أحمد سيف حاشد
345 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
(26)
جار الله عمر
• بعد انتهاء دورة الصاعقة عدت للواء الوحدة، وعاد حلم الدراسة الجامعية يلح ويشتد على نحو لم أعد أقوى على مقاومته أو حتى تأجيله لأي سبب.. كنت أشعر أن أي إحباط أو خذلان سيكون وقعه على نفسيتي شديد الوطأة، ولن أتعافى منه بسهولة.. وطالما لا يوجد فرصة للإعلام لعدم وجود كلية أو قسم له في جامعة عدن، فلابأس بكلية الحقوق..

• كنت قد بدأت أتابع في السنة الأولى من أجل الالتحاق بالدراسة، ولكن مرت السنة الأولى دون أن أتمكن من الالتحاق بالجامعة، لأنه يتوجب مرور ما لا يقل عن العامين بالخدمة العسكرية الفعلية بعد التخرج من الكلية العسكرية، لتتسنى الإمكانية للبت في طلب منح التفرغ للدراسة..

• وفي العام التالي كان السؤال: من يساعدني؟! فلم أعد قادرا على تحمل خذلان استحقاقي للدراسة الجامعية عام ثالث، والقانون قال "لا يقل عن عامين" ولم يقل "عامين" فقط. وهذا معناه إن رفض الموافقة على طلب التفرغ للدراسة محتملا أو يظل واردا..

• كنت أحدث نفسي: طلبي متواضع، وتفوقي بات مثبتا ومُشجّعا، وحلمي كبير، واستحقاقي للدراسة صار أكبر.. هناك شخص يمكنه أن يفهمني ولن يخذلني فهو يشجع التعليم.. أما جار الله عمر، لماذا لا أذهب إليه، ولاسيما أنه قد علم بتفوقي في الكلية العسكرية، وذلك لدعم تقديمي الذي أرسلته عبر قيادة اللواء لوزير الدفاع صالح مصلح.. إنها فكرة لو تمت ستكون ضامنة بأن لا يتم خذلاني بعد عامين من الانتظار.

• سبق أن زرت جار الله في بيته قبل هذه المرة عدة مرات، وفي كل مرة كان يشعرني بحرارة ودة وحفاوة استقباله، حتى وإن كنت طفلا أو غير راشد..

• زرته في أحد المرات حال ما كان عمري دون لـ 17 سنة.. شاهدت في بيته مكتبه كبيرة لا يساويها إلا تواضعه الجم.. كان استقباله لي حارا جدا، وتعامل معي بندية وتقدير رفيع.. أهم انطباع خرجت به أنه لا يكذب ولا يخلف وعده، ولا يضيق من إلحاحك وتكرار طلبك..

• كنت أقارنه بالمسؤول الأول الذي بدأ لي الفرق بينهما مثل فرق الثراء من الثريا.. هذا المسؤول الذي كان صديق أخي في حياته، وكانت أول معرفة لي به في بيتنا بالقرية، حالما كنت طفلا، وكان هو متخفيا عندنا، وتحركه ذهابا وإيابا يتم بسرية تامة.. هذا المسؤول قصدته مرات عديدة بعد قتل أخي، ووجدته متعاليا وينظر لي شزرا.. كان يتجاهلني إلى حد الاستفزاز والقرف.. إذا ذهبت إلى بيته كان يستقبلني بوجه عبوس مكفهر، وإذا زرته إلى مكتبه صافحني بيد من ثلج، وفي أفضل الأحوال بيد من خشب لا حرارة فيها ولا ترحاب مهما طال انقطاعك عنه.. كل مرة كان يسأل عن اسمي وكأنه مصاب بمرض الزهايمر، ثم أحاول أن أعرّفه بنفسي، وهو يعرفني جيدا، ولكنه ثقيل الدم، ولئيم الطباع.. جار الله عمر فكان رجل استثنائيا إلى حد بعيد.. كان ودودا وخلوقا وممتلئا ومتواضعا، ويستقبلني رغم صغر سني بترحاب وحفاوة..

• في اللقاء الذي قصدت فيه جار الله عمر في منزله بخور مكسر، أبلغته أنني أرغب بالالتحاق بكلية الحقوق، وأنه قد مر عام والعام الثاني على وشك أن يمر، وأن اشتراط مرور العامين بعد التخرج من الكلية العسكرية يكاد أن يتم، ولا أريد أن يمر هذا العام لأقضي عام ثالث في الانتظار، وأنني قد رفعت طلب آخر لوزير الدفاع، وأخشى أن يهمله أو يتجاهله، وأن رغبتي للالتحاق بالكلية جامحة، وأخبرته أني متفوقا في دراستي غير أنه قاطعني بأنه على علم بذلك، وطلبت منه التواصل بوزير الدفاع صالح مصلح، فرفع السماعة وأتصل مباشرة للوزير، وأخذ موافقته على الفور، ووعدني بمتابعة الموضوع، وأوفى بوعده، وكان يبر بالوعود، وجاءت الموافقة على طلبي لتبلغني قيادة اللواء بالخبر..

• كدت أطير من الفرح وهم يبلغوني بالموافقة.. شعرت إن المستقبل يبتسم لي، وإن الآمال تتحقق.. غير أن الأهم إن هذا التفرغ والدراسة أنقذاني من موت محقق وأكيد بعد أشهر، حيث وقعت أحداث 13 يناير 1986 المأساوية، وما كنت منها لأنجو حتى بمعجزة..

***
يتبع
بعض من تفاصيل حياتي
من يحمي المواطن من عصابات الأراضي وداعميهم.. من يحمي المواطن ممن يسئوون استخدام السلطة.. من يحمي المواطن من استغلال الوظيفة العامة.. من يحمي المواطن من النهابة؟!!!!
كامل تضامني معكم .. مع كل الضحايا.. وضد عصابات السطو على أراضي المواطنين..

محمد اللوزي:
نتعرض وصهري للتهديد بالقتل والضرب إذا لم نبيع بالاكره الارضية الواقعة في شملان خط وادي ظهر وذلك من قبل المدعو محمد صالح الهادي وعصابته التي قامت قبل فترة بالتهجم وضرب ابناء صهري وقد تم تزوير بصيرة بيع في ثلاث لبن في حوش المنزل بأشراف المدعو محمد صالخ الهادي الذي يدعي انه في لجنة الانصاف لدى انصار الله.

الأمر متروك لتدخل الجهات المختصة ان كان ثمة أمل في العدالة. علما ان لدينا وثائق تكشف الراس المدبر ومن يشتغل من وراء ستار وهو المدعو محمد صالح الهادي.

اليوم وصلنا تهديد شديد الى منزلنا في شملان ارجو التضامن معنا في ضية نريدها عبر المحكمة والعدالة وليسى تحت التهديد بالسلاح والضرب من قبل عصابة المذكور
أحداث 13 يناير
(1)
“غربان يا نظيره”

• في نصف العام الدراسي الأول بكلية الحقوق كنّا على موعد وشيك لامتحان القانون الروماني.. ذهبت أنا وزميلي يحيي الشعيبي للمذاكرة على البحر في صيرة وحُقّات.. كلانا كان يسكن في "القلوعة" أو ما كان يُطلق عليه "حي الثورة".. زميلي يحيى منتدب ومفرّغ للدراسة من وزارة الداخلية، ويحمل رتبة نقيب، وكان يعمل في مصلحة الهجرة والجوازات في عدن قبل انتدابه وتفرغه للدراسة.. عرفته متزنا وغير متحمسا لأحد أطراف الصراع، وكنت أسمع بعض زملائنا المتشددين من خلفه لا يروق لهم رأيه، لأنه كان حذرا وحصيفا وعقلانيا..

• ذلك اليوم هو تاريخ 13 يناير.. كان موعدنا مع البحر والقانون الروماني الذي سنرتاد امتحانه بعد يوم، أو يومين على الأرجح.. شعرنا بانقباض ما.. شيء غير طبيعي يحدث.. بدت لنا السماء وكأنها مكتئبة.. إحساس بأمر ما غير معتاد.. زميلي يحيى كان إحساسه أكثف.. استعجلني للعودة بعد ساعة من وجودنا في الشاطئ، فيما كنت ضد فكرة العودة المبكرة، ولكني اضطررت أسيفا لمطاوعته، حيث يستصعب عليّ أن أذاكر بمفردي، وقد جرت عادتي أن لا أذاكر وحدي، وكانت تلك المادة جافة، ويزيد من جفافها كثرة مصطلحاتها، وقِدم قوانين المرحلة التي تتناولها تلك المادة، ومدرّسها "القعيطي" الذي يطلب الدقة في الإجابة على أسئلته، وكان حافظا لمادته "ظهر قلب"، وكأنه شربها على الريق ذات صباح..

• كان التوتر السياسي حينها على أشده.. وبعد مسافة قصيرة من طريق عودتنا راجلين سمعنا من العابرين بلبلة وأخبار متضاربة.. كانت هناك حركة ما.. نساء ورجال يطلون من بعض الشرفات والسطوح.. قلق يتبدى على وجوه العابرين، وحركات مريبة تحدث، وشيئا ما يحدث ولا نراه ولا زال لدينا غير مفهوم..

• سمعنا أولا عن اطلاق رصاص في التواهي.. ثم سمعنا أن اطلاق الرصاص الذي يحدث هو في منطقة الفتح.. وسمعنا فوج ثالث من الأقاويل، أهمها إن الرصاص يأتي في سياق حملة تستهدف قتل الغربان.. هكذا كان بداية مدارات وتغطية ما يجري من حقيقه ذابحة ومؤسفة..

• “غربان يا نظيره” صارت مسرحية لعنوان بداية تختصر مستهل المشهد الدامي، وتتناوله على نحو ساخر ومؤلم.. محاولة لكسب الوقت والاستفادة من الدقائق واللحظات لتغطية وإنجاز مستهل المأساة المتفجرة.. تأجيل ما أمكن من علم الناس بما يُرتكب من قتل وفظاعة ومؤامرة.. بداية تضع كل شيء أمام مستقبل مخيف ومجهول.. إنجاز مهمة تخلص بعض الرفاق من بعض.. كل دقيقة كانت تمر إنما تعني إيغال الحماقة بحق الوطن والرفاق والمستقبل..

• مسرحية "غربان يا نظيره" تعود إلى ثمانينات القرن الماضي بعد أحداث يناير، وتحكي عن "نظيره" المرأة البسيطة البريئة التلقائية التي كانت تعد الشاي لزوجها عوض، وعند سماعها لعلعة الرصاص أصيبت بخضة هلع، فيما زوجها عوض يحاول تهدئة روعها وتطمينها بأن ما يحدث مجرد حملة أمنية تستهدف الغربان الذين يزعجون سكان المدينة، ويريد أن تكمل له اعداد فنجال الشاي الذي كان ينتظره، فيقول لها "غربان يا نظيره"، فيما حقيقة ما يحدث كان اقتتال دامي شرس..

• "غربان يا نظره" مسرحية لا تنطبق فقط على أحداث 13 يناير 1986، ولكن تنطبق على بداية كل مرحلة شهدت فيها اليمن مؤامرة وحرب ومأساة.. كل مرحلة كانت تؤسس لمرحلة أكثر قبحا وانحطاطا وخرابا من التي قبلها.. مراحل من القتل والدمار والخراب والنصر المزعوم.. ويستمر وهم القوة والانتصار بالدم..

• جراح عميقة عقب كل مرحلة دامية تُترك مفتوحة، حتى تمتلئ بالقيح والصديد، ثم تمعن الجراح في التعفن لتنتهي ببتر عضو في الجسد الدامي والمثخن بالجراح.. حرب الشركاء في عام 1994 ثم الحروب التي أسقطت ما بقي لنا من بقايا وحدة ودولة.. ثم عدوان وحرب مارس 2015 والتي لا زلنا نصطلي بجحيمها للعام السادس على التوالي، وما يُفرض خلالها من أجندات غير وطنية، فيها الاحتلال والوصاية والتقسيم والحدود لتنتهي بتدمير ما بقي لنا من بقايا يمن ووطن وإنسان ومستقبل..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
أحداث 13 يناير
(1)
“غربان يا نظيره”

• في نصف العام الدراسي الأول بكلية الحقوق كنّا على موعد وشيك لامتحان القانون الروماني.. ذهبت أنا وزميلي يحيي الشعيبي للمذاكرة على البحر في صيرة وحُقّات.. كلانا كان يسكن في "القلوعة" أو ما كان يُطلق عليه "حي الثورة".. زميلي يحيى منتدب ومفرّغ للدراسة من وزارة الداخلية، ويحمل رتبة نقيب، وكان يعمل في مصلحة الهجرة والجوازات في عدن قبل انتدابه وتفرغه للدراسة.. عرفته متزنا وغير متحمسا لأحد أطراف الصراع، وكنت أسمع بعض زملائنا المتشددين من خلفه لا يروق لهم رأيه، لأنه كان حذرا وحصيفا وعقلانيا..

• ذلك اليوم هو تاريخ 13 يناير.. كان موعدنا مع البحر والقانون الروماني الذي سنرتاد امتحانه بعد يوم، أو يومين على الأرجح.. شعرنا بانقباض ما.. شيء غير طبيعي يحدث.. بدت لنا السماء وكأنها مكتئبة.. إحساس بأمر ما غير معتاد.. زميلي يحيى كان إحساسه أكثف.. استعجلني للعودة بعد ساعة من وجودنا في الشاطئ، فيما كنت ضد فكرة العودة المبكرة، ولكني اضطررت أسيفا لمطاوعته، حيث يستصعب عليّ أن أذاكر بمفردي، وقد جرت عادتي أن لا أذاكر وحدي، وكانت تلك المادة جافة، ويزيد من جفافها كثرة مصطلحاتها، وقِدم قوانين المرحلة التي تتناولها تلك المادة، ومدرّسها "القعيطي" الذي يطلب الدقة في الإجابة على أسئلته، وكان حافظا لمادته "ظهر قلب"، وكأنه شربها على الريق ذات صباح..

• كان التوتر السياسي حينها على أشده.. وبعد مسافة قصيرة من طريق عودتنا راجلين سمعنا من العابرين بلبلة وأخبار متضاربة.. كانت هناك حركة ما.. نساء ورجال يطلون من بعض الشرفات والسطوح.. قلق يتبدى على وجوه العابرين، وحركات مريبة تحدث، وشيئا ما يحدث ولا نراه ولا زال لدينا غير مفهوم..

• سمعنا أولا عن اطلاق رصاص في التواهي.. ثم سمعنا أن اطلاق الرصاص الذي يحدث هو في منطقة الفتح.. وسمعنا فوج ثالث من الأقاويل، أهمها إن الرصاص يأتي في سياق حملة تستهدف قتل الغربان.. هكذا كان بداية مدارات وتغطية ما يجري من حقيقه ذابحة ومؤسفة..

• “غربان يا نظيره” صارت مسرحية لعنوان بداية تختصر مستهل المشهد الدامي، وتتناوله على نحو ساخر ومؤلم.. محاولة لكسب الوقت والاستفادة من الدقائق واللحظات لتغطية وإنجاز مستهل المأساة المتفجرة.. تأجيل ما أمكن من علم الناس بما يُرتكب من قتل وفظاعة ومؤامرة.. بداية تضع كل شيء أمام مستقبل مخيف ومجهول.. إنجاز مهمة تخلص بعض الرفاق من بعض.. كل دقيقة كانت تمر إنما تعني إيغال الحماقة بحق الوطن والرفاق والمستقبل..

• مسرحية "غربان يا نظيره" تعود إلى ثمانينات القرن الماضي بعد أحداث يناير، وتحكي عن "نظيره" المرأة البسيطة البريئة التلقائية التي كانت تعد الشاي لزوجها عوض، وعند سماعها لعلعة الرصاص أصيبت بخضة هلع، فيما زوجها عوض يحاول تهدئة روعها وتطمينها بأن ما يحدث مجرد حملة أمنية تستهدف الغربان الذين يزعجون سكان المدينة، ويريد أن تكمل له اعداد فنجال الشاي الذي كان ينتظره، فيقول لها "غربان يا نظيره"، فيما حقيقة ما يحدث كان اقتتال دامي شرس..

• "غربان يا نظره" مسرحية لا تنطبق فقط على أحداث 13 يناير 1986، ولكن تنطبق على بداية كل مرحلة شهدت فيها اليمن مؤامرة وحرب ومأساة.. كل مرحلة كانت تؤسس لمرحلة أكثر قبحا وانحطاطا وخرابا من التي قبلها.. مراحل من القتل والدمار والخراب والنصر المزعوم.. ويستمر وهم القوة والانتصار بالدم..

• جراح عميقة عقب كل مرحلة دامية تُترك مفتوحة، حتى تمتلئ بالقيح والصديد، ثم تمعن الجراح في التعفن لتنتهي ببتر عضو في الجسد الدامي والمثخن بالجراح.. حرب الشركاء في عام 1994 ثم الحروب التي أسقطت ما بقي لنا من بقايا وحدة ودولة.. ثم عدوان وحرب مارس 2015 والتي لا زلنا نصطلي بجحيمها للعام السادس على التوالي، وما يُفرض خلالها من أجندات غير وطنية، فيها الاحتلال والوصاية والتقسيم والحدود لتنتهي بتدمير ما بقي لنا من بقايا يمن ووطن وإنسان ومستقبل..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
الانتقالي..
الهروب إلى الأمام
أحداث 13 يناير
(2)
انقسامات
احمد سيف حاشد
• بين الأمس واليوم مدى من التشظي، وتغييب العقل عن الفعل، واطلاق العنان للحماقة لتفعل ما تشتهي وتريد، ثم يتنافس الحمقى على البيع والارتهان، ليتحول بعضهم إلى بيادق سكوتة صمّا، والبعض الآخر إلى حوامل سياسية مرتهنة لأجندات غير وطنية، ينفّذ بهم الأجنبي ما يشتهي ويريد، ويدفع الشعب الثمن دما ودموعا ومآسي عراض.. إنه الحصاد المُر والخيبة القاتلة..

• تزداد المعاناة، ويستمر التيه والضياع، وتستمر الحروب وآلام الانقسام والتشظي وتفتيت الوطن، فيما يحصد الحمقى فتات الفتات، ومعه مزيد من السقوط المريع، فيما الأجنبي يتمكن من الوصاية على شعبنا واحتلال أراضيه، وينفذ ما يريد من الأجندات على حساب يمن يضيع، ويتلاشى إلى الأبد، إن لم توجد في الأفق معجزة..

• وعودة إلى الأمس وأحداث 13 يناير 1986، وفيما كنّا مجفلين من البحر، وقبل أن نصل إلى مبنى "بريد كريتر" بدأنا نسمع انفجارات بعيدة.. ثم شاهدنا أناس يتوافدون ويتسلحون من مبنى يقع خلف البريد.. شاهدنا الطابور يزداد ويزدحم أمام المبنى.. أردنا أن نتسلح دون أن نعلم هذا التسليح يتبع أي جهة!! رأينا أنه لابأس أن نتسلح أولا لحماية أنفسنا، وبعدها سيكون لنا موقف وكلام.

• وفي الطابور شاهدت الأستاذ جعفر المعيد في كلية الحقوق يستلم سلاحاً وذخيرة.. تصافحنا.. ثم شاهدت أيضا أحد أقاربي في الطابور المزدحم.. فهمت أن هذا المركز يتبع أنصار فتاح وعنتر.. فيما كان معسكر عشرين المركز الرئيس للمليشيا الشعبية في نفس المدينة "كريتر" التابع في ولائه لعلي ناصر، ومحمد علي أحمد، ويبعد بحدود كيلو متر من المركز الذي نستلم نحن السلاح منه، والتابع للطرف الآخر.

• أستلم كل منّا سلاح آلي وذخيره 120 طلقة، واتجهنا إلى عزبه فيها أصدقاء قريبة من نفس المكان، وبعد قليل صعقنا البيان من الاذاعة وخلاصته أنه تمت محاكمة وإعدام عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح وعلي شائع بتهمة الخيانة العظمى.

• أغاضنا هذا البيان، وكانت الصدمة كبيره.. تسألت: متى كانت الخيانة؟! ومتى تمت المحاكمة؟! ومتى تم تنفيذ أحكام الاعدام؟! وكان السؤال الأهم من بدأ بإشعال الحريق؟!

• ما كنت أعرفه أن هناك ما يشبه العهد بين الفريقين في المكتب السياسي للحزب، وأهم ما يتضمنه العهد أن من يبدأ باستخدام السلاح في حسم الخلاف يعتبر خائنا.. والآن يمكن للمرء أن يستخلص بسهولة أن في الأمر خدعة، وأن الحديث عن المحاكمة هراء، ومزعوم حكم وتنفيذ الإعدام ما هو إلا استباق أحمق وتنفيذ لمؤامرة يفوح منها نتانة الخيانة من الطرف الذي قرر الاحتكام للسلاح، والبادئ أظلم.

• ويستمر الانكشاف.. رباه!! "كريتر" فوهة البركان.. المدينة الصغيرة صارت مقسومة بين فريقين باتا معسكرين!! ثم عرفت أن “الباخشي” قائد المليشيا الشعبية في معسكر عشرين ولاؤه لفريق، فيما الأركان باسلوم وهو نائبه ولاؤه للفريق الآخر.. يا إلهي ماذا يحدث!! ليست "كريتر" وحدها مقسومة قسمين، ولكن أيضا المعسكر الواحد.. قائد المعسكر موالي لاتجاه، والأركان ضده، ومع الاتجاه الآخر.. وهكذا بات المستقبل مجهولا، والمجهول ينتظر الجميع وأولهم الوطن..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
أحداث يناير 1986
(3)
“آه يا عيالي”
احمد سيف حاشد
• كانت كريتر أقل المناطق صداما ومواجهة في أحداث يناير1986مقارنة بغيرها، حيث لم تشهد مصادمات واشتباكات عنيفة إلا على نحو محدود ومتقطع.. كان توزيعنا الأول جوار حماية البريد وما يقاربه.. تحوّل مبنى البريد على ما يبدو إلى نقطة قيادة تدار منه العمليات في "كريتر" للفريق التابع لأنصار عنتر وفتاح..

• لا أدري أو لم أعد أتذكر أين غاب زميلي يحيى الشعبي، فلم أعلم أين كانت وجهته، وعلى الأرجح أنه تمكن من العودة إلى منزله في "القلوعة".. اظن أنه عرض فكرة كتلك، ولكن كانت تعتريني مخاوف الاعتراض في الطريق قبل الوصول إلى البيت فآثرت البقاء.. وفي نفسي أيضا فتاة أعجبت بها منذ شهور، كانت تقيم على مقربة من البريد، خلف عزبة الرفاق التي لذت إليها في البداية، وكنت أكتم ما بنفسي عنهم، وأتحاشى كثيرا أن ألفت نظرهم إلى هكذا أمر..

• تذكرت تلك الرواية التي كنت قد قرأتها في إجازة إحدى سنوات الثانوية العامة.. إنها رواية خان الخليلي لنجيب محفوظ، وفيها جانب من الحب في حضرة الحرب، ولي وقفة بصدد من أعجبت بها لعلي أتتطرق إليها في موضع لاحق..

• تم تكليف الجندي الردفاني الذي كان معنا، والمرتدي زيا عسكريا، بمهمة اعتلاء قمة منارة عدن كنقطة مراقبة، والتنبيه عليه أن يحذر من القنص الذي يمكن أن يستهدفه من الطرف الآخر.. فيما تم تحويل تمركزي أنا وقريبي إلى عمارة مطلة على البريد ومنارة عدن وجانبا من سور ميدان الحبيشي.. عمارة على الشارع العام الذي يفصلنا عن مبنى البريد.. اعتلينا سطوح العمارة وبقينا عليها، وتناوبنا على حراسة بوابتها في الشارع..

• في ليلة اليوم الثالث من الأحداث على الأرجح، وفيما كنت أحرس بوابة العمارة، صرخ قريبي من السطح يخبرني أن هناك محاولة تسلل لاقتحامها من الخلف، فيما كنت حينها في بوابة العمارة، وتحركت بسرعة إلى زقاق المدخل الذي يؤدي إلى فتحة "الجلىّ" خلف العمارة “، وبدأت بإطلاق دفعات من الرصاص، محتملا وجود تسلل أو اقتحام، فيما كان قريبي ومن معه في سطح العمارة يطلقون الرصاص إلى الأسفل من فوق الجدار المطل على خلف العمارة، وفي الصباح لم نجد أثرا لأحد، فبدا لنا الأمر أنه كان محاولة تسلل أو استطلاع أو مجرد جساً للنبض.

• بعدها طُلب مني أن أتجه إلى منطقة متقدمة من خط التماس، وتحديدا إلى شقة "سالم معروف" وهي قريبة من المصرف اليمني وسط "كريتر" على إثر قنص شخص من فريقنا، وهو من أبناء منطقة الجليلة ـ الضالع ـ وطُلب منّا رفع جثمانه إلى السيارة المعدة لنقله، ومن ثم المرابطة بالشقة التي انتقلنا إليها.. شعرت بحجم المخاطرة في مهمة نقل الجثة، ولاسيما من قناصة الطرف الآخر، أو حتى من المرابطين في المواقع من الجهة الأخرى، ولكن لا مجال للتردد أو للتنصل من مهمة كتلك..

• وجدنا المقتول ممددا، وفي جزء منه منحنيا في بوابة العمارة التي فيها شقة "سالم معروف"، ووجدنا بمقربة الجثة ذلك الجندي الردفاني الشجاع الذي كان قد سبق وتموضع رأس المنارة، ويبدو أنه أسندت له مهمة الانتقال إلى تلك العمارة..

• أخبرنا الجندي الردفاني أنه كان موجودا جوار هذا الرجل لحظة قنصه من قبل الفريق الآخر.. قال لنا أنه سمع زميله المقتول وهو يتآوه قبل أن يفارق الحياة ويقول: ”آه يا عيالي”

• ”آه يا عيالي” .. هذه الجملة الصغيرة أحسست أنها أشبه برصاصة قناص قد أصابتني في مكان مكين.. أحسست أن فأسا ضرب رأسي حتى شجه نصفين .. شعرت أن عمود خرساني قسم ظهري.. تمردت دموعي وساحت غصبا عني.. من حق الدموع أن تتمرد علينا عندما نريد قمعها في حضرت مشهد مأساوي كهذا.. أحسست لحظتها بفظاعة الحرب وبشاعتها.. حملنا الضحية إلى السيارة، التي غادرت مسرعة، وعدنا نحن لشقة الوالد "سالم معروف"، والتي كانت عائلته قد غادرتها في وقت سابق..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي
اصداء ..

حسن الدوله:
نحن في انتظار الدفع بمذكراتك إلى المطبعة فانت من اصدق من كتب عن سيرته الذاتية بطريقة اعترافات جان جاك روسو والبردوني في سيرته الموسومة (سيرة مواطن التي لم تر النور إلا حلقات منها نشرت عبر صحيفة 26 سبتمبر ..انت يا أستاذ احمد كاتب تمتلك ناصية اللغة وتقنية السرد السلس الذي يسلب الألباب ويأخذ بشغاف القارئ ويجبره على مواصلة الراؤة حتى اخر كلمة سلمت اناملك ايها الرائع والمتاضل الجسور
أحداث يناير 1986
(4)
هل أنا جاني.. هذا هو السؤال؟!

• أطللت من نافذة الشقة.. رأيت أطفال يحملون أوعية مملوءة بالماء أثقل من أوزانهم.. أجسامهم نحيلة منهكة، وكأنهم يجالدون أقدارهم الثقيلة التي لا ترحم ولا تشفق لطفل..

• شاهدت طفلة تحمل ما هو أثقل من وزنها مرتين.. سطل من الماء لا تقوى على حمله فوق رأسها، ولا تقدر على العتل بيديها إلا بحدود العشر خطوات، وكأنها تسحب عمرها التعيس المأسوف عليه.. تستريح قليلا لتسترد أنفاسها التي تكاد تنقطع.. ثم تواصل إيابها إلى بيتها بالماء على مائة مرحلة وألف خطوة لتنتصر.. هنا للخطوة قيمة حياة إنسان يريد أن يعيش محترم.. العودة بجلب الماء ربما ينقذ أسرة من الموت عطشا.. كانت تعاود بذل جهدها وتتعثر خطواتها وتقل في كل مرحلة.. عودتها بالماء إلى بيتها معجزة!! كنت أسأل نفسي: متى ستصل بيتها؟! وهل بالفعل ستصل؟! ثم يتبدى أمامي السؤال: هل نحن جناة؟!!

• شاهدت النساء وهن يجلبن الماء، ويتزاحمن على مورده في المكان المقابل.. شاهدت معاناة حرب لا تكترث بما تجلبه من ويلات على الناس المسالمين والطيبين.. نساء وأطفال ومسنون يخاطرون بحياتهم لمواجهة العطش الذي أشتد عليهم بعد أيام من الانقطاع.. يخوضون معركتهم حتى لا يفنيهم الموت في بيوتهم مستسلمين.. رأيت المواطنين العزل الطيبين يشقّون بصعوبة في زحام الحرب طريقا للبقاء والحياة..

• داهمني السؤال: كيف للضمير أن يتنصل من مسؤوليته في ظرف كهذا؟! ثم أدافع عن نفسي كمتهم!: لست من صنع هذا الواقع المؤلم!! ثم ماذا الذي بيدي لأغيّر من واقع الحال، أو أقلب فيه المعادلة لصالح هؤلاء الطيبين؟! إن الواقع الآن يفرض معطياته على الجميع، وأنا صرت أعيش جحيمي أيضا، وحياتي بكف عفريت، والمستقبل إن نجوت فهو مجهول ومرهون بمن ينتصر.. الواقع بات أكبر مني بكثير، بل بما لا يُقارن ولا يُقاس، فما عساي أن أفعل؟! وماذا بيدي أن أفعله؟! وهل ما سأفعله سيغير واقع الحال؟!

• ورغم دفاعي هذا أستمر وجع ضميري حاضرا يرفض الذهاب أو المغادرة.. ظل الوجع يشتد ويلسعني بالألم كسوط جلاد؟! وظل السؤال يلح: هل أنا جاني؟! وبقي هذا السؤال يقرع مسمعي، وعالقا في ذهني المكتظ بما يراه ويسمع، ووعيي المُرهق بكل ما يحدث ويمور.

• الاتصالات مقطوعة، والماء لازال مقطوع ولا أمل قريب بعودته، والمجهول يتربص في كل شارع ومنعطف.. ولكن ما ذنب المواطنين العزل الذين ليس لهم علاقة بالحرب لا من قريب ولا من بعيد؟! بل هم مجنيا عليهم فيها بامتياز.. يخوضون معركتهم الأصيلة من أجل البقاء على قيد الحياة.. يستبسلون في مواجهة الموت والمخاوف الكثيرة والمتعددة.. كم هي عادلة وإنسانية معركتهم تلك أيتها الحياة!!

• تحدّيهم للموت كان على أوجه، وهم يخوضون غمار تلك المعركة الهامة بين الطرفين المتحاربين الساعي كل منهما للفوز والانتصار.. المواطنون العزل هم الأكثرية الذين لم يشاركوا في صناعة هذه الحرب، ولكنهم أول من يتحملون أوزارها، ونتائجها الكارثية، وويلاتها ومآسيها التي تدوم.. إنهم أكثر استحقاقا للحياة من الجميع..

• إن لم تتحد الموت وتخرج لمنازلته، سيأتي يخمد أنفاسك لتموت في جحرك الذي لم تغادره.. في ظروف كهذه إن لم تخرج لمنازلة الموت، وتنال حظك من الحياة، ستموت عطشا وجوعا وكمدا.. سيأتي الموت إليك حتما، وأنت مختبئ ذليل مرتعد..

• كنت مُرهقا ذلك اليوم، حيث لم أنم الليلة السابقة، ولا نهار ذلك اليوم.. وضعت يدي على رأسي ووجدت نتف من شعر رأسي يتساقط على نحو سهل وكأنه ليس بعض مني.. حاولت تفقده فوجدته يتساقط نتفا بمجرد تمرير راحة يدي عليه، دون أن أشعر أنه كان نابتا في فروة رأسي.. قررت أن أتركه ولا أحاول مرة أخرى حتى لا أجد نفسي فجأة دون شعر ولا فروة.. ظننت أن مرضا خصني وأعطب فروة الرأس!! سألت الجندي الردفاني الذي معي عمّا إذا كان هو أيضا يعاني ما أعانيه، فوجدته أنه عانى هو من هذا الحال قبل أن أعانيه..

أستمريت بمعركة الصمود مع الحرب.. واستمرت معركتي مع ضميري على نحو شرس.. صرت في مواجهة على جبهتين.. وكانت المعركة مع ضميري هي الأشد.. ضميري الذي رفض أن ينام..

***
يتبع..
من تفاصيل حياتي..
لا تُدفع قيمة الحروب في وقت الحرب
الفاتورة تأتي لاحقا

- بنجامين فرانكلين
رفضنا أن نقوم بالمهمة حتى لا نكون أدوات بيد أي جناح من الأجنحة المتصارعة في جماعة أنصار الله..
مراكز القوى للجماعة عبر إعلاميها تتفاضح بكشف فساد بعض.
بلاغ الفاسد أسامة ساري وما يكتبه الوريث وجل ما تقرؤونه اليوم بأقلام بعض إعلاميي ونشطاء أنصار الله من مكاشفات بالفساد يندرج في إطار صراع الأجنحة في الجماعة وليس انحيازا للمواطن أو مكافحة للفساد أو شعورا بالوطنية والانتماء..
الأهم أن المواطن يفهم هذا..
والبقية تفاصيل..
قولوا لهم:
"حارس البن في وادي سبا غير غافل ,,, ذاهن العقل والعين"
السلسلة الأولى
بعض من تفاصيل حياتي
(1)
استهلال.. حيرة وأسئلة..
لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالم الصاخب بالجلبة والضوضاء! المزدحم والمحتدم بالصراع والغضب والجنون.. المليء بالقتل والمظالم والبشاعات.. عالم يُنحر فيه حق الحياة باسم الحياة، وتُصلب فيه العدالة باسم العدالة، وتغيب عنه المساواة في تكافؤ الفرص حد العدم أغلب الأحيان!!

جبابرة وطغاة حكموا العالم ولا زالوا، بصيغة أو بأخرى يحكمونه إلى اليوم .. بنوا مجدهم الذي يتغنون به، على حساب دماء الشعوب المنهوبة، واستباحه كرامة الإنسان، وجوعه ووجعه وتبديد أحلامه ورجائه..

فقراء وبسطاء ومحرومين.. مخدوعين ومبتليين بلعنات الأقدار وسوء الطالع وعاثر الحظ.

الحياة بالبر والبحر والجو كاسرة ومتوحشة، وممتلئة بالظلم والألم والجنون..
عالم تم حكمه ولا زال محكوما في الغالب بشريعة الغاب، وشروط البقاء فيه، لازال للأقوى والأدهى والأمكر، وكثيرون ممن يسفكون الدم باسم الله، أو من أجل السلطة، أو من أجل أنانية مفرطة ومستبدة، وجشع يزداد ويستمر ولا يتوقف.

*

كيف جئنا؟! هل وجدنا صدفة أم ضرورة، أم هناك جواب آخر، أم أن الجواب سر عصي في عالم الغيب؟!
سؤال يمكن أن يُكلفك حياتك وتُزهق روحك باسم الله والذود عنه.. هناك اسئلة كثيرة منطقية ومعرفية الإعلان عنها، أو البحث عن إجابة لها، ربما تزج بك في صدام محتدم مع واقعك الثقيل والقاسي، أو تدفعك إلى المعتقل، أو تودي بك إلى حتفك الأكيد، أو تصيرك قربانا، وجسر عبور لجاهل، يبحث عن الجنة والغفران بإزهاق روحك؟!
يرى البعض أن الحياة هي شقاء وتعاسة وعذاب للنفس.. وأن الفوز بها إنما هو فوزا بالألم والندم والوهم، وما يتصوره البعض خسرانا، يراه البعض الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياة وأوجاعها ومشقاتها التي لا تنتهي إلاّ بالموت.
فمثلما هي الحياة عند "راسل" هي المنافسة، وعند "نيتشه" هي القوة، وعند "بيكاسو" هي الفن، وعند "غاندي" هي الحب، وعند "اينشتاين" هي المعرفة، وعند "ستيفن هوپكنز" هي الامل.. فإنها عن "دوستويفسكي" هي الجحيم، وعند "سقراط" الابتلاء، وعند "شوبنهاور" هي المعاناة..

*

في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضة، ويتخلق في رحم الأم، وما عدى ذلك يفنا ويموت. فإيهما المحظوظ، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموت والفناء؟!
الفيلسوف إميل سيوران يرى إن المحظوظين هم أولئك الذين لم يوصلوا إلى البويضة، أما التعساء فهم من وصلوا لها..
ويرى البعض أن ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في الحياة.. فكافكا يقول: أول علامات بداية الفهم أن ترغب في الموت، وأن الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء اشدُ خطورة من المخدرات.. ويرى سيوران أن الوعي لعنة مزمنه، وكارِثه مهُوله، ويؤكد دوستويفسكي إن الأفراط في امتلاك الوعي علة مرضيه حقيقيه وتامه..

*
نجاح الواحد في سباق الـ 300 مليون، هو الواحد الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجود لو حاكيناه ربما أختاره البعض على أمل، وربما رأى البعض في المجهول شك، ولا أمل في عالم مملؤ بالوهم والأكاذيب..
ربما رفض البعض هذا الوجود لو أتيح له الحرية و الإرادة في الاختيار.. الاختيار الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفة مستفيضة..
الأديب والكاتب الروسي الشهير "فيودور دوستويفسكي " يقول: لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضت الوجود في ظل ظروف ساخرة إلى هذا الحد." وفي موضع آخر يقول: "أوليس من الجنون أن نأتي بأطفال في ظل هذه الظروف الحقيرة."
الفيلسوف اميل سيوران يقول: "مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوان ، يُولد إنسان يشقى سبعين عاماً".. «اقترفت كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً».
والشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أوصى أن يكتبوا على قبرة:
"هذا ما جناه عليَّ أبي ... وما جنيت على أحدِ"
فيما تبدو الحياة في نظر فرانس كافكا حرب: "حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف".
فيما يرى أنطون تشيخوف أنه مع الموت ستكون انت الرابح الاكبر، فلا حاجة للهث وراء الطعام ولا الشراب ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة ابدا للجدال مع الآخرين..
أما الكاتب والأديب الأمريكي الساخر مارك توين فيقول: "يولد الناس ليؤلم بعضهم بعضا، ثم يموتون"
وسخر بعضهم من عبثية الحياة أو منطقها بقوله: خُلقت القطط لتأكل الفئران، وخُلقت الفئران لتأكلها القطط.
وتسأل آخرون: إذا كنا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعة نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..

*

كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضرورات في عملية طويلة ومعقَدة وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
سلسلة طويلة من الصدف والضرورات لا تكف ولا تتوقف، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسير، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمر نهاية!
المكان لا يكف عن السير، والزمن يتسرمد للأبد، ومألات الكون غامضة ومجهولة.
ولكن لماذا من علِق منّا في رحم الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى
واجهة الكون صارخا بالبكاء؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلان وجود، أم هو رفض واحتجاج على هكذا وجود؟! هل هو فزع من العالم أم خوف من المجهول؟!
لماذا لا نخرج إلى واجهة الكون فرحين أو مقهقهين، أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولود من بني البشر لا يستهل حياته إلاّ بصرخة بكاء حادة؟! هل صرخة البكاء هذه هي تعبيراً عن رفض لقدر لم يختاره هذا المولود، أو لم يكن لإرادته فيه شأنا أو خيارا؟!
يحاول أن يجيب الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير بقوله ساخرا: "في لحظة الولادة نبكي لأننا قادمون إلى مسرح مكتظ بالحمقى".
بين صرخة الولادة وشهقة الموت عمر مثقل بالمعاناة وعالم من المتاعب والأحزان والأشياء والتفاصيل.
عندما تتعثر خطاك على الدوام، ويلحق السوء بحظك كلعنة لا تفارقك، وتخيب أمنيات حياتك، وتبطش بك الأقدار يميناً وشمالاً، وتصير فريسة للحرمان والمتاعب.. هل تكفر بنعمة من كان سببا ومعجزة في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كل ما هو تعيس وخائب؟!

*

أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاء لما أتيت إلى هذا الوجود، وكنت في حكم العدم.. وينطبق هذه على التراتُبيات كلّها.. إلى كل الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.
ماذا لو أجهضتني أمي في بطنها، حالما كنت لا أعي، ولا أفقه شيئا ولا أبالي بألم؟!
ماذا لو انتحرت يوما، أسحق فيه أنانيتي، وغريزة تتشبث بحياة من جحيم، أبقتني مثقل بمعاناة مؤلمة، وآلام عمر مُجهد، أمتد طويلا حتى شارف على بلوغ كهولته؟!!
وماذا نقول عمّا أسموه قتل الرحمة إشفاقا بصاحبه، وخلاص من مرض أدركه اليأس، وألم يلسع كالنار، لا يُوقفه إلا عتق النفس وتحريرها من محبسها الجسدي الضيّق، والأشد من محبس الحديد..؟!!

*

(2)
زواج "أمّي":
تزوجت "أمّي" مرتين قبل أبي.. كنت يومها في حكم العدم.. يبدو ذلك العدم حال مقارنته بوجودي اللاحق خالي من كل شيء.. فراغ كبير، لا مكان له ولا زمان.. فراغ لا وعاء له ولا حدود.. ليس فيه هم ولا معاناة ولا جحيم.. لا يوجد فيه أي مظهر من مظاهر الإحساس أو الوجود من أي نوع كان.. حالة لا يمكن تصورها أو وصفها بغير العدم أو ما في حكمه..
لتجد مقاربه لفهم عدمك، عليك اطلاق عنان وعيك، لتتصور هذا العدم.. عليك أن تتخيل عدمك إن كنت تَغرق في الخيال، والتفكير العميق.. عليك أن تطلق الأسئلة في فضاءات استكشاف الوجود واللاوجود.. اسأل وعيك إن كنت تعي: ماذا كنت قبل ألف عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكون قبل مليون سنة؟! وماذا كنت تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى الصفر لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفر دون..
زوج "أمّي" الأول:
أعود من هذا التيه في العدم واللاوجود، إلى الوجود، وما أنا بصدده هنا.. كان زوج "أمي" الأول من أقاربها.. كان هذا الزواج على "أمي" باكرا، ولم يغادر عمر "أمي" عند عقد هذا القران، سن الطفولة الباكر.. كانت قاصرة، وعمرها لم يتعدَّ في أفضل الأحوال الـ 12عام، فيما الشاب الذي تزوجها كان يكبرها بأعوام..
أستمر زواجهما أربع سنوات، أو دونها أو أزيد منها بقليل، ولم تنجب "أمي" من هذا الزواج الذي جاء ربما قبل طمثها الأول بسنين، ومع ذلك لم اسمع من أمي يوما إنها ذمّت هذا الزواج، أو قدحت فيه، أما لجهلها أو لرضاها، أو لبقايا ذكريات وحنين جميل تنزع إليه..
أراد زوجها أن يذهب بها معه إلى مدينة عدن، حيث يعمل ويقيم، غير أن أب الزوج كانت له سلطة القرار الأول في الرفض أو القبول، وكان منه المنع والرفض جازما وحازما، وفرض على الزوجين خياره هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيل.. كان بإمكانه أن يتدخل ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجته في القرية، وهو ما حدث، وكان باب لمشكلة يوما تداعت..
كان على الزوجة رغم صغر سنّها، بذل ما في وسعها لخدمة أسرة الأب وطاعته، أما الابن فيجب أن يكون خاضعا ومطيعا، لا يرد للأب أمرا، ولا له حق أن يعترض أو يغالب إرادة والده إذا ما شاء وأراد..
كان من المعيب، بل ومن المعصية والعقوق أن يتصدى الابن لرغبة وسلطة أبيه، حتى وإن سحق الأب سعادة ابنه وحُبه لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطة أسرة الزوجة هي الأخرى، وبدعوى حماية ابنتهم من تعسف أسرة الزوج، فتبدأ المقامرة بمصير الزوجية ومستقبلها، وكثيرا ما كان يؤدّي هذا التدخل والتضاد، إلى الطلاق والفراق الكبير..
تدخلت سلطة "أم أمي" وكانت الأم ذو شخصية نافذة، وإرادة قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجين يجهشان بالبكاء، لا يريدان طلاق أو فراق.. الاثنان يجهشان بالبكاء، ويزيد من مرارة الحال، أن ليس لهما في مصير زواجهما وحبهما حولا ولا قوة، ولا يد لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرة أرباب الأسر، وباحتدام الخلاف بين أب الزوج وأم الزوجة، وعدم الاكتراث والحفاظ على ما أمكن، خسر الحب المغلوب بالطاعة والمقامرة، وأنتهي به المآل الى الُخُلع، والفراق إلى الأبد..

***

زوج "أمّي" الثاني:
تزوجت "أمي" للمرة ا
لثانية من منطقة بعيدة نسبيا، ومن غير الأقارب.. ولكن هذا الزواج كان قصيرا وعابرا.. لم تمكث "أمي" لدى هذا الزوج الطيب والكريم، غير أسابيع قليلة، كان الحب ناقصا، ومن طرف واحد، ولم يستطع سخاء الزوج وكرمه، أن يسد ما نقص من الحب الفاقد نصفه..
لقد تم زفاف "أمي" في زواجها الثاني، دون سابق معرفة بمن أرادها للزواج، بل ودون أن تراه أو تُستشار، ودون أن يكون لها كلمة في قبول أو رفض أو خيار.. لم تراه "أمي" إلا في ليلة الزفاف.. كان الزواج بالنسبة لـ "أمي" وربما للزوج أيضا، أشبه بالبخت، وضرب الحظ واليانصيب..
يبدو أن قلب "أمي" لم ينجذب لمن أختاره لها أهلها، أو لمن كان له طلب اليد والاختيار.. ربما أخفق حظها، أو كان قلب "أمي" مُحبطا، أو معلقا في رجاء يائس، أو ربما لازال بعض من الحب القديم ينبض بسر وكتمان.. فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتها، وتظل في الذاكرة فترة قد تطول وتمتد إلى الكهولة، ويظل الحنين إلى القديم المعتق، يرفض أن يغادر أو يموت..
ما لبث عقد هذا الزواج أن أنفض وأدركه الفراق باكرا، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنه أدركه الحمل، ورزقت "أمي" منه بنتا، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفة باهظة، تستمر من الولادة حتى آخر العمر.. واقع اجتماعي ثقيل وظالم، يحملها على أن تدفع ضريبة وجودها وجع وإرغام، وانتقاص يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها التراب!.
لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجة أخطاء غيره، وعلى هذا النحو من الكلفة الباهظة التي ترافقه حتى اللحظة الأخيرة من العمر، بل وتمتد إلى تحت التراب؟! لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئة وأخطاء لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعونها هم؟!
لماذا الأبناء والأحفاد يتحملون أخطاء وخطايا الأجداد البعاد؟!! لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا هو الحال ـ أن يتحملون خطيئة أمَنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمان، إن كان للزمان آخر وختام؟!
أختي هذه بنقاء البلور وبساطة القديسين.. مستسلمة للأقدار بسذاجة البلهاء الصبورين.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمن أخطاء آخرين.. لا زالت مستسلمة لأقدار لم تصنعها، ولم تشارك في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا. عاشت طفولة بائسة، وزُوجت وهي طفلة لرجل يكبرها بحدود الثلاثين عام.. أختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدار السيئة على غير ما تريد... آخر نكبة لها وآخر مصاب جلل أصابها كان مقتل ولدها، في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تم الاستيلاء عليه من قبل أمراء الحرب، وأرباب الفساد، وتجار الحروب والأوطان.. حتى اسمها يبدو أنه قدر مخادع..
اسمها ليس على مسمى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر.. حتى أسماءنا بتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر، أنها كانت مجرد وهم على وهم، وسراب فوق سراب.

***

زواج "أمي" من أبي:
كانت أمي لا تريد الزواج مرة ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني.. ولكن تم إقناعها بالزواج للمرة الثالثة من قبل إخوانها، وإغرائها بوصف "أبي" ـ التي لا تعرفه ـ بالشهامة والمرؤة والشرف ، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد..
قالوا لها: إن البنت لن تفيدك في حياتك، إنها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خير عائن وساند في حياتك، وضماناً لمستقبلك من قادم الأيام، وما قد تحمله لك من نوائب ومجهول..
كل له منطقه وحججه في ظل واقع ملغوم، وغير آمن للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطة عميقة ومتجذِّرة، وفي المحصلة كلمته عليها هي فصل الخطاب.. وليس لـ"حذام" قولا هنا، ولم تقطع "جهينة" قول كل خطيب..
"أبي" شاهد "أمي" في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها.. تزوج "أبي" قبل "أمي" خمس نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدة بقت في عصمته، إنها أم أخي علي.. وكان علي الولد الناجي الوحيد من الموت، والمتبقي لها، وظلت زوجة لأبي حتى توفاها الأجل، وكانت أمي أم لسبعة ناجين بنات وبنين، وكانت أمي مسك الختام..
عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى "البقطة علّقت على هذا الزواج بقولها: "حنش مع محنوش" وكأن لسان حالها يقول: خيبتها على خيبته.. "جنِّي تزوج جنِّية".. تعدد زواج "أبي"، وتعدد أزواج "أمي"، فـ "أبي" سبق أن تزوج قبل "أمي" أربع زيجات، وأمي تزوجت قبل "أبي" اثنين وتلاهما "أبي" ثالثاً..
ربما بدأ الأمر في نظر البعض تجارب فشل متعددة من الجانبين، وربما نظر البعض أن كليهما بات خبيرا في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواج إلى نهاية العمر، متحديا ومغالبا عواصف هوجاء وأحداث دهماء، ومصائب عظام، وما كان ليصمد من الزواج أعظمه أمام واحدة منها..
استمر هذا الزواج طويلا في صمود اسطوري ندر مثله.. زواج اشبه بزواج البحر والجبل.. عراك دائم مدا وجزرا.. وضجيج مستمر لا يقر ولا يستكين، ولكنه لم يتخل أو ي
..
• في "قلعة إستان" أقمنا للعشق ولائم.. بروق ورعود.. أنسام الكون تتمايل.. ترقص طربا.. تبتهج خواصرها.. همينا مزنا، وقطفنا النشوة.. عبقنا برائحة الطين الممطور.. سال السيل، وسالت مسايلنا تسقي الأرض البور، والبوادي العطشى على التنور.. أخضرّ المجرود، وبألوان الطيف تفتحت زهور وورود.. وما كان قاحل مجدوب صار عشب وسجاجيد..
• عُذال ووشاة ضربوا الطوق علينا.. رصدوا ايقاع الأنفاس.. جسّوا نبضات القلب وخفقانه.. آذان تسمع دبيب النمل.. تسرق السمع عن بُعد.. وعيون ترصد أنفاس الليل.. حراس المعبد لا هم لهم إلا القبض على همسات العشق وخطوات الليل..
• صار للوشاية جدران .. آذان وعيون.. تتلصص وتسترق السمع من شرص الباب.. أبواب مخادعنا.. باتت تتحين فرصة للوثبة.. للضبط المتلبس.. تبصبص من شقوق نوافذنا الملتاعة بالعشق.. تستطلع خوافينا وخوابئنا، وما يجوس في بطن الشاعر.. تفتش في ذهن العاشق المولع عن دليل دامغ.. والعاشق غارق تسبيحا في ملكوت الله..
• أحسسنا بالضيق والجور الخانق.. قررنا كسر الأغلال، وتحرير العشق المغلول.. اطلقنا أيدينا المعقوفة، وفردناها للأحضان .. اطلقنا سراح العشق من أقبية العتمة.. حررناه من سرداب السجن المدفون تحت الأرض العمياء.. اطلقناه إلى فضاءات وفسحات الكون..
• صار العشق يقامر ويغامر في صولات وجولات الحرب.. والنصر الذي كاد يهرب منّا، أعدناه إلى الأحضان.. والهزيمة التي كادت تغلبنا يوما، كسرنا غلبتها، وذللناها.. ونزعنا مالا ينزع من شدق الضيغم..
• غنينا حتى ثمل العشق، والقمر الحاضر يرقص طربا على أنغام الدان:
"وعلى عينك يا حاسد..
تلاقينا والقمر شاهد..
حبيبي جاء على وعده
ونفذ في الهوى عهده..
يا سعدي ويا سعده.."
• في ليلة رأس العام، احتفلت معنا مجرتنا بقدوم العام.. دارت على خواصرنا حتى داخت من الدوران.. أثملها خمر العشق الذائب في ملكوت الله.. درنا معها حتى دخنا.. وخلقنا كونا في ستة أيام.. وبشرى زُفت بكرم العام القادم عشقا.. خمرا ولذائذ.. عشق أكثر وأكبر مما عشناه..
أما صنعاء، وفي هذا العهد المظلم، والضارب فيما قبل الألف سنة، باتت ميتم، ملفوفة بالعتمة والظلمة.. وحداد لا يبلى..

*

(5)
ذكريات لا تعود:
خور مكسر:
• "خور مكسر" التي حملنا إليه رأس السنة بأجنحة الزوغان المجنّح، لنحتفل مع السحاب والملائكة.. التعليم الجوال الذي أجاد إيصال أبجديات المعرفة فيما نجهله.. توتر أعصابنا واشتعال أوصالنا، والحمى اللذيذة التي تجتاح الجسد وكينونته.. العيون المشتعلة بالشوق العاصف إلى الممنوع.. تمرد العيون على المحاجر لساعات طوال، حتى توغل في الرجاء والتمني أن لا يكون للزمان نهاية أو مطاف..

• عيون تحررت من محابسها لترى ماذا يحدث خلف الأبواب المغلقة بالنار والحديد.. الروح الماطرة تلقح الأطيان العاشقة بالبهجة والفرح.. وآهات لم نسمع مثلها من قبل.. الحضور البهي الذي يستعيد توازنه المختل بالجنون، واستعادة آماد الفقدان والغياب المحظور.. الاستقصاء الأول في المجهول طلبا لمعرفة اجتاحتنا كسيل عرمرم.. قشرت الحياء المهشمة والمتطايرة والمُجتاحة بحمم البراكين المسالة من رأس الجبل..

*
حي القطيع:
• عدن حي "القطيع" الذي أقتطع بعض من وجودي، ومن خيالي الكثير.. سكنته في الحب متيما، وسكن هو دواخلي ووجداني المحب، وامتد إلى أقاصي الروح وآمادي البعيدة.. لي في حي "القطيع" إلياذة وحياة، لازالت جذوتها تومض في الزوايا المعتمة، لازلت تتوقد في مخابئ ذاكرتي، والوعي الضارب عمقه..

• كم تلظّى الهوى في هذا الحي، وكم في فؤادي شب؟! كم غلبني خجلي فيه، وكم خاب الظن؟! ولازال الحب الأول آسر.. مات البعض، ورحل الآخر، وما خمد اشتعال دمي.. لوعة تتأجج في أوردتي وشراييني، من ذاك اليوم، إلى هذا اليوم المتخشب وعده، والمتحلل عهده..

• رن اسم "القطيع" وغنّى على مسمعي ما شجى، وكم عزف نياط القلب المتيم بالحبيب.. حي "القطيع" لطالما هزّني الشوق إليه، وأثار فيني كثيرا من شجون الطفولة والصبا، وحرك في أعماقي عاصفة من الحنين والذكريات التي لا تتكرر ولا تعود..

***
دار سعد:
• عدن "دار سعد" الذي سكنته في عهد الطفولة الندي، ونعومة الاظافر، ثم سكنته وأنا مراهق ويافع. دار سعد الوحدة والتنوع.. الفسيفساء الجميلة والحياة العامرة بالتعايش والاندماج.. اليمني والصومالي.. البدوي والضالعي.. الهندي والزبيدي.. الزيدي والوهطي.. الشحاري والقباطي.. دار سعد دار لكل الناس.. يستقبل الجميع ويفتح لهم القلب والوجدان والمنافس.. لا يتأفف ولا يتعالى ولا يرد محتاج..

• دار سعد أعمامي فريد، والحربي، والعم سعيد الكراعين.. الحمادي والقعود وعاشور وحيدره وصلوح وعبد السلام، وربيح وكل الطيبين.. دار سعد شارع الأمل وشارع السلام والبساتين..

• دار سعد مطعم الحمادي، وفول ثابت، والمسبح الذي اختلس إليه، وتمنيت أن أكون فيه سمكة إلى الأبد، أو مسبح عنه الشمس لا تغرب ولا تغيب.. دار سعد إيقاع ومتعة، لطالما استمعت فيه واستمتعت بالصوت الشجي ووجه الفرح والاب
در احدهما ظهره للآخر في قطيعة تدوم.. عظمة هذا الزواج هو صموده الخرافي، واستمراره مقاوما كل عوامل الفراق والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أي صدام أو احتدام.. لم يستسلم لعامل أو طارئ، وإن كان بحجم كارثة، ولم يهتز بجزع أو هلع، أو بقطع رجل ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكا للختام..
أما أنا فكنت الجامع والمشترك الذي ظل يمنح الصبر والبقاء، والرقم الذي رفض أن يخرج من حساب المعادلة.. أنا الولد الغائب الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عقد قران "أمي" على "أبي".. أنا الذي سيكون في حياة أمي ضماناً لمستقبلها في قادم الأيام، وما قد تحمله من نوائب ومجهول.. وكنت لها هذا الضمان، بل والوجود كله..

*

(3)
عدن..
أثقال العيب..
• في "كافورستان" كان للكشف متعة ولذاذة.. غرق في النشوة القصوى.. الكشف الأول في سن الحلم.. استعجال لمعرفة تتأخر بسبب الجهل بتثمين الوقت، والجهل بعمر عابر كالريح.. رفض ألتاع بأسئلة الحيرة.. أسئلة الكشف الباحث عن رد أو مُعطى.. أسئلة الجُرأة فتحت أبوابا كبرى في كشف مجاهيل الكون..

• في "كافورستان" كانت محاولتي الأولى، لرمي بعض من ثقل مُرهق.. جبل الواقع ناخ بحمله على كاهل غر مُتعب.. سحقا لرتابة مسكونه بالعيب.. العيب أن تقضي حياتك بيدق.. العار أن تعيش مسلوبِ الوعي..
• اسئلة الحيرة ليست وسواسا من عمل الشيطان.. اسئلة الحيرة لا تغفلها حتى تزيح عنها الحيرة.. لا تقمعها ولا تغفل شك.. ارمي حجرا إلى قاع الماء الآسن، لترى ماذا يوجد في القاع! غوص إلى قاع وخوابي النهر.. غامر وابحث عن أصداف وكنوز البحر.. لا تبقي ثابت كالخشبة في الردهة، أو في الجدار كالمسمار ..
• ما أسوأ أن يستوطننا الجهل الكاسح.. ويستعمرنا الخوف من سن حضانتنا الأولى حتى الموت.. ما أسوأ أن نظل نستجر التالف، ونلوك الماضي الغارب.. محبوسين في قمقمه.. لا نخرج إلا لخدمته.. "شبيك لبيك نحن طوع يديك"..
• في "كافورستان" بدأنا (ألف) التجريب، وكشف مجاهيل الذات، واكتشاف الآخر أيضا.. التجريب معرفة تتنامى.. تتراكم في سلاليم العلم.. اطلق عنان الرغبة من قمقمها إلى فضاء الممكن.. ولا تحبس عقلك في الردهة.. اطلق عنان العقل في أبعاد الكون..
• أسئلة تداهمني، وتتناسل كالضوء.. لماذا لا نتصالح مع أنفسنا؟! لماذا نولع بالكذب؟! لماذا نستمري الدجل على أنفسنا وعلى العالم..؟! ونتخفّى خلف أقنعة الزيف.؟! ونتصنع ما ليس فينا؟! لماذا لا نخجل من أنفسنا..؟!
• شكرا يا "كافكا" ولا تخجل، فقد أدركت زحمة هذا الزيف، ونزعت عنّا هذا التنكير، وأزحت مساحيق التجميل عن وجه حقيقتنا.. شكرا يا"كافكا" وأنت تعلنها بالفعل وبالقول: "خجلتُ من نَفسي عندما أدركتُ، أنّ الحياة حفلةٌ تنكَرية، وأنا حضرتها بوجهي الحقيقي".
• لماذا نجلُّ الوهم الباذخ ، ونصنع منه أربابا وقوانينا تطفئ ما فينا من نور.. كم نحن جلاوزة وجلادون.. يتملكنا غباء فادح، وسياط العته الأحمق.. سجانون للعقل المتحفز للنور.. جلادون بعنف وجنون.. بمهول الجهل والخوف القامع والعيب الوخم، نجلد أنفسنا حتى الموت.. ما أوطئ وأحط من هذا العيب الذي يثقل كاهلنا إلا قانون العيب!!
• أزيحوا أقنعة العيب من وجه الحقيقة العاري.. الكذب أم كبائرنا وخطيئتنا الأولى.. متى نتصالح مع أنفسنا؟! ونزيح من وجه الصدق أقنعة الزيف، وهذا الكم الباذخ، من فحش الكذب والتدليس..
• لا تحرج يا أستاذي "راشد" من هذا العيب، ولا تخجل إن جمعت صدفتنا ثلاثة.. إيابك وذهابي و"كافورستان".. لا تُحرج من تلميذك إن شرب كلانا من نفس الحوض، فالغفران رابعنا دوما حاضرا.. سحقا للعيب.. كم نحن بشرا يا أستاذ.. علينا أن نتصالح مع أنفسنا؛ لنكون أفضل مما نحن فيه..
• لا تشغل بالك يا أستاذ إن غلبك يوما هذا العيب؛ فالزمن كفيلا بكسر الغلبة.. ولكن قاوم ولا تستسلم.. دع الكبت المتراكم والمحبوس يبحث عن تنفيس، والشكر "لكافورستان".. الجمع يعاني يا أستاذ ويبحث عن منفس.. كل منّا في شواية تصليه.. كل منا مرميا في ضغاطه عيب أضيق من قبر..
• في بيت من شعر نزار، وضُعنا جميعا تحت السكين.. نحن بصيغة أخرى كذلك، في واقع هذا الحرمان، الكل تحت سكين العطش المالح.. الأيام جحيم وسعير لا تسأل من أنت:" لا يمـينٌ يجيرنا أو يسـارٌ.. تحت حد السكين نحن سواء"..
شكرا "كافورستان" أخففتِ عنّا بعض من هذا الحمل الملقي على الكاهل..

*

(4)
للوشاية عيون:
• لتعيش حياتك لا تهدر فرصك بالوهم الزائف، وأعلم أن فرص الموت المتربص أكثر.. اسمع وحي "أوليفر هولمز" وهو يقول: "يقرص الموت أذني ويقول عش حياتك! فأنا قادم.." شكك بالثابت حتى تتيقن.. ابحث في الثابت للنفي أو التأكيد أو اصلاح المعوج، دون أن تغفل علم يضيء دربك للمستقبل..
• العمر قصير جدا، والشباب أقصر، كلمح البصر العابر، فلا تهدره في التيه حتى لا تندم على عمر ضاع وشباب ما عاد يوما إلا حسرة وندم.. ابحث عن الجمال المكنوز، لتواجه قبح العالم ودمامته.. افرح لتعيش أيامك، وتواجه أياما. كُثر مطبوعة بالحزن والندم الأكبر
تسامة المُحلاة.. الفنان أحمد يوسف الزبيدي وهو يغنّي:
"القلـب فـي حيـرة ما بين حـب اثنين..
أعطي لمن قلبي واعطي لمن ذي العين ..
إن قلت للأسمر يا اسمـر أنـا أهـواك..
يجــوّب الأبيـــض با تروح مني فين"

*

صلاح الدين:
• عدن "صلاح الدين".. ميدان الحركة النظامية والطواف الأسود، واللباس المبلل بالعرق.. منطقة الحشد في رأس عباس، وسباق الضاحية من عمق الصحراء المتلوية بالعطش، والمرمى الذي رمينا فيه السهام على الهدف، وحراسة "القاعدة" في رأس عمران..

• الكلية العسكرية في صلاح الدين، ومجالدة الجلد.. الإرادة والطموح والقيادة والرجولة.. الجهد المبذول والعرق المسال أضاحي لانتصار يدرئ كثير من نزيف الدم في المعركة.. الصدارة والتفوق، والفرحة التي لا تُنسى مهما حييت.. أسئلة الوحي المتمردة التي تجوس في أعماقي حيال بعض ما اتعلمه..

• الكلية التي تشربت فيها العسكرية والنظام، وما حبسته من تحفظات وقناعات رافضة لما أراه في غير محل قناعة.. السوية التي تجعلني مع تمردي متصالحا مع النفس، والرغبة التواقة إلى فضاء اوسع من الحرية، حتى أشعر أنني أمارس وجودي الحي، ورفضي للظلم أينما كان..

*

مدينة الشعب:
• عدن "مدينة الشعب" التي درست وتفوقت بدراستي فيها، هي نفسها التي أحببت في إحدى كلياتها، وفشلت في الحب بتفوق ايضا.. الخيبة التي تنافست مع تفوق كان.. لطالما شعرت أن فشلي هذا كان متفوقا على نحو منقطع النظير.. مدينة الشعب التعليم الجاد، والحب الذي خاب، والأصدقاء الذي أحببتهم، ولا يتسع المقام هنا لذكرهم..

*
عدن التي كانت:

• عدن البريقة والغدير وكود النمر ورأس عمران.. عدن المصافي والعمال والنقابات.. عدن صيرة والصيادين، وأغاني البحر الشجية "هيلا.. هيلا هيلا.." .. عدن جبل شمسان، وجبل حديد، وجزيرة العمال.. عدن صهاريج الطويلة، وقلعة صيرة، ومنارة عدن، ومسجد أبان، وخرطوم الفيل، وساعة "بيج بن عدن" والمتحف العسكري، وجامع البينيان، وكنائس المسيحيين، وبقية معابد الأقليات..
• عدن ليست قليلة، والعتب واللوم بل وأكثر منه على من جعلها قليلة، أو أستهان بها وجعلها غير ذي أهمية.. عدن ثاني ميناء عالمي في ترتيب الموانئ بعد نيويورك.. عدن أول بريد، وأول مصفاة، وأول مكتب صرافة، وأول إذاعة، وأول تلفزيون، وأول صحفية، وأول انتخابات تشرعية، وأول غرفة تجارية في المنطقة.. عدن أول قانون للنقابات العمالية في البلاد العربية، وثاني قانون متحرر للأسرة والأحوال الشخصية في الوطن العربي، يحمي حقوق المرأة والطفل..
• عدن التي تمنى قابوس عمان، حالما كان يدرس فيها أن تكون مسقط مثلها، وتمنى أن يكون له مثلها زايد الإمارات، وصبّاح الكويت.. عدن التي كانت تبهر وتأسر المواطن الخليجي بنظامها ونظافتها وقوانينها ورقيها..
• عدن السلام والقانون والنظام والتعايش.. عدن التي جمعت الاطياف والأجناس والأديان والطوائف.. عدن التي أجتمع فيها الهنود والأفارقة والزيود والزبود واليهود.. عدن التي سكن إليها وأقام في حناياها البهرة والفرس والبانيان والباكستانيين والصومال والايرانيين، وكل القادمين الباحثين عن أمل أو عمل أو حياة..

• عدن التي قال عنها امين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" إنها تجمع المسلم والفارسي والبانيان والمسيحي والاسماعيلي واليهودي .. وأضاف: أن وكل هؤلاء يتاجرون ولا يتنافرون، ويربحون ولا يفاخرون.:
• عدن البحر والسماء والنوارس.. الميناء والخلجان والشواطئ.. منتزه نشوان، ونادي البحارة، والعروسة، والنادي الدبلوماسي، والكمسري.. عدن الساحل الذهبي، وساحل الغدير، وساحل أبين، وساحل العشاق، والعشق المكلل بالأرجوان وشبيب النار..
• عدن الحاضنة للبحر والسماء، والقادمين الباحثين عن الأمل والحب والحياة.. عدن المحبة، والرزق الحلال الآتي بالكد وعرق الجبين.. عدن الثغر الباسم و”الكفر الحلو*” والإيمان المسالم..
• عدن مقهاية زكو، ومطعم الشيباني، ومرق الدبعي، وحلويات القباطي، وتجارة الأغبري ، واستيديو العبسي، وقات المقطري..
• عدن الرز، والصانونة، والمطفاية، والصيادية، والزربيان، والسمك الباغة، والزينوب، والرطب، والرشوش والحُلبة الحامض، وخبز الطاوة، والمطبقيىة، والشاي العدني، والعصملِّي..

*

عدن التاريخ والثقافة:
• عدن موطن مملكة أوسان القديمة.. والحاضرة في تاريخ سبأ وحمير، وفي أسفار العهد القديم، وفي كتابات ابن خلدون، وابن منظور، والهمداني، وابن بطوطة، وياقوت الحموي وأمين الريحاني.. عدن الحاضرة في كتب الطبقات، وأخبار الملوك، والسير والرحلات..
• عدن التي كانت حاضنة للثقافة وفيها ما لا يقل عن "11" نادي ورابطة ومنظمة، تعمل بالثقافة والأدب والوعي.. عدن مكتبات مسواط وباذيب والإكليل.. مسرح التواهي، وسينما أروى وريجل وبلقيس.. عدن نادي التلال، ونادي شمسان، ونادي الميناء، ونادي الوحدة، ونادي الجيش الرياضي..
• عدن أحمد سعيد جراده، وإدريس حنبلة، ومحمد الجابري، محمد عبده غانم، ولطفي جعفر أمان.. عدن أبو بكر السقاف، وعمر الجاوي، ومحمد
تجوس في دهاليز وعيي وردهات مخاوفي..

• عدن التي كانت تثير شجوني وأنا بعيد عنها.. ولطالما أشجاني وأنا بعيد عنها صوت الفنان وهو يغني:" عدن عدن ياريت عدن مسير يوم.. شاسير به ليلة ماشرقد النوم.." وكذا أغنية "يا طائرة طيري على بندر عدن.. زاد الهوى زاد النوى زاد الشجن.. عالهجـر مقـدرش أنـا.. أشـوف يومـي سـنـة.. ذي جنة الدنيا حواها..".

• عدن التي أحببتها هي تلك التي وصفها صديقي محمد اللوزي في إحدى كتابته بقوله "عدن درة المدن، ونجمتنا التي تبزغ فينا ولا تأفل.. زنبقة الفرح، والطلع النضيد.. الدعة التي تجيء إليك راضية، وتقدم نفسها حبا، وتغار من أن أحدا يأخذك خارج مدارها.. عدن رائعة الكون.. عدن الدهشة كلها.. لا يعرف عدن غير العاشق الصب لأنها تسكب روحها فيه.."

• أحببت عدن التي قصدها الشاعر الفرنسي "رامبو" باحثا عن الحرية والعمل، وآثرها على فرنسا، ورغم جحيم عدن وتذمره منها، وهجيه لها مرات عديدة في لحظات ضيقه، إلا أن المقام انتهى به إلى التكيف معها، بل والإقرار إنها "«أفضل مكان في العالم». وقد أوفت معه عدن بعد موته، وأسمت إحدى شواطئها الجميلة باسمه، وحولت منزله في عدن إلى مركز للقاء والتبادل الابداعي الشعري.

• عدن التي أحببتها هي تلك التي فضلها الشاعر السوداني مبارك حسن الخليفة على "دبي" الإمارات.. الشاعر والدكتور الذي لم يطب له المقام في موطن الثلج، وطابت له عدن اليمن 34 عاما، عمل فيها محاضراً وأديبا وشاعرا وناقدا في جامعاتها.. سكنها وسكنته، وألّف فيها الكتب، ودبج عنها وفيها وفي البعد القصائد، وكان صوتها الأغن بعناوينها النابضة بالجمال والهوى والحنين: «عدن هواها قد تملك مهجتي» و«البعد يا عدن» و« إلى حبيبتي عدن» و«عدن الجميلة».

• أحببت عدن التي جاءها جورج حبش خائفا عليها حد الفجيعة، من قادم ينتظرها، بتحفز شيطان، باكيا عليها بدموع سخينة، محاولا إنقاذها من كارثة حلت عليها لاحقا، في 13 يناير 1986 وكانت دامية ومؤسفة، ولازلنا نعيش آثارها الدميمة إلى اليوم الذي خلناه بعيدا جدا، لن يطول ولن يُطاول.. حلت على عدن الكارثة، كما حلت عليها على ما يبدو اللعنة، والتي لازالت ترفض التلاشي أو المغادرة إلى اليوم..

• أحببت عدن الوفاء التي لاذ بها وإليها أحرار العرب والعالم، ومنهم البروفسور العراقي توفيق رشدي في أواسط سبعينات القرن المنصرم، والذي صار أستاذا يدرّس طلابها في إحدى جامعتها، وعند اغتياله فعلت عدن من أجله ما لم تفعله الدول.. رفضت كل المساومات والمغريات والدعم السخي، مقابل الصمت والسكوت عن مقتله، بل وحاكمت القتلة علانية، وبُثت المحاكمة من قاعة المحكمة، وكشفت كل شيء أمام الرأي العام كله، في فضيحة سياسية غير مسبوقة.. جريمة بحجم فضيحة بكل المقاييس، للقتلة والدولة التي تقف وراءهم..


• عدن التي أحببتها هي تلك التي أنتمي إليها.. عدن الإنسان والأهل والأحباب والناس الطيبين.. عدن التعايش والأمل والعمل والملاذ.. عدن الحب والشوق والعشق والحياة والذكريات..
.....................
السلسلة الأولى
بعض من تفاصيل حياتي
(1)
استهلال.. حيرة وأسئلة..
لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالم الصاخب بالجلبة والضوضاء! المزدحم والمحتدم بالصراع والغضب والجنون.. المليء بالقتل والمظالم والبشاعات.. عالم يُنحر فيه حق الحياة باسم الحياة، وتُصلب فيه العدالة باسم العدالة، وتغيب عنه المساواة في تكافؤ الفرص حد العدم أغلب الأحيان!!

جبابرة وطغاة حكموا العالم ولا زالوا، بصيغة أو بأخرى يحكمونه إلى اليوم .. بنوا مجدهم الذي يتغنون به، على حساب دماء الشعوب المنهوبة، واستباحه كرامة الإنسان، وجوعه ووجعه وتبديد أحلامه ورجائه..

فقراء وبسطاء ومحرومين.. مخدوعين ومبتليين بلعنات الأقدار وسوء الطالع وعاثر الحظ.

الحياة بالبر والبحر والجو كاسرة ومتوحشة، وممتلئة بالظلم والألم والجنون..
عالم تم حكمه ولا زال محكوما في الغالب بشريعة الغاب، وشروط البقاء فيه، لازال للأقوى والأدهى والأمكر، وكثيرون ممن يسفكون الدم باسم الله، أو من أجل السلطة، أو من أجل أنانية مفرطة ومستبدة، وجشع يزداد ويستمر ولا يتوقف.

*

كيف جئنا؟! هل وجدنا صدفة أم ضرورة، أم هناك جواب آخر، أم أن الجواب سر عصي في عالم الغيب؟!
سؤال يمكن أن يُكلفك حياتك وتُزهق روحك باسم الله والذود عنه.. هناك اسئلة كثيرة منطقية ومعرفية الإعلان عنها، أو البحث عن إجابة لها، ربما تزج بك في صدام محتدم مع واقعك الثقيل والقاسي، أو تدفعك إلى المعتقل، أو تودي بك إلى حتفك الأكيد، أو تصيرك قربانا، وجسر عبور لجاهل، يبحث عن الجنة والغفران بإزهاق روحك؟!
يرى البعض أن الحياة هي شقاء وتعاسة وعذاب للنفس.. وأن الفوز بها إنما هو فوزا بالألم والندم والوهم، وما يتصوره البعض خسرانا، يراه البعض الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياة وأوجاعها ومشقاتها التي لا تنتهي إلاّ بالموت.
فمثلما هي الحياة عند "راسل" هي المنافسة، وعند "نيتشه" هي القوة، وعند "بيكاسو" هي الفن، وعند "غاندي" هي الحب، وعند "اينشتاين" هي المعرفة، وعند "ستيفن هوپكنز" هي الامل.. فإنها عن "دوستويفسكي" هي الجحيم، وعند "سقراط" الابتلاء، وعند "شوبنهاور" هي المعاناة..

*

في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضة، ويتخلق في رحم الأم، وما عدى ذلك يفنا ويموت. فإيهما المحظوظ، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموت والفناء؟!
الفيلسوف إميل سيوران يرى إن المحظوظين هم أولئك الذين لم يوصلوا إلى البويضة، أما التعساء فهم من وصلوا لها..
ويرى البعض أن ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في الحياة.. فكافكا يقول: أول علامات بداية الفهم أن ترغب في الموت، وأن الإفراط في الوعي وإدراك الأشياء اشدُ خطورة من المخدرات.. ويرى سيوران أن الوعي لعنة مزمنه، وكارِثه مهُوله، ويؤكد دوستويفسكي إن الأفراط في امتلاك الوعي علة مرضيه حقيقيه وتامه..

*
نجاح الواحد في سباق الـ 300 مليون، هو الواحد الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجود لو حاكيناه ربما أختاره البعض على أمل، وربما رأى البعض في المجهول شك، ولا أمل في عالم مملؤ بالوهم والأكاذيب..
ربما رفض البعض هذا الوجود لو أتيح له الحرية و الإرادة في الاختيار.. الاختيار الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفة مستفيضة..
الأديب والكاتب الروسي الشهير "فيودور دوستويفسكي " يقول: لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضت الوجود في ظل ظروف ساخرة إلى هذا الحد." وفي موضع آخر يقول: "أوليس من الجنون أن نأتي بأطفال في ظل هذه الظروف الحقيرة."
الفيلسوف اميل سيوران يقول: "مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوان ، يُولد إنسان يشقى سبعين عاماً".. «اقترفت كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً».
والشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أوصى أن يكتبوا على قبرة:
"هذا ما جناه عليَّ أبي ... وما جنيت على أحدِ"
فيما تبدو الحياة في نظر فرانس كافكا حرب: "حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف".
فيما يرى أنطون تشيخوف أنه مع الموت ستكون انت الرابح الاكبر، فلا حاجة للهث وراء الطعام ولا الشراب ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة ابدا للجدال مع الآخرين..
أما الكاتب والأديب الأمريكي الساخر مارك توين فيقول: "يولد الناس ليؤلم بعضهم بعضا، ثم يموتون"
وسخر بعضهم من عبثية الحياة أو منطقها بقوله: خُلقت القطط لتأكل الفئران، وخُلقت الفئران لتأكلها القطط.
وتسأل آخرون: إذا كنا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعة نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..

*

كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضرورات في عملية طويلة ومعقَدة وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
سلسلة طويلة من الصدف والضرورات لا تكف ولا تتوقف، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسير، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمر نهاية!
المكان لا يكف عن السير، والزمن يتسرمد للأبد، ومألات الكون غامضة ومجهولة.
ولكن لماذا من علِق منّا في رحم الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى
عبدالولي، وسلطان ناجي، وحسين الحبيشي، وعبد الرحمن إبراهيم، وفريد بركات..
• عدن الفن والفنانون أحمد قاسم، ومحمد مرشد ناجي، ومحمد جمعة خان، ومحمد سعد عبدالله، وإسكندر ثابت، ومحمد عبده زيدي.. عدن أولياء الله الصالحين، العيدروس، والهاشمي، والشيخ عثمان، والشيخ عبدالله بن أحمد، وحسين الأهدل..
• عدن عبدالله باذيب، وفيصل عبداللطيف، وكل الحالمين.. عدن التي لاذ بها الهاربون والملاحقون من ظلم سلطات الشمال.. عدن الأحرار الميامين الباحثين عن وطن عامر بالعدالة والحرية والكرامة والمواطنة..
• عدن تلك التي كانت ولم نعد نجدها أو نراها اليوم حتى بالمجاهر..

*

حال عدن اليوم:
• من كان يتخيل أنه سيأتي يوم نشاهد فيه عدن بلا ميناء..!! وأن مرسى صيانه السفن يتم بيعه بسعر الكيلو للحديد الخردة.. من كان يتخيل أن يرى "مملاح عدن" يتعرض للسطو..!! ويرى عصابات ومافيات الأراضي تتعدي وتستولي على الأرضي العامة والخاصة، بل وأيضا على المنتجعات والشوارع والمعالم السياحية والتاريخية..؟!!
• من كان يتصور إن المتحف الحربي، وما يشمله من تاريخ عسكري مجيد، وما يحتوي أقسامه وجنباته من قطع أثرية وتاريخية عسكرية، يزيد عددها على الخمسة آلاف قطعة من تاريخ حافل، بات اليوم فارغا ومنهوبا، وزائد على هذا صار دكاكين وخوازيق وجحور ومسالخ دجاج، وأشياء أخرى..!!
• من كان يتخيل أن المتحف الوطني يُنهب، وتاج الملكة يباع في حراج عدن.. وبعض من الآثار التي كان يحفظها ويكتنزها هذا المتحف المنكوب، تباع في مزادات لندن وباريس و وشنطن..
• من كان يتخيل حتى في كوابيس النوم أن نشاهد في القنوات الفضائية خبر عاجل: "اشتباكات مسلحة بين أبناء "السيلة" و"المحاريق" في الشيخ عثمان بعدن"..
من كان يفكر بأن الانفلات الأمني في عدن يبلغ هذا الحد، ويصل إلى أشدّه لمدى سنوات طوال، وأن القتل اليومي لا يجد له من يزجره أو يردعه، ولم نر مجرما أو قاتلا واحدا يُقاد إلى عدالة أو قضاء..
• من كان يتخيل إن الأمّية التي تم القضاء عليها قضاء مبرما في ثمانينات القرن المنصرم، تعود في عهدنا المتأخر، بهذا القدر من التوحش والتجهم والغلظة في جيل حديث السن، على مشارف العقد الثالث من الألفية الثالثة..
• من كان يخطر على باله يوماً إن المرأة في عدن والتي نالت حقوقها كاملة قبل عقود، وتم مساواتها بالرجل وعلى نحو قل نظيره في بلاد العرب من الخليج إلى المحيط، أن تأتي مرحلة سوداء كثيفة الظلم والظلام تبتلعها هي وحقوقها على نحو يحز في النفس، ويدعو للحزن العميق..
• من كان يتوقع ان المرأة في عدن، والتي تجاوزت واقعها بخمسين عام أو أكثر نحو المستقبل الذي ترومه، أن تداهمها هذه الردة الحضارية الملتحية والمتخلفة، وتعيدها جريا وهرولة إلى ما قبل أكثر من ألف عام..
• اليوم عدن باتت مثقلة بالكراهية والعنصرية والمناطقية والقروية، وكل العصبيات المنتنة.. عدن باتت اليوم تعتبي بكل ما هو بشع وفج وقبيح يدمر ما بقي من وعي وعلاقات ومجتمع وثقافة وتعليم واقتصاد ومؤسسات.. وصارت الممكنات المُعطلة تعمل بنجاح وكفاءة لا تضاهى، ويجري هدم وتدمير كلما له علاقة بالدولة وأجهزتها، أو بالأحرى ما بقي منها أو ما بقي من ملامحها المتلاشية..
• استباح التوحش تعايشها وجمالها وطيبة أهلها.. وحولوها إلى "فود" وغنيمة.. وظل القادمين من خارج العصر ينهشونها ويمزقونها كالضباع.. قتل يومي، وخراب متسع، وشعب يعاني من جميع أطراف الحرب التي ارتكبت الكوارث والخطايا بحق وطن، وشعب لطالما أنهكوه ودمروه حتى صار لا يقوى حتى على الاحتجاج أو المناشدة..
• عدن التي كانت تفيض بالتسامح والمحبة والتعايش لم تعد كذلك.. عدن اليوم مشوهة ومشلولة ومحتلة ونازفة.. عدن مثقلة بالمعاناة والحروب.. عدن اليوم ومثلها غيرها من مدن ومناطق اليمن باتت أشلاء ممزقة وبلا أمن ولا نزاهة ولا قانون ولا نظام ولا استقرار.. عدن منهكة لم تعد تقوى حتى على الأنين..
• عدن لم تعد كما كانت ولا ندري متى ستعود.. وهذا لا يعني أن صنعاء أفضل حالا منها..

*

من المسؤول؟؟!:
• العيب ليس في عدن أو غيرها من مدن اليمن، ولكن في السلطات والنخب التي تداولت حكمها، أو التي حكمت اليمن مشطرا، ثم اليمن الموحد؛ ومن ضمنها الساسة المراهقون، والفاسدون، والعصبويون بمختلف مسمياتهم، من الماضي نسبيا إلى اليوم..

• لقد جرّفت تلك السلطات والنخب التي نحن بصددها، أو ساهمت كل منها بهذا القدر أو ذاك، بتجريف التراكم المعرفي والعملي لمدينة عدن، والذي تكّون خلال ما يقارب المائتين عام أو أكثر، وعلى كل الصعد تقريبا.. المجتمع والثقافة والسياسة، وكذا الإدارة والمؤسسات وبناء الدولة..

• المسؤولية على الساسة والنخب والسلطات التي كانت تحكم عدن ثم اليمن الواحد، وفشلت في حل خلافاتها بالطرق السلمية والمدنية، واستسهلت البدائل الكارثية، حيث غامرت وقامرت باليمن ومستقبله، عندما لجأت لاغتصاب السلطة من خلال الحروب، والغلبة، ودورات العنف، والإقصاء، والتهميش، لمن لا ينتمي لها، أو يختلف معه