، وتعول عليه في سياساتها إلى حد بعيد..
"السلطة" تعتقد أن القمع هو الخيار الوحيد، أو الخيار الأول، للحصول على نتائج فورية، ولكن كثيرا ما تأتي النتائج صادمة، أو مخيبة للآمال، والأسوأ أن "السلطة" تعاند وتوغل في عنادها حيال شعبها، ولا تعترف ولا تقر بما تقترفه من أخطاء، إلا بعد أن تكون قد دفعت كلفة أكبر من الخطأ بفعل عنادها، ويكون قد أوقع الفادح ما هو أفدح منه..
تبالغ "السلطة" وجماعتها الدينية الموغل ذهنها في الماضي بتعصبها لصالح المجتمع المغلق الصارم في عاداته وتقاليده وثقافته.. بل وتستعرض اعتزازها بهذا الانغلاق، وتعمد إلى فرضه وتكريسه، تحت عنوان الحفاظ على العادات والتقاليد الأصيلة للمجتمع، وباسم الأصالة يجري التحصين والتأكيد على الماضي، وعلى كل ما هو بائد ومتخلف ومهتري، ويكون ذلك على حساب المستقبل الذي نروم..
تعيش "السلطة" وجماعتها الدينية حالة تناقض وانفصام تام، وعدم تصالح فج مع ذاتها، حيث تتزمت في اخلاقها، وتمارس عُقدها على المجتمع، وتتشدد حيال التفاصيل الصغيرة، فتقمع المرأة التي لا ترتدي حجاب، وتتعامل بصرامة حيال من ترتدي حزام الخصر، وتعتدي على إعلانات الكوافير، وتعتبره انفلات سحيق، وسقوط اخلاقي مريع، وبالتالي تتحول إلى شرطة آداب حازمة حيال القضايا التي يتبناها تزمتها، مثل موقفها من حقوق المرأة، وحرياتها، والاختلاط، والموضة، وملابس الشباب، وحلاقة رؤوسهم، وتضيف إلى ذلك ما هو فضفاض، مثل "الحرب الناعمة" التي تدرج فيها كلما يروق لها، أو تريد قمعه وتحريمه وتجريمه تحت ذلك العنوان الغير منضبط.. وفي المقابل تتخلي تلك "السلطة"، وعلى نحو صارخ، عن مسؤولياتها حيال مواطنيها فيما هو أهم، مثل التخلي عن مسؤولية دفع رواتب الموظفين، وعدم توفير الصحة لمواطنيها، والتخلي عن التزاماتها حيال معظم الخدمات، ومنها التعليم فضلا عن الرقي به، بعد أن تكون قد أفسدت معظمه..
الاحتشام لدى سلطة الجماعة الدينية ليس صناعة وعي، ولكنها شكليات تكرسها وتتعاطي معها بصرامة.. خيمة سوداء ثقيلة وعمياء، وعُقد اجتماعية شتّى، وكبت وتضييق، وإعادة انتاج نفايات الفكر، والتصورات البالية، وطباعة الكتب والمنشورات الصفراء، وغيرها من الأحمال والأثقال التي يجري إلقاءها على كاهل المرأة ومحاصرتها بها.. وتعتبر السلطة المأزورة بالواقع الظلامي الثقيل، إن الوصاية على اخلاق المجتمع، والتضييق على الحريات الشخصية والعامة من أولوياتها ومبررات وجودها، فيما هي تتخلى في المقابل وبالتقسيط أو نظام الدُفع، عن كل المسؤوليات التي كان يتعين عليها النهوض بها، وهي من صميم عملها وواجباتها.. وهكذا تجد "السلطة" وجماعتها تتحول إلى شرطة آداب، تحمي "الاخلاق" وتفرض وصايتها على الناس باسم المقدس، بدلا من خدمة شعبها، وتحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي..
الواقع مشوّه وموبوء بأمراضنا وعُقدنا وعنادنا المدمر للآخر وللذات.. عناد بدأ معنا من نعومة أظفارنا، وكبر معنا، وربما يظل عالقا في أعماقنا حتى أرذل العمر إن بلغناه.. كما أن التربية الغير سوية في مجتمعنا، تبدأ معنا من الحضانة، وتستمر رعاية التشوُّهات في فترة التنشئة والمراهقة حتى تبلغ العظم والصميم، ويتعدى أذاها من الشخص إلى المجتمع.. سلطة جماعة تحتقر الأغنية وتتهم الشعر حتى وإن تصالح فيهما الإنسان مع نفسه، بل وتحوله باتهامها إلى شيطان واجب عليها اجتثاثه وعيا وممارسة، حتى وإن كان زاهد..
توغل "السلطة" في عنادها عندما تحتشد كلها، وما لديها من أجهزة ومال ونفوذ وإعلام ووسائل قمع في ممارسة اخضاع أسرة بسيطة مثل أسرة إقبال الحكيمي، لمجرد إن إقبال وأسرتها قرروا يوما المطالبة بوقف الجرائم التي ترتكب ضدهم من قبل رجال "السلطة"، وفضح ما تمارسه من طغيان، ومطالبتهم بوقف تلك الجرائم، ومقاومة الظلم الواقع عليها وعلى الناس.. وتوغل السلطة بمزيد من العناد وتلفيق التهم ضد أسرة إقبال وتزج بها في سجونها؛ بل وتتعدى إلى كل من يساعدهم أيضا، لتداري جرائمها الفجاج، والحيلولة دون كشفها، وهو عناد أخرق منها، وغير مسؤول، سيتكفل الزمن بكشف ما يُدارى، وإسقاط عنادها، ومعه كل سياسات التدجين والإخضاع التي تمارسها بعنفوان..
إن العناد الذي نكتسبه أو الذي نتطبع فيه، يمكن أن يتحول إلى قوة تدميرية تهلك المعاند نفسه، وتهلك من حوله، وربما تمتد آث
صحيح أن أمي و"السلطة" تشتركان في الجهل، ولكن جهل أمي له ما يبرره، وهو جزء من واقع، تقع مسؤولية تغييره على "السلطة" أولا؛ والتي يجب عليها أن تناهض الجهل، فما البال و"السلطة" تعمد إلى تكريسه، ليس في الحضانة والتنشئة الأولى فحسب، ولكن أيضا في المدارس والجامعات، وتعول عليه في سياساتها إلى حد بعيد..
"السلطة" تعتقد أن القمع هو الخيار الوحيد، أو الخيار الأول، للحصول على نتائج فورية، ولكن كثيرا ما تأتي النتائج صادمة، أو مخيبة للآمال، والأسوأ أن "السلطة" تعاند وتوغل في عنادها حيال شعبها، ولا تعترف ولا تقر بما تقترفه من أخطاء، إلا بعد أن تكون قد دفعت كلفة أكبر من الخطأ بفعل عنادها، ويكون قد أوقع الفادح ما هو أفدح منه..
تبالغ "السلطة" وجماعتها الدينية الموغل ذهنها في الماضي بتعصبها لصالح المجتمع المغلق الصارم في عاداته وتقاليده وثقافته.. بل وتستعرض اعتزازها بهذا الانغلاق، وتعمد إلى فرضه وتكريسه، تحت عنوان الحفاظ على العادات والتقاليد الأصيلة للمجتمع، وباسم الأصالة يجري التحصين والتأكيد على الماضي، وعلى كل ما هو بائد ومتخلف ومهتري، ويكون ذلك على حساب المستقبل الذي نروم..
تعيش "السلطة" وجماعتها الدينية حالة تناقض وانفصام تام، وعدم تصالح فج مع ذاتها، حيث تتزمت في اخلاقها، وتمارس عُقدها على المجتمع، وتتشدد حيال التفاصيل الصغيرة، فتقمع المرأة التي لا ترتدي حجاب، وتتعامل بصرامة حيال من ترتدي حزام الخصر، وتعتدي على إعلانات الكوافير، وتعتبره انفلات سحيق، وسقوط اخلاقي مريع، وبالتالي تتحول إلى شرطة آداب حازمة حيال القضايا التي يتبناها تزمتها، مثل موقفها من حقوق المرأة، وحرياتها، والاختلاط، والموضة، وملابس الشباب، وحلاقة رؤوسهم، وتضيف إلى ذلك ما هو فضفاض، مثل "الحرب الناعمة" التي تدرج فيها كلما يروق لها، أو تريد قمعه وتحريمه وتجريمه تحت ذلك العنوان الغير منضبط.. وفي المقابل تتخلي تلك "السلطة"، وعلى نحو صارخ، عن مسؤولياتها حيال مواطنيها فيما هو أهم، مثل التخلي عن مسؤولية دفع رواتب الموظفين، وعدم توفير الصحة لمواطنيها، والتخلي عن التزاماتها حيال معظم الخدمات، ومنها التعليم فضلا عن الرقي به، بعد أن تكون قد أفسدت معظمه..
الاحتشام لدى سلطة الجماعة الدينية ليس صناعة وعي، ولكنها شكليات تكرسها وتتعاطي معها بصرامة.. خيمة سوداء ثقيلة وعمياء، وعُقد اجتماعية شتّى، وكبت وتضييق، وإعادة انتاج نفايات الفكر، والتصورات البالية، وطباعة الكتب والمنشورات الصفراء، وغيرها من الأحمال والأثقال التي يجري إلقاءها على كاهل المرأة ومحاصرتها بها.. وتعتبر السلطة المأزورة بالواقع الظلامي الثقيل، إن الوصاية على اخلاق المجتمع، والتضييق على الحريات الشخصية والعامة من أولوياتها ومبررات وجودها، فيما هي تتخلى في المقابل وبالتقسيط أو نظام الدُفع، عن كل المسؤوليات التي كان يتعين عليها النهوض بها، وهي من صميم عملها وواجباتها.. وهكذا تجد "السلطة" وجماعتها تتحول إلى شرطة آداب، تحمي "الاخلاق" وتفرض وصايتها على الناس باسم المقدس، بدلا من خدمة شعبها، وتحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي..
الواقع مشوّه وموبوء بأمراضنا وعُقدنا وعنادنا المدمر للآخر وللذات.. عناد بدأ معنا من نعومة أظفارنا، وكبر معنا، وربما يظل عالقا في أعماقنا حتى أرذل العمر إن بلغناه.. كما أن التربية الغير سوية في مجتمعنا، تبدأ معنا من الحضانة، وتستمر رعاية التشوُّهات في فترة التنشئة والمراهقة حتى تبلغ العظم والصميم، ويتعدى أذاها من الشخص إلى المجتمع.. سلطة جماعة تحتقر الأغنية وتتهم الشعر حتى وإن تصالح فيهما الإنسان مع نفسه، بل وتحوله باتهامها إلى شيطان واجب عليها اجتثاثه وعيا وممارسة، حتى وإن كان زاهد..
توغل "السلطة" في عنادها عندما تحتشد كلها، وما لديها من أجهزة ومال ونفوذ وإعلام ووسائل قمع في ممارسة اخضاع أسرة بسيطة مثل أسرة إقبال الحكيمي، لمجرد إن إقبال وأسرتها قرروا يوما المطالبة بوقف الجرائم التي ترتكب ضدهم من قبل رجال "السلطة"، وفضح ما تمارسه من طغيان، ومطالبتهم بوقف تلك الجرائم، ومقاومة الظلم الواقع عليها وعلى الناس.. وتوغل السلطة بمزيد من العناد وتلفيق التهم ضد أسرة إقبال وتزج بها في سجونها؛ بل وتتعدى إلى كل من يساعدهم أيضا، لتداري جرائمها الفجاج، والحيلولة دون كشفها، وهو عناد أخرق منها، وغير مسؤول، سيتكفل الزمن بكشف ما يُدارى، وإسقاط عنادها، ومعه كل سياسات التدجين والإخضاع التي تمارسها بعنفوان..
إن العناد الذي نكتسبه أو الذي نتطبع فيه، يمكن أن يتحول إلى قوة تدميرية تهلك المعاند نفسه، وتهلك من حوله، وربما تمتد آث
اره إلى المجتمع.. الانحراف بالعناد يدمر الآخر ويدمر الذات.. يدمر المجتمع ويدمر صاحبه أيضا.. كما أن الاعتماد على سياسة القمع والإيغال والعناد فيها، لن يأتي إلا بكل ما هو بائت ومشوّه وغير سوي..
إن أخطأت في البيت تُضرب، وإن أخطأت في المدرسة تُضرب، بل إن الضرب هو إحدى العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، وأكثر من هذا أن السياسة العقابية في تشريعاتنا المثقلة بالوجع والركام، لا تقوم على أساس إصلاح الجاني، وإعادة تأهيله ليندمج في المجتمع، بل تقوم على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.
من الأجدى والأنفع أن نحول عنادنا إلى تحدّي ينتج طاقه خلاقة كبيرة ومبدعة، تثري العلم والمعرفة، بما يخدم الناس والعالم خيراً وفضيلة ورخاء.. كثير من العلماء المخترعين والمكتشفين وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيهه على نحو خلاق في خدمة الناس والبشرية؛ فاكتسبوا العظمة والخلود، فيما هناك كثير من مجرمي التاريخ وسفاحيه بسبب عنادهم وتصلب رأيهم أهلكوا النسل والضرع بحروبهم .. أهلكوا أنفسهم وشعوبهم..
أما أنا فأدعي أنني أحاول أن احوّل الابتلاء بالعناد الذي يسجل لدي بعض حضوره، إلى طاقة خلاقة وموقف مساند للمظلومين، والدفاع عن حقوقهم المنتهكة، والتصدي للسلطة التي تعمد إلى قهرهم واذلاهم وتدجينهم وإخضاعهم لها ولجبروتها.. أو هكذا أزعم.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
إن أخطأت في البيت تُضرب، وإن أخطأت في المدرسة تُضرب، بل إن الضرب هو إحدى العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، وأكثر من هذا أن السياسة العقابية في تشريعاتنا المثقلة بالوجع والركام، لا تقوم على أساس إصلاح الجاني، وإعادة تأهيله ليندمج في المجتمع، بل تقوم على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.
من الأجدى والأنفع أن نحول عنادنا إلى تحدّي ينتج طاقه خلاقة كبيرة ومبدعة، تثري العلم والمعرفة، بما يخدم الناس والعالم خيراً وفضيلة ورخاء.. كثير من العلماء المخترعين والمكتشفين وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيهه على نحو خلاق في خدمة الناس والبشرية؛ فاكتسبوا العظمة والخلود، فيما هناك كثير من مجرمي التاريخ وسفاحيه بسبب عنادهم وتصلب رأيهم أهلكوا النسل والضرع بحروبهم .. أهلكوا أنفسهم وشعوبهم..
أما أنا فأدعي أنني أحاول أن احوّل الابتلاء بالعناد الذي يسجل لدي بعض حضوره، إلى طاقة خلاقة وموقف مساند للمظلومين، والدفاع عن حقوقهم المنتهكة، والتصدي للسلطة التي تعمد إلى قهرهم واذلاهم وتدجينهم وإخضاعهم لها ولجبروتها.. أو هكذا أزعم.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
كلية الحقوق
(6)
مناهج البحث والخذلان
احمد سيف حاشد
• بدأتُ التمرد في طفولتي بسؤال برئ، ولمّا تم قمعي وزجري، او تم الرد على السؤال بكذبة لم تنطلِ، أو أنطلت، ثم تكشّف كذبها، تكاثرت الأسئلة، وتناسلت كالضوء في الليل المدلهم بالسواد، تتحدى قاتم الظلام ووحشته، ولم تستطع سلطة القمع الثقيل، وأبوية السلطة الكبيرة، إخماد أنفاسها، وإن استطاعت لبعض الوقت إخراسها، أو تأجيلها بحبل الكذب القصير، لكنها ظلّت في جذوة العقل متأججة، تقاوم الموت والإخماد، وتشتعل في كل بُعد قصي، تبحث في الوجود عن جواب، وفي محبس الصدر المكبل بما هو أشد من الحديد، ظلّت تجوس وتعتصف، ولم تهدأ حتى تجد شافي الجواب..
• كانت مناهج البحث العلمي في كلية الحقوق، من أهم المواد التي أُشغف بها، وتثير كثير من الفضول والأسئلة.. تعلّمت منها أنها أداة العلم الغزير، ومصنع إنتاج المعرفة.. هي العون الأهم في تقدُّم كل العلوم، وهي الوسيلة التي تعيين، وبها نستعين، للوصول إلى مراسي المعرفة، بمنهجية، تكشف الجديد، وتجيب على الأسئلة..
• كنت أقتني ما استطعت من الكتب، وأضيف ما تيسر لمداركي، والكشف عمّا أجهله، ولا أنحصر بما تقرر في الدرس ومراجعه، وأسعى دوما للاستزادة من هنا أو هناك، وكل الأمكنة.. أذهب شغوفا إلى المكتبة.. أقرأ في مناهج البحث، وما يعينني على اكتساب المعرفة، والوصول إلى الجواب.. مناهج البحث هي الطريق الأهم، للإجابة على الأسئلة المستعصية، والباحث عن الحقيقة غير آهل إن لم يتجرد من الركام والعوالق والعواطف، وكلما يزيّف الوعي أو يشوّهه..
• كانت درجاتي في اختبارات مساق مناهج البحث ( 4 من 5 ) ، ومع ذلك ليس من السهل أن تنتزع مثل تلك النتيجة، من أستاذ المادة الدكتور أحمد زين عيدروس.. كان لدى هذا الأستاذ فلسفة خاصة في منح الدرجات، حيث يرى أن المؤلف فقط هو من يتم منحه خمسة على خمسة، أما الدكتور الذي يدرِّسها لطلابه، فلا يستحق غير أربع درجات من خمس، أمّا الطالب فلا يجب أن يمنح أكثر من ثلاث درجات، ومع ذلك كان إذا ما وجد طالب ملمَّا ومجتهدا وقارئا باستفاضة، يعطيه أربع درجات أي جيد جدا، وهي درجة نعتبرها وكذا الأستاذ مستصعبة، ولا يبلغها الإ قلة قليلة من الطلاب بشق النفس..
• لقد ظفرت في مادة مناهج البحث بنتيجة 82 من100 درجة، وهي ربما الدرجة الأعلى في نتائج طلابه.. لقد كان الدكتور أحمد زين أشد بخلا من الأستاذ حامد، حيث حصدت نهاية العام في مادته "نظرية الدولة والقانون" 88 من مائة درجة وهي تقريبا أعلى درجة منحها الأستاذ حامد لطالب في تلك الدفعة.. الدكتور أحمد زين والأستاذ حامد كان الأكثر تشددا في منح الدرجات بالكلية.. كانت التعليم قويا، والمثابرة لازمة، والدرجات عزيزة، وأنت تبذل جل جهدك لتبلغ ما أمكنك بلوغه، وهو أقرب إلى الانتزاع منه إلى كلمة "حصاد"..
• أستاذ مناهج البحث أحمد زين عيدروس، كان حذرا من الولوج في السياسية المدججة بالقمع، ومتحررا من الأيديولوجيا، لازلت أتذكره وهو يحثنا على أن من يريد البحث منّا فيلزمه الحياد والموضوعية والتجرد، بل ووجوب رمي كل القناعات والتصورات المسبقة إلى الخلف ولا يستدير إليها.. وفي مثل هذا يقول الفيلسوف ، والعالم الرياضي والفيزيائي الفرنسي رينيه ديكارت: "إذا أردت أن تكون باحثا مخلصا عن الحقيقة، من الضروري أن تشك في كل شيء لأقصى درجة ممكنه، على الأقل لمرة واحدة." ويضيف: " الحواس تخدع من آن لآخر، ومن الحكمة ألا تثق تماما فيمن خدعك ولو مرة واحدة."
• ما تعلمته في مادة مناهج البحث بالجامعة، أفادني إلى حد بعيد لاحقا في دراستي في المعهد العالي للقضاء.. جئت من مدرسة أخرى لأصطدم بمدرسة تقليدية عتيقة، والأسوأ أن أكثر بحوثها في الحيض والنفاس والطهارة والعبادات عموما.. في معهد القضاء كنت إذا ألقيت سؤالا أو حيرة أو تسألت عن تناقض ما، شاهدت زملائي في الفصل الدراسي ينقسموا غالبا إلى قسمين سنة وشيعة، دون أن يعلنوا هذا الانتساب، ولذلك حبيت أن أخوض في هذا الانقسام، ولكن باختيار عنوانه، واستخدام مناهج البحث العلمي الذي تعلمته في كلية الحقوق بعدن، وكان حالي مثل الذي أقتحم عش الدبابير..
• تناول البحث على نحو رئيس جانبين الأول يتعلق بالصراع السياسي في صدر الإسلام، والثاني نظام الحكم القرشي واشتراط النسب القرشي في الولاية العامة.. عرضت هذا البحث بعد تطويره، على الأستاذ الدكتور أبو بكر السقاف، وفي الإهداء أشرت إليه وإلى عبد الحبيب سالم..
أعجب به الدكتور السقاف، وأشار إليه ثلاث مرات في كتاباته، وحثني أكثر من مرة وفي أكثر من لقاء على نشره، وتمنى أن أضيف له فصلا يتناول القرابة والقبيلة في نظام الحكم القائم تلك الفترة في صنعاء، على غرار ما فعلته مع نظام الحكم القرشي، وعندما كشفت له عن مخاوفي كوني أستعدى الجميع، قال أو بما معناه "إن البحث يحتاج اقتحام المخاطر"..
لقد أحجمت عن نشر ذلك البحث إلى اليوم، في واقع مجتمعي متخلف، ونظام قانوني سائد أكثر تخلفاً، ومع ذلك لا زال في الزمن بقي
(6)
مناهج البحث والخذلان
احمد سيف حاشد
• بدأتُ التمرد في طفولتي بسؤال برئ، ولمّا تم قمعي وزجري، او تم الرد على السؤال بكذبة لم تنطلِ، أو أنطلت، ثم تكشّف كذبها، تكاثرت الأسئلة، وتناسلت كالضوء في الليل المدلهم بالسواد، تتحدى قاتم الظلام ووحشته، ولم تستطع سلطة القمع الثقيل، وأبوية السلطة الكبيرة، إخماد أنفاسها، وإن استطاعت لبعض الوقت إخراسها، أو تأجيلها بحبل الكذب القصير، لكنها ظلّت في جذوة العقل متأججة، تقاوم الموت والإخماد، وتشتعل في كل بُعد قصي، تبحث في الوجود عن جواب، وفي محبس الصدر المكبل بما هو أشد من الحديد، ظلّت تجوس وتعتصف، ولم تهدأ حتى تجد شافي الجواب..
• كانت مناهج البحث العلمي في كلية الحقوق، من أهم المواد التي أُشغف بها، وتثير كثير من الفضول والأسئلة.. تعلّمت منها أنها أداة العلم الغزير، ومصنع إنتاج المعرفة.. هي العون الأهم في تقدُّم كل العلوم، وهي الوسيلة التي تعيين، وبها نستعين، للوصول إلى مراسي المعرفة، بمنهجية، تكشف الجديد، وتجيب على الأسئلة..
• كنت أقتني ما استطعت من الكتب، وأضيف ما تيسر لمداركي، والكشف عمّا أجهله، ولا أنحصر بما تقرر في الدرس ومراجعه، وأسعى دوما للاستزادة من هنا أو هناك، وكل الأمكنة.. أذهب شغوفا إلى المكتبة.. أقرأ في مناهج البحث، وما يعينني على اكتساب المعرفة، والوصول إلى الجواب.. مناهج البحث هي الطريق الأهم، للإجابة على الأسئلة المستعصية، والباحث عن الحقيقة غير آهل إن لم يتجرد من الركام والعوالق والعواطف، وكلما يزيّف الوعي أو يشوّهه..
• كانت درجاتي في اختبارات مساق مناهج البحث ( 4 من 5 ) ، ومع ذلك ليس من السهل أن تنتزع مثل تلك النتيجة، من أستاذ المادة الدكتور أحمد زين عيدروس.. كان لدى هذا الأستاذ فلسفة خاصة في منح الدرجات، حيث يرى أن المؤلف فقط هو من يتم منحه خمسة على خمسة، أما الدكتور الذي يدرِّسها لطلابه، فلا يستحق غير أربع درجات من خمس، أمّا الطالب فلا يجب أن يمنح أكثر من ثلاث درجات، ومع ذلك كان إذا ما وجد طالب ملمَّا ومجتهدا وقارئا باستفاضة، يعطيه أربع درجات أي جيد جدا، وهي درجة نعتبرها وكذا الأستاذ مستصعبة، ولا يبلغها الإ قلة قليلة من الطلاب بشق النفس..
• لقد ظفرت في مادة مناهج البحث بنتيجة 82 من100 درجة، وهي ربما الدرجة الأعلى في نتائج طلابه.. لقد كان الدكتور أحمد زين أشد بخلا من الأستاذ حامد، حيث حصدت نهاية العام في مادته "نظرية الدولة والقانون" 88 من مائة درجة وهي تقريبا أعلى درجة منحها الأستاذ حامد لطالب في تلك الدفعة.. الدكتور أحمد زين والأستاذ حامد كان الأكثر تشددا في منح الدرجات بالكلية.. كانت التعليم قويا، والمثابرة لازمة، والدرجات عزيزة، وأنت تبذل جل جهدك لتبلغ ما أمكنك بلوغه، وهو أقرب إلى الانتزاع منه إلى كلمة "حصاد"..
• أستاذ مناهج البحث أحمد زين عيدروس، كان حذرا من الولوج في السياسية المدججة بالقمع، ومتحررا من الأيديولوجيا، لازلت أتذكره وهو يحثنا على أن من يريد البحث منّا فيلزمه الحياد والموضوعية والتجرد، بل ووجوب رمي كل القناعات والتصورات المسبقة إلى الخلف ولا يستدير إليها.. وفي مثل هذا يقول الفيلسوف ، والعالم الرياضي والفيزيائي الفرنسي رينيه ديكارت: "إذا أردت أن تكون باحثا مخلصا عن الحقيقة، من الضروري أن تشك في كل شيء لأقصى درجة ممكنه، على الأقل لمرة واحدة." ويضيف: " الحواس تخدع من آن لآخر، ومن الحكمة ألا تثق تماما فيمن خدعك ولو مرة واحدة."
• ما تعلمته في مادة مناهج البحث بالجامعة، أفادني إلى حد بعيد لاحقا في دراستي في المعهد العالي للقضاء.. جئت من مدرسة أخرى لأصطدم بمدرسة تقليدية عتيقة، والأسوأ أن أكثر بحوثها في الحيض والنفاس والطهارة والعبادات عموما.. في معهد القضاء كنت إذا ألقيت سؤالا أو حيرة أو تسألت عن تناقض ما، شاهدت زملائي في الفصل الدراسي ينقسموا غالبا إلى قسمين سنة وشيعة، دون أن يعلنوا هذا الانتساب، ولذلك حبيت أن أخوض في هذا الانقسام، ولكن باختيار عنوانه، واستخدام مناهج البحث العلمي الذي تعلمته في كلية الحقوق بعدن، وكان حالي مثل الذي أقتحم عش الدبابير..
• تناول البحث على نحو رئيس جانبين الأول يتعلق بالصراع السياسي في صدر الإسلام، والثاني نظام الحكم القرشي واشتراط النسب القرشي في الولاية العامة.. عرضت هذا البحث بعد تطويره، على الأستاذ الدكتور أبو بكر السقاف، وفي الإهداء أشرت إليه وإلى عبد الحبيب سالم..
أعجب به الدكتور السقاف، وأشار إليه ثلاث مرات في كتاباته، وحثني أكثر من مرة وفي أكثر من لقاء على نشره، وتمنى أن أضيف له فصلا يتناول القرابة والقبيلة في نظام الحكم القائم تلك الفترة في صنعاء، على غرار ما فعلته مع نظام الحكم القرشي، وعندما كشفت له عن مخاوفي كوني أستعدى الجميع، قال أو بما معناه "إن البحث يحتاج اقتحام المخاطر"..
لقد أحجمت عن نشر ذلك البحث إلى اليوم، في واقع مجتمعي متخلف، ونظام قانوني سائد أكثر تخلفاً، ومع ذلك لا زال في الزمن بقي
ة، وقد بات الحاضر أشد وأدا وأكثر وطأة وفتكا ومخاطر من الماضي.. وينطبق عليه قول عبد العزيز جويدة:
"هذا زمان الأغْبياء ، والويْل كلُّ الويْل لمن فهِم."
وكنت قد عدت بعد عام أبحث عن بحثي المودع في مكتبة معهد القضاء فلم أجده.. ومع ذلك ظل البحث لدي جاهزا لإصداره في كتاب منذ قرابة الخمسة والعشرين عام، وكلما ظننت إن انفراجه ستأتي تناسب النشر، أجد ما هو أكثر خطرا ومغامرة وإنحطاطا..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي..
"هذا زمان الأغْبياء ، والويْل كلُّ الويْل لمن فهِم."
وكنت قد عدت بعد عام أبحث عن بحثي المودع في مكتبة معهد القضاء فلم أجده.. ومع ذلك ظل البحث لدي جاهزا لإصداره في كتاب منذ قرابة الخمسة والعشرين عام، وكلما ظننت إن انفراجه ستأتي تناسب النشر، أجد ما هو أكثر خطرا ومغامرة وإنحطاطا..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي..
اصداء من الوتس:
وانا كذلك يا قاضي ..
ذهبت الى معهد القضاء
لابحث عن بحثي المودع بمكتبة معهد القضاء ولم اجده..
سرقوه واتفاجأ بان احدهم قد اخذ به رساله ماجستير
من جامعة ام درمان ☝
وانا كذلك يا قاضي ..
ذهبت الى معهد القضاء
لابحث عن بحثي المودع بمكتبة معهد القضاء ولم اجده..
سرقوه واتفاجأ بان احدهم قد اخذ به رساله ماجستير
من جامعة ام درمان ☝
السلسلة الخامسة 1 - 18
قسوة .. وطفولة بطعم التمرد
(1)
معاناة في الطفولة
كان الحمل ثقيلا.. كنت أقوم بما لا يقوم به أقراني من الأطفال الذكور.. لطالما كنست الدار، ونظفت كل ملاحقه ومرافقه، ورعيت الغنم، وحملت على رأسي روث البقر.. ساعدتُ أمي فيما لا تقوى عليه خصوصا عند الحمل والولادة.. وبسبب الكنس، والدخان، وتجريب الشقاوة، أنقطع النَفَس، وأصبتُ بالربو، وكدت أفارق الحياة مرتين..
في الصف الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم أكثر من عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة وعشرة مثلها عند الإياب.. كما عشتُ لاحقا وانا أدرس في القسم الداخلي، معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية..
لازلت أذكر قسوة والدي في مرحلة من حياته، والتي تجاوزت الضرب إلى التعليق والطعن والشروع بإطلاق الرصاص..
تمردت على أبي، وسلطته المفرطة.. قاومت أكثر من ظلم أثقل كاهلي.. كنت أشعر أن الظلم العنيف يفترسني ويهرس عظامي.. رأيت الموت أكثر من مرة، وتحديت الأقدار، وثرت في وجهها بألف سؤال.. فكرت باقتحام الموت واستيفاء الأجل، ولم أعب بجهنم وبأقوال أمي إن المنتحر يذهب إلى النار.
بلغ شعوري بالظلم حد أرى فيها الحياة والموت سيان.. حاولت الانتحار احتجاجا على واقع مُر، وكرامة بدت لي مهدرة، غير أن العدول عن هذه الحماقة كان فيه انتصار للحياة والحب والإنسان.
كان لدى أبي سياسة خاطئة في التربية، تختلف عمّا هي موجودة لدى الناس، أو متعارف عليها بينهم.. كانت سياسته تستند إلى الشدة والقسوة والعنف، بل وأعتبرها مجرّبة ونتائجها أكيدة، وغير قابلة للنقاش أو الملاحظة، فضلا عن إعادة النظر، ولاسيما إنه طبق بعض منها على أخي علي ، وكانت النتيجة كما راءها قد أتت على ما أراد وأشتهى، فتشرف به، واعتز باسمه وبأنه ابنه..
كان أبي يضربني كثيرا.. ضرب يومي لا عد له ولا حصر.. ضرب يومي يبدأ مع الفجر ولا ينتهي في العاشرة من الليالي الداجنات.. أن يتم ضربي كثيرا بات أمرا طبيعيا ولا يثير عجب أو سؤال.. ولكن الغير طبيعي والعجب أنه يضربني في يومي أقل من ثلاث مرات.. إن حدث مثل هذا فهو بالنسبة لي يوم مائز ومختلف.. لو حصل وضربني أقل من ثلاث مرات، فيعني لي إنه يوم عيد، لربما لا يعاد إلا في العام الذي يليه.. يوم كهذا يستحق مني الاحتفال.
عشت الواقع بكل مراراته وقسوته.. كنت أشعر بإهانة بالغة ومهانة لا تطاق.. رفضت أن أعتاد الأمر أو أتصالح معه، وكنت أعبّر عن رفضي بحالات تمرد كثيرة، بعضها كان عابراً للموت والمجهول، أو يكاد يكون الحال كذلك في بعض الأحيان..
كان هذا الضرب يحدث غالبا أمام مشهد من الناس، وكان بعض هذا الضرب يتم بالحذاء.. كنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني.. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي وما جرى من أبي.. كنت حديثهم اليومي الذي يقتاتون عليه، أو هذا ما أخاله.. كنت أشعر أن الإهانة تسحق عظامي.. كنت أبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصاب.
ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر، وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين، ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً، وهي الانتصار للمقموعين والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح.. أدافع عن الضحايا بتفاني، ولو كلفني حياتي مرتين، أو هذا ما أخاله وأظنه..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(2)
قصتي مع المرآة
حالما كان عمري بحدود الخمس سنوات كانت أمي تحذرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، ربما هذا القمع هو من دفع طفولتي إلى الفضول، وحب الاستكشاف، والاستمتاع بما أجهله، وكأن طفولتي كانت تريد أن تعرف تفاصيل نفسها في المرآة التي ربما تبدو عالما قائما بذاته؛ عالم المرآة يثير العجب والأسئلة!! وأنا أريد أن اكتشف عوالمي من خلال هذه المرآة، التي صارت في متناول يدي؟!
كيف يبدو وجهي أمام الناس؟!! أريد من المرآة أن تحكي لي ذلك وبوضوح وبأدق التفاصيل.. الآن لا يوجد أحد في حضرتي غير المرآة وخلوتي.. هذا ما يجب اغتنامه، ولا أهدر لحظة منه.. الفضول هو شغف المعرفة، والمنع أعطى للمعرفة قيمة، واستحثاث لحوح للاكتشاف..
اليوم وعمري يشارف الستين أحاول أن أمنطق وجها من طفولتي التي كانت لازالت في حدود عمر الخمس سنين.. وبين هذا العمر وذاك عوالم وأحداث وتفاصيل أشعر أنها من الكثرة لا تتسع لها مجرّة.. وبين الطفولة والكهولة التي أقترب منها رويدا، مدى قطعته كالمسافة من السديم إلى الوجود الكثيف، نحو الكهولة والتلاشي..
كنت أحملق في وجهي بالمرآة.. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، وعلى نحو أستطيع تخيله في أي وقت أريد، وفي أي حال وهيئة أكون فيها.. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة .. ولطالما تمنيت أن يكون الخالق قد خلق لنا عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا وكل الجسد بيسر وسهولة..
عندما وجدت الخلوة و الفراغ و الوقت الكافي لإشباع رغبتي، حدث لي شيئا غ
قسوة .. وطفولة بطعم التمرد
(1)
معاناة في الطفولة
كان الحمل ثقيلا.. كنت أقوم بما لا يقوم به أقراني من الأطفال الذكور.. لطالما كنست الدار، ونظفت كل ملاحقه ومرافقه، ورعيت الغنم، وحملت على رأسي روث البقر.. ساعدتُ أمي فيما لا تقوى عليه خصوصا عند الحمل والولادة.. وبسبب الكنس، والدخان، وتجريب الشقاوة، أنقطع النَفَس، وأصبتُ بالربو، وكدت أفارق الحياة مرتين..
في الصف الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم أكثر من عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة وعشرة مثلها عند الإياب.. كما عشتُ لاحقا وانا أدرس في القسم الداخلي، معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية..
لازلت أذكر قسوة والدي في مرحلة من حياته، والتي تجاوزت الضرب إلى التعليق والطعن والشروع بإطلاق الرصاص..
تمردت على أبي، وسلطته المفرطة.. قاومت أكثر من ظلم أثقل كاهلي.. كنت أشعر أن الظلم العنيف يفترسني ويهرس عظامي.. رأيت الموت أكثر من مرة، وتحديت الأقدار، وثرت في وجهها بألف سؤال.. فكرت باقتحام الموت واستيفاء الأجل، ولم أعب بجهنم وبأقوال أمي إن المنتحر يذهب إلى النار.
بلغ شعوري بالظلم حد أرى فيها الحياة والموت سيان.. حاولت الانتحار احتجاجا على واقع مُر، وكرامة بدت لي مهدرة، غير أن العدول عن هذه الحماقة كان فيه انتصار للحياة والحب والإنسان.
كان لدى أبي سياسة خاطئة في التربية، تختلف عمّا هي موجودة لدى الناس، أو متعارف عليها بينهم.. كانت سياسته تستند إلى الشدة والقسوة والعنف، بل وأعتبرها مجرّبة ونتائجها أكيدة، وغير قابلة للنقاش أو الملاحظة، فضلا عن إعادة النظر، ولاسيما إنه طبق بعض منها على أخي علي ، وكانت النتيجة كما راءها قد أتت على ما أراد وأشتهى، فتشرف به، واعتز باسمه وبأنه ابنه..
كان أبي يضربني كثيرا.. ضرب يومي لا عد له ولا حصر.. ضرب يومي يبدأ مع الفجر ولا ينتهي في العاشرة من الليالي الداجنات.. أن يتم ضربي كثيرا بات أمرا طبيعيا ولا يثير عجب أو سؤال.. ولكن الغير طبيعي والعجب أنه يضربني في يومي أقل من ثلاث مرات.. إن حدث مثل هذا فهو بالنسبة لي يوم مائز ومختلف.. لو حصل وضربني أقل من ثلاث مرات، فيعني لي إنه يوم عيد، لربما لا يعاد إلا في العام الذي يليه.. يوم كهذا يستحق مني الاحتفال.
عشت الواقع بكل مراراته وقسوته.. كنت أشعر بإهانة بالغة ومهانة لا تطاق.. رفضت أن أعتاد الأمر أو أتصالح معه، وكنت أعبّر عن رفضي بحالات تمرد كثيرة، بعضها كان عابراً للموت والمجهول، أو يكاد يكون الحال كذلك في بعض الأحيان..
كان هذا الضرب يحدث غالبا أمام مشهد من الناس، وكان بعض هذا الضرب يتم بالحذاء.. كنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني.. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي وما جرى من أبي.. كنت حديثهم اليومي الذي يقتاتون عليه، أو هذا ما أخاله.. كنت أشعر أن الإهانة تسحق عظامي.. كنت أبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصاب.
ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر، وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين، ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً، وهي الانتصار للمقموعين والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح.. أدافع عن الضحايا بتفاني، ولو كلفني حياتي مرتين، أو هذا ما أخاله وأظنه..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(2)
قصتي مع المرآة
حالما كان عمري بحدود الخمس سنوات كانت أمي تحذرني، بل و تقمعني أحيانا للحيلولة دون المكوث طويلا أمام المرآة، ربما هذا القمع هو من دفع طفولتي إلى الفضول، وحب الاستكشاف، والاستمتاع بما أجهله، وكأن طفولتي كانت تريد أن تعرف تفاصيل نفسها في المرآة التي ربما تبدو عالما قائما بذاته؛ عالم المرآة يثير العجب والأسئلة!! وأنا أريد أن اكتشف عوالمي من خلال هذه المرآة، التي صارت في متناول يدي؟!
كيف يبدو وجهي أمام الناس؟!! أريد من المرآة أن تحكي لي ذلك وبوضوح وبأدق التفاصيل.. الآن لا يوجد أحد في حضرتي غير المرآة وخلوتي.. هذا ما يجب اغتنامه، ولا أهدر لحظة منه.. الفضول هو شغف المعرفة، والمنع أعطى للمعرفة قيمة، واستحثاث لحوح للاكتشاف..
اليوم وعمري يشارف الستين أحاول أن أمنطق وجها من طفولتي التي كانت لازالت في حدود عمر الخمس سنين.. وبين هذا العمر وذاك عوالم وأحداث وتفاصيل أشعر أنها من الكثرة لا تتسع لها مجرّة.. وبين الطفولة والكهولة التي أقترب منها رويدا، مدى قطعته كالمسافة من السديم إلى الوجود الكثيف، نحو الكهولة والتلاشي..
كنت أحملق في وجهي بالمرآة.. أريد أن أحفظ تفاصيل وجهي عن ظهر قلب، وعلى نحو أستطيع تخيله في أي وقت أريد، وفي أي حال وهيئة أكون فيها.. أريد أن أطيل النظر العميق لأرى شيئا لا أستطيع رؤيته إلا في المرآة .. ولطالما تمنيت أن يكون الخالق قد خلق لنا عينا ثالثة بمكان ما في أجسادنا، نستطيع من خلالها في أي وقت أن نرى وجوهنا وكل الجسد بيسر وسهولة..
عندما وجدت الخلوة و الفراغ و الوقت الكافي لإشباع رغبتي، حدث لي شيئا غ
ريبا لازلت أذكره إلى اليوم.. كنت في الحجرة العليا بدارنا القديم، والذي صار اليوم مهجورا .. كانت الحجرة مسقوف نصفها، و نصفها بدون سقف.. تلك الحجرة نسميها “البرادة”، كان مفرج الدار يتكئ في أحدى زواياها في نصفها المكشوف .. وتبدو تلك الحجرة مؤنسه، وتمنح بعض الشعور بالراحة، أكثر من أي مكان آخر في الدار.
أذكر أن تلك المرآة كانت بمساحة وجهي، أو أكبر من مساحته بقليل.. مستطيلة الشكل في إطار أنيق.. بدت لي الخلوة مع المرآة ستكون ممتعة وسعيدة.. لا أحد معي في الحجرة غيرها.. نحن بقلتنا كثير.. عوالمي التي تخصني، وعالم المرآة القائم بذاته.. لا أذكر تحديدا أين كانت أمي وخالتي وقاطني الدار.. أغلب الظن أنهم كانوا منشغلين في أماكن أخرى من الدار أو خارجه.. الأكيد أنني استغليت غفلة أهلي واستفردت بنفسي مع المرآة.. أريد ضمن ما أريده أن استمتع بخلوتي وبالمرآة التي بحوزتي أكثر وقت متاح وممكن..
كنت أشاهد صورتي في المرآة، وأقلّد حركات الوجوه.. أتجهم، وأتصنع الضحك والبكاء والغضب.. أزم شفتاي و أرخيها.. أغلظها وأخفي نصفها.. أقطب جبيني و أرخيه، واستعجب!! أخرج لساني إلى الأمام كمستفز محاسد، وأقلّبها في كل اتجاه.. أقطب حواجبي وأعقد شفتاي نحو اليمين ونحو اليسار.. أغمز وأحملق.. أفغر فاهي وأغلقه.. أجحض العينين وأضيّقها، وأحدج بها في كل اتجاه.. أهرّج مع نفسي أكثر من مهرّج.. أحاول اكتشف تفاصيل وجهي.. لو وقف ساعتها أحدهم على ما أفعله لأنفجر ضاحكا، و فجر بالضحك طابق الدار الذي كنت أختلي فيه..
بغته ومن غير مقدمات صدمني ما شاهدته في المرآة .. بدا وجهي قد اختطف واستبدل بوجه آخر.. لم يعد الذي في المرآة وجهي الذي أشاهده.. شاهدت وجه غير وجهي يملأ وجه المرآة .. وجه شديد القبح لعجوز شمطاء، بتجاعيد عميقة وكثيرة، كخريطة طبوغرافية معقدة التضاريس وشديدة الانحدارات.. وجه ألقى ي نفسي الرعب والزلزلة، و حفر في ذاكرتي تفاصيله إلى اليوم.. لا استطيع نسيانه ما حييت.. وجه مدرج بالتجاعيد العميقة والمتزاحمة كمدرجات الجبل.. وجه صارم وجهوم ومخيف.. يصعقك بالصدمة والفزع والرعب..
كدت أصرخ.. رميت من يدي المرآة بسرعة الفزع.. خرجت مرعوبا وبسرعة من الحجرة إلى السطح المكشوف المجاور.. خرجت إلى جوار “غرب” الماء المقطرن.. كاد قلبي يقفز مذعورا من قفصي الصدري.. انتابني هلع شديد، كدت معه أفقد عقلي.. تذكرت على إثرها تحذيرات أمي التي كانت تنصحني دوما على عدم إطالة مشاهدة صورتي في المرآة..
الحقيقة لا أدري من أين جاءت أمي بهذه النصيحة..؟! لعلها سمعت بحدوث أشياء مشابهة لما حدث لي؛ كأنها أخبرتني عن فتاة حدث لها مثل هذا الذي حدث لي ولم أكترث.. كنت محظوظا، فيما الفتاة كما قيل لي طار عقلها.. لعل نصيحتها جاء على هكذا مبنى أو سماع .. تجربة بالنسبة لي أقل ما يمكن أن توصف بالمخيفة..
أخبرتني أمي إن ما شاهدته في المرآة هي جنّية، وكدت أجن مما حدث، وكان الجنون أكيد إن أطلت المشاهدة برهة زمن.. وبعد أيام من القطيعة مع المرآة، وبدافع الفضول والتأكد عمّا إذا كنت أستطيع أن أشاهد صورتي في المرآة مرة أخرى أم ستكون القطيعة مع المرآة إلى الأبد.. عدت لأشاهد صورتي بحضور أمي، وكنت أختلس النظر إلى المرآة خلسة وبحذر شديد، لأشاهد ملمح صورتي فيها، فوجدتها أنها صورتي بالفعل، وليست صورة العجوز، أطمأنت إنني بخير، وإن الدنيا وأنا لا زالنا بسلام..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(3)
فاتحة وصلاة وسفينة
أريد "سفينة النجاة".. سفينة الرب إلى ما يريد ويرضى ويطيب.. أريد أن أصلّي.. أريد أن أدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد.. لا حزن هناك ولا موت.. لا جوع فيها ولا عوز.. أريد الجنة وما فيها من تعويض لحرمان، ضاق معه العيش، وأشتد فيه النكد.. أريد الجنة بما فيها من حياة أبدية لا مثيل لها ولا نظير.. كنت اطيل استفسار أمي، وهي تحكي عن الجنة وتطيل، وتشرح ما يجذب ويغري ويفيض..
أريد "سفينة النجاة" التي تعلّمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة.. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، وتشوقت له كثيرا، ومرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بواحد منها.. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، ويُرجئها من شهر إلى آخر، وبعد انتظار طال، ووعود كثيرة خابت، أوفى والدي بآخر وعد له، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله..
عندما ناولني أبي "سفينة النجاة" كانت دهشتي أكبر من عالمي، وكانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي.. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب..
قلبي عامر بالفرح.. يرقص ويغني ويطير كفراشة.. وأنا أعيش الدهشة بكل المعاني، وأردد محفوظاتي الطرية:
“أنا طفل بطل شاطر*** وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر*** وأدعو الله يهديني”
ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وأنكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..
“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث
أذكر أن تلك المرآة كانت بمساحة وجهي، أو أكبر من مساحته بقليل.. مستطيلة الشكل في إطار أنيق.. بدت لي الخلوة مع المرآة ستكون ممتعة وسعيدة.. لا أحد معي في الحجرة غيرها.. نحن بقلتنا كثير.. عوالمي التي تخصني، وعالم المرآة القائم بذاته.. لا أذكر تحديدا أين كانت أمي وخالتي وقاطني الدار.. أغلب الظن أنهم كانوا منشغلين في أماكن أخرى من الدار أو خارجه.. الأكيد أنني استغليت غفلة أهلي واستفردت بنفسي مع المرآة.. أريد ضمن ما أريده أن استمتع بخلوتي وبالمرآة التي بحوزتي أكثر وقت متاح وممكن..
كنت أشاهد صورتي في المرآة، وأقلّد حركات الوجوه.. أتجهم، وأتصنع الضحك والبكاء والغضب.. أزم شفتاي و أرخيها.. أغلظها وأخفي نصفها.. أقطب جبيني و أرخيه، واستعجب!! أخرج لساني إلى الأمام كمستفز محاسد، وأقلّبها في كل اتجاه.. أقطب حواجبي وأعقد شفتاي نحو اليمين ونحو اليسار.. أغمز وأحملق.. أفغر فاهي وأغلقه.. أجحض العينين وأضيّقها، وأحدج بها في كل اتجاه.. أهرّج مع نفسي أكثر من مهرّج.. أحاول اكتشف تفاصيل وجهي.. لو وقف ساعتها أحدهم على ما أفعله لأنفجر ضاحكا، و فجر بالضحك طابق الدار الذي كنت أختلي فيه..
بغته ومن غير مقدمات صدمني ما شاهدته في المرآة .. بدا وجهي قد اختطف واستبدل بوجه آخر.. لم يعد الذي في المرآة وجهي الذي أشاهده.. شاهدت وجه غير وجهي يملأ وجه المرآة .. وجه شديد القبح لعجوز شمطاء، بتجاعيد عميقة وكثيرة، كخريطة طبوغرافية معقدة التضاريس وشديدة الانحدارات.. وجه ألقى ي نفسي الرعب والزلزلة، و حفر في ذاكرتي تفاصيله إلى اليوم.. لا استطيع نسيانه ما حييت.. وجه مدرج بالتجاعيد العميقة والمتزاحمة كمدرجات الجبل.. وجه صارم وجهوم ومخيف.. يصعقك بالصدمة والفزع والرعب..
كدت أصرخ.. رميت من يدي المرآة بسرعة الفزع.. خرجت مرعوبا وبسرعة من الحجرة إلى السطح المكشوف المجاور.. خرجت إلى جوار “غرب” الماء المقطرن.. كاد قلبي يقفز مذعورا من قفصي الصدري.. انتابني هلع شديد، كدت معه أفقد عقلي.. تذكرت على إثرها تحذيرات أمي التي كانت تنصحني دوما على عدم إطالة مشاهدة صورتي في المرآة..
الحقيقة لا أدري من أين جاءت أمي بهذه النصيحة..؟! لعلها سمعت بحدوث أشياء مشابهة لما حدث لي؛ كأنها أخبرتني عن فتاة حدث لها مثل هذا الذي حدث لي ولم أكترث.. كنت محظوظا، فيما الفتاة كما قيل لي طار عقلها.. لعل نصيحتها جاء على هكذا مبنى أو سماع .. تجربة بالنسبة لي أقل ما يمكن أن توصف بالمخيفة..
أخبرتني أمي إن ما شاهدته في المرآة هي جنّية، وكدت أجن مما حدث، وكان الجنون أكيد إن أطلت المشاهدة برهة زمن.. وبعد أيام من القطيعة مع المرآة، وبدافع الفضول والتأكد عمّا إذا كنت أستطيع أن أشاهد صورتي في المرآة مرة أخرى أم ستكون القطيعة مع المرآة إلى الأبد.. عدت لأشاهد صورتي بحضور أمي، وكنت أختلس النظر إلى المرآة خلسة وبحذر شديد، لأشاهد ملمح صورتي فيها، فوجدتها أنها صورتي بالفعل، وليست صورة العجوز، أطمأنت إنني بخير، وإن الدنيا وأنا لا زالنا بسلام..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(3)
فاتحة وصلاة وسفينة
أريد "سفينة النجاة".. سفينة الرب إلى ما يريد ويرضى ويطيب.. أريد أن أصلّي.. أريد أن أدخل الجنة وأخلد فيها إلى الأبد.. لا حزن هناك ولا موت.. لا جوع فيها ولا عوز.. أريد الجنة وما فيها من تعويض لحرمان، ضاق معه العيش، وأشتد فيه النكد.. أريد الجنة بما فيها من حياة أبدية لا مثيل لها ولا نظير.. كنت اطيل استفسار أمي، وهي تحكي عن الجنة وتطيل، وتشرح ما يجذب ويغري ويفيض..
أريد "سفينة النجاة" التي تعلّمني الوضوء والصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة وآسرة.. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، وتشوقت له كثيرا، ومرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بواحد منها.. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، ويُرجئها من شهر إلى آخر، وبعد انتظار طال، ووعود كثيرة خابت، أوفى والدي بآخر وعد له، وبديت يومها كأنني ملكت الكون كله..
عندما ناولني أبي "سفينة النجاة" كانت دهشتي أكبر من عالمي، وكانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي.. سعادة تتسع لكل صلاة، وتغيث ألف ملهوف، وتنجي كل تائب..
قلبي عامر بالفرح.. يرقص ويغني ويطير كفراشة.. وأنا أعيش الدهشة بكل المعاني، وأردد محفوظاتي الطرية:
“أنا طفل بطل شاطر*** وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر*** وأدعو الله يهديني”
ولكن قُتل الفرح في ذروته، وتلاشت السعادة، وأنكمش المدى، وقطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، وتبدل الحال إلى تعاسة وجود، وضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..
“علموهم على سبع واضربوهم على عشر” هذا الحديث
الذي لا أدري ما مدى صحته وموثوقيته، أشقاني، ونال مني الكثير، حتى أنني وقد قاربت الستين، لم أحسن ما ضُربت لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير..
خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة.. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي وحذائه، فطيّر عقلي وطار صوابه، ووجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها الضباع والسباع.. تهدج صوتي، وأضطرب تفكيري كبحر وعاصفة.. أتشتت روحي كنثار رمل في الريح، وتطايرتُ كشرر نار الحديد تحت مطرقة الحداد..
أنساني التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون مواسم، وتتساقط بعض الكلمات من فمي، فألمّ بعضها ويتساقط أخرى أكثر منها.. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..
يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، وتتداخل الألوان ببعضها، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا يعرف، ولا يعرف سامعه ماذا أقول..
ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة الجحيم، في روحي المهشمة وأجنحتي المتكسرة..
أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت ألتّها وأفتّها إلى يوم القيامة.. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي في قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في "كريتر" عدن.
أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة أيضا مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، وتعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبي، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن..
ثم ترك أخي عدن، وولّى هاربا من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح .. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: "سجل 16 سنة".. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عام..
غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..
فيما قصتي مع "سفينة النجاة" يشابه ما حدث لسفينة "تيتانيك".. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، و"الرب خير حامي وحارس"..
"سفينة النجاة"، وجدتها، ولكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدت خيبتي التي تبتلع المحيط.. وسفينة "تيتانيك" التي ساد الاعتقاد يومها إنها ضد الغرق، غرقت في قاع المحيط..
"تيتانيك" بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق للمحيط ، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم..
فيما خالتي "سعيدة" أم علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها "الفاتحة" أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..
خالتي "سعيدة" كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..
..................................
(4)
رعي للغنم والعنزة "بيرق"
رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا حالما يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية ربما قل مثيلها.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة من الزهور، تملؤوا عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل لا تُنسى، بل أثبتت خمسون سنة مضت، إنها عصية على التلاشي ما حييت، ولا يدركها غروب أو نسيان..
ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لم أنسها إلى اليوم، رغم مرور نصف قرن من عمر حافل ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لن أنساها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، أو صعدتُ علوا منها إلى سطح القمر..
ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..
لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أ
خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة.. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب.. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي وحذائه، فطيّر عقلي وطار صوابه، ووجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها الضباع والسباع.. تهدج صوتي، وأضطرب تفكيري كبحر وعاصفة.. أتشتت روحي كنثار رمل في الريح، وتطايرتُ كشرر نار الحديد تحت مطرقة الحداد..
أنساني التشكيل والضبط والوقفات، وانهمرت دموعي بغزارة دون مواسم، وتتساقط بعض الكلمات من فمي، فألمّ بعضها ويتساقط أخرى أكثر منها.. ومع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، ولم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..
يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب والصفع، فيتلاشى لدي التمييز، وتتداخل الألوان ببعضها، وأرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أفقه ولا أفهم ما أقول، وكأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا يعرف، ولا يعرف سامعه ماذا أقول..
ويرتفع ضغط أبي، وأنضغط تحته كقرطاس، ولم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ والمكتظ بها، وقد سدت منافسي ومجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة الجحيم، في روحي المهشمة وأجنحتي المتكسرة..
أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، وإن ظللت ألتّها وأفتّها إلى يوم القيامة.. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني وأخطائي في قراءتها، وبديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في "كريتر" عدن.
أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة أيضا مع أبي والصلاة، حالما كانا معا في عدن، وتعدّى تمرد أخي على الصلاة وعلى أبي، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه وهو يؤذن..
ثم ترك أخي عدن، وولّى هاربا من أبي ومن الصلاة ومن المؤذن إلى صنعاء، وكان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، وعندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح .. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة.. فرد عليه أخي: "سجل 16 سنة".. فقهقه الضابط المصري، وسجل أن عمر أخي 16 عام..
غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..
فيما قصتي مع "سفينة النجاة" يشابه ما حدث لسفينة "تيتانيك".. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية وأمان ومعايير السلامة، وسفينتي كان فيها ما هو أوثق وأعظم، و"الرب خير حامي وحارس"..
"سفينة النجاة"، وجدتها، ولكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدت خيبتي التي تبتلع المحيط.. وسفينة "تيتانيك" التي ساد الاعتقاد يومها إنها ضد الغرق، غرقت في قاع المحيط..
"تيتانيك" بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق للمحيط ، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا وسفينتي إلى قاع الجحيم..
فيما خالتي "سعيدة" أم علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، ولمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها "الفاتحة" أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من سور وآيات القرآن، وتكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..
خالتي "سعيدة" كانت تقيّة وصالحة العمل والمعاملة، وقلبها عامر بالإيمان، وتعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، وهم يسرقون ويفسدون وينهبون، ويقتلون الأوطان ومعها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..
..................................
(4)
رعي للغنم والعنزة "بيرق"
رعيتُ الغنم، وكنت يومها حدثا غُر، أو لازالت طفلا حالما يتلمس بأصابعه الندية عتبات الحياة.. ولي مع الأغنام حكايات كثيرة، وعلاقات حميمية ربما قل مثيلها.. كانت لأغنام أمي وأبي في وجداني مملكة من الزهور، تملؤوا عالمي الصغير.. ذكريات وتفاصيل لا تُنسى، بل أثبتت خمسون سنة مضت، إنها عصية على التلاشي ما حييت، ولا يدركها غروب أو نسيان..
ذكرياتي مع الغنم التي رعيتها لم أنسها إلى اليوم، رغم مرور نصف قرن من عمر حافل ومزدحم بكل شيء.. ذكريات ومشاهد وصور وتفاصيل لن أنساها حتى وإن بعدت مني إلى الأقاصِ، أو صعدتُ علوا منها إلى سطح القمر..
ربما تجد في بعض تفاصيل حياتك مفارقات عجيبة، تجعل من يسمعك ينكر عليك وجودها.. ولكنها الحقيقة التي تستغرقك أحيانا بالعجب، أو نجدها ماثلة أمامنا في منتصف الطريق، تقول لنا تمهل.. أمامك منحدر..
لازلت أذكر إلى اليوم أسماء الغنم التي رعيتهن ـ خلال مراحل مختلفة ـ لازلت أ
ذكر أشكالهن وحكايتهن وكثير من التفاصيل.. أذكر "حجب" و"بيرق" و"خرص" و"عنب" و"شمار" و"غبراء" و"خضاب" و"فرح" و"مرش" و"سواد" و"حلق" و"حنّا" و"حمراء" و"نشم" و"بحرية" و"قدرية"..
كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!! لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها، وعدم بعدها عن اليوم بمرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد لازال غير بعيد..
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في "الأنترفيو"عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ وأفتُّ فيها وأذكرها مرتين..
فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منّا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين ونحوهم..
لازلت أذكر العنزة "حجب" اللبون، وجسمها الضخم والممتلئ، والمنحدر أصلخا من سلالة هندية عريقة.. "حجب" التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم عين وماتت، أو هكذا قيل..
لازلت أذكر "خرص" أم "بيرق"، وتمرد "عنب" و"حِنّا" اللاتي ينطبق عليهن مثل "أينما غلّسه باتت"، ونشم "الذكية"، وسواد الطيبة، و"مرش" النافرة، و"قدرية" و"بحرية" أغنام أمي المساكين..
أذكر العنزة "خرص" التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن "خرص" "بيرق" قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي..
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا " أما أنا فعشقت "بيرق" قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..
عشقت "بيرق" وهي لازالت ببطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر موسم البذار، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة يوم عيده، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..
خرجت "بيرق" من بطن أمها إلى فسحة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الكون والوجود.. شبت "بيرق" الجرعاء من دون قرون.. "بيرق" لا تحب الحروب.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بياضها كبياض الجليد.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد..
ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما على يوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت "بيرق" تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصور، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..
ربما "بيرق" لا تصلي ولا تنافق، ولكن لها من العفة ما تسقي بلاد وأهلها بالماء الطهور.. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا والشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم والعقاقير.. تنمو بمهل، وليس بسرعة الفساد في دويلات ومقاطعات مليشيات أمراء الحروب.. تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش حمام وحرير، ولا تصنع الفن من نقيق الضفادع..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(5)
ممنوع اللعب..
كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته.. تكسّر أجنحتي، وتطيح بجمجمتي.. تُهشّم أضلاعي حتى تختلط ببعض؛ فتبدو البشاعة مرعبة في وجه طفولتي المتعبة، ويتجهم الواقع في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه، في أن ألعب وألهو وأفرح، مثل غيري من الاطفال..
تبتلع الحسرة وجودي الحقيقي الذي أحبه، وكلما يشعرني إن الحياة لا تزال رائعة، وأنها تستحق أن نعيشها، فيما تترك بقاياي كعصف مأكول.. ومعها كثير من الحزن والألم والغصص..
كنت أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون ويعيشون حياة لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو، مقموع بالأوامر الصارمة، وبسلطة تشبه القدر الذي لا رد له..
كنت استغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرد عنه، وأنغمس في اللعب حتى الاذنين، ولكنه كان انغماسا لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلا قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي.. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصر
كم هي الذاكرة غنية ببعض التفاصيل، وكم أحيانا تضيق حتى لا تتسع لمعرفة عمر ابنك!! لازالت الذاكرة تتوقد بتفاصيل خلت قبل خمسين عام.. وبعضها باتت مُظلمة وعصية على التذكر رغم حداثة عهدها، وعدم بعدها عن اليوم بمرمى حجر.. أذكر تفاصيل الطفولة من خمسين عام، وتخونني نفس الذاكرة في عهد لازال غير بعيد..
في عام 2009 عندما سألني قاضي الهجرة واللجوء السويسري، في "الأنترفيو"عن أسماء أبنائي وأعمارهم، أربكني السؤال بما يفترض أن يكون جوابه بديهي ومعلوم.. أفشل في ذكر أسماء أولادي السبعة، وأشعر أن بعضها يطير كالشوارد، فأعيدها، وتهرب أخرى من يدي كالعصافير، ويسقط بعضها للأرض دون أن أسمع لصوتها وقع أو طنين، وبعضها ألتُّ وأفتُّ فيها وأذكرها مرتين..
فشلت أكثر في تحديد عمر أي واحد منهم، وسط ذهول القاضي، والذي شبهنا بمزرعة أرانب، حينما لجأت إلى حيلة تسلسهم بفارق عام بين كل واحد وآخر.. فيما المترجم الفلسطيني كان يتفرس في وجهي، وهو يشير إلى أن وجهي يشبه وجه الرئيس صالح، وما رأيت واحدا منّا لديه من شبهه أربعين.. ولكنني أدركت أننا اليمنيين أيضا متشابهين في نظر البعاد، مثلنا مثل الكوريين والصينيين ونحوهم..
لازلت أذكر العنزة "حجب" اللبون، وجسمها الضخم والممتلئ، والمنحدر أصلخا من سلالة هندية عريقة.. "حجب" التي كان أبي إذا دعاها، وهي رأس الجبل، تكب نفسها إليه كبا وهرولة؛ فأصابتها ذات يوم عين وماتت، أو هكذا قيل..
لازلت أذكر "خرص" أم "بيرق"، وتمرد "عنب" و"حِنّا" اللاتي ينطبق عليهن مثل "أينما غلّسه باتت"، ونشم "الذكية"، وسواد الطيبة، و"مرش" النافرة، و"قدرية" و"بحرية" أغنام أمي المساكين..
أذكر العنزة "خرص" التي أعطتني أمي ما في بطنها، نظير اهتمامي بأغنام العائلة، وبذلي ما في الوسع من جهد في رعيها.. فأسميت ما في بطن "خرص" "بيرق" قبل أن تلدها أمها، وكانت أول ملكية تدخل في ذمتي..
قال الشاعر الكفيف بشار بن برد في مطلع إحدى قصائده: «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا " أما أنا فعشقت "بيرق" قبل أن أراها، وقبل أن أسمع صوتها، بل وقبل أن تلدها أمها.. لقد كان عشق آسر وأخاذ، من طفل يريد أن يكون لحلمه وجود يتسع له ولعشقه الكبير..
عشقت "بيرق" وهي لازالت ببطن أمها، في طور التكوين، تنمو وتكبر رويدا رويدا، وأنا أرقب بطن أمها المنتفخ كل يوم، كفلاح ينتظر موسم البذار، أو كطفل يرقب طلوع الفجر ليلة يوم عيده، وهو يستعجل غبشه، ليبتهج، ويلبس الجديد، ويطلق للفرح فضائه وأعنته..
خرجت "بيرق" من بطن أمها إلى فسحة الكون بهية كالصباح النّدي.. جميلة كالعين الدعجاء سوادا وبياضا.. غمرني ميلادها بفرحة لا يتسع لها الكون والوجود.. شبت "بيرق" الجرعاء من دون قرون.. "بيرق" لا تحب الحروب.. لا تغريها فتوّة أو عرض عسكري.. مسالمة كالحمام.. بياضها كبياض الجليد.. وعندما تحزن يكون سواد حزنها كسواد ثوب الحِداد..
ظللت أربيها وأحيطها بالعناية.. أهتم بها يوما على يوم.. كسبتها من جهدي المثابر، وسقيتها من عرق الجبين.. ليس فيها شبهة ملك لآخر، ولا فساد يشوبها، ولا تقوى برأس شيطان.. كل يوم كانت "بيرق" تكبر وتشب، ولكنها لم تحرق مرحلة، ولم تعدنا إلى عصر الدينصور، ولم تمد يدها لقاتل، ولم تسرق شعب يعاني، ولم تأخذ حق معوز ومحتاج..
ربما "بيرق" لا تصلي ولا تنافق، ولكن لها من العفة ما تسقي بلاد وأهلها بالماء الطهور.. تشب كما أرادها الله دون أن تتعسف أيامنا والشهور، أو تستخدم في تكبيرها السم والعقاقير.. تنمو بمهل، وليس بسرعة الفساد في دويلات ومقاطعات مليشيات أمراء الحروب.. تقسط القول دون أن تفتري أو تدّعي، أو تجعل من ظهر الجندب ريش حمام وحرير، ولا تصنع الفن من نقيق الضفادع..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(5)
ممنوع اللعب..
كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته.. تكسّر أجنحتي، وتطيح بجمجمتي.. تُهشّم أضلاعي حتى تختلط ببعض؛ فتبدو البشاعة مرعبة في وجه طفولتي المتعبة، ويتجهم الواقع في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه، في أن ألعب وألهو وأفرح، مثل غيري من الاطفال..
تبتلع الحسرة وجودي الحقيقي الذي أحبه، وكلما يشعرني إن الحياة لا تزال رائعة، وأنها تستحق أن نعيشها، فيما تترك بقاياي كعصف مأكول.. ومعها كثير من الحزن والألم والغصص..
كنت أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون ويعيشون حياة لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو، مقموع بالأوامر الصارمة، وبسلطة تشبه القدر الذي لا رد له..
كنت استغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرد عنه، وأنغمس في اللعب حتى الاذنين، ولكنه كان انغماسا لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلا قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي.. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصر
ي الإجابة عليها بمسمّى ومبرر العيب؟! كنت أسأل عن وجودي، وكيف خرجت من بطنها إلى واجهة الكون، ومن أي منفذ خرجت بالتحديد؟! وعندما تولد أمي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته.. فيما كانت أمي في البداية تجيبيني وهي تضحك أننا خرجنا من ركبتها.. ثم تثير فضولي أكثر وأسألها كيف؟! والمولود أكبر من ركبتها؛ فأحتار وأتسأل أكثر!!
بدت لي إجابة أمي على السؤال غير مقنعة ولم تمنحنِ الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، وظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدت أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رض أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. فركبتها سليمة ومعافاة، ولا أثر لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني كحمار وحشي، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي الخاطئة، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..
كنت أسمع ولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي أكثر من المكان الذي أقف فيه، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، وأُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
وبعد حين من الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى، حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بما أجابت.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..
وبعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، وشعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا وإخوتي من فمها.. ولكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج مولود أكبر منه!! ولماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!
لطالما أتعبتني تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة، والمتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عني، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالضحك أحيانا، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..
عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام.. واكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، وبحد يجب أن لا نستسهله..
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(7)
أسئلة تتناسل كالضوء
وأنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب وفرح واستراحة وسعادة.. وهو يراني في كل حال.. وأتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، ولا يتركاني حتى عند الدخول إلى الحمام لقضاء حا
بدت لي إجابة أمي على السؤال غير مقنعة ولم تمنحنِ الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، وظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدت أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رض أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. فركبتها سليمة ومعافاة، ولا أثر لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني كحمار وحشي، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي الخاطئة، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..
كنت أسمع ولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي أكثر من المكان الذي أقف فيه، للحيلولة دون أن يصل إلى مسامعي صوتها المعذّب بالولادة، وأُمنع من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي الآن تلد، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
وبعد حين من الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى، حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بما أجابت.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..
وبعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، وشعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا وإخوتي من فمها.. ولكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج مولود أكبر منه!! ولماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!
لطالما أتعبتني تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة، والمتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عني، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالضحك أحيانا، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..
عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام.. واكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، وبحد يجب أن لا نستسهله..
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(7)
أسئلة تتناسل كالضوء
وأنا طفل كنت أتخيل الله بحسب الحال الذي هو فيه من غضب وفرح واستراحة وسعادة.. وهو يراني في كل حال.. وأتخيل الملكان يرافقانني في كل الأوقات، ولا يتركاني حتى عند الدخول إلى الحمام لقضاء حا
خ في مناداتي، فما أن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل ودفعة واحدة، لا قسط ولا تأخير فيه، على تمردي القليل عن طاعته، والشارد عن سلطته وولايته..
كنت استغل أحيانا ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، وألهو وألعب دون أن أمل أو أتعب، فيما كانت جدتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها، حبيسة بيتها رأس الجبل ومفرجها المطل على الوادي، وما أن ترى أبي في بداية الوادي عائدا إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولا إلى بيتنا، وأبدوا في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والدة في عدم الخروج واللعب في غيابه.. هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب والتخفي والتمرد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحملتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبّر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم..
كنت أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بالمحبة والرجاء، فيما كنت أنا أمضغ جروحي، وأختنق بالعبر، وأُذبح بغصص كالسكاكين.
كنت أسأل ربي: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقنِ هذا الرب في مكان آخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمي معي، فلا قدرة لي على فراقها..
كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ولين، بل وتقدير أيضا وكأنهم كبار في عمر آباؤهم؟!.
كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي سببه” وكانت الفكرة لدى أبي في التربية "الضرب يشحط” ويجعل الرجال أفذاذا.. كان أبي يعتقد أنها تربية مجربة، وقد أتت أُكلها من قبل، وبما رام وأرتجى..
أنا وأبي – ربما – كل منا كان يقرأ الأمور بطريقته، وكل منّا يرى الحق معه.. ورغم تمردي لم أفكر يوما أن أسجل بطولة عليه، بل ربما التمس له العذر أيضا.. إن الواقع مر، والاستلاب فاحش، والتنشئة مشوَّهة، والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.
ربما من أسباب التضييق على حياتي من قبل أبي، ترجع في بعضها إلى كونه يعيش زحمة مشاغل وتوتر ومسؤوليات تفوق طاقته وطاقة أمي.. كانت المشقات والمسؤوليات كثار.. دكان، وبيع وشراء على مدار النهار وحتى مدخل الليل بحين، ورعاية أخواني الصغار تحتاج أيضا لكثير من الاهتمام، وصناعة الحلاوة وبيعها، وفلاحة الأرض، وتعدد الأعمال بها بحسب المواسم، من الذري إلى الحصاد، وكذا لا أنسي وجود مواشي لنا، بقرة وحمار وثور وأغنام، ومسؤوليات وتفاصيل كثيرة، تثقل كاهل أبي وأمي المتعبين..
كانا يغرقان في العمل كثيرا، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلا.. كنت أعلم أنهم مثقلين بالكثير من المهام وتفاصيل الحياة اليومية تلك، وكنت أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليل، أو غير متاح، وأحايين كثيرة أجد فرمانا عثمانيا من بابه العالي فعالا يقول "ممنوع اللعب" فيكون مني الالتزام، ويكون مني التمرد أيضا، مهما كانت كلفته..
ورغم كل شيء، كنت أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموت بسبب.. هو أيضا كان يحبني، وربما يرى ما يفعله هو لصالحي وبدافع الحب أيضا.. وربما خرج كلانا في ذروة الغضب قليلا عن هذا وذاك..
كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا لازلت صغيرا لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(6)
من أين ولدتّ يا ماما؟!!
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في الغموض الشديد، ومُستصعب فهم أبجدياته، بل وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول ملامسة أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، محفزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة والمتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي أغرق في بحر من الحيرة التي لا تهدأ ولا تستكين، بسبب عدم رضائي واقتناعي بإجابات تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
لقد كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب ف
كنت استغل أحيانا ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، وألهو وألعب دون أن أمل أو أتعب، فيما كانت جدتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها، حبيسة بيتها رأس الجبل ومفرجها المطل على الوادي، وما أن ترى أبي في بداية الوادي عائدا إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولا إلى بيتنا، وأبدوا في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والدة في عدم الخروج واللعب في غيابه.. هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب والتخفي والتمرد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحملتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبّر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم..
كنت أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بالمحبة والرجاء، فيما كنت أنا أمضغ جروحي، وأختنق بالعبر، وأُذبح بغصص كالسكاكين.
كنت أسأل ربي: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقنِ هذا الرب في مكان آخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمي معي، فلا قدرة لي على فراقها..
كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ولين، بل وتقدير أيضا وكأنهم كبار في عمر آباؤهم؟!.
كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي سببه” وكانت الفكرة لدى أبي في التربية "الضرب يشحط” ويجعل الرجال أفذاذا.. كان أبي يعتقد أنها تربية مجربة، وقد أتت أُكلها من قبل، وبما رام وأرتجى..
أنا وأبي – ربما – كل منا كان يقرأ الأمور بطريقته، وكل منّا يرى الحق معه.. ورغم تمردي لم أفكر يوما أن أسجل بطولة عليه، بل ربما التمس له العذر أيضا.. إن الواقع مر، والاستلاب فاحش، والتنشئة مشوَّهة، والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.
ربما من أسباب التضييق على حياتي من قبل أبي، ترجع في بعضها إلى كونه يعيش زحمة مشاغل وتوتر ومسؤوليات تفوق طاقته وطاقة أمي.. كانت المشقات والمسؤوليات كثار.. دكان، وبيع وشراء على مدار النهار وحتى مدخل الليل بحين، ورعاية أخواني الصغار تحتاج أيضا لكثير من الاهتمام، وصناعة الحلاوة وبيعها، وفلاحة الأرض، وتعدد الأعمال بها بحسب المواسم، من الذري إلى الحصاد، وكذا لا أنسي وجود مواشي لنا، بقرة وحمار وثور وأغنام، ومسؤوليات وتفاصيل كثيرة، تثقل كاهل أبي وأمي المتعبين..
كانا يغرقان في العمل كثيرا، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلا.. كنت أعلم أنهم مثقلين بالكثير من المهام وتفاصيل الحياة اليومية تلك، وكنت أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليل، أو غير متاح، وأحايين كثيرة أجد فرمانا عثمانيا من بابه العالي فعالا يقول "ممنوع اللعب" فيكون مني الالتزام، ويكون مني التمرد أيضا، مهما كانت كلفته..
ورغم كل شيء، كنت أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموت بسبب.. هو أيضا كان يحبني، وربما يرى ما يفعله هو لصالحي وبدافع الحب أيضا.. وربما خرج كلانا في ذروة الغضب قليلا عن هذا وذاك..
كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا لازلت صغيرا لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(6)
من أين ولدتّ يا ماما؟!!
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في الغموض الشديد، ومُستصعب فهم أبجدياته، بل وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول ملامسة أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، محفزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة والمتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي أغرق في بحر من الحيرة التي لا تهدأ ولا تستكين، بسبب عدم رضائي واقتناعي بإجابات تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
لقد كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب ف
جتي..
كنت أسأل عن الله، وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وهو مستريح عليها ينظر إلينا ويتابع أفعالنا، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي.. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي وأنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.
كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.. أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، ولا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، ولكنني أتشكك بصحته، ويميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..
لأول وهلة تبدو بعض الأسئلة بسيطة، ولكنها تشبه السهل الممتنع.. وكانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف والهلع.
كانت بعض الأسئلة كبيرة، وربما صغيرة، ولكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار.. بعض الأسئلة كانت تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف الهلع، وتسارع بتحذيري الشديد، وبما هو مرعب ومهول، وتقمع سؤالي بشدة وصرامة..
طبعا تلك الأسئلة وما قبلها لم تكن بهذه الصيغ التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا وأكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر، وتتناسل كالضوء، تواجه بقمع وتعنيف وغياب جواب، أو جواب خطاء أو مغلوط لا استسيغ بلعه، أو أبلعه بصعوبة إلى حين.
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وظالم ومحتال وشرير؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..
أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد.. ولماذا أصلا نذبحه ونسفك دمه؟!
فتحكي لي أمي قصة اسماعيل ووالده إبراهيم عليه السلام..
أسأل: لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..
وتسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من دومها في لجة الليل البهيم.. كانت تصرخ وتستغيث بصوت مفجوع يفطر القلب.. صوت لم أسمع مثله من قبل.. كان أوجع من الموت وأكبر من مكبر الصوت، ولا مغيث ولا مجير.. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، وكأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها؟!
ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة الذي ربما يعادل صوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، وأخمد صوتها وأنفاسها إلى الأبد.. كدت يومها أن أحتج على الرب، وعلى هذه الحياة الكاسرة.. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد خمسين عام خلت.. لقد مزق صوتها سكون الليل، وقدح صوتها الصارخ بالشرر..
كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال.. وهكذا وجدت إن جواب أمي بات يفوق حتّى خيالي..
أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس شرار، وسمي ذلك السيل باسمه.. كنت أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة المعرفة بثوجان مشيا على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، والذي قيل أن السيل سحب حميد منه.. كنت أتخيل المشهد وأتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، ودفر السيل العنيف العرمرم..
أسأل: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، ومن هم أصغر مني.. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، ويرغمون بالموت على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنة.. والجنة فيها كل ما يطيب ويتمناه الإنسان، وإن أختي نور وسامية مع بنات الحور في الجنة، وإنهن سيشفعان لنا يوم القيامة..
كنت أسأل لماذا الموت أعور؟!
فتجيبني أمي: لأن نبي الله موسى فقع عينه..
كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه..
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، ولم أجد لها جوابا كاف وشاف.. كنت أسخط على من يستسهل الموت، ويهدر الحياة، وينتج العنف والقسوة، ويسوّغ الظلم ويبرره.
أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه ووحيه؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو؟! وكيف أوجد نفسه؟! وكيف كان الحال قبله؟! فلا ألاقي جوبا، بل أجد صدّا وغضبا يشتد، وزجر يمنعني من السؤال ثانية.. ولكن تظل الاسئلة تجوس داخلي، ولا تهدأ ولا تتعب..
قبل أن أعرف معنى الزواج، كنت أعرب عن رغبتي في الزواج من جارتنا التي تكبرني بأربعة أضعاف عمري؟! وفي إ
كنت أسأل عن الله، وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وهو مستريح عليها ينظر إلينا ويتابع أفعالنا، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه، أو هكذا قيل لي.. ثم تتغير هذه الصورة في مخيلتي وأنا أتخيل الله يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.
كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.. أتساءل بتلقائية أو بفضول معرفي، وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي، ولا يجد له جوابا، أو أجد له جوابا، ولكنني أتشكك بصحته، ويميل ظني إلى أنه جوابا مغلوطا أو عاريا من الصحة..
لأول وهلة تبدو بعض الأسئلة بسيطة، ولكنها تشبه السهل الممتنع.. وكانت أمي تارة تتجاهل سؤالي، وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي مصعوقا بالخوف والهلع.
كانت بعض الأسئلة كبيرة، وربما صغيرة، ولكنها كانت تدق أبوابا كبيرة، وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل التي لا تأتي على بال الكبار.. بعض الأسئلة كانت تلقم فاه أمي عجزا بحجم جبل، فيلبسها الخوف الهلع، وتسارع بتحذيري الشديد، وبما هو مرعب ومهول، وتقمع سؤالي بشدة وصرامة..
طبعا تلك الأسئلة وما قبلها لم تكن بهذه الصيغ التي أكتبها الآن، بل كانت بصيغة أخرى، أو مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره هنا وأكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر، وتتناسل كالضوء، تواجه بقمع وتعنيف وغياب جواب، أو جواب خطاء أو مغلوط لا استسيغ بلعه، أو أبلعه بصعوبة إلى حين.
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا “فلان” غني وظالم ومحتال وشرير؟!
فتجيب أمي: هو الله؛ وفي الآخرة سيتم انصاف من تم ظلمه في حياة الدنيا..
أسأل: لماذا نذبح “العيد” يوم العيد.. ولماذا أصلا نذبحه ونسفك دمه؟!
فتحكي لي أمي قصة اسماعيل ووالده إبراهيم عليه السلام..
أسأل: لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!
فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه..
وتسألت يوما: هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا من دومها في لجة الليل البهيم.. كانت تصرخ وتستغيث بصوت مفجوع يفطر القلب.. صوت لم أسمع مثله من قبل.. كان أوجع من الموت وأكبر من مكبر الصوت، ولا مغيث ولا مجير.. كان صوتها صارخا يشق الليل نصفين، وكأنها تطلب من الوجود أن يفعل شيئا من أجلها؟!
ضرب أبي رصاصة دهشا، لعل الثعلب يتركها فزعا من صوت الرصاصة الذي ربما يعادل صوت المستغيث، غير أن الثعلب لم يترك وليمته، وأخمد صوتها وأنفاسها إلى الأبد.. كدت يومها أن أحتج على الرب، وعلى هذه الحياة الكاسرة.. صوتها إلى اليوم أستطيع أتذكره بوضوح بعد خمسين عام خلت.. لقد مزق صوتها سكون الليل، وقدح صوتها الصارخ بالشرر..
كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور، فإن حرك الثور قرنة وقع الزلزال.. وهكذا وجدت إن جواب أمي بات يفوق حتّى خيالي..
أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ثم أتذكر ما قيل عن السيل الذي جرف حميد من رأس شرار، وسمي ذلك السيل باسمه.. كنت أتخيل المشهد وأنا أذهب كل صباح لمدرسة المعرفة بثوجان مشيا على الأقدام، وأمر كل يوم من نفس المكان أو قريبا منه، والذي قيل أن السيل سحب حميد منه.. كنت أتخيل المشهد وأتخيل معركة غير متكافئة بين الضحية حميد التي خارت قواه، ودفر السيل العنيف العرمرم..
أسأل: لماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي، تفتك بالأطفال أمثالي، ومن هم أصغر مني.. أطفال لا يقوون على مقاومة المرض، ويرغمون بالموت على فراق من يحبون؟!
فتجيب أمي: إن الأطفال الموتى يقيمون في الجنة.. والجنة فيها كل ما يطيب ويتمناه الإنسان، وإن أختي نور وسامية مع بنات الحور في الجنة، وإنهن سيشفعان لنا يوم القيامة..
كنت أسأل لماذا الموت أعور؟!
فتجيبني أمي: لأن نبي الله موسى فقع عينه..
كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه..
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة، ولم أجد لها جوابا كاف وشاف.. كنت أسخط على من يستسهل الموت، ويهدر الحياة، وينتج العنف والقسوة، ويسوّغ الظلم ويبرره.
أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه ووحيه؟!
ثم تتناسل الأسئلة لتنتهي بالسؤال عن الله: كيف هو؟! وكيف أوجد نفسه؟! وكيف كان الحال قبله؟! فلا ألاقي جوبا، بل أجد صدّا وغضبا يشتد، وزجر يمنعني من السؤال ثانية.. ولكن تظل الاسئلة تجوس داخلي، ولا تهدأ ولا تتعب..
قبل أن أعرف معنى الزواج، كنت أعرب عن رغبتي في الزواج من جارتنا التي تكبرني بأربعة أضعاف عمري؟! وفي إ
حدى الأيام حاولت أن أتشبث بها وأمنعها من الرواح من دارنا، لأنني أريد أن أتزوجها، دون أن أعلم شيئا عن حقيقة الزواج وماهيته، أكثر من مكوثها معنا في دارنا..
وعندما كبرت قليلا بدأت أعرف شيئا عن الزواج، وكنت أشاهد وجهي في المرآة وأرى قبحي في جحوظ عيناي، فأسأل أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساوينِ بأقراني؟! فأجابت أمي أنها سمعت أبي يقول انني أشبه جدي “هاشم” في عيونه..
وعندما كبرت أكثر كنت أسأل نفسي: عندما أصير شابا هل سترضى بي من أحبها أن تتزوجني، رغم تلك البشاعة التي خلقها الله في عيوني، وحرمني من وسامة ما كان ينبغي أن يحرمني الله منها؟! وعندما كبرت وجدت لست وحدي من ناله القبح واحتج عليه، بل سبقني إليه الشاعر الحطيئة وهو يهجي وجهه:
"أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ"
وعندما ترشحت لعضوية مجلس النواب ألصق فريق حملتي الانتخابية صور في إحدى مناطق دائرتي الانتخابية، وعند مروري فيها، لاحظت بعض الصور قد تم تشويهها بخرف عيونها، وترك باقيها كما هو من دون عيون.. فاستيقظ احتجاجي، ودفعني هذا إلى بذل نشاط مضاعف، وإصرار عنيد على انتزاع النجاح، ردا على ممارسة القبح الذي وجدته يُصبَ على عيوني المتعبة والمعذّبة..
أما اليوم وبسبب حساسية باتت مزمنة في عيوني، مضافا إليها كثرة السهر وقلة النوم، بات الاحمرار في عيوني شديدة وملازما، ولكن بات من يحملون القبح في عيونهم وعقولهم ، ينسبون لي تهمة "اللبقة"، وقصدهم أنني سكرانا طوال الليل والنهار، وهو جزء من الكيد السياسي الذي يستخدمه هنا بعض الخصوم السياسيين في التشويه أمام العامة الذين يشنعون على شارب الخمر أكثر من تشنيعهم على القتلة والنهابة والفاسدين والمحتالين..
لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..
كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس.. وكنت أستمع إلى شرحه، وتتكرر كلمة "البراز" في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا "البراز"!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة ولا أعرف ماذا تعني!! بالتأكيد زملائي مثلي ولكنهم ربما لم يتجرؤون على السؤال.. سألت الأستاذ: أيش هو هذا "البراز"؟!
فأجاب بضيق وطفش طافح، وبحركة عصبية من يده وقدمه محاولا أن يشعرني بغبائي وإحراجه من الجواب بقوله: "الخر".. فضحك من في الفصل.. وهو ما جعلني أصاب بإحراج شديد.. ولو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجز الجميع.. أغرقني الخجل في الصف، وتحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(8)
ذبح أرنب وإعدام معنوي
صرت طفلا قادرا على التمييز، بوسعة إدراك أبجديات معنى الحياة والموت، أو بديهية الفرق بين البقاء والرحيل.. مررت بمشاهد لا تنساها الذاكرة مهما تقادمت عليها الأيام والسنون.. خمسون عاما خلت، وربما أكثر منها بقليل، ولازالت حية في الذاكرة، وعصية على الطي، ولا غالب لها بنسيان.. شاهدتهم يذبحوا ارنبا، لازال صوته الصارخ يفجر ذاكرتي بالوجع، كلما استجريته بمناسبة، أو ذكّرني إليه مشهد من اليوم..
أتذكر صراخه الفاجع قبل الذبح ببرهة، وكأن طفل قد تلبسه، وصار يصرخ بصوته المفجوع والمنفجر.. أتذكر وضع السكين على حنجرته المحشرجة بدمدمة، وخفقات قلبه التي تشبه في خفقانها أمواج البحر المتلاطمة بحواف الجبل، وأنفاسه التي تشبه أنفاس المشاركون في سباق الضاحية، وجسده المهتاج بالحمى التي تعتريه وتداهمه..
وعند الشروع بذبحه، أتذكر اليد الثقيلة المطبقة على فمه، وهي تحاول تخنق صوته وعبرته، وتخمد أنفاسه، فيما كان بعض من صوته المصعوق يتطاير كالشرر، من بين أصابع اليد المطبقة على فمه.. وكأنه صوت احتجاج وجودي مقاوم لواقع مرعب وبشع في تفاصيله..
لطالما تذكرت هذا المشهد المؤلم كما هو، وكأنه وقع اليوم، وأنا أقارنه بمشاهد مؤلمة، مرت أو لازلت تمر إلى اليوم.. أتذكره وأنا أرى خنق أي صوت يريد أن يبوح بأوجاعه أو بأوجاع الناس، أو يريد الاحتجاج على الظلم الذي ينيخ بثقله على الكواهل، والقلب النازف، والمكروب من السلطة والمنكوب بالغلبة، والقلم الذي يريدون إعدامه، وربما بلغوا في المطالبة بإعدام صاحبه معه..
يريدون كتم أنفاس الناس، وإخراس أصواتهم المذبوحة حتى لا يسمعها أحد.. يستخدمون يد السلطة والغلبة الثقيلة لقهرهم وإخمادهم إلى الأبد.. يريدون إغلال أيدي الناس إلى أعناقهم، وكسر مقاومتهم، وإعدام صوت المستغيث، ولا مغيث غير الاجل..
إعدام معنوي يمارسونه بحق مواطنيهم لصالح طغيانهم.. يريدونهم منقادين لهم كالقطعان.. مستكينين ومستسلمين لهم كالعبيد.. لا يريدون من أحد أن يبدي احتجاجا أو اعتراضا أو موقفا أو رأيا تمارس فيه حتى الحد الأدنى من وجودك وإنسانيتك..
يريدونك أن تكون هم لا أنت.. يريدون أن يقلعون لسانك من الجذور.. يريدون استلاب عقلك، وانتعال حريتك، واستباحة استقلاليتك، وإفساد ضميرك حتى آخره .. يريدون الإيغال في ممارسة القتل والفساد
وعندما كبرت قليلا بدأت أعرف شيئا عن الزواج، وكنت أشاهد وجهي في المرآة وأرى قبحي في جحوظ عيناي، فأسأل أمي بصيغة مؤداها: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساوينِ بأقراني؟! فأجابت أمي أنها سمعت أبي يقول انني أشبه جدي “هاشم” في عيونه..
وعندما كبرت أكثر كنت أسأل نفسي: عندما أصير شابا هل سترضى بي من أحبها أن تتزوجني، رغم تلك البشاعة التي خلقها الله في عيوني، وحرمني من وسامة ما كان ينبغي أن يحرمني الله منها؟! وعندما كبرت وجدت لست وحدي من ناله القبح واحتج عليه، بل سبقني إليه الشاعر الحطيئة وهو يهجي وجهه:
"أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ"
وعندما ترشحت لعضوية مجلس النواب ألصق فريق حملتي الانتخابية صور في إحدى مناطق دائرتي الانتخابية، وعند مروري فيها، لاحظت بعض الصور قد تم تشويهها بخرف عيونها، وترك باقيها كما هو من دون عيون.. فاستيقظ احتجاجي، ودفعني هذا إلى بذل نشاط مضاعف، وإصرار عنيد على انتزاع النجاح، ردا على ممارسة القبح الذي وجدته يُصبَ على عيوني المتعبة والمعذّبة..
أما اليوم وبسبب حساسية باتت مزمنة في عيوني، مضافا إليها كثرة السهر وقلة النوم، بات الاحمرار في عيوني شديدة وملازما، ولكن بات من يحملون القبح في عيونهم وعقولهم ، ينسبون لي تهمة "اللبقة"، وقصدهم أنني سكرانا طوال الليل والنهار، وهو جزء من الكيد السياسي الذي يستخدمه هنا بعض الخصوم السياسيين في التشويه أمام العامة الذين يشنعون على شارب الخمر أكثر من تشنيعهم على القتلة والنهابة والفاسدين والمحتالين..
لم يكن قمع الاسئلة منحصرا على البيت، بل كنت أجد مثله حتى في المدرسة..
كان مدرس العلوم منهمك في شرح الدرس.. وكنت أستمع إلى شرحه، وتتكرر كلمة "البراز" في الشرح دون أن أعرف ما هو هذا "البراز"!! أول مرة أسمع بهذه الكلمة ولا أعرف ماذا تعني!! بالتأكيد زملائي مثلي ولكنهم ربما لم يتجرؤون على السؤال.. سألت الأستاذ: أيش هو هذا "البراز"؟!
فأجاب بضيق وطفش طافح، وبحركة عصبية من يده وقدمه محاولا أن يشعرني بغبائي وإحراجه من الجواب بقوله: "الخر".. فضحك من في الفصل.. وهو ما جعلني أصاب بإحراج شديد.. ولو كان سأل به الاستاذ كل زملائي في الصف لعجز الجميع.. أغرقني الخجل في الصف، وتحملت النتيجة لوحدي وعلى مضض، فيما استفاد الجميع من الجواب..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(8)
ذبح أرنب وإعدام معنوي
صرت طفلا قادرا على التمييز، بوسعة إدراك أبجديات معنى الحياة والموت، أو بديهية الفرق بين البقاء والرحيل.. مررت بمشاهد لا تنساها الذاكرة مهما تقادمت عليها الأيام والسنون.. خمسون عاما خلت، وربما أكثر منها بقليل، ولازالت حية في الذاكرة، وعصية على الطي، ولا غالب لها بنسيان.. شاهدتهم يذبحوا ارنبا، لازال صوته الصارخ يفجر ذاكرتي بالوجع، كلما استجريته بمناسبة، أو ذكّرني إليه مشهد من اليوم..
أتذكر صراخه الفاجع قبل الذبح ببرهة، وكأن طفل قد تلبسه، وصار يصرخ بصوته المفجوع والمنفجر.. أتذكر وضع السكين على حنجرته المحشرجة بدمدمة، وخفقات قلبه التي تشبه في خفقانها أمواج البحر المتلاطمة بحواف الجبل، وأنفاسه التي تشبه أنفاس المشاركون في سباق الضاحية، وجسده المهتاج بالحمى التي تعتريه وتداهمه..
وعند الشروع بذبحه، أتذكر اليد الثقيلة المطبقة على فمه، وهي تحاول تخنق صوته وعبرته، وتخمد أنفاسه، فيما كان بعض من صوته المصعوق يتطاير كالشرر، من بين أصابع اليد المطبقة على فمه.. وكأنه صوت احتجاج وجودي مقاوم لواقع مرعب وبشع في تفاصيله..
لطالما تذكرت هذا المشهد المؤلم كما هو، وكأنه وقع اليوم، وأنا أقارنه بمشاهد مؤلمة، مرت أو لازلت تمر إلى اليوم.. أتذكره وأنا أرى خنق أي صوت يريد أن يبوح بأوجاعه أو بأوجاع الناس، أو يريد الاحتجاج على الظلم الذي ينيخ بثقله على الكواهل، والقلب النازف، والمكروب من السلطة والمنكوب بالغلبة، والقلم الذي يريدون إعدامه، وربما بلغوا في المطالبة بإعدام صاحبه معه..
يريدون كتم أنفاس الناس، وإخراس أصواتهم المذبوحة حتى لا يسمعها أحد.. يستخدمون يد السلطة والغلبة الثقيلة لقهرهم وإخمادهم إلى الأبد.. يريدون إغلال أيدي الناس إلى أعناقهم، وكسر مقاومتهم، وإعدام صوت المستغيث، ولا مغيث غير الاجل..
إعدام معنوي يمارسونه بحق مواطنيهم لصالح طغيانهم.. يريدونهم منقادين لهم كالقطعان.. مستكينين ومستسلمين لهم كالعبيد.. لا يريدون من أحد أن يبدي احتجاجا أو اعتراضا أو موقفا أو رأيا تمارس فيه حتى الحد الأدنى من وجودك وإنسانيتك..
يريدونك أن تكون هم لا أنت.. يريدون أن يقلعون لسانك من الجذور.. يريدون استلاب عقلك، وانتعال حريتك، واستباحة استقلاليتك، وإفساد ضميرك حتى آخره .. يريدون الإيغال في ممارسة القتل والفساد
والاستبداد والطغيان دون أي اعتراض أو معترض..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(9)
خصي كبش العيد
لازلت أتذكر وهم يخصون كبش العيد.. شاهدتهم بكثرتهم وهم ينزلون عليه بكل قواهم وأثقالهم.. يأخذونه بأربعته ورأسه ومؤخرته، ويمددونه على الارض، ويفتحون رجليه، فيما يحاول هو الركل والمقاومة بددا.. وضعوا حجرا أملسا صلدا قرب فخضا رجليه، ووضعوا خصيتيه على تلك الحجر، ثم شرعوا بضرب الخصيتين وأعقابها، بمطرقة من حديد، فيما كان هو يتألم ويقاوم عبثا دون جدوى أو خلاص تحت طائل كثرة وقوة نازلة عليه كالقدر، ولمّا أتموا ما يريدونه حتى النهاية، اطلقوا سراحه بعد أن قتلوا فحولته بمطرقة من حديد..
كنت غارقا في ذهول.. لا أعرف ماذا يفعلون!! لم يقولوا لي شيئا من قبل، أو عمّا ينتون فعله، أو ما سيقدمون عليه.. كنت متحيرا لماذا يفعلوا ما يفعلون.. لماذا يضربوا خصيتيه بالمطرقة؟!! ماذا فعلت بهم الخصيتين؟! كنت الوحيد من الموجودين الذي أعيش جحيم اللحظة، وأشاركه فيها الألم ..
كنت الوحيد الغارق في الذهول حيال ما يحدث!! والوحيد الذي يجوس في أعماقه السؤال!! فيما الآخرين لم يكترثون بي، ولم يكن بيدي سلطة أو قرار يمنعهم عن فعلهم بالغ القسوة..
فضولي الذي ظل حبيسا داخلي لم يستطع الاعتراض، ولكن أستطاع سؤال أمي بعد أن أنتهى كل شيء.. ماذا فعلتم ولماذا؟! فكانت إجابة أمي: من أجل أن يكبر بسرعة، ويطيب لحمه وشحمه في العيد.. الحقيقة لم تكن الإجابة تفِ برضاي!! فما علاقة خصيتيه بما زعمه الجواب..
وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة.. عرفت كيف تسلب السلطة فحولة الرجال، وكيف يمتطي الطغاة من ينحنون لهم.. عرفت كيف تسلب السلطة إرادة من كانوا يفترض بهم أن ينحازوا للناس، وكيف يتحولون بالترهيب والترغيب إلى بيادق تحركهم الأصابع، وأحذية ينتعلها الطغاة في المستنقعات الموحلة ..
عرفت كيف يمارس المال سلطته على كثير من المثقفين، وحملة الشهادات العليا الذين يتحولون إلى أبواق بلا إرادة ولا موقف ولا ضمير.. عرفت حجم خواء المثقف المنقاد وراء السياسي الوغد، أو المستعبد من قبل أمير الحرب..
عرفت هشاشة المثقف الذي يبيع ضميره من أول عرض.. عرفت الهشاشة التي تنهار من أول ضربة مطرقة على الرأس أو على الخصيتين.. عرفت المثقف الذي بات تابعا يدور في مدار صنمه وطمطمه، فاقدا لضميره ووجوده.. عرفت أتباع بلا عقل ولا مبدأ ولا قيم.. عرفت رجالا بلا رجولة ولا فحولة..
وفي المقابل عرفت أناسا أفذاذ بقامة النخيل وصمود الجبال الرواسي.. أحرارا ميامين يأثرون التضحية على الاستسلام، والمقاومة على الخضوع، والشجاعة على الخوف.. لا يبيع ولا يساوم ضميرهم القلق واليقظ دوما، وإن عرضوا لأصحابه مال الأرض، ونجوم السماء، ووعدوه أيضا بالآخرة أو الدار الثانية، ولم تستطع جهنم الحمراء والسوداء أن تكرههم على الاستكانة والخضوع للطغاة وأرباب الحكم المُغتصب..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(10)
ذبح كبش العيد .. والذبح اليوم
خروف العيد الذي رعيته واعتنيت به، وعشت معه يوما بيوم، وصار رفيقاً حميما، لماذا يذبحونه؟! كنت أشاهده يوم العيد متوترا ومتسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته ومفارقة عائلته، التي بدت لي على درجة عالية من الترقب والانتباه، وكأنها تشعر أنه سيقع حدثا ما، لا تحبذ وقوعه.. فيما أنا كنت مسحوقا بالألم ومخنوقا بالاحتجاج..
شاهدتهم وهم يكبوّنه ويرغمونه على السير كُرها وعنوة، وكأنه كان يدرك أنه ذاهب للذبح والسلخ.. كنت أشاهده مملوء بالفزع والخوف، فيما كانت عيوني ترصد الموقف، وهي تعتب وتحتج بصمت يكاد ينفجر، وعبرات في الحلق تعترض على واقع الحال، وأنا أمارس ضدها ما استطعت من القمع الكتوم..
عيناه هلعه ومرعوبة وهي ترى السكين.. كان يدور في نفس المكان بقلق ورعب وحيرة، وكأنه يبحث عن قدر ينجيه، ولا نجاة من السكين في يوم العيد.. لا أدري أي إحساس داهمه، وكيف عرف إن السكين معدة لذبحه، وإنه المستهدف منها، رغم أنه لم يسبق أن رأى سكينا أو نصله سكين.. لازال السؤال عالق في ذهني كخشبة: كيف عرف أنه ذاهب للذبح أو الموت؟!! حال في الرعب والهلع المماثل، شاهدته في الأرانب أيضا.. شاهدت أرنب وهو يذبح، كان يبكي كالطفل.. كم هو هذا العالم مثقل بالألم؟!
كانوا يقدموا للخروف الماء ليشرب قبل الذبح، فيما هو يرفض، وكأنه يحتج على أقدار ونواميس ذا الكون..
كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان مرعوبا ويرتعش فزعا وخوفا.. كان يعيش اللحظة كما هي.. وكنت عاجزا عن إنقاذه.. كان الأمر للكبار حصرا، ولم يكن لي فيه حيلة أو قرار..
يا إلهي.. لماذا هذه العالم يفترس بعضه بعضا، حتى وإن اختلفت صيغة هذا الافتراس؟!! هل بالضرورة أن يكون القتل والدم والذبح قانون وجوديا لابد منه، ولا خيار أرحم أو أقل ألما منه؟!! لماذا هذه الحياة كاسرة ومسفوكة الدم وإزهاق النفوس..؟!
كل حيوان له نفس مثلنا، ولكن تبدو الحياة قاسية ومهدرة.. ربما الجميع ضحايا لقوانين أكبر منّا ومنها.. حيوانات الغابة تفترس بعضها البعض، بدا
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(9)
خصي كبش العيد
لازلت أتذكر وهم يخصون كبش العيد.. شاهدتهم بكثرتهم وهم ينزلون عليه بكل قواهم وأثقالهم.. يأخذونه بأربعته ورأسه ومؤخرته، ويمددونه على الارض، ويفتحون رجليه، فيما يحاول هو الركل والمقاومة بددا.. وضعوا حجرا أملسا صلدا قرب فخضا رجليه، ووضعوا خصيتيه على تلك الحجر، ثم شرعوا بضرب الخصيتين وأعقابها، بمطرقة من حديد، فيما كان هو يتألم ويقاوم عبثا دون جدوى أو خلاص تحت طائل كثرة وقوة نازلة عليه كالقدر، ولمّا أتموا ما يريدونه حتى النهاية، اطلقوا سراحه بعد أن قتلوا فحولته بمطرقة من حديد..
كنت غارقا في ذهول.. لا أعرف ماذا يفعلون!! لم يقولوا لي شيئا من قبل، أو عمّا ينتون فعله، أو ما سيقدمون عليه.. كنت متحيرا لماذا يفعلوا ما يفعلون.. لماذا يضربوا خصيتيه بالمطرقة؟!! ماذا فعلت بهم الخصيتين؟! كنت الوحيد من الموجودين الذي أعيش جحيم اللحظة، وأشاركه فيها الألم ..
كنت الوحيد الغارق في الذهول حيال ما يحدث!! والوحيد الذي يجوس في أعماقه السؤال!! فيما الآخرين لم يكترثون بي، ولم يكن بيدي سلطة أو قرار يمنعهم عن فعلهم بالغ القسوة..
فضولي الذي ظل حبيسا داخلي لم يستطع الاعتراض، ولكن أستطاع سؤال أمي بعد أن أنتهى كل شيء.. ماذا فعلتم ولماذا؟! فكانت إجابة أمي: من أجل أن يكبر بسرعة، ويطيب لحمه وشحمه في العيد.. الحقيقة لم تكن الإجابة تفِ برضاي!! فما علاقة خصيتيه بما زعمه الجواب..
وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة.. عرفت كيف تسلب السلطة فحولة الرجال، وكيف يمتطي الطغاة من ينحنون لهم.. عرفت كيف تسلب السلطة إرادة من كانوا يفترض بهم أن ينحازوا للناس، وكيف يتحولون بالترهيب والترغيب إلى بيادق تحركهم الأصابع، وأحذية ينتعلها الطغاة في المستنقعات الموحلة ..
عرفت كيف يمارس المال سلطته على كثير من المثقفين، وحملة الشهادات العليا الذين يتحولون إلى أبواق بلا إرادة ولا موقف ولا ضمير.. عرفت حجم خواء المثقف المنقاد وراء السياسي الوغد، أو المستعبد من قبل أمير الحرب..
عرفت هشاشة المثقف الذي يبيع ضميره من أول عرض.. عرفت الهشاشة التي تنهار من أول ضربة مطرقة على الرأس أو على الخصيتين.. عرفت المثقف الذي بات تابعا يدور في مدار صنمه وطمطمه، فاقدا لضميره ووجوده.. عرفت أتباع بلا عقل ولا مبدأ ولا قيم.. عرفت رجالا بلا رجولة ولا فحولة..
وفي المقابل عرفت أناسا أفذاذ بقامة النخيل وصمود الجبال الرواسي.. أحرارا ميامين يأثرون التضحية على الاستسلام، والمقاومة على الخضوع، والشجاعة على الخوف.. لا يبيع ولا يساوم ضميرهم القلق واليقظ دوما، وإن عرضوا لأصحابه مال الأرض، ونجوم السماء، ووعدوه أيضا بالآخرة أو الدار الثانية، ولم تستطع جهنم الحمراء والسوداء أن تكرههم على الاستكانة والخضوع للطغاة وأرباب الحكم المُغتصب..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(10)
ذبح كبش العيد .. والذبح اليوم
خروف العيد الذي رعيته واعتنيت به، وعشت معه يوما بيوم، وصار رفيقاً حميما، لماذا يذبحونه؟! كنت أشاهده يوم العيد متوترا ومتسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته ومفارقة عائلته، التي بدت لي على درجة عالية من الترقب والانتباه، وكأنها تشعر أنه سيقع حدثا ما، لا تحبذ وقوعه.. فيما أنا كنت مسحوقا بالألم ومخنوقا بالاحتجاج..
شاهدتهم وهم يكبوّنه ويرغمونه على السير كُرها وعنوة، وكأنه كان يدرك أنه ذاهب للذبح والسلخ.. كنت أشاهده مملوء بالفزع والخوف، فيما كانت عيوني ترصد الموقف، وهي تعتب وتحتج بصمت يكاد ينفجر، وعبرات في الحلق تعترض على واقع الحال، وأنا أمارس ضدها ما استطعت من القمع الكتوم..
عيناه هلعه ومرعوبة وهي ترى السكين.. كان يدور في نفس المكان بقلق ورعب وحيرة، وكأنه يبحث عن قدر ينجيه، ولا نجاة من السكين في يوم العيد.. لا أدري أي إحساس داهمه، وكيف عرف إن السكين معدة لذبحه، وإنه المستهدف منها، رغم أنه لم يسبق أن رأى سكينا أو نصله سكين.. لازال السؤال عالق في ذهني كخشبة: كيف عرف أنه ذاهب للذبح أو الموت؟!! حال في الرعب والهلع المماثل، شاهدته في الأرانب أيضا.. شاهدت أرنب وهو يذبح، كان يبكي كالطفل.. كم هو هذا العالم مثقل بالألم؟!
كانوا يقدموا للخروف الماء ليشرب قبل الذبح، فيما هو يرفض، وكأنه يحتج على أقدار ونواميس ذا الكون..
كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان مرعوبا ويرتعش فزعا وخوفا.. كان يعيش اللحظة كما هي.. وكنت عاجزا عن إنقاذه.. كان الأمر للكبار حصرا، ولم يكن لي فيه حيلة أو قرار..
يا إلهي.. لماذا هذه العالم يفترس بعضه بعضا، حتى وإن اختلفت صيغة هذا الافتراس؟!! هل بالضرورة أن يكون القتل والدم والذبح قانون وجوديا لابد منه، ولا خيار أرحم أو أقل ألما منه؟!! لماذا هذه الحياة كاسرة ومسفوكة الدم وإزهاق النفوس..؟!
كل حيوان له نفس مثلنا، ولكن تبدو الحياة قاسية ومهدرة.. ربما الجميع ضحايا لقوانين أكبر منّا ومنها.. حيوانات الغابة تفترس بعضها البعض، بدا
فع الغريزة والجوع، أو الضرورة الملجئه ؟! ولكن نحن البشر يمكن أن نقتل بعضنا بدوافع غير الضرورة.. نحن نقتل بعضنا حمقا أو طمعا أو بدافع الانتقام.. وفوق قتل بعضنا، نقتل المخلوقات دوننا، لنأكل لحمها ونُتخم..
بدا لي كطفل موجوع بالسؤال، وببراءة غير ملوثة، إن هذا العالم مؤلم جدا، والحكمة في فوضى هذا العالم المفترس تحتاج إلى بحث وإعادة نظر.. الحياة ستكون أفضل بدون قتل، وبدون دم، وبدون إزهاق للنفوس.. لندع المهمة إلى عزرائيل يتولاها، ولكن من دون دم..
ربما وأنا طفل أردت أن أقول كل هذا وغيره على لسان محامي عنّا وعن المخلوقات دوننا.. ولكن لا محامي للنفوس المظلومة، وكبش العيد بات أضحية في تاريخنا كله، قدر لابد منه، من يوم فدى اسماعيل ابن نبي الله إبراهيم.. وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة، ووجدت ما هو أكبر وأكثر..
كنت أتمزق من الألم والحزن وكبشنا يُذبح، بل شعرتُ أنني أنا من يُذبح أكثر منه.. ثم ألوذ بالهرب وهم يذبحونه، وأنا مسكونا بالرفض والامتعاض المُر، من أن يكون العالم بشع بذلك القدر..
كنت طفلا، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، وأشاهد ما هو أكثر من فادح ومرعب وبشع.. ناس يجزون رؤوس ناس تقربا إلى الله وطلبا لغفرانه ورضوانه.. ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين.. حروب وقتل وظلم فادح لا تحتمله الجبال.. سفه ما بعده سفه.. مجرمون يستهوون القتل، ويمعنون فيه حد الغرق في الدم، دون أن يشعرون بذنب أو تأنيب ضمير..
ما كنت أدرك أن أرباب المال في العالم، وتجار الحروب والحرائق يصنعون كل تلك البشاعات التي فاقت كل مهول ومرعب.. ما كنت أظن إن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ماكنت أدري إن هناك اكتظاظا على أبواب الجنة من أجل الحور العين، والجنس الذي يمتد ويعمّر إلى الأبد، دون انتقاص أو ضعف انتصاب.. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيُخطف ويُغتصب، وأن أحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجُرأة والبشاعة والدموية المُغرقة..
لم أكن أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق أو ستُغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من خمسة آلاف عام سيطوله كل هذا الدمار والخراب، وأن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون، ويُعاث في الأرض كل هذا الفساد القادم من البشر لا من الشياطين..
ما كنت أظن أننا سنشهد حروب مثل هذه الحروب القذرة التي تشهدها اليمن اليوم.. ماكنت أظن إنني سأعيش وأرى كل هذا الموت والدمار والخراب يقتات منه حفنة من المجرمين.. أرباب العالم وتجار الحروب وصناع المآسي لهذا العالم المثقل بهم..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(11)
عيدي غير سعيد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد إلا أنا، أنا المنكوب بعاثر الحظ، لا يسلم فرحي بالعيد من قدر يفسده ويسِّود صفحته. عيدي هذا العام موجوع بأمي الهاربة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار أستمر وزاد عما يحتمل..
عيدي بعيد عن أمي لا طعم له ولا لون، أشعر أن الوحشة والغربة والحزن قد سكنوني مجتمعين في أيام يفترض أن تكون بهجة وسروراً وفرحا..
في العيد يتسربل الصبية بالسعادة ولباس العيد؛ ترى الفرح في وجوههم كالعصافير ومحياهم نور على نور.
وجوم ليالي العام أو جلّها، ظلمتها، وحشتها، تجهُّمها، رتابتها، وحدها التي تكسره بهجة العيد، تمزقه فرقعات “الطماش” ووميضها.. السرور يغمر المُهج والقلوب.. أما أنا فشأني مُختلف.. لم يفسد هذا العيد غياب أمي فقط ولكن أفسدته أيضا وشاية ابن جارنا..
سبب صغير وبحجم أصغر من حبة فول، كان لدى والدي يكفي أن يشعل حيالي حربا عالمية.. وما يستفزه أكثر من ذلك أن لا يراني مستجديا لرحمته..
عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه وأنتقص من هيبته وهو المهاب..
عدم مناجاة عطفه يعني أنني أتحداه وأثير غيضه وحفيظته.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة وموغل في التحدي لسلطته وداعي مثير لإعادة اعتباره ومهابته..
إذا ما داعاني لأمر وتوانيت فقط في إجابته؛ تجد وكأن الجن تلبسوه، وركب فوق رأسه ألف عفريت..
حاول قتلي طعنا بـ “الجنبية”، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون قتلي وأخطأتني الطعنة لتصيب ابن عمي عبده في يده، بينما كان يحاول منعها من أن تخترق جسدي المُنهك والمثقل بالتعب..
تحول العيد في وجهي إلى احلك من ليل وأكثف من ظلام سرداب سحيق..
هربت من سطوته مائة متر، فيما هو يحاول قتلي بالرصاص تداريت بجذع شجرة “السُقم”، كنت أختلس النظر من محاذاتها فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حماقته وحميته كما يثير المصارع الاسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران وقد أصابه المصارع في طعنة سيف..
العراك على أشده؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي فيما هو يصر على محاولة قتلي؛ كنت أسائل نفسي بهلع عما إذا كان بمقدور الرصاص أن ينفذ من جذع الشجرة فيطالني، أعود لأطمئن نفسي إن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص! غير أنني وجدت أن القرار الأفضل والأكثر أماناً أن استفيد من لحظة العراك وأطلق أرجلي للريح، و
بدا لي كطفل موجوع بالسؤال، وببراءة غير ملوثة، إن هذا العالم مؤلم جدا، والحكمة في فوضى هذا العالم المفترس تحتاج إلى بحث وإعادة نظر.. الحياة ستكون أفضل بدون قتل، وبدون دم، وبدون إزهاق للنفوس.. لندع المهمة إلى عزرائيل يتولاها، ولكن من دون دم..
ربما وأنا طفل أردت أن أقول كل هذا وغيره على لسان محامي عنّا وعن المخلوقات دوننا.. ولكن لا محامي للنفوس المظلومة، وكبش العيد بات أضحية في تاريخنا كله، قدر لابد منه، من يوم فدى اسماعيل ابن نبي الله إبراهيم.. وعندما كبرت عرفت أشياء كثيرة، ووجدت ما هو أكبر وأكثر..
كنت أتمزق من الألم والحزن وكبشنا يُذبح، بل شعرتُ أنني أنا من يُذبح أكثر منه.. ثم ألوذ بالهرب وهم يذبحونه، وأنا مسكونا بالرفض والامتعاض المُر، من أن يكون العالم بشع بذلك القدر..
كنت طفلا، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، وأشاهد ما هو أكثر من فادح ومرعب وبشع.. ناس يجزون رؤوس ناس تقربا إلى الله وطلبا لغفرانه ورضوانه.. ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين.. حروب وقتل وظلم فادح لا تحتمله الجبال.. سفه ما بعده سفه.. مجرمون يستهوون القتل، ويمعنون فيه حد الغرق في الدم، دون أن يشعرون بذنب أو تأنيب ضمير..
ما كنت أدرك أن أرباب المال في العالم، وتجار الحروب والحرائق يصنعون كل تلك البشاعات التي فاقت كل مهول ومرعب.. ما كنت أظن إن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ماكنت أدري إن هناك اكتظاظا على أبواب الجنة من أجل الحور العين، والجنس الذي يمتد ويعمّر إلى الأبد، دون انتقاص أو ضعف انتصاب.. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيُخطف ويُغتصب، وأن أحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجُرأة والبشاعة والدموية المُغرقة..
لم أكن أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق أو ستُغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من خمسة آلاف عام سيطوله كل هذا الدمار والخراب، وأن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون، ويُعاث في الأرض كل هذا الفساد القادم من البشر لا من الشياطين..
ما كنت أظن أننا سنشهد حروب مثل هذه الحروب القذرة التي تشهدها اليمن اليوم.. ماكنت أظن إنني سأعيش وأرى كل هذا الموت والدمار والخراب يقتات منه حفنة من المجرمين.. أرباب العالم وتجار الحروب وصناع المآسي لهذا العالم المثقل بهم..
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(11)
عيدي غير سعيد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد إلا أنا، أنا المنكوب بعاثر الحظ، لا يسلم فرحي بالعيد من قدر يفسده ويسِّود صفحته. عيدي هذا العام موجوع بأمي الهاربة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار أستمر وزاد عما يحتمل..
عيدي بعيد عن أمي لا طعم له ولا لون، أشعر أن الوحشة والغربة والحزن قد سكنوني مجتمعين في أيام يفترض أن تكون بهجة وسروراً وفرحا..
في العيد يتسربل الصبية بالسعادة ولباس العيد؛ ترى الفرح في وجوههم كالعصافير ومحياهم نور على نور.
وجوم ليالي العام أو جلّها، ظلمتها، وحشتها، تجهُّمها، رتابتها، وحدها التي تكسره بهجة العيد، تمزقه فرقعات “الطماش” ووميضها.. السرور يغمر المُهج والقلوب.. أما أنا فشأني مُختلف.. لم يفسد هذا العيد غياب أمي فقط ولكن أفسدته أيضا وشاية ابن جارنا..
سبب صغير وبحجم أصغر من حبة فول، كان لدى والدي يكفي أن يشعل حيالي حربا عالمية.. وما يستفزه أكثر من ذلك أن لا يراني مستجديا لرحمته..
عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه وأنتقص من هيبته وهو المهاب..
عدم مناجاة عطفه يعني أنني أتحداه وأثير غيضه وحفيظته.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة وموغل في التحدي لسلطته وداعي مثير لإعادة اعتباره ومهابته..
إذا ما داعاني لأمر وتوانيت فقط في إجابته؛ تجد وكأن الجن تلبسوه، وركب فوق رأسه ألف عفريت..
حاول قتلي طعنا بـ “الجنبية”، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون قتلي وأخطأتني الطعنة لتصيب ابن عمي عبده في يده، بينما كان يحاول منعها من أن تخترق جسدي المُنهك والمثقل بالتعب..
تحول العيد في وجهي إلى احلك من ليل وأكثف من ظلام سرداب سحيق..
هربت من سطوته مائة متر، فيما هو يحاول قتلي بالرصاص تداريت بجذع شجرة “السُقم”، كنت أختلس النظر من محاذاتها فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حماقته وحميته كما يثير المصارع الاسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران وقد أصابه المصارع في طعنة سيف..
العراك على أشده؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي فيما هو يصر على محاولة قتلي؛ كنت أسائل نفسي بهلع عما إذا كان بمقدور الرصاص أن ينفذ من جذع الشجرة فيطالني، أعود لأطمئن نفسي إن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص! غير أنني وجدت أن القرار الأفضل والأكثر أماناً أن استفيد من لحظة العراك وأطلق أرجلي للريح، و
كب أي حماقة إن فعلتها عنوة، أو تجاوزتُ قرار المنع.. أبي يستثيره التحدّي كثور إسباني، ولاسيما إن كان هذا التحدّي صادرا مني أنا.. يكفيه أن يظن ولا حاجة إلى تقصي أو إثبات ما يخالف ظنه..
“الخضر”، ولي صالح لم يسبق أن حضرت “مولده”، أو قمت بزيارة مزاره.. كنت اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من “مولده” كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام، ويسردونها بغبطة تموج، وفرح يكاد يطير صاحبه، وكأنهم ارتادوا كوكب آخر، أو زاروا سطح القمر..
عندما يسردون الحكايات ويتنافسون في ذكر التفاصيل أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني والمرارة تذبحني لأنني ممنوعا ومقموعا، وزيارته أمل بظهر الغيب المخيب للآمال..
في “المولد” يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجاً وفرحاً.. كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ بمثل هذه المناسبة.. مشاهد لا تتكرر إلا بعد عام..
البيارق وألوانها الفاقعة تأسر اللب والنظر، وتشعر بالبهجة عارمة في نفوس الحاضرين، وتضفي على المناسبة تميزا وجلالة قدر.. روحانية تغمرك في بعض الأماكن والمشاهد.. حتى المبالغات في الموالد جاذبة وتأنس إليها.. والكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحيانا تفوق الخيال..
المجاذيب ترى منهم ما يدهش ويذهل.. هنالك ترى من يغرس رأسه بالساطور، وهنالك ترى من يخرج عينه من مكانها إلى يده برأس السيف ثم يعيدها إلى مكانها دون أن ترى توجع أو أثر.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقا لأن تراها ألف مرة دون أن تمل، وتحضر دهشتها وتفاصيلها بكل روحك وحواسك.
من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعيت الله أسبوعا أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلا من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلا من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلاف وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقا حتى يسمح لي بحضور “مولد” الخضر هذا العام وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته، وتأجل من عام إلى عام.
ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول وعرض السماء، وظل قلب أبي صعباً، لم يرق ولم يلين..
أمي أيضا تبذل مساعيها من قبل أسبوع، ولكنها أخفقت وأصابتها الخيبة من انتزاع رضى وموافقة أبي؛ فأبي عندما يمعن في الإصرار والعناد، وتتصلب مواقفه، يحتاج لتغييرها قضاء وقدر.. أو هذا ما أتخيله، إن لم أكن قد عشته بالفعل.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(14)
محاولة انتحار..
حاولت التحدِّي وأذهب عنوة مولد الخضر، ولكن أبي كتَّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروسا في قاع الدكان، وضربني بعنف وقسوة لا أنساها ولا تنساها السنين الطوال، ولكنني أسامح ومعتاد على التسامح، غير أن التسامح لا يعني النسيان، وإنما يعني السمو والحب والغفران..
استمريت مربوطا على عمود الخشب عدة ساعات، حتى فات موعد الذهاب، وأجفل الناس والصبية، وعادوا من “المولد” إلى البيوت.. ذهب أبي وفكت أمي وثاقي، وانتابتني نوبة سخط واستنفار جنوني..
وبعد أن خرج الجميع من الدار، صعدت إلى حجرة والدي، ووجدت السلاح في متناول يدي.. أخذت بندقيته الآلية، وعمرتها وتمددت، ووضعتُ فوهتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أتم إطلاق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعت خوار بقرة أمي، وكأنها تريد مني نظرة وداع أحتاجها أنا أيضا، أو ربما تريدني أن أكف عما أنتوي فعله، وربما غريزة البقاء كانت أقوى مني..
ذهبت لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة، وأول ما رأيتها شعرت أنها تترجى وتتوسل بألا أفعل.. هذا ما خلته في خاطرة مرت على بالي القلق.. أحسست أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعدا أو فراقا.. قبّلت ناصيتها، ومسحت ظهرها، وراحت أكفي تداعب عنقها وضممته بحرارة مفارق.. كانت تصرفاتي معها أشبه بتصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلهاً أو معبوداً مقدس..
شعرت بحبها الجارف، وبادلتها محبة غامرة.. شعرت أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.. غالبتُ دموعي، ولكنها كانت تنهمر سخينة.. رأيتها تشتمَّني بلهفة، وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار.. أحسست أنها هي أيضا تغالب دموعها.. بقرتنا المحروسة من العين بحرز معلق على رقبتها كمصد يصد العين والحسد.. وأنا المحروس أيضا بحرز السبعة العهود من الجن والشياطين، ولكن من يحرسني من قسوة أبي؟!!
ذهبت لأسرق لها الطحين، وأصب عليه الماء، وأقدمه لها كحساء وداع أخير..
امطرتها بقبل بدت لي إنها قبلات الوداع الأخير. وفيما أنا ذاهب عنها، رأيتها ممعنة بالنظر نحوي، وأحسست أنها تتوسل وترتجي ألا أفعل وألا أرحل.. كنت أفسر الحميمية التي بيننا على مقاس تلك اللحظة التي أحس بها، أو بما ينسجم معها.. كانت مناجاة ومحاكاة لها عمق في نفسي، وتفيض بمشاعر وعواطف جياشة بدت لي حقيقية، لا وهم فيها ولا سراب..
تطلعت صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. شعور وداع الأبد ليس مثله وداع.. الو
“الخضر”، ولي صالح لم يسبق أن حضرت “مولده”، أو قمت بزيارة مزاره.. كنت اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من “مولده” كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام، ويسردونها بغبطة تموج، وفرح يكاد يطير صاحبه، وكأنهم ارتادوا كوكب آخر، أو زاروا سطح القمر..
عندما يسردون الحكايات ويتنافسون في ذكر التفاصيل أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني والمرارة تذبحني لأنني ممنوعا ومقموعا، وزيارته أمل بظهر الغيب المخيب للآمال..
في “المولد” يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجاً وفرحاً.. كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ بمثل هذه المناسبة.. مشاهد لا تتكرر إلا بعد عام..
البيارق وألوانها الفاقعة تأسر اللب والنظر، وتشعر بالبهجة عارمة في نفوس الحاضرين، وتضفي على المناسبة تميزا وجلالة قدر.. روحانية تغمرك في بعض الأماكن والمشاهد.. حتى المبالغات في الموالد جاذبة وتأنس إليها.. والكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحيانا تفوق الخيال..
المجاذيب ترى منهم ما يدهش ويذهل.. هنالك ترى من يغرس رأسه بالساطور، وهنالك ترى من يخرج عينه من مكانها إلى يده برأس السيف ثم يعيدها إلى مكانها دون أن ترى توجع أو أثر.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقا لأن تراها ألف مرة دون أن تمل، وتحضر دهشتها وتفاصيلها بكل روحك وحواسك.
من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعيت الله أسبوعا أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلا من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلا من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلاف وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقا حتى يسمح لي بحضور “مولد” الخضر هذا العام وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته، وتأجل من عام إلى عام.
ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول وعرض السماء، وظل قلب أبي صعباً، لم يرق ولم يلين..
أمي أيضا تبذل مساعيها من قبل أسبوع، ولكنها أخفقت وأصابتها الخيبة من انتزاع رضى وموافقة أبي؛ فأبي عندما يمعن في الإصرار والعناد، وتتصلب مواقفه، يحتاج لتغييرها قضاء وقدر.. أو هذا ما أتخيله، إن لم أكن قد عشته بالفعل.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
(14)
محاولة انتحار..
حاولت التحدِّي وأذهب عنوة مولد الخضر، ولكن أبي كتَّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروسا في قاع الدكان، وضربني بعنف وقسوة لا أنساها ولا تنساها السنين الطوال، ولكنني أسامح ومعتاد على التسامح، غير أن التسامح لا يعني النسيان، وإنما يعني السمو والحب والغفران..
استمريت مربوطا على عمود الخشب عدة ساعات، حتى فات موعد الذهاب، وأجفل الناس والصبية، وعادوا من “المولد” إلى البيوت.. ذهب أبي وفكت أمي وثاقي، وانتابتني نوبة سخط واستنفار جنوني..
وبعد أن خرج الجميع من الدار، صعدت إلى حجرة والدي، ووجدت السلاح في متناول يدي.. أخذت بندقيته الآلية، وعمرتها وتمددت، ووضعتُ فوهتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أتم إطلاق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعت خوار بقرة أمي، وكأنها تريد مني نظرة وداع أحتاجها أنا أيضا، أو ربما تريدني أن أكف عما أنتوي فعله، وربما غريزة البقاء كانت أقوى مني..
ذهبت لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة، وأول ما رأيتها شعرت أنها تترجى وتتوسل بألا أفعل.. هذا ما خلته في خاطرة مرت على بالي القلق.. أحسست أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعدا أو فراقا.. قبّلت ناصيتها، ومسحت ظهرها، وراحت أكفي تداعب عنقها وضممته بحرارة مفارق.. كانت تصرفاتي معها أشبه بتصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلهاً أو معبوداً مقدس..
شعرت بحبها الجارف، وبادلتها محبة غامرة.. شعرت أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.. غالبتُ دموعي، ولكنها كانت تنهمر سخينة.. رأيتها تشتمَّني بلهفة، وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار.. أحسست أنها هي أيضا تغالب دموعها.. بقرتنا المحروسة من العين بحرز معلق على رقبتها كمصد يصد العين والحسد.. وأنا المحروس أيضا بحرز السبعة العهود من الجن والشياطين، ولكن من يحرسني من قسوة أبي؟!!
ذهبت لأسرق لها الطحين، وأصب عليه الماء، وأقدمه لها كحساء وداع أخير..
امطرتها بقبل بدت لي إنها قبلات الوداع الأخير. وفيما أنا ذاهب عنها، رأيتها ممعنة بالنظر نحوي، وأحسست أنها تتوسل وترتجي ألا أفعل وألا أرحل.. كنت أفسر الحميمية التي بيننا على مقاس تلك اللحظة التي أحس بها، أو بما ينسجم معها.. كانت مناجاة ومحاكاة لها عمق في نفسي، وتفيض بمشاعر وعواطف جياشة بدت لي حقيقية، لا وهم فيها ولا سراب..
تطلعت صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. شعور وداع الأبد ليس مثله وداع.. الو